الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم ج3. وج4.

3.   : زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

فى دفع شر شياطين الجن، والعفوُ والإعراضُ والدفعُ بالإحسان أبلغُ فى دفع شرِّ شياطينِ الإنس. قال:
فما هو إلا الاسْتِعاذَةُ ضَارِعَاً ... أَو الدَّفْعُ بالحُسْنى هُمَا خَيْرُ مَطْلُوبِ
فَهذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ شَرِّ ما يُرَى ... وَذَاكَ دَوَاءُ الدَّاء مِنْ شَرِّ مَحْجُوبِ

فصل: فى ما يقوله ويفعله مَن اشتد غضبه
أمره- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُطفئ عَنْهُ جَمْرَةَ الغضب بالوُضُوءِ، والقعودِ إنْ كَانَ قَائِمَاً، والاضطِجَاع إن كَانَ قَاعِدَاً، والاستعاذةِ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ.
ولما كان الغضبُ والشهوةُ جمرتين مِن نارٍ فى قلبِ ابن آدم، أمر أن يُطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذةِ من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]... الآية. وهذا إنما يحمل عليه شدَّة الشهوةِ، فأمرهم بما يُطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانةُ بالصبرِ والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذةِ من الشيطان عند نزغاته، ولما كانت المعاصى كلها تتولد مِن الغضب والشهوة، وكان نهايةُ قوةِ الغضبِ القتل، ونهايةُ قوةِ الشهوة الزِّنى، جمع الله تعالى بين القتل والزِّنى، وجعلهما قرينين فى سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة.
والمقصودُ: أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شرَّ قوتَى الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة.

فصل
وكان- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا رَأَى مَا يُحِبُّ، قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ". وَإذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ".
فصل
وكان- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدعو لِمَن تقرَّب إليه بما يُحِبُّ وبما يُنَاسِبُ، فلما وَضَعَ لهُ ابن عبَّاس وَضُوءَهُ قال: "اللهُمَّ فَقِّهْهُ فى الدِّين، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ".
ولمَّا دَعَّمَهُ أبو قَتَادَة فى مَسيرِهِ بالليل لمَّا مالَ عن راحِلته، قال: "حَفِظَكَ الله بِما حَفِظَتَ بِهِ نَبِيَّه".
وقال: "مَنْ صُنِعَ إليهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيْرَاً، فَقَدْ أَبْلَغَ فى الثَّنَاءِ".ر

واستقرض من عبد الله بن أبى ربيعة مالاً، ثم وفَّاه إياه، وقال: "بَارَكَ الله لَكَ فى أهْلِكَ وَمالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأدَاءُ".
ولمَّا أرَاحَهُ جَرِيرُ بن عبد الله البَجَلِى مِن ذِى الخَلَصَةِ: صَنَمِ دَوْس، بَرَّكَ عَلَى خَيْلِ قَبِيلَتِهِ أَحْمس وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.
وكان- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أُهديت إليه هديةٌ فقبلها، كافأ عليها بأكثر منها، وإن ردّهَا اعتذَرَ إلى مُهْدِيهَا، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّعْبِ ابن جَثَّامةَ لما أَهْدَى إلَيْهِ لَحْمَ الصَّيْدِ: "إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ" والله أعلمُ.

فصل
وأمر- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّته إذا سَمِعُوا نَهِيقَ الحِمَارِ أن يتعوَّذُوا باللهِ منَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، وإذَا سَمِعُوا صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، أَنْ يَسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ.
ويُروى عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أَمَرَهُم بالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رؤية الحَرِيق، فَإنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُه.
وكره- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَهل المجلسِ أن يُخْلُوا مَجْلِسَهُم مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وجَلَّ، وقال: " مَا مِنْ قَوْمٍ يقومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرونَ الله فيهِ إلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفةِ الحِمارِ".
وقال: "مَنْ قَعَدَ مَقعَداً لم يَذكُرِ الله فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الله تِرَةٌ، ومَنِ اضطجع مضجعاً لا يذكرُ الله فيه، كانت عليه من الله تِرَةٌ".
والتِّرَةُ: الحسرة.

وفى لفظ: " وما سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقاً لَمْ يَذْكُرِ الله فِيهِ، إلاَّ كَانَتْ عَلَيْهِ تِرَةٌ".
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَلَسَ فى مَجْلسٍ، فَكَثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلا غُفِرَ لَهُ ما كانَ فى مَجْلِسه ذَلِكَ ".
وفى "سنن أبى داود" و"مستدرك الحاكم" أنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يقُولُ ذلِكَ إذَا أرَادَ أنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله ؛ إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُه فِيمَا مَضَى. قال: "ذَلِكَ كَفَّارةٌ لِمَا يَكُونُ فى المَجْلِسِ".
فصل
وشكى إليه خالدُ بنُ الوليد الأرقَ بالليل، فقال له: "إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل: اللهُمَّ رَبِّ السماوات السَّبْعِ وَما أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لى جَاراً مِنْ شَرِّ خَلْقكَ كُلِّهِم جَميعاً مِنْ أنْ يَفْرُطَ أَحَدٌ مِنْهُم عَلَىَّ، أَوْ أَنْ يَطْغى عَلَىَّ،

عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَناؤُكَ، ولاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ".
وكان- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُ أصحابَه من الفزع: " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَامَّة مِنْ غَضَبِهِ وَمِنْ شَرِّ عباده، ومن شرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين، وأنْ يَحْضُرُون".
ويُذكر أن رجلاً شَكَى إلَيْهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يفزع فى مَنَامِه، فقال: "إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل..." ثم ذكرها، فقالها فذهب عنه.

فصل: فى ألفاظ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُ أن تُقَال
فَمِنْهَا: أن يقول: خَبُثَتْ نَفْسِى، أَوْ جَاشَتْ نَفْسِى، وَلْيَقُلْ: لَقِسَتْ.
ومنها: أن يُسَمِّى شَجَرَ العِنَبِ كَرْماً، نَهَى عَنْ ذلِكَ، وقال: "لا تَقُولُوا: الكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: العِنْبُ والحَبَلةُ ".

وكرِه أن يقولَ الرجلُ: هلكَ النَّاسُ. وقال: "إذَا قَالَ ذلِكَ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ". وفى معنى هذا: فسد الناسُ، وفسد الزمانُ ونحوهُ.
ونهى أن يُقَالَ: ما شَاءَ الله، وَشَاءَ فُلانٌ، بَلْ يُقَالُ: مَا شَاءَ الله، ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ الله وَشِئْتَ، فَقَالَ: "أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدّاً؟، قل: مَا شَاءَ الله وَحْدَهُ".
وفى معنى هذَا: لولا الله وفلانٌ، لما كانَ كذا، بل هو أقبحُ وأنكر، وكذلك: أنا باللهِ وبفُلان، وأعوذُ باللهِ وبفُلان، وأنا فى حَسْبِ الله وحَسْبِ فلان، وأنا متَّكِل على الله وعلى فلان، فقائلُ هذا، قد جعل فلاناً نِدَّاً للهِ عَزَّ وجَلَّ.
ومنها: أن يُقال: مُطِرْنا بَنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، بل يقُولُ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمتهِ.
ومنها: أن يحلِفَ بغير الله. صحَّ عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "مَنْ حَلَفَ

بِغَيْرِ الله فَقَدْ أَشْرَكَ".
ومنها: أن يقول فى حَلِفِهِ: هو يَهُودِى، أو نصرانى، أو كافر، إن فعل كذا.
ومنها: أن يقولَ لِمسلمٍ: يا كَافِرُ.
ومنها: أن يقولَ للسلطان: مَلِكُ المُلُوكِ. وعلى قياسه: قاضى القضاة.
ومنها: أن يقول السَّيِّدُ لِغلامه وجارِيته: عَبْدِى، وأمَتِى، ويقول الغلامُ لسيده: ربى، وليقُل السَّيِّدُ: فَتَاى وفتاتى، وليَقُلِ الغلامُ: سيِّدى وسيِّدتى.
ومنها: سبُّ الرِّيحِ إذَا هبَّتْ، بل يسألُ الله خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، ويَعُوذُ باللهِ مِنْ شرِّهَا وشر ما أُرسلت به.

ومنها: سبُّ الحُمَّى، نهى عنه، وقال: "إنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِى آدَمَ، كمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ".
ومنها: النَّهىُ عن سب الدِّيكِ، صحَّ عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا تَسُبُّوا الدِّيكَ، فَإنَّهُ يُوقِظُ للصَّلاةِ".
ومنها: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتَّعَزِّى بعزائهم، كالدُّعَاء إلى القبائل والعَصبِيَّة لها وللأنساب، ومثلهُ التعصبُ لِلمذاهب، والطرائِقِ، والمشايخ، وتفضيلُ بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونُهُ منتسباً إليه، فيدعو إلى ذلك، ويُوالى عليه، ويُعادِى عليه، وَيزِنُ الناس به، كُلُّ هذا مِن دعوى الجاهلية.
ومنها: تسميةُ العِشَاء بِالعَتَمَةِ تسمية غالبة يُهجَرُ فيها لفظُ العِشَاء.
ومنها: النهىُ عَن سِبَابِ المُسْلِم، وأن يتناجى اثنَانِ دُونَ

الثَّالِث. وأن تُخْبِرَ المرأةُ زَوْجَها بِمَحَاسِنِ امرأةٍ أُخْرَى.
ومنها: أن يقولَ فى دُعائه: "اللهُمَّ اغْفِرْ لى إنْ شِئْتَ، وارْحَمْنِى إنْ شِئْتَ".
ومنها: الإكثارُ مِنَ الحَلِفِ.
ومنها: كراهةُ أن يقول: قَوْسُ قُزَح، لِهذَا الذى يُرى فى السَمَاء.
ومنها: أن يسأل أحَداً بِوَجهِ الله.
ومنها: أن يسمِّىَ المدينة بيثرب.
ومنها: أن يُسألَ الرجلُ فيم ضرَبَ امرأته، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

ومنها: أنْ يقول: صُمْتُ رمضانَ كُلَّهُ، أو قمتُ اللَّيْلَ كُلَّهُ.
فصل
ومن الألفاظِ المكروهَةِ الإفصاحُ عَنِ الأشياءِ التى ينبغى الكنايةُ عنها بأسمائها الصَّريحة:
ومنها: أن يقولَ: أطالَ الله بقاءَك، وأدامَ أيَّامَكَ، وعِشتَ ألفَ سنة... ونحو ذلك.
ومنها: أن يقول الصائِمُ: وحقِّ الذى خَاتِمه على فمِ الكافر.
ومنها: أن يقول للمُكُوس: حقوقاً. وأن يقول لِمَا يُنْفِقُهُ فى طاعةِ الله: غَرِمْتُ أو خَسِرْتُ كَذَا وَكَذَا، وأن يقولَ: أنفقتُ فى هذه الدنيا مالاً كثيراً.
ومنها: أن يقولَ المفتى: أحلَّ اللهُ كذَا، وحرّم الله كذا فى المسائل الاجتهادية، وإنما يقولُه فيما ورد النصُّ بتحريمه.
ومنها: أن يُسَمِّىَ أدلةَ القرآن والسُّنَّة ظواهِرَ لفظية ومجازاتٍ، فإن هذه التسمية تُسْقِطُ حُرمتَها مِن القلوب، ولا سيما إذا أضَافَ إلى ذلك تسمية شُبَهِ المتكلمينَ والفلاسفة قَواطِعَ عَقلية، فلا إله إلا الله، كم حَصَلَ بهاتين التسميتين مِن فساد فى العقول والأديان، والدنيا والدين.

فصل
ومنها: أن يُحدِّث الرجلُ بجِمَاع أهله، وما يكونُ بينه وبينها، كما يفعله السَّفَلَةُ.
ومما يُكره من الألفاظ: زعموا، وذكروا، وقالوا... ونحوه.
ومما يُكره منها أن يقول للسلطان: خليفةُ الله، أو نائِبُ الله فى أرضه، فإن الخليفة والنائبَ إنما يكونُ عن غائب، واللهُ سبحانه

وتعالى خليفةُ الغَائِبِ فى أهلهِ، ووكيلُ عبده المؤمن.
فصل
وليحذر كُلَّ الحذر من طغيان "أنا"، و"لى"، و"عندى"، فإن هذه الألفاظَ الثلاثةَ ابتُلى بها إبليسُ، وفرعون، وقارون: ف {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] [ص: 76] لإبليس، و{لِى مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] لفرعون، و{إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى} [القصص: 78] لقارون. وأحسنُ ما وُضِعَت "أنا" فى قول العبد: أنا العبدُ المذنب، المخطئ، المستغفر، المعترِف... ونحوه. و"لى"، فى قوله: لى الذنب، ولى الجُرم، ولى المسكنةُ، ولى الفقرُ والذل. و"عندى" فى قوله: "اغْفِرْ لى جِدِّي، وَهَزْلِي، وخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذلِكَ عِنْدِي".

بعونه تعالى وتوفيقه تم طبع الجزء الثاني من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الثالث وأوله فصل في هديه في الجهاد والغزوات

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجهَاد والمغَازى والسَّرايَا وَالبُعُوث
لما كان الجِهَاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل فى الجنة، كما لهم الرَّفعةُ فى الدنيا، فهم الأَعْلَوْنَ فى الدنُّيَا والآخِرةِ، كان رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذَّروةِ العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كُلَّها فجاهد فى اللهِ حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيفِ، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العَالَمِينَ ذِكراً، وأعظمَهم عند الله قدراً.
وأمره الله تعالى بالجِهاد مِن حينَ بعثه، وقال: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان: 51-52]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلكَ جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّنبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة: 73]. فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ فى العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً.
ولما كان مِن أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن

تتكلم به عند مَن تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للِرسلِ صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا صلواتُ الله وسلامُه عليه من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.
ولما كان جهاد أعداءِ الله فى الخارج فرعاً على جهادِ العبد نفسه فى ذاتِ الله، كما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فى طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه" . كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جِهَادِ العدوِّ فى الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهِدْ نفسه أوَّلاً لِتفعل ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهيتْ عنه، ويُحارِبْهَا فى الله، لم يُمكِنْهُ جهادُ عدوه فى الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذى بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه فى الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوِّه، حتى يُجاهِدَ نفسَه على الخروج.
فهذان عدوَّانِ قد امْتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما فى جهادهما مِن المشاق، وتركِ الحظوظ، وفوتِ اللذاتِ، والمشهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنِكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌ فاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6]. والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوُسع فى مُحاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يَفْتُر، ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبدُ بمحاربتها وجهادها، وقد بُلى بمحاربتها فى هذه الدار، وسُلِّطَتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى اللهُ العبدَ مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً لهذا الجِهَادِ، وأعطى أعداءه مدداً وعُدَّةً وأعواناً وسِلاحاً، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضَهم لبعض فتنة لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحِنَ من يَتولاَّه، ويتولَّى رسُلَهُ ممن يتولَّى الشيطانَ وحِزبه، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20]، وقال تعالى: {ذَلِكَ، وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعَضٍ} [محمد: 4]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنُكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعُقول والقُوَى، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأرسلَ إليهم رسُلَه، وأمدَّهم بملائكته، وقال لهم: {أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال: 12]، وأمرهم من أمره بما هو مِن أعظم العونِ لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به، لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوِّهم، وأنه إن سلَّطه عليهم، فلتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يُؤُيسهُم، ولم يُقنِّطْهُمْ، بل أمرهم أن يسْتَقْبِلُوا أمرهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويَعُودوا إلى مُناهضةِ عدوهم فينصَرهم عليهم، ويُظفرَهم بهم، فأخبرهم أنه معَ المتقين مِنهم، ومعَ المحسنينَ، ومعَ الصابرين، ومعَ المؤمنين، وأنه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم، لتخطّفهم عدوُّهم، واجتاحهم.
وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قَدْرِهِ، فإن قَوِىَ الإيمانُ، قويتِ المُدافعة، فمَن وجد خيراً، فليحمَدِ الله، ومَن وجد غيرَ ذِلكَ، فلا يلومنَّ إلا نفسه.

وأمرهم أن يُجاهدوا فيه حقَّ جهاده، كما أمرهم أن يتَّقوه حقَّ تُقاته، وكما أن حقَّ تُقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهاده أن يُجاهِدَ العبد نفسَه لِيُسْلِم قلبه ولِسانه وجوارِحه للهِ فيكون كُلُّه لله، وباللهِ، لا لنفسِه، ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذِيبِ وعدِهِ، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانِىَّ، ويُمَنِّى الغُرورَ، ويَعِدُ الفقَر، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى، والعِفة والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كُلِّهَا، فجاهده بتكذِيبِ وعده، ومعصيةِ أمره، فينشأُ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطان، وعُدَّة يُجاهد بها أعداءَ اللهِ فى الخارج بقلبه ولسانه ويده ومالِه، لتِكونَ كلمةُ الله هى العليا.
واختلفت عباراتُ السَلَف فى حقِّ الجهاد:
فقال ابن عباس: "هو استفراغُ الطاقة فيه، وألا يَخافَ فى اللهِ لومةَ لائم". وقال مقاتل: "اعملوا للهِ حقَّ عمله، واعبدُوه حقَّ عِبادته". وقال عبد الله بنُ المبارك: "هو مجاهدةُ النفس والهوى". ولم يُصِبْ مَن قال: إن الآيتين منسوختان لظنه أنهما تضمنتا الأمر بما لا يُطاق، وحقّ تُقاته وحقّ جهاده: هو ما يُطيقه كلُّ عبد فى نفسه، وذلك يختِلف باختلافِ أحوال المكلَّفين فى القُدرةِ، والعجزِ، والعلمِ، والجهلِ. فحقُّ التقوى، وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالِم شىء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شىء.
وتأمل كيف عقَّب الأمر بذلك بقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] والحَرَج: الضِّيقُ،

بل جعله واسعاً يسَعُ كُلّ أحد، كما جعل رِزقه يسع كُلّ حى، وكلَّف العبدَ بما يسعه العبدُ، ورزق العَبدَ ما يسعُ العبد، فهو يسعُ تكليفَه، ويسعه رزقُهُ، وما جعل على عبده فى الدين من حَرَج بوجه ما، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" أى: بالمِلَّة، فهى حنيفيَّة فى التوحيد، سمحَةٌ فى العمل.
وقد وسَّع الله سبحانه وتعالى على عباده غايةَ التَّوسِعة فى دينه، ورِزقْه، وعفوه، ومغفرتِهِ، وبسط عليهم التوبةَ ما دامت الروحُ فى الجسد، وفتح لهم باباً لها لا يُغْلِقُهُ عنهم إلى أن تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغربها، وجعلَ لكلِّ سيئة كفارةً تُكفرها من توبة، أو صدقة، أو حسنة ماحية، أو مُصيبة مُكَفِّرة، وجَعل بكل ما حرَّم عليهم عِوضاً مِن الحلال أنفعَ لهم منه، وأطيَبَ، وألذَّ، فيقومُ مقامه لِيستغنى العبدُ عن الحرام، ويسعه الحلال، فلا يَضيقُ عنه، وجعل لِكل عُسْرٍ يمتحنُهم به يُسراً قبله، ويُسراً بعده، "فلن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرَيْنِ" فإذَا كان هذا شأنه سبحانه مع عباده، فكيف يُكلِّفُهم ما لا يسعهم فضلاً عما لا يُطيقونه ولا يقدِرُونَ عليه.

فصل: مراتب الجهاد
إذَا عُرِفَ هذا، فالجهادُ أربع مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين.

فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً:
إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذى لا فلاح لها، ولا سعادة فى معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت فى الدَّارين.
الثانية : أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.
الرابعة : أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علم وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيماً فى ملكوتِ السموات.
فصل
وأما جهادُ الشيطان، فمرتبتان، إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقى إلى العبد مِن الشبهات والشُّكوكِ القادحة فى الإيمان.
الثانية: جهادهُ على دفع ما يُلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهواتِ، فالجهادُ الأول يكون بعده اليقين، والثانى يكون بعدَه الصبر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ، وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فأخبر أن إمامة الدين، إنما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقينُ يدفع الشكوك والشبهات.

فصل
وأما جهادُ الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللِّسان، والمالِ، والنفسِ، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان.
فصل
وأما جهادُ أرباب الظلم، والبِدعِ، والمنكرات، فثلاث مراتبَ: الأولى: باليدِ إذا قَدَرَ، فإن عَجَزَ، انتقل إلى اللِّسان، فإن عَجَزَ، جاهد بقلبه، فهذِهِ ثلاثةَ عشرَ مرتبةً من الجهاد، و"مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النَّفَاقِ".
فصل
ولا يَتِمُّ الجهِادُ إلا بالهِجْرةِ، ولا الهِجْرة والجهادُ إلا بالإيمَانِ، والرَّاجُونَ رحمة الله هم الذين قاموا بهذِهِ الثلاثة. قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218].
وكما فصلأن الإيمان فرضٌ على كل أحد، ففرضٌ عليهِ هِجرتان فى كل

وقت: هجرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ بالتوحيدِ، والإخلاص، والإنابة، والتَّوكُّلِ، والخوفِ، والرَّجاءِ، والمحبةِ، والتوبةِ، وهِجرةٌ إلى رسوله بالمُتابعة، والانقيادِ لأمره، والتَّصدِيق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيرِهِ وخبره: "فمَن كانت هِجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ، فَهِجْرتُهُ إلى الله ورسولِهِ، ومَن كانت هِجْرتُهُ إلى دُنيا يُصيبها، أو امرأةٍ يتزوَّجُهَا، فَهِجْرته إلى ما هاجر إليه".
وفرضَ عليه جهادَ نفسه فى ذات الله، وجِهادَ شيطانه، فهذا كُلُهُ فرضُ عينٍ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحد.
وأما جِهَادُ الكُفار والمنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعضِ الأمَّةِ إذا حَصَلَ منهم مقصود الجهاد.
فصل
وأكملُ الخَلْقِ عند الله، من كَمَّلَ مراتِبَ الجهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوِتونَ فى منازلهم عند الله، تفاوتهم فى مراتب الجهاد، ولهذا كان أكملَ الخلقِ وأكرمهم على الله خاتِمُ أنبيائِه ورُسُلِهِ، فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد، وجاهد فى الله حقَّ جهاده، وشرع فى الجهاد من حِينَ بُعِثَ إلى أن توفَّاهُ الله عزَّ وجلَّ، فإنَّه لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّر وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [ المدثر: 1-4] شَمَّر عن ساق الدعوة، وقام فى ذاتِ الله أتمَّ قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسّراً وجهاراً، ولمَّا نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغيرَ والكبيرَ، والحرَّ والعبدَ، والذكَر والأُنثى، والأحمرَ والأسودَ، والجِنَّ والإنسَ.

ولما صَدَعَ بأمرِ الله، وصرَّحَ لقومه بالدَّعوة، وناداهم بسبِّ آلهتهم، وعَيبِ دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له مِن أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذهِ سُنَّة الله عزَّ وجلَّ فى خلقه كما قال تعالى: { مَا يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43]. وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. وقال: {كَذَلِكَ مَا أتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52-53].
فَعزَّى سبحانه نبيّه بذلك، وأن له أُسوةً بمن تقدَّمه من المرسلين، وعزَّى أتباعه بقوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوْا الجَنَّةَ وَلَمَّا يأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وقوله: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَليَعْلَمَنَّ الْكَّاذِبِينَ أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَن يَسْبِقُونَا، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ اللهِ فَإنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌ عَنِ العَالَمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا

الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً، وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللِّهِ فَإذَا أُوذِىَ فِى اللهِ، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 1-10].
فليتأملِ العبدُ سياقَ هذِهِ الآياتِ، وما تضمنَّته من العِبَرِ وكُنُوز الحِكَم، فإنَّ الناسَ إذَا أُرسِلَ إليهم الرُّسُلُ بين أمرين: إما أن يقولَ أحدهُم: آمنا، وإما ألا يقولَ ذلك، بل يستمرَّ على السيَّئاتِ والكُفر، فمَن قال: آمنا، امتحنه ربُّه، وابتلاه، وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبينَ الصادِقُ مِن الكاذِب، ومَن لم يقل: آمنا، فلا يَحْسَبْ أنه يُعْجِزُ الله ويفوتُه ويَسبِقُه، فإنه
إنما يطوى المراحِلَ فى يديه ... وكَيفَ يَفِرُّ المرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ
إِذَا كَانَ تُطْوى فى يَدَيْهِ المرَاحِلُ
فمَن آمن بالرُّسُلِ وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتُلى بما يُؤلِمه، وإن لم يُؤمن بهم ولم يُطعهم، عُوقِبَ فى الدنيا والآخرة، فَحَصَلَ له ما يُؤلمه، وكان هذا المؤلمُ له أعظَمَ ألماً وأدومَ مِن ألم اتِّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبةُ فى الدنيا والآخرة، والمُعرِضُ عن الإيمان تحصلُ له اللَّذةُ ابتداءً، ثم يَصير إلى الألم الدائم. وسئل الشافعى رحمه الله أيُّما أفضلُ للرجل، أن يُمكَّن أو يُبتلى ؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى. والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل فلما صَبَرُوا مكَّنهم،

فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام فى العُقُول، فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً، بألم منقطع يسير، وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير، بالألم العظيم المستمر.
فإن قيل: كيف يختار العاقلُ هذا ؟ قيل: الحاملُ له على هذا النَّقْدُ، والنَّسيئة.
والنَّفْسُ مُوكلةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20-21]، {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27].
وهذا يحصُل لكل أحد، فإن الإنسان مدنى بالطَّبع، لا بُد له أن يعيشَ مع الناس، والناسُ لهم إرادات وتصورات، فيطلبُون منه أن يُوافِقهم عليها، فإن لم يوافقهم، آذوْه وعذَّبوه، وإن وافقهم، حَصَلَ له الأذى والعذابُ، تارةً منهم، وتارةً مِن غيرهم، كمن عنده دِينٌ وتُقى حلَّ بين قوم فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يتمكنون مِن فجورهم وظُلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوتِه عنهم، فإن وافقهم، أو سكت عنْهم، سَلِمَ مِن شرهم فى الابتداء، ثم يتسلَّطُونَ عليه بالإهانة والأذى أضعافَ ما كان يخافهُ ابتداء، لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سَلِمَ منهم، فلا بد أن يُهان ويُعاقَب على يد غيرهم، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ الله لم يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ الله شَيْئَاً".

ومَنْ تأمل أحوالَ العالَم، رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساءَ على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعينُ أهلَ البِدَعِ على بِدعهم هَرَباً من عُقوبتهم، فمَنْ هداه الله، وألهمه رُشده، ووقاه شرَّ نفسه، امتنع مِن الموافقة على فِعل المحرَّم، وصَبَرَ على عُدوانهم، ثم تكونُ له العاقبةُ فى الدنيا والآخرة، كما كانت لِلرُّسل وأتباعهِم، كالمهاجرين، والأنصار، ومَن ابتُلى مِن العلماء، والعُبَّاد، وصالحى الوُلاة، والتجار، وغيرهم.
ولما كان الألم لا محيص منه البتة، عزى الله سبحانع من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5]. فضرب لمدة هذا الألم أجلا، لابد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فليتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله، وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله والله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به، ولهذا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه الشوق إلى لقائه، فقال في الدعاء الذي روا أحمد وابن حبان: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحييني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك

برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرب عليه الطريق، ويطوي لع البعيد، ويهون عليه الآلام والمشاق، وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال، هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال، عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، ويشكرها، ويعرف قدرها، ويحب المنعم عليه، فتصلح عنده هذه النعمة، ويصلح بها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه، قليقرأ على نفسه: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
ثمَّ عزَّاهم تعالى بعزاءٍ آخر، وهو أن جِهادهم فيه، إنما هو لأنفسهم، وثمرته عائدة عليهم، وأنه غنى عن العالمين، ومصلحةُ هذا الجهاد، ترجعُ إليهم، لا إليه سُبحانه، ثم أخبر أنَّه يُدخلهم بجهادهم وإيمانهم فى زُمرة الصالحين.
ثم أخبر عن حال الدَّاخل فى الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أُوذى

فى الله جعل فتنةَ الناسِ له كعذاب الله، وهى أذاهم له، ونيلُهم إياه بالمكروه والألم الذى لا بد أن يناله الرسلُ وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك فى فراره منهم، وتركِهِ السبب الذى ناله، كعذابِ الله الذى فرَّ منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لِكمال بصيرتهم، فرُّوا مِن ألم عذاب الله إلى الإيمانِ، وتحمَّلُوا ما فيهِ من الألم الزائل المُفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته، فرَّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففرَّ مِن ألمِ عذابهم إلى ألمِ عذاب الله، فجعل ألمَ فتنة الناس فى الفِرار منه، بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبِنَ كُلَّ الغَبن إذ استجار مِن الرَّمضاء بالنار، وفرَّ مِن ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جُنده وأولياءه، قال: إنى كنتُ معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدرُه من النفاق.
والمقصود: أن الله سبحانه اقتضت حكمتهُ أنه لا بد أن يمتحن النفوسَ ويبتَليها، فُيظْهِرَ بالامتحان طِّيبَها مِن خبيثها، ومَنْ يصلُح لموالاته وكراماته، ومَنْ لا يصلُح، وليُمحِّص النفوسَ التى تصلُح له ويُخلِّصها بِكِير الامتحان، كالذَّهب الذى لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشه، إلا بالامتحان، إذ النفسُ فى الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم مِن الخُبث ما يحتاجُ خروجه إلى السَّبكِ والتصفية، فإن خرج فى هذه الدار، وإلا ففى كِير جهنم، فإذا هُذِّب العبدُ ونُقِّىَ، أُذِنَ له فى دخولِ الجنة.
فصل
ولما دعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الله عزَّ وجَلَّ، استجاب له عِبادُ الله مِن كل قبيلة،

فَكَانَ حائِزَ قصبِ سَبْقِهِم، صِدَّيقُ الأُمة، وأسبقُها إلى الإسلام، أبو بكر رضى الله عنه، فآزره فى دين الله، ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجابَ لأبى بكر: عثمانُ بن عفان، وطلحةُ بن عُبيد الله، وسعدُ بنُ أبى وقاص.
وبادر إلى الاستجابة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدَّيقَةُ النِّساءِ: خديجةُ بنت خُويلد، وقامت بأعباء الصِّدِّيقيَّةِ، وقال لها: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسى". فَقَالَتْ لَهُ: "أَبْشِرْ فَوَاللهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أبَداً"، ثم استَدَلَّت بما فيه من الصفات الفاضلة، والأخلاق والشيم، على أن مَنْ كان كذلك لا يُخزَى أبَدَاً، فعلمت بكمال عقلها وفِطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشِّيم الشريفة، تُناسِبُ أشكالها من كرامة الله، وتأييده، وإحسانه، ولا تُناسِبُ الخزىَ والخِذلان، وإنما يُناسبه أضدادُها، فمَن ركَّبه الله على أحسنِ الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليقُ به كرامتهُ وإتمامُ نعمته عليه، ومَنْ ركَّبه على أقبح الصفاتِ وأَسْوَإِ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبُها، وبهذا العقل والصدِّيقية استحقَّت أن يُرْسِلَ إِلَيْهَا رَبُّها بالسَّلاَمِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيل وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل
وبادر إلى الإسلام علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنه وكان ابنَ ثمان سنين، وقيل: أكثرَ من ذلك، وكان فى كفالةِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخذه من عمهِ أبى طالب إعانةً له فى سَنَةِ مَحْلٍ.
وبادر زيدُ بنُ حارثة حِبُّ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان غُلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تزوَّجَها، وقَدِمَ أبوه وعمُّه فى فِدائه، فسألا عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه، فقال: يا ابنَ عبد المطلب، يا ابنَ هاشم، يا ابنَ سيِّدِ قومه، أنتُم أهلُ حَرَم الله وجيرانه، تفكُّون العانى وتُطعِمُونَ الأسير، جئناكَ فى ابننا عِندك، فامنُن علينا، وأَحْسِنْ إلينا فى فِدائِه، قال: "ومَن هو" ؟ قالوا: زيدُ بنُ حارثة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَهَلاَّ غَيْرَ ذلِك" ؟ قالوا: ما هو ؟ قال: "أَدْعُوهُ فأُخيِّرُه، فَإن اخْتارَكُم، فَهُوَ لَكُم، وَإِن اخْتَارَنى، فَوَاللهِ مَا أَنَا بالَّذِى أَخْتَارُ عَلَى مَن اخْتَارَنى أحَدَاً" قالا: قد رددتنا على النَّصَفِ، وأحسنتَ، فدعاه فقال: "هل تعرِفُ هؤلاء" ؟ قال: نعم، قال: "مَن هذَا" ؟ قال: هذا أبى، وهذا عمى، قال: "فأنا مَن قد علمتَ ورأيتَ، وعرفتَ صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما" قال: ما أنا بالذى أختارُ عليك أحداً أبداً، أنتَ منى مكان الأب والعم، فقالا: ويحكَ يا زيد، أتختارُ العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك ؟، قال: نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذى أختارُ عليه أحداً أبداً، فلما رأى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، أخرجه إلى الحِجرْ، فقال: "أُشْهِدُكُم أنَّ زَيْدَاً ابنى، يَرِثُنى وأرِثُه" فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه، طابت نفوسُهما، فانصرفا،

ودعى زيدَ بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فَدُعِىَ من يَومئذ: زيدَ بن حارثة. قال معمر فى "جامعه" عن الزهرى: "ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وهو الذى أخبر الله عنه فى كتابه أنه أنعم عليه، وأنعم عليه رسوله، وسماه باسمه". وأسلم القسُّ ورقةُ بنُ نوفل، وتمنَّى أَنْ يَكُونَ جَذَعَاً إذ يُخرِجُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومُه، وفى "جامع الترمذى" أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه فى المنام فى هيئة حسنة، وفى حديث آخر: "أنه رآه فى ثياب بياض".
ودخل الناسُ فى الدين واحداً بعد واحد، وقريشٌ لا تُنكِرُ ذلك، حتى بادأهم بعيب دِينهم، وسبِّ آلهتهم، وأنها لا تَضُرُّ ولا تنفعُ، فحينئذ

شمَّروا له ولأصحابه عن سَاقِ العداوة، فحمى الله رسولَهُ بعمِّه أبى طالب، لأنه كان شريفاً معظَّمًا فى قريش، مُطاعاً فى أهله، وأهل مكة لا يتجاسَرونَ على مُكاشفته بشىءٍ من الأذى.
وكان مِن حكمةِ أحكم الحاكمين بقاؤُه على دين قومه، لما فى ذلك من المصالح التى تبدو لمن تأمَّلها.
وأما أصحابُه، فمَن كان له عشيرةٌ تحميه، امتنع بعشيرته، وسائرهُم تَصَدَّوْا له بالأذى والعذاب، منهم عمَّار بن ياسر، وأمُّه سُمَيَّة، وأهلُ بيته، عُذِّبوا فى الله، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مرَّ بهم وهم يُعذَّبون يقول: "صَبْراً يا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ".
ومنهم بلالُ بنُ رباح، فإنه عُذِّبَ فى الله أشدَّ العذاب، فهانَ على قومه، وهانت عليه نَفْسُهُ فى الله، وكان كلما اشتدَّ عليه العذابُ يقول: "أحدٌ أحدٌ. فيمرُّ به ورقةُ بن نوفل. فيقول: إى واللهِ يا بلال أحدٌ أحدٌ، أما واللهِ لَئِن قتلُتُموهُ، لأتَّخِذَنَّه حَنَاناً".

[فصل: فى هجرة المسلمين إلى الحبشة حين اشتد الأذى عليهم]
فصل
ولما اشتدَّ أذى المشركين على مَن أسلم، وفُتِنَ منهم مَن فُتِنَ، حتى يقولوا لأحدهم: اللاتُ والعُزَّى إلهُكَ مِن دون الله ؟ فيقول: نعم، وحتى إن الجُعَلَ ليمُرُّ بهم، فيقولونَ: وهذا إلهُكَ مِن دون الله، فيقول: نعم. ومرَّ عدوُّ الله أبو جهل بسُمَيَّة أم عمار بن ياسر، وهى تُعذَّبُ، وزوجُهَا وابنها، فطعنها بَحَرْبَةٍ فى فَرْجها حتى قتلها.
كان الصِّدَّيقُ إذا مَّر بأحدٍ من العبيد يُعذَّب، اشتراهُ منهم، وأعتقه، منهم بلالُ، وعامِرُ بن فُهَيْرَةَ، وأم عُبيس، وزِنِّيرَة، والنهدية وابنتها، وجارية لبنى عدى كان عمر يُعذِّبها على الإسلام قبل إسلامه، وقال له أبوه: يا بنىَّ أراك تَعْتِقُ رِقابًا ضِعافاً، فلو أنك إذ فعلتَ ما فعلتَ أعتقتَ قوماً جُلْدَاً يمنعونك، فقال له أبو بكر: إنى أُرِيدُ ما أُرِيدُ.
فلما اشتد البلاءُ، أذِنَ الله سبحانه لهم بالهِجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وكان أوَّلَ مَن هاجر إليها عثمانُ بن عفان، ومعه زوجتهُ رُقيَّةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أهلُ هذه الهجرة الأولى اثنى عشَرَ رجلاً، وأربع نسوة: عثمانُ، وامرأته، وأبو حذيفة، وامرأتهُ سهلة بنت سهيل، وأبو سلمة، وامرأتُهُ أم سلمة هند بنت أبى أمية، والزبير بن العّوام، ومصعب بن عمير، وعبدُ الرحمن بن عوف، وعثمانُ بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وامرأتُهُ ليلى بنت أبى حَثمة، وأبو سَبْرَةَ بن أبى رُهْم، وحاطب بن عمرو،، وسهيل بن وهب، وعبد الله بن مسعود. وخرجوا متسللين سراً، فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار، فحملُوهم فيهما إلى أرضِ الحبشة، وكان مخرجُهم فى رجب فى السنة الخامسة من المبعث،

وخرجت قريشٌ فى آثارهم حتى جاؤوا البحرَ، فلم يُدرِكُوا منهم أحداً، ثم بلغهم أن قريشاً قد كفُّوا عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجعوا، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار، بلغهم أن قريشاً أشدُّ ما كانُوا عداوةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخلَ مَنْ دخل بجوار، وفى تلك المرة دخل ابن مسعود، فسلَّم على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فى الصَّلاةِ، فلم يَرُدَّ عليه، فتعاظَمَ ذلك على ابن مسعود، حتى قال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ اللهَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أن لاَ تَكَلَّمُوا فى الصَّلاةِ" هذا هو الصوابُ، وزعم ابنُ سعد وجماعةُ أن ابن مسعود لم يدخُلْ، وأنه رجع إلى الحبشةِ حتى قَدِمَ فى المرة الثانية إلى المدينةِ معَ مَنْ قَدِمَ، ورُدَّ هذَا بأن ابن مسعود شهد بدراً، وأجهز على أبى جهل، وأصحابُ هذهِ الهِجْرة إنما قَدِمُوا المدينة مع جعفر بن أبى طالب وأصحَابِهِ بعد بدر بأربع سنين أو خمس.
قالوا: فإن قيل: بل هَذَا الذى ذكره ابنُ سعد يُوافق قولَ زيدِ ابن أرقم: كنَّا نتكلَّم فى الصَّلاة، يُكلِّم الرَّجُلُ صاحبه، وهو إلى جنبه فى الصلاة حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلاَمِ"، وزيدُ بن أرقم من الأنصار، والسُّورة مدنية،

وحينئذ فابن مسعود سلَّم عليه لما قدمَ وهو فى الصلاة، فلم يَرُدَّ عليه حتى سلَّم، وأعلمه بتحريمِ الكلام، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم.
قيل: يُبطِلُ هذا شهود ابن مسعود بدراً، وأهلُ الهِجرة الثانية إنما قَدِمُوا عامَ خيبر مع جعفر وأصحابه، ولو كان ابنُ مسعود ممن قَدِمَ قبل بدر، لكان لِقدومه ذِكر، ولم يذكر أحد قدومَ مهاجرى الحبشة إلا فى القَدْمَةِ الأولى بمكة، والثانية عامَ خيبر مع جعفر، فمتى قدم ابن مسعود فى غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو الذى قلنا فى ذلك قال ابن إسحاق، قال: وبلغ أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين خرجوا إلى الحبشة إسلامُ أهل مكة، فأقبلُوا لما بلغهم من ذلك، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن إسلامَ أهلِ مكة كان باطلاً، فلم يدخل مِنهم أحدٌ إلا بجوار، أو مستخفياً. فكان ممن قدم منهم، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد بدراً وأُحُداً فذكر منهم عبد الله بن مسعود.
فإن قيل: فما تصنعون بحديثِ زيد بن أرقم ؟ قيل: قد أُجيب عنه بجوابين، أحدهما: أن يكون النهىُ عنه قد ثبت بمكة، ثم أُذِنَ فيه بالمدينة، ثم نُهِىَ عنه. والثانى: أن زيدَ بنْ أرقم كان مِن صغار الصحابة، وكان هو وجماعةٌ يتكلَّمون فى الصلاة على عادتهم، ولم يبلغهم النهىُ، فلما بلغهم انتَهَوْا، وزيد لم يُخبر عن جماعة المسلمين كُلِّهم بأنهم كانوا يتكلَّمون فى الصلاة إلى حين نزول هذه الآية، ولو قُدِّرَ أنه أخبر بذلك لكان وهماً منه.
ثم اشتد البلاءُ مِن قريش على مَن قَدِمَ من مهاجرى الحبشة وغيرِهم، وسطت بهم عشائِرُهم، ولَقُوا منهم أذىً شديداً، فأَذِنَ لهم رسولُ الله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخروج إلى أرضِ الحبشة مرَّة ثانية، وكان خروجهم الثانى أشقَّ عليهم وأصعبَ، ولَقُوا من قريش تعنيفاً شديداً، ونالوهم بالأذى، وصَعُب عليهم ما بلغهم عن النجاشى مِن حسن جواره لهم، وكان عِدَّةُ مَن خرج فى هذه المرة ثلاثةً وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمَّارُ بن ياسر، فإنه يُشك فيه، قاله ابن إسحاق، ومِن النساء تِسعَ عشرة امرأة.
قلتُ: قد ذُكرَ فى هذه الهجرة الثانية عثمانُ بن عفان وجماعةٌ ممن شهد بدراً، فإما أن يكونَ هذا وهماً، وإما أن يكونَ لهم قدمةٌ أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاثُ قدمات: قَدمة قبل الهِجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عامَ خيبر، ولذلك قال ابنُ سعد وغيرُه: إنهم لما سَمِعُوا مُهَاجَرَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، رجع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمانُ نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحُبِسَ بمكة سبعة، وشَهِدَ بدراً منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً.
فلما كان شهرُ ربيع الأول سنة سبعٍ من هِجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، كتبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً إلى النَّجاشىِّ يدعوه إلى الإسلامِ، وبعث به مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فلما قُرِىء عليه الكتابُ، أسلمَ، وقال: "لَئِنْ قَدَرْتُ أَنْ آتِيَه لآتِيَنَّهُ".
وكتب إليه أن يُزَوِّجَه أمِّ حبيبة بنتَ أبى سُفيان، وكانت فيمن هاجَرَ إلى أرضِ الحبَشَةِ مع زوجها عُبيدِ الله بنِ جحش، فَتنصَّر هُنَاك وماتَ، فزوَّجَهُ النجاشىُّ إياها، وأصدقها عنه أَربعَمائِة دِينارٍ، وكان الذى وَلى

تزويجَها خالد بنُ سعيد بن العاص.
وكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَبْعَثَ إليهِ مَنْ بقى عِندَه من أصحابه، ويحمِلَهم، ففعل، وحملهم فى سفينتين مع عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فَقَدِمُوا على رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخَيْبَر، فوجدُوه قد فَتَحَهَا، فكلَّم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُسْلِمينَ أن يُدخِلُوهم فى سِهَامِهم، فَفَعَلُوا.
وعلى هذا فيزول الإشكال الذى بينَ حديثِ ابنِ مسعود وزيدِ بن أرقم، ويكون ابنُ مسعود قَدِمَ فى المرة الوسطى بعد الهِجرة قبل بدرٍ إلى المدينة، وسلَّمَ عليه حينئذ، فلم يردَّ عليه، وكان العهدُ حديثاً بتحريم الكلام، كما قال زيدُ بن أرقم، ويكون تحريمُ الكلامِ بالمدينةِ، لا بمكة، وهذا أنسبُ بالنسخ الذى وقع فى الصلاة والتغيير بعد الهجرة، كجعلها أربعاً بعد أن كانت ركعتين، ووجوب الاجتماع لها.
فإن قيل: ما أحسنه مِن جمع وأثبته لولا أن محمد بن إسحاق قد قال: ما حكيتُم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه مِن الحبشة حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً، وهذا يدفع ما ذكر.

قيل: إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا، فقد قال محمد بن سعد فى "طبقاته": إن ابنَ مسعود مكث يسيراً بعد مقدمه، ثم رجع إلى أرض الحبشة، وهذا هو الأظهر، لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة مَن يَحميه، وما حكاه ابنُ سعد قد تضمَّن زيادة أمر خفى على ابن إسحاق، وابنُ إسحاق لم يذكر مَن حدَّثه، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب، فاتفقت الأحاديثُ، وصدَّق بعضها بعضاً، وزالَ عنها الإشكال، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر ابنُ إسحاق فى هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعرى عبد الله بن قيس، وقد أَنْكَرَ عليه ذلك أهل السِّيَر، منهم محمد بن عمر الواقدى وغيرُه، وقالوا: كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على مَن دونه ؟
قلتُ: وليس ذلك مما يخفى على مَنْ دون محمد بن إسحاق فضلاً عنه، وإنما نشأ الوهمُ أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم، ثم قَدِمَ معهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، كما جاء مصرَّحاً به فى "الصحيح" فعد ذلك ابن إسحاق لأبى موسى هِجرة، ولم يقل: إنه هاجر من مكة
إلي أرض الحبشة لينكر عليه.
فصل
فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشى آمِنِين، فلما عَلِمَتْ قريشٌ بذلك، بعثت فى أثرهم عبدَ الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، بهدايَا وتُحَفٍ مِن بلدهم إلى النجاشى ليردَّهم عليهم، فأبى ذلك عليهم، وشَفَعُوا إليه بعظماء بطارقته، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، فَوَشَوْا إليه: أن

هؤلاء يقولون فى عيسى قولاً عظيماً، يقولون: إنه عبد الله، فاستدعى المهاجرين إلى مجلسه، ومُقَدَّمُهم جعفر بن أبى طالب، فلما أرادوا الدخولَ عليه، قال جعفر: يستأذِنُ عليك حِزْبُ الله، فقال للآذِنِ: قل له يُعيد استئذانه، فأعاده عليه، فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون فى عيسى ؟ فتلا عليه جعفر صدراً من سورة "كهيعص" فأخذ النجاشى عُوداً من الأرض فقال: ما زاد عيسى عَلَى هذا ولا هذَا العود، فتناخرت بطارقتهُ عنده، فقال: وإن نخرتم، قال: اذهبوا فأنتم سَيوم بأرضى، من سبَّكم غُرِّم والسيوم: الآمنون فى لسانهم، ثم قال للرسولين: لو أعطيتمونى دَبْرَاً من ذهب يقول: جبلاً من ذهب ما أسلمتهم إليكما، ثم أمَر فَرُدَّت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين.
فصل
ثم أسلم حمزة عمُّه وجماعة كثيرون، وفشا الإسلام، فلما رأت قريشٌ أمرَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلو، والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وبنى عبد مناف، أن لا يُبايعوهم، ولا

يُناكِحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يُجالِسُوهُم، حتى يُسلِّموا إليهم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلَّقوها فى سقفِ الكعبةِ، يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: النَّضرُ بن الحارث، والصحيح: أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَلَّتْ يَدُهُ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرهم، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبنى هاشم، وبنى المطلب، وحُبِسَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ معه فى الشِّعب شِعْب أبى طالب لَيْلَةَ هِلال المحرَّم، سنةَ سبع مِنَ البِعثة، وعُلِّقَتِ الصحيفةُ فى جوف الكعبة، وبقُوا محبوسينَ ومحصورينَ، مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم المِيرةُ والمادةُ، نحوَ ثلاثِ سنين، حتى بلغهم الجَهْدُ، وسُمِعَ أصواتُ صِبيانِهم بالبُكاء مِن وراء الشِّعب، وهناك عَمِلَ أبو طالب قصيدته اللاميةَ المشهورة أولها:
جَزَى الله عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلاً ... عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجلاً غَيْرَ آجِلِ
وكانت قريش فى ذلك بين راضٍ وكاره، فسعى فى نقضِ الصحيفةِ مَنْ كان كارِهاً لها، وكان القائمُ بذلك هشامَ بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك، مشى فى ذلك إلى المُطعِم بن عدى وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، ثم أطلعَ اللهُ رسولَه على أمر صحيفتهم، وأنه أرسل عليها الأرَضَةَ فأكلت جميع ما فيها من جَوْرِ وقطيعةٍ وظُلمٍ، إلا ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابنَ أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كانَ كاذباً خلَّينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً، رجعتُم عن قطيعتنا وظُلمِنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلُوا الصَّحِيفةَ، فلما رأوا الأمرَ كما أخبر به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ازدادوا كُفراً إلى كُفرهم،

وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعب. قال ابن عبد البر: بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجةُ بعده بثلاثة أيام، وقيل: غير ذلك.
فصل
فلما نُقِضَتِ الصحيفةُ، وافق موتُ أبى طالب وموت خديجة، وبينهما يسير، فاشتد البلاءُ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه، فكاشفُوه بالأذى، فخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الطائفِ رجاءَ أن يُؤووه ويَنصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يَرَ مَن يُؤوى، ولم ير ناصِراً، وآذَوه مع ذلك أشدَّ الأذى، ونالُوا منه ما لم ينله قومُه، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا: اخُرج مِن بلدنا، وأغرَوْا به سُفهاءهم، فوقفوا له سمَاطَيْن، وجعلوا يرمُونه بالحِجَارَةِ حتى دمِيَتْ قَدَماه، وزيدُ بن حارثة يَقيهِ بنفسه حتى أصابه شِجاج فى رأسه، فانصرفَ راجعاً من الطائفِ إلى مكة محزوناً، وفى مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهورِ دُعاء الطَّائِفِ: "اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِى، وَقِلَّةَ حِيلَتِى، وهَوَانى عَلَى النَّاس، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبَّى، إلَى مَنْ تَكِلَنِى، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِى ؟ أوْ إلى عَدوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِى، إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَىَّ فَلاَ أُبَالِى، غَيْرَ أَنَّ عَافِيتَكَ هِى أَوْسَعُ لى، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِى أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَىَّ غَضَبُكَ، أوْ أَنْ يَنْزِلَ بى سَخَطُك، لك العُتبى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ

قُوَّةَ إِلا بِكَ".
فأرسل ربُّه تبارك وتعالى إليه مَلَكَ الجِبَالِ، يستأمِرُهُ أن يُطْبِقَ الأَخْشَبَيْنِ عَلَى أهْل مَكَّةَ، وهُمَا جبلاها اللذانِ هِىَ بينهما، فقَالَ: "لاَ، بَلْ أَسْتَأْنى بِهمْ لَعَلَّ اللهَ يُخرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".
فلما نزل بنخلة مَرْجِعَهُ، قام يُصَلِّى مِن الليل، فَصُرِفَ إليهِ نَفَرٌ مِنَ الجن، فاستمَعُوا قراءته، ولم يَشْعُرْ بهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنَّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنْصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ قَالُواْ يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيُبواْ دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمِ وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ

لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ، أُوْلَئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 29-32].
وأقام بنخلة أياماً، فقال له زيدُ بنُ حارثة: كيف تدخلُ عليهم، وقد أخرجوك ؟ يعنى قريشاً فقال: "يا زيدُ ؛ إن الله جاعِلٌ لما ترى فَرَجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دِينَه ومظهر نبيه".
ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلاً مِن خُزاعة إلى مُطعم بن عدى: أَدْخُلُ فى جِوَارِكَ ؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: البِسُوا السِّلاَح، وكونوا عِنْدَ أركانِ البيت، فإنى قد أجرتُ محمداً، فدخلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحَرامَ، فقام المطعمُ بن عدى على راحلته، فنادى: يا معشرَ قريش ؛ إنى قد أجرتُ محمداً، فَلا يَهِجْهُ أَحَدٌ مِنْكم، فانتهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرُّكنِ، فاسْتَلَمَه، وصلَّى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعمُ بن عدى وولده محدِقون به بالسِّلاح حتى دخل بيته.

فصل: [الإسراء والمعراج]
ثم أُسرِىَ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَسَدِهِ على الصحيح، مِن المسجد الحرامِ إلى بيتِ المقدس، راكباً على البُراقِ، صُحبة جبريل عليهما الصلاةُ والسَّلام، فنزل هُناكَ، وصَلَّى بالأنبياء إِماماً، وربط البُراقَ بحَلْقَةِ بابِ المسجد.
وقد قيل: إنه نزل ببيتِ لحمٍ، وصلَّى فيه، ولم يَصِحَّ ذَلكَ عَنْهُ البتة.
ثمَّ عُرِجَ بِهِ تِلكَ الليلةَ مِنْ بَيْتِ المقدسِ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيا، فاستفتح لَهُ جِبْريلُ، فَفُتِحَ لَهُ، فَرَأَى هُنَالِكَ آدَمَ أَبَا البَشَرِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ، ورحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبوَّتِه، وَأَرَاهُ الله أرْوَاحَ السُّعَدَاءِ عَنْ يَمِينِهِ، وَأَرْوَاحَ الأَشْقِيَاءِ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ لَهُ، فَرَأى فِيهَا يَحْيَى بن زَكَرِيَّا وَعِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، فَلَقِيَهُمَا وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَردَّا عليه، وَرَحَّبَا بِه، وَأَقَرَّا بِنُبُوَّتِهِ،

ثُمَّ عُرج بهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَة، فَرأى فيها يوسف، فسلَّمَ عليه، فردَّ عليه، ورحَّبَ به، وأقرّ بنبوتِه، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَرَأَى فِيهَا إِدْريسَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنبوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَرَأَى فِيهَا هَارون بْنَ عِمْرَان، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ عُرِجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَلَقِىَ فِيهَا مُوسَى بْن عِمْرَان، فَسَلَّمَ عَلَيهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ، بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ: أَبْكِى، لأَنَّ غُلاَمَاً بُعِثَ مِنْ بَعْدِى، يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَلَقِىَ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ، وَأَقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ، ثُمَّ رُفِع إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ رُفِعَ لَهُ البَيْتُ المَعْمُورُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى الجبَّارِ جَلَّ جَلالُه، فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أوْحَى، وَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً.

فَرَجِعَ حَتَّى مَرَّ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: بِمَ أُمِرْتَ ؟ قَالَ: بِخَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، ارْجعْ إِلىَ رَبِّكَ، فَاسْأْلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فالْتَفَتَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فى ذلِكَ، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلاَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ الجَبَّارَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهُوَ فى مَكَانِهِ هذا لفظُ البخارى فى بعض الطرق فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَاً، ثُمَّ أُنْزِلَ حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: ارْجعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى، وَبَيْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى جَعَلَهَا خَمْسَاً، فَأَمَرَهُ مُوسَى بالرُّجُوعِ وَسُؤَالِ التَّخْفِيفِ، فَقَالَ: "قَدِ اسْتَحْييْتُ مِنْ رَبِّى، وَلكِنْ أَرْضَى وَأُسلِّمُ"، فَلَمَّا بَعُدَ نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضيْتُ فَرِيضَتِى، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِى.
واختلف الصحابةُ: هل رأى ربَّهُ تلك الليلةَ، أم لا ؟ فصحَّ عن ابن عَبَّاس أنه رأى ربَّهُ، وصحَّ عنه أنه قال: "رَآهُ بِفُؤَادِهِ".
وصحَّ عَنْ عَائِشَةَ وابْن مًَسْعُودٍ إِنْكَارُ ذلِكَ، وقَالاَ: إِنَّ قَوْلَه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى} [النجم: 13-14] إِنَّمَا هُوَ جِبْريلُ.

وَصَحَّ عَنْ أبى ذَرَّ أَنَّه سَأَلَهُ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ؟ فقالَ: "نُورُ أَنَّى أرَاهُ" أى: حال بينى وبين رؤيته النور، كما قال فى لفظ آخر: "رَأَيْتُ نُورَاً".
وقد حكى عثمانُ بن سعيد الدَّارمى اتفاقَ الصَّحَابة على أنه لم يره.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية قدَّس الله روحَه: وليس قولُ ابن عباس: "إنه رآه" مناقِضاً لهذا، ولا قولُه: "رآهُ بفُؤاده" وقد صحَّ عنه أنه قال: "رأيتُ ربِّى تَبَارَكَ وتَعَالَى ) ولكن لم يكن هذا فى الإسراء، ولكن كان فى المدينة لما احتُبِسَ عنهم فى صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤيةِ رَبِّه تبارك وتعالى تِلْكَ اللَّيْلَةَ فى منامه، وعلى هذا بنى الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى، وقال: "نعم رآه حقاً، فإنَّ رؤيا الأنبياء حق، ولا بُدَّ"، ولكن لم يَقُلْ أحمد رحمه الله تعالى: إنَّه رآهُ بِعَيْنَىْ رأسِهِ يقظةً، ومَن حكى عنه ذلك، فقد وَهِمَ عليه، ولكن قال مرّة: "رآه"، ومرَّة قال: "رآه بفؤاده"، فَحُكِيَتْ عنه رِوايتان، وحُكِيَت عنه الثالثة مِن تصُّرفِ بعض أصحابه: أنه رآه بعينى رأسه، وهذه نصوصُ أحمد موجودة، ليس فيها ذلك

وأمَّا قولُ ابنِ عباس: "إنَّه رآهُ بفُؤادِهِ مرتين"، فإن كان استنادُه إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] والظاهر أنه مستندُه، فقد صحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئى جبريلُ، رآهُ مرَّتَيْنِ فى صُورته التى خُلِقَ عَلَيْهَا، وقول ابن عباس هذا هو مُسْتَنَدُ الإمام أحمد فى قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم.
وأما قولُهُ تعالى فى سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [ النجم: 8] فهو غير الدُّنو والتَّدلى فى قصة الإسراء، فإنَّ الذى فى "سورة النجم" هو دنُّو جبريل وتدلِّيه، كما قالت عائشةُ وابنُ مسعود، والسياقُ يَدُلُّ عليه، فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وهو جبريل {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 6-8]، فالضمائر كُلُّها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديد القوى، وهو ذُو المِرَّة، أى: القوة، وهو الذى استوى بالأفق الأعلى، وهو الذى دنى فتدلَّى، فكان من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ قوسين أو أدنى، فأما الدُّنُوُّ والتدَّلى الذى فى حديث الإسراء، فذلك صريحٌ فى أنه دنوُّ الربِّ تبارك وتدلِّيه ولا تَعَرُّض فى "سورة النجم" لِذلك، بل فيها أنه رآه نزلةً أُخرى عِند سِدرةِ المنتهى، وهذا هو جبريلُ، رآهُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صُورته مرتين: مرة فى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم.
فصل
فلما أصبحَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قومِه، أخبرهم بما أراه اللهُ عَزَّ وجَلَّ

من آياتهِ الكبرى، فاْشْتَدَّ تكذيبُهم له، وأذاهُم وضراوتُهم عليه، وسألوه أن يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ، فجلاَّهُ الله له حَتَّى عَايَنَهُ، فَطَفِقَ يُخِبُرهم عَنْ آياتِهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَن يَرُدُّوا عَلَيْهِ شَيْئًا.
وأخبَرَهُم عَنْ عِيرهم فى مَسْرَاهُ ورجوعِهِ، وأخبَرَهُم عن وقتِ قُدومِهَا، وأخبَرَهُم عن البعير الذى يَقْدُمُها، وكان الأمرُ كما قال، فلم يِزَدْهُم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كُفوراً.

فصل
وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: "إنما كان الإسراء بروحه، ولم يَفْقِد جسدَه"، ونُقِلَ عن الحسن البَصرى نحو ذلك، ولكن ينبغى أن يُعلم الفرقُ بين أن يُقال: كان الإسراءُ مناماً، وبين أن يُقال: كان بروحه دونَ جسده، وبينهما فرقٌ عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقُولا: كان مناماً، وإنما قالا: "أُسْرِىَ بِرُوحِهِ ولم يَفْقِدْ جَسَدَهُ"، وَفَرْقٌ بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم فى الصُّور المحسوسة، فيرى كأنَّه قد عُرِجَ به إلى السماء، أو ذُهِبَ به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحُه لم تصعَد ولم تذهب، وإنما مَلَكُ الرؤيا ضَرَبَ له المِثَال، والَّذِينَ قالوا: عُرِجَ برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائفتان: طائفةٌ قالت: عُرِجَ بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عُرِجَ بروحه ولم يَفْقِدْ بدَنه، وهؤلاء لم يُرِيدُوا أن المِعراجَ كان مناماً، وإنما أرادوا أن الرُّوحَ ذاتَها أُسْرِىَ بها، وعُرِجَ بِهَا حقيقةً، وباشرت مِنْ جِنس ما تُباشِرُ بعد المفارقة، وكان حالُهَا فى ذلك كحالها بعد المفارقة فى صُعودها إلى السَّموات سماءً سماءً حتى يُنْتهى بها إلى السماء السابعة، فَتَقِفُ بَيْنَ يدى الله عَزَّ وجَلَّ، فيأمرُ فيها بمَا يَشَاءُ، ثم تنزل إلى الأرض، والذى كان لِرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةَ الإسراء أكملُ مما يحصُلُ للروح عند المفارقة.
ومعلوم أن هذا أمرٌ فوقَ ما يراهُ النائمُ، لكن لما كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مقام خَرْقِ العَوائِدِ، حتى شُقَّ بطنُهُ، وهو حى لا يتألم بذلك، عُرِجَ بذاتِ روحه المقدسة حقيقةً من غير إماتة، ومَنْ سِوَاهُ لا ينالُ بذاتِ روحِهِ الصُّعودَ إلى السماءِ إلا بَعْدَ الموتِ والمُفارقة، فالأنبياءُ إنما استقرَّت أرواحُهُم هناك بعد مفارقة الأبدان، وروحُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَت إلى هُنَاكَ فى حال

الحياة ثم عادَت، وبعد وفاته استقرَّت فى الرفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومع هذا، فلها إشراف على البَدَنِ وإشراقٌ وتعلُّق به، بحيث يَرُدُّ السلامَ على مَن سَلَّمَ عَلَيْهِ، وبهذا التعلق رأى موسى قائماً يُصَلِّى فى قبره، ورآهُ فى السماء السادسة. ومعلوم أنه لم يُعْرَجْ بموسَى مِن قبره، ثم رُدَّ إليه، وإنما ذلك مقامُ رُوحِه واستقرارُها، وقبرُه مقامُ بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآهُ يُصَلِّى فى قبره، ورآه فى السماء السَّادِسَةِ، كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أرفع مكان فى الرفيق الأعلى مستقِراً هناك، وبَدَنُه فى ضريحه غيرُ مفقود، وإذا سلَّم عليه المسلِّم ردَّ الله عليه روحه حتى يَرُدَّ عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى، ومن كَثُفَ إدراكُهُ، وغلظت طباعه عن إدراك هذا، فلينظرْ إلى الشَّمسِ فى عُلُوِّ محلها، وتعلُّقِهَا، وتأثيرهَا فى الأرض، وحياة النبات والحيوان بها، هذا وشأنُ الروح فوق هذا، فلها شأنٌ، وللأبدان شأن، وهذه النارُ تكون فى محلها، وحرارتُها تؤثِّر فى الجسم البعيد عنها، مع أنَّ الارتباط والتعلُّقَ الذى بَيْنَ الروحِ والبدنِ أقوى وأكملُ مِن ذلك وأتم، فشأنُ الروح أعلى من ذلك وألطف.
فَقُلْ للعُيُونِ الرُّمْدِ إِيَّاكِ أَنْ تَرَىْ ... سَنَا الشَّمْسِ فَاسْتَغْشِى ظَلاَمَ اللَّيَالِيَا
فصل
قال موسى بن عُقبة عن الزهرى: "عُرِجَ بُروحِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيتِ

المقدس وإلى الساء قبلَ خروجه إلى المدينة بسنة"، وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران.. انتهى.
وكان الإسراءُ مرَّةً واحدة. وقيل: مَرَّتين: مرة يقظةً، ومرة مناماً، وأربابُ هذا القول كأنَّهُم أرادوا أن يجمعوا بين حديثِ شريك، وقوله: ثم استيقظتُ، وبين سائرِ الروايات، ومنهم مَنْ قال: بل كان هذا مرتين، مرة قبل الوحى لقوله فى حديث شريك: "وذلك قبل أن يُوحَى إليه"، ومرة بعد الوحى، كما دلَّت عليه سائر الأحاديث، ومنهم مَن قال: بل ثلاثُ مرات: مرة قبل الوحى، ومرَّتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقةُ ضعفاء الظاهرية مِنْ أرباب النَّقْلِ الذين إذا رأوا فى القصة لفظة تُخالِفُ سياقَ بعضِ الروايات، جعلُوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواياتُ، عدَّدوا الوقائع، والصوابُ الذى عليه أئمةُ النقل أن الإسراء كان مرةً واحِدةً بمكَّة بعد البِعثة.
ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً، كيف ساغ لهم أن يظنُّوا أنه فى كل مرة تُفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردَّد بين ربه وبين موسى حتى تصيرَ خمساً، ثم يقول: "أمضيتُ فريضتى، وخففتُ عن عبادى" ثم يعيدها فى المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشراً عشراً، وقد غلَّط الحُفَّاظُ شريكاً فى ألفاظ مِن حديث الإسراء ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله.

فصل: [مبدأ الهجرة إلى المدينة]
في مبدأ الهجرة التي فرَّق اللهُ فيها بين أعدائه وأوليائه،وجعلها مبدأً لإعزاز دينه ونصر عبده ورسُوله:
قال الواقدى: حدَّثنى محمدُ بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثلاثَ سِنِينَ مِن أوَّلِ نُبوته مُستخفياً، ثم أعلنَ فى الرَّابِعة، فدعا النَّاسَ إلى الإسلام عَشْرَ سِنِينَ، يُوافى المَوْسِمَ كُلَّ عام، يتَّبعُ الحاجَّ فى منازلهم، وفى المواسم بعُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز، يدعوهم إلى أن يمنَعُوهُ حتى يُبَلِّغَ رِسَالاتِ ربِّه ولهم الجنةُ، فلا يَجِدُ أحداً ينصُره ولا يُجيبه، حتى إنه ليسألُ عن القبائل ومنازِلهَا قبيلةً قبيلةً، ويقول: "يا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لاَ إِلهَ إِلا الله تُفْلِحُوا، وَتمْلِكُوا بِهَا العَرَبَ، وتَذِلَّ لَكُم بِهَا العَجَمُ، فَإذَا آمَنْتُم، كُنْتُم مُلُوكاً فى الجَنَّةِ"، وأبو لَهَبٍ وراءَه يقولُ: لا تُطِيعُوهُ فإنَّهُ صَابِىء كَذَّاب، فيردُّونَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبحَ الرَّدِّ، ويُؤذونه، ويقولون: أُسرتُك وعشيرتُكَ أعلمُ بِكَ حيثُ لم يَتَّبِعُوك، وهُوَ يدعُوهم إلى الله، ويقول: "اللهُمَّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هكَذَا" قال: وكان ممن يسمَّى لنا مِن القبائِلِ الَّذِينَ أتاهُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاهم، وعَرَضَ نفسَه عليهم: بنو عامر بن صَعْصَعَةَ، ومحارب بن حَصَفة، وفَزَارَة، وغسَّان، ومُرَّة، وحنيفة، وسُلَيم، وعَبْس، وبنو النَّضر، وبنو البكاء، وكِندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذرة، والحضَارِمة، فلم يستجب منهم أحد.

فصل
وكان مِما صنع الله لِرسوله أن الأوسَ والخزرجَ كانُوا يسمعُونَ مِن حُلفائهم مِن يهودِ المدينةِ أن نبياً من الأنبياء مبعوثٌ فى هذا الزمانِ سَيَخْرُج، فَنَتَّبِعُهُ ونقتُلكُم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمٍ، وكانت الأنصارُ يحجُّونَ البيتَ كما كانتِ العربُ تحجُّه دونَ اليهود، فلما رأى الأنصارُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو الناسَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، وتأمَّلُوا أحوَاله، قال بعضُهم لبعض: تَعْلَمُونَ واللهِ يا قَوْمُ أَنَّ هذا الَّذِى تَوَعَّدُكُم بِهِ يَهُودُ، فَلا يَسْبِقُنَّكُم إِلَيْهِ. وكانَ سُويدُ بنُ الصَّامِت من الأوسِ قد قَدِمَ مَكَّةَ، فدعاه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يُبْعِدْ وَلَم يُجِبْ حتَّى قَدِمَ أنس بن رافع أبو الحيسر فى فِتيةٍ مِن قومهِ من بنى عَبْدِ الأَشْهَلِ يطلُبُون الحِلف، فدعاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسْلام، فقال إياسُ بنُ معاذ وكان شاباً حَدَثاً: يا قومُ ؛ هذا واللهِ خَيْرٌ مِما جئِنَا له، فضربَه أبو الحيسر وانتهره، فسكتَ، ثم لم يَتِمَّ لهم الحِلْفُ، فانصرَفُوا إلى المدينةِ.

فصل
ثم إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِىَ عِنْدَ العَقَبَةِ فى المَوْسِمِ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الأنصارِ كُلُّهم مِن الخزرج، وهم: أبو أُمامة أسعدُ بنُ زُرَارَة، وعوفُ بن الحارث، ورافِعُ بن مالك، وقُطبةُ بن عامر، وعُقبة بن عامر، وجابرُ بن عبد الله بن رئاب، فَدَعَاهُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسْلامِ فأسلمُوا.
ثم رجعوا إلى المدينةِ، فَدَعَوْهُم إلى الإسلام، ففشا الإسلامُ فيها حتَّى لم يبق دارٌ إلا وقد دخلها الإسلامُ، فلما كان العامُ المقبلُ، جاء مِنهم اثنا عشَرَ رَجُلاً، الستة الأُوَل خلا جابر بن عبد الله، ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدِّم، وذكوان بنُ عبد القيس، وقد أقامَ ذَكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فيقال: إنه مُهاجرى أنصارى، وعُبادة بن الصامت، ويزيدُ بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التَّيهان، وعُويمر بن مالك هم اثنا عشر.
وقال أبو الزبير عن جابر: "إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ بِمَكَّةَ عشرَ سنين يَتَّبعُ الناسَ فى منازلهم فى المواسم، وَمَجَنَّة، وعُكَاظ، يقول: "مَنْ يُؤْوينى ؟ مَنْ يَنْصُرُنى ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالاَتِ رَبِّى، ولَهُ الجَنَّةُ، فَلاَ يَجِدُ أَحَدَاً يَنْصُرُهُ وَلاَ يُؤْوِيِهِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ اليَمَنِ إِلى ذِى رَحِمِهِ، فَيَأْتِيهِ قَوْمهُ فَيَقُولُونَ له: "احْذَرْ غُلاَمَ قُريْشٍ لاَ يَفْتِنْكَ، وَيَمْشِى بَيْنَ رِجَالِهِم يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وَهْم يشيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ به ويُقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ، فَيُسْلِمُونَ بإِسْلاَمِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دورِ الأنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا

رَهْطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، يُظْهُرونَ الإسْلاَمَ، وَبَعَثَنَا اللهُ إلَيْهِ، فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وقلنا: حتَّى مَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطرَّد فى جِبَال مَكَّةَ وَيَخَافُ، فَرَحْلَنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فى المَوْسِمِ، فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ العَقَبَة، فَقَالَ لَهُ عَمُّه العَبَّاسُ، يَا ابنَ أَخِى مَا أَدْرى مَا هَؤُلاءِ القَوْمُ الَّذِينَ جَاؤوكَ، إِنِّى ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ العَبَّاسُ فى وُجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَ نَعْرِفُهُم، هَؤُلاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله ؛ عَلامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِى عَلى السَّمع وَالطَّاعَةِ، فى النَّشَاطِ والكَسَلِ. وَعلَى النَّفَقَةِ فى العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْى عَنِ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فى اللهِ لا تَأْخُذُكُم لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَعلَى أَنْ تَنْصُرونى إِذا قَدِمْتُ عَلَيْكُم، وَتَمْنَعُونِى مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُم وَأَبْنَاءَكُم وَلَكُمُ الجَنَّةُ"، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدَاً يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْربْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ المَطِىِّ إلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وأنَّ إِخْرَاجَهُ اليَوْمَ مُفَارَقَةُ العَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُم، وأَنْ تَعَضَّكُم السُّيوفُ، فإِمَّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذلِكَ، فَخُذُوهُ، وَأَجْرُكُم عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُم خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُم عِنْدَ اللهِ، فَقَالُوا: يَا أَسْعَدُ ؛ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لاَ نَذَرُ هَذِهِ البَيْعَةَ، ولا نَسْتَقِيلُها، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلاً رَجُلاً، فأَخَذَ عَلَيْنَا وشرط، يُعْطِينَا بِذَلِكَ الجَنَّةَ".
ثمَّ انصرفوا إلى المدينةِ، وبعثَ معهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمروُ بنَ أُمَّ

مكتوم، ومُصْعَبَ بْن عُمير يُعَلَّمان مَن أسلم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عزَّ وجلَّ، فنزلا على أبى أمامة أسعدَ بن زُرارة، وكان مُصعبُ بنَ عمير يَؤمُّهم، وجمَّع بهم لما بلغوا أربعين فأسلم على يديهما بَشرٌ كثيرٌ، منهم أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ، وسعدُ بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بنى عبد الأشهل الرجالُ والنساء، إلا أُصيرم عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخَّر إسلامه إلى يوم أُحُد، وأسلم حينئذ، وقاتل فقُتِل قبل أن يَسجد للهِ سجدة، فأُخبر عنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "عَمِلَ قَليلاً، وَأُجِرَ كَثِيراً".
وكثر الإسلامُ بالمدينة، وظهر، ثم رَجَعَ مُصعبُ إلى مكة، ووافى الموسِمَ ذلك العامَ خلقٌ كثير من الأنصار مِن المسلمين والمشركين، وزعيمُ

القومِ البَراءُ بنُ معرور، فلما كانت لَيْلَةُ العقبةِ الثلثَ الأول مِن الليل تسلَّل إلى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثةُ وسبعونَ رَجُلاً وامرأتانِ، فبايعُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفية مِن قومهم، ومِن كُفَّارِ مكة، على أن يمنعُوه مما يمنعونَ مِنه نساءهم وأبناءهم وأزُرَهم، فكانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ ليلتئذٍ البَرَاءُ بن معرور، وكانت له اليدُ البيضاء، إذ أكَّدَ العقدَ، وبادر إليه، وحضرَ العباسُ عمُّ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤكداً لبيعته كما تقدم، وكان إذ ذاك على دينِ قومه، واختارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم تلك الليلة اثنى عشر نقيباً، وهم: أسعدُ بن زرارة، وسعدُ بنُ الربيع، وعبدُ الله بن رواحة، ورافِعُ بن مالك، والبَراءُ بن مَعرور، وعبد الله ابن عمرو بن حرام والد جابر، وكان إسلامُه تِلك الليلة، وسعدُ بنُ عبادة، والمنذرُ بن عمرو، وعبادةُ بن الصامت، فهؤلاء تِسعةٌ من الخزرجِ، وثلاثةٌ من الأوس: أُسَيْدُ بنُ الحضير، وسعدُ بن خيثمة، ورِفاعةُ بن عبد المنذر. وقيل: بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه.
وأما المرأتان: فأُم عُمارة نُسيبة بنتُ كعبِ بنِ عمرو، وهى التى قَتَل مُسَيْلِمةُ ابنَهَا حبيبَ بْنَ زيد، وأسماء بنت عمرو بن عدى.
فلما تمت هذه البيعةُ استأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يميلوا على أهل العقبةِ بأسيافهم، فلم يأذَنْ لهم فى ذلك، وصرخَ الشيطانُ عَلَى العَقَبَةِ بأنفَذِ صوت سُمِع: يا أهلَ الجباجب هل لكم فى مُذَمَّمٍ والصُّبَاةُ معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا أَزَبُّ العقبة، هذا ابنُ أزيْب، أما واللهِ يا عدُوَّ الله لأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ".

ثم أمرهم أن ينفضُّوا إلى رحالهم، فلما أصبحَ القومُ، غدَتْ عليهم جِلَّةُ قريش وأشرافهُم حتى دخلوا شِعب الأنصار، فقالوا: يا معشرَ الخزرجِ ؛ إنه بلغنا أنكم لَقِيتُم صاحِبَنَا البارحة، وواعدتمُوه أن تُبايعُوه على حربنا، وايمُ اللهِ ما حىٌ مِن العرب أبغضَ إلينا من أن يَنْشَبَ بيننا وبينه الحربُ مِنكم، فانبعثَ مَن كان هُناك من الخزرج مِن المشركين، يحلِفُونَ لهم بالله: ما كان هذا وما عَلِمْنا، وجعل عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سلول يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومى لِيفتاتُوا عَلَىّ مِثل هذا، لو كنتُ بيثربَ ما صنع قومى هذا حتى يُؤامرونى، فرجعتْ قريش مِن عندهم، ورحل البراءُ بن معرور، فتقدَّم إلى بطنِ يَأْجَج، وتلاحق أصحابُه مِن المسلمين، وتطلَّبتهُم قريشٌ، فأدركوا سعدَ بْنَ عُبادة، فربطوا يديهِ إلى عُنقهِ بِنسْعِ رَحْلِه، وجعلوا يضرِبُونه، ويَجرُّونه، ويَجْذِبونَهُ بِجُمَّتِهِ حتى أدخلُوه مكَّة، فجاء مُطْعِمُ بنُ عدى والحارث بن حرب بن أُمية، فخلصَّاه من أيديهم، وتشاوَرَتِ الأنصارُ حين فقدُوه أَن يَكِرُّوا إليه، فإذا سَعْدُ قد طَلَعَ عليهم، فوصلَ القومُ جميعاً إلى المدينةِ.
فأذِنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسلمين بالهِجْرةِ إلى المدينة، فبادرَ الناسُ إلى ذلك، فكان أوَّلَ مَنْ خرج إلى المدينة أبُو سلمة بن عبد الأسد، وامرأتُهُ أُمُّ سلمة، ولكنها احتُبِسَت دونه، ومُنِعَت من اللَّحَاق به سنة، وحِيلَ بينها وبين ولدِها سلمة، ثم خرجت بعد السَّنة بولدها إلى المدينة، وشيَّعها

عثمانُ بنُ أبى طلحة،.
ثم خَرجَ الناسُ أرسالاً يتبعُ بعضُهم بعضاً، ولم يبق بمكة مِن المسلمين إلا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعلىّ، أقاما بأمره لهما، وإلا مَن احتبسه المشرِكُونَ كرهاً، وقد أعدَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهَازَه ينتظر متى يُؤمر بالخروج، وأعدَّ أبو بكر جَهَازَهُ.
فصل
فلما رأى المشركُون أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تجهَّزُوا، وخرجُوا، وحملُوا، وساقوا الذَّرارِى والأطفالَ والأموالَ إلى الأوسِ والخزرَج، وعرفُوا أن الدارَ دارُ مَنَعَةٍ، وأَن القومَ أَهلُ حَلْقَةٍ وَشَوْكَةٍ وبأسٍ، فخافوا خروجَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم ولحوقَه بهم، فيشتدَّ عليهم أمره، فاجتمعوا فى دار الندوة، ولم يتخلَّفْ أحدٌ من أهل الرأى والحجا منهم ليتشاوروا فى أمره، وحضرهم وليُّهم وشيخُهم إبليسُ فى صُورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصَّمَّاء فى كِسائه، فتذاكَرُوا أمرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار كُلُّ أحد منهم برأى، والشيخُ يردُّهُ ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل:

قد فُرِقَ لى فيه رأى ما أراكم قد وقعتُم عليه، قالوا: ما هو ؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نَهْداً جَلْداً، ثمَّ نعطيِه سَيْفاً صارماً، فيضربونه ضربةَ رجلٍ واحد، فيتفرَّقُ دمه فى القبائل، فلا تدرى بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنعُ، ولا يُمكِنُهَا معاداة القبائل كلها، ونسوقُ إليهم ديته، فقال الشيخ: للهِ دَرُّ الفتى، هذا واللهِ الرأىُ، قال: فتفرَّقوا على ذلك، واجتمعوا عليه، فجاءه جبريلُ بالوحى من عند ربه تبارك وتعالى، فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام فى مَضجعِه تلكَ الليلة.
وجاء رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى بكر نِصفَ النهار فى ساعةٍ لم يكن يأتيه فيها مُتَقَنَّعاً، فقالَ له:
"أخْرِجْ مَنْ عِنْدَك" فقَالَ: إنما هُم أهُلكَ يا رسولَ الله، فقال: "إنَّ الله قَدْ أَذِنَ لِى فى الخُرُوجِ" فقال أبُو بكر: الصحبة يا رسولَ الله ؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم" فقال أبو بكر: فخذ بأبى وأُمّى إحدَى راحلتىَّ هاتين، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بالثمن".
وأمر علياً أن يبيت فى مَضْجَعِهِ تلكَ الليلة، واجتمعَ أُولئكَ النفرُ مِن قريش يتطلعون من صِيْرِ الباب ويرصُدُونه، ويُرِيدون بياتَه، ويأتمرونَ أيهم يكونُ أشقاها، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم فأخذ حَفنةً من البطحاء، فجعل يَذُرُّهُ على رؤوسهم، وهم لا يرونه، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، ومضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت أبى بكر، فخرجا مِن خَوْخَةٍ فى دار

أبى بكر ليلاً، وجاء رجلٌ، ورأى القوم ببابه، فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمداً، قال: خِبْتُم وخَسِرْتُم، قد واللهِ مرَّ بِكُمْ وذرّ على رؤوسكم الترابَ، قالوا: واللهِ ما أبصرناه، وقاموا ينفضُون التراب عن رؤوسهم، وهم: أبو جهل، والحكمُ بنُ العاص، وعُقْبَةُ بن أبى مُعيط، والنَّضرُ بن الحارث، وأُميَّةُ بن خلف، وزمعةُ بن الأسود، وطُعيمة بن عدى، وأبو لهب، وأُبَىُّ بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، فلما أصبحوا، قام علىٌ عن الفراش، فسألُوه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: لا عِلم لى به.
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر إلى غار ثورٍ، فدخلاه، وضربَ العنكبوتُ على بابه.
وكانا قد استأجرَا عبدَ الله بن أُرَيْقِطٍ الليثى، وكان هادِياً ماهِراً بالطريق، وكان على دِين قومه من قريش، وأمناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما،

وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث، وجدَّت قريش فى طلبهما، وأخذوا معهم القافَة، حتى انتهوا إلى بابِ الغار، فوقفوا عليه.
ففى "الصحيحين" أن أبا بكر قال: يا رسول اللهِ ؛ لو أنَّ أحَدَهُم نظر إلى ما تحت قَدَمَيْهِ لأبصرنا فقال : "يَا أَبَا بَكُرٍ ؛ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا، لاَ تَحْزَنْ فإنَّ الله مَعَنَا" وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر يسمعانِ كلامَهم فوقَ رؤوسهما، ولكن الله سُبحانه عمَّى عليهم أمَرهما، وكان عامِر بن فُهيرة يرعى عليهما غنماً لأبى بكر، ويتسمَّع ما يُقالُ بمكة، ثم يأتيهما بالخبر، فإذا كان السَحَر سَرَحَ مع الناسِ.
قالت عائشة: وجهَّزناهُما أحث الجِهاز، ووضَعْنَا لهمَا سُفرة فى جِرابٍ، فَقَطَعَتْ أسماءُ بنتُ أبى بكر قطعةً مِنْ نِطاقها، فأوْكَتْ بهِ الجِراب، وقطعتِ الأُخرى فصيرَّتها عِصاماً لِفم القِربة، فلذلك لُقِّبتْ:

ذاتَ النطاقين.
وذكر الحاكم فى "مستدركه" عن عمر قال: "خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشى ساعة بين يديه، وساعة خلفَه، حتى فَطِنَ له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله، فقال له: يا رسول الله ؛ أذكُر الطلبَ، فأمشى خلفك، ثم أذكُر الرصَدَ، فأمشى بين يديك فقال: "يا أبا بكر ؛ لو كان شىء أحببتَ أن يكون بِكَ دونى؟" قال: نعم والَّذى بعثك بالحقِّ، فلما انتهى إلى الغار قال أبو بكر: مكانَكَ يا رسول الله حتى أستبرىءَ لك الغارَ، فدخل، فاستبرأه، حتى إذا كان فى أعلاه ذكر أنه لم يستبرىء الجِحَرَةَ، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرىء الجِحَرَةَ ثم قال: انزلْ يا رسولَ الله، فنزل، فمكثا فى الغار ثلاثَ ليالٍ حتى خمدت عنهما نارُ الطلب، فجاءهما عبد اللهِ بن أُريقط بالراحلتين، فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة، وسار الدليلُ أمامهما، وعينُ الله تكلؤهما، وتأييدُه يصحبُهما، وإسعاده يرحلُهما ويُنزلهما.
ولما يئس المشركون مِن الظَّفرِ بهما، جعلُوا لمن جاء بهما دِيةَ كل واحد منهما، فجدَّ الناسُ فى الطَّلب، واللهُ غالبٌ على أمره، فلما مرُّوا بحى بنى مُدُلجٍ مُصعدِين من قُديد، بَصُرَ بهم رجلُ من الحىِّ، فوقف على الحىِّ فقال:

لقد رأيتُ آنِفاً بالساحل أَسْوِدَةً ما أُراها إلا محمداً وأصحابَه، فَفَطِنَ بالأمر سُراقة بن مالك، فأراد أن يكون الظفرُ له خاصة، وقد سبق له من الظَّفَرِ ما لم يكن فى حسابه، فقال: بل هم فلان وفلان، خرجا فى طلب حاجة لهما، ثم مكث قليلاً، ثم قام فدخل خِباءه وقال لخادمه: اخْرُجْ بالفرس من وراءِ الخِباء، وموعِدُك وراء الأكمة، ثم أخذ رُمحه، وخفض عَالِيه يَخُطُّ به الأرضَ حتى رَكِبَ فرسه، فلما قَرُبَ منهم وسمع قِراءة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر يُكْثِرُ الالتفات، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلتفت، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله ؛ هذا سُراقة بن مالك قد رَهَقَنَا، فدعا عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فساخت يدا فرسه فى الأرضِ، فقال: قد علمتُ أن الذى أصابنى بدعائكما، فادعوا الله لى، ولكما علىّ أن أردَّ الناسَ عنكما، فدعا له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُطلق، وسأل رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتُب له كتاباً، فكتب له أبو بكر بأمره فى أديم وكان الكتابُ معه إلى يوم فتح مكة، فجاءه بالكتِاب، فوفَّاه له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ"، وعرض عليهما الزاد والحِملان، فقالا: لا حاجة لنا به، ولكن عَمِّ عنَّا الطلبَ، فقالَ: قد كُفيتم، ورجع فوجَدَ الناسَ فى الطلب، فجعل يقول: قد استبرأتُ لكم الخبر، وقد كُفيتم ما ههنا، وكان أول النهار جاهداً عليهما، وآخره حارساً لهما.
فصل
ثُمَّ مَرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مسيره ذلك حتى مرَّ بخيمتى أُمَّ مَعْبَدٍ

الخُزَاعية، وكانت امرأة بَرْزَةً جَلْدَةً تحتبى بفناء الخيمة، ثم تُطعِمُ وتَسقى مَنْ مَرَّ بها، فسألاها: هل عندها شىء ؟ فقالت: واللهِ لو كان عندنا شىء ما أعْوَزَكُم القِرَى، والشَّاءُ عازِب، وكانت سنة شهباء، فنظَر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شاة فى كِسْرِ الخيمة، فقال: "ما هذه الشاة يا أُمّ مَعْبَد" ؟ قالت: شاة خلفها الجَهْدُ عن الغنم، فقال: "هل بِهَا مِنْ لبن" ؟ قالت: هى أجهدُ مِن ذلك، فقال: "أتأذنين لى أن أَحلِبهَا" ؟ قالت: نعم، بأبى وأُمى، إن رأيتَ بها حَلْباً فاحلُبها، فمسحَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيدِهِ ضَرْعَها، وسمَّى الله ودعا، فتفاجَّت عليه، ودرَّت، فدعا بإناء لها يُربِضُ الرَّهطَ، فحلب فيه حتى علته الرَّغوة، فسقاها فشربت حتى رَوِيَت، وسقى أصحابه حتى رَووْا، ثم شرب، وحلب فيه ثانياً، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، فارتحلُوا، فقلَّما لَبِثتْ أن جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعنزاً عِجافاً، يتساوكن هُزالاً لا نِقى بهن، فلما رأى اللَّبن، عَجِبَ، فقال: مِن أين لكِ هذا، والشاةُ عازب ؟ ولا حَلُوبةَ فى البيت ؟ فقالت: لا واللهِ إلا أنَّه مرَّ بنا رجلٌ مبارَكٌ كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا. قال: واللهِ إنى لأُراه صاحِبَ قريش الذى تطلُبه، صِفيه لى يا أُمّ مَعْبَد، قالت: "ظاهِرُ الوَضَاءة، أبلجُ الوجه، حَسَنُ الخَلْقِ، لم تعبه ثُجْلَة، ولم تُزْر به صُعْلَة، وسيم قَسِيم، فى عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفى أَشْفَارهِ وطَفٌ، وفى صْوته صَحَل، وفى عُنُقِهِ سَطَعٌ، أحورُ، أكحلُ، أزجُّ، أقرنُ، شديدُ سواد الشَعْر، إذا صمت علاه الوقارُ، وإن تكلم علاه البهاءُ، أجملُ الناس وأبهاهُم مِن بعيد، وأحسنُه وأحلاه من قريب، حُلْوُ المنطق، فَصْلٌ، لا نَزْر ولاَ هَذْر، كأنَّ منطقه خرزاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، ربعةٌ، لا تقحمُه عينٌ مِن قصر، ولا تشنؤُه مِن طول، غصنٌ بين غُصنين، فهو أنضرُ الثلاثة

منظراً، وأحسنُهم قَدْرَاً، له رُفقاء يحفُّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادرُوا إلى أمره، محفودٌ محشودٌ، لا عابسٌ ولا مُفْنِدٌ"، فقال أبو مَعْبَد: "واللهِ هذا صاحبُ قريش الذى ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممتُ أن أصحَبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً"، وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعُونه ولا يرون القائل:
جَزَى اللهُ ربُّ العَرْشِ خَيْر جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلاَّ خَيْمَتَىْ أُمَّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزلاَ بِالبِرِّ وَارْتَحَلاَ بِهِ ... وَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَا لَقُصَىٍّ مَا زَوَى الله عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فَعَال لاَ يُجَازَى وَسُودَدِ
لِيَهْن بَنِى كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤمِنينَ بِمَرْصَدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاءَ تَشْهَدِ
قالت أسماء بنت أبى بكر: ما دَرَيْنَا أين توجه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، فأنشد هذه الأبيات، والنَّاس يتَّبعونه ويسمعونَ صوته، ولا يرونه حتى خرج من أعلاها، قالت: فلما سَمِعْنَا

قولَه، عرفنا حيثُ توجه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن وجههُ إلى المدينة.
فصل
وبلغ الأنصارَ مخرجُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن مكَّةَ، وقصدُه المدينة. وكانوا يخرجونَ كُلَّ يوم إلى الحرَّة ينتظِرونه أول النهار، فإذا اشتد حرُّ الشمس، رجعُوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يومُ الاثنين ثانى عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنةً مِن النبوة، خرجُوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حَرُّ الشمس رجعوا، وصَعِدَ رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شأنه، فرأى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مُبيِّضِينَ، يزولُ بهم السرابُ، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قَيْلَةَ ؛ هذا صَاحِبُكم قد جاء، هذا جَدُّكُم الذى تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقَّوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسُمِعَتِ الرَّجَّةُ والتَّكْبِيرُ فى بنى عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحاً بقُدومه، وخرجوا للقائه، فتلقَّوْه وحيَّوْه بتحية النبوة. فأحدقوا به مطيفين حوله، والسَّكينة تغشاه، والوحى ينزِل عليه {فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، فسار حتى نزل بقُباء فى بنى عمرو بن عوف، فنزل على كُلْثُومِ بْنِ الهِدْمِ. وقيل: بل على سَعْدِ بن خَيْثَمَةَ، والأول أثبت، فأقام فى بنى عمرو بن عوف أربع عشرةَ ليلةً وأسَّس مسجِدَ قُباء، وهو أوَّلُ مسجد، أُسِّسَ بعد النبوة.

فلما كان يوم الجمعة رَكِبَ بأمر الله له، فأدركته الجمعةُ فى بنى سالم بن عوف، فجمَّع بهم فى المسجد الذى فى بطن الوادى.
ثم رَكِبَ، فأخذوا بِخِطَام راحلته، هَلُمَّ إلى العدد والعُدَّة والسلاح والمنعة، فقال: "خَلُّوْا سَبِيلَهَا، فَإنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فلم تزل ناقته سائرة به لا تمرُّ بدارٍ من دُور الأنصار إلا رغِبُوا إليه فى النزول عليهم، ويقول: "دَعُوهَا فإنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فسارت حتَّى وصلت إلى موضع مسجده اليومَ، وبركت، ولم ينزل عنها حتى نَهَضَتْ وسَارَتْ قليلاً، ثم التفتت، فرجعت، فبركت فى موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك فى بنى النجار أخوالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان من توفيق الله لها، فإنه أحبَّ أن ينزِل على أخواله، يُكرمهم بذلك، فجعل الناس يُكلِّمون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله، فأدخله بيتَه، فجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ" وجاء أسعدُ بن زرارة، فأخذ بزمام راحلته، وكانت عنده وأصبح كما قال أبو قيس صِرمة الأنصارى، وكان ابن عباس يختلِف إليه يتحفَّظُ منه هذه الأبيات:
ثَوَى فى قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... يُذَكَّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيباً مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فى أهْلِ المَوَاسِمِ نَفْسَهُ ... فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا وَاسْتَقَرَتْ بِهِ النَّوَى ... وأَصْبَحَ مَسْرُورَاً بِطَيْببَةَ رَاضِيَا

وَأصْبَحَ لاَ يَخْشَى ظُلاَمَةَ ظَالمٍ ... بَعِيدٍ وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ بَاغِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنا ... وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى والتآسِيَا
نُعَادِى الَّذِى عَادَى مِنَ النَّاس كُلِّهِمْ ... جَمِيعاً وَإِنْ كَانَ الحَبِيبَ المُصَافِيَا
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ ... وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَحَ هَادِيَا
قال ابنُ عباس: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فأُمِرَ بالهِجْرَةِ وأُنزلَ عَلَيْهِ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} [الإسراء: 80]".
قال قتادة: "أخرجه الله مِن مكَّة إلى المدينة مخْرَجَ صدق ونبىُّ الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سُلطاناً نصيرا، وأراه اللهُ عَزَّ وجَلَّ دار الهِجرة، وهو بمكَّة فَقَالَ: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ بِسَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ لابَتَيْنِ".
وذكر الحاكم فى "مستدركه" عن علىّ بن أبى طالب أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لجبريل: "مَنْ يُهَاجِرُ مَعِى ؟ قال: أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ"

قال البراءُ: "أَوَّلُ مَن قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أصحَابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بنُ عُمير وابنُ أُمِّ مكتومٍ، فجعلا يُقْرِئانِ النَّاسَ القرآنَ، ثم جاء عمارُ وبِلالُ وسعدٌ، ثم جاء عمرُ بنُ الخطَّابِ رضى الله عنه فى عشرين راكباً، ثُمَّ جاء رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيتُ النَّاسَ فَرِحُوا بشىءٍ كَفَرحِهِمْ بِهِ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ والصِّبْيَانَ والإِمَاءَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ الله قَدْ جَاءَ".
وقال أنس: "شهدتُه يومَ دخلَ المدينة فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أحسنَ ولا أضوأَ مِن يوم دخلَ المدينة علينا، وشهدتُه يَوْمَ ماتَ، فما رأيتُ يوماً قطُّ، كان أقبحَ ولا أظلمَ مِن يومِ مات".
فأقام فى منزل أبى أيوب حتى بنى حُجَرَه ومسجدَه، وبعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فى منزل أبى أيوب زيدَ بْنَ حارِثة وأبا رافع، وأعطاهما بَعِيَريْنِ وخمسمائة درهم إلى مكة فَقَدِمَا عليه بفاطمة وأُمِّ كلثوم ابنتيه، وسَوَدةَ بنتِ زمعة زوجتهِ، وأُسامةَ بنِ زيد، وأُمَّه أُم أيمن، وأما زينبُ بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يُمَكِّنْهَا زوجُها أبو العاص بن الربيع من الخروج، وخَرج عبدُ الله بن أبى بكر معهم بِعيال أبى بكر، ومنهم عائشة فنزلوا فى بيت حارثة بن النعمان.

فصل: فى بناء المسجد
قال الزهرى: "بَرَكَتْ ناقةُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِع مسجده وهو يومئذ يُصلِّى فيه رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبَداً لِسَهْلٍ وَسُهَيْل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا فى حَجْرِ أسعد بنِ زُرارة، فساوم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغلامَيْنِ بالمِرْبَدِ، لِيتخذَهُ مسجداً، فقالا: بل نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ، وكانَ جِدَارَاً لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ، وقِبلتهُ إِلى بَيْتِ المقدِسِ، وكانَ يُصلِّى فِيهِ ويُجَمِّعُ أسعدُ بن زرارة قبل مَقْدَمِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان فيهِ شَجَرَةُ غَرْقَدٍ وخِرَبٌ ونَخْلٌ وَقُبورٌ لِلمُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقبور فنُبِشَتْ، وبالخرب فَسُوِّيت وبالنَّخلِ والشَّجَرِ فقطعت وصُفَّت فى قِبلة المسجد، وجعلَ طولَه مما يلى القِبْلةَ إلى مؤخره مائةَ ذراع، والجانبين مثلَ ذلك أو دونَهُ، وجعلَ أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللَّبنِ، وجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبنى معهم، وَيَنْقُلُ اللَّبِنَ والحِجَارَةَ بنفسه ويقول:
اللهم لا عَيْشَ إلاَّ عَيْشُ الآخِرةْ ... فَاغْفِرْ للأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَةْ
وكان يقول:
هَذَا الحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَر ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرُ
وجعلوا يرتَجِزُونَ، وهم ينقلُونَ اللَّبِنَ، ويقول بعضهم فى رجزه:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرَّسُولُ يَعْمل ... لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُُ
وجعل قِبلته إلى بيتِ المقدس، وجعل له ثلاثةَ أبواب: باباً فى مؤخره، وباباً يقال له: باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل عمده الجذوع، وسَقَفَه بالجريد، وقيل له: ألا تُسَقِّفه، فقال: "لا، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى" وبنى إلى جنبه بيوت أزواجه باللَّبِن، وسقَّفها بالجريدِ والجذوع، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة فى البيت الذى بناهُ لها شرقى المسجد قبليه، وهو مكان حُجرته اليوم، وجعل لسَوَدة بنتِ زمعة بيتاً آخر.
فصل
ثمَّ آخى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجِرينَ والأنصار فى دار أنسِ بن مالك، وكانُوا تسعين رجلاً، نِصفهم مِن المهاجرينَ، ونِصفُهم مِن الأنصارِ، آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعدَ الموتِ دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَأُوْلُوْا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللهِ} [الأنفال: 75] رد التوارث إلى الرَّحِم دون عقد الأُخوة.

وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضِهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه والثابت الأول، والمهاجِرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابةِ النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بَيْنَ المهاجرينَ، كان أحقَّ الناسِ بأُخوته أحبُّ الخلق إليه ورفيقُه فى الهِجرةِ، وأنيسُه فِى الغارِ، وأفضلُ الصحابة وأكرمُهم عليهِ أبو بكر الصِّدِّيق، وقد قال: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً لاتخَّذْتُ أَبَا بَكْر خَلِيلاً، وَلَكِنْ أُخْوَّةُ الإسْلاَمِ أَفْضَلُ" وفى لفظ: "وَلَكِنْ أَخِى وَصَاحِبِى" وهذه الأُخوة فى الإسلام وإن كانت عامة، كما قال: "وَدِدْتُ أن قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابى، وإِخْوَانِى قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِى يُؤْمِنونَ بى وَلَمْ يَرَوْنِى " فَلِلصِّدِّيق من هذه الأُخوة أعلى مراتبها، كما له من الصُّحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأُخوة، ومزيةُ الصحبة، ولأتباعه بعدهم الأخوة دون الصحبة.

فصل
ووادع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن بالمدينة مِن اليهود، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وبادر حَبْرُهم وعالمُهم عبدُ اللهِ بنُ سلام، فدخل فى الإسلام، وأبى عامَّتُهم إلا الكفرَ.
وكانوا ثلاثَ قبائل: بنو قَيْنُقَاع، وبنو النَّضير، وبنو قُرَيْظَة، وحاربه الثلاثة، فمنَّ على بنى قَيْنُقَاع، وأجلى بنى النَّضِير، وقتل بنى فُريظة، وسبى ذُرِّيَّتهم، ونزلت "سورة الحشر" فى بَنى النَّضيرِ، و"سورة الأحزاب" فى بنى قُريظة.

فصل: [في تحويل القبلة]
وكان يُصلِّى إلى قِبلة بيت المقدس، ويُحِبُّ أن يُصرَفَ إلى الكعبة، وقال لجبريل: "وَدِدْتُ أَنْ يَصْرِفَ الله وَجْهِى عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ" فقال: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَادْعُ رَبَّكَ، واسْأَلْهُ" فَجَعَلَ يُقَلِّبُ وجهه فى السماء يرجُو ذَلِكَ حتى أنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 144]، وذلك بعد ستةَ عشر شهراً مِن مَقْدَمِهِ المدينةَ قبل وقعةِ بدر بشهرين.
قال محمد بن سعد: أخبرنا هاشمُ بنُ القاسم، قال: أنبأنا أبو معشر عن محمد بْنِ كعبٍ القُرَظىِّ قال: "ما خَالَفَ نَبِىٌ نَبِيا قطُّ فى قِبْلَةٍ، وَلا فى سُنَّةٍ إلا أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استَقْبلَ بَيْتَ المَقْدِسِ حِينَ قَدِمَ المَدِينةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرَاً، ثم قَرَأَ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13]".
وكان للهِ فى جعل القِبلة إلى بيت المقدس، ثم تحويلِها إلى الكعبة حِكَمٌ

عظيمة، ومِحْنَةٌ للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.
فأما المسلمون، فقالوا: سَمِعْنَا وأطعنا وقالُوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرةً عليهم.
وأما المشرِكُونَ، فقالُوا: كما رجع إلى قبلتنا يُوشِكُ أن يَرْجعَ إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحقُّ.
وأما اليهودُ، فقالوا: خالف قِبْلة الأنبياء قبله، ولو كان نبياً، لكان يُصلِّى إلى قِبْلة الأنبياء.
وأما المنافقون، فقالوا: ما يدرى محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقاً، فقد تركها، وإن كانت الثانية هى الحق، فقد كان على باطل.
وكثرت أقاويلُ السفهاء مِن الناس، وكانت كما قال الله تعالى: {وَإنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: 143]، وكانت مِحنة من الله امتحن بها عبادَهُ، ليرى مَن يتَّبعُ الرسول منهم ممن يَنْقَلِبُ على عَقِبَيه.
ولما كان أمرُ القِبلة وشأنُها عظيماً، وَطَّأَ سبحانه قبلها أمرَ النسخ وقُدرته عليه، وأنَّه يأتى بخيرٍ مِن المنسوخ أو مثلِه، ثم عقَّب ذلك بالتوبيخ لمن تعنَّت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يَنْقَدْ له، ثم ذكر بعده اختلافَ اليهود والنصارى، وشهادةَ بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شىء، وحذَّر عباده المؤمنين من موافقتهم، واتباعِ أهوائهم، ثم ذكر كُفرهم وشِركَهم به، وقولهم: إن له ولداً، سبحانه وتعالى عما يقولون عُلواً، ثم أخبر أن له المشرِقَ والمغرب، وأينما يُوَلِّى عِبَادُه وجوهَهُم، فثمَّ وجهُه، وهو الواسِع العليم، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يُوجِّهُ العبدُ، فثمَّ وجهُ الله.
ثم أخبرَ أنه لا يَسألُ رسولَه عن أصحاب الجحيم الذين لا يُتَابِعونه

ولا يُصدقونه، ثم أعلمه أن أهل الكِتاب من اليهود والنصارى لن يَرْضَوْا عنه حتى يَتَّبعَ ملتهم، وأنه إن فعل، وقد أعاذه اللهُ مِن ذلك، فما له مِن الله مِن ولى ولا نصير، ثم ذَكَّرَ أهل الكتاب بنعمته عليهم، وخوَّفَهُمْ مِن بأسه يومَ القيامة، ثم ذكر خَلِيلَه بانى بيته الحرام، وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماماً للناس، يأتَمُّ به أهلُ الأرض، ثم ذكر بيتَه الحرام، وبناءَ خليله له، وفى ضمن هذا أن بانى البيت كما هو إمامٌ للناس، فكذلك البيتُ الذى بناه إمام لهم، ثم أخبر أنه لا يَرْغَبُ عن مِلَّة هذا الإمام إلا أسفهُ الناسِ، ثم أمر عبادَه أن يأتمُّوا برسوله الخاتم، ويُؤمنوا بما أُنْزِلَ إليه وإلى إبراهيم، وإلى سائر النبيين، ثم ردَّ على مَن قال: إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هوداً أو نصارى، وجعل هذا كلَّهُ توطئة ومُقدِّمة بين يدى تحويل القِبْلة، ومع هذا كله، فقد كَبُر ذَلِكَ على الناسِ إلا مَنْ هدى الله مِنهم، وأكَّد سُبحانه هذا الأمر مَّرةً بعد مرَّةٍ، بعد ثالثة، وأمر به رسوله حيثما كان، ومِن حيث خرج، وأخبر أن الذى يَهدى من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذى هداهم إلى هذه القِبْلة، وأنها هى القِبْلة التى تليق بهم، وهم أهلُها، لأنها أوسط القِبَل وأفضلُها، وهم أوسطُ الأمم وخيارُهم، فاختار أفضلَ القِبل لأفضل الأُمم، كما اختار لهم أفضلَ الرسل، وأفضلَ الكتب، وأخرجهم فى خير القرون، وخصَّهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم فى الجنة خيرَ المنازل، وموقفهم فى القيامة خيرَ المواقف، فهم على تلٍّ عالٍ، والناسُ تحتهم، فسبحان مَن يختصُّ برحمته مَن يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون لِلناس عليهم حُجَّةٌ، ولكِنِ الظالِمون الباغون يحتجُّونَ عليهم بتلك الحجج التى ذُكِرَتْ، ولا يُعارِضُ

الملحدون الرسلَ إلا بها وبأمثالها مِن الحجج الداحضة، وكُلُّ مَن قدَّم على أقوال الرسول سِواها، فحُجَّتُه مِن جنس حُجج هؤلاء.
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لِيُتِمَّ نعمتَه عليهم، ولِيهديَهم، ثم ذَكَّرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم، وإنزال كتابه عليهم، ليزكيهم ويُعلِّمَهم الكتابَ والحِكمةَ، ويُعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون، ثم أمرهم بذكره وبشكره، إذ بهذين الأمرين يستوجِبُونَ إِتمامَ نعمه، والمزيدَ من كرامته، ويستجلبون ذكره لهم، ومحبته لهم، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به، وهو الصبُر والصلاة، وأخبرهم أنه مع الصابرين.
فصل
وأتمَّ نعمتَه عليهم مع القِبْلة بأن شرع لهم الأذانَ فى اليوم والليلة خمسَ مرات، وزادهم فى الظهر والعصر والعشاء ركعتين أُخريين بعد أن كانت ثنائية، فكل هذا كان بعد مَقْدَمِه المدينة.
فصل
فلما استقرَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، وأيَّده الله بنصره، بعباده المؤمنين الأنصار، وألَّفَّ بين قلوبهم بعد العداوة والإحَنِ التى كانت بينهم،

فمنعته أنصارُ الله وكتيبةُ الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلُوا نفوسهم دونه وقدَّموا محبتَه على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم مِن أنفسهم، رمتهُمُ العربُ واليهودُ عن قوس واحدة، وشمَّروا لهم عن سَاقِ العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم مِن كُلِّ جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبرِ والعفو والصفح حتى قويت الشوكةُ، واشتد الجناحُ، فأذن لهم حينئذ فى القتال، ولم يفرِضه عليهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لقَدِيرٌ} [الحج: 39].
وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة، والسُّورة مكية، وهذا غلط لوجوه:
أحدها: أن الله لم يأذن بمكة لهم فى القتال، ولا كان لهم شَوْكة يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثانى : أن سِياقَ الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} [الحج: 40] وَهؤُلاء هم المهاجرون.
الثالث : قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ} [الحج: 19] نَزَلَتْ فى الَّذِينَ تَبارَزُوا يومَ بدر من الفريقين.
الرابع: أنه قد خاطبهم فى آخرها بقوله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ، والخطابُ بذلك كله مدنى، فأما الخطاب: {يَا أيُّهَا النَّاسُ} فمشترك.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذى يَعُمُّ الجهادَ باليد وغيره، ولا

ريبَ أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأمَّا جهادُ الحُجَّة، فأمر به فى مكة بقوله: { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ} [الفرقان: 52] أى: بالقرآن
{جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان: 52]، فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغُ، وجهادُ الحُجَّة، وأما الجهادُ المأمور به فى "سورة الحج" فيدخل فيه الجهادُ بالسيف.
السادس: أن الحاكم روى فى "مستدركه" من حديث الأعمش، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبير، عن ابنِ عباس قال: "لما خَرَجَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مكَّة قال أبو بكر: أخرجُوا نبيَّهم، إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُونَ لَيهْلِكُنَّ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] وهى أول آية نزلت فى القتال". وإسناده على شرط "الصحيحين" وسياق السورة يدل على أن فيها المكىَّ والمدنىَّ، فإن قصة إلقاء الشيطان فى أُمنية الرسول مكية، والله أعلم.

فصل: [الترغيب في الجهاد وما ورد من الأحاديث في فضله]
ثم فرضَ عليهم القِتَالَ بعدَ ذلك لمن قاتلهم دون مَن لم يُقاتِلْهم فقال: {وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190].
ثم فرض عليهم قتالَ المشركِينَ كافَّة، وكان محرَّماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين إما فرضَ عَيْنٍ على أحد القولين، أو فرضَ كِفاية على المشهور.

والتحقيق أن جنسَ الجهادِ فرضُ عَيْن إما بالقلب، وإما باللِّسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كُلِّ مسلم أن يُجاهد بنوع مِن هذه الأنواع.
أما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال، ففى وجوبهِ قولانِ، والصحيح وجوبه لأن الأمرَ بالجهاد به وبالنفس فى القرآن سواء، كما قال تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ، ذَلِكُم خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].
وعلَّق النجاةَ من النار به، ومغفرةَ الذنب، ودخولَ الجنة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُم عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وََتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [الصف: 10-12].
وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك، أعطاهم ما يُحبون مِن النصر والفتحِ القريب فقال: {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [ الصف: 13] أى: ولكم خصلة أخرى تُحِبُّونها فى الجهَادِ، وهى {نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].
وأخبر سبحانه أنه {اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111] وأعاضهم عليها الجنةَ، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضلَ كتبه المنزَّلة مِن السماء، وهى التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحدَ أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكد ذلك بأن أمَرَهُم بأن يستبشِروا ببيعهم الذى عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوزُ العظيمُ.
فليتأملِ العاقِد مع ربه عقد هذا التبايعِ ما أعظمَ خطَرَه وأجلَّه، فإن الله عَزَّ وجَلَّ هو المشترى، والثمن جنَّاتُ النعيم، والفوزُ برضاه، والتمتع برؤيته هناك، والذى جرى على يده هذا العقدُ أشرفُ رسله وأكرمُهم

عليه مِن الملائكة والبَشر، وإن سِلْعَةً هذا شأْنُها لقد هُيِّئَتْ لأَمرٍ عَظِيمٍ وخَطْبٍ جَسيمٍ:
قَدْ هَيَّؤوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ ... فَارْبأ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرعَى مَعَ الهَمَلِ
مَهْرُ المحبةِ والجَنَّةِ بذلُ النفس والمال لمالكهما الذى اشتراهما من المؤمنين، فما للِجبان المُعرِضِ المُفْلِس وسَوْمِ هذه السلعة، باللهِ ما هُزِلَتْ فيستامها المفلسون، ولا كَسَدَت، فيبيعَهَا بالنسيئة المُعْسِرُونَ، لقد أقيمت للعرض فى سوق مَن يُرِيد، فلم يرضَ رَبُّهَا لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبُّونَ ينتظرون أيُّهُم يصلُح أن يكون نفسُه الثمن، فدارت السِّلعة بينهم، ووقعت فى يد {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
لما كَثُرَ المدَّعون للمحبة، طُولِبُوا بإقامة البيِّنة على صحة الدعوى، فلو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعى الخَلِىُّ حِرْفَةَ الشَّجِىِّ، فتنوع المدعون فى الشهودِ، فقيل: لا تثبُت هذه الدعوى إلا بِبينَّةٍ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31]، فتأخر الخلقُ كُلُّهم، وثبت أتباعُ الرسول فى أفعالهِ وأقوالهِ وهديه وأخلاقِه، فطُولِبُوا بعدالة البَيِّنة، وقيل: لا تُقَبلُ العدالةُ إلا بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} [المائدة: 54]، فتأخر أكثرُ المدعين للمحبة، وقام المجاهِدونَ، فقيل لهم: إن نفوسُ المحبِّين وأموالهم ليست لهم، فسلَّموا ما وقع عليه العقد، فإن الله اشترى مِن المؤمنين أنفسَهم وأموالَهُم بأن لهم الجنَّةَ، وعقدُ التبايع يُوجِبُ التسليمُ مِن الجانبين، فلما رأى التجارُ

عظمةَ المشترى وقَدْرَ الثمن، وجَلالةَ قَدْرِ مَن جرى عقدُ التبايع على يديه، ومِقدارَ الكتاب الذى أُثْبِتَ فيه هذا العقدُ، عرفُوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لِغيرها من السِّلع، فرأوا مِن الخُسران البَيِّن والغَبْنِ الفاحش أن يبيعوها بثمن بَخْسٍ دَرَاهِمَ معدودة، تذهب لذَّتُهَا وشهوتُهَا، وتبقى تَبِعَتُهَا وحسرَتُها، فإن فاعل ذلك معدود فى جملة السفهاء، فعقدوا مع المشترى بيعةَ الرِّضوان رضىً واختياراً مِن غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نَقِيلُكَ ولا نَسْتَقِيلُكَ، فلما تمَّ العقدُ، وسلَّموا المبيعَ، قيل لهم: قد صارت أنفُسكم وأموالُكم لنا، والآن فقد رددناها عليكم أوفرَ ما كانت وأضعافَ أموالكم معها {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، لم نبتع منكم نفوسَكم وأموالكم طلباً للربح عليكم، بل لِيظهر أثرُ الجود والكرم فى قبول المعيب والإعطاء عليه أجلَّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمَّنِ. تأمل قصةَ جابر بن عبد الله "وقد اشترى منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعيرَه، ثمَّ وفَّاهُ الثَمَنَ وزادَهُ، ورَدَّ عليه البعير" وكان أبوه قد قُتِلَ مع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وقعةِ أُحُد، فذكَّره بهذا الفعلِ حالَ أبيه مع الله، وأخبره "أنَّ الله أحياه، وكلَّمهُ كِفَاحاً وقَالَ: يَا عَبْدِى تَمَنَّ عَلَىَّ"، فسبحان مَنْ عَظُمَ جودُه وكرمُه أن يُحيط به علمُ الخلائق، فقد أعطى السلعةَ، وأعطى الثمنَ، ووفَّقَ لتكميلِ العقد، وقبل المبيعَ على عيبه، وأعاض عليه أجلَّ الأثمانَ، واشترى عبدهَ من نفسه بماله،

وجمع له بين الثَّمَنِ والمُثَمَّنِ، وأثنى عليه، ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذى وفَّقه لهُ، وشاءه منه.
فَحيَّهَلاَ إِنْ كُنْتَ ذَا هِمَّةٍ فَقَدْ ... حَدَا بِكَ حَادِى الشَّوْقِ فَاطْوِ المَرَاحِلاَ
وقل لمنادي جبهم ورضاهم ... إِذَا مَا دَعَا لبَّيْكَ أَلْفَاً كَوَامِلاَ
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نَظَرْتَ إِلىَ الأَطْلاَلِ عُدْنَ حَوَائِلاَ
ولا تنظر بالسير رفقة قاعد ... وَدَعْهُ فإن الشَّوْقَ يَكْفِيكَ حَامِلاَ
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على ... طَرِيقَ الهُدَى وَالحُبِّ تُصْبِحُ وَاصِلاَ
وأحي بذكراهم شراك إذا دنت ... رِكَابُكَ فَالذِّكْرَى تُعِيدُك عَامِلاَ
وَإِمَّا تَخَافَنَّ الكَلاَلَ فَقُلْ لَهَا ... أَمَامَكِ وِرْدُ الوَصْلَ فَابْغِى المَنَاهِلاَ
وَخُذْ قَبَسَاً مِنْ نُورِهمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ ... فَنُورُهُم يَهْدِيكَ لَيْسَ المَشَاعِلاَ
وَحَيِّ عَلَى وَادِى الأَرَاكِ فَقِلْ بِهِ ... عَسَاكَ تَرَاهُم ثَمَّ إِنْ كُنْتَ قَائِلاَ
وَإِلا فَفِى نَعْمَانَ عِنْدِى مُعَرِّفُ الـ ... ـأحِبَّةِ فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلاَ
وَإِلا فَفى جَمْعٍِ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ ... تَفُتْ فَمِنىً يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلاَ
وَحَيِّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّها ... مَنَازِلُكَ الأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلاَ
وَلكِن سَبَاكَ الكَاشِحُونَ لأَجْلِ ذا ... وَقَفْتَ عَلَى الأَطْلاَلِ تَبْكِى المَنَازِلاَ
وَحيِّ عَلَى يَوْمِ المَزِيدِ بِجَنَّةِ الـ ... ـخُلُودِ فَجُدْ بِالنَّفْسِ إِنْ كُنْتَ بَاذِلاَ
فَدَعْهَا رُسُوماً دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا ... مَقِيلٌ وَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلاَ
رُسُوماً عَفَتْ يَنْتَابُهَا الخَلْقُ كَمْ بِهَا ... قَتِيلٌ وَكَمْ فِيهَا لِذَا الخَلْقِ قَاتِلاَ
وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى المَنْهَجِ الَّذِى ... عَلَيْهِ سَرَى وَفْدُ الأَحِبَّةِ آهِلاَ
وَقُلْ سَاعِدِى يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً ... فَعِنْدَ اللِّقَا ذَا الكَدُّ يُصبْحُ زَائِلا
فَمَا هِىَ إِلا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِى ... وَيُصْبِحُ ذُو الأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلا
لقد حرَّك الداعى إلى الله، وإلى دار السلام النفوسَ الأبيَّة، والهِممَ العالية،

وأسمع منادى الإيمان مَن كانت له أُذُنٌ واعية، وأسمع الله مَن كان حياً، فهزَّه السماعُ إلى منازل الأبرار، وحدا به فى طريق سيره، فما حطَّت به رِحالُه إلا بدار القَرَارِ فَقَالَ: "انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِى سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِى، وتَصْدِيقٌ بِرُسُلى أَن أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ منْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجنَّةَ، وَلوْلاَ أَنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَودِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فى سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَل".
وقال: "مَثَلُ المُجَاهِدِ فى سَبِيلِ الله كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ القَانِتِ بآيَاتِ اللهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَة حَتَّى يَرْجعَ المُجَاهِدُ فى سَبيل الله، وتوكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِماً مَعَ أَجْرٍ أَو غَنِيمةٍ".
وقال: "غَدْوَةٌ فى سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَافيها".

وقال فيما يَروى عن ربِّه تبارك وتعالى: "أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِى خَرَجَ مُجَاهِداً فى سَبِيلى ابْتِغاءَ مَرْضَاتى، ضَمِنْتُ لهُ أَنْ أُرْجعه إِنْ أَرْجَعْتُهُ بِمَا أصابَ مِنْ أَجْرٍ أو غَنِيمَةٍ، وَإِنْ قَبَضْتُهُ أَنْ أَغْفِرَ له وَأَرْحَمَهُ وَأُدْخِلَهُ الجَنَّةَ".
وقال: "جَاهِدُوا فى سَبِيلِ اللهِ، فإنَّ الجِهَادَ فى سَبِيلِ الله بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُنْجِى اللهُ به مِنَ الهمِّ والغَمِّ".
وقال: "أَنَا زَعيمٌ والزَّعيمُ الحَميلُ لِمَنْ آمَنَ بى، وأَسْلَمَ وهَاجَرَ بَبيْتٍ فى رَبَضِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ فى وَسَطِ الجَنَّةِ، وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ فى سَبِيلِ اللهِ بِبَيْتٍ فى رَبَضِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فى وَسَطِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فى أَعَلَى غُرَفِ الجَنَّةِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَم يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَباً، ولا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَباً يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يموت".

وقال: "مَنْ قَاتَلَ فى سَبيلِ الله من رَجُل مُسْلِمٍ فُواقَ نَاقةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة".
وقالَ: "إِنَّ فى الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجةٍ أعَدَّهَا اللهُ للمُجاهِدِينَ فى سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَإذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنهَارُ الجَنَّةِ".
وقال لأبى سعيد: "مَنْ رَضىَ باللهِ رباً، وبالإسْلامِ دِيناً، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة"، فعجب لها أبُو سعيدٍ، فقال: أَعِدْهَا علىَّ يا رسُولَ اللهِ، فَفَعَل، ثم قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بهَا العَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فى الجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ"، قال: وما هى يا رسول اللهِ؟ قال:
"الجِهَادُ فى سَبِيلِ اللهِ".
وقال: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيِلِ الله، دَعَاهُ خَزَنَةُ الجنَّةِ كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ، أَىْ فُلُ هَلُمَّ، فمنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمنْ كَانَ مِنْ أهل الجِهَادِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الجِهَاد، ومَنْ كانَ مِنْ أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِىَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعىَ

مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ"، فقال أبو بكر: بأبى أَنْتَ وأُمِّى يا رسولَ اللهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِىَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ كُلِّهَا ؟ قال: "نَعَمْ وأرجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُم".
وقالَ: "مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فى سَبيِلِ الله، فَبِسَبْعمائةٍ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَعَادَ مَرِيضَاً أَوْ أَمَاطَ الأذَى عَنْ طَرِيقٍ، فالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا، ومَنِ ابْتَلاَه الله فى جَسَدِهِ فَهُوَ لَهُ حِطَّةُ".
وذكر ابنُ ماجه عنه: "مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فى سَبِيلِ اللهِ، وَأَقَامَ فى بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فى سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْفَقَ فى وَجْهِهِ ذَلِكَ، فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ" ثم تلا هذه الآية: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261].
وقال: "مَنْ أَعَانَ مُجَاهِداً فى سَبِيلِ اللهِ أَوْ غَارِمَاً فى غُرْمِهِ أَوْ مُكَاتَباً فى رَقَبتِهِ أَظَلَّهُ اللهُ فى ظِلَّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلا ظِلُّهُ".

وقال: "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فى سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار".
وقالَ: "لاَ يَجْتَمِعُ شُحٌ وَإِيمَانٌ فى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهنَّمَ فِى وَجْهِ عَبْدٍ"، وفى لَفْظِ: "فى قَلْبِ عَبْدٍ"، وفى لفظ: "فى جَوْفِ امْرِئ"، وفى لفظ: "فى مَنْخَرَىْ مُسْلِمٍ"
وذكر الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى: "مَنِ اغْبَرَّت قَدَمَاهُ فى سَبِيلِ اللهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ".
وذكر عنه أيضاً أنَّهُ قال: "لاَ يَجْمَعُ اللهُ فى جَوْفِ رَجُلٍ غُبَارَاً فى سَبِيلِ الله ودخان جَهَنَّمَ، وَمَنِ اغْبَّرتْ قَدَمَاهُ فى سَبِيلِ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ سَائِر جَسَدِهِ

عَلى النَّارِ، ومَنْ صَامَ يَوْمَاً فى سَبِيلِ اللهِ، بَاعَدَ اللهُ عَنْهُ النَّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ لِلرَّاكِبِ المُسْتَعْجِلِ، وَمَنْ جُرِحَ جِرَاحَةً فى سَبِيلِ الله، خُتِمَ لَهُ بِخَاتَمِ الشُّهَدَاءِ، لَهُ نُورٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لَوْنُهَا لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ، وَرِيحُهَا رِيحُ المِسْك يَعْرِفُه بِهَا الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ، ويَقُولُونَ: فُلانٌ عَلَيْهِ طَابعُ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ قاتَلَ فى سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ".
وذكر ابن ماجه عنه: "مَنْ رَاحَ رَوْحَةً فى سَبِيلِ اللهِ، كَانَ لَهُ بِمِثُلِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الغُبَارِ مِسْكَاً يَوْمَ القِيَامَةِ".
وذكر أحمد رحمه الله عنه: "مَا خَالَطَ قَلْبَ امْرِىءٍ رَهَجٌ فى سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ".
وقال: "رِبَاطُ يَوْمٍ فى سَبِيل الله خَيْرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا عَلَيْهَا".

وقال: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ، جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كان يَعْمَلُهُ، وَأُجْرىَ عَلَيْهِ رِزْقُه وَأَمِنَ الفَتَّان".
وقالََ: "كُلُّ مَيَّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلا الَّذِى مَاتَ مُرَابِطَاً في سَبِيل الله فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ويُؤمَّنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ".
وقال: "رِبَاطُ يَوْمٍ فى سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ".
وذكر ابنُ ماجه عنه: "مَنْ رَابَطَ ليْلَةً فى سَبِيلِ الله، كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا".
وقال: "مُقَامُ أَحَدِكُم فى سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ فى أَهْلِهِ

سِتَّينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَتَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، جَاهِدُوا فى سَبِيلِ اللهِ، مَنْ قَاتَلَ فى سَبِيلِ اللهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ".
وذكر أحمد عنه: "مَنْ رَابَطَ فى شَىءٍ مِنْ سَوَاحِلِ المُسْلِمِينَ ثَلاَثَةَ أَيَّام، أَجْزَأَتْ عَنْهُ رِبَاطَ سَنَةٍ".
وذُكِرَ عنه أيضاً: "حَرَسُ لَيْلَةٍ فى سَبِيلِ الله أفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا، ويُصَامُ نَهَارُهَا".
وقال: "حَرُمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَحَرُمتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فى سَبِيلِ الله".
وذكر أحمد عنه: "مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ المُسْلِمِينَ فى سَبِيلِ اللهِ مُتَطَوَّعَاً لا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ، لَمْ يَرَ النَّارَ بعَيْنَيْهِ إِلاَّ تَحِلَّةَ القَسَم، فَإنَّ الله يَقُولُ: {وَإنْ

مِنْكُمْ إلا وارِدُهَا } [مريم: 71]".
وقالَ لِرجلٍ حَرَسَ المسلمين ليلةً فى سفرهم مِنْ أوَّلِها إلى الصباح عَلَى ظَهْرِ فرسه لم يَنِزلْ إلا لصلاةٍ أو قَضَاءِ حَاجَةٍ: "قَدْ أَوْجَبْتَ فَلاَ عَلَيْكَ ألا تَعْمَلَ بَعْدَهَا".
وقال: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فى سَبِيلِ الله، فَلَهُ دَرَجَةٌ فى الجَنَّةِ".
وقَالَ: "مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فى سَبِيلِ اللهِ، فَهُوَ عِدْلُ مُحَرَّرٍ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فى سَبِيلِ الله، كَانَتْ لَهُ نُورَاً يَوْمَ القِيَامَةِ".
وعند النسائى تفسير الدرجة بمائة عام.
وقَالَ: "إِنَّ اللهً يُدْخِلُ بالسَّهْمِ الوَاحِدِ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فى صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، والمُمِدَّ بِهِ، والرَّامِىَ بِهِ، وارْمُوا وَارْكَبُوا، وأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلىَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وكُلُّ شَىءٍ يَلْهُو به الرجلُ فباطلٌ إلا رَمْيَهُ بقوسه، أو تَأْدِيبَه فرسَه، وملاعبتَه امرأته، ومَنْ علَّمهُ الله الرَّمىَ، فتركه رغبةً

عنه، فنِعْمَةٌ كفرها" رواه أحمد وأهل السنن.
وعند ابن ماجه: "مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْى ثم تَركَهُ، فَقَدْ عَصَانِى".
وذكر أحمد عنه أنّ رجلاً قال له: أوصِنى فَقَالَ: "أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، فإنَّهُ رَأْسُ كُلَّ شَىءٍ، وعَلَيْكَ بِالجِهَادِ، فَإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الإسْلاَم، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ الله وَتِلاَوَةِ القُرْآنِ، فَإِنَّهُ رُوحُكَ فى السَّمَاءِ، وَذِكْرٌ لَكَ فى الأرْض".
وقال: "ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسْلاَم الجِهَادُ".
وقال: "ثَلاَثَةٌ حَقٌ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فى سَبِيلِ الله، وَالمُكَاتَبُ

الَّذِى يريدُ الأَدَاءَ، والنَّاكِحُ الَّذِى يُرِيدُ العَفَافَ".
وقال: "مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ".
وذكر أبو داود عنه: "مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيَاً، أَوْ يُخَلِّفْ غَازِيَاً فى أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ".
وَقَالَ: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَار والدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بالعِينَةِ، واتَّبَعُوا أذْنَابَ البَقَرِ، وَترَكُوا الجِهَادَ فى سَبِيلِ الله، أنْزَلَ الله بِهِمْ بَلاَءً، فلم يَرْفَعْهُ

عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهُم".
وذكر ابن ماجه عنه: "مَنْ لَقِىَ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فى سَبِيلِ اللهِ، لَقِىَ اللهَ، وَفِيهِ ثُلْمَة".
وقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وفسر أبو أيوب الأنصارى الإلقاء باليد إلى التهلُكةِ بِتَركِ الجِهَادِ.

وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَ أبْوَابَ الجنّةِ تَحْتَ ظِلال السيُّوفِ".
وصحَّ عنه: " مَنْ قَاتَل لِتكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِىَ العُلْيَا، فَهُوَ فى سبيل اللهِ ".
وصحَّ عنه: "إنَّ النَّارَ أَوَّلُ ما تُسَعَّرُ بالْعَالِمِ والمَنْفِقِ وَالمقْتُولِ فى الجِهَادِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَال ".
وصَحَّ عنه: "أَنَّ مَنْ جَاهَدَ يَبْتَغِى عَرَضَ الدُّنيَا، فَلاَ أَجْرَ لَهُ".
وصحَّ عنه أنه قال لعبدِ الله بن عمرو: "إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرَاً مُحْتَسِبَاً، بَعَثَكَ اللهُ صَابِرَاً مُحْتَسِبَاً، وإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِياً مُكَاثِرَاً، بَعَثَكَ اللهُ مُرَائِيَّا مُكَاثِراً، يا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرو عَلَى أىَّ وَجْهٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ، بَعَثَكَ اللهُ

عَلَى تِلْكَ الحَالِ".
فصل
وَكَانَ يَسْتَحِبُّ القِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا يَسْتَحِبُّ الخُرُوجَ لِلسَّفَرِ أَوَّلَه، فَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ

فصل: [ما ورد في فضل الشهيد وكيفية تقسيم الغنائم]
قَال: "والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فى سَبِيلِ اللهِ والله أَعْلَمُ

بِمَنْ يُكْلَمُ فِى سَبِيلِةِ إِلا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، والَّريحُ رِيحُ الْمِسْكِ".
وفى الترمذى عنه: "لَيْس شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ أَوْ أَثَرَيْنِ، قَطْرةِ دَمْعَةٍ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فى سَبِيل اللهِ، وَأَمَّا الأَثرانِ، فَأَثَرٌ فى سَبيلِ الله، وَأَثَرٌ فى فَرِيضَةٍ مِنْ فَرائِضِ اللهِ".
وصحَّ عنه أنه قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ، لَهُ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لاَ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، إِلا الشَّهيدَ لما يَرىَ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنيَا، فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخُرى".
وفى لفظ: "فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرامَة".
وقالَ لأُمِّ حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ، وَقَدْ قُتِل ابْنُهَا مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَألَتْهُ أَيْنَ هُوَ ؟ قال: "إِنَّهُ فى الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى".
وقال: "إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فى جَوْفِ طَيْرٍ خُضْر، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثمَّ تأْوى إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ، فاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطَّلاَعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئَاً ؟ فَقَالُوا: أَىَّ شَىْءٍ نَشْتَهِى، وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعلَ بِهِمْ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا

رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْركُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَردَّ أَرْواحَنَا فِى أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِى سَبِيلكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا".
وقال: "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله خِصَالاً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، ويُرَى مَقْعَده مِنَ الجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حِلْيَةَ الإِيْمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الحُورِ العيْنِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَيُزوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعينِ، وَيُشفعَ فى سَبْعِينَ إِنْسَاناً مِنْ أَقَارِبهِ" ذكره أحمد وصححه الترمذى.
وقال لجابر: "أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ الله لأَبِيكَ" ؟ قال: بَلَى، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدَاً إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحَاً، فَقَالَ: يَا عَبْدِى تَمَنَّ عَلَىَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَارَبِّ تُحيِيِنى فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قال: إِنَّهُ سَبَقَ مِنَّى "أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجعُونَ" قالَ: يَارَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى هذه الآية: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
وقَالَ: "لَمَّا أُصِيبَ إِخُوانُكُمْ بأُحُدٍ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فى أَجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وَتأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتأْوِى إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ

ذَهَبٍ فى ظِلً الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ، قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ لَنَا لِئلا يَزْهَدُوا فى الجِهَادِ، وَلاَ يَنْكُلوا عَن الْحَرْب، فَقَالَ اللهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُم، فَأَنزل اللهُ على رسولِه هذه الآيات: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169].
وفى "المسند" مرفوعاً: "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فى قُبَّةٍ خَضْرَاء، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقهُمْ مِنَ الجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيَّة".
وقال: "لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ، كَأَنَّهُمَا طَيْرَانِ أَضَلَّتَا فَصيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا".
وفى "المستدرك" والنسائى مرفوعاً: "لأَنْ أُقْتَلَ فى سَبيلِ الله أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى أَهْلُ المَدَرِ وَالْوَبَر".
وفيهما: "ما يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ".

وفى "السنن": "يَشْفَعُ الشَّهِيدُ فى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه".
وفى "المسند": "أَفْضلُ الشُّهَدَاء الَّذِينَ إِنْ يَلْقَوْا فى الصَّفِ لا يَلْفِتُونَ وجوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ فى الْغُرَفِ العُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فى الدُّنْيَا، فَلا حِسَابَ عَلَيْه".
وفيهِ: "الشُّهَدَاءُ أَرْبَعةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ لَقِىَ العَدُوَّ، فصدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذلِكَ الَّذِى يَرْفَعُ إِلَيْهِ النَّاسُ أَعْنَاقَهُمْ ورفع رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ ورَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ، لَقِىَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا يُضْرَبُ جِلدُهُ بِشَوْكِ الطَّلْحِ أَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ، فَقَتَلَهُ، هُوَ فى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَجُلٌ مُؤمِنٌ جَيَّدُ الإِيْمَانِ، خَلَطَ عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيَّئاً لَقِىَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَاكَ فى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وََرَجُلٌ مُؤمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ إِسْرافاً كَثِيراً لَقِىَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذلِكَ فِى الدَّرَجَةِ الَّرابِعَةِ".
وفى "المسند" و"صحيح ابن حبان": "القَتْلَى ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ فى سَبِيلِ اللهِ حَتَّى إذا لَقِىَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَاكَ الشَّهِيدُ

المُمْتَحَنُ فى خَيْمَةِ اللهِ تَحْتَ عَرْشِهِ، لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلا بِدَرَجَةِ النُّبْوَّةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ فَرِقَ على نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، جاهد بِنفسِهِ وَمَالِهِ فى سَبيِلِ اللهِ حَتَّى إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ، فَتِلْكَ مُمَصْمِصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءُ الخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أىِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّم سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، وَبْعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى إِذَا لَقِىَ العَدُوَّ، قَاتَلَ فى سَبيلِ اللهِ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ فى النَّار، وإِنَّ السَّيْفَ لا يَمْحُو النِّفَاقَ".
وصحَّ عنه: "أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلَهَ فى النَّارِ أَبَدَاً".
وسُئل أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ: "مَنْ جَاهَدَ الْمُشْرِكينَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ"، قيل: فَأىّ القَتْلِ أَفْضَلُ ؟ قال: "مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ فى سَبِيلِ الله".
وفى "سنن ابن ماجه": "إِنَّ مِنْ أَعْظَم الجِهَادِ كَلَمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر" وهو لأحمد والنسائى مرسلاً.

وصحَّ عنه: "أَنَّهُ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ"
وفى لفظ: "حتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَالَ".
فصل
وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبايعُ أصحَابَه فى الحربِ على ألا يَفِرُّوا، وربَّما بايعهم على الموتِ، وبايعهم على الجهادِ كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهِجرةِ قبل الفتح، وبايَعُهُم على التوحيد، والتزامِ طاعةِ الله ورسوله، وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً.
وكانَ السَّوطُ يَسْقُطُ مِن يَدِ أحَدِهِم، فينزلُ عن دابته، فيأخُذُهُ، ولا يَقُولُ لأَحدِ: نَاولْنى إيَّاهُ.

وكان يُشاوِر أصحابه فى أمر الجهاد، وأمر العدو، وتخير المنازل، وفى "المستدرك" عن أبى هريرة: "ما رأيتُ أحداً أكثر مشورةً لأصحابه مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وكان يتخلَّفُ فى ساقَتِهم فى المسير، فيُزجى الضعيفَ، ويُردِفُ المنقطِعَ، وكان أرفق النَّاسِ بهم فى المسير.
وكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريقُ نجد، ومياهُها، ومَن بها من العدوَّ ونحو ذلك.
وكان يقولُ: "الحَرْبُ خَدْعَةٌ".
وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوِّه، ويُطلِعُ الطلائعَ، ويبِّيتُ الحرسَ.

وكان إذا لقى عدوَّه، وقف ودعا، واستنصرَ الله، وأكثر هو وأصحابُه مِن ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.
وكان يرتِّبُ الجيش والمقاتلة، ويجعلُ فى كل جنبةٍ كُفْئاً لها، وكان يُبارَزُ بين يديه بأمرِهِ، وكانَ يَلُبَسُ لِلحرب عُدَّتَه، ورُبَّمَا ظاهر بين دِرْعَيْنِ، وكان له الألويةُ والرايات.
وكان إذا ظهر على قوم، أقام بِعَرْصَتِهِمْ ثَلاثاً، ثم قفل.
وكان إذا أراد يُغير، انتظر، فإن سمع فى الحىِّ مؤذناً، لم يُغِرْ وإلا أغارَ، وكان ربما بيَّت عدوَّهُ، وربَّما فاجأهم نهاراً.
وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرةَ النهار، وكان العسكرُ إذا نزل انضمَّ بعضه إلى بعض حتى لو بُسطَ عليهم كساء لعمَّهم.

وكان يرتب الصفوف ويُعَبِّئُهُم عند القتال بيده، ويقول: "تقدَّم يا فلان، تأخَّر يا فلان".
وكان يستحب للرجُلِ منهم أن يُقاتل تحت راية قومِه.
وكان إِذا لَقِىَ العدوَّ، قال: "اللهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَاب، ومُجْرىَ السَّحَاب، وهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وانصُرْنَا عَلَيْهم"، وربما قال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمَرُّ} [القمر: 45-46].
وكان يقُولُ: "اللهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ".
وكان يقولُ: "اللهُمَّ أَنْتَ عَضُدِى وأَنتَ نَصِيرِى، وَبِكَ أُقَاتِلُ".
وكان إذا اشتد له بأسٌ، وَحَمِىَ الحربُ، وقصده العدوُّ، يُعِلمُ بنفسه ويقولُ:
أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِب ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وكانَ الناسُ إذا اشتدَّ الحَرْبُ اتَّقَوْا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانَ أقربَهم إلى العدوِّ.

وكان يجعلُ لأصحابه شِعَاراً فى الحرب يُعْرَفُونَ به إذا تكلَّموا، وكَانَ شِعَارُهُمْ مَرَّة: "أَمِتْ أَمِتْ"، ومرةً: "يَا مَنْصْورُ"، ومرة: "حَم لا يُنْصَرُونَ".
وكان يلَبسُ الدَّرعَ والخُوذَةَ، ويتقلَّدُ السيفَ، ويَحْمِلُ الرّمح والقوسَ العربية، وكان يتترَّسُ بالتُّرسِ، وكان يُحِبُّ الخُيلاء فى الحربِ، وقال: "إِنَّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، فأَمَّا الخُيَلاَءُ الَّتِى يُحبُّهَا اللهُ، فاخْتيالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، واخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِى يُبْغِضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاخْتِيَالُهُ فى البَغى وَالفَخْرِ".
وقاتل مرة بالمنجنيق نصبَه على أهل الطائفِ. وكان ينهى عن قتلِ النساءِ والولدانِ، وكان ينظُرُ فى المقاتِلَةِ، فمن رآهُ أَنْبَتَ، قَتَلَهُ، ومَن

لم يُنْبِتْ، استحياه.
وكان إذا بعث سريَّة يُوصيهم بتقوى الله، ويقول: "سيرُوا بِسْم اللهِ وفى سَبِيلِ اللهِ، وقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللهِ، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَغْدُرُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدَاً".
وكان ينهى عن السَّفَرِ بالقُرآنِ إلى أرضِ العدوِّ.
وكان يأمر أميرَ سريَّته أن يدعوَ عدوَّه قبل القِتال إمَّا إلى الإسلامِ والهِجرةِ، أو الإسلامِ دون الهِجرة، ويكونون كأعرابِ المسلمين، ليس لهم فى الفىء نصيب، أو بذل الجِزية، فإن هُمْ أجابُوا إليه، قَبِلَ منهم، وإلا استعان باللهِ وقاتلهم.
وكان إذا ظفر بعدوِّه، أمر منادياً، فجمع الغنائمَ كلَّها، فبدأ بالأسلابِ فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خُمُسَ الباقى، فوضعه حيث أراه الله، وأمره به مِن مصالح الإسلام، ثم يَرْضَخُ من الباقى لمن لا سهم له مِن النساءِ والصِّبيانِ والعبيدِ، ثم قسم الباقى بالسَّويَّة بين الجيش، للفارسِ ثلاثةُ أسهم:

سهمٌ له، وسهمانِ لفرسه، وللراجل سهم هذا هو الصحيح الثابت عنه.
وكان يُنَفِّلُ مِن صُلْب الغنيمةِ بحسب ما يراه مِن المصلحةِ، وقيل: بل كان النَّفَلُ مِن الخُمُس، وقيل وهو أضعف الأقوال: بل كان من خُمُسِ الخُمُسِ. وجمع لِسلمةَ بن الأكوع فى بعض مغازيه بين سهمِ الراجل والفارس، فأعطاه أربعةَ أسهم لِعظم غَنائِهِ فى تلك الغزوة.
وكان يُسَوِّى الضعيف والقوى فى القِسمة ما عدا النفل.
وكان إذا أغار فى أرض العدوِّ، بعثَ سَرِيَّة بين يديه، فما غَنِمتْ، أخرج خُمُسَهُ، وَنَفَّلَهَا رُبُعَ الباقى، وقسم الباقى بينها وبين سائر الجيش، وإذا رجع، فعل ذلك، ونفَّلها الثلث ومع ذلك، فكان يكرهُ النَّفَلَ،

ويقولُ: "لِيَرُدَّ قَوِىُّ المْؤْمِنِينَ عَلَى ضَعِيفِهِمْ".
وكانَ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ من الغنيمة يُدْعَى الصَّفِىَّ، إن شاء عبداً، وإن شاء أمةً، وإن شاءَ فرساً يختارُه قبل الخُمُس.
قالت عائشةُ: "وكَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصّفِىِّ" رواه أبو داود. ولهذا جَاءَ فى كتابه إلى بنى زهير بن أُقَيْش:
"إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُم أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ، وأَنَّ محَمَّداً رسُولُ اللهِ، وأَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ وَسَهْم النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمَ الصَّفِىَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بأَمَانِ الله وَرَسُولِهِ".
وكان سيفُهُ ذُو الفَقَارِ مِن الصَّفِىِّ.
وكان يُسهِمُ لمن غاب عن الوقعةِ لمصلحةِ المُسلمِينَ، كما أسهم لِعثمان سهمَه مِن بدر، ولم يحضُرْهَا لِمكان تمريضه لامرأتِهِ رُقيَّةَ ابنة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: "إِنَّ عُثْمَانَ انْطَلَقَ فى حَاجَةِ الله وحاجة رَسُولِهِ"، فَضَربَ لَهُ سَهْمَه وَأَجْرَهُ.

وكانوا يشترون معه فى الغزو ويبيعونَ، وهو يراهم ولا ينهاهم، وأخبره رجل أَنَّهُ رَبحَ ربحاً لم يَرْبحْ أحَدٌ مِثلَهُ، فقال: "ما هو" ؟ قال: ما زِلتُ أبيعُ وأبتاعُ حتى رَبِحْتُ ثلاثَمائةِ أُوقيَّة، فقالَ: "أَنَا أُنَبَئُكَ بِخَيْرِ رَجُلٍ رَبِحَ" قَالَ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: "رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصَّلاة".
وكانوا يستأجرون الأُجراء للغزو على نوعين، أحدُهما: أن يخرُج الرجلُ، ويستأجِرَ مَنْ يَخْدِمه فى سفرِهِ. والثانى: أن يستأجرَ من ماله مَن يخرج فى الجهاد، ويسمون ذلك الجعائل، وفيها قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "للغازى أجرُه، وللجاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الغَازِى".
وكانوا يتشاركون فى الغنيمة على نوعين أيضاً، أحدهما: شركة الأبدان، والثانى: أن يدفع الرَّجلُ بعيرَه إلى الرجل أو فرسه يغزُو عليه على النصف مما يغنمُ حتى ربما اقتسما السَّهْمَ، فأصابَ أحدُهُما قِدْحَهُ، والآخر نصلَه ورِيشَه.
وقال ابنُ مسعود: "اشتركتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وسَعْدٌ فيما نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيْرَيْنِ، وَلَمْ أَجِىءْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَىءٍ".
وكان يبعثُ بالسريَّة فُرساناً تارةً، ورِجَالاً أُخْرَى، وكان لا يُسْهِمُ

لِمن قَدِمَ مِن المَدَدِ بعدَ الفتح.
فصل
وكان يُعطى سهمَ ذى القُربى فى بنى هاشم وبنى المطلب دون إخوتِهم من بنى عبدِ شمس وبنى نوفل، وقال: "إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَىْءٌ وَاحِدٌ" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وقَالَ: "إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فى جَاهِلِيةٍ ولاَ إِسْلاَم"
فصل
وكان المسلمون يُصيبُونَ معه فى مغازِيهم العَسَلَ والعِنَبَ والطَّعَامَ فيأكلونه، ولا يرفعُونه فى المغانم، قال ابنُ عمر: "إِنَّ جَيْشَاً غَنِمُوا فى زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامَاً وَعَسَلاً، ولم يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الخُمُسُ" ذكره أبو داود.

وانفرد عبدُ الله بنُ المغفَّل يَوْمَ خَيبَر بِجِرَابِ شَحْمٍ، وقال: "لا أُعْطِى اليومَ أحداً مِنْ هذا شيئاً، فسمِعَهُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتبسَّم ولم يَقُلْ له شيئاً".
وقيل لابن أبى أوفى: كُنُتم تُخمِّسُونَ الطعامَ فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فقال: "أصبنا طعاماً يومَ خيبر، وكان الرجلُ يجىء، فيأخذُ منه مِقدَارَ ما يكفيه، ثم ينصرفُ".
وقال بعضُ الصحابةِ: "كنا نأكُلُ الجَوْزَ فى الغَزْوِ، ولا نَقْسِمُه حتى إنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إلى رِحالِنَا وأَجْرِبَتُنَا منه مملوءة".
فصل
وكان ينهى فى مغازيه عن النُّهْبَة والمُثْلَةِ وقال: "مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا".
"وأمرَ بالقُدُورِ التى طُبِخَتْ مِنَ النُّهبَى فَأُكْفِئَتْ".

وذكر أبو داود عَنْ رجلٍ من الأنصار قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفرٍ، فأصَابَ النَّاسَ حاجَةٌ شديدةٌ وجَهْدٌ، وأصابُوا غنماً، فانتَهبُوها وإنَّ قُدورنَا لتغلى إذ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشى على قوسه، فَأَكْفَأَ قُدورَنَا بقوسِهِ، ثُمَّ جعلَ يُرْمِلُ اللَّحمَ بالترابِ، ثمَّ قال: "إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ المَيْتَةِ، أو إِنَّ المَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنَ النُّهْبَةِ".
وكان ينهى أن يركبَ الرجلُ دابةً مِن الفىء حتَّى إذا أعجفَهَا، ردَّهَا فيه، وأن يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثوباً مِن الفىء حتى إذا أخلقَه، ردَّه فيه، ولم يمنع من الانتفاع به حال الحرب.
فصل
وكان يُشدِّدُ فى الغُلُولِ جداً، ويقول: "هُوَ عارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ".

ولما أُصيبَ غلامهُ مِدْعَمٌ قالوا: هنيئاً لَهُ الجَنَّةُ قال: "كَلا وَالَّذِى نَفْسى بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتى أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَر مِنَ الغَنَائِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نارَاً" فجاء رجل بِشرَاكٍ أو شِرَاكَيْنِ لما سمِع ذَلِكَ، فقال: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِن نارٍ"
وقال أبو هريرة: "قَامَ فِينَا رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الغُلُولَ وعَظَّمهُ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، فَقَالَ: "لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، عَلَى رَقَبتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ صَامتٌ، فَيَقُولُ: يَارَسُولَ اللهِ أَغِثْنِى، فأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله أَغِثْنِى، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ".
وقال لمن كانَ عَلَى ثَقَلِهِ وقد مَات: "هُوَ فى النَّارِ" فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا.
وقالوا فى بعضِ غَزَواتِهم: "فُلانٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شَهِيدٌ حتَّى مرُّوا على رجُلٍ، فَقَالُوا: وفُلانٌ شَهِيدٌ، فقال: "كَلا إِنَّى رَأَيْتُهُ فى النَّارِ فى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَة" ثمَّ قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ يَا ابنَ الخَطَّابِ، اذْهَبْ

فَنَادِ فى النَّاسِ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا المُؤْمِنُونَ ".
وتُوفى رجلٌ يومَ خيبر، فذكُروا ذلكَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبكُم" فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لذلِكَ، فَقَالَ: "إنَّ صَاحِبَكُم غَلَّ فى سَبِيلِ الله شَيْئاً"، ففتَّشُوا متاعَه، فوجدُوا خَرزاً مِن خرزِ يَهودٍ لا يُساوى دِرْهَمَيْنِ".
وكَانَ إذا أصابَ غَنِيمَةً أمرَ بِلالاً، فنادَى فى الناسِ، فيجيؤونَ بِغَنَائِمِهِم، فَيُخَمِّسُه، ويَقْسمُه، فجاء رجلٌ بعد ذلك بِزِمَامٍ مِن شَعر، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَمِعْتَ بِلاَلاً نَادىَ ثَلاَثَاً ؟" قالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِىءَ بِهِ ؟" فاعتذر، فقالَ: "كُنْ أَنْتَ تَجِىءُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْكَ".
فصل
وأمر بتحريقِ متاعِ الغَالِّ وضرِبهِ، وحَرَقَهُ الخليفتانِ الراشِدانِ بعده،

فقيل: هذا منسوخٌ بسائِرِ الأحاديثِ التى ذَكَرْتُ، فإنه لم يَجىء التحريقُ فى شىءٍ منها، وقيل - وهو الصواب - إِنَّ هذَا مِن باب التعزِيرِ والعقوباتِ المالية الراجعةِ إلى اجتهاد الأئمة بحسَبِ المصلحة، فإنه حَرَقَ وتَرَكَ، وكذلِكَ خلفاؤهُ مِن بعده، ونظيرُ هذا قتلُ شارِب الخمر فى الثَّالثة أو الرَّابعة فليسَ بِحَدٍّ ولا منسوخ، وإنما هو تعزيرٌ يتعلَّق باجتهادِ الإمام.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأسارى
كان يَمُنُّ على بعضهم، ويقتُلُ بعضَهُم، ويُفادِى بعضَهم بالمال،

وبعضَهم بأسرى المسلمينَ، وقد فعل ذلك كلَّه بِحَسَبِ المصلحة، ففادَى أسارى بدرٍ بمالٍ، وقَالَ: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَياً، ثُمَّ كَلَّمَنى فى هؤلاءِ النَّتْنَى، لَترَكْتُهُم له".
وهبطَ عليه فى صُلحِ الحديبية ثمانون متسلِّحُونَ يُرِيدون غِرَّته، فأسرهم ثمَّ مَنَّ عليهم.
"وأسرَ ثُمامةَ بن أثال سيِّدَ بنى حَنيفَةَ، فرَبَطَه بِسَارِيَةِ المَسْجِدِ، ثم أطلقه فأسلم".
واستشار الصحابة فى أسارى بدر، فأشار عليه الصِّدِّيقُُ أن يأخُذَ منهم فِديةً تكونُ لهم قوةً على عَدوِّهم ويُطلِقَهم، لعلَّ الله أن يَهدِيهم إلى الإسلام، وقال عمر: "لا والله، ما أرى الَّذِى رأى أبُو بكر، ولكن أَرى أن تُمَكِّنَنَا فَنضرِبَ أعناقَهم، فإنَّ هؤلاء أئمةُ الكفرِ وصناديدُها"، فَهَوِىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال أبُو بكر، ولم يَهْوَ ما قال عُمَرُ، فلما كان مِن الغد، أقبلَ عُمَرُ، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبكى هو وأبُو بكر، فقال: "يا رَسُولَ الله ؛ مِن أىِّ شىءٍ تبكى أنتَ وصاحِبُكَ، فإن وجدتُ بُكاءً بَكَيْتُ، وإن لم أَجِدْ بكاءً تباكَيْتُ لبكائكما ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْكِى لِلَّذِى عَرَضَ عَلَّى أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهمِ الفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَىَّ عَذَابُهُم أدْنَى

مِنْ هَذِهِ الشَّجَرة ، وَأَنْزَلَ الله: {مَا كَانَ لِنَبىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأرضِ} [الأنفال: 67]".
وقد تكلَّمَ النَّاسُ، فى أىَّ الرأيينِ كان أصوَب، فرجَّحتْ طائِفةٌ، قولَ عُمَرَ لهذا الحديث، ورجَّحت طَائِفةٌ قولَ أبى بكر، لاستقرار الأمر عليه، وموافقتِهِ الكِتابَ الذى سَبَقَ مِن اللهِ بإحلالِ ذلك لهم، ولِموافقته الرحمة التى غلبتِ الغضب، ولتشبيه النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له فى ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ولِحصول الخيرِ العظيم الذى حصل بإسلام أكثر أولئكَ الأسْرى، ولخروجِ مَن خرج مِن أصلابهم مِن المسلمين، ولِحصولِ القوة التى حصلت لِلمسلمين بالِفداء، ولموافقةِ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى بكر أوَّلاً، ولِموافقةِ الله له آخراً حيثُ استقر الأمرُ على رأيه، ولِكمال نظر الصِّدِّيق، فإنه رأى ما يستقِرُّ عليه حُكْمُ اللهِ آخِراً، وغلَّب جانبَ الرحمةِ على جانبِ العُقُوبة.
قالوا: وأما بكاءُ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّمَا كان رحمةً لِنزول العذابِ لمن أراد بذلك عرضَ الدنيا، ولم يُرِدْ ذَلِكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أبو بكر، وإن أرادَه بعضُ الصحابة، فالفتنةُ كانت تَعُمُّ ولا تُصيبُ مَن أرادَ ذلك خاصة، كما هُزِمَ العسكرُ يومَ حُنَين بقول أحدهم: "لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ" وبإعجاب كثرتهم لِمن أعجبته منهم، فهزم الجَيْشُ بذلك فِتنة ومحنة، ثم استقر الأمرُ على النصر والظفر.. والله أعلم.

واستأذنه الأنصارُ أن يترُكُوا لِلعباس عَمِّهِ فِدَاءَه، فَقَالَ: "لا تَدَعُوا مِنْهُ دِرْهَمَاً".
واستوهب مِن سلمة بنِ الأكوع جارية نَفَلَه إيَّاها أبو بكر فى بعض مغازيه، فوهبها له، فبعثَ بها إلى مكَّة، ففدى بها ناساً مِن المسلمين، وفدى رجلين من المسلمين برجل من عقيل، ورد سبى هوازن عليهم بعد القِسْمَةِ، واستطابَ قلوبَ الغانمين، فطيبَّوا له، وعوَّض مَن لم يُطيب من ذلك بِكُلِّ إنسانٍ سِتَّ فرائض، وقتل عُقبةَ بن أبى مُعيط مِن الأسرى،وقتل النَّضرَ بنَ الحارث لشدة عداوتِهما لله ورسوله.
وذكر الإمامُ أحمد عن ابن عباس قال: "كانَ ناسُ مِن الأسرى لم يَكُنْ لهم مال، فجعلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِداءَهم أن يُعلِّمُوا أولادَ الأنصارِ الكِتَابة"، وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل، كما يجوز بالمال.
وكان هديُه أن مَن أسلم قبل الأسر، لم يُسترق، وكانَ يسترق سَبْىَ

العربِ، كما يَسْتَرِقُّ غيَرَهم مِن أهل الكتاب، وكان عند عائشة سبِيَّةٌ منهم فقال: "أعْتِقيها فَإنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعيلَ".
وفى الطبرانى مرفوعاً: "مَنْ كَانَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مِنْ وَلَدِ إِسماعيلَ، فَلْيَعْتِقْ مِنْ بَلْعَنْبَر".
ولما قسم سبايا بنى المُصْطَلِقِ، وقعت جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحارث فى السَّبى لثابتِ بنِ قَيْس بن شمَّاس، فكاتبتْهُ على نفسها، فَقَضَى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابَتَهَا وَتَزَوَّجَها، فأُعتَقَ بِتَزَوُّجِهِ إِياها مائةً مِنْ أَهْلِ بَيْتِ بنى المُصْطَلِقِ إِكراماً لصهرِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى من صريح العرب، ولم يكونوا يتوقَّفُون فى وطء سبايا العرب على الإسلام، بل كانوا يطؤونهن بعد الاستبراء، وأباحَ الله لهم ذلك، ولم يشترط الإسلام، بل قال تعالى: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النَّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فأباح وَطْءَ مُلكِ اليمين، وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتُها بالاستبراء. وقال له سلمة بن الأكوع، لما استوهبه الجارية الفزارية من السبى: "واللهِ يا رسول الله ؛ لقد أعجبتنى، وما كشفتُ لها ثوباً"، ولو كان وطؤها حراماً قبل الإسلام عندهم، لم يكن لهذا القول معنى، ولم تكن قد أسلمت، لأنه قد فَدَى بها ناساً

مِن المسلمين بمكة، والمسلِمُ لا يُفادى به، وبالجملةِ فلا نَعرِفُ فى أثرٍ واحِدٍ قطُّ اشتراط الإسلام منهم قولاً أو فعلاً فى وطء المسبية، فالصوابُ الذى كان عليه هديهُ وهدىُ أصحابه استرقاقُ العرب، ووطء إمائهن المسبيات بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمنعُ التفريقَ فى السَّبى بين الوالدة وولدها، ويقول: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَة" وكان يؤتى بالسبى، فيعطى أهلَ البيت جميعاً كراهية أن يُفرَّق بينهم.

فصل: فى هديه فيمن جَسَّ عليه
ثبت عنه أنه قتل جاسوساً مِن المشركين. وثبت عنه أنه لم يقتُل حاطباً، وقد جَسَّ عليه، واستأذنه عمرُ فى قتله فقال: " وما يُدْريكَ لَعَلَّ

اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فقال: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم " فاستدلَّ به مَن لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كالشافعى، وأحمد، وأبى حنيفة رحمهم الله، واستدل به مَنْ يرى قتله، كمالك، وابن عقيل مِن أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهما قالوا: لأنه عُلِّل بِعلَّة مانعة مِن القتل منتفيةٍ فى غيره، ولو كان الإسلامُ مانعاً من قتله، لم يُعلَّل بأخصَّ منه، لأن الحكم إذا عُلِّلَ بالأعم، كان الأخص عديمَ التأثير، وهذا أقوى.. والله أعلم.
فصل
وكان هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِتقَ عبيدِ المشركين إذا خرجُوا إلى المسلمين وأسلموا، ويقول: "هُمْ عُتَقَاءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ". وكان هديُه أنَّ مَن أسلم على شىء فى يده، فهو له، ولم ينظُرْ إلى سببه

قبل الإسلام، بل يُقِرُّه فى يدِهِ كما كان قبل الإسلام، ولم يكن يُضَمِّنُ المشركينَ إذا أسلموا ما أتلفُوه على المسلمين مِن نفس، أو مال حالَ الحرب ولا قبلَه، وعزم الصِّدِّيقُ على تضمينِ المحاربينَ مِن أهل الرِّدة دياتِ المسلمينَ وأموالهم، فقال عمر: "تلك دماءٌ أُصيبت فى سبيل الله، وأُجورُهم على الله، ولا ديةَ لشهيد"، فاتفق الصحابةُ على ما قالَ عمر، ولم يكن أيضاً يَرُدُّ على المسلمين أعيان أموالهم التى أخذها مِنهم الكفارُ قهراً بعد إسلامهم، بل كانوا يرونها بأيديهم، ولا يتعرَّضُون لها سواء فى ذلك العقار والمنقول، هذا هديُه الذى لا شك فيه.
ولما فتح مكة، قام إليه رجال من المهاجرين يسألونه أن يرد عليهم دورهم التى استولى عليها المشركون، فلم يردَّ على واحد منهم داره، وذلك لأنهم تركوها لله، وخرجوا عنها ابتغاءَ مرضاته، فأعاضهم عنها دوراً خيراً منها فى الجنة، فليس لهم أن يرجِعُوا فيما تركوه لله، بل أبلغُ من ذلك أنه لم يُرخِّصْ للمهاجر أن يُقيم بمكة بعد نُسُكِه أكثرَ مِن ثلاثِ، لأنه قد ترك بلده لله، وهاجر منه، فليس له أن يعودَ يستوطِنهُ، ولهذا رثى لسعد بن خولة، وسمَّاه بائساً أن ماتَ بمكة، ودُفِنَ بها بعد هجرته منها.

فصل: فى هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأرض المغنومة
ثبت عنه أنه قسم أرضَ بنى قُريظة وبنى النَّضير وخيبر بينَ الغانمين، وأما المدينة، ففُتِحت بالقرآن، وأسلم عليها أهلُها، فأُقِرَّت بحالها. وأما مكة، ففتحها عَنْوَةً، ولم يقسمها، فأشكل على كُلِّ طائفةٍ من العلماء الجمعُ بين فتحها عنوة، وتركِ قسمتها، فقالت طائفة: لأنها دارُ المناسِكِ، وهى وقفٌ على المسلمين كلِّهم، وهم فيها سواء، فلا يُمْكِنُ قسمتُها، ثم مِن هؤلاء مَن منع بيعهَا وإجارَتها، ومنهم مَن جوَّز بيع رِباعها، ومنع إجارَتها، والشافعى لما لم يجمع بين العَنوةِ، وبين عدم القسمة، قال: إنها فُتِحتْ صُلحاً، فلذلك لم تُقْسم. قال: ولو فُتِحَتْ عَنوة، لكانت غنيمة، فيجبُ قسمتها كما تجب قسمةُ الحيوان والمنقول، ولم يرَ بأساً من بيع رباع مكة، وإجارتها، واحتج بأنها ملك لأربابها تُورث عنهم وتُوهب، وقد أضافها الله سبحانه إليهم إضافةَ الملك إلى مالكه، واشترى عمرُ بن الخطاب داراً مِن صفوان بن أمية، وقيل للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين تنزل غداً فى دارك بمكة ؟ فقال: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أو دُورٍ " وكان عقيلُ ورثَ أبا طالب، فلمّا كان أصل الشافعى أن الأرضَ من الغنائم، وأن الغنائم تجبُ قسمتُها، وأن مكَّةَ تُملك وتُباع، ورِباعها ودُورها لم تقسم، لم يجد بُداً من القولِ بأنها فُتِحَتْ صُلْحَاً.

لكن من تأمل الأحاديثَ الصحيحةَ، وجدها كلَّها دالة على قول الجمهور، أنها فتحت عَنوة. ثم اختلفوا لأى شىء لم يقسمها ؟ فقالت طائفة: لأنها دار النُّسُك ومحلُّ العبادة، فهى وقف من الله على عباده المسلمين. وقالت طائفة: الإمام مُخَيّرٌ فى الأرض بين قسمتها وبين وقفها، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم خيبرَ، ولم يقسم مكة، فدل على جواز الأمرين. قالوا: والأرضُ لا تدخلُ فى الغنائمِ المأمورِ بقسمتها، بَل الغنائمُ هى الحيوانُ والمنقولُ، لأن الله تعالى لم يُحِلَّ الغنائم لأمة غير هذه الأُمة، وأحل لهم ديارَ الكفر وأرضهم كما قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم} إلى قوله: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 20-21]، وقال فى ديارِ فرعون وقومِهِ وأرضهم: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59]، فعُلِم أن الأرض لا تدخل فى الغنائم، والإمامُ مخيَّر فيها بحسب المصلحة، وقَد قَسَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك، وعُمَرُ لم يقسم، بل أقرَّها على حالها وضرب عليها خراجاً مستمراً فى رقبتها يكون للمقاتلة، فهذا معنى وقفها، ليس معناه الوقف الذى يمنع مِن نقل الملك فى الرقبة، بل يجوزُ بيعُ هذهِ الأرض كما هو عملُ الأُمة، وقد أجمعوا على أنها تورث، والوقف لا يُورث، وقد نص الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى على أنها يجوزُ أن تُجعل صداقاً، والوقفُ لا يجوز أن يكون مهراً فى النكاح، ولأن الوقفَ إنما امتنع بيعهُ ونقل الملك فى رقبته لما فى ذلك من إبطال حقِّ البطون الموقوف عليهم من منفعته، والمقاتلة حقهم فى خراج الأرض، فمن اشتراها صارت عنده خراجية، كما كانت عند البائع سواءً، فلا يبطُلُ حق أحدٍ من المسلمين بهذا البيع، كما لم يبطل بالميراث والهبة والصَّداق، ونظيرُ هذا بيعُ رقبة المكاتب،

وقد انعقد فيه سببُ الحرية بالكتابة، فإنه ينتقل إلى المشترى مكاتباً كما كان عند البائع، ولا يبطل ما انعقد فى حقِّه من سبب العتق ببيعه.. والله أعلم.
ومما يدلُّ على ذلك أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم نِصفَ أرضِ خيبر خاصة، ولو كان حكمُها حكمَ الغنيمة، لقسمها كلها بعد الخُمُس، ففى "السنن" و"المستدرك": "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ظهر على خيبر قسمَها على ستةِ وثلاثين سهماً، جَمَعَ كُلُّ سَهْم مِائَةَ سَهْمٍ، فكان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسلمين النِّصفُ من ذلك، وعَزَلَ النِّصفَ الباقى لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائبِ الناسِ". هذا لفظ أبى داود، وفى لفظ: "عزلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانيةَ عَشَرَ سهماً، وهو الشطرُ لِنوائبِهِ، وما ينزلُ بهِ من أمر المسلمين، وكان ذَلِكَ الوَطِيحَ والكُتَيْبَةَ، والسُّلالِمَ وتوَابِعَهَا". وفى لفظ له أيضاً: "عزلَ نِصفها لنوائبه وما نزل له: الوَطيحة والكُتيبة، وما أُحيزَ مَعَهُمَا، وعزل النصفَ الآخر، فقسمه بين المسلمين: الشِّقَّ والنَّطَاةَ، وما أُحيزَ معهما، وكان سهمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أُحيز معهما".
فصل
والذى يدل على أن مكة فتحت عَنوة وجوه:

أحدها: أنه لم ينقُلْ أحدٌ قطُّ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح أهلها زمنَ الفتح، ولا جاءه أحدٌ مِنهم صالحه على البلدِ، وإنما جاءَهُ أبو سفيان، فأعطاه الأمانَ لِمن دخلَ دارَهُ، أو أغلقَ بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه. ولو كانت قد فتحت صُلحاً، لم يقل: مَن دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن، فإن الصلح يقتضى الأمان العام.
الثانى : أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ الله حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ، وإِنَّهُ أَذِنَ لى فيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَار".
وفى لفظ: "إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ قَبْلِى، ولَنْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نهارٍ".
وفى لفظ: " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَال رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولْوا: إِنّ الله أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَن لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذنَ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمسِ ". وهذا صريح فى أَنَّهَا فتحت عَنوة.
وأيضاً فإنه ثبتَ فى "الصحيح": أنه جعلَ يومَ الفتحِ خالدَ بْنَ

الوليدِ على المُجَنَّبَةِ اليُمْنَى، وجعل الزُّبَيْرَ على المُجَنَّبة اليسرى، وجعَلَ أبا عُبيدة على الحُسَّرِ وبَطْنِ الوَادِى، فَقَالَ: "يَا أبَا هُريَرْة ادْعُ لى الأَنْصار" فجاؤوا يُهَرْوِلُونَ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصارِ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْش" ؟ قالُوا: نعم، قال: "انْظُرُوا إذا لَقِيتُمُوهُم غَداً أَنْ تَحْصِدُوهُم حَصْداً"، وَأَخْفَى بِيَدِهِ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ على شِمَالِهِ، وقال: "مَوْعِدُكُم الصَّفا"، قال: فما أَشرفَ يَوْمَئِذٍ لهم أحدٌ إلا أناموه، وصَعِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفا، وجَاءَتِ الأَنْصَارُ، فأطافُوا بالصَّفَا، فجاء أبُو سفيانَ فقال: "يا رَسُولَ الله ؛ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قريشٍ، لا قُرَيْشٍ بَعْدَ اليَوْمِ. فَقَالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَخًلَ دَارَ أبى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أَلْقَى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ".
وأيضاً فإنَّ أُمَّ هانئ أجارَتْ رجُلاً، فأراد علىُّ بنُ أبى طالب قتله، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أُمَّ هانئ"
وفى لفظ عنها: "لمَّا كان يومُ فتحِ مكة، أجرتُ رجلين مِن أحمائى، فأدخلتُهما بيتاً، وأغلقتُ عليهما باباً، فجاء ابنُ أمى علىٌ فَتَفَلَّتَ عليهما بالسَّيْفِ، فذكرت حديثَ الأمانِ، وقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يا أُمَّ هانىء" وذلك ضُحى بجوف مكة بعد الفتح، فإجارتُها له، وإرادةُ علىّ رضى الله عنه قتله، وإمضاءُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجارتَهَا صريحٌ فى أنها فُتِحَتْ عنوةً.

وأيضاً.. فإنه أمر بقتل مَقِيسِ بْنِ صُبابة، وابنِ خطل، وجاريتين، ولو كانت فُتِحَتْ صُلْحاً، لم يأمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكرُ هؤلاء مستثنى من عقد الصلحِ، وأيضاً ففى "السنن" بإسناد صحيح: "أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا كان يَوْمُ فتحِ مكة، قال: "أَمِّنُوا النَّاسَ إلا امْرَأَتَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ، اقْتُلُوهُم وإنَ وَجَدتْموهُم مُتَعَلِّقينَ بأَسْتَارِ الكَعْبَة " والله أعلم.
فصل
ومنع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إِقَامَةِ المُسْلِم بين المُشْرِكِينَ إِذَا قَدَرَ على الهِجْرَةِ مِن بينهم، وقال: "أنا بَرىءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ". قيل: يَا رسُول الله ؛ وَلِمَ ؟ قَالَ: "لا تَراءى نَاراهُمَا" ، وقال:

"مَنْ جامع المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" ، وقال: "لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها"، وقال: "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ، بَعْدَ هِجْرَة، فَخِيَارُ أَهْلِ الأرْضِ أَلْزَمُهُم مُهَاجَرَ إِبْرَاهيمَ، وَيَبْقَى فى الأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُم. تَقْذَرُهُم نَفْسُ الله، وتَحْشُرُهُم النّارُ مَعَ القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ".

فصل: فى هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأمان والصلحِ، ومعاملةِ رسل الكفار، وأخذِ الجزية، ومعاملةِ أهل الكتاب، والمنافقين، وإجارة مَن جاءه من الكفار حتى يسمَعَ كلامَ الله، وردِّه إلى مأمنه، ووفائِهِ بالعهدِ، وبراءتِهِ من الغدر.
ثبت عنه أنه قال: " ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والملائِكَةِ، والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ الله مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفاً ولا عَدْلاً".
وقال: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم، وَهُمْ يَدٌ على مَنْ سِواهُمْ، ويَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أَدْناهُم، لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ فى عَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثَاً فَعلى نَفْسِهِ، ومَنْ أَحْدَثَ حَدَثاً أَوْ آوى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ".

وثبت عنه أنه قال: "مَنْ كَانَ بَيْنَه وبَيْنَ قَومٍ عَهْدٌ فَلا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلاَ يَشُدَّهَا حتَّى يَمْضِى أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ".
وقال: "مَنْ أَمَّنَ رَجُلاً عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ، فأَنَا بَرِىءٌ مِنَ القَاتِل".
وفى لفظ: "أُعْطِى لِوَاءَ غَدْر".
وقال: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ عِندَ إسْتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ يُقال: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ ".
ويُذكر عنه أنه قال: "مَا نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلاَّ أُديلَ عَلَيْهمُ العَدُوُّ".

فصل
ولما قَدِمَ النبُّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينَة، صارَ الكفارُ معه ثلاثة أقسام: قِسم صالَحهم ووادعهم على ألا يُحاربوه، ولا يُظاهِروا عليه، ولا يُوالوا عليه عدوَّه، وهم على كُفرهم آمُنِونَ على دمائهم، وأموالهم. وقسم: حاربوه ونصبوا له العَدَاوة. وقسم: تاركُوه، فلم يُصالِحوه، ولم يُحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمُره، وأمرُ أعدائه، ثم مِن هؤلاء: مَن كان يُحِبُّ ظهورَه، وانتصاره فى الباطن، ومنهم: مَن كان يُحِبُّ ظهورَ عدوه عليه وانتصارَهم، ومنهم: مَن دخل معه فى الظاهر، وهو مع عدوِّه فى الباطن، ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المُنافقون، فعامَلَ كُلَّ طائِفةٍ مِن هذه الطوائف بما أمره به ربُّه تبارك وتعالى.
فصالح يهودَ المدينةِ، وكتب بينهم وبينه كتابَ أمن، وكانوا ثلاثَ طوائفَ حولَ المدينة: بنى قَيْنُقَاع، وبنى النَّضير، وبنى قُريظة، فحاربته بنو قَيْنُقَاع بعد ذلك بعدَ بدرٍ، وشَرَقُوا بوقعة بدرٍ، وأظهروا البغىَ والحَسَدَ فسارت إليهم جُنود اللهِ، يَقْدَمُهم عبدُ الله ورسولُه يومَ السبت للنصف من شوَّال على رأس عشرين شهراً مِن مُهاجَرِه، وكانوا حُلَفاءَ عبدِ الله بنِ أُبىّ بن سَلول رئيسِ المنافقين، وكانوا أشجعَ يهودِ المدينة، وحامِلُ لواء المسلمين يومئذٍ حمزةُ بنُ عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا لُبابة بنَ عبد المنذر، وحاصرهم خمسة عشر ليلةً إلى هلال ذى القَعْدَةِ، وهم أَوَّلُ مَنْ حارب مِن اليهود، وتحصَّنُوا فى حصونهم، فحاصرهم أشدَّ الحِصار، وقذفَ الله فى قلوبهم الرُّعبَ الذى إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم، وقذفَه فى قلوبهم، فنزلوا على حُكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رِقابهم وأموالِهم،

ونِسائهم وذُرِّيَّتِهم، فأمر بهم فكُتِّفُوا، وكلَّمَ عبدُ الله بنُ أُبْىّ فيهِم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألحَّ عليه، فوهبَهم له، وأمرهم أن يَخرجوا مِن المدينة، ولا يُجاوِرُوه بها، فخرجوا إلى أَذْرِعَاتٍ من أرض الشام، فقلَّ أن لَبِثُوا فيها حتى هَلَكَ أكثرهُم، وكانوا صَاغة وتُجاراً، وكانوا نحَو الستمائة مقاتل، وكانت دارُهم فى طرفِ المدينة، وقَبَض مِنهم أموالَهم، فأخذ منها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثَ قِسىٍّ ودِرعين، وثلاثةَ أسياف، وثلاثَةَ رماح، وخَمَّسَ غَنَائِمهم، وكان الذى تولَّى جمع الغنائم محمدُ بن مسلمة.
فصل
ثم نقض العهد بنُو النضير، قال البخارى: وكان ذَلِكَ بعد بدرٍ بستَّةِ أشهر، قاله عروة: وسببُ ذلكَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إليهم فى نَفَرٍ من أَصْحَابه، وكلَّمهم أن يُعينُوهُ فى دِية الكِلاَبِيَيْنِ اللَّذَيْنِ قتلَهُمَا عمرُو بنُ أُميَّة الضَّمْرِى، فقالوا: نفعلُ يا أبا القاسم، اجلِس ههنا حتى نَقْضِىَ حاجَتك، وخلا بعضُهم ببعض، وسوَّلَ لهُم الشيطانُ الشقاء الَّذِى كُتِبَ عليهم، فتآمروا بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: أيُّكُم يأخذ هذه الرَّحا ويصعَدُ، فيُلقيها على رأسه يَشْدَخُه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بْنُ جِحَاشٍ: أنا. فقال لهم سلامُ بْنُ مِشْكم: لا تفعلوا ؛ فواللهِ ليُخَبَّرَنَّ بما هممتُم به، وإنه لنقضُ

العهدِ الذى بيننا وبينَه، وجاء الوحىُ على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما همُّوا به، فنهض مسرعاً، وتوجَّه إلى المدينة، ولَحِقَهُ أصحاُبه، فقالُوا: نهضْتَ ولم نَشْعُرْ بِكَ، فأخبرهم بما همَّتْ يهود به، وبعث إليهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن اخرجُوا مِن المدِينةِ، ولا تساكِنُونى بها، وقد أجَّلتُكم عشراً، فمن وجدتُ بعد ذلك بها، ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فأقاموا أياماً يتجهَّزُونَ، وأرسل إليهم المنافِقُ عبدُ الله بن أُبَىّ: أن لا تَخْرُجُوا مِنْ دياركم، فإن معىَ ألفين يدخلُونَ معكم حِصنكم، فيموتون دُونكم، وتنصُرُكم قُريظةُ وحلفاؤكم مِن غَطَفَان، وطَمِعَ رئيسُهم حُيَىّ بنُ أخطَب فيما قال له، وبعثَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنَّا لا نَخْرُجُ مِن دِيَارِنَا، فاصْنَعْ ما بَدَا لك، فكبَّر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه، ونهضُوا إليه، وعلىُّ بنُ أبى طالب يحمِل اللِّواء، فلما انتهى إليهم، قامُوا على حُصونهم يرمُون بالنَّبل والحِجارة، واعتزلتهم قُريظة، وخانهم ابنُ أُبىٍّ وحُلفاؤُهم مِن غَطَفَان، ولهذا شبَّه سبحانه وتعالى قِصتهم، وجعل مثلَهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إنَّى بَرِىءٌ مِّنكَ} [الحشر: 16]، فإن سورة الحشر هى سورة بنى النضير، وفيها مبدأ قِصتهم ونِهَايتها، فحاصرَهُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقطَعَ نخلهم، وحرَّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج عن المدينة، فأَنزلَهم على أن يخرجوا عنها بنفوسِهم وذراريهم، وأن لهم ما حَمَلَتِ الإبلُ إلا السلاَح، وقبض النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموالَ والحَلْقَةَ، وهى السلاح، وكانتْ بنو النضير خالِصةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنوائبه ومصالحِ المُسلمين، ولم يُخمِّسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهَا

بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ. وخَمَّسَ قُرَيْظَةَ.
قال مالك: خمَّس رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُريظة، ولم يُخَمِّسْ بنى النضير، لأن المسلمين لم يُوجِفُوا بخيلهم ولا رِكابهم على بنى النَّضِير، كما أوجفوا على قُريظة وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حُيىَ بنُ أَخْطَب كبيرُهم، وقبضَ السِّلاح، واستولى على أرضهم وديارِهم وأموالهِم، فوجد من السِّلاح خمسينَ دِرعاً، وخمسينَ بَيْضةً، وثلاثَمِائةٍ وأربعين سيفاً، وقالَ: "هؤلاء فى قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بنى المُغِيرَةِ فى قُرَيْشٍ" وكانت قصتُهم فى ربيع الأول سنة أربعٍ مِن الهجرة.
فصل
وأما قُريظة، فكانت أشدَّ اليهودِ عداوةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأغلظَهم كُفراً، ولذلك جرى عليهم ما لم يجرِ على إخوانهم.
وكان سببُ غزوهم أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صُلْحٌ، جاء حُيَىّ بن أخطَب إلى بنى قُريظة فى ديارهم، فقال: قد جئتُكم بعزِّ الدَّهر، جئتكم بقُريش على سادتها، وغَطَفَان على قادتها،

وأنتم أهلُ الشَّوْكَة والسلاح، فهلمَّ حتى نناجِزَ محمداً ونفرُغ منه، فقالَ لهُ رئيسُهم: بل جئتنى والله بذُلِّ الدهر، جئتنى بسحاب قد أراق ماءه، فهو يرعُدُ ويبرُق، فلم يزل حُيَىّ يُخادعه ويَعِده ويُمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه فى حِصنه، يُصيبه ما أصابهم، ففعل، ونقضُوا عهدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأظهروا سبَّه، فبلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبرُ، فأرسلَ يستعلِمُ الأمرَ، فوجدهم قد نقضُوا العهد، فكبَّر وقال: "أبْشِرُوا يا مَعْشرَ المسلمين".
فلما انصَرَفَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، لم يكن إلا أن وضع سِلاحه، فجاءه جبريلُ، فقال: أوضعتَ السِّلاح؟ والله إن الملائكةَ لم تضعْ أسلحَتِها، فانهض بمن معكَ إلى بنى قُريظة، فإنى سائرٌ أمامك أُزلزل بهم حصونَهم، وأقذِف فى قلوبهم الرُّعبَ، فسار جبريلُ فى موكبه من الملائكة، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أثره فى موكبه مِن المهاجرِين والأنصار، وقال لأصحابه يومئذ: "لا يُصَلَّيَنَّ أَحَدُكُم العَصْرَ إِلا فى بنى قُرَيْظَةَ"، فبادروا إلى امتثال أمرِه، ونهضُوا مِن فورهم، فأدركتهم العصرُ فى الطريق، فقال بعضُهم: لا نُصليها إلا فى بنى قُريظة كما أمرنا، فصلَّوها بعد عشاء الآخرة، وقال بعضُهم: لم يُرِدْ منَّا ذلك، وإنما أراد سُرعة الخروج، فَصَلَّوْهَا فى الطريق، فلم يُعنِّفْ واحدة من الطائفتين.

واختلف الفقهاء أَيُّهمَا كان أصوَب ؟ فقالت طائفةٌ: الذين أخَّروها هم المُصيبُون، ولو كُنَّا معهم، لأخَّرناها كما أخَّرُوها، ولما صلَّيْنَاها إلا فى بنى قُريظة امتثالاً لأمره، وتركاً للتأويل المخالف للظاهر.
وقالت طائفة أخرى: بل الذين صَلَّوْها فى الطريق فى وقتها حازوا قَصَبَ السَّبْقِ، وكانوا أسعدَ بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره فى الخروج، وبادرُوا إلى مرضاته فى الصلاة فى وقتها، ثم بادرُوا إلى اللِّحاق بالقوم، فحازوا فضيلةَ الجهاد، وفضيلةَ الصلاة فى وقتها، وفهِمُوا ما يُراد منهم، وكانوا أفقهَ من الآخرين، ولا سيما تلك الصلاةَ، فإنها كانت صلاة العصر، وهى الصلاةُ الوسطى بنصِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيح الصريح الذى لا مدفعَ له ولا مطعن فيه، ومجىء السُّنَّة بالمحافظة عليها، والمبادرة إليها، والتبكير بها، وأن مَن فاتته، فقد وُتِرَ أهله وماله، أو قد حَبِطَ عملُه، فالذى جاء فيها أمرٌ لم يجىء مثلُه فى غيرها، وأما المؤخِّرون لها، فغايتهم أنهم معذورون، بل مأجورون أجراً واحداً لتمسُّكِهم بظاهر النص، وقصدهم امتِثَال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين فى نفس الأمر، ومَن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئاً، فحاشا وكلا، والَّذِينَ صلَّوْا فى الطريق، جمعوا بين الأدلة، وحصَّلُوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضاً رضى الله عنهم.
فإن قيل: كان تأخيرُ الصلاة للجهاد حينئذ جائزاً مشروعاً، ولهذا كان

عَقِبَ تأخير النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر يوم الخندق إلى الليل، فتأخيرُهم صلاة العصر إلى الليل، كتأخيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها يَوم الخندق إلى الليل سواء، ولا سيما أن ذلك كان قبل شروع صلاة الخوف.
قيل: هذا سؤال قوى، وجوابه من وجهين.
أحدهما: أن يقال: لم يَثبُت أن تأخيرَ الصلاةِ عن وقتها كان جائزاً بعد بيانِ المواقيت، ولا دليلَ على ذلِكَ إلا قصةُ الخندق، فإنها هى التى استدلّ بها مَنْ قال ذلك، ولا حُجَّةَ فيها لأنه ليس فيها بيانُ أن التأخير من النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عن عمد، بل لعله كان نسياناً، وفى القصة ما يُشْعِرُ بذلك، فإن عمر لما قال له: يا رسول الله، ما كِدْتُ أُصَلِّى العصر حتى كادت الشمس تغُربُ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "واللهِ مَا صَلَّيْتُه" ثم قام، فصلاها. وهذا مشعر بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ناسياً بما هو فيه مِن الشغل، والاهتمام بأمر العدو المحيطِ به، وعلى هذا يكون قد أخَّرَها بعذر النسيان، كما أخَّرها بعُذر النوم فى سفره، وصلاها بعد استيقاظه، وبعد ذكره لِتَتَأَسَّى أُمَّتُه به.
والجواب الثانى : أن هذا على تقدير ثبوته إنما هو فى حال الخوفِ والمُسايفة عند الدَّهش عن تعقُّلِ أفعالِ الصلاة، والإتيان بها، والصحابةُ فى مسيرهم إلى بنى قُريظة، لم يكونوا كذلك، بل كان حكمُهم حكمَ أسفارهم إلى العدو قبل ذلك وبعدهُ، ومعلومٌ أنهم لم يكونوا يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، ولم تكن قُريظة ممن يخاف فوتهم، فإنهم كانوا

مقيمين بدارهم، فهذا منتهى أقدام الفريقين فى هذا الموضع.
فصل
وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرايةَ علىَّ بن أبى طالب، واستخلفَ على المدينة ابنَ أمِّ مكتومٍ، ونازل حصُون بنى قُريظة، وحصرهم خمساً وعشرين ليلةً، ولمَّا اشتد عليهم الحِصَارُ، عرض عليهم رئيسُهم كعبُ بن أسد ثلاثَ خِصال: إما أن يُسْلِمُوا ويدخُلوا مع محمد فى دينه، وإما أن يقتلوا ذراريَهم، ويخرجوا إليه بالسيوف مُصلتة يناجِزُونه حتى يظفروا بِه، أو يُقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِه ويكبِسُوهم يومَ السبت، لأنهم قد أمِنُوا أن يُقاتِلوهم فيه، فأَبَوْا عليه أن يُجِيبُوهُ إلى واحدة منهن، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لُبابة بنَ عبد المنذر نستشيرُه، فلما رأوه، قاموا فى وجهه يبكون، وقالوا: يا أبا لُبابة ؛ كيف ترى لنا أن ننزِل على حكم محمد ؟ فقال: نعم، وأشارَ بيده إلى حلقه يقول: إنه الذَّبح، ثم عَلِمَ مِن فوره أنه قد خان الله ورسولَه، فمضى على وجهه، ولم يَرْجعْ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى المسجد مسجد المدينة، فربط نفسه بسارِيَة المسجد، وحلف ألا يحلَّه إلا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأنه لا يدخلُ أرضَ بنى قُريظة أبداً، فلما بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، قال: "دَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهَ عَلَيْهِ" ثم تاب الله عليه، وحلَّه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، ثم إنهم نزلُوا على حُكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقامَت إليه الأوسُ، فقالوا: يا رَسُولَ الله ؛ قد فعلتَ فى بنى قَيْنُقَاع ما قد عَلِمْتَ وهم حلفاءُ إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسِنْ فيهم، فقال: "ألاَ تَرْضوَْنَ أَنْ يَحْكُم فِيِهمْ رَجُلٌ مِنْكُم" ؟ قالوا: بلى. قال: "فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ

مُعَاذ". قالوا: قد رضينا، فأرسلَ إلى سعد بن معاذ، وكان فى المدينة لم يخرُج معهم لجُرح كان به، فأُرْكِبَ حماراً وجاء إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعلُوا يقولون له وهم كَنَفتاهُ: يا سَعْدُ ؛ أجمل إلى مواليَك، فأحْسِن فيهم، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكَّمك فِيهم لِتُحْسِنَ فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثرُوا عليه، قال: لقد آن لِسعد ألا تأخذه فى اللهِ لومةُ لائم، فلما سَمِعُوا ذلِكَ منه، رجعَ بعضُهم إلى المدينة، فنعى إليهم القومَ، فلما انتهى سعد إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال للصحابة: "قُومُوا إلَى سَيِّدكُم" فلما أنزلُوهُ، قالوا: يا سعدُ ؛ إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حُكمك، قال: وحكمى نافِذٌ عليهم ؟. قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين ؟ قالوا: نعم. قال: وعلى مَن هاهنا وأعرض بوجهِهِ، وأشار إلى ناحية رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالاً له وتعظيماً ؟ قال: "نعم، وعلىَّ". قال: فإنى أحكم فيهم أن يُقتل الرِّجَالُ، وتُسْبىَ الذُّرِّيَّةُ، وتقسمَ الأموالُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الله مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَات" وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، وهرب عمرو بن سُعْدَى، فانطلق فلمْ يُعلم أين ذهب، وكان قد أبى الدخُول معهم فى نقض العهد، فلما حكم فيهم بذلك، أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل كُلِّ مَن جرت عليه الموسى منهم، ومَن لم يُنْبتْ أُلحِقَ بالذُرِّية، فحفر لهم خنادِقَ فى سوق المدينة، وضُرِبَتْ

أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، ولم يُقتل مِن النساء أحد سوى امرأة واحدة كانت طَرحَتْ على رأس سويد بن الصامت رحى، فقتلته، وجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، فقالوا لرئيسهم كعب بن أسد: يا كعبُ ؛ ما تراه يصنَعُ بنا ؟ فقال: أفى كل موطن لا تعقِلُونَ ؟ أما ترون الدَّاعى لا يَنْزعُ، والذاهِبُ منكم لا يرجعُ، هو واللهِ القتلُ.
قال مالك فى رواية بن القاسم: قال عبد الله بنُ أُبَىِّ لِسعد بن معاذ فى أمرهم: إنهم أحد جناحَىَّ، وهم ثلاثُمائَةِ دارع، وستمائة حاسر، فقال: قد آن لسعد ألا تأخذه فى اللهِ لومة لائم، ولما جىء بحُيَىّ بن أخطب إلى بين يديه، ووقع بصُره عليه، قال: أما والله ما لُمتُ نفسِى فى معاداتك، ولكن مَنْ يُغَالِب اللهَ يُغلبْ، ثم قال: يا أيُّها الناس ؛ لا بأسَ قدر الله وملحمةٌ كتبت على بنى إسرائيل، ثم حبس، فضربتْ عنقُه. واستوهب ثابت بن قيس الزبيرَ بن باطا وأهلهُ ومالَهُ من رسول الله، فوهبهم له، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك لى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووهب لى مالك وأهلك، فهم لك. فقال: سألتُكَ بيدى عندك يا ثابتُ إلا ألحقتنى بالأحبَّةِ، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، فهذا كُلُّهُ فى يهود المدينة، وكانت غزوة كل طائفة منهم عَقِبَ كُلِّ غزوة من الغزوات الكبار.
فغزوة بنى قَيْنُقَاع عقب بدر، وغزوة بنى النَّضير عقب غزوة أُحُد، وغزوة بنى قُريظة عقب الخندق.

وأما يهود خيبر، فسيأتى ذكر قصتهم إن شاء الله تعالى.
فصل
وكان هَدْيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا صالح قوماً فَنَقَضَ بعضُهم عهده، وصُلْحه، وأقرَّهم البَاقُونَ، ورضُوا به، غزا الجميعَ، وجعلهم كُلَّهُم ناقضين، كما فعل بِقُريظة، والنَّضير، وبنى قَيْنُقَاع، وكما فعل فى أهل مكة، فهذه سُنَّته فى أهل العهد، وعلى هذا ينبغى أن يَجرِىَ الحُكْمُ فى أهل الذِّمة كما صرَّح به الفقهاءُ من أصحاب أحمد وغيرهم، وخالفهم أصحابُ الشافعى فخصُّوا نقضَ العهد بمن نقضه خاصةً دون من رَضِىَ به، وأقرَّ عليه، وفرَّقُوا بينهما بأن عقد الذِّمة أقوى وآكدُ، ولهذا كان موضوعاً على التأبيد، بخلافِ عقد الهدنة والصلح.
والأوَّلون يقولون: لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وعقد الذِّمة لم يُوضع للتأبيد، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه، فهو كعقدِ الصُّلح الذى وضع للهُدنة بشرط التزامِهم أحكامَ ما وقع عليه العقدُ، قالوا: والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُوَقِّتْ عقدَ الصلح والهُدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة، بل أطلقه ما داموا كافِّين عنه، غيرَ محاربين له، فكانت تِلك ذمَّتهم، غير أن الجِزيةَ لم يكن نزل فرضُها بعدُ، فلما نزل فرضُها، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة فى العقد، ولم يغير حكمه، وصار مقتضاها التأبيد، فإذا نقض بعضهُم العهد، وأقرَّهم الباقُون، ورضُوا بذلك، ولم يُعلِموا به المسلمين، صارُوا فى ذلك كنقض أهل الصلح، وأهل العهد والصلح سواء فى هذا المعنى، ولا فرْق بينهما فيه، وإن افترقا من وجه آخر يُوضِّحُ

هذا أن المقرَّ الراضى الساكت إن كان باقياً على عهده وصُلحه، لم يجز قِتالُه ولا قتلُه فى الموضعين، وإن كان بذلك خارجاً عن عهده وصلحه راجعاً إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح، لم يفترِقِ الحالُ بين عقد الهُدنة وعقد الذمة فى ذلك، فكيف يكون عائداً إلى حاله فى موضع دون موضع، هذا أمر غيرُ معقول. توضيحُه: أن تجدد أخذِ الجزيةِ منه، لا يُوجب له أن يكونُ مُوفياً بعهده مع رضاه، وممالأته ومواطأته لمن نقض، وعدم الجزية يُوجب له أن يكون ناقضاً غادراً غيرَ موفٍ بعهده، هذا بيِّن الامتناع.
فالأقوال ثلاثة: النقض فى الصورتين، وهو الذى دلَّت عليه سُنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الكفار، وعدم النقض فى الصورتين، وهو أبعدُ الأقوالِ عن السُّنَّة، والتفريق بين الصورتين، والأُولى أصوبها وبالله التوفيق.
وبهذا القول أفتينا ولىَّ الأمرِ لما أحرقت النصارى أموالَ المسلمين بالشام ودورَهم، ورامُوا إحراقَ جامِعهم الأعظم حتَّى أحرقوا منارته، وكاد لولا دفعُ الله أن يحترِقَ كُلُّهُ، وعلم بذلك مَن علم من النصارى، وواطؤوا عليه وأقروه، ورضوا به، ولم يُعلِمُوا ولىَّ الأمر، فاستفتى فيهم ولىُّ الأَمرِ مَن حضره من الفقهاء، فأَفتيناه بانتقاض عهد مَن فعل ذلك، وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضى به، وأقر عليه، وأن حدَّه القتلُ حتماً، لا تخيير للإمام فيه، كالأسير، بل صار القتل له حَدّاً، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حَدّاً ممن هو تحت الذِّمة، ملتزماً لأحكام الله بخلاف الحربى إذا أسلم، فإن الإسلام يعصم دمه وماله، ولا يُقْتَلُ بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حُكم، والذِّمى الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر، وهذا الذى ذكرناه هو الذى تقتضيه نصوصُ الإمام أحمد وأُصوله،

ونص عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه، وأفتى به فى غير موضع.
فصل
وكان هَدْيُه وسُنَّته إذا صالح قوماً وعاهدهم، فانضاف إليهم عدوٌ له سواهم، فدخلوا معهم فى عقدهم، وانضاف إليه قوم آخرون، فدخلوا معه فى عقده، صار حُكم مَن حارب مَن دخل معه فى عقده من الكفار حكم مَن حاربه، وبهذا السبب غزا أهل مكة، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينهم وبينه عشرَ سنين، تواثبتْ بنو بكر بن وائل، فدخلت فى عهد قريش، وعقدها، وتواثبت خُزاعة، فدخلت فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعقده، ثم عدت بنو بكر على خُزاعة فبيتتهم، وقتلت منهم، وأعانتهم قريشٌ فى الباطن بالسلاح، فعدَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً ناقضين للعهد بذلك، واستجاز غزو بنى بكر بن وائل لِتعدِّيهم على حُلفائه، وسيأتى ذكر القصة إن شاء الله تعالى.
وبهذا أفتى شيخُ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانُوا عدوَّ المُسلمين على قتالهم، فأمدُّوهم بالمالِ والسلاح، وإن كانوا لم يَغزونا ولم يُحاربونا، ورآهم بذلك ناقضين للعهد، كما نقضت قريشٌ عهد النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعانتهم بنى بكر ابن وائل على حرب حلفائه، فكيف إذا أعان أهلُ الذمة المشركينَ على حرب المسلمين. والله أعلم.
فصل
وكانت تَقْدَمُ عليه رُسُلُ أعدائه، وهم على عداوته، فلا يَهيجُهم،

ولا يقتُلُهُم، ولما قَدِمَ عليه رسولا مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب: وهما عبد الله بن النواحة وابنُ أُثال، قال لهما: "فَمَا تَقُولانِ أَنْتُمَا" ؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقكُمَا" فجرت سُنَّته أَلاَّ يُقتلَ رسولٌ.
وكان هَديه أيضاً ألا يُحبس الرسولَ عنده إذا اختار دِينه، فلا يمنعه مِن اللحاق بقومه، بل يردُّه إليهم، كما قال أبو رافعٌ: بعثتنى قُريشٌ إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أتيتُهُ، وقع فى قلبى الإسلام، فقلت: يا رَسولَ الله؛ لا أرجع إليهم. فقال: "إنى لا أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أحْبِسُ البُرُدَ، ارْجعْ إليهم، فَإِنْ كَانَ فى قَلْبِكَ الّذِى فيهِ الآن، فارْجع".
قال أبو داود: وكان هذا فى المدة التى شرط لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يردَّ إليهم مَن جاء منهم، وإن كان مسلماً، وأما اليومَ، فلا يصلُح هذا.. انتهى.
وفى قوله: "لا أحْبِسُ البُرُد" إشعار بأن هذا حكم يختص بالرسُل مطلقاً، وأما ردُّه لمن جاء إليه منهم وإن كان مسلماً، فهذا إنما يكون مع الشرط، كما قال أبو داود، وأما الرسلُ، فلهم حكم آخر، ألا تراه لم يتعرض لرسولى مسيلمة وقد قالا له فى وجهه: نشهد أن مسيلمة رسول الله.
وكان من هَديه، أن أعداءه إذا عاهدوا واحداً من أصحابه على عهد

لا يضُرُّ بالمسلمين من غير رضاه، أمضاه لهم، كما عاهَدُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاه الحُسَيلَ أن لا يُقَاتِلاهم مَعَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمضى لهم ذلك وقال لهما: "انْصَرِفا، نَفِى لَهُم بعهدهم، ونَسْتَعينُ اللهَ عَلَيهم".
فصل
وصالح قريشاً على وضع الحرب بينَه وبينَهم عشرَ سنين، على أن مَن جاءه منهم مسلماً ردَّهُ إليهم، ومَنْ جاءَهُم مِن عنده لا يردُّونه إليه، وكان اللفظُ عاماً فى الرجال والنساء، فنسخَ الله ذلك فى حقِّ النساء، وأبقاه فى حقِّ الرجال، وأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يمتحنُوا مَن جاءهم مِن النساء، فإن عَلِمُوهَا مؤمِنةً، لم يردُّوها إلى الكُفَّار، وأمرهم بردِّ مهرها إليهم لما فات على زوجها مِن منفعة بُضعها، وأمر المسلمين أن يردُّوا على مَن ارتدَّتِ امرأتُهُ إليهم مهرَها إذا عاقبوا، بأن يجبَ عليهم ردُّ مهرِ المهاجرةِ، فيردونه إلى مَن ارتدَّت امرأتُهُ، ولا يردونها إلى زوجها المشرك، فهذا هو العِقابُ، وليس مِن العذاب فى شىء، وكان فى هذا دليل على أن خروج البُضع مِن ملك الزوج متقوَّم، وأنه متقوَّمٌ بالمسمَّى الذى هو ما

أنفق الزوجُ لا بمهرِ المثل، وأن أنكحة الكفار لها حُكم الصحة، لا يُحكم عليها بالبطلان، وأنه لا يجوز ردُّ المسلمة المهاجرة إلى الكفَّارِ ولو شرط ذلك، وأن المسلمة لا يَحِلُّ لها نكاحُ الكافر، وأن المسلم له أن يتزوَّجَ المرأة المهاجرة إذا انقضت عدَّتُها، وآتاها مهرَها، وفى هذا أبينُ دلالة على خروج بُضعها مِن ملك الزوج، وانفساخِ نكاحها منه بالهجرة والإسلام.
وفيه دليلٌ على تحريمِ نكاحِ المشركة على المسلم، كما حرم نكاحُ المسلمة على الكافر.
وهذه أحكامُ استفيدت من هاتين الآيتين، وبعضُها مجمع عليه، وبعضُها مختلف فيه، وليس مع مَن ادعى نسخَها حُجَّةٌ البتة، فإن الشرطَ الذى وقع بين النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الكفار فى ردِّ مَن جاءه مسلماً إليهم، إن كان مختصاً بالرجال، لم تدخل النساء فيه، وإن كان عاماً للرجال والنساء، فالله سبحانه وتعالى خصّص منه ردَّ النساء ونهاهم عن ردِّهن، وأمرهم بِرَدِّ مهورِهنّ، وأن يردوا منها على مَن ارتدَّت امرأتُه إليهم من المسلمين المهرَ الذى أعطاها، ثم أخبر أن ذلك حكمُه الذى يحكُمُ به بين عباده، وأنه صادر عن علمه وحِكمته، ولم يأت عنه ما يُنافى هذا الحكم، ويكونُ بعده حتى يكون ناسخاً.
ولما صالحهم على ردِّ الرجالِ، كان يُمكِّنهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يُكْرِهُهُ على العود، ولا يأمره به، وكان إذا قتل منهم، أو أخذ مالاً، وقد فصل عن يده، ولما يلحق بهم، لم يُنْكِرْ عليه ذلك، ولم يضمنه لهم، لأنه ليس تحت قهره، ولا فى قبضته، ولا أمرَه بذلك، ولم يقتضِ

عقدُ الصلح الأمانَ على النفوس والأموال إلا عمن هو تحت قهره، وفى قبضته، كما ضَمِنَ لبنى جُذَيْمَةَ ما أتلفه عليهم خالدٌ مِن نفوسهم وأموالهم، وأنكره، وتبرأ منه. ولما كان إصابُته لهم عن نوع شُبهة، إذْ لم يقولُوا: أسلمنا، وإنما قالوا: صبأنَا، فلم يَكُنْ إسلاماً صريحاً، ضَمِنهم بنصف دياتِهم لأجل التأويل والشبهة، وأجراهم فى ذلك مجرى أهل الكتاب الذين قد عصمُوا نفوسَهم وأموالهم بعقدِ الذمة ولم يدخلوا فى الإسلام، ولم يقتض عهدُ الصلح أن ينصُرَهم عَلى مَن حاربهم ممن ليس فى قبضة النبى

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحت قهره، فكان فى هذا دليل على أن المعَاهَدِينَ إذا غزاهُم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفى يده، وإن كانوا من المسلمين أنه لا يجِبُ على الإمام ردُّهم عنهم، ولا منعُهم من ذلك، ولا ضمانُ ما أتلفوه عليهم.
وأخذُ الأحكام المتعلقةِ بالحرب، ومصالح الإسلام، وأهلِه، وأمره، وأمورِ السياسات الشرعية من سيره، ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال، فهذا لون، وتلك لون. وبالله التوفيق.
فصل
وكذلك صالحَ أهلَ خيبرَ لما ظهر عليهم على أن يُجْلِيَهُمْ منها، ولَهُمْ ما حملَتْ رِكَابُهم، ولرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفراءُ والبيضَاءُ، والحَلْقَةُ، وهى السلاح. واشترط فى عقد الصلح ألا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً، فإن فعلُوا، فلا ذِمة لهم، ولا عهد، فغيَّبُوا مَسْكاً فيه مال وَحُلِىٌ لِحُيَىّ بنِ أَخْطَب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعم حُيَىّ ابنِ أَخطب، واسمه سَعْيةُ: "مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَىٍّ الَّذِى جَاءَ بهِ مِنَ النَّضير" ؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: "العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذلِكَ". وقد كان حُيَىّ قُتِلَ مع بنى قُريظة لمَّا دخل معهم، فدفع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمَّه إلى الزُّبير ليستقِرَّه، فَمَسَّهُ بعذاب، فقال: "قَدْ رَأَيْتُ حُييَّاً يَطُوفُ فى خَربَةٍ ههنا. فذهبوا فطافُوا، فوجدوا المَسك فى الخَرِبَةَ، فقتلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنى أبى الحُقَيْقِ، وأحدهما زوج صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنَّكْثِ الَّذى نَكَثُوا، وأرادَ أن يُجليهم مِن خيبر، فقالوا: دعنا نكون فى هذه الأرض

نُصلِحُهَا ونقومُ عليها، فنحنُ أعلمُ بها منكم، ولم يكن لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لأصحابه غِلمان يكفونهم مؤنتها، فدفعها إليهم على أن لِرسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ شىءٍ يخرُج منها مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وعَلَى أَنْ يُقِرَّهُم فِيهَا مَا شَاء.
ولم يعمَّهم بالقتل كما عمَّ قُريظة لاشتراك أولئك فى نقض العهد، وأما هؤلاء فالذين عَلِمُوا بالمَسك وغيَّبُوه، وشرطوا له إن ظهر، فلا ذِمة لهم ولا عهد، فإنه قتلَهم بشرطهم على أنفسهم، ولم يتعدَّ ذلك إلى سائر أهلِ خيبر، فإنه معلوم قطعاً أن جميعَهم لم يعلمُوا بمَسك حُيَىّ، وأنه مدفون فى خَرِبَةٍ، فهذا نظيرُ الذِّمىِّ والمعاهَدِ إذا نقض العهدَ، ولم يُمالِثه عليه غيرُه، فإن حكم النقض مختصٌ به.
ثم فى دفعه إليهم الأرضَ على النصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة، وكون الشجر نخلاً لا أثر له البتة، فحكم الشىء حكم نظيره، فَبَلَدٌ شجرُهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار فى الحاجة إلى ذلك، حكمه حكم بلد شجرُهُمْ النخل سواء، ولا فرق.
وفى ذلك دليل على أنه لا يُشترط كونُ البذر من ربِّ الأرضِ،

فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالحهم عن الشطر، ولم يُعْطِهم بذراً البتة، ولا كان يُرسِلُ إليهم بِبِذر، وهذا مقطوع به مِن سِيرته، حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لو قِيل باشتراط كونه مِن العامل، لكان أقوى من القول باشتراط كونِه من ربِّ الأرض، لموافقته لِسُنَّة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أهل خيبر.
والصحيح: أنه يجوز أن يكون من العامل، وأن يكونَ مِن ربِّ الأرض، ولا يُشترط أن يختصّ به أحدُهما، والذين شرطُوه من ربِّ الأرض، ليس معهم حُجةٌ أصلاً أكثرَ من قياسهم المزارعة على المُضاربة، قالوا: كما يُشترط فى المضاربة أن يكون رأسُ المالِ مِن المالك، والعملُ من المضارب، فهكذا فى المزارعة، وكذلك فى المساقاة يكون الشَّجرُ مِن أحدهما، والعملُ عليها من الآخر، وهذا القياسُ إلى أن يكون حجةً عليهم أقربُ من أن يكون حجةً لهم، فإن فى المضاربة يعودُ رأسُ المال إلى المالك، ويقتسمان الباقى، ولو شرط ذلك فى المزارعة، فسدت عندهم، فلم يُجْرُوا البِذْرَ مجرى رأس المال، بل أجَروْهُ مجرى سائر البقل، فبطل إلحاق المزارعة بالمضاربة على أصلهم.
وأيضاً فإن البذر جارٍ مجرى الماء، ومجرى المنافع، فإن الزرعَ لا يتكون وينمُو به وحده، بل لا بُد من السقى والعملِ، والبِذرُ يموتُ فى الأرض، ويُنشىء الله الزرعَ مِن أجزاء أُخر تكون معه من الماء والريح، والشمسِ والتراب والعمل، فحكم البذرِ حكمُ هذه الأجزاء.
وأيضاً فإن الأرض نظيرُ رأس المال فى القِراض، وقد دفعها مالكُها إلى المُزارع، وبِذرُها وحرثُهَا وسقيُهَا نظيرُ عمل المضارب، وهذا يقتضى أن يكون المزارع أولى بالبِذر مِن ربِّ الأرض تشبيهاً له بالمضارب، فالذى جاءت به السُّنَّة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأُصوله.

وفى القصةِ دليل على جواز عقدِ الهُدنة مطلقاً مِن غير توقيت، بل ما شاء الإمامُ، ولم يجىء بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم البتة، فالصوابُ جوازه وصحته، وقد نصَّ عليه الشافعىُّ فى رِواية المزنى، ونص عليه غيرُه من الأئمة، ولكن لا ينهضُ إليهم ويُحاربهم حتى يُعْلِمَهُمْ على سواء ليستووا هُمْ وهُوَ فى العلم بنقض العهد.
وفيها دليل على جواز تعزيرِ المتهم بالعُقُوبة، وأن ذلك مِن السياسات الشرعية، فإنَّ الله سبحانه كان قادراً على أن يَدُلَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على موضع الكنز بطريق الوحى، ولكن أراد أن يَسُنَّ لِلأُمَّةِ عقوبةَ المتهمين، ويُوسِّعَ لهم طُرُقَ الأحكام رحمة بهم، وتيسيراً لهم.
وفيها دليل على الأخذ بالقرائن فى الاستدلال على صِحةِ الدَّعوى وفسادها، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِعْيَةَ لما ادَّعى نفادَ المال: "العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ".
وكذلك فعل نبى الله سليمان بن داود فى استدلاله بالقرينة على تعيين أم الطفل الذى ذهب به الذئب، وادَّعت كل واحدة من المرأتين أنه ابنُها، واختصمتا فى الآخر، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا إلى سُليمان، فقال: بِم قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِىُّ الله ؟ فأخبرتاه. فقال: ائتونى بالسِّكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعلْ رحمك الله، هو ابنُهَا، فقضى به للصغرى فاستدل بقرينةِ الرحمة والرأفة التى فى قلبها، وعدم سماحتها بقتله وسماحة الأخرى بذلك، لتصير أُسوتها فى فقد الولد على أنه ابن الصغرى.

فلو اتفقت مثلُ هذه القضية فى شريعتنا، لقال أصحابُ أحمد والشافعى ومالك رحمهم الله: عمل فيها بالقافة، وجعلوا القافة سبباً لترجيح المدعى للنسب رجلاً كان أو امرأةً.
قال أصحابُنا: وكذلك لو ولدت مسلمةُ وكافرةُ وَلَدَيْنِ، وادَّعَتِ الكافرةُ ولد المسلمة، وقد سُئل عنها أحمد، فتوقف فيها. فقيل له: ترى القافة ؟ فقال: ما أحْسَنَهَا، فإن لم تُوجد قافةٌ، وحكم بينهما حاكم بمثل حُكم سليمان، لكان صواباً، وكان أولى من القُرعة، فإنَّ القُرعة إنما يُصار إليها إذا تساوى المدعيانِ من كل وجه، ولم يترجَّحْ أحدُهما على الآخر، فلو ترجَّح بيد أو شاهد واحد، أو قرينة ظاهرة مِن لَوْثٍ، أو نُكولِ خصمه عن اليمين، أو موافقةِ شاهد الحال لصدقه، كدعوى كل واحد من الزوجين ما يصلُح له من قماش البيت والآنية، ودعوى كل واحد من الصانعين آلات صنعته، ودعوى حاسِر الرأس عن العمامة عمامة مَن بيده عمامة، وهو يشتد عدواً، وعلى رأسه أخرى، ونظائر ذلك، قُدِّمَ ذلِكَ كله على القُرْعة.
ومن تراجم أبى عبد الرحمن النسائى على قصة سليمان: "هذا باب، الحكم يُوهم خِلافَ الحق، ليستعلم به الحقَّ"، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقص علينا هذه القصة لنتخذها سمراً، بل لنعتبرَ بها فى الأحكام، بل الحكم بالقَسامة وتقديم أيمان مدعى القتل هو من هذا استناداً إلى القرائن الظاهرة، بل ومن هذا رجمُ الملاعنة إذا التعنَ الزوجُ ونكَلَتْ عن الالتعان. فالشافعى

ومالك رحمهما الله، يقتلانِها بمجرد التعان الزوج، ونكولها استناداً إلى اللَّوْثِ الظاهر الذى حصل بالتعانه، ونكولها.
ومن هذا ما شرعه الله سبحانه وتعالى لنا مِن قبول شهادة أهلِ الكتاب على المسلمين فى الوصيةِ فى السفر، وأن وليي الميت إذا اطَّلعا على خِيانة من الوصيين، جاز لهما أن يحلفا ويستحقا ما حلفا عليه، وهذا لوثٌ فى

الأموال، وهذا نظير اللَّوثِ فى الدماء، وأولى بالجواز منه، وعلى هذا إذا اطلع الرجلُ المسروقُ مالُه على بعضه فى يد خائِنٍ معروفٍ بذلك، ولم يتبين أنه اشتراه من غيره، جاز له أن يَحْلِفَ أن بقية ماله عنده، وأنه صاحبُ السرقة استناداً إلى اللَّوث الظاهر، والقرائن التى تكشف الأمر وتوضحه، وهو نظيرُ حَلفِ أولياءِ المقتولِ فى القَسَامَةِ أَن فلاناً قتله: سواء، بل أمرُ الأموالِ أسهلُ وأخفُّ، ولذلك ثبت بشاهدٍ ويمينٍ، وشاهدٍ وامرأتين، ودعوى ونكولٍ، بخلاف الدماء. فإذا جاز إِثْباتُهَا باللَّوثِ، فإثباتُ الأموال به بالطريق الأولى والأحرى.
والقرآن والسُّنَّة يدلان على هذا وهذا، وليس مع مَن ادَّعى نسخَ ما دلَّ عليه القرآن من ذلك حُجَّةُ أصلاً، فإن هذا الحكم ُ فى سورة "المائدة"، وهى مِن آخر ما نَزَلَ مِن القرآن، وقد حكم بموجبِهَا أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَه، كأبى موسى الأشعرى، وأقرَّه الصحابةُ.
ومن هذا أيضاً ما حكاه الله سبحانه فى قصة يوسف مِن استدلال الشاهد بِقرينةِ قَدِّ القميصِ مِنْ دُبُرٍ على صِدقه، وكذبِ المرأة، وأنه كان هارباً مُوَلِّياً، فأدركته المرأةُ مِن ورائه، فجبذته، فقدَّت قميصه مِنْ دُبُرٍ، فعلم بعلُها والحاضرونَ صدقه، وقبلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنبَ ذنبها، وأمروها بالتوبة، وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرِّرٍ له غيرِ

منكر، والتَّأَسِّى بذلك وأمثاله فى إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا فى مجرَّدِ حكايته، فإنه إذا أخبر به مقراً عليه، ومُثنياً على فاعله، ومادحاً له، دل على رضاه به، وأنه موافق لحكمه ومرضاته، فليُتَدَبَّر هذا الموضعُ، فإنه نافع جداً، ولو تتبعنا ما فى القرآن والسُّنَّة، وعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من ذلك لطال، وعسى أن نُفْرِدَ فيهِ مصنفاً شافياً إن شاء الله تعالى. والمقصود: التنبيه على هَديه، واقتباس الأحكام من سيرته، ومغازِيهِ، ووقائعه صلواتُ الله عليه وسلامه.
ولما أَقَرَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خيبر فى الأرض، كان يبعثُ كلَّ عام مَن يَخْرُصُ عليهم الثمارَ، فينظُرُ: كَمْ يُجنى منها، فَيُضمنهم نصيبَ المسلمين، ويتصرفون فيها.

وكان يكتفى بخارص واحد. ففى هذا دليل على جواز خَرْصِ الثمار البادى صلاحُها كثمر النخل، وعلى جواز قسمة الثمار خرصاً على رؤوس النخل، ويصيرُ نصيبُ أحد الشريكين معلوماً وإن لم يتميز بعد لمصلحة النماء، وعلى أن القسمة إفراز لا بيع، وعلى جواز الاكتفاء بخارص واحد، وقاسمٍ واحد، وعلى أنَّ لِمن الثمارُ فى يده أن يتصرَّف فيها بعد الخرص، ويَضْمَن نصيبَ شريكه الذى خرص عليه.
فلما كان فى زمن عمر، ذهب عبدُ الله ابنه إلى ماله بخيبر، فَعَدَوْا عليه، فألقوه من فوق بيت، ففكُّوا يده فأجلاهم عمر منها إلى الشام، وقسمها بين مَن كان شهد خيبر من أهل الحُديبية.
فصل
وأما هَديه فى عَقد الذِّمة وأخذِ الجزية، فإنَّهُ لم يأخذ مِن أحد من الكفار جزيةً إلا بعد نزول سورة "براءة" فى السنة الثامنةِ مِن الهجرة، فلما نزلت آية الجِزية، أخذها مِن المجوس، وأخذها مِن أهل الكتاب، وأخذها مِن النصارى، وبعث معاذاً رضى الله عنه إلى اليمن، فعقد لمن لم يُسْلِم مِن يهودها الذِّمة، وضرب عليهم الجزيةَ، ولم يأخذها من يهودِ

خيبر، فظن بعض الغالِطين المخطئين أن هذا حكم مختصٌ بأهل خيبر، وأنه لا يؤخذ منهم جزيةٌ وإن أُخِذَتْ منِ سائر أهل الكتاب، وهذا مِن عدم فقهه فى السير والمغازى، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلهم وصالحهم على أن يُقِرَّهم فى الأرض ما شاء، ولم تكن الجزيةُ نزلت بعد، فسبق عقدُ صلحهم وإقرارُهم فى أرض خيبر نزولَ الجزية، ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يُقاتِلَ أهلَ الكِتاب حتى يُعطوا الجزية، فلم يدخل فى هذا يهودُ خيبر إذ ذاك، لأن العقد كان قديماً بينه وبينهم على إقرارهم، وأن يكونوا عمالاً فى الأرض بالشطر، فلم يُطالبهم بشىء غيرِ ذلك، وطالبَ سواهم من أهل الكتاب ممن لم يكن بينه وبينهم عقدٌ كعقدهم بالجزية، كنصارى نجرانَ، ويهودِ اليمن، وغيرِهم، فلما أجلاهم عمرُ إلى الشام، تغيّر ذلك العقدُ الذى تضمن إقرارَهم فى أرض خيبر، وصار لهم حكمُ غيرهم مِن أهل الكتاب.
ولما كان فى بعض الدول التى خفيت فيها السُّنَّة وأعلامها، أظهر طائفة منهم كتاباً قد عَتَّقُوهُ وزوَّرُوهُ، وفيه: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط عن يَهودِ خيبر الجزية، وفيه: شهادةُ على بن أبى طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة مِن الصحابة رضى الله عنهم، فراج ذلك على مَنْ جَهِلَ سُنَّة رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومغازيَه وسِيَرَه، وتوهَّموا، بل ظنوا صِحته، فَجَروْا على حُكم هذا الكتاب المزور، حتى أُلقى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه وطُلِبَ منه أن يُعين على تنفيذه، والعملِ عليه، فبصق عليه، واستدلّ على كذبه بعشرة أوجه:
منها : أن فيه شهادةَ سعد بن معاذ، وسعد توفى قبل خيبر قطعاً.
ومنها: أن فى الكتاب، أنه أسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن

نزلت بعد، ولا يعرِفها الصحابة حينئذ، فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام.
ومنها: أنه أسقط عنهم الكُلَفَ والسُّخَرَ، وهذا محال، فلم يكن فى زمانه كُلَفٌ ولا سُخَرٌ تُؤخذ منهم، ولا مِن غيرهم، وقد أعاذه الله، وأعاذ أصحابَه مِن أخذ الكُلَفِ والسُّخَرِ، وإنما هى من وضع الملوكِ الظَّلمة، واستمر الأمر عليها.
ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحدٌ من أهل المغازى والسير، ولا أحدٌ من أهل الحديث والسُّنَّة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحدٌ من أهل التفسير، ولا أظهروه فى زمان السَلَف، لعلمهم أنهم إن زوَّروا مثلَ ذلك، عرفوا كذبَه وبُطلانه، فلما استخفُّوا بعضَ الدول فى وقت فتنةٍ وخفاء بعض السُّنَّة، زوَّروا ذلك، وعتَّقوهُ وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمعُ بعضِ الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمرَّ لهم ذلك حتى كشف الله أمره، وبيَّن خلفاءُ الرسل بطلانه وكذبَه.
فصل
فلما نزلت آيةُ الجزية، أخذها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ثلاث طوائف: مِن المجوسِ، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام. فقيل: لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء، ومَن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه. وقيل: بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول: قول الشافعى رحمه الله، وأحمد،

فى إحدى روايتيه. والثانى: قولُ أبى حنيفة، وأحمد رحمهما الله فى الرواية الأخرى.
وأصحاب القول الثانى يقولون: إنما لم يأخذها مِنْ مشركى العربِ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب، ولم يبق فيها مُشِركٌ، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخولِ العربِ فى دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ، وكانُوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانُوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين.
ومن تأمَّل السِّيَرَ، وأيامَ الإسلام، علم أن الأمرَ كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهلِ كتاب، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه، ولا يصح سنده.
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار، وعُبَّاد الأصنام، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن فى عُبَّاد النار، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما ثبت عنه فى "صحيح مسلم" أنه قال: "إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عنهم". ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ، أَو الجِزْيَةِ، أو يُقَاتِلَهم.

وقال المغيرة لعاملِ كسرى: "أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله، أو تؤدُّوا الجزية".
وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقريش: "هَلْ لَكُمْ فى كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤدَّى العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ" ؟. قالُوا: ما هى ؟ قال: "لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله".
فصل
"ولما كان فى مرجعه من تبوك، أخذت خَيْلُه أُكْيدِرَ دُوْمَةَ، فصالحه على الجزية، وحقن له دمه".

"وصالحَ أهلَ نجران مِن النصارى على ألفى حُلَّةٍ. النِّصْفُ فى صفر، والبقيةُ فى رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعاريَّة ثلاثين دِرعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين مِن كُلِّ صِنف من أصناف السلاح، يغزُون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كَيْدٌ أو غَدْرَةٌ، على ألا تُهدم لهم بَيْعة، ولا يُخرج لهم قَسٌ، ولا يُفتنوا عن دينهم ما لم يُحْدِثُوا حَدَثاً أَو يَأْكُلُوا الرَّبا".
وفى هذا دليل على انتقاض عهد الذِّمة بإحداث الحَدَث، وأكلِ الرِّبا إذا كان مشروطاً عليهم.
ولما وجه معاذاً إلى اليمن، "أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَ المَعَافِرِىِّ، وهى ثيابٌ تكون باليمن".
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس، ولا القدرِ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين، واحتمال مَن تؤخذ منه، وحاله فى الميسرة، وما عنده من المال.

ولم يفرِّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا خلفاؤه فى الجزية بين العربِ والعجم، بل أخذها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نصارى العرب، وأخذها مِن مجوس هجر، وكانوا عرباً، فإن العرب أمةٌ ليس لها فى الأصل كتاب، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ، وتنوخَ، وبُهْرَة، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن، فأجرى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحكامَ الجِزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلُوا فى دينِ أهل الكتاب: هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرِفُونَ ذلك، وكيف ينضبط وما الذى دلَّ عليه ؟ وقد ثبت فى السير والمغازى، أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إكْرَاهَ فِى الدِّينِ} [البقرة: 256]، وفى قوله لمعاذ: "خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً" دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذى رواه عبد الرزاق فى "مصنفه" وأبو عبيد فى "الأموال" أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ معاذَ بن جبل: أن يأخذ مِن اليمن الجزية مِن كل حالم أو حالمة، زاد أبو عبيد: "عبداً أو أمةً، ديناراً أو قيمته من المعافرِى" فهذا فيه أخذها من الرجل والمرأة، والحر

والرقيق ؟ قيل: هذا لا يصح وصله، وهو منقطع، وهذه الزيادة مختلف فيها، لم يذكرها سائر الرواة، ولعلها من تفسير بعض الرواة.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود والترمذى، والنسائى، وابن ماجه، وغيرهم هذا الحديث، فاقتصروا على قوله: أمره "أن يأخذ من كل حالم ديناراً" ولم يذكروا هذه الزيادة، وأكثر مَنْ أخذ منهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزية العرب مِنَ النصارى، واليهود، والمجوس، ولم يكشف عن أحد منهم متى دخل فى دينه، وكان يعتبرهم بأديانهم لا بآبائهم.

فصل: فى ترتيب سياق هَديه مع الكفار والمنافقين، من حين بُعِث إلى حين لقى الله عَزَّ وجَلَّ

أوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسمِ ربه الذى خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ فى نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: {يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1-2] فنبأه بقوله: {اقْرَأْ} ، وأرسله ب {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ثم أمره أن يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِينَ، ثم أنذر قومَه، ثم أنذرَ مَنْ حَوْلَهُم مِن العرب، ثم أنذر العربَ قاطبة، ثم أنذر

العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوته يُنْذِرُ بالدعوة بغير قتال ولا جِزية، ويُؤمر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح.
ثم أُذِنَ له فى الهجرة، وأُذِنَ له فى القتال، ثم أمره أن يُقاتِلَ مَن قاتله، ويَكُفَّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمرِ بالجهاد ثلاثة أقسام: أهلُ صُلح وهُدنة، وأهلُ حرب، وأهلُ ذِّمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يُوفى لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خِيانة، نبذَ إليهم عهدهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أن يقاتل مَن نقض عهده. ولما نزلت سورة "براءة" نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يُقاتِلَ عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَةَ، أو يدخلوا فى الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيفِ والسنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ واللِّسان.
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعلَ أهلَ العهد فى ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهده، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد مُؤقَّت لم ينقضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمره أن يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يُحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يُؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهى الأشهر الأربعة المذكورة فى قوله:
{فَسِيحُواْ فِى الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وهى الحُرُمُ المذكورة فى قوله: {فإذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتلُواْ الْمُشرِكيِنَ} [التوبة: 5]. فالحُرُم ههنا: هى أشهر التسيير، أولها يومُ الأذان

وهو اليومُ العاشر من ذى الحِجة، وهو يومُ الحجِّ الأكبر الذى وقع فيه التأذين بذلك، وآخِرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هى الأربعة المذكورة فى قوله: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فى كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] فإن تلك واحِد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذُو القَعدة، وذو الحِجة، والمحَرَّمُ، ولم يسير المشركين فى هذه الأربعة، فإن هذا لا يُمكن، لأنها غيرُ متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يُقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفى بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية.
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام: محاربينَ له، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذِمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمِن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.

وأما سيرته فى المنافقين، فإنه أُمِرَ أن يَقبل مِنهم علانيتَهم، ويَكِلَ سرائِرَهم إلى الله، وأن يُجاهِدَهم بالعِلم والحُجَّة، وأمره أن يُعرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يَبْلُغَ بالقولِ البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلِّىَ عليهم، وأن يقومَ على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم، فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرتُه فى أعدائه مِن الكفار والمنافقين.
فصل
وأما سيرتُه فى أوليائه وحِزبه، فأمرهُ أن يَصْبِرَ نفسَه مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعشى يُريدون وجهه، وألا تعدُُوَ عيناه عنهم، وأمره أن يعفوَ عنهم، ويستغفِرَ لهم، ويُشَاوِرَهم فى الأمر، وأن يُصلِّى عليهم.
وأمره بهجر مَن عصاهُ، وتخلَّف عنه، حتى يتوبَ، ويُراجِعَ طاعته، كما هجر الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
وأمره أن يُقيمَ الحدودَ على مَن أتى موجباتِها منهم، وأن يكونُوا عنده فى ذلك سواء شَريفُهم ودنيئُهم.
وأمره فى دفع عدوِّه مِن شياطينِ الإنس، بأن يدفع بالتى هى أحسن، فيُقابل إساءة مَن أساء إليه بالإحسان، وجهلَه بالحِلم، وظلمَه بالعفو، وقطيعتَه بالصلة، وأخبره أنه إن فعل ذلك، عاد عدوُّه كأنه ولى حميم.
وأمره فى دفعه عدوه من شياطين الجن بالاستعاذة باللهِ منهم، وجمع له هذين الأمرين فى ثلاثة مواضع مِن القرآن: فى سورة "الأعراف" و"المؤمنين" وسورة "حم فصلت" فقال فى سورة الأعراف: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرَضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ

نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَمًيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199-200]. فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه، وجمع له فى هذه الآيةِ مكارِمَ الأخلاق والشيم كلها، فإن ولىَّ الأمر مع الرعية ثلاثة أحوال: فإنه لا بدَّ له مِن حقٍّ عليهم يلزمهم القيامُ به، وأمرٍ يأمرُهم به، ولا بُدَّ مِن تفريط وعُدوان يقع منهم فى حقه، فأُمِرَ بأن يأخذ من الحق الذى عليهم ما طوَّعَتْ به أنفسُهم وسمحت به، وسَهُلَ عليهم، ولم يَشُقَّ، وهو العفو الذى لا يلحقهم ببذله ضررٌ ولا مشقة، وأمر أن يأمرهم بالعُرْف، وهو المعروف الذى تَعرفُه العقولُ السليمة، والفِطَرُ المستقيمة، وتُقر بحسنه ونفعه، وإذا أمر به يأمر بالمعروف أيضاً لا بالعنف والغلظة. وأمره أن يُقابِلَ جهلَ الجاهلين منهم بالإعراض عنه، دون أن يُقابلَه بمثله، فبِذلك يكتفى شرهم.
وقال تعالى فى سورة المؤمنين: {قُل رَّبِّ إمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلِنْى فى القَوْمِ الظَّالمينَ وَإنَّا عَلَى أَنْ نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 93-98].
وقال تعالى فى سورة حم فُصِّلت: {وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فإذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36]، فهذه سيرته مع أهل الأرض إنسهم، وجنهم، مُؤمنهم، وكافرهم.

فصل: في سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار
وكان أوَّل لواء عقده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمزة بن عبد المطلب فى شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه، وكان لواءً أبيضَ، وكان حامِله أبو مَرْثَد كَنَّاز بن الحُصين الغَنَوى حليف حمزة، وبعثه فى ثلاثين رَجُلاً مِن المهاجرين خاصّة، يعترِضُ عِيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبُو جهل بن هشام فى ثلاثمائة رجل، فبلغوا سِيْفَ البحرِ من ناحية العِيصِ، فالتَقَوْا واصطفُّوا للقتال، فمشى مجدى بن عمرو الجُهنى، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتِلوا.
فصل
ثم بعث عُبَيْدَةَ بنَ الحارث بن المطلب فى سريَّة إلى بَطنِ رَابغ فى شوَّال على رأسِ ثمانية أشهر من الهجرة، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله مِسْطَحُ بن أُثَاثَة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانوا فى ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصارى، فلقى أبا سفيان بنَ حرب، وهو فى مائتين على بَطن رابغ، على عشرة أميالٍ من الجُحْفَةِ، وكان بينهم الرمىُ، ولم يَسُلُّوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، وكان سعدُ بن أبى وقاص فيهم، وهو أوَّلُ مَن رمى بسهم فى سبيل الله، ثم انصرف الفريقانِ على حاميتهم.

قال ابن إسحاق: وكان على القوم عِكرمة بنُ أبى جهل، وقدم سريَّة عُبيدة على سريَّة حمزة.
فصل
ثم بعثَ سعدَ بن أبى وقاصٍ إلى الخرَّارِ فى ذى القَعدة على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواءً أبيضَ، وحمله المقدادُ بنُ عمرو، وكانوا عشرين راكباً يعترِضُونَ عِيراً لقريش، وعَهِدَ أن لا يُجاوِزَ الخَرَّار، فخرجوا على أقدامهم، فكانوا يكمُنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى صبَّحوا المكان صَبِيحةَ خمس، فوجدوا العِير قد مرَّت بالأمس.
فصل
ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء، ويقال لها: وَدَّان، وهى أولُ غزوة غزاها بنفسه، وكانت فى صَفَر على رأس اثنى عشر شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءه حمزةُ بنُ عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعدَ بن عبادة، وخرج فى المهاجرين خاصة بعترِض عِيراً لقريش، فلم يلق كيداً، وفى هذه الغزوة وادع مخشىَّ بن عمرو الضَّمْرِى وكان سيِّدَ بنى ضَمْرة فى زمانه على ألا يغزو بنى ضَمْرَة، ولا يغزوه، ولا أن يُكثِّروا

عليه جمعاً، ولا يُعِينُوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وكانت غيبتُه خمسَ عشرة ليلة.
فصل
ثم غزا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُوَاطَ فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشرَ شهراً مِن مُهَاجَرِهِ، وحمل لواءَه سعدُ بنُ أبى وقاص، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة سعدَ بن معاذ، وخرج فى مائتين مِن أصحابه يعترِض عِيراً لقُريش، فيها أميةُ بنُ خلف الجُمحى، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بُواطاً، وهما جبلان فرعان، أصلهما واحد من جبالِ جُهينة، مما يلى طريقَ الشام، وبين بُواط والمدينة نحُوُ أربعةِ بُرُد، فلم يلق كيداً فرجع.

فصل
ثم خرج على رأسِ ثلاثة عشر شهراً مِن مُهَاجَرِه يطلب كُرْز بن جابر الفهرى، وحمل لِواءه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وكان كُرز قد أغار على سرح المدينة، فاستاقه، وكان يرعى بالحِمى، فطلبه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ وادياً يقال له: "سَفَوان" مِن ناحية بدر، وفاته كُرز ولم يلحقه، فرجع إلى المدينة.
فصل
ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جُمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيضَ، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وخرج فى خمسين ومائة، ويقال: فى مائتين مِن المهاجرين، ولم يُكْرِهْ أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يَعْتَقِبُونَها يَعْترِضُون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد كان جاءه الخبرُ بفصولها مِن مكة فيها أموالٌ لقريش، فبلغ ذَا العُشيرَةِ وقيل: العُشيراء بالمد. وقيل: العُسيرة بالمهملة وهى بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة بُرُد، فوجد العِيرَ قد فاتته بأيام، وهذه هى العيرُ التى خرج فى طلبها حين رجعت من الشام، وهى التى وعده الله إياها، أو المقاتلة، وذات الشَوْكة، ووفَّى له بوعده.

وفى هذه الغزوة، وادع بنى مُدْلِج وحُلفاءهم من بنى ضَمْرَة.
قال عبد المؤمن بن خلف الحافظ: وفى هذه الغزوة كنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً أبا تُراب، وليس كما قال، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما كَنَّاهُ أبا تراب بعد نكاحه فاطمة، وكان نِكاحُها بعد بدر، فإنه لما دخل عليها وقال: "أيْنَ ابْنُ عَمِّكِ" ؟ قالت: خَرَجَ مُغاضِباً، فجاءَ إلى المسجد، فوجده مضطجعاً فيه، وقد لصق به التراب، فجعل ينفُضه عنه ويقول: "اجْلِسْ أبا تُرابٍ، اجْلِسْ أبا تُرابٍ " وهو أول يوم كُنى فيه أبا تراب.
فصل
ثمَّ بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ فى رجب، على رأْسِ سبعةَ عشرَ شهراً مِن الهِجْرة، فى اثنى عشر رجلاً مِن المهاجرين، كُلُّ اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش، وفى هذِهِ السَّرِيَّة سمَّى عبدَ الله بن جحش أميرَ المؤمنين، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب له كِتاباً، وأمره أن لا ينظُرَ فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظُرَ فيه، ولما فَتحَ الكِتاب، وجد فيه: "إذَا نَظَرْتَ فى كِتَابى هذا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشَاً، وتَعْلَمَ لنا مِنْ أَخْبَارِهم" فقال: سمعاً وطاعةً، وأخبر أصحابَه بذلكَ، وبأنه لا يستكرِهُهم، فمن أحبَّ الشهادةَ، فلينهض، ومن كرِهَ الموت،

فليرجِعْ، وأما أنا فناهض، فَمَضَوْا كُلُّهم، فلما كان فى أثناء الطريق، أضلَّ سعدُ بن أبى وقاص، وعتبةُ بنُ غزوان بعيراً لهما كانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فتخلفا فى طلبه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جحش حتى نزل بِنخلة، فمرَّت به عِيرٌ لقريش تَحْمِلُ زبيباً وأَدَماً وتِجارةً فيها عَمْرو بن الحَضْرَمى، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكمُ بنُ كيسان مولى بنى المغيرة.
فتشاور المسلمُون وقالوا: نحن فى آخر يومٍ من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تركناهم الليلةَ، دخلوا الحَرَم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم، فرمى أحدُهم عَمْرو بن الحضرمى فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفْلَتَ نوفل، ثم قَدِمُوا بالعِير والأسيرين، وقد عزلوا مِن ذلك الخُمس، وهو أول خُمس كان فى الإسلام، وأول قتيل فى الإسلام، وأول أسيرين فى الإسلام، وأنكر رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم ما فعلوه، واشتدَّ تعنُّتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: قد أحلَّ محمد الشهرَ الحرَامَ، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ، والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
يقول سبحانه: هذا الذى أنكرتموه عليهم، وإن كان كبيراً، فما ارتكبتموه أنتم مِن الكفر بالله، والصدِّ عن سبيله، وعن بيتهِ، وإخراجِ المسلمين الذين هم أهلُه منه، والشِرك الذى أنتم عليه، والفتنة التى حصلت منكم به أكبرُ

عند اللهِ مِن قِتالهم فى الشهر الحرام، وأكثرُ السَلَف فسَّروا الفتنة ههنا بالشرك، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] ويدل عليه قوله: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا أنْ قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أى: لم يكن مآلُ شركهم، وعاقبته وآخرُ أمرهم، إلا أن تبرّؤوا منه وأنكروه.
وحقيقتها: أنها الشرك الذى يدعو صاحبُه إليه، ويُقاتِل عليه، ويُعاقب مَن لم يَفَتِتنْ به، ولهذا يُقال لهم وقتَ عذابهم بالنار وفتنتهم بها: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] قال ابن عباس: "تكذيبَكم"، وحقيقته: ذوقوا نهاية فتنتكم، وغايَتَها، ومصيرَ أمرها، كقولهِ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24]، وكما فتنوا عباده على الشرك، فُتِنُوا على النار، وقيل لهم: ذوقوا فتنتكم، ومنه قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} [البروج: 10] فُسِّرت الفتنةُ ههنا بتعذيبهم المؤمنين، وإحراقهم إياهم بالنار، واللَّفظُ أعمُّ من ذلك، وحقيقته: عذَّبُوا المؤمنين ليفتَتِنُوا عن دينهم، فهذه الفتنةُ المضافةُ إلى المشركين.
وأما الفتنة التى يُضيفها اللهُ سبحانه إلى نفسه أو يُضيفها رسولُه إليه، كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] وقول موسى: {إنْ هِىَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، فتلك بمعنى آخر، وهى بمعنى الامتحان، والاختبار، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر، بالنعم والمصائب، فهذه لون، وفتنةُ المشركين لون، وفتنة المؤمن فى ماله وولده وجاره لون آخر، والفتنة التى يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التى أوقعها بين أصحاب علىّ ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر، وهى الفتنة

التى قال فيها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، القَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، والقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ منَ المَاشى، والماشى فيها خَيْرٌ من السَّاعِى" وأحاديثُ الفتنة التى أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها باعتزال الطائفتين، هى هذه الفتنة.
وقد تأتى الفتنة مراداً بها المعصية كقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49] يقوله الجدُّ بنُ قيس، لما ندبه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوكَ، يقول: ائذن لى فى القُعود، ولا تفتنى بتعرضى لبنات بنى الأصفر، فإنى لا أَصْبِرُ عنهن، قال تعالى: {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة: 49]، أى: وقعوا فى فتنة النفاق، وفروا إليها مِن فتنة بناتِ الأصفر.
والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءَه من ارتكاب الإثم بالقتالِ فى الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ مِن مجردِ القتالِ فى الشهر الحرام، فهم أحقُّ بالذمِّ والعيبِ والعُقوبَةِ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأوِّلين فى قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفِره الله لهم فى جنب ما فعلوه مِن التوحيد والطاعات، والهِجرة مع رسوله، وإيثارِ ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذَا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ... جَاءَتْ مَحَاسِنُه بِأَلْفِ شَفِيع

فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكُلِّ قبيح، ولم يأت بشفيع واحد مِن المحاسن.
فصل
ولما كان فى شعبان من هذه السنة، حُوِّلت القِبْلة، وقد تقدم ذكرُ ذلك.

فصل: فى غزوة بدر الكبرى
فلما كان فى رمضانَ مِن هذه السنة، بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرُ العِير المقبلة من الشام لقريش صُحبةَ أبى سفيان، وهى العِير التى خرجوا فى طلبها لما خرجت مِن مكة، وكانوا نحو أربعين رجلاً، وفيها أموالٌ عظيمة لٍقريش، فندب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ للخروج إليها، وأمر مَن كان ظهرُه حاضراً بالنهوض، ولم يحْتَفِلْ لها احتفالاً بليغاً، لأنه خرج مُسْرِعاً فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ: فرس للزبير بن العوام، وفرسٌ للمِقداد بن الأسود الكِندى، وكان معهم سبعون بعيراً يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد، فكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلىّ، ومَرْثَدُ ابنُ أبى مَرْثَدٍ الغَنوى، يعتقِبُون بعيراً،

وزيدُ بن حارثة، وابنُه، وكبشةُ موالى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعتَقِبُونَ بعيراً، وأبو بكر، وعمر، وعبدُ الرحمن ابن عوف، يعتقِبُونَ بعيراً، واستخلف على المدينةِ وعلى الصلاة ابنَ أمِّ مكتوم، فلما كان بالرَّوحاءِ رد أبا لُبابة بنَ عبد المنذر، واستعمله على المدينة، ودفع اللِّواء إلى مُصعبِ بنِ عُمَير، والراية الواحدة إلى علىِّ بن أبى طالب، والأخرى التى للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيسَ بنَ أبى صَعْصَعَةَ، وسار، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهنى، وعدى ابن أبى الزغباء إلى بدر يتجسَّسان أخبارَ العِير، وأما أبو سفيان، فإنه بلغه مخرجَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقصده إياه، فاستأجر ضَمْضَمَ بنَ عَمْرو الغِفارى إلى مكة، مُستصْرخاً لقريش بالنَّفير إلى عِيرهم، ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مُسرِعين، وأوعبوا فى الخروج، فلم يتخلَّفْ من أشرافهم أحدٌ سوى أبى لهب، فإنَّه عوَّض عنه رجلاً كان له عليه دَيْن، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بنى عدى، فلم يخرُجْ معهم منهم أحد، وخرجوا مِن ديارهم كما قال تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال: 47]، وأقبلوا كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَه"، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين، وعلى حميَّةٍ،

وغضبٍ، وحَنَقٍ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِه، لما يُريدون مِن أخذ عيرهم، وقتل مَن فيها، وقد أصابُوا بالأمسِ عَمْرو بن الحضرمى، والعِير التى كانت معه، فجمعهم اللهُ على غير ميعاد كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ، وَلَكِنْ لِّيَقْضِىَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42].
ولما بلغَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خروجُ قريش، استشار أصحابه، فتكلَّم المهاجِرون فأحسَنُوا، ثم استشارهم ثانياً، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثاً، ففهمت الأنصارُ أنه يَعنيهم، فبادر سعدُ بنُ معاذ، فقال: "يا رسول الله، كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ؟" وكان إنما يَعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود فى ديارهم، فلما عزم على الخُروج، استشارهم لِيعلم ما عندهم، فقال له سعد: "لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا فى ديارها، وإنى أقول عن الأنصار، وأُجِيب عنهم: فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، واقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وخُذْ مِنْ أمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، ومَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَواللهِ لَئِن سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغ البَرْكَ مِنْ غمدَان، لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هذَا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ"، وقَالَ لَهُ المِقْدَادُ: "لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتِلا إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ". فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابِه، وقالَ: "سِيرُوا وأَبْشروا،فإنَّ الله قَدْ وَعَدَنى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وإنِّى

قَدْ رَأَيْتُ مَصارعَ القَوْمِ".
فسار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، وخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا، وأحرز العير، كتب إلى قريش: أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتُم لِتُحْرِزُوا عيركم. فأتاهم الخبرُ، وهم بالجُحْفَةِ، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل: واللهِ لا نرجع حتى نَقْدَمَ بدراً، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شُريق عليهم بالرجوع، فَعَصَوْه، فرجع هو وبنو زُهرة،
فلم يشهد بدراً زُهرى، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأى الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً، وأرادَتْ بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل،

وقال: لا تُفَارِقُنَا هذه العِصابة حتى نَرْجِعَ فساروا، وسارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل عشياً أدنى ماء مِن مياه بدر، فقال: "أَشيرُوا عَلَىَّ فى المَنْزِل". فقال الحُبَابُ بنُ المنذر: يا رسول الله؛ أنا عالم بها وبِقُلُبِهَا، إن رأيتَ أن نسيرَ إلى قُلُبٍ قد عرفناها، فهى كثيرة الماء، عذبة، فننزِلَ عليها ونَسبِقَ القوم إليها ونُغوِّر ما سواها مِن المياه.
وسار المشركون سِراعاً يريدون الماء، وبعث علياً وسعداً والزبير إلى بدر يلتمِسُون الخبر، فَقَدِمُوا بعبدين لقريش، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يُصلِّى، فسألهما أصحابُه: مَنْ أنتما ؟ قالا: نحن سُقاةٌ لِقريش، فكره ذلك أصحابه، وودُّوا لو كانا لِعير أبى سفيان، فلما سلَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهما:
"أخْبِرَانِى أيْنَ قُرَيْشٌ" ؟ قالا: وراء هذا الكثيب. فقال: "كم القومُ" ؟ فقالا: لا عِلم لنا، فقال: "كم ينحرونَ كُلَّ يوم" ؟ فقالا: يوماً عشراً، ويوماً تسعاً، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "القومُ ما بينَ تسعمائة إلى الألف"، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فى تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلاً طهَّرهم به، وأذهب عنهم رجْسَ الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ، وصلَّب به الرملَ، وثبَّتَ الأقدام، ومهَّدَ به المنزل، وربطَ به على قلوبهم، فسبق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطرَ الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على الحياض. وبُنِىَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عريش يكون فيها على تلٍّ يُشرِفُ على المعركة، ومشى

فى موضع المعركة، وجعل يُشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله، فما تعدى أحد منهم موضع إشارته.
فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعانِ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ هذه قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخيلائِها وفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحادُّك، وَتَكَذِّبُ رَسُولَكَ". وقام، ورفع يديه، واستنصر ربَّه وقال: "اللهُمَّ أنْجِزْ لى مَا وَعَدْتَنِى، اللهُمَّ إنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ" ، فالتزمه الصِّدِّيق من ورائه، وقال: "يا رسول الله؛ أبشر، فوالذى نفسى بيده، لَيُنجِزَنَّ الله لكَ ما وَعَدَكَ".
واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرَّعُوا إليهِ، فَأَوْحَى الله إلى مَلائِكَتِهِ: {أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ، سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]
وأَوْحَى الله إلى رسوله: {أنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] قرئ بكسر الدال ر

وفتحها فقيل: المعنى إنهم رِدْفٌ لكم. وقيل: يُرْدِفُ بعضُهم بعضاً أرسالاً لم يأتوا دَفعةً واحدة.
فإن قيل: ههنا ذكر أنه أمدَّهم بألفٍ، وفى سورة "آل عمران" قال: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى، إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124-125]، فكيف الجمع بينهما ؟
قيل: قد اختُلِفَ فى هذا الإمداد الذى بثلاثة آلاف، والذى بالخمسة على قولين:
أحدهما: أنه كان يومَ أُحُد، وكان إمداداً معلَّقاً على شرط، فلما فات شرطُه، فات الإمدادُ، وهذا قولُ الضحاك ومقاتِل، وإحدى الروايتين عن عِكرمة.
والثانى : أنه كان يومَ بدر، وهذا قولُ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والرواية الأخرى عن عِكرمة، اختاره جماعة من المفسِّرين. وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك، فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُم تَشْكُرونَ إذْ تَقُولُ لِلْمُؤمِنينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ

بَلَى، إن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} إلى أن قال: {وما جَعَلَهُ اللهُ } [آل عمران: 123-126] أى: هذا الإمداد {إلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} [آل عمران: 126]. قال هؤلاء: فلما استغاثوا، أمدَّهم بتمام ثلاثةِ آلاف، ثم أمدَّهم بتمامِ خمسة آلافٍ لما صبرُوا واتقوا، فكان هذا التدريجُ، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعاً، وأقوى لِنفوسهم، وأسرَّ لها من أن يأتى به مرةً واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحى ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقةُ الأولى: القصة فى سياق أُحُد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً فى أثنائها، فإنه سبحانه قال: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، وَاللهُ سَِميعٌ عَلِيمٌ إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أن تَفْشَلا واللهُ وَليُّهُما، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُون} [آل عمران: 121-122]، ثم قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهِ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [آل عمران: 123] فذكَّرهم نعمتَه عليهم لمَّا نصرهم ببدر، وهم أذلة، ثم عاد إلى قصةِ أُحُد، وأخبر عن قول رسوله لهم: {ألَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ } [آل عمران: 124]، ثم وعدهم أنهم إن صبرُوا واتَّقُوا، أمدَّهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسولِهِ، والإمداد الذى ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمدَادُ بدر بألف، وهذا معلَّق على شرط، وذلك مطلق، والقصة فى سورة "آل عمران" هى قصة أُحُد مستوفاة مطوَّلة، وبدر ذُكرت فيها اعتراضاً، والقصة فى سورة "الأنفال" قصة بدر مستوفاة مطوَّلة، فالسياق فى "آل عمران" غير السياق فى
"الأنفال".
يوضح هذا أن قوله: {وَيَأْتُوكُم مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125]، قد قال مجاهد: إنه يومُ أُحد، وهذا يستلزِمُ أن يكون الإمدادُ المذكور فيه، فلا يَصِحُّ قولُه: إن الإمداد بهذا العدد كان يومَ بدر، وإتيانُهم من فورهم هذا يومَ أُحُد.. والله أعلم.

فصل: [فى بدء القتال بالمبارزة ]
وباتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى إلى جِذْع شجرة هُناك، وكانت ليلةَ الجمعة السابع عشرَ من رمضان فى السنة الثانية، فلما أصبحوا، أقبلتْ قريشٌ فى كتائبها، واصطَف الفريقانِ، فمشى حكيمُ بنُ حِزام، وعُتبةُ بن ربيعة فى قريش، أن يرْجِعُوا ولا يقاتلوا، فأبى ذلك أبو جهل، وجرى بينه وبين عتبة كلامٌ أَحْفَظَهُ، وأمر أبو جهل أخا عَمْرو بن الحضرمى أن يطلب دَمَ أخيه عَمْرو، فكشف عن اسْتِهِ، وصرخ: واعَمْراهُ، فحمى القومُ، ونشَبتِ الحربُ، وعَدَّلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفوفَ، ثم رجع إلى العَريشِ هو وأبو بكر خاصة، وقام سعدُ بن معاذ فى قوم من الأنصار على باب العريشِ، يحمون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وخرج عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعة، والوليدُ بن عُتبة، يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثةٌ من الأنصار: عبدُ الله بن رواحة، وعوفٌ، ومُعَوٍّذٌ ابنا عفراء، فقالوا لهم: مَن أنتم ؟ فقالوا: من الأنصار. قالوا: أكفَاءٌ كِرام، وإنما نُريد بنى عمنا، فبرز إليهم علىٌ وعُبيدة بن الحارث وحمزةُ، فقتل علىُّ قِرْنَه الوليد، وقتل حمزة قِرنه عُتبة وقيل: شيبةُ واختلف عُبيدة وقِرنُه ضربتين، فكَّر علىُّ وحمزةُ على قِرن عُبيدة، فقتلاه واحتملا عُبيدة وقد قُطِعت رجله، فلم يزل ضَمِنَاً، حتى مات بالصَّفْراءِ.

وكان علىُّ يُقسِمُ بالله: لنزلت هذه الآيةُ فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآية.
ثم حمى الوطيسُ، واستدارت رَحى الحربِ، واشتدَّ القِتال، وأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الدعاء والابتهالِ، ومناشدة ربِّه عَزَّ وجَلَّ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فردَّه عليه الصِّدِّيق، وقال: بعضَ مُناشَدَتِكَ ربَّكَ، فإنَّهُ منجزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ.
فأغفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءة واحدة، وأخذ القومَ النعاسُ فى حال الحربِ، ثم رفعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسَه فقال: "أَبْشِرْ يا أَبَا بَكْر، هذا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاه النَّقْع".
وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيَّد رسوله والمؤمنين، ومنحهم

أكتافَ المُشركِينَ أسراً وقتلاً، فقتلوا منهم سبعين، وأَسرُوا سبعينَ.
فصل
ولما عزموا على الخروج، ذكروا ما بينهم وبينَ بنى كنانة مِن الحرب، فتبدَّى لهم إبليسُ فى صورة سُراقة بن مالك المُدْلجى، وكان مِن أشراف بنى كنانة، فقال لهم: لا غَالِبَ لكم اليومَ من الناس، وإنى جارٌ لكم من أن تأتيكم كِنانة بشىءٍ تكرهُونه، فخرجوا والشيطانُ جارٌ لهم لا يُفارقهم، فلما تعبَّؤوا للقتال، ورأى عدوُّ الله جندَ اللهِ قد نزلت مِن السماء، فرَّ، ونَكَصَ على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سُراقة ؟ ألم تكن قُلْتَ: إنك جار لنا لا تُفَارِقُنَا ؟ فقال: إنى أرى ما لا ترون، إنى أخاف اللهَ، واللهُ شديدُ العِقَاب، وصدق فى قوله: إنى أرى ما لا ترون، وكذب فى قوله: إنى أخاف اللهَ. وقيل: كان خوفه على نفسه أن يَهْلِكَ معهم، وهذا أظهر.
ولما رأى المنافقون ومَن فى قلبه مرض قِلَّة حزبِ الله وكثرةَ أعدائه، ظنُّوا أن الغلبة إنما هى بالكثرة، وقالوا: { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة، ولا بالعدد، والله عزيز لا يُغالَب، حكيم ينصر مَن يستحق النصر، وإن كان ضعيفاً، فعزتُه وحكمتُه أوجبت نصرَ الفئةِ المتوكِّلَةِ عليه.
ولما دنا العدو وتواجه القومُ، قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، فوعظهم، وذكَّرهم بما لهم فى الصبر والثباتِ مِن النصرِ، والظفرِ العاجِلِ، وثوابِ اللهِ الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجبَ الجنة لمن استشهد فى سبيلِهِ،

فقام عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ؛ جَنَّةٌ عَرْضُهَا سَّماواتُ والأَرْضُ ؟ قال: "نَعَمْ". قال: بَخٍ بَخٍ يَا رَسولَ اللهِ. قالَ: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ" ؟ قال: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ إلاَّ رَجَاءَ أنْ أكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا" قال: فأَخرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يأكُلُ مِنْهُنَّ، ثم قال: لَئِنْ حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فكان أول قتيل.
وأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلءَ كَفِّهِ مِنَ الحصباءِ، فَرَمَى بِهَا وجوهَ العَدُوِّ، فلم تترك رَجُلاً مِنهم إلاَّ ملأَتْ عينيه، وشُغِلُوا بالتراب فى أعينهم، وشُغِلَ المسلمُونَ بقتلهم، فأنزل الله فى شأن هذه الرمية على رسوله {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وقد ظن طائفة أن الآية دلَّت على نفى الفعل عن العبد، وإثباتهِ لله،

وأنه هو الفاعلُ حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة فى غير هذا الموضع. ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لِرسوله ابتداءَ الرَّمى، ونفى عنه الإيصال الذى لم يحصل برميته، فالرمىُ يُرادُ به الحذفُ والإيصال، فأثبت لنبيه الحذفَ، ونفى عنه الإيصال.
وكانت الملائكة يومئذ تُبادِرُ المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: "بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فى أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذّ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَه، وَصَوْتُ الفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُوم، إذْ نَظَرَ إلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسَتَلْقِياً، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَإذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذلِكَ أجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِىُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالث".
وقال أبو داود المَازِنى: "إنِّى لأتْبَعُ رَجُلاً مِن المُشْرِكِينَ لأَضْرِبَه، إذْ وَقَع رَأْسُه قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِى".
وجاء رجلٌ مِن الأنصار بالعبَّاسِ بنِ عبد المطلب أسيرَاً، فقال العباسُ: إنَّ هذا واللهِ ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح، مِن أحسن النَّاسِ وجهاً، على فرسٍ أبْلَق، ما أراه فى القومِ، فقال الأنصارى: أنا أسرتُه يا رسول اللهِ، فقال: "اسْكُتْ فَقَدْ أيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ". وأُسِر من بنى عبد المطلب ثلاثة: العباسُ، وعقيلٌ، ونوفل بن الحارث.

وذكر الطبرانى فى "معجمه الكبير" عن رِفاعة بن رافع، قال: "لما رأى إبليسُ ما تفعَلُ الملائكةُ بالمشرِكِينَ يومَ بدر، أشفق أن يَخْلُصَ القتلَ إليه، فتشبَّثَ بِهِ الحارث بن هشام، وهو يظنُّه سُراقَةَ بِنَ مالك، فوكز فى صَدْرِ الحارث فألقاه، ثم خَرَجَ هارباً حتى ألقى نفسَه فى البحر، ورفع يديه وقال: اللهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إيَّاى، وخاف أن يخلُصَ إليه القتل، فأقبل أبو جهل بن هشام، فقال: يا معشر النَّاسِ؛ لا يَهْزِمَنَّكُم خِذْلانُ سُرَاقَةَ إيَّاكُم، فإنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعاد مِنْ مُحَمَّدِ، ولا يَهولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ وشَيْبَةَ والوَلِيدِ، فإنَّهُم قد عجلوا، فواللاَّتِ والعُزَّى، لا نرجِعُ حتى نَقْرِنَهُم بالحِبال، ولا أُلفِيَنَّ رَجُلاً مِنْكُم قَتَلَ رجلاً مِنهم، ولكن خُذوهم أخذاً حتى نُعرِّفَهم سوء صنيعهم.
واستفتح أبو جهل فى ذلك اليوم، فقال: اللهُمَّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه فأَحِنْهُ الغداة، اللهُمَ أيُّنَا كان أحبَّ إليكَ، وأرضى عِنْدَكَ، فانصره اليومَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلّ : {إن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإن تَنْتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإنْ تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِىَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ولَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ} [الأنفال: 19].
ولما وضع المسلمون أيدَيهم فى العدو يقتلون ويأسِرون، وسعدُ بن معاذ واقفٌ على باب الخيمة التى فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى العَرِيشُ متوشِّحاً بالسيف فى ناسٍ مِن الأنصار، رأى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وجهِ سعدِ بنِ معاذ الكراهية لما يصنَعُ الناسُ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كأنَّكَ

تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ " ؟ قال: أجَلْ واللهِ، كانت أولَ وقعةٍ أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخانُ فى القتل أحبَّ إلىَّ من استبقاء الرجال.
ولما بردت الحربُ، وولَّى القومُ منهزمينَ، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ" ؟ فانطلق ابنُ مسعودٍ، فوجَدَهُ قد ضَرَبَهُ ابنا عَفْراء حتَّى بَرَدَ، وأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فقال: أنْتَ أَبُو جَهْلٍ ؟ فَقَالَ: لِمَن الدَّائِرةُ اليوم ؟ فقال: للهِ وَلِرَسوله، وهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللهِ ؟ فقال: وهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ ؟ فَقَتَلَهُ عبدُ اللهِ، ثم أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: قتلتُه، فقال: "اللهِ الَّذِى لا إله إلا هُو" فردَّدَهَا ثلاثاً، ثم قال: "الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه" فانطلقنا فأريته إياه، فقال: "هذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ".
وأسر عبدُ الرحمن بنُ عوف أُميَّةَ بن خلف، وابنَه علياً، فأبصره بلالٌ، وكان أُميَّةُ يُعذِّبُه بمكة، فقال: رأسُ الكفر أُمية بن خلف، لا نَجَوْتُ إن نَجَا، ثم اسْتَوْخَى جماعةً مِنَ الأنْصَارِ، واشتد عبد الرحمن بهما يُحرِزهما مِنهم، فأدركُوهم، فشغَلَهم عَنْ أُميَّة بابنه، ففَرَغُوا مِنْه، ثم لَحِقُوهما، فقالَ لَهُ عَبْدُ الرحمن: ابرُك، فَبَرَكَ فأَلْقَى نَفْسَه عَلَيْهِ، فَضَربُوهُ بالسُّيُوفِ مِنْ تَحتِه حَتَّى قَتَلُوهُ، وأصابَ بعضُ السيوف رِجْلَ عبد الرحمن بن عوف، قال له أُمية قبل ذلك: مَن الرَّجُلُ المُعَلَّمُ فى صَدْرهِ

بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ حمزةُ بنُ عبد المطلب. فقال: ذَاكَ الَّذِى فَعَلَ بِنَا الأفاعِيلَ، وَكانَ مع عبد الرحمن أدراعٌ قد استلبها، فلما رآه أُميَّةُ قال له: أنا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هذه الأدراع، فألقَاهَا وأخذه، فَلَمَّا قتله الأنْصَارُ، كَانَ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللهُ بِلالاً، فَجَعَنِى، بأدْرَاعِى وبِأَسِيرى.
وانقطع يومئذ سيفُ عُكَّاشةَ بنِ مِحْصَنٍ، فأعطاهُ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِذْلاً مِنْ حَطَبٍ،
فَقَالَ: "دُونَكَ هذَا"، فلما أخذه عُكَّاشَةُ وهزَّه، عاد فى يده سيفاً طويلاً شديداً أبيض، فلم يزل عنده يُقاتِلُ به حتَّى قُتِلَ فى الرِّدة أيامَ أبى بكر.
ولقى الزبيرُ عُبيدةَ بن سعيد بنِ العاص، وهو مُدَجَّجٌ فى السلاح لا يُرَى مِنه إلا الحَدَقُ، فحمل عليه الزبيرُ بحربته، فطعنه فى عَينه، فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطَّى، فكان الجَهْدُ أن نزعها، وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعطاه إياها، فلما قُبِضَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخذَها، ثم طَلَبها أبُو بكر، فأَعطَاه إياها، فلما قُبِض أبو بكر، سأله إيَّاها عمر، فأعطاه إياها، فلما قُبِض عُمرُ، أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قُبضَ عثمانُ، وقعت عِند آلِ علىّ، فطلبها عبدُ الله بن الزبير، وكانت عنده حتى قُتِلَ.
وقال رِفاعةُ بنُ رافع: "رُمِيتُ بسهمٍ يومَ بدر، فَفُقِئَتْ عينىِ، فَبَصَقَ فيها رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا لى، فما آذانى منها شئ".

ولما انقضتِ الحربُ، أقبلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وقَفَ عَلَى القَتْلَى فقال: "بِئْسَ عَشيرةُ النبى كُنْتُم لِنَبِّيكُم، كَذَّبْتُمُونى، وصَدَّقَنى النَّاسُ، وخَذَلْتَمونى ونَصَرَنى النَّاسُ، وأَخْرَجْتمُونى وآوانى النَّاسُ".
ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قَلِيبٍ مِن قُلُب بدر، فطُرِحُوا فيه، ثم وقف عليهم، فقال: "يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ويا شَيْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ، ويا فلانُ، ويا فُلانُ، هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ ربُّكم حَقًّاً، فَإنِّى وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِى رَبِّى حَقًّاً"، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب: يا رَسُولَ اللهِ ؛ ما تُخَاطِبُ مِنْ أقوام قَدْ جَيَّفُوا ؟ فقالَ: "والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الجَوَابَ"، ثم أقامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثاً، وكان إذا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِم ثلاثاً.

ثم ارتحل مؤيَّداً منصوراً، قريرَ العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانمُ، فلما كان بالصَّفراء، قسمَ الغنائم، وضرب عُنُقَ النَّضْرِ بن الحارث بن كلدة، ثُمَّ لما نَزَلَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، ضرب عُنُقَ عُقبةَ بن أبى مُعَيْطٍ.
ودخل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ مؤيَّداً مظفَّراً منصوراً قد خافه كُلُّ عدوٍ له بالمدينة وحولَها، فأسلم بَشَر كثير مِن أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبَىٍّ المنافقُ وأصحابُه فى الإسلام ظاهراً.
وجملة مَن حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعةَ عشر رجلاً، من المهاجرين ستة وثمانون، ومن الأوس أحدٌ وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون، وإنما قَلّ عَدَد الأوسِ عن الخزرج، وإن كانوا أشدَّ منهم، وأقوى شوكَةً، وأصبرَ عند اللِّقاء، لأن منازِلهم كانت فى عوالى المدينة، وجاء النفيرُ بغتةً، وقال النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَتْبَعُنَا إلاَّ مَنْ كان ظَهْرُهُ حَاضِراً"، فاستأذنه رِجالٌ ظُهورُهم فى عُلو المدينة أن يستأنىَ بهم حتى يذهبُوا إلى ظهورهم، فأبى ولم يَكُن عَزْمُهُم عَلَى اللِّقَاءِ، ولا أعدُّوا لهُ عدته، ولا تأهبوا له أهبتَه، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
واستشهد من المسلمين يومئذ أربعةَ عشرَ رجلاً: ستةٌ من المهاجرينَ، وستة من الخزرج، واثنانِ من الأوس، وفرغ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأن بدر والأسارى فى شوَّال.

فصل
ثم نهض بنفسه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه بعد فراغه بسبعةِ أيَّامٍ إلى غَزو بنى سُليم، واستعمل على المدينةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ. وقيل: ابنَ أُمِّ مكتومٌ، فبلغ ماءً يقال له: الكُدْرُ، فأقام عليه ثلاثاً، ثم انصرف، ولم يلق كيداً.
فصل
ولما رجع فَلُّ المشرِكِينَ إلى مكَّةَ موتُورين، محزونين، نَذَرَ أبو سفيان أن لا يَمَسَّ رأسَه ماءٌ حتى يغزوَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج فى مائتى راكِبٍ، حتى أتى العُرَيْضَ فى طرفِ المدينة، وبات ليلةً واحدة عند سلام بن مِشْكَم اليهودى، فسقاه الخمرَ، وبَطَنَ له مِن خبر الناس، فلما أصبح، قطع أصْواراً مِنَ النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم كرَّ راجعاً، ونَذِرَ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج فى طلبه، فبلغ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ، وفاته أبو سفيان، وطرحَ الكفارُ سويقاً كثيراً مِن أزوادِهم يتخفَّفُونَ به، فأخذها المسلمون، فَسُمِّيِتْ غزوةَ السويق، وكان ذلك بعد بدر بشهرين.

فأقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينةِ بَقيَّةَ ذى الحِجَّة، ثم غزا نجداً يُرِيدُ غطفان، واستعملَ على المدينةِ عُثمانَ بنَ عفان رضى الله عنه، فأقام هُناك صَفَرَاً كُلَّهَ مِن السنة الثالثة، ثم انصرف، ولم يلق حرباً.
فصل
أقامَ بالمدينة ربيعاً الأول، ثم خرجَ يُريدُ قريشاً، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتوم، فبلغ بُحرَانَ مَعْدِناً بالحِجَازِ من ناحية الفُرْع، ولم يَلْقَ حَرباً، فأقَام هُنَالك ربيعاً الآخر، وجُمادَى الأولى، ثم انصرف إلى المدينة.
فصل
ثم غزا بنى قَيْنُقَاع، وكانُوا مِن يهودِ المدينة، فنقضُوا عهدَه، فحاصرهم خمسة عشرَ ليلةً حتى نزلُوا على حُكمه، فَشَفَعَ فيهم عبدُ اللهِ بن أُبَىّ، وألحَّ عليه، فأطلقهم له، وهم قومُ عبدِ الله بن سلام، وكانوا سَبعمائة مقاتل، وكانوا صاغة وتجاراً.

فصل: فى قتل كعب بن الأشرف
وكان رجلاً مِن اليهود، وأُمُّه مِن بنى النضير، وكان شديدَ الأذى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يُشَبِّبُ فى أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعةُ بدر، ذهب إلى مكة، وجعل يُؤَلِّبُ على رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فإنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ ورَسُولَهُ"، فانتدب له محمدُ بنُ مَسْلَمَة، وعَبَّادُ بْنُ بِشْر، وأبو نَائِلة واسمه سِلْكَانُ بْنُ سلامة، وهو أخو كعبٍ من الرضاع، والحارث بن أوس، وأَبُو عَبْسِ بنُ جَبر، وأذن لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه فى ليلة مُقْمِرَةٍ، وشيَّعهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بَقيع الغَرْقَدِ، فلما انْتَهوا إليه، قدَّموا سِلْكَانَ بْنَ سَلاَمة إليه، فأظهر له موافقته على الانحرافِ عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشَكا إليه ضِيقَ حاله، فكلَّمَهُ فى أن يَبيعه وأصحابَه طعاماً، ويَرْهَنُونَه سِلاحَهم، فأجابَهم إلى ذلك.
وَرَجَع سِلْكَان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوْه، فخرج إليه مِن

حِصنه، فَتَماشَوْا، فوضَعُوا عليه سُيُوفَهم، ووضع محمدُّ بن مَسْلَمَة مِغْولاً كان معه فى ثُنَّتِهٍ، فقتله، وصاحَ عدوُّ الله صيحةً شديدة أفزعت مَنْ حوله. وأوقدوا النيرانَ، وجاء الوفدُ حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آخر الليل، وهو قائم يُصلى، وجُرِحَ الحارث بن أوس ببعض سيوفِ أصحابه، فتفل عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبرئ، فَأَذِنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قتل مَنْ وجد مِن اليهود لنقضهم عهده ومحاربتِهم الله ورسوله.

فصل: فى غزوة أُحُد
ولما قتل الله أشرافَ قريشٍ ببدر، وأُصيبُوا بمصيبةٍ لم يُصابُوا بمثلها، ورَأَسَ فيهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ لِذهاب أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطرافِ المدينة فى غزوة السَّويق، ولم يَنَلْ ما فى نفسه، أخذ يُؤلِّبُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين، ويجمِّع الجموعَ، فجمع قريباً مِن ثلاثةِ آلافٍ من قريش، والحلفاء، والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئِلا

يَفِرُّوا، وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة، فنزل قريباً من جبل أُحُد بمكان يقال لهُ: عَيْنَيْنِ، وذلك فى شوَّال مِن السنة الثالثةِ،
واستشار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابًَه أَيخرُج إليهم، أم يمكثُ فى المدينة ؟ وكان رأُيُه ألا يخرجُوا من المدينة، وأن يتحصَّنُوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنِّساء مِن فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأى عبدُ الله بن أُبَىّ، وكان هو الرأىَ، فبادر جماعةٌ مِن فُضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وأَلحُّوا عليه فى ذلك، وأشار عبد الله بن أُبَىّ بالمُقام فى المدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابةِ، فألحَّ أولئك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهض ودخل بيته، ولَبِسَ لأْمَتَهُ، وخرج عليهم، وقد انثنى عزمُ أُولئك، وقالوا: أكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الخُروج، فقالوا: يا رسولَ الله؛ إن أحببتَ أن تَمْكُثَ فى المدينة فافعَلْ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَنبَغِى لِنَبِىٍّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عدوِّه".
فخرج رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ألف من الصحابة، واستعمل ابنَ أُمِّ مكتُوم على الصلاة بمن بقى فى المدينة، وكان رسولُ الله رأى رؤيا، وهو بالمدينةِ، رأى أن فى سيفِه ثُلْمَةً، ورأى أن بقراً تُذبح، وأنه أدخل يده فى

درع حَصِينةٍ، فتأوَّل الثُّلمة فى سيفه برجل يُصاب مِن أهل بيته، وتأوَّل البقرَ بِنَفَرٍ من أصحابه يُقتلون، وتأوَّل الدِّرع بالمدينة.
فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخزَلَ عبدُ الله ابن أُبَىّ بنحو ثُلثِ العسكر، وقال: تُخالفنى وتسمَعُ مِن غيرى، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول: تعَالَوْا قاتِلُوا فى سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبَّهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحُلفائهم مِن يهود، فأبى، وسلك حرَّة بنى حارثة، وقال: "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ" ؟، فخرج به بعضُ الأنصارِ حتى سلَك فى حائط لِبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو الترابَ فى وجوه المسلمين ويقول: لا أُحِلُّ لكَ أن تدخُلَ فى حائطى إن كنتَ رسولَ اللهِ، فابتدره القومُ لِيقتلوه، فقال: "لا تقتُلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصرِ".
ونفذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلَ الشِّعبَ مِن أُحُد فى عُدْوَةِ الوَادِى، وجعلَ ظهرَه إلى أُحُد، ونهى الناسَ عَنِ القِتَال حتى يأمرهمْ، فلما أصبحَ يومَ السبت، تَعَبَّى للقتال، وهو فى سبعِمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرُّماة وكانوا خمسين عبدَ الله بن جُبير، وأمره وأصحابَه أن يَلزمُوا مركزهم، وألا يُفارقُوه، ولو رأى الطيرَ تتخطفُ العسكر، وكانوا خلفَ الجيش، وأمرَهُم أنْ يَنْضَحُوا المُشرِكِينَ بالنَّبْلِ، لِئَلا يأتُوا المُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِم.

فظاهر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرعَيْن يومئِذٍ، وأعطى اللِّواء مُصْعَبَ بنَ عُمير، وجعل على إحدى المجَنِّبَتَيْنِ الزبيرَ بنَ العوام، وعلى الأخرى المُنذرَ بنَ عمرو، واستعرض الشبابَ يومئذٍ، فردَّ مَن استصغره عن القتال، وكان منهم عبدُ الله بنُ عمر، وأُسامَة بن زيد، وأُسَيْدُ بن ظَهِيرٍ، والبراءُ بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيدُ بن ثابت، وعَرَابةُ بن أوس، وعمرو بنُ حَزْمٍ، وأجازَ مَن رآهُ مُطِيقاً، وكان مِنهم سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ، ورافعُ بن خَديج، ولهما خمسَ عشْرة سنة. فقيل: أجاز مَن أجاز لبلوغه بالسِّنِّ خمس عشرة سنةً، وردَّ مَن رَدَّ لِصغره عن سِنِّ البُلُوغ، وقالت طائفة: إنما أجازَ مَنْ أجاز لإطاقته، وردَّ مَن رَدَّ لِعدم إطاقته، ولا تأثيرَ للبلوغ وعدمِه فى ذلك قالوا: وفى بعض ألفاظ حديث ابن عمر: "فلمَّا رَآنى مُطِيقاً أَجَازَنى".
وتعبَّتْ قريشٌ للقتال، وهم فى ثلاثةِ آلافٍ، وفيهم مائتا فارسٍ، فجعلوا على ميمنتهم خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرةِ عِكرمةَ بنَ أبى جهل، ودفعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفَه إلى أبى دُجَانَة سِمَاكِ بن خَرَشَةَ، وكان شُجاعاً

بطلاً يَخْتَالُ عِند الحرب.
وكان أوَّلَ مَنْ بَدَر مِن المشركين أبو عامر الفاسِقُ، واسمه عبد عَمْرِو بن صَيْفِى، وكان يُسمَّى "الرَّاهبَ"، فسمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسِقَ، وكان رأس الأوس فى الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ، شَرِقَ به، وجاهَرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعَدَاوة، فخرج مِنَ المدينة، وذهب إلى قُريش يُوَلِّبُهُم عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحضُّهم على قِتاله، ووعدَهم بأن قومَه إذا رأوه أطاعُوه، ومالُوا معه، فكان أوَّل مَنْ لَقِىَ المسلمينَ، فنادى قومَه، وتعرَّف إليهم، فَقَالُوا له: لا أنعم اللهُ بكَ عيناً يَا فَاسِقُ، فقال: لقد أصابَ قومى بعدى شرٌ، ثم قاتل المسلمين قِتالاً شديداً، وكان شِعارُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ: أَمِتْ.
وأبلى يومئذ أبو دُجَانَةَ الأنصارىُّ، وطلحةُ بنُ عبيد الله، وأسدُ الله وأسدُ رسوله حمزةُ بنُ عبد المطَّلب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، وأنسُ بن النضر، وسعدُ بنُ الربيع.
وكانت الدولةُ أوَّلَ النهارِ للمسلمين على الكفَّار، فانهزم عدوُّ اللهِ، وولَّوا مُدْبِرينَ حتى انتَهَوْا إلى نِسائهم، فلما رأى الرُمَاةُ هزيمتَهم، تركوا مركَزَهم الذى أمرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظه، وقالوا: يا قومُ الغنيمةَ، فذكَّرهم أميرُهم عهدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يسمعُوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعةٌ، فذهبُوا فى طلب الغنيمةِ، وأخْلُوا الثَّغْرَ، وكرَّ فُرسَانُ المشركين، فوجدوا الثَّغْر خالياً، قد خلا مِن الرُّماة، فجازُوا منه، وتَمكَّنُوا حتى أقبل آخِرهُم، فأحاطُوا بالمسلمين، فأكرم اللهُ مَنْ

أكرمَ منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولَّى الصَّحَابة،
وخلَصَ المشركون إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجرحُوا وجهَه، وكسروا رَباعِيَّتَه اليُمْنى، وكانت السُّفلى، وهَشَمُوا البيضة على رأسه ورمَوْهُ بالحِجَارة حتى وقع لِشقه، وسقط فى حُفرة مِن الحُفَرِ التى كان أبو عامر الفاسِقُ يَكيدُ بها المسلمين، فأخذ علىُّ بيده، واحتضنه طلحةُ بنُ عُبيد الله، وكان الذى تولَّى أذاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بنُ قَمِئَةَ، وعُتُبَةُ بنُ أبى وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهرىَّ، عمّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، هو الذى شجَّهُ.
وقُتِلَ مصعبُ بن عمير بين يديه، فدفع اللِّواء إلى علىِّ بن أبى طالب، ونشبت حَلَقَتَانِ مِن حلق المِغْفَرِ فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرَّاح، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه مِن شدَّةِ غوصِهِمَا فى وجْهِهِ
وامتصَّ مَالكُ بنُ سنان والد أبى سعيد الخدرى الدَّمَ مِن وجنته، وأدركه المشركون يُريدُونَ ما اللهُ حائلٌ بينَهُم وبينَه، فحال دُونَه نفرٌ مِن المسلمين نحو عشرة حتى قُتِلُوا، ثم جالدهم طلحةُ حتى أجهضهم عنه، وترَّسَ أبو دُجانة عليه بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرَّك، وأصيبت يومئذ عينُ قتادة بن النعمان، فأتى بها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردَّها عليه بيده، وكانَتْ أصحَّ

عينيه وأحسنَهما، وصرخ الشيطانُ بأعلى صوتِهِ: إنَّ محمداً قَد قُتِلَ، ووقع ذلك فى قلوب كثيرٍ من المسلمين، وفرَّ أكثرُهم، وكان أمرُ الله قدراً مقدوراً.
ومر أنسُ بنُ النَّضر بقوم من المسلمين قد ألقَوا بأيديهم، فقال: ما تنتظِرُونَ ؟ فقالوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما تَصْنَعُونَ فى الحياة بعده ؟ قومُوا فموتُوا على ما مَاتَ عليه، ثم استقبلَ الناسَ، ولقى سعدَ بنَ معاذ فقال: يَا سَعْدُ؛ إنى لأَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحُد، فقاتل حتى قُتِلَ، ووُجِدَ به سبعونَ ضَربة،
وجُرِحَ يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرينَ جِراحة.

وأقبل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوَ المسلمين، وكان أوَّل مَن عرفه تحتَ المِغْفَرِ كعبُ بن مالك، فصاحَ بأعلى صوته: يا معشرَ المسلمين؛ أَبْشِرُوا هذا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار إليه أن اسْكُت، واجتمع إليه المسلمونَ ونهضُوا معه إلى الشِّعب الذى نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلى، والحارث بنُ الصِّمَّة الأنصارى وغيرُهم، فلما استندوا إلى الجبل، أدركَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبىُّ بنُ خَلَف على جواد له يُقال له: العَوْذ، زعم عدوُّ اللهِ أنه يقتُل عليه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما اقترب منه، تناول رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربةَ مِن الحارث بنً الصِّمَّةِ، فطعنَه بها فجاءت فى تَرْقُوتِهِ، فكرَّ عدوُّ الله منهزِمَاً، فقال له المشركون: واللهِ ما بك من بأسٍ، فقال: واللهِ لو كان ما بى بأهلِ ذِى المَجَازِ، لماتُوا أجمعُون، وكانَ يَعْلِفُ فرسَه بمكةَ ويقولُ: أقْتُلُ عليه محمداً، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "بَلْ أنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى" فلما طعنَه، تَذكَّر عدوُّ الله قوله: "أنا قاتِلهُ"، فأيقن بأنه مقتول مِن ذلك الجرح، فمات منه فى طريقه بِسَرِفَ مَرْجِعَهُ إلى مكَّةَ.
وجاءَ علىّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء ليشرب منه، فوجده آجناً، فرده، وغسل عن وجهه الدم، وصبَّ على رأسه، فأراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلُوَ صخرةً هُنالك، فلم يَسْتَطِع لِما به، فجلس طلحةُ تحتَه حتى صَعِدَهَا، وحانتِ الصلاةُ، فصلَّى بهم جالساً، وصار رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك اليوم تحتَ لِواء الأنصار.

وشدَّ حنظلةُ الغسيل وهو حنظلةُ بن أبى عامر على أبى سفيان، فلما تمكَّن منه، حَمَلَ على حنظلة شَدَّادُ بنُ الأسود فقتله، وكان جُنُباً، فإنه سَمِعَ الصَّيْحَةَ، وهو على امرأته، فقَامَ مِن فَوره إلى الجهاد، فأخبرَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصْحَابَهُ: "أنَّ المَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ" ثم قال: "سَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ" ؟ فسألُوا امرأته، فَأَخْبَرَتْهُمُ الخَبَرَ. وجعل الفقهاءُ هذا حُجة، أن الشهيدَ إذا قُتِلَ جُنباً، يُغسَّل اقتداءً بالملائكة.
وقتل المسلمون حامِلَ لواءِ المشركينَ، فرفَعَتْهُ لهم عَمْرَةُ بنتُ علقمةَ الحارِثِيَّة، حتى اجتمعوا إليه، وقاتلت أُمُّ عُمارة، وهى نُسيبة بنتُ كعب المازنية قِتالاً شديداً، وَضَرَبَتْ عمرَو بن قَمِئَةَ بالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ فَوَقَتْهُ دِرعانِ كانتا عليه، وضربها عمرو بالسِّيْفِ، فجرحها جُرحاً شديداً على عاتقها.
وكان عمرو بن ثابتِ المعروفُ بالأُصَيْرم من بنى عبد الأشهل يأبى الإسلامَ، فلما كان يَوْمَ أُحُدٍ، قذف اللهُ الإسلامَ فى قلبه للحُسْنى التى سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفَه، ولَحِقَ بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَاتل فأُثْبِتَ بالجِرَاحِ، ولم يعلم أحدٌ بأمره، فلما انجلت الحرب، طاف بنو عبد الأشهل فى القتلى، يلتمِسُون قتلاهم، فوجَدوا الأُصَيْرمَ وبهِ رَمَقٌ يسير،

فقالوا: واللهِ إن هذا الأصيرمَ، ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لَمُنْكِرٌ لهذا الأمر، ثم سألوه ما الَّذِى جاء بك ؟ أَحَدَبٌ عَلى قَوْمِكَ، أم رغبةٌ فى الإسلام ؟ فقال: بل رغبةٌ فى الإسلام، آمنتُ باللهِ ورسوله، ثم قاتلتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابنى ما تَرَوْنَ، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "هُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ". قال أبو هريرة: ولم يُصَلِّ للهِ صَلاَةً قَطُّ.
ولما انقضَتِ الحربُ، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكُم محمد ؟ فلم يُجيبُوهُ، فقال: أفيكُمُ ابنُ أبى قُحَافة ؟ فلم يُجيبوه. فقال: أفيكُم عُمرُ بنُ الخطاب ؟ فلم يجيبوه، ولم يَسْأَلْ إلاَّ عن هؤلاء الثلاثة لِعلمه وعِلم قومه أن قِوَامَ الإسلام بهم، فقال: أمَّا هَؤلاء، فقد كُفيتُموهم، فلم يَملِكُ عُمَر نفسَه أن قال: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ إنَّ الَّذِينَ ذكرتَهُمْ أحياءٌ، وقد أبقى اللهُ لَكَ ما يَسُوءُكَ، فقال: قَدْ كان فى القوم مُثْلَةٌ لم آمُر بها، ولم تسؤْنى، ثم قال: أعْلُ هُبَلُ. فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تُجِيبُونَه" ؟ فَقَالُوا: ما نقُولُ ؟ قال: "قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وأَجَلُّ"، ثم قال: لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. قال: "ألا تُجِيبُونَه" ؟ قالُوا: ما نقول ؟ قال: "قولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكم"

فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبِشرْكِهِ تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة مَنْ عبده المسلمون، وقوةِ جانبه، وأنه لا يُغلب، ونحن حزبُه وجُنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد ؟ أفيكم ابنُ أبى قُحافة ؟ أفيكم عمر ؟ بل قد رُوى أنه نهاهم عن إجابته، وقال: "لا تُجيبوه"، لأن كَلْمَهُمْ لم يكن بَرَدَ بَعْدُ فى طلب القوم، ونارُ غيظهم بعد متوقِّدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كُفيتموهم، حمىَ عمر بنُ الخطاب، واشتد غضبُه وقال: كذبْت يا عدوَّ الله، فكان فى هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة، وعدمِ الجُبن، والتعرفِ إلى العدو فى تلك الحال، ما يُوذِنُهم بقوة القوم وبَسالتهم، وأنهم لم يَهِنُوا ولم يَضْعُفُوا، وأنه وقومَه جديرون بعدم الخوفِ منهم، وقد أبقى اللهُ لهم ما يسوؤهُم منهم، وكان فى الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنَّهِ وظنِّ قومه أنهم قد أُصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحِزبِهِ، والفتِّ فى عَضُدِهِ ما ليس فى جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداً، فكان سؤالُه عنهم، ونعيُهم لِقومه آخِر سهام العدو وكيده، فصبر له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عُمَرُ، فرد سِهَام كيدِهِ عليه، وكان تركُ الجوابِ أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن فى ترك إجابته حين سأل عنهم إهانةً له، وتصغيراً لشأنه، فلما منَّته نفسُه موتَهم، وظنَّ أنهم قد قتِلُوا، وحصل بذلك من الكِبر والأشر ما حصل، كان فى جوابه إهانةٌ له، وتحقيرٌ، وإذلالٌ، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُجِيبُوه"، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمّدٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء، فقَد قُتِلُوا، وبكل حال، فلا أحسنَ من ترك إجابته أولاً، ولا أحسنَ من إجابته ثانياً.

ثمَّ قال أبو سفيان: يَوْمٌ بِيوم بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، فأجابه عُمَرُ فقال: لاَ سَوَاء، قَتْلانَا فى الجَنَّةِ، وَقَتْلاكُمْ فى النَّارِ.
وقال ابن عباس: ما نُصِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مَوْطِنٍ نَصْرَه يَوْمَ أُحُد، فأُنْكِرَ ذلِكَ عليه، فَقَالَ: بينى وبَيْنَ من يُنكِرُ كِتابُ الله، إنَّ الله يَقُولُ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ} [آل عمران: 152]، قال ابنُ عباس: والحَسُّ: القتلُ، ولقد كان لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأصحابه أوَّلُ النهار حَتَّى قُتِلَ مِن أصحابِ المشركينَ سبعةٌ أو تسعةٌ... وذكر الحديث.
وأنزل اللهُ عليهم النُّعاسَ أمنةً مِنْهُ فى غَزاةِ بدرٍ وأُحُدٍ، والنعاسُ فى الحرب وعند الخوفِ دليل على الأمنِ، وهو من الله، وفى الصَّلاة ومجالِس الذكر والعِلم مِن الشيطان.
وقاتلت الملائكةُ يومَ أُحُدٍ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففى "الصحيحين": عن سعدِ بن أبى وقاص، قال: "رأيتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقََاتِلانِ عَنْهُ، عليهمَا ثِيَابٌ بِيْضٌ كَأَشَدِّ القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
وفى "صحيح مسلم": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فى سَبْعَةٍ مِنَ الأنصارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فلما رَهِقُوه، قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهمْ عَنَّا، وَلَهُ الجَنَّة"،

أو "هُوَ رفِيقى فى الجَنَّةِ" ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثم رَهِقُوهُ، فقال: "مَنْ يَرُدُّهُم عنَّا، ولهُ الجَنَّةُ"، أَو "هُوَ رَفِيقى فى الجنَّة"، فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" ، وهذا يُروى على وجهين: بسكون الفاء ونصبِ "أصحابنا" على المفعولية، وفتح الفاء ورفع "أصحابنا" على الفاعلية.
ووجه النصب: أن الأنصار لما خرجُوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قُتِلُوا، ولم يخرج القرشيان، قال ذلك، أى: ما أنصفت قريشٌ الأنصار.
ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب، الذين فرُّوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أُفْرِدَ فى النفر القليل، فَقُتِلُوا واحداً بعد واحد، فلم يُنْصِفُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ ثبت معه.
وفى "صحيح ابن حبان" عن عائشة، قالت: قال أبو بكر الصِّديقُ: لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، انصرفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنتُ أوَّلَ مَنْ فَاءَ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلاً يُقَاتِلُ عنه ويَحْمِيه، قلتُ: كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبى وأُمِّى، كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبِى وأُمِّى. فلم أَنْشَبْ، أَنْ أَدْرَكَنِى أبو عُبَيْدَة بنُ الجرَّاحِ، وإذَا هُوَ يشتَدُّ كأنه طيرٌ حتى لحقنى، فدفعنا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا طلحةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعاً، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكُمْ أَخَاكُم فقد أَوْجَبَ "، وقد رُمىَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جبينه، وروى: فى وَجْنَتِهِ حتَّى غَابَتْ حَلَقَةٌ مِنَ حَلَقِ المِغْفَرِ فى وَجْنَتِهِ، فَذَهَبْتُ لأنْزِعَهَا عَن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أَبُو عبيدة: نَشَدْتُك باللهِ يا أبا بكر إلاَّ تَرَكْتَنى ؟ قال: فَأَخَذَ أبو عبيدة السَّهْمَ بفِيه، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذِىَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

ثُمَّ استلَّ السَّهْمَ بفِيه، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبيدة، قال أبو بكر: ثم ذَهَبْتُ لآخُذَ الآخَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَشَدْتُكَ باللهِ يا أبا بَكْرٍ، إلا تَركْتَنِى ؟ قال: فَأَخَذَهُ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ حَتَّى اسْتَلَّهُ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبى عُبَيْدَةَ الأُخْرَى، ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونكُمْ أخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ"، قال: فأقبلنا عَلَى طلحة نُعالِجُه، وقد أصابته بضعة عَشَر ضربة.
وفى "مغازى الأموى": أن المشرِكِينَ صَعِدُوا على الجبل، فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: "اجنُبْهُمْ" يقول: اردُدْهم. فقال: كيف أَجْنُبُهُمْ وَحْدِى ؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعدٌ سهماً مِن كِنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذتُ سهمى أَعْرِفُهُ، فرميتُ بِهِ آخر فقتلتُه، ثم أخذتُه أعْرِفُه، فرميتُ به آخر فقتلتُه، فهبطُوا مِن مَكَانِهم، فقلتُ: هذا سهمٌ مبارك، فجعلته فى كِنانتى، فكان عند سعد حتى مات، ثمَّ كان عند بنيه.
وفى "الصحيحين" عن أبى حازم، أنه سئلَ عن جُرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "واللهِ إنِّى لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وبِمَا دُووى، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابنتهُ تَغْسِلُه، وعلىُّ بْنُ أبى طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إلا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قطعة مِنْ حَصيرٍ، فَأَحْرَقٌتَها فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ".

وفى "الصحيح": أنه كُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ فى رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدمَّ عنه، ويقُول: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهمْ، وكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَه، وهُوَ يَدْعُوهم" فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
ولمَّا انهزم الناسُ، لم ينهزِمْ أنسُ بنُ النضر. وقال: اللهُمَّ إنِّى أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يعنى المُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يَعنى المُشْرِكِينَ، ثم تقدَّم، فَلَقِيَه سعدُ بن معاذ، فقال: أينَ يا أبا عُمَرُ ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: واهاً لِرِيحِ الجَنَّةِ يَا سَعْدُ، إنِّى أجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، ثُمَّ مَضَى، فَقَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَمَا عُرفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُه بِبَنَانِهِ، وَبِهِ بِضْعٌ وثَمَانُونَ، مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بًسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.
وانهزم المشركون أوَّل النهارِ كما تقدَّم، فصرخ فيهم إبليسُ: أىْ عِبادَ الله، أخزاكم اللهُ، فارجِعُوا مِن الهزيمة، فاجتلدوا.
ونظر حُذيفة إلى أبيهِ، والمُسْلِمُونَ يريدون قتله، وهم يظنُّونه مِن المُشْرِكِينَ، فقال: أىْ عِبَادَ اللهِ؛ أبى، فَلَمْ يَفْهَمُوا قولَه حتَّى قتلُوه، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فأرادَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدِيَه، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بديته عَلَى المُسْلِمِينَ، فزادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْراً عِنْدَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقال زيدُ بنُ ثابت: بعثنى رسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقال لى: "إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّى السَّلاَمَ، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُكَ" ؟ قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَق، وفيه سبعونَ ضربةً، ما بين طعنةٍ برُمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم، فقلت: يا سعدُ؛ إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليكَ السَّلامَ، ويقول لك: أخبرنى كيف تَجِدُكَ ؟ فقال: وعلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلامُ، قل له: يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجنة، وقل لقومى الأنصار: لا عُذْرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقته.
ومرَّ رجل مِن المهاجرين برجُل مِن الأنصار، وهو يَتَشَحَّطُ فى دَمِهِ، فقال: يا فلانُ؛ أشعرتَ أن محمَّداً قد قُتل ؟ فقال الأنصَارِىُّ: إن كان محمد قد قُتلَ، فقد بلَّغ، فقاتِلُوا عَنْ دِينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيتُ فى النَّومِ قَبْلَ أُحُد، مبشِّرَ بنَ عبدِ المنذر يقول لى: أنت قادِمٌ علينا فى أيَّام، فقلتُ: وأين أنتَ ؟ فقال:

فى الجنة نَسْرَحُ فيها كَيْفَ نشاء، قلت له: ألم تُقتَلْ يومَ بدرٍ ؟ قال: بلى، ثم أُحْيِيْتُ، فذكر ذَلِكَ لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَا أبا جَابِر".
وقال خيثمة أبو سعد، وكان ابنُه استُشْهِدَ مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ بدر:"لَقَدْ أَخْطَأًَتْنِى وَقْعَةُ بَدْرٍ، وكُنْتُ واللهِ عليها حَرِيصَاً، حتى سَاهَمْتُ ابنى فى الخُرُوجِ، فخرجَ سهمُه، فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ، وقد رأيتُ البَارِحَةَ ابنى فى النوم فى أَحْسَنِ صُورةٍ يَسْرَحُ فى ثِمارِ الجَنَّةِ وأَنْهَارِهَا، ويقولُ: الْحَقْ بِنَا تُرافِقْنَا فى الجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِى رَبِّى حقاً، وقد واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقاً إلى مُرَافَقَتِهِ فى الجَنَّةِ، وقَد كَبِرَتْ سِنِّى، وَرَقَّ عَظْمِى، وأحبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّى، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَنى الشَّهَادَة، ومُرافقة سَعْدٍ فى الجنَّةِ، فَدَعَا له رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيداً".
وقال عبدُ الله بنُ جَحْشٍ فى ذلك اليوم: اللهُمَّ إنِّى أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقى العَدُوَّ غَدَاً، فَيَقْتُلُونِى، ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِى، ويَجْدعُوا أَنْفِى، وَأُذُنِى، ثُمَّ تَسْأَلُنِى: فيمَ ذلِكَ، فَأَقُولُ فيكَ.
وَكَانَ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ العَرَجِ، وكانَ له أربَعَةُ بَنينَ شَبَاب، يَغْزُونَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا، فَلمَّا تَوَجَّهَ إلى أُحُدٍ، أرادَ أن يَتَوجَّهَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إنَّ اللهَ قد جعلَ لك رخصةً، فلو قَعَدْتَ ونحنُ نَكْفِيكَ، وقد وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ، فأتى عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسُولَ اللهِ؛ إنَ بَنِىَّ هؤلاء يمنعُونى أن أخْرُجَ

مَعَكَ، وواللهِ إنى لأَرْجُو أن أُسْتَشْهدَ فأطأَ بعَرْجَتِى هذِهِ فى الجَنَّةِ، فَقَال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا أَنْتَ، فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ" وَقَالَ لِبَنِيهِ: " ومَا عَلَيْكُم أَنْ تَدَعُوهُ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ"، فخرجَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شهيداً.
وانتهى أنسُ بنُ النَّضرِ إلى عُمَرَ بنِ الخطاب، وطلحةَ بن عبيد الله فى رِجالٍ من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهِم، فقال: ما يُجْلِسُكم ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فما تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ استقبلَ القَوْمَ، فقاتَلَ حتَّى قُتِلَ.
وأقبل أُبىُّ بنُ خَلَفٍ عَدُوُّ اللهِ، وهو مُقَنَّعٌ فى الحديد، يقول: لا نجوتُ إنْ نجا محمَّد، وكان
حَلَفَ بمكة أن يقتُل رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستقبلهُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ، وأبصَرَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبىِّ بْنِ خَلَف مِنْ فُرْجةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْع والبَيْضَةِ، فطعنَه بِحَرْبتِهِ، فوقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فاحتمله أصحابُه، وهو يخُور خُوارَ الثَّورِ، فقالُوا: ما أجزعَكَ ؟

إنمَا هو خَدْشٌ، فذَكر لهم قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى" فمات برابغ.
قال ابن عمر: "إنى لأسيرُ ببطنِ رَابغ بعد هُوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجَّجُ لى، فيممتُها، وإذا رجل يخرج منها فى سِلْسِلَة يجتذبُها يصيحُ: العطش، وإذا رجلٌ يقول: لا تَسْقِهِ، هذا قتيلُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أُبىُّ بنُ خلف".
وقال نافعُ بن جُبير: سمعتُ رجلاً من المهاجرين يقولُ: شَهِدْتُ أُحُداً، فنظرتُ إلى النَّبل يأتى من كُلِّ ناحيةٍ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصرفُ عنه، ولقد رأيتُ عبدَ اللهِ بن شهاب الزهرى يقول يومئذ: دُلُّونى على محمد، لا نجوتُ إن نَجا، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزهُ، فعاتبه فى ذلك صَفوان، فقال: واللهِ ما رأيتُهُ، أَحْلِفُ باللهِ، إنه مِنَّا ممنوعٌ، فخرجنا أربعةً، فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلُص إلى ذلك.
ولما مصَّ مالك أبو أبى سَعِيدٍ الخُدْرىّ جرحَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنقاهُ، قال له: "مُجَّهُ" قال: واللهِ لا أَمُجُّهُ أبداً، ثم أدبر، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى هذَا".
قالَ الزُّهرى، وعاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرُهم: كان يومُ أحد يومَ بلاء وتَمحِيص، اختبر اللهُ عَزَّ وجَلَّ به المؤمنين، وأظهر

به المنافقين ممن كان يُظْهِرُ الإسلام بلسانِهِ، وهو مُستخفٍ بالكُفر، فأَكْرَمَ اللهُ فيه مَن أراد كرامتَه بالشهادةِ من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن فى يوم أُحُد ستون آية مِن آل عمران، أولها: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى آخر القصة.
فصل: فيما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام والفِقه
منها: أن الجهادَ يلزمُ الشُّروع فيه، حتى إن مَنْ لَبِسَ لأْمَتَه وَشَرَعَ فى أسْبَابِهِ، وتأَهَّبَ لِلخُروج، ليس له أن يَرْجِعَ عن الخروج حتى يُقاتِلَ عدوَّه.
ومنها: أنه لا يَجِبُ على المسلمين إذا طَرَقَهُمْ عدوُّهم فى ديارهم الخروجُ إليه، بل يجوزُ لهم أن يلزمُوا دِيارهم، ويُقاتلوهم فيها إذا كانَ ذلك أنصرَ لهم على عدوِّهم، كما أشار به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم يومَ أُحُد.
ومنها: جوازُ سُلُوكِ الإمام بالعسكرِ فى بعض أملاك رعيَّته إذا صادفَ ذلك طريقَه، وإن لم يرضَ المالكُ.
ومنها: أنه لا يأذنُ لِمن لا يُطيق القِتَالَ من الصبيان غيرِ البالغين، بل يردُّهم إذا خرجوا، كما رد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ عمر ومَن معه.
ومنها: جوازُ الغزوِ بالنساء، والاستعانةُ بِهِنَّ فى الجهاد.
ومنها: جوازُ الانغماس فى العدو، كما انغمسَ أنسُ بنُ النضر وغيرُه.
ومنها: أن الإمَامَ إذا أصابته جِراحة صلَّى بهم قاعداً، وصلُّوا وراءه

قعوداً، كما فَعَلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هذِهِ الغزوة، واستمرت على ذلك سُنَّته إلى حين وفاته.
ومنها: جوازُ دعاءِ الرجل أن يُقتَلَ فى سَبيل الله، وتمنيه ذلك، وليس هذا من تمنى الموت عنه، كما قال عبد الله بن جحش: اللهُم لقِّنى من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَردُه، فأقاتله، فيقتلنى فيك،. ويسلبنى، ثم يجدَع أنفى وأُذنى، فإذا لقيتُكَ، فقلتَ: يا عبدَ اللهِ
بن جحش، فيم جُدِعْتَ ؟ قلت: فيك يا رَبِّ.
ومنها: أن المسلِمَ إذا قتل نفسه، فهو من أهل النار، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قُزْمَانَ الذى أبلى يومَ أُحُدٍ بلاءً شديداً، فلما اشتدَّت بِهِ الجِراحُ، نَحَرَ نفسه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ".

ومنها: أن السُّنَّةَ فى الشهيدِ أنه لا يُغَسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُكَفَّن فى غير ثيابه، بل يُدفَن فيها بدمه وكُلومه، إلا أن يُسْلَبَهَا، فيكفَّنَ فى غيرها.

ومنها: أنه إذا كان جُنباً، غُسِّلَ كما غسَّلَتِ الملائكةُ حنظلةَ بن أبى عامر.
ومنها: أن السُّنَّة فى الشهداء أن يُدفنوا فى مصَارِعهم، ولا يُنقلوا إلى مكان آخر، فإن قوماً من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمرِ بَردِّ القتلى إلى مصارعهم، قال جابر: بينا أنا فى النَّظَّارَةِ، إذ جاءت عمَّتى بأبى وخالى عَادَلَتْهُمَا على ناضِح، فدخَلَتْ بهما المدينة، لنَدْفِنَهُمَا فى مقابرنا، وجاء رجل يُنادى: ألا إنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَأْمُرُكُم أن تَرْجِعُوا بِالقَتْلَى، فَتَدْفِنُوهَا فى مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ. قال: فرجعنَا بِهِمَا، فدفنَّاهما فى القتلى حيثُ قُتِلا، فبينا أنا فى خلافةِ معاويةَ بنِ أبى سُفيان، إذ جاءنى رجلٌ، فقال: يا جابرُ؛ واللهِ لقد أثار أَبَاكَ عُمَّالُ معاويَة فبدا، فخَرجَ طائفة منه، قال: فأتيتُه، فوجدتُه على النحو الذى تركتُه لم يتَغيَّرْ منهُ شئ. قال: فواريتُه، فصارت سُنَّة فى الشهداء أن يُدْفَنُوا فى مصارِعهم.
ومنها: جوازُ دفن الرجلينِ أو الثلاثة فى القبر الواحد، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَدْفِنُ الرجلين والثلاثة فى القبر، ويقول: "أيُّهم أكْثَرُ أخذاً لِلقُرآنِ، فإذا أشارُوا إلى رَجُلٍ، قَدَّمه فى اللحد ".
ودفن عبدَ الله بنَ عَمْرِو بن حرام، وعمرَو بنَ الجموح فى قبر واحد، لِمَا كان بينهُمَا مِن المحبة فقال: "ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحَابّيْنِ فى الدُّنْيَا فى

قَبْرٍ واحد"
ثمَّ حُفِرَ عنهما بعد زمنٍ طويل، ويدُ عبدِ اللهِ بن عمرو بن حرام على جرحه كما وضعها حين جُرِحَ، فأُمِيطَتْ يدُه عن جرحه، فانبعثَ الدَّمُ، فَرُدَّت إلى مكانهَا، فسكن الدم.
وقال جابر: رأيتُ أبى فى حُفرته حين حُفِرَ عليه، كأنَّه نائم، وما تغيَّر مِن حاله قليلٌ ولا كثير. قيل له: أفرأيتَ أكفانَه ؟ فقال: إنما دُفن فى نمرة خُمِرَّ وجْهُه، وعلى رجليه الحَرْمَلُ، فوجدنا النَّمِرَةَ كما هى، والحرملَ على رجليه علَى هَيْئَتِهِ، وبين ذلك ست وأربعون سنة.
وقد اختلف الفقهاء فى أمرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدفن شهداءُ أُحُد فى ثيابهم، هل هو على وجه الاستحبابِ والأولويَّة، أو على وجه الوجوب ؟ على

قولين. الثانى: أظهرُهما وهو المعروفُ عن أبى حنيفة، والأول: هو المعروف عن أصحاب الشافعى وأحمد، فإن قيل: فقد روى يعقوبُ بن شيبة وغيرُه بإسناد جيد، أن صفيَّةَ أرسلت إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبَيْنِ لِيكفِّن فيهما حمزة، فكفَّنه فى أحدهما، وكفَّن فى الآخر رجلاً آخر. قيل: حمزةُ، كان الكفارُ قد سلبوه، ومثَّلُوا به، وبقَرُوا عن بَطنِه، واستخرجوا كَبدَه، فَلِذلِكَ كُفِّنَ فى كَفَنٍ آخر. وهذا القولُ فى الضعف نظيرُ قول مَن قال: يُغسَّلُ الشهِيدُ، وسُنَّةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْلى بالاتباع.
ومنها: أن شهيدَ المعركة لا يُصلَّى عليه، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُصَلِّ على شُهدَاء أُحُد، ولم يُعرف عنه أنه صلَّى على أحد ممن استشهد معه فى مغازيه، وكذلك خلفاؤُه الراشِدُون، ونوابُهم مِن بعدهم.
فإن قيل: فقد ثبت فى "الصحيحين" من حديث عُقبة بنِ عامر، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً، فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاتَه على الميت، ثم انصرف إلى المنبر.
وقال ابنُ عباس: "صلَّى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى أُحُد".

قيل: أما صلاتُه عليهم، فكانت بعد ثمانِ سنين مِن قتلهم قُرْبَ موته، كالمودِّع لهم، ويُشبِهُ هذا خروجُه إلى البقيع قبل موته، يستغفِرُ لهم كالمودِّع للأحياء والأموات، فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّةُ الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك، لم يُؤخِّرها ثمان سنين، لا سيما عند مَنْ يقول: لا يُصلَّى على القبر، أو يصلَّى عليه إلى شهر.
ومنها: أن مَن عذره الله فى التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروجُ إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرُو بن الجموح، وهو أعرج.
ومنها: أن المسلمين إذا قَتَلُوا واحداً منهم فى الجهاد يظنُّونه كافراً، فعلى الإمام ديتُه مِن بيتِ المالِ، لأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يَدِىَ اليمانَ أبا حُذيفة، فامتنع حُذيفَةُ من أخذ الدية، وتصدَّقَ بها على المسلمين.
فصل: فى ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التى كانت فى وقعة أُحُد
وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها فى سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.
فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذى أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ،

ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.
ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته فى رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.
ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم فى الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم فى هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً فى نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: {مَا

كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. أى: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذى يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون فى غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذى هو غيبٌ شهادةً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم على ما يشاء مِن غيبه، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم فى الإيمان بالغيبِ الذى يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.
ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه فى السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم فى كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا فى الحال التى يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ

بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ فى دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التى تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التى هى من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها فى سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم فى محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ

رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فى قوله: { وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم فى هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التى اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم فى القرح والألَمِ، وتباينتم فى الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك فى سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم فى سبيلى وابتغاء مرضاتى.
ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.

ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين فى غيبه، وذلك العلم الغيبى لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحسِ.
ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.
وقوله: {واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين فى ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التى وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.
ثم ذكر حِِكمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد فى سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ على مَن ظنه وحَسِبَه.
فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أى: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه

بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزى العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.
فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا فى الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
ومنها: أن وقعةَ أُحُدٍ كانت مُقَدِّمَةً وإرهاصاً بين يدى موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثبَّتهم، ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم أَنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه وتوحِيدهِ ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حىٌ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ، لا ينبغى لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، وما بُعِثَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيخلَّد لا هُوَ ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بَقِىَ، ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ: إنَّ محمداً قد قُتِلَ، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قُتِلُوا، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ، وحكمُ هذا الخطاب

يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه، وثبت الشاكِرُون على دينهم، فنصرهم الله وأعزَّهم وظفَّرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم،
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بُدَّ أن تستوفيه، ثم تلحَقَ به، فيَرِدُ الناسُ كُلُّهم حوضَ المنايا مَوْرِداً واحِداً، وإن تنوَّعت أسبابه، ويصدُرونَ عن موقف القِيامة مصادِرَ شتَّى، فريقٌ فى الجنة وفريقٌ فى السعير،
ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلُوا وقُتِلَ معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وَهَنَ مَنْ بقىَ منهم لِما أصابهم فى سبيله، وما ضَعُفُوا، وما استكانُوا، وما وَهَنُوا عندَ القتل، ولا ضعفُوا، ولا استكانوا، بل تَلَقَّوا الشهادةَ بالقُوَّةِ، والعزِيمةِ، والإقْدَامِ، فلم يُسْتَشْهَدُوا مُدَبِرِينَ مستكينين أذلةً، بل استُشْهِدُوا أعزَّةً كِراماً مقبلينَ غير مدبرين، والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
ثم أخبر سُبحانه عما استنصرت به الأنبياءُ وأُممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم، أن يُثَبِّت أقدامَهم، وأن ينصُرَهم على أعدائهم فقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ، وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147-148]. لما علم القومُ أن العدو إنما يُدَالُ عليهم بذنوبهم، وأن الشيطانَ إنما يستزِلُّهم ويهزِمُهم بها، وأنها نوعان: تقصيرٌ فى حق أو تجاوزٌ لحد، وأن النصرةَ منوطة بالطاعة، قالُوا: ربنا اغفِرْ لنا ذنوبَنا وإسرافَنَا فى أمرنا، ثم عَلِمُوا أن ربَّهم تبارك وتعالى إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم ويَنْصُرْهم، لم يَقْدِرُوا هُم على تثبيتِ أقدامِ أنفسهم، ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنَّهُ بيده دُونهم، وأنه إن لم يُثبِّتْ أقدامَهم وينصرهم

لم يثبتُوا ولم ينتصِرُوا، فَوَفَّوا المقَامَيْنِ حقَّهما: مقامَ المقتضى، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقامَ إزالةِ المانع من النصرة، وهو الذنوبُ والإسرافُ، ثم حذَّرهم سبحانه مِن طاعة عدوِّهم، وأخبر أنَّهم إن أطاعوهم خَسِرُوا الدنيا والآخِرَة، وفى ذلك تعريضٌ بالمنافقينَ الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفِروا يومَ أُحُد.
ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمَن والاه فهو المنصور.
ثم أخبرهم أنه سيُلقى فى قلوب أعدائهم الرعب الذى يمنعهم من الهُجُومِ عليهم، والإقدام على حربهم، وأنَّه يُؤيِّد حزبَه بجند مِن الرعب ينتصِرونَ به على أعدائهم، وذلك الرعبُ بسبب ما فى قلوبهم مِن الشركِ باللهِ، وعلى قدرِ الشركِ يكون الرعبُ، فالمشركُ باللهِ أشدُّ شىءٍ خوفاً ورُعباً، والذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بالشِّرْكِ، لهم الأمنُ والهُدى والفلاحُ، والمشركُ له الخوفُ والضلالُ والشقاءُ.
ثم أخبرهم أنه صَدَقَهُمْ وعدَه فى نُصرتهم على عدوهم، وهو الصادقُ الوعد، وأنهم لو استمرُّوا على الطاعةِ، ولزوم أمر الرسول لاستمرَّت نُصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقُوا مركزهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة، ففارقتهم النصْرَةُ، فصرفهم عن عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقِب المعصيةِ، وحُسنِ عاقبة الطاعة.
ثم أخبر أنه عَفَا عنهم بعد ذلك كُلِّه، وأنه ذو فضلٍ على عباده المؤمنين. قيل للحسن: كيف يعفو عنهم، وقد سلَّط عليهم أعداءَهم حتى قتلُوا منهم مَن قتلوا، ومثَّلُوا بهم، ونالُوا منهم مَا نالوه ؟ فقال: لولا عفوُه عنهم، لاستأصلَهم، ولكن بعفوه عنهم دَفَعَ عنهم عدوَّهم بعد أن كانوا مُجمعين على استئصالهم.

ثمَّ ذكَّرهم بحالهم وقتَ الفرارِ مُصعدينَ، أى: جادِّين فى الهربِ والذهاب فى الأرضِ، أو صاعدين فى الجبلِ لا يَلْوونَ على أحدٍ من نبيهم ولا أصحابهم، والرسولُ يدعوهم فى أُخراهم: "إلىَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رسُولُ اللهِ"، فأثابهم بهذا الهرب والفرارِ، غمَّاً بعدَ غَمٍّ: غمَّ الهزيمة والكسرةِ، وغمَّ صرخةِ الشيطان فيهم بأن محمداً قد قُتل.
وقيل: جازاكم غمَّاً بما غممتُم رسولَه بفراركم عنه، وأسلمتمُوه إلى عدوِّهِ، فالغمُّ الذى حصل لكم جزاءً على الغمِّ الذى أوقعتموه بنبيه، والقولُ الأولُ أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلى مَا فَاتَكُم وَلا مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران: 153] تنبيهٌ على حِكمة هذا الغم بعدَ الغمِّ، وهو أن يُنسيَهم الحزنَ على ما فاتهم مِن الظفر، وعلى ما أصابهم مِن الهزيمةِ والجِراحِ، فنسُوا بذلك السبب، وهذا إنما يحصُل بالغمِّ الذى يعقُبُه غمٌ آخر.
الثانى: أنه مطابق للواقع، فإنَّه حَصَلَ لهم غمُّ فواتِ الغنيمة، ثم أعقبه غمُّ الهزيمةِ، ثم غمُّ الجراح التى أصابتهم، ثم غَمُّ القتلِ، ثم غَمُّ سماعِهم أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قُتِلَ، ثم غَمُّ ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم، وليس المراد غمَّين اثنين خاصة، بل غمَّاً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله: {بِغَمٍّ} [آل عمران: 153]، من تمام الثوابِ، لا أنه سببُ جزاء الثواب، والمعنى: أثابكم غمَّاً متَّصِلاً بغمٍّ، جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيَّهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وترك استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتهم له فى لزومِ مركزهم، وتنازعهِم فى الأمر، وفشلهم، وكُلُّ واحد من هذه الأمور يُوجب غمَّاً يخصُّه، فترادفت عليهم الغمومُ كما ترادفت

منهم أسبابُها وموجباتُها، ولولا أن تداركهم بعفوِه، لكان أمراً آخَرَ.
وَمِن لطفه بهم، ورأفته، ورحمته، أن هذه الأمور التى صدرت منهم، كانت من موجبات الطباع، وهى من بقايا النفوس التى تمنع من النصرة المستقرة، فقيَّض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل، فترتَّب عليها آثارُها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبةَ منها والاحترازَ مِن أمثالها، ودفعها بأضدادها أمرٌ متعيَّنٌ، لا يتم لهم الفلاحُ والنصرةُ الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشدَّ حذراً بعدها، ومعرفة بالأبوابِ التى دخل عليهم منها.
ورُبَّمَا صَحَّتِ الأَجْسَامُ بِالعِلَلِ
ثم إنه تداركهم سُبحانه برحمته، وخفَّف عنهم ذلك الغَمَّ، وغيَّبه عنهم بالنُّعاسِ الذى أنزله عليهم أمناً منه ورحمة، والنعاسُ فى الحرب علامةُ النصرة والأمنِ، كما أنزله عليهم يومَ بدر، وأخبر أن مَن لم يُصبْه ذلك النعاسُ، فهو ممن أهمته نفسُه لا دِينُه ولا نبيُّه ولا أصحابُه، وأنهم يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية.
وقد فُسِّرَ هذا الظنُّ الذى لا يليقُ باللهِ، بأنه سبحانه لا ينصُرُ رسولَه، وأن أمْرَهُ سيضمحِلُّ، وأنه يُسلِمُه للقتل، وقد فُسِّرَ بظنهم أن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حِكمة له فيه، ففسر بإنكارِ الحِكمة، وإنكارِ القدر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظْهِرَه على الدِّين كُلِّه، وهذا هو ظنُّ السَّوْءِ الذى ظَنَّهُ المنافقُونَ والمشرِكُونَ به سبحانه وتعالى فى "سورة الفتح" حيث يقول: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينََ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيراً}[ الفتح:5]،

وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنَّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِهِ العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ يحكمته وحمدِه، وتفرُّدِهِ بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذى لا يُخلفُهُ، وبكلمته التى سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هُمُ الغالبون، فمَن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءِ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزًَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرةُ المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فَمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله، وكذلك مَن أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمتَه، وكذلك مَن أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة، وغايةٍ مطلوبة هى أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ}[ ص: 27] وأكثرُ النَّاسِ يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوءِ فيما يختصُّ بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا يسلَمُ عن ذلك إلا مَن عرف الله، وعرف أسماءَه وصفاتِهِ، وعرفَ

موجبَ حمدِهِ وحكمته، فمَن قَنِطَ مِن رحمته، وأيسَ مِن رَوحه، فقد ظن به ظنَّ السَّوء.
ومَن جوَّز عليه أن يعذِّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّى بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السوءِ.
ومَن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهى، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوء.
ومَن ظن أنه لن يجمع عبيدَه بعد موتِهم للثوابِ والعِقاب فى دار يُجازى المحسنَ فيها بإحسانه، والمسىءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ.
ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذى عملَه خالصاً لوجهه الكريمِ على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يُعاقِبُه بما لا صُنعَ فيه، ولا اختيار له، ولا قدرةَ، ولا إرادة فى حصوله، بل يُعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظنَّ به أنه يجوزُ عليه أن يؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزاتِ التى يؤيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجرِيها على أيديهم يُضِلُّونَ بها عباده، وأنه يحسُن منه كُلُّ شئ حتى تعذيبُ مَن أفنى عمره فى طاعته، فيخلدُه فى الجحيم أسفلَ السافلينَ، ويُنعِمُ مَن استنفد عُمُرَه فى عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده فى الحسن سواء، ولا يُعرف امتناعُ أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضى بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر، فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوْء.

ومَن ظن به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ، لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لم يُصرِّح به، وصرَّح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد مِن خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم وقُواهم وأفكارَهم فى تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التى هى بالألغاز والأحاجى أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم فى معرفة أسمائِه وصفاتِه على عقولهم وآرائهم، لا على كتابِه، بل أراد منهم أن لا يحمِلوا كلامَه على ما يعرِفُون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرِّحَ لهم بالحق الذى ينبغى التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التى توقعهم فى اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلافَ طريق الهدى والبيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ، فإنه إن قال: إنه غيرُ قادر على التعبير عن الحقِّ باللَّفظ الصريح الذى عبَّر به هو وسلفُه، فقد ظن بقُدرته العجز، وإن قال: إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّن، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ فى الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه، هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ فى كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ مِن ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق، وهذا من أسوإ الظن بالله، فَكُلُّ هؤلاء من الظانين بالله ظن السَّوْءِ، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.

ومَن ظن به أن يكونَ فى ملكه ما لا يشاء ولا يَقْدِرُ على إيجاده وتكوينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظن به أنه كان مُعَطَّلاً مِن الأزل إلى الأبدِ عن أن يفعلَ، ولا يُوصفُ حينئذ بالقُدرة على الفعل، ثم صارَ قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه لا يَسمع ولا يُبصِرُ، ولا يعلم الموجودات، ولا عَدد السماواتِ والأرضِ، ولا النجوم، ولا بنى آدمَ وحركاتهِم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات فى الأعيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ أنه لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا عِلم له، ولا إرادة، ولا كلامَ يقولُ به، وأنه لم يُكلِّم أحداً من الخلق، ولا يتكلَّمُ أبداً، ولا قال ولا يقولُ، ولا له أمرٌ ولا نهى يقومُ به، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه فوقَ سماواتِه على عرشه بائناً من خلقه، وأن نِسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنِسبتها إلى أسفلِ السافلين، وإلى الأمكنة التى يُرغب عن ذكرها، وأنه أسفلُ، كما أنه أعلى، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه.
ومَن ظنَّ به أنه يُحِبُّ الكفر، والفسوقَ، والعِصيانَ، ويحبُّ الفسادَ كما يُحبُّ الإيمان، والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه لا يُحبُّ ولا يَرضى، ولا يَغضب ولا يَسخط، ولا يُوالى ولا يُعادى، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذواتِ الشياطين فى القُرب مِن ذاته كذوات الملائكة المقرَّبين وأوليائه

المفلحين، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ أنه يُسوى بين المتضادَّيْن، أو يفرِّق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحْبِطُ طاعاتِ العمر المديد الخالصةَ الصوابَ بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات فى النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة، ويُحبطُ بها جميع طاعاته ويُخَلِّدُه فى العذاب، كما يخلد مَن لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعاتِ عمره فى مساخِطه ومعاداة رسله ودينه، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
وبالجملة.. فمَن ظنَّ به خِلاَفَ ما وصف به نَفسه ووصفه به رسله، أو عطَّل حقائقَ ما وصف به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوْءِ.
ومَن ظن أن له ولدَاً، أو شريكاً أو أن أحدَاً يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينَه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء مِن دونه يتقرَّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه.
ومَن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقربِ إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئاً لم يُعوِّضه خيراً منه، أو مَن فعل لأجله شيئاً لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.
ومَن ظنَّ به أنه يغضبُ على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظنَّ به ظن السَّوْءِ.

ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه فى الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.
ومن ظنَّ به أنهُ يُثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك فى دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله.
ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع فى معاصيه، ثم اتخذ من دونه ولياً، ودعا مِن دونه مَلَكاً أو بَشَراً حَياً، أو ميتاً يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه مِن عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ، وذلك زيادة فى بُعْدِه من الله، وفى عذابه.
ومَن ظنَّ به أنه يُسلِّطُ على رسولِهِ محمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعداءَهُ تسليطاً مستَقِرّاً دائماً فى حياته وفى مماته، وابتلاه بهم لا يُفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وَصِيَّه، وظلمُوا أهلَ بيتِهِ، وسلبُوهم حقَّهُم، وأذلُّوهم، وكانت العزَّةُ والغلبةُ والقهرُ لأعدائِه وأعدائِهم دائماً مِن غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرَهم لهم، وغصبهم إياهم حقَّهم، وتبديلَهم دِينَ نبيهم، وهو يقدر على نُصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصُرُهم ولا يُديلهم، بل يُديل أعداءهم عليهم أبداً، أو أنَّه لا يقدِرُ على ذلكَ، بل حصل هذا بغير قُدرته ولا مشيئته، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه فى حفرته، تُسَلِّمُ أُمتُه عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضةُ، فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأه، سواءً قالوا: إنه قادرٌ على أن ينصرَهم، ويجعل لهم الدولةَ والظفرَ، أو أنه غيرُ قادر على ذلك، فهم قادِحون فى قُدرته، أو فى حِكمته وحمده، وذلك مِن ظنِّ السَّوْءِ به، ولا ريب أن الربَّ

الذى فعل هذا بغيضٌ إلى مَن ظ نَّ به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجبُ أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسِدَ بخرق أعظمَ منه، واستجاروا من الرَّمضاءِ بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يَقْدِرُ على أفعال عباده، ولا هى داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظَنَّ إخوانهم المجوس والثَّنَوِيةِ بربهم، وكلٌ مبطل، وكافر، ومبتدِع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل كلهم إلا مَن شاء الله يظنون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإن غالبَ بنى آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمنى ربِّى، ومنعنى ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومَن فتَّش نفسَه، وتغلغل فى معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار فى الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما فى زِناده، ولو فتَّشت مَن فتشته، لرأيت عنده تعتُّباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغى أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌ ومستكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك ؟
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِى عَظِيمَةٍ ... وَإلاَّ فَإنِّى لاَ إخَالُكَ نَاجِيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السَّوْءِ، وليظنَّ السَّوْءَ بنفسه التى هى مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركَّبة على الجهل والظلم، فهى أولى بظن السَّوْءِ من أحكم الحاكمين، وأعدلِ العادلين، وأرحمِ

الراحمين، الغنىِّ الحميد، الذى له الغنى التام، والحمدُ التام، والحكمةُ التامة، المنزّهُ عن كل سوءٍ فى ذاته وصفاتِهِ، وأفعالِه وأسمائه، فذاتُه لها الكمالُ المطلقُ مِن كل وجه، وصفاتُه كذلك، وأفعالُه كذلك، كُلُّها حِكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كُلُّها حُسْنَى.
فَلا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنّ سَؤْءِ ... فَإنَّ اللهَ أَوْلَى بِالجَمِيلِ
وَلا تَظْنُنْ بِنَفْسِكَ قَطُّ خَيْرَاً ... وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلِّ سُوءِ ... أَيُرجَى الخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخيلِ
وظُنَّ بِنَفّسِكَ السُّوآى تَجِدْهَا ... كَذَاكَ وخَيْرُهَا كَالمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقىً فِيهَا وَخَيْرٍ ... فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّبِّ الجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلاَ مِنْهَا وَلَكِنْ ... مِنَ الرَّحْمن فَاشْكُرْ لِلدَّلِيلِ
والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام مِن قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[ آل عمران:125]، ثم أخبر عن الكلام الذى صدَر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: {هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَىْءٍ}[ آل عمران:154]، وقولهم : {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا}[ آل عمران:154]، فليس مقصودُهم بالكلمةِ الأولى والثانية إثباتَ القدر، ورد الأمرِ كُلِّه إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى، لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُنَ الردُّ عليه بقوله: {قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ}[ آل عمران:154]، ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظَنَّ الجاهلية، ولهذا قال غيرُ واحد من المفسِّرين: إن ظنَّهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمرَ لو كان إليهم، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه تبعاً لهم يسمعُون منهم، لما أصابهم القتلُ، ولكان النصرُ والظفرُ لهم، فأكذبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى هذا الظنِّ الباطل الذى هو ظنُّ

الجاهلية، وهو الظنُّ المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذِ القضاء والقدر الذى لم يكن بُدٌ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمرَ لو كان إليهم، لما نفذ القضاءُ، فأكذَبَهُم اللهُ بقوله: {قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}[ آل عمران:154]، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به عِلمه وكتابه السابق، وما شاء اللهُ كان ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أم أبَوْا، وما لم يَشَأ لم يكن، شاءه الناسُ أم لم يَشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمةِ والقتل، فبأمره الكونى الذى لا سبيلَ إلى دفعه، سواء أكان لكم من الأمر شئ، أو لم يكن لكم، وأنَّكُم لو كنتم فى بيوتكم، وقد كُتِبَ القتلُ على بعضكم لخرج الذين كُتِب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بُد، سواء أكان لهم من الأمر شئ، أو لم يكن، وهذا مِن أظهر الأشياء إبطالاً لقول القَدَرِيَّةِ النفاة، الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤُه اللهُ، وأن يشاء ما لا يقع.
فصل
ثم أخبر سبحانه عن حِكمة أُخرى فى هذا التقديرِ، هى ابتلاءُ ما فى صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمانِ والنفاق، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافقُ ومَن فى قلبه مرضٌ، لا بد أن أن يظهر ما فى قلبه على جوارحه ولسانه.
ثم ذكر حِكمة أُخرى: وهو تمحيصُ ما فى قلوب المؤمنين، وهو تخليصهُ وتنقيتُه وتهذيبه، فإن القلوبَ يُخالطها بِغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكمِ العادة، وتزيينِ الشيطانِ، واستيلاءِ الغفلة ما يُضادُّ ما أُودعَ فيها

من الإيمانِ والإسلام والبر والتقوى، فلو تُرِكت فى عافية دائمة مستمرة، لم تَتخَلَّص من هذه المخالطة، ولم تتمحَّص منه، فاقتضت حِكمةُ العزيزِ أن قَيَّض لها مِن المِحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خِيف عليه منه الفسادُ والهلاكُ، فكانت نعمتُه سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل مَن قُتِل منهم، تُعادِلُ نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمةُ التامةُ فى هذا وهذا.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن توَلِّى مَنْ تَولَّى من المؤمنين الصادقين فى ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاسْتَزَلَّهُمُ الشيطان بتلك الأعمال حتى تولَّوْا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، ازداد بها عدوُّهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجندٌ عليه، ولا بُدَّ فللعبد كلَّ وقت سَرِيَّةٌ مِن نفسه تَهْزِمُه، أو تنصره، فهو يمُدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يُقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمالُ العبد تسوقُهُ قسراً إلى مقتضاها مِن الخير والشر، والعبدُ لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرارُ الإنسان من عدوه، وهو يُطيقه إنما هو بجُند مِن عمله، بعثه له الشيطان واستزلَّه به.
ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرارَ لم يكن عن نفاق ولا شكٍ، وإنما كان عارضاً، عفا الله عنه، فعادت شجاعةُ الإيمانِ وثباتُه إلى مركزها ونصابِها
ثم كرَّر عليهم سُبحانه: أن هذا الذى أصابهم إنما أُتوا فيه مِن قِبَل أنفسهم، وَبِسبب أعمالهم، فقال: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قَلْتُمْ أَنَّى هَذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، وذكر هذا بعينه فيما هو أعمُّ

من ذلك فى السور المكِّية فقال : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ}[ النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبةُ، فالنعمةُ مِن الله ِ مَنَّ بها عليك، والمصيبةُ إنما نشأت مِن قِبَل نفسِك وعملِك، فالأول فضلُه، والثانى عدلُه، والعبد يتقلَّب بين فضلِه وعدله، جارٍ عليه فضلُهُ، ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه
وختم الآية الأولى بقوله: {إنّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} بعد قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادلٌ قادر، وفى ذلك إثباتُ القدرِ والسببِ، فذكر السببَ، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عمومَ القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفى الجَبْرَ، والثانى ينفى القولَ بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29].
وفى ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهى أن هذا الأمر بيده وتحت قدرتِهِ، وأنه هو الذى لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبُوا كشفَ أمثاله من غيره، ولا تتَّكِلُوا على سواه، وَكَشَفَ هذا المعنى وأوضَحَه كُلَّ الإيضاح بقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللهً} [آل عمران:166]. وهو الإذن الكونى القدرى، لا الشرعى الدينى، كقوله فى السحر: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللهِ}[البقرة:102]
ثم أخبر عن حِكمة هذا التقدير، وهى أن يعلَمَ المؤمنين مِن المنافقين عِلمَ عَيان ورؤية يتميز فيه أحدُ الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان مِن حكمة هذا التقديرِ تكلُّمُ المنافقين بما فى نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردَّ اللهِ عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدَّى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يُحرم صاحبُه سعادةَ الدنيا

والآخرة، فيعودُ عليه بفساد الدنيا والآخرة، فللَّهِ كم من حكمة فى ضِمن هذه القِصة بالغةٍ، ونعمة على المؤمنين سابغةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وتخويفٍ وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما
ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمن قُتل منهم فى سبيله أحسنَ تعزية، وألطفَها وأدعَاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران: 169-170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمةِ منزلةَ القُربِ منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى
واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سُرورُهم ونعيمُهم، واستبشارهم بما يُجدِّدُ لهم كُلَّ وقت مِن نعمته وكرامته، وذَكَّرهم سبحانه فى أثناء هذه المحنة بما هو مِن أعظمِ مننه ونعمه عليهم التى إن قابلوا بها كُلَّ محنة تنالهم وبلية، تلاشت فى جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهى مِنَّتُه عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم، يتلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلمهم الكتابَ والحِكمة، ويُنقذُهم مِن الضلال الذى كانُوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظُّلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكُلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنالُ العبد بعد حصول هذا الخيرِ العظيم له أمرٌ يسيرٌ جداً فى جنب الخير الكثير، كما ينالُ الناس بأذى المطرِ فى جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره لِيوحِّدوا ويتَّكِلُوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها مِن الحكم لئلا يتهموه فى قضائه وقدره،

وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدراً، وأعظمُ خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالُوه من ثوابه وكرامته، لينافِسوهم فيه، ولا يحزنُوا عليهم، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغى لكرم وجهه، وعزِّ جلاله.
فصل [ فى انقضاء الحرب ورجوع المشركين ]
ولما انقضت الحربُ، انكفأ المشركون، فظنَّ المسلمون أنهم قَصَدُوا المدينةَ لإحراز الذرارى والأموال، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "اخْرُجْ فى آثارِ القَوْمِ فانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ، فَإنْ هُمْ جَنَّبُوا الخَيْلَ وامْتَطَوُا الإِبلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الخَيْلَ وسَاقُوا الإِبلَ فَإنَّهُمْ يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، فوالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لِئَنْ أرادُوهَا، لأَسِيرَنَّ إلَيْهِمْ، ثُمَّ لأَنَاجِزَنَّهُم فِيهَا".
قال على: فخرجتُ فى آثارهم انظرُ ماذا يصنعون، فجنَّبوا الخيلَ، وامتطوا الإبل، ووجَّهوا إلى مكة، ولما عزمُوا على الرجوع إلى مكة، أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: مَوْعِدُكم المَوْسِمُ ببدر، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قولوا: نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا" قال أبو سفيان: "فَذلِكُم المًَوْعِد" ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان فى بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعُوا شيئاً، أصبتُم شوكتَهم وحدَّهم، ثم تركتُموهم، وقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجِعُوا حتى نستأصِل شأفَتَهم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادى فى الناس، وندبَهم إلى المسيرِ إلى لقاء عدوهم، وقال: "لاَ يَخْرُجْ مَعَنَا إلاَّ مَنْ شَهِدَ القِتَالَ"، فقال له عبد الله بن أُبَىّ: أركبُ معك ؟ قال: "لا"، فاستجاب له المسلمون على ما بِهم من القرح الشديدِ والخوفِ، وقالُوا: سمعاً وطاعةً، واستأذنه جابرُ بنُ عبد الله،

وقال: يا رَسُولَ الله؛ إنى أُحب ألاَّ تشهدَ مشهداً إلا كنتُ معك، وإنما خلَّفنى أبى على بناتِهِ، فأذَنْ لى أسيرُ معك، فأذِن له، فسارَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون معه حتى بَلَغُوا حمراء الأسد"، وأقبل معبدُ بن أبى معبد الخُزاعى إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم، فأمره أن يلحقَ بأبى سفيان، فيخذِّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءكَ يا معبدُ ؟ فقال: محمدٌ وأصحابه، قد تحرَّقوا عليكم، وخرجُوا فى جمع لم يخرجُوا فى مثله، وقد نَدِم مَن كان تخلَّف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقولُ ؟ فقال: ما أرى أن ترتَحِلَ حتى يطلع أولُ الجيش من وراء هذه الأَكَمَة. فقال أبو سفيان: واللهِ لقد أجمعنا الكرَّةَ عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإنى لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقى أبو سفيان بعضَ المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تُبَلِّغَ محمداً رسالة، وأُوقِرَ لك راحلتَكَ زبيباً إذا أتيتَ إلى مكة ؟ قال: نعم، قال: أبلغْ محمداً أنَّا قد أجمعنا الكَرَّةَ لِنَستأصِلَه ونَسْتَأْصِلَ أصحابَه، فلما بلغهم قولُه، قالُوا: {حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ، وَاللهُ ذو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

فصل
كانت وقعة أحد يوم السبت في سابع شوال سنة ثلاث كما تقدم، فرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فاقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فلما استهل هلال المحرم، بلغه أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث أبا سلمة، وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلاً من الأنصار والمهاجرين، فأصابوا إبلاً، وشاء، ولم يلقوا كيداً، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.
فصل
فلما كان خامِسُ المحرَّم، بلغه أنَّ خالدَ بنَ سُفيان بن نُبَيْح الهُذَلى قد جمع له الجموعَ، فبعث إليه عبدَ اللهِ أُنَيس فقتله، قال عبدُ المؤمن بن خلف: وجاءَه برأسه، فوضعه بين يديه، فأعطاه عصاً، فقال:

"هَذِهِ آيَةُ بَيْنِى وبَيْنَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فلما حضرته الوفاةُ أوصى أن تُجعل معه فى أكفانه، وكانت غيبتهُ ثمانَ عشرةَ لَيلة، وَقَدِمَ يومَ السبت لسبع بَقين مِن المحرَّم.
فلمَّا كان صفر، قًدِمَ عليه قَوْمٌ مِن عَضَلٍ والقَارةِ، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألُوهُ أن يَبْعثَ معهم مَن يُعَلِّمُهم الدِّينَ، ويُقرئهُمُ القُرآن، فبعث معهم سِتَّة نَفَرٍ فى قول ابن إسحاق، وقال البخارى: كانُوا عشرة، وأَمَّر عليهم مَرْثَدَ بنَ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِى، وفيهم خُبيب بنُ عدى، فذهبوا معَهم، فلما كانُوا بالرَّجِيع، وهو ماءٌ لهُذَيْلٍ بناحيةِ الحِجاز غدرُوا بهم، واستصرخُوا عليهم هُذيلاً، فجاؤوا حتَّى أحاطُوا بهم، فقتلُوا عامَّتَهُم، واستأسرُوا خُبَيْبَ بْنَ عدِىٍّ، وزَيْدَ ابن الدّثِنَةِ، فذهبُوا بهما، وباعُوهما بمكة، وكانا قَتلا مِن رؤوسهم يَوْمَ بدر فأما خُبيب،

فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعُوا قتله، فخرجُوا به مِن الحَرَمِ إلى التنعيم، فلما أجمعُوا على صَلبه، قال: دَعُونى حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فتركُوهُ فصلاهما، فلمَّا سَلَّمَ قال: واللهِ، لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا إنَّ مَا بى جَزَعٌ، لَزِدْتُ، ثُمَّ قال: "اللهُمَّ أَحْصِهمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بِدَدَاً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أحداً،" ثم قال:
لَقَدْ أَجْمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلى، وَأَلّبُوا ... قَبَائِلَهُم واسْتَجْمَعُوا كُلَّ مجْمَعِ
وكلُّهُمُ مبدى العداوةِ جاهدٌ ... عَلَىَّ لأنى فى وِثاقٍ بِمَضْيَعِ
وقَدْ قَرَّبُوا أَبْنَاءَهُم ونسَاءَهُم ... وقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طوِيلٍ مُمَنَّعِ
إلَى اللهِ أَشْكُوا غُرْبَتِى بَعْدَ كُرْبَتِى ... وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لى عِنْدَ مَصْرَعِى
فَذَا العَرْشِ صَبِّرْنى عَلَى ما يُرادُ بى ... فَقَدْ بَضَّعُوا لحْمى وَقَد يَاسَ مَطْمَعِى
وَقَدْ خَيَّرُونى الكُفْرَ، والمَوْتُ دُونهُ ... فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاىَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِى حِذَارُ المَوْت إنِّى لَمَيِّتٌ ... وإنَّ إلى ربِّى إيَابى ومَرْجِعى
وَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِما ... عَلَى أَىِّ شِقٍّ كان فى اللهِ مَضْعَجِى
وَذلِكَ فى ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ ... يُبارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شلْوٍ مُمَزَّعِ
فَلَسْتُ بمبدٍ للعدوِّ تَخَشُّعاً ... ولا جَزَعاً، إنى إلى الله مَرجعى
فقال له أبو سفيان: أيسرُّك أنَّ محمداً عندنا تُضْرَبُ عنقُه وإنك فى أهلك، فقال: لا واللهِ، ما يسرُّنى أنى فى أهلى، وأنَّ محمداً فى مكانهِ الَّذِى هُوَ فيه تُصيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤذِيه.

وفى "الصحيح": أن خبيباً أوَّلُ مَنْ سنَّ الركعتين عِند القتل. وقد نقل أبو عمر بن عبدِ البر، عن اللَّيثِ بن سعد، أنه بلغه عن زيدِ بن حارثة، أنه صلاهما فى قصةٍ ذكرها، وكذلك صلاهما حُجْرُ بنُ عدى حين أمر معاويةُ بقتله بأرضِ عذراء من أعمالِ دمشق.
ثم صَلبوا خُبَيْبَاً، ووكَّلوا به مَن يَحْرُسُ جُثَّته، فجاء عمرو بنُ أُمية الضَّمْرِى، فاحتمله بجذعه ليلاً، فذهب به، فدفنه.
ورؤى خُبيبٌ وهو أسيرٌ يأكل قِطْفاً مِن العِنَبِ، وما بمكة ثَمَرَةٌ، وأما زيدُ بن الدَّثِنَةِ، فابتاعه صفوانُ بنُ أُمية، فقتله بأبيه.
وأما موسى بن عقبة، فذكر سبب هذه الوقعة، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث هؤلاء الرهط يتحسَّسُون له أخبار قُريش، فاعترضهم بنو لَحيان.
فصل
وفى هذا الشهر بعينه، وهو صفر من السنة الرابعة، كانت وقعة بِئر مَعُونة، وملخَّصُها أن أبا براء عامِرَ بنَ مالك المدعو ملاعبَ الأسِنَّة، قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ، فدعاه إلى الإسلام، فلم يُسلم، ولم

يبعد، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ لو بعثتَ أصحابَك إلى أهلِ نَجْدٍ يدعونهُم إلى دِينك، لرجوتُ أن يُجيبُوهم. فقال: "إنى أخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ"، فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم، فبعث معه أربعينَ رجلاً فى قول ابن إسحاق. وفى الصحيح: "أنَّهم كانُوا سبعينَ" والذى فى الصحيح: هو الصحيح.وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بنى ساعِدة الملقب بالمُعْنِقِ ليموت وكانوا من خِيارِ المسلمينَ، وفُضلائهم، وساداتِهم، وقرائِهم، فسارُوا حتى نزلوا بئر مَعُونة، وهى بين أرض بنى عامر، وحرَّة بنى سُليم، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حَرامَ بنَ ملحان أخا أُمِّ سليم بكتابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدوِّ الله عامِر بن الطفيل، فلم ينظُرْ فيه، وأمرَ رجلاً، فطعنه بالحربةِ من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدَّمَ، قال: "فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ". ثم استَنفَرَ عدوُّ اللهِ لِفوره بنى عامر إلى قتال الباقين، فلم يُجيبُوهُ لأجل جِوار أبى بَراء، فاستنفر بنى سليم، فأجابته عُصَيَّةُ وَرِعْلٌ وذَكْوَانُ، فجاؤوا حتى أحاطُوا بأصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاتلُوا حتى قُتِلُوا عن آخرهم إلا كعبََ بنَ زيدِ بن النجار، فإنه أرتُثَّ بين القتلى، فعاش حتَّى قُتِل يومَ الخندق، وكان عمرو بن أُمية الضمرى، والمنذرُ بن عقبة بن عامر فى سَرْح المسلمينَ، فرأيا الطيرَ تحومُ على موضع الوقعة، فنزل

المنذر بن محمد، فقاتلَ المشركين حتى قُتِلَ مع أصحابه، وأُسِرَ عَمرُو بن أُمية الضَّمْرِى، فلما أخبر أنه من مُضَر، جَزَّ عامِرٌ ناصيتَه، وأعتقه عن رقبة كانت على أُمِّه، ورجع عمرُو بن أمية، فلما كان بالقَرْقَرَةِ مِن صدرِ قناة نزل فى ظِلِّ شجرة، وجاء رجلان من بنى كِلاب، فنزلا معه، فلما ناما، فتكَ بهما عمرُو، وهُو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهدٌ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشعُرْ به، فلما قَدِمَ، أخبرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما فعلَ، فقال: "لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلينِ لأَدِيَنَّهُمَا".
فكان هذا سببَ غزوة بنى النضير، فإنه خرج إليهم لِيعينوه فى ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف، فقالوا: نعم، وجلَس هو وأبو بكر وعمر وعلى، وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا، وقالوا: مَن رجلٌ يُلقِى على محمَّدٍ هذه الرَّحى فيقتله ؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جِحاش لعنه الله، ونزل جبريلُ مِن عند رب العالمين على رسولِهِ يُعلمه بما همُّوا به، فنهض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن وقته راجعاً إلى المدينة، ثم تجهَّز، وخرج بنفسه لِحربهم، فحاصرهم سِتَّ ليال، واستعمل على المدينة ابنَ أُمِّ مكتوم، وذلك فى ربيع الأول.
قال ابن حزم: وحينئذ حُرِّمَتِ الخمرُ، ونزلوا على أن لهم ما حملت إبلُهم غيرَ السلاح، ويرحلُون مِن ديارهم، فترحَّل أكابِرُهم كحُيَىّ

بن أخْطَبَ، وسلامِ بنِ أبى الحُقَيْق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلانِ فقط، يامين بن عمرو، وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما، وقسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموالَ بنى النضير بين المهاجرينَ الأوَّلين خاصة، لأنها كانت مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، إلا أنه أعطى أبا دُجانة، وسهَل بنَ حُنَيْفٍ الأنصاريين لِفقرهما.
وفى هذه الغزوة، نزلت سورةُ الحشر، هذا الذى ذكرناه، هو الصحيح عند أهل المغازى والسير.
وزعم محمد بن شهاب الزهرى، أن غزوة بنى النضير كانت بعد بدرٍ بستة أشهر، وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذى لا شك فيه أنها كانت بعدَ أُحُد، والتى كانت بعد بدر بستة أشهر: هى غزوة بنى قَيْنُقَاع، وقُريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الْحُدَيْبية، وكان له مع اليهود أربعُ غزوات، أولها: غزوة بنى قَيْنُقَاع بعد بدر، والثانية: بنى النضير بعد أُحُد، والثالثة: قُريظة بعد الخندقِ، والرابعة: خيبر بعد الحُديبية.

فصل: [فى قنوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً يدعو على الَّذِين قتلوا القُرَّاءَ]
وقنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرَاً يَدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا القُرَّاءَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، ثم تَركَهُ، لَمَّا جَاؤوا تَائِبِينَ مُسْلِمِينَ.

فصل: [فى غزوة ذات الرِّقاع ]
ثُمَّ غزا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه غزوةَ ذاتِ الرِّقاعِ، وهى غزوةُ نجدٍ، فخرج فى جُمادى الأولى مِن السنة الرابعة، وقيل: فى المحرَّم، يُريدُ مُحَارِبَ، وبنى ثعلبة بن سَعْدِ بن غَطَفَان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفارىَّ، وقيل: عثمانَ بن عفان،
وخرج فى أربعمائة من أصحابه. وقيل: سبعمائة، فلقى جمعاً مِن غَطَفَان، فتواقفُوا، ولم يكن بينهم قِتال، إلا أنه صلَّى بهم يومئذ صلاَة الخوف، هكذا قال ابن إسحاق، وجماعة من أهل السير والمغازى فى تاريخ هذه الغزاة، وصلاة الخوف بها

وتلقَّاه الناسُ عنهم، وهو مُشْكِلٌ جدَاً، فإنه قد صحَّ أن المشركين حَبَسُوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنْ صَلاةِ العصْرِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ.
وفى "السنن" و"مسند أحمد"، والشافعى رحمهما الله، أنَّهُم حَبَسُوهُ عن صَلاَةِ الظُّهْرِ، والعَصْرِ، والمغْرِبِ، والعَشَاء، فصلاهُنَّ جميعاً. وذلك قبلَ نزولِ صلاةِ الخوفِ، والخندقُ بعدَ ذاتِ الرِّقاع سنةَ خمس.
والظاهرُ أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول صلاة صلاها للخوف بعُسْفَان، كما قال أبو عيَّاش الزُّرَقِى: كنَّا مع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعُسْفان، فَصَلَّى بنا الظُّهْرَ، وعَلَى المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالدُ بنُ الوَلِيدِ، فَقَالُوا: لَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً، ثُمَّ قَالُوا: إنَّ لَهُمْ صَلاةً بَعْدَ هَذِهِ هِىَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِن أمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَنَزَلَتْ صَلاةُ الخَوْفِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، فَصَلَّى بِنَا العَصْرَ، فَفَرقَنَا فِرْقَتَيْنِ... وذكر الحديث رواه أحمد وأهلُ السنن
وقال أبُو هُريرة: كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازلاً بَيْنَ ضَجْنَانَ وعُسْفَانَ

مُحاصِرَاً للمُشْرِكِينَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ لِهؤُلاَءِ صَلاةً هِىَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَجْمِعُوا أَمْرَكُم، ثُمَّ مِيلُوا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ أَصْحَابَه نِصْفَيْنِ.... وذكر الحديث، قال الترمذىُّ: حديثٌ حسنٌ صحيح.
ولا خِلاَفَ بينهم أن غزوةَ عُسْفَانَ كانت بعدَ الخندق، وقد صحَّ عنه أنه صلَّى صلاة الخوفِ بِذَاتِ الرِّقاع، فعُلِمَ أنها بعد الخندقِ وبعد عُسْفَان، ويؤيِّدُ هذا أنَّ أبا هُرَيرة، وأبا موسى الأشعرى شهدا ذاتَ الرِّقاع، كما فى "الصحيحين" عن أبى موسى، أنه شهد غزوة ذات الرِّقاع، وأنَّهُمْ كَانُوا يَلفُّونَ عَلَى أرْجُلِهِمُ الخِرَقَ لَمَّا نَقِبَتْ.
وأمَّا أبو هُريرَة، ففى "المسند" "والسنن" أن مروانَ بنَ الحكم سأله: هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاةَ الخوفِ ؟ قال: نعم، قال: متى ؟ قال: عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ.
وهذا يَدُلُّ على أن غزوة ذاتِ الرِّقاع بعد خيبر، وأنَّ من جعلها قبل الخندق، فقدْ وهمَ وهماً ظاهراً، ولمَّا لَمْ يَفْطَن بعضُهم لهذا، ادَّعى أن غزوةَ ذاتِ الرِّقاع كانت مرَّتين، فمرةً قبلَ الخندق، ومرةً بعدها على عادتهم فى تعديدِ الوقائع إذا اختلفت ألفاظَهَا أو تاريخُهَا.

ولو صحَّ لهذا القائل ما ذكره، ولا يَصِحُّ، لم يمكن أن يكونَ قد صلَّى بهم صلاةَ الخوف فى المرة الأولى لما تقدم مِن قصة عُسْفَان، وكونها بعد الخندق، ولهم أن يُجيبوا عن هذا بأن تأخيرَ يومِ الخندق جائزٌ غيرُ منسوخ، وأن فى حال المسايفة يجوزُ تأخيرُ الصلاة إلى أن يتمكَّن من فعلها، وهذا أحدُ القولين فى مذهب أحمد رحمه الله وغيره، لكن لا حِيلة لهم فى قصة عُسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق.
فالصواب تحويل غزوةِ ذات الرِّقاع مِن هذا الموضع إلى ما بعدَ الخندق، بل بعدَ خَيبر، وإنما ذكرناها هاهنا تقليداً لأهل المغازى والسير، ثم تبيَّن لنا وهمُهم وبالله التوفيق.
ومما يدلُّ على أن غزوةَ ذاتِ الرِّقاع بعد الخندق، ما رواه مسلم فى "صحيحه" عن جابر قال: أقبلْنَا مَعَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتّى إذا كُنَّا بذات الرِّقاعِ، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّقٌ بالشَّجرةِ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فاخْتَرَطَهُ، فذكر القِصَّةَ، وقال: فُنودى بالصَّلاة، فصلَّى بطائفةٍ رَكعتينِ، ثمَّ تأخَّرُوا، وصلَّى بالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكعتينِ، فكانت لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرْبَعُ رَكَعَاتٍ، ولِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ.
وصلاة الخوف، إنما شُرِعَتْ بعدَ الخندقِ، بل هذا يدُلُّ على أنها

بعد عُسْفَان.. والله أعلم.
وقد ذكروا أن قصَّةَ بَيْعِ جَابِرٍ جَمَلَه مِن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت فى غزوة ذَاتِ الرِّقاع. وقيل: فى مرجعه مِن تبوك، ولكن فى إخباره للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك القضية، أنَّه تزوج امرأة ثيباً تقومُ على أخواتِهِ، وتكفُلهن، إشعارٌ بأنه بادر إلى ذلك بعد مقتل أبيه، ولم يؤخِّرْ إلى عام تبوك.. والله أعلم.
وفى مرجعهم مِن غزوةِ ذات الرِّقاع، سَبَوُا امرأةً من المشركين، فنذَرَ زوجُهَا ألاّ يَرْجِعَ حتَّى يُهْرِيقَ دماً فى أصحابِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء ليلاً، وقد أرصدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ رَبِيئَةً لِلمسلمين مِن العدو، وهما عبَّادُ بنُ بِشر، وعمَّارُ بنُ ياسر، فضرب عباداً، وهو قائمٌ يُصلِّى بسهمٍ، فنزعه، ولم يُبطل صلاته، حتى رَشَقَه بثلاثة أسهم، فلم ينْصَرِفْ منها حَتَّى سَلَّمَ، فَأَيْقَظَ صاحِبَه فقال: سبحان الله. هلاَّ أنبهتنى ؟ فقال: إنِّى كُنْتُ فى سُورةٍ، فكرِهْتُ أن أقطَعَهَا.
وقال موسى بن عقبة فى "مغازيه": ولا يُدرى متى كانت هذه الغزوةُ قَبْلَ بدرٍ، أو بعدَهَا، أو فيما بَيْنَ بدرٍ وأُحُد أو بعد أُحُد. ولقد أبعَدَ جدّاً إذ جوَّز أن تكون قبْلَ بدرٍ، وهذا ظاهِرُ الإحالة، ولا قَبْلَ أُحُدٍ، ولا قَبْلَ الخندق كما تقدم بيانُه.

فصل
وقد تقدّم أن أبا سُفيانَ قال عِند انصرافِهِ من أُحُد: مَوْعِدُكُم وإيانا العامُ القابلُ ببدر، فلما كان شعبانُ وقيل: ذو القَعدةِ مِن العامِ القابِلِ، خرجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِموعِده فى ألفٍ وخمسمائة، وكانتِ الخيلُ عشرةَ أفراس، وحَمَلَ لِواءَهُ علىُّ بن أبى طالب، واستخلف على المدينةِ عبدَ الله بنَ رواحة، فانتهى إلى بدر، فأقام بها ثمانيةَ أيامٍ ينتظرُ المشركين، وخرجَ أبو سفيان بالمشركين مِن مكَّةَ، وهم ألفانِ، ومعهم خمسون فرساً، فلما انْتَهَوْا إلى مَرِّ الظَّهْرَانِ على مَرْحَلَة مِنْ مكَّة قال لهم أبو سفيان: إن العامَ عامُ جَدْبٍ، وقد رأيتُ أنى أرجِعُ بكم، فانصرَفُوا راجعين، وأخلفوا الموعِدَ، فسُمِّيت هذهِ بدرَ الموعد، وتسمى بدرَ الثانية.

فصل: فى غزوة دُومَة الجندل
وهى بضم الدَّال، وأما دَومة بالفتحِ فمكانٌ آخر. خرج إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ربيع الأول سنة خمسٍ، وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يُريدُونَ أن يَدْنُوا مِن المدينةِ، وبينها وبينَ المدينة خَمْسَ عشرةَ ليلة، وهى مِن دمشق على خمس ليال، فاستعمل علَى المَدينةِ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ الغِفارى، وخرج فى ألفٍ من المسلمين، ومعه دليلٌ من بنى عُذرة، يقال له "مذكور"، فلما دنا مِنهم، إذا هُم مُغرِّبُونَ، وإذا آثار النعم والشاءِ

فهجَمَ على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابَ مَن أصابَ، وهَرَبَ مَنْ هَرَبَ، وجاء الخبرُ أهلَ دُومَة الجَنْدَلِ، فتفرَّقُوا، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَاحَتِهِم، فلم يَجِدْ فيها أحداً، فأقامَ بها أياماً، وبثَّ السرايا، وفرَّق الجيوشَ، فلم يصِبْ منهم أحدَاً، فرجَعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، ووادع فى تلك الغزوة عُيينةَ بْنُ حصن.

فصل: فى غزوةِ المُرَيْسِيع
وكانت فى شعبانَ سنَةَ خَمسٍ، وسببُها: أنه لما بلغه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الحارث ابن أبى ضِرار سيِّدَ بنى المُصْطَلِق سار فى قومه ومن قَدَرَ عليه مِن

العرب، يُريدونَ حربَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعثَ بُريْدَةَ بنَ الحُصيب الأسلمى يَعْلَمُ له ذلك فأتاهم، ولقى الحارث بن أبى ضِرار، وكلَّمه، ورجَعَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره خبرَهم، فندب رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ فأسرعوا فى الخروج، وخرج معهم جماعةٌ مِن المنافقين، لم يخرُجوا فى غَزاةٍ قبلَهَا، واستعمل على المدينة زيدَ بنَ حارِثَة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَةَ بن عبد الله اللَّيثى، وخرج يومَ الإثنين لليلتين خَلتَا من شعبان، وبلغ الحارثَ بن أبى ضرار ومَنْ معه مسيرُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَتْلُه عينَه الذى كان وجَّهه لِيأتِيَه بخبرِهِ وخبرِ المسلمين، فخافُوا خوفاً شديداً، وتفرَّق عنهم مَنْ كان معهم مِن العرب، وانتهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المُرَيْسِيعِ، وهو مكانُ الماءِ، فضرب عليه قُبَّتَه، ومعه عائشةُ وأمُّ سَلَمة، فتهيؤوا لِلقتال، وصفَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، ورايةُ المهاجِرِينَ مع أبى بكر الصِّدِّيق، ورايةُ الأنصارِ مع سعد بن عُبادة، فترامَوْا بالنَّبْلِ ساعةً، ثم أمَر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، فحملوا حملةَ رجلٍ واحد، فكانت النُّصرةُ، وانهزم المشركون، وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ منهم، وسَبَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساءَ والذَّرارى، والنَّعَمَ والشَّاءَ، ولم يُقْتَلْ مِن المسلمين إلا رجلٌ واحد، هكذا قال عبدُ المؤمن ابن خلف فى "سيرته" وغيرُه، وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قِتال، وإنما أغارَ عليهم على الماء، فَسَبى ذَرَارِيَهم، وأموالَهم،

كما فى "الصحيح": أغارَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بَنى المُصْطَلِقِ، وهُمْ غَارُّونَ....."، وذكر الحديث.
وكان مِن جُملة السبى جُوَيْرِيَةُ بنتُ الحارث سَيِّدِ القومِ، وقعت فى سَهْم ثابتِ بنِ قيس، فكاتبها، فأدَّى عنها رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتزوَّجَها، فأعتقَ المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهْلِ بيتٍ من بنى المُصْطَلِق قد أسلموا، وقالُوا: أصهارُ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابنُ سعد: وفى هذه الغزوةِ سقط عِقْدٌ لعائِشَة، فاحتبسُوا على طَلَبهِ، فنزلت آيةُ التيمم.
وذكر الطبرانى فى "معجمه" من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: "ولمَّا كانَ مِن أَمْرِ عِقْدى ما كان، قال أهلُ الإفك ما قالُوا، فخرجتُ مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غَزاةٍ أُخرى، فسقطَ أيضاً عِقدى حتَّى حَبَسَ التماسُه الناس، ولقيتُ مِن أبى بكر ما شاء اللهُ، وقال لى: يا بُنيَّةُ؛ فى كُلِّ سفرٍ تكونين عَناءً وبلاءً، وليس مع الناس ماء، فأنزل اللهُ الرُّخصةَ فى التيَّمُّمِ".

وهذا يدل على أن قِصة العقد التى نزل التيممُ لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهرُ، ولكن فيها كانت قِصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبسَ على بعضِهم إحدى القِصتين بالأخرى، ونحن نشير إلى قصة الإفك.
وذلك أن عائشة رضى الله عنها كانت قد خَرَجَ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه فى هذه الغَزوةِ بقُرعة أصابَتْهَا، وكانَت تِلكَ عادته مع نسائه، فلما رجعُوا مِن الغزوة، نزلُوا فى بعض المنازل، فخرجَتْ عائشةُ لِحاجتها، ثمَّ رجعت، ففقَدَتْ عِقْداً لأُختها كانت أعارتها إياه، فرجَعَتْ تلتمسُه فى الموضع الذى فَقَدَتْهُ فيه، فجاء النَّفَرُ الَّذِينَ كانُوا يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا، فظنُّوها فيه، فحملوا الهودجَ، ولا يُنكرون خِفته، لأنها رضىَ الله عنها كانت فَتِيَّةَ السِّن، لم يغشها اللَّحْمُ الذى كان يُثْقِلُهَا، وأيضاً، فإن النفرَ لما تساعدوا على حمل الهودج، لم يُنكِرُوا خِفَّته، ولو كان الذى حمله واحداً أو اثنين، لم يَخْفَ عليهما الحالُ، فرجعت عائشةُ إلى منازلهم، وقد أصابتِ العِقد، فإذا ليس بها داعٍ ولا مُجيب، فقعدت فى المنزل، وظنَّت أنهم سيفقدونها، فيرجِعُون فى طلبها، واللهُ غالِبٌ على أمرهِ، يُدبِّرُ الأمرَ فَوقَ عرشه كما يشاءُ، فغلبتها عيناهَا، فنامَتْ، فلم تستيقِظْ إلا بِقَوْل

صَفْوَانَ بنِ المُعَطِّل: إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، زوجةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان صفوان قد عرَّسَ فى أُخريات الجيش، لأنه كان كثيرَ النوم، كما جاء عنه فى "صحيح أبى حاتم" وفى "السنن": فلما رآها عَرفها، وكانَ يَراها قبلَ نزولِ الحِجَابِ، فاسترجع، وأناخَ راحِلَته، فقرَّبها إليهَا، فركِبَتْهَا، وما كلَّمَها كلمةً واحدة، ولم تَسْمَعْ منه إلا استرجاعَه، ثم سار بها يَقُودُهَا حتَّى قَدِمَ بها، وقد نزل الجيشُ فى نحرِ الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ، تكلَّم كُلٌ منهم بِشاكِلته، وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابنُ أُبىّ متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَرْبِ النفاق والحسدِ الذى بين ضُلوعه، فجعل يَستحكى الإفكَ، ويَستوشِيه، ويُشِيعه، ويُذِيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه يتقرَّبُونَ به إليه، فلما قَدِمُوا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ فى الحديثِ، ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساكِتٌ لا يتكلَّم ثم استشار أصحابَه فى فراقها، فأشار عليه علىٌ رضى الله عنه أن يُفارقَهَا، ويأخُذَ غيرها تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أُسامةُ وغيرُه بإمساكِها، وألا يلتفِتَ إلى كلام الأعداء، فعلىُّ لما رأى أن ما قِيل مشكوكٌ فيه، أشار بترك الشَّكِّ والرِّيبة إلى اليقين ليتخلَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهمِّ والغمِّ الذى لحقه مِن كلام الناس، فأشار بحسم الداء، وأُسامة لما عَلِمَ حُبَّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها ولأبيها، وعَلِمَ مِن عِفتها وبراءتها، وحَصانتها ودِيانتها ما هى فوقَ ذلك، وأعظمُ منه، وعرفَ مِن كرامةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ربِّه ومنزلته عنده، ودفاعِه عنه، أنه لا يجعلُ ربةَ بيته وحبيبته من النساء، وبنتَ صِدِّيقه بالمنزلة التى أنزلها بهِ أربابُ الإفك، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرمُ على ربه، وأعزُّ عليه من أن يجعل تحته امرأة بَغيّاً، وعلم أنَّ الصِّدِّيقةَ حبيبةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرمُ على ربها مِن أن يَبْتَلِيهَا

بالفَاحِشَةِ، وهىَ تحتَ رسوله، ومَنْ قَوِيَتْ معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عندَ اللهِ فى قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16].
وتأمل ما فى تسبيحهم للهِ، وتنزيههم له فى هذا المقامِ مِن المعرفةِ به، وتنزيهه عما لا يليقُ به، أن يجعلَ لِرسوله وخليلِه وأكرمِ الخلق عليه امرأةً خبيثةً بغيَّا، فمن ظنَّ به سُبحانه هذا الظَّنَّ، فقد ظَنَّ به ظنَّ السَّوْءِ، وعرف أهلُ المعرفة باللهِ ورسوله أن المرأة الخبيثةَ لا تليقُ إلا بمثلها، كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}[النور: 26] ، فقطعوا قطعاً لا يشُكُّونَ فيهِ أن هذا بُهتان عظيم، وفِريةٌ ظاهرة.
فإن قيل: فما بالُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توقَّفَ فى أمرها، وسألَ عنها، وبحَثَ، واستشارَ، وهو أعرفُ باللهِ، وبمنزلتِهِ عِندهُ، وبما يليقُ به، وهَلاَّ قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16]، كما قاله فضلاءُ الصحابة ؟
فالجوابُ أن هذا مِن تمامِ الحِكَمِ البَاهِرةِ التى جعل اللهُ هذهِ القِصةَ سبباً لها، وامتحاناً وابتلاءً لرسولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولجميع الأمة إلى يومِ القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواماً، ويضعَ بها آخرينَ، ويزيدَ اللهُ الذين اهتَدَوْا هُدىً وإيماناً، ولا يزيدُ الظالمين إلا خَساراً، واقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أن حُبِسَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحىُ شهراً فى شأنها، لا يُوحى إليه فى ذلك شئ لتتم حِكمتُهُ التى قدَّرها وقضَاهَا، وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ

المؤمنونَ الصادِقُونَ إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحُسْنِ الظنِّ باللهِ ورسولهِ، وأهلِ بيتهِ، والصِّدِّقينَ مِن عباده، ويزدادَ المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويُظْهِرَ لِرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبوديةُ المرادة مِن الصِّدِّيقةِ وأبويها، وتتمَ نعمةُ اللهِ عليهم، ولِتشتد الفاقةُ والرغبةُ مِنها ومِن أبويها، والافتقارُ إلى اللهِ والذلُّ له، وحُسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأسَ مِن حصول النُّصرةِ والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقَام حقًَّه، لما قال لها أبواها: قُومى إليه، وقد أنزلَ اللهُ عليه براءتَها، فقالت: واللهِ لا أقُومُ إلَيْهِ، ولا أَحْمَدُ إلاَّ اللهَ، هُو الذى أنْزَلَ بَرَاءَتِى.
وأيضاً فكان مِن حكمةِ حَبْس الوحى شهراً، أن القضية مُحِّصَتْ وتمحَّضتْ، واستشرفَتْ قلوبُ المؤمنين أعظَم استشرافٍ إلى ما يُوحيه اللهُ إلى رسوله فيها، وتطلَّعت إلى ذلك غايةَ التطلُّع، فوافى الوحىُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهلُ بيته، والصِّدِّيقُ وأهلُه، وأصحابُه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيثِ على الأرضِ أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقع وأَلطَفَه، وسُرُّوا به أتمَّ السُّرورِ، وحصل لهم به غايةُ الهناء، فلو أطلع اللهُ رسولَه على حقيقة الحالِ مِن أوَّلِ وَهلة، وأنزل الوحىَ على الفور بذلك، لفاتت هذه الحِكمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافها.
وأيضاً فإن الله سُبحانه أحبَّ أن يُظْهِرَ منزلَةَ رسوله وأهلِ بيته عنده، وكرامتهم عليه، وأن يُخرِجَ رسولَه عن هذه القضية، ويتولَّى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحَة عنه، والردَّ على أعدائه، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل، ولا يُنسب إليه، بل يكونُ هو وحدَه المتولىَ لذلك،

الثائرَ لرسوله وأهل بيته.
وأيضاً فإن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو المقصودَ بالأذى، والتى رُمِيَتْ زوجتُه، فلم يكن يليقُ به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظنَّ المقاربَ للعلم ببراءتها، ولم يظنَّ بها سُوءاً قطُّ، وحاشاه، وحاشاها، ولذلك لما استعذر مِن أهل الإفك، قال: "مَنْ يَعْذِرُنى فى رَجُلٍ بَلَغَنى أذَاهُ فى أَهْلى، واللهِ مَا عَلِمْتُ عَلى أَهْلى إلاَّ خَيْراً، ولَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلاَّ خَيْراً، ومَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلى إلاَّ مَعى"، فكان عنده مِنَ القرائن التى تشهدُ ببراءة الصِّدِّيقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لِكمال صبره وثباته، ورِفقه، وحُسنِ ظنه بربه، وثِقته به، وفّى مقامَ الصبر والثبات، وحسن الظن بالله حقَّه، حتى جاءه الوحىُ بما أقرَّ عينَه، وسرَّ قلبَه، وعظَّمَ قدرَه، وظهر لأُمته احتفالُ ربه به، واعتناؤه بشأنه.
ولما جاء الوحىُ ببراءتها، أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن صرَّح بالإفك، فَحُدُّوا ثمانين ثمانين، ولم يُحد الخبيثُ عبد الله بن أُبَىّ، مع أنه رأسُ أهل الإفك، فقيل: لأن الحدودَ تخفيفٌ عن أهلها وكفَّارة، والخبيثُ ليس أهلاً لذلك، وقد وَعَدَهُ الله بالعذابِ العظيمِ فى الآخرةِ، فيكفيهِ ذلك عن الحد، وقيل: بل كان يستوشى الحديثَ ويجمعُه ويحكيه، ويُخرجه فى قوالب مَن لا يُنسب إليه، وقيل: الحدُّ لا يثبتُ إلا بالإقرار، أو ببيِّنة، وهو لم يُقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكُره بين أصحابه، ولم يشهدُوا عليه، ولم يكن يذكُره بين المؤمنين.
وقيل: حدُّ القذف حقُّ الآدمى، لا يُستوفى إلا بمطالبته، وإن قيل: إنه حقٌ لله، فلا بُدَّ مِن مطالبة المقذوف، وعائشةُ لم تُطالب به ابنَ أُبَىَّ.

وقيل: بل تَرَك حدَّه لمصلحة هى أعظمُ مِن إقامته، كما ترك قتله مع ظهورِ نفاقه، وتكلمِه بما يُوجب قتله مراراً، وهى تأليفُ قومه، وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعاً فيهم، رئيساً عليهم، فلم تُؤمن إثارةُ الفتنة فى حدِّه، ولعله تُرِكَ لهذِهِ الوجوهِ كُلِّهَا.
فجلد مِسْطَحَ بنَ أثاثة، وحسانَ بن ثابت، وحَمْنَةَ بنتَ جَحْشٍ، وهؤلاء مِن المؤمنين الصَّادقين تطهيراً لهم وتكفيراً، وترك عبد الله بن أُبَىِّ إذاً، فليس هو من أهل ذاك.
فصل
ومَن تأمَّل قولَ الصِّدِّيقةِ وقد نزلت براءتُهَا، فقال لها أبواها: قُومى إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: "واللهِ لا أقومُ إلَيْهِ، ولا أَحْمَدُ إلا اللهَ"، علم معرفَتها، وقوةَ إيمانها، وتوليتها النعمة لربِّها، وإفرادَه بالحمد فى ذلك المقَام، وتجريدَها التوحيد، وقوةَ جأشها، وإدلالَها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يُوجب قيامَها فى مقام الراغب فى الصُّلح، الطالب له، وثقتها بمحبة رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها قالت ما قالت، إدلالاً للحبيب على حبيبه، ولا سيما فى مثل هذا المقام الذى هو أحسنُ مقامات الإدلال، فوضعتهُ موضِعَه، وللهِ ما كان أحبَّها إليه حين قالت: "لا أحْمَدُ إلا الله، فإنه هو الذى أنزل براءتى"، ولله ذلك الثباتُ والرزانةُ منها، وهو أحبُّ شئ إليها، ولا صبرَ لها عنه، وقد تنكَّر قلبُ حبيبها لها شهراً، ثم صادفَتِ الرِّضى منه والإقبال، فلم تُبادِرْ إلى القيام إليه، والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له، وهذا غايةُ الثبات والقوة.

فصل
وفى هذه القضية أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: "مَنْ يَعْذِرُنِى فى رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فى أَهْلِى " ؟ قام سعدُ بن معاذ أخو بنى عبد الأشهل، فقال: أنا أعذِرُكَ مِنْهُ يا رسولَ اللهِ، وقد أشكلَ هذا على كثيرٍ من أهلِ العلم، فَإنَّ سعد بن معاذ لا يختلِفُ أحدٌ من أهل العلم، أنه تُوفى عقيبَ حُكمه فى بنى قُريظة عقيبَ الخندق، وذلك سنةَ خمس على الصحيح، وحديث الإفك لا شك أنه فى غزوة بنى المُصْطَلِق هذه، وهى غزوةُ المُريسيع، والجمهُورُ عندهم أنها كانت بعد الخندق سنة ست، فاختلفت طرقُ الناسِ فى الجوابِ عن هذا الإشكال، فقال موسى بن عقبة: غزوة المُريسيع كانت سنةَ أربعٍ قبلَ الخندق، حكاه عنه البخارى. وقال الواقدى: كانت سنة خمس. قال: وكانت قريظة والخندق بعدها. وقال القاضى إسماعيل بن إسحاق: اختلفوا فى ذلك، والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق، وعلى هذا، فلا إشكال، ولكن الناس على خلافه، وفى حديث الإفك، ما يدل على خلاف ذلك أيضاً، لأن عائشة قالت: إن القضية، كانت بعدما أُنزل الحجاب، وآيةُ الحجاب نزلت فى شأن زينب بنت جحش، وزينبّ إذ ذاك كانت تحتَه، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألها عن عائشة، فقالت: "أحمى سَمْعِى وَبَصَرِى" قالت عائِشَةُ: وهى التى كانت تُسامينى مِن أزواج النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقَد ذكر أربابُ التواريخ أن تزويجَه بزينب كان فى ذى القَعدة

سنة خمس، وعلى هذا فلا يصح قولُ موسى بن عقبة. وقال مُحمد بن إسحاق: إن غزوة بنى المُصْطَلِق كانت فى سنة ست بعد الخندق، وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال عن الزهرى، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، فذكر الحديث. فقال: فقام أُسيدُ بن الحضير، فقال: أنا أعذِرُكَ منه، فردَّ عليه سعدُ بن عبادة، ولم يذكر سعد بن معاذ، قال أبو محمد بنُ حزم: وهذا هو الصحيحُ الذى لا شك فيه، وذكر سعد بن معاذ وهم، لأنَّ سعدَ بن معاذ مات إثر فتح بنى قريظة بلا شك، وكانت فى آخِر ذى القَعدةِ مِن السنة الرابعة، وغزوة بنى المصطلِق فى شعبان من السنة السادسة بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بنى المُصطَلِق بأزيدَ من خمسين ليلة.
قلت: الصحيح: أن الخندق كان فى سنة خمس كما سيأتى.
فصل
ومما وقع فى حديث الإفك، أن فى بعض طُرق البخارى، عن أبى وائل عن مسروق، قال: سألتُ أمَّ رُومان عن حديثِ الإفك، فحدَّثتنى. قال غيرُ واحد: وهذا غلط ظاهر، فإن أمَّ رُومان ماتت على عهدِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى قبرها، وقال: "مَنْ سَرَّهُ

أَنْ يَنْظُرَ إلى امْرَأَةٍ مِنَ الحُورِ العينِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هذه " قَالُوا: ولو كان مسروقٌ قَدِمَ المدينةَ فى حياتها وسألها، للقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمع منه، ومسروق إنما قَدِمَ المدينة بعد موتِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وقد روى مسروق، عن أمِّ رومان حديثاً غير هذا، فأرسلَ الروايةَ عنها، فظنَّ بعضُ الرواة، أنه سمع منها، فحمل هذا الحَديث على السماع، قالوا: ولَعل مسروقاً قال: "سُئلت أم رومانَ" فتصَّحفت على بعضهم: "سألت"، لأن من الناس مَن يكتب الهمزة بالألف على كل حال، وقال آخرون: كل هذا لا يَرُدُّ الرواية الصحيحة التى أدخلها البخارى فى "صحيحه" وقد قال ابراهيم الحربى وغيره: إن مسروقاً سألها، وله خمسَ عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة، وأمُّ رومان أقدمُ مَنْ حدَّثَ عنه، قالوا: وأما حديثُ موتها فى حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزوله فى قبرها، فحديثٌ لا يَصِحُّ، وفيه علتان تمنعان صِحته، إحداهما: رواية على بن زيد بن جدعان له، وهو ضعيفُ الحديث لا يُحتجُّ بحديثه، والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقاسم لم يُدرك زمنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يُقدَّم هذا على حديثٍ إسناده كالشمس يرويه البخارى فى "صحيحه" ويقول فيه مسروق: سألتُ أمَّ رومان، فحدثتنى، وهذا يرد أن يكون اللَّفظ: "سئلت". وقد قال أبو نعيم فى كتاب "معرفة الصحابة": قد قيل: إن أم رومان توفيت فى عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو وهم.

فصل
ومما وقع فى حديث الإفك أن فى بعض طرقه: أن علياً قال للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استشاره: سل الجَارِيَةَ تصدقَكَ، فدعا بَرِيرَة، فسألها، فقالَتْ: ما عَلِمْتُ عليها إلا ما يَعْلَمُ الصائغُ على التِّبْرِ، أو كما قالت، وقد استُشْكِلَ هذا، فإن بريرة إنما كاتبت وعَتَقَتْ بعد هذا بمدَّةِ طوبلة، وكان العباسُ عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذاك فى المدينة، والعباسُ إنما قَدِمَ المدينةَ بعد الفتح، ولهذا قال له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد شَفِعَ إلى بَريرة: أن تُراجعَ زوجَها، فأبت أن تُراجعه: "يا عبَّاسُ؛ ألا تَعْجَبُ مِنْ بغض بَرِيرَةَ مُغِيثاً وحُبِّهِ لَهَا".
ففى قصة الإفك، لم تكن بريرةُ عند عائشة، وهذا الذى ذكروه، إن كان لازِماً فيكون الوهمُ مِن تسميته الجارية بريرة، ولم يَقْل له علىُّ: سَلْ بريرَة، وإنما قال: فسل الجارية
تصدُقك، فظن بعضُ الرواة أنها بريرة، فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى بعد الفتح، ولم ييأس منها، زال الإشكال.. والله أعلم.
فصل
وفى مرجعهم مِن هذه الغزوة، قال رأسُ المنافقين ابنُ أُبَىّ: لئن

رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وجاء ابن أبي يعتذر ويحلف ما قال ، فسكت عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأنزل الله تصديق زيد فى سورة المنافقين ، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذنه ، فقال :" أبشر فقد صدقك الله "، ثم قال : " هذا الذي وفى لله بأذنه "، فقال له عمر : يا رسول الله ! مر عباد بن بشر ، فليضرب عنقه ، فقال : " فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " .

فصل: فى غزوة الخندق
وكانت فى سنةِ خمسٍ مِن الهجرةِ فى شوَّال على أصحِّ القولين، إذ لا خِلاَفَ أن أُحُداً كانت فى شوَّال سنةَ ثلاثٍ، وواعدَ المشركُون رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العام المُقبلِ، وهو سنةُ أربع، ثم أخلفُوه لأجل جَدْبِ تلك السنةِ، فرجعُوا، فلما كانت سنة خمس، جاؤوا لِحربه، هذا قولُ أهلِ السِّيَرِ والمغازى.
وخالفهم موسى بنُ عقبة وقال: بل كانت سنةَ أربع، قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيحُ الذى لا شَكَّ فيه، واحتج عليه بحديثِ ابنِ عُمَرَ فى "الصحيحين" أنه عُرِضَ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أُحُدٍ، وهو ابنُ أربع

عشرةَ سنة، فلم يُجِزْهُ، ثم عُرِضَ عليه يومَ الخندقِ، وهو ابنُ خَمسَ عشرةَ سنة، فأجازه.
قال: فصحَّ أنه لم يكن بينهما إلا سنةٌ واحدة.
وأجيب عن هذا بجوابين، أحدهما: أن ابنَ عمر أخبرَ أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ردَّهُ لما استصغَرَهُ عَنِ القِتال، وأجازه لمَّا وصَلَ إلى السِّنِّ التى رآه فيها مطيقاً، وليس فى هذا ما ينفى تجاوُزَها بسنةٍ أو نحوها.
الثانى: أنه لعلَّه كان يومَ أُحُدٍ فى أوَّلِ الرابعة عشرة ويومَ الخندق فى آخرِ الخامسة عشرة.
فصل
وكان سبب غزوة الخندق أن اليهودَ لما رَأُوا انتصارَ المشركين على المسلمين يَوْمَ أُحُد، وعلِمُوا بميعادِ أبى سفيان لِغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للِعام المُقْبِلِ، خرج أشرافُهم، كسلاَّم بن أبى الحُقيق، وسلاَّم بن مِشْكَم، وكِنَانة بن الرَّبيع وغيرِهم إلى قريش بمكة يُحرِّضُونهم

عَلَى غَزوِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عَليه وسلم، ويؤلِّبُونهم عليه، ووعدوهم مِن أنفسهم بالنَّصرِ لهم، فأجابَتْهُم قريشٌ، ثم خرجُوا إلى غَطَفَان فدعَوْهُم، فاستجابُوا لهم، ثمَّ طافُوا فى قبائل العربِ، يدعونَهم إلى ذلك، فاستجابَ لهم مَن استجاب، فخرجت قُريشٌ وقائدهم أبو سفيان فى أربعةِ آلافٍ، ووافَتْهُم بنو سليم بِمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت بنُو أسد، وفَزَارَة، وأشجع، وبنو مُرَّةَ، وجاءت غَطَفَانُ وقائدُهم عُيينةُ بنُ حِصْنٍ. وكان مَن وافى الخندقَ مِن الكفار عشرة آلاف.
فلما سَمِعَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمسيرهم إليه، استشار الصحابةَ، فأشار عليه سلمانُ الفارسى بحفر خندقٍ يحُول بين العدوِّ وبينَ المدينة، فأمر به رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبادر إليه المسلمون، وعَمِلَ بنفسه فيه، وبادروا هجومَ الكُفّارِ عليهم، وكان فى حَفرِه من آياتِ نُبوته، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبرُ به، وكان حفرُ الخندق أمامَ سَلْعٍ، وسَلْعٌ: جبل خلفَ ظهورِ المسلمين، والخندقُ بينهم وبين الكفار.
وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصَّن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.
وقال ابن إسحاق: خرج فى سبعمائة، وهذا غلط مِن خروجه يوم أُحُدٍ.
وأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنِّسَاءِ والذرارى، فَجُعِلُوا فى آطامِ المدينةِ، واستخلف عليها ابنَ أُمِّ مكتوم.
وانطلق حُيَىُّ بنُ أخْطَب إلى بنى قُريظة، فدنا مِن حصنهم، فأبى كعبُ بن أسد أن يفتَح له، فلم يَزَلْ يُكلِّمُهُ حتى فتح له، فلما دخل عليه، قال: لقد جئتُكَ بعزِّ الدهر، جئتُكَ بقريش وغَطَفَان وأَسَدٍ على قادتها لِحرب محمد، قال كعب: جِئْتَنى واللهِ بذُلِّ الدهرِ، وبِجَهَامٍ

قد هراقَ مَاؤُه، فهو يَرْعُد ويَبْرُق ليس فيه شىء. فلم يزل به حتَّى نقضَ العَهد الذى بينَه وبينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل مع المشركين فى مُحاربته، فَسُرَّ بذلك المشركون، وشرط كعب على حُيَىِّ أنه إن لم يظفُروا بمحمد أن يجئ حتى يدخُلَ معه فى حِصنه، فيصيبه ما أصابه، فأجابه إلى ذلك، ووفَّى له به.
وبلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرُ بنى قُريظة ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السَّعْديْنِ، وخوَّاتَ بن جُبير، وعبدَ اللهِ بن رواحة لِيَعْرِفُوا: هل هم على عهدهم، أو قد نقضُوه ؟ فلما دَنوْا منهم، فوجدُوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسبِّ والعداوة، ونالُوا مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرفُوا عنهم، ولحنُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحناً يُخبرونه أنهم قد نقضُوا العَهد، وغدَرُوا، فعظُمَ ذلك على المسلمين، فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذلك: "اللهُ أكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ" ، واشتدَّ البلاءُ، ونَجَمَ النِّفَاقُ، واستأذن بعضُ بنى حارثة رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الذهاب إلى المدينة وقَالُوا: {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13]، وهمَّ بنو سلمَةَ بالفَشَلِ، ثم ثبَّت اللهُ الطائفتين.
وأقام المشركُون محاصِرِينَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً، ولم يكن بينهم قِتال لأجل ما حال اللهُ به مِن الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فَوارِسَ مِن قُريش، منهم عمُرو بن عبد وُدٍّ وجماعة معه أقبلُوا نحوَ الخندق، فلما وقفُوا عليه، قالوا: إن هذه مَكيدةٌ ما كانت العربُ تعرِفُها، ثم تيمَّمُوا مكاناً ضيِّقاً من الخندق، فاقتحمُوه، وجالت بهم خيلُهم فى السّبخة بين الخندقِ وسَلْعٍ، وَدَعَوْا إلى البِرَاز، فانتدب لِعمرو علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فبارزهُ، فقتله اللهُ على يديه، وكان مِن شُجعان المشركين

وأبطالِهم، وانهزمَ الباقون إلى أصحابهم، وكان شِعارُ المسلمين يومئذ "حم لا يُنْصَرُونَ".
ولما طالت هذه الحالُ على المسلمين، أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُصالح عُيينةَ بنَ حِصْنٍ، والحارِثَ بنَ عوف رئيسى غَطَفَان، على ثُلثِ ثِمار المدينةِ، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضةُ على ذلك، فاستشار السَّعدين فى ذلك، فقالا: يا رسولَ اللهِ؛ إن كان اللهُ أمَرَكَ بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيئاً تصنعُه لنا، فلا حاجةَ لنا فيه، لقد كُنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللهِ وعِبادةِ الأوثان، وهم لا يطمعُون أن يأكلُوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنَا ؟، واللهِ لا نُعطيهم إلا السيفَ، فصوَّبَ رأيَهما، وقال: "إنَّمَا هُوَ شَىءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ لَمَّا رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُم عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ".
ثم إنَّ الله عزَّ وجلَّ وله الحمدُ صنع أمراً مِنْ عنده، خَذَلَ به العدوَّ، وهزم جموعَهم، وفلَّ حدَّهم، فكان مما هيَّأَ مِن ذلك، أن رجلاً مِن غَطَفَانَ يُقَال له: نُعَيْمُ بنُ مسعود بنِ عامر رضى الله عنه، جاء إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول اللهِ؛ إنى قد أسلمتُ، فمُرنى بما شئت، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّ الحَرْبَ خَدْعَة" ، فذهب مِن فوره ذلك إلى بنى قُريظة، وكان عشيراً لهم فى الجاهلية، فدخل عليهم، وهم لا يعلمون بإسلامه، فقال: يا بنى قُريظة؛ إنكم قد حاربتُم محمداً، وإن قريشاً إن أصابُوا فُرصة انتهزوها،

وإلا انشمَرُوا إلى بلادهم راجعين، وتركُوكُم ومحمداً، فانتقم منكم. قالوا: فما العملُ يا نُعيم ؟ قال: لا تُقاتِلُوا معهم حتى يُعطوكم رهائِن، قالوا: لقد أشرتَ بالرأى، ثم مضى على وجهه إلى قُريش، فقال لهم: تعلمون وُدِّى لكم، ونُصحى لكم، قالوا: نعم. قال: إن يهودَ قد نَدِمُوا على ما كان منهم من نقضِ عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلُوه أنهم يأخذون منكم رَهائِنَ يدفعونَها إليه، ثمَ يُمالِئُونه عليكم، فإن سألوكم رهائِنَ، فلا تُعطوهم، ثم ذهب إلى غَطَفَان، فقال لهم مِثْلَ ذلِكَ، فلما كان ليلةُ السبت من شوَّال، بعثوا إلى اليهود: إنَّا لسنا بأرض مُقام، وقد هلك الكُراعُ والخُفُّ، فانهضُوا بنا حتى نُنَاجِزَ محمَّداً، فأرسل إليهم اليهود: إن اليومَ يومُ السبت، وقد علمتم ما أصاب مَنْ قبلنا أحدثُوا فيه، ومع هذا فإنَّا لا نُقاتِلُ معكم حتى تبعثوا إلينا رَهائِنَ، فلما جاءتهم رُسُلُهُم بذلك، قالت قُريش: صدقَكُم واللهِ نُعيم، فبعثوا إلى يهود: إنَّا واللهِ لا نُرسِلُ إليكم أحداً، فاخرجُوا معنا حتى نُناجِزَ محمداً، فقالت قُريظة:صدقكم والله نُعيم، فتخاذلَ الفريقانِ، وأرسلَ اللهُ على المشركين جُنداً من الريح، فجعلتْ تُقوِّضُ خِيامَهم، ولا تَدَعُ لهم قِدراً إلا كَفَأتْها، ولا طُنُباً، إلا قَلَعَتْه، ولا يَقِرُّ لهم قرار، وجندُ اللهِ مِن الملائكة يزلزلونهم، ويُلقون فى قلوبهم الرُّعْبَ والخوفَ، وأرسل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذيفةَ بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيؤوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ردَّ اللهُ عدوَّهُ بغيظه، لم ينالُوا خيراً، وكفاهُ الله قِتالهم، فصدق وعدَه، وأعزَّ جندَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، فدخل المدينةَ ووضعَ السلاحَ، فجاءه جبريلُ عليه السلامُ، وهو يغتسِلُ فى بيت

أُمِّ سلمة، فقال: أَوَضَعْتُمُ السِّلاحَ ؟ إنَّ المَلائِكَةَ لَمْ تَضَعْ بَعْدُ أَسْلِحَتَهَا، انْهَضْ إلَى غَزْوَةِ هؤلاءِ، يَعْنِى بنى قُرَيْظَةَ، فَنادَى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن كَانَ سَامِعَاً مُطِيعاً، فَلاَ يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إلا فى بنى قُرَيْظَة"، فخرج المسلمون سِراعاً، وكان من أمره وأمر بنى قُريظة ما قدَّمناه، واستشهد يومَ الخندق ويومَ قريظة نحُوُ عشرةٍ مِن المسلمين.
فصل
وقد قدَّمنا أن أبا رافع كان مِمَّنْ أَلَّبَ الأحزابَ على رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يُقتلْ مع بنى قُريظة كما قُتِلَ صاحبُه حُيَىّ بن أخطب، ورغبتِ الخزرجُ فى قتله مساواةً للأوس فى قتل كعبِ بنِ الأشرف، وكان اللهُ سُبحانه وتعالى قد جعل هذين الحيَّيْنِ يتصاولان بينَ يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخيراتِ، فاستأذنُوه فى قتله، فَأَذِنَ لهم، فانتدب له رِجالٌ كُلُّهُم مِن بنى سلمة، وهم عبدُ الله بن عَتيكٍ، وهو أميرُ القوم، وعبدُ اللهِ بنُ أُنيس،

وأبو قتادة، الحارث بن رِبْعى، ومسعود بن سنان، وخُزَاعىُّ بن أسود، فساروا حتى أتوه فى خيبر فى دار له، فنزلُوا عليه ليلاً، فقتلُوه، ورجعوا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكُلُّهُمُ ادَّعى قتله، فقال: "أَرُونى أَسْيَافَكُم" ، فلما أَرَوْهُ إيَّاهَا، قال لِسيفِ عبدِ اللهِ بن أُنيس: "هذَا الَّذِى قَتَلَهُ أرى فيهِ أثَرَ الطَّعَام".
فصل
ثم خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بنى لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مائتى رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم، وهُوَ بين أمَج وعُسفان حيث كان مُصابُ أصحابه، فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسَمِعَتْ بنو لِحْيَان، فهربُوا فى رؤوسِ الجبال، فلم يقدر مِنهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يَقْدِرُوا عليهم، فسار إلى عُسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغَمِيم لِتسمعَ به قُريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبتُه عنها أربعَ عشرة ليلة.

فصل: فى سرية نَجْد
ثم بعثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت بثُمَامَةَ بنِ أُثال الحنيفى سيِّد بنى حنيفة، فربطه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ساريةٍ من سوارى المسجد، ومَرَّ به، فقال: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ" ؟ فقال: يا مُحَمَّدُ؛ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تَنْعِمْ تَنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المال، فَسَلْ تُعطَ منه ما شئتَ، فتركه، ثم مرَّ به مرة أخرى، فقال له مِثْلَ ذلكَ، فردَّ عليه كما رَدَّ عليه أولاً، ثم مرَّ مرةً ثالثة، فقال: "أطْلِقُوا ثُمَامَة" ، فأطلقُوه، فذهب إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه، فأسلم وقال: واللهِ ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغضَ إلىَّ من وجهك، فقد أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوُجوه إلىَّ، واللهِ ما كان على وجه الأرض دِينٌ أبغَضَ علىَّ مِن دينك، فقد أصبح دينُك أحبَّ الأديانِ إلىَّ، وإنَّ خيلك أخذتنى، وأنا أُريدُ العُمرة، فبشَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريشٍ، قالوا: صَبَوْتَ يا ثُمَامةُ ؟ قال: لا واللهِ، ولكنى أسلمتُ مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمَامَةِ حَبَّةُ حِنطَةٍ حَتَّى يأذَنَ فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت اليمامةُ ريفَ مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحملَ إلى مكة حتى جَهِدَتْ قريش، فكتبوا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألُونه بأرحامهم أن يكتُب إلى ثُمامةَ يُخلِّى إليهم حملَ الطعام، ففعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل: فى غزوة الغابة
ثم أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ الفَزَارِىُّ فى بنى عبد اللهِ بن غَطَفَانَ على لِقَاحِ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التى بالغابة، فاستاقها، وقتل راعِيَهَا وهو رجلٌ من عُسفان، واحتملوا امرأته، قال عبدُ المؤمن بن خلف: وهو ابن أبى ذر، وهو غَرِيبٌ جداً، فجاء الصريخُ، ونودى: يا خَيْلَ اللهِ ارْكَبى، وكان أول ما نُودى بها، ورَكِبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقنَّعاً فى الحديد، فكان أول مَنْ قدم إليه المقدادُ بن عمرو فى الدِّرع والمِغْفَرِ، فَعَقَدَ له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّواءَ فى رُمحه، وقال: " امْضِ حتَّى تلحقك الخيولُ، إنَّا عَلَى أَثَرِكَ" ، واستخلفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ أُمِّ مكتوم، وأدركَ سلمةُ بنُ الأكوع القومَ، وهو على رِجليه، فجعلَ يرميهم بالنَّبْلِ ويَقُول:
خُذْهَا وَأنَا ابْنُ الأَكْوَع ... والْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّع
حتى انتهى إلى ذى قَرَدٍ وقد استنقذَ مِنهم جميعَ اللِّقَاح وثلاثين بُردة، قال سلمة: فَلَحِقَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخيلُ عِشاءً، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ إن القومَ عِطاش، فلو بعثتنى فى مائة رجل استنقذتُ ما فى أيديهم من السَّرْح، وأخذتُ بأَعناق القوم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"مَلَكْتَ فَأسْجِحْ" ثم قالَ: "إنَّهُم الآنَ لَيُقْرَوْنَ فى غَطَفَان".
وذهب الصريخُ بالمدينة إلى بنى عَمْرو بن عوف، فجاءت الأمدادُ ولم تزلِ الخيلُ تأتى، والرجالُ على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انْتَهَوْا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِى قَرَدٍ.
قال عبد المؤمن بن خلف: فاستنقذوا عَشْرَ لِقاح، وأُفلِتَ القومُ بما بقى، وهو عشر.
قلت: وهذا غلط بيِّن، والذى فى "الصحيحين": أنهم استنقذوا اللِّقَاحَ كُلَّها، ولفظ مسلم فى "صحيحه" عن سلمة: "حتى ما خلق اللهُ مِن شىءٍ مِن لِقاح رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا خلَّفتُه وراء ظهرى، واستلبتُ مٍنهم ثلاثِينَ بُردةً".
فصل
وهذه الغزوةُ كانت بعدَ الحُديبية، وقد وَهِمَ فيها جماعةٌ مِن أهلِ المغازى والسِّيرِ، فذكُروا أنها كانت قَبْلَ الحُدَيْبِيَة، والدليلُ على صِحةِ ما قُلناه: ما رواه الإمام أحمد، والحسن بن سفيان، عن أبى بكر بن أبى شيبة، قال: حدثنا هاشمُ بنُ القاسم، قال: حدثنا عِكرمة بنُ عمار، قال: حدثنى إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: قَدِمْتُ المدينةَ زَمَنَ الحُديبيةِ

مَعَ رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "خَرَجْتُ أنا ورَبَاح بفرس لطلحة أُنَدِّيهِ مع الإبل، فلما كان بِغَلَسٍ، أغارَ عبدُ الرحمن بنُ عيينة على إبل رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَ رَاعِيَهَا"... وساقَ القصة، رواها مسلم فى "صحيحه" بطولها.
ووهم عبدُ المؤمن بن خَلَف فى "سيرته" فى ذلك وهماً بيِّناً، فذكر غَزاة بنى لِحيان بعد قُريظة بستة أشهر، ثم قال: لما قَدمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، لم يمكُث إلا ليالى حتى أغار عبد الرحمن بن عُيينة... وذكر القصة. والذى أغار عبدُ الرحمن، وقيل: أبوهُ عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فأين هذا مِن قول سلمة: قدمتُ المدينة زمن الحُديبية ؟.
وقد ذكر الواقدى عِدة سرايا فى سنة ستٍ من الهجرة قبل الحُديبية
فقال: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ربيع الأول أو قال: الآخر سنةَ سِتٍّ مِن قدومه المدينة عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصن الأسدى فى أربعين رجلاً إلى الغَمْرِ، وفيهم ثابت ابن أقرم، وسِباع بن وهب، فأجَدَّ السير، ونَذِرَ القَومُ بهم، فهربوا، فنزل على مياههم، وبعث الطلائِعَ فأصابُوا مَن دلَّهُم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتى بعير، فساقُوها إلى المدينة.

وبعثَ سرية أبى عُبيدة بن الجراح إلى ذى القَصَّة، فساروا ليلتَهم مُشاةً، ووافَوْهَا مع الصُّبْح، فأغَارُوا عليهم، فأعجزوهم هرباً فى الجبال، وأصابُوا رجلاً واحداً فأسلم.
وبعث محمد بنَ مسلمة فى ربيع الأولِ فى عشرة نفر سَريَّة، فَكَمَنَ القَوْمُ لَهُم حتى ناموا، فما شَعَرُوا إلا بالقوم، فَقُتِلَ أصحابُ محمد بن مسلمة، وأفلتَ محمد جريحاً.
وفى هذه السنة وهى سنةُ ست كانت سريَّةُ زيد بن حارثة بالجَمُومِ، فأصاب امرأة مِن مُزينة يقال لها: حليمة، فدلتهم على محلَّة من محالِّ بنى سُليم، فأصابُوا نَعَمَاً وشَاءً وأسرى، وكان فى الأسرى زوجُ حَليمة، فلما قَفَلَ زيد بن حارثة بما أصابَ، وهَبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُزنية نفسَها وزوجها.
وفيها يعنى: سنة ست كانت سريَّةُ زيد بن حارثة إلى الطَّرِفِ فى جُمادى الأولى إلى بنى ثعلبة فى خمسة عشر رجلاً، فهربت الأعرابُ، وخافُوا أن يكونَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سارَ إليهم، فأصاب مِنْ نَعَمِهِم عِشرينَ بعيرَاً، وغاب أربَع ليال.
وفيها كانت سريَّةُ زيدِ بنِ حارثة إلى العيص فى جُمادى الأولى،

وفيها: أُخِذَتِ الأموالُ التى كانت مع أبى العاص بن الربيع زوجِ زينبَ مَرجِعَه مِنَ الشَامِ، وكانت أموالَ قريش، قال بن إسحاق: حدثنى عبدُ الله بن محمد بن حزم، قال: خرج أبو العاص بنُ الربيع تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائعُ لقريش، فأقبل قافلاً فلَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستاقُوا عِيره، وأُفلِت، وقَدِمُوا على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أصابُوا، فَقَسَمه بينهم،
وأتى أبو العاص المدينةَ، فدخلَ على زينبَ بنت رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستجار بها، وسألها أن تطلُبَ له مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ ماله عليه، وما كان معهُ مِنْ أموال الناس، فدعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّرِيَّة، فقال: " إنَّ هذا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُم، وَقَدْ أَصَبْتُم لَهُ مَالاً وَلِغَيْرِهِ، وهُوَ فَىءُ اللهِ الَّذِى أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَإنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ، فَافْعَلُوا، وَإنْ كَرِهْتُم، فَأَنْتُمْ وَحَقُّكُم" ، فقالُوا: بل نردُّه عليه يا رسولَ الله، فردوا عليه ما أصابُوا، حتى إن الرجلَ ليأتى بالشَّنِّ، والرجلَ بالإداوة، والرجلَ بالحبل، فما تركوا قليلاً أصابوه ولا كثيراً إلا ردُّوه عليه، ثم خرج حتى قَدِمَ مكة، فأدَّى إلى الناس بضائِعَهم، حتى إذا فرغ، قال: يا معشرَ قريش؛ هل بقى لأحدٍ منكم معى مالٌ لم أردَّهُ عليه ؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، قد وجدناك وفيَّاً كريماً، فقال: أما واللهِ ما منعنى أن أُسْلِمَ قبل أن أَقْدَمَ عليكم إلا تخوفاً أن تَظنُّوا أنى إنما أسلمتُ لأَذهبَ بأموالِكم، فإنى أشهدُ أنْ لاَ إلَه إلا اللهُ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.
وهذا القولُ من الواقدى وابن إسحاق يدل على أن قصة أبى العاص كانت قَبْلَ الحُدَيبية، وإلا فبعدَ الهُدنة لم تتعرَّضْ سرايا رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش. ولكن زعم موسى بن عقبة، أن قصة أبى العاص كانت بعد

الهُدنة، وأن الذى أخذ الأموال أبو بصير وأصحابُه، ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا مُنحازين بِسِيفِ البحر، وكانت لا تمرُّ بهم عِيرٌ لقريش إلا أخذوها، هذا قولُ الزهرى.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب فى قصة أبى بصير: ولم يزل أبو جندل، وأبو بَصير وأصحابُهما الذين اجتمعوا إليهما هُنالك، حتَّى مرَّ بهم أبو العاص بن الربيع، وكانت تحتَه زينبُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نفر من قريش، فأخذوهم وما معهم، وأسرُوهم، ولم يقتلُوا منهم أحداً لِصهر رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبى العاص، وأبو العاص يومئذ مشركٌ، وهو ابنُ أخت خديجة بنتِ خُويلد لأبيها وأُمها، وخَلَّوْا سبيل أبى العاص، فَقَدِمَ المدينةَ على امرأته زينب، فكلمها أبو العاص فى أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير، وما أخذوا لهم، فكلَّمت زينبُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، فزعموا أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام، فخطب الناسَ، فقال : "إنَّا صَاهَرْنَا أُنَاساً، وَصَاهَرْنَا أبا العَاصِ، فَنِعْمَ الصِّهْرُ وَجَدْناهُ، وإنَّهُ أَقَبَلَ مِنَ الشَّامِ فى أَصْحابٍ لَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَخَذَهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ، وأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدَاً، وإنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ سَأَلَتْنِى أَنْ أُجيِرَهُم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُجِيرُونَ أبَا العَاصِ وَأَصْحَابَه" ؟ فقال الناسُ: نعم، فلما بلغَ أبا جندل وأصحابَه قَوْلُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أبى العاص وأصحابِه الذين كانوا عنده مِن الأسرى، ردَّ إليهم كُلَّ شئ أخذ منهم، حتى العقالَ، وكتب رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى جندل وأبى بصير، يأمرهم أن يَقْدَمُوا عليه، ويأمُرُ مَن معهما مِن المسلمين أن يَرْجِعُوا إلى بلادهم وأهليهم، وألا يتعرَّضُوا لأحد مِن قريش وعِيرها، فَقَدِمَ كتابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبى بصير، وهو فى الموت، فمات وهو على صدره، ودفنه

أبو جندل مكانَه، وأقبل أبو جندل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمِنَتْ عِيرُ قريش وذكر باقى الحديث.
وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمنَ الهُدنة، وقُريش إنما انبسطت عِيرُها إلى الشام زَمَنَ الهُدنة، وسياقُ الزهرى للقصة بيِّنٌ ظاهر أنها كانت فى زمن الهُدنة.
قال الواقدى: وفيها أقبل دِحْيَةُ بن خليفة الكَلبى مِن عند قيصر، وقد أجازه بمالٍ وكُسوة، فلما كان بِحِسْمى، لقِيه ناسٌ مِن جُذَام، فقطعُوا عليه الطريقَ، فلم يتركُوا معه شيئاً، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخُلَ بيته فأخبره، فبعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدَ بن حارثة إلى "حِسْمى". قلت: وهذا بعد الحُديبية بلا شك.
قال الواقدى: وخرج علىُّ فى مائة رجل إلى فَدَك إلى حىٍّ مِن بنى سعد بنِ بكر، وذلك أنه بلَغَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بها جمعاً يُريدون أن يَمُدُّوا يهودَ خيبر، فسار إليهم، يسيرُ اللَّيل، ويَكْمُنُ النهارَ، فأصاب عيناً لهم، فأقرَّ له أنهم بعثُوه إلى خيبر، فعرضُوا عليهم نُصرتهم على أن يجعلوا لهم ثمرَ خيبر.
قال: وفيها سريَّةُ عبدِ الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل فى شعبان، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أطاعوك، فتزوَّج ابنةَ ملكهم" فأسلم القومُ، وتزوَّج عبد الرحمن تُماضِرَ بنتَ الأصْبَغِ،

وهى أم أبى سلمة، وكان أبوها رأسَهم ومَلِكَهم.
قال: وكانت سرَّيةُ كُرز بن جابر الفِهْرِى إلى العُرَنِيِّينَ الذين قَتَلُوا راعىَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستاقُوا الإبلَ فى شوَّال سنةَ سِتٍّ، وكانت السَّرِيَّةُ عشرين فارساً.
قلت: وهذا يدُلُّ على أنها كانت قبلَ الحُديبية كانت فى ذى القَعدة كما سيأتى، وقصة العُرَنِيِّينَ فى "الصحيحين" من حديث أنس، أن رهطاً من عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّا أَهْلَُ ضَرْع، ولم نَكُنْ أَهْلَ ريف، فَاسْتَوْخَمْنَا المَدِينَة، فَأَمَرَ لهم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ، وأَمَرَهُم أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وأَبْوَالِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا راعِىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واسْتَّاقُوا الذَّوْدَ، وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِم.
وفى لفظ لمسلم: سَمَلُوا عَيْنَ الرَّاعى، فبعثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طَلَبِهمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُم وَأَرْجُلَهُم، وَتَرَكَهُم فى ناحِيَةِ الحَرَّةِ حتَّى ماتُوا.

وفى حديث أبى الزُّبير، عن جابر: فقَال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِم الطَّرِيقَ، واجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ أَضْيَقَ مِنْ مَسْكِ جَمَل"، فعمَّى الله عليهم السبيلَ، فأُدْرِكُوا... وذكر القِصَّة.
وفيها من الفقه جوازُ شُربِ أبوالِ الإبل، وطهارةُ بول مأكول اللَّحم، والجمع للمحارب إذا أخذ المال وقتل بين قَطْع يَدِهِ ورِجْلِهِ وقتله، وأنه يُفعل بالجَانى كما فعل، فإنهم لما سَمَلُوا عَيْنَ الراعى، سملَ أعينهم، وقد ظهر بهذا أن القِصة محكمةٌ ليست منسوخة، وإن كانت قبل أن تنزِلَ الحدودُ، والحدودُ نزلت بتقريرها لا بإبطالها.. والله أعلم.

فصل: فى قصة صلح الحديبية
قال نافع: كانت سنةَ سِتٍّ فى ذى القَعدة، وهذا هو الصحيحُ، وهو قولُ الزهرى، وقتادةَ، وموسى بن عقبة، ومحمَّد بن إسحاق، وغيرهم. قال هشام بن عروة، عن أبيه: خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحُديبيةِ

فى رمضان، وكانت فى شوَّال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاةُ الفتح فى رمضان، وقد قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت فى ذى القَعدة على الصواب.
وفى "الصحيحين" عن أنس، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر أربَعَ عُمَر، كُلُّهُنَّ فى ذى القَعْدَةِ، فذكر منها عُمرة الحديبية.
وكان معهُ ألفٌ وخمسُمائة، هكذا فى "الصحيحين" عن جابر، وعنه فيهما: "كانوا ألفاَ وأربعمائة" وفيهما: عن عبد الله بن أبى أوفى: "كُنَّا أَلْفاً وثَلاثمائة"، قال قتادة: قلتُ لِسعيد بن المسيِّب: كم كان الذينَ شَهِدُوا بيعةَ الرِّضوان ؟ قال: خمسَ عشرةَ مائة. قال: قلتُ: فإن جابرَ بنَ عبد الله قال: كانُوا أربعَ عشرةَ مائة، قال: يرحمُه الله أوْهَمَ، هو حدَّثنى أنهم كانوا خمسَ عشرة مائة. قلت: وقد صح عن جابر القولانِ، وصح عنه أنَّهُم نحرُوا عام الحُديبية سبعينَ بَدَنةً، البدنةُ

عن سبعةٍ، فقيل له: كم كنتُم ؟ قال: ألفاً وأربعمائة بخيلنا ورَجِلنا، يعنى فَارِسَهم وراجلهم، والقلبُ إلى هذا أميل، وهو قولُ البراء بن عازب، ومَعْقِلِ بنِ يسار، وسلمة ابنِ الأكوعِ فى أصحِّ الروايتين، وقولُ المسيِّب بن حَزْن، قال شعبةُ: عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه: كنَّا معَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ الشجرةِ ألفاً وأربَعمائة.
وغلط غلطاً بيِّناً مَن قال: كانوا سبعمائة، وعُذْرُه أنهم نحرُوا يومئذ سبعينَ بَدَنَةً، والبدنةُ قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة، وهذا لا يدُلُّ على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرَّح بأن البدنَة كانت فى هذه العُمْرة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانُوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال فى تمام الحديث بعينه: إنَّهم كانُوا ألفاً وأربعمائة.
فصل
فلما كانوا بذى الحُليفة، قلَّد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهَدْىَ وأشعَرَه، وأحرمَ بالعُمرة، وبعث بينَ يديه عَيْناً له مِن خُزَاعَةَ يُخبِرُه عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسفان، أتاه عَيْنُه، فقال: إنى تركتُ كعبَ بنَ

لُؤى قد جمعوا لك الأحَابِيشَ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتِلوك وصادُّوك عن البيت ومانعوك، واستشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه، وقال: "أترون أن نمِيلَ إلى ذَرارى هؤلاء الذين أعانُوهم فَنُصِيبَهم، فإن قعدُوا، قعدُوا موتُورين محروبين، وإن يجيؤوا تَكُنْ عُنقاً قطعها اللهُ، أم ترون أن نَؤُمَّ البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلناه" ؟
فقالَ أبو بكر: اللهُ ورسولُه أعلم، إنما جِئنا معتمرِين، ولم نجئ لِقتال أحد، ولكن مَن حال بيننا وبينَ البيت، قاتلناه، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَرُوحُوا إذاً"، فراحوا حتى إذا كانوا بِبعضِ الطريق، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ خَالِدَ بْنَ الوَليدِ بالغَمِيمِ فى خَيْلٍ لِقُرَيْش طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ" ، فواللهِ ما شعر بهم خالد حتى إذا هُمْ بِقَتَرَةِ الجيش، فانطلق يركُض نذيراً لقريش، وسار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان بالثَّنِيَّةِ التى يُهْبَطُ عليهم مِنْهَا بركَتْ بهِ رَاحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالُوا: خَلأتِ القَصْوَاء، خَلأتِ القَصْواءُ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خَلأَتِ القَصْوَاء، ومَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابسُ الفِيل "، ثم قال: "والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لا يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُماتِ الله، إلاَّ أعطيتُهم إيَّاها"، ثم زجرها، فوثَبَتْ به،

فَعَدَلَ حتى نزل بأقصى الحُدَيبية على ثَمَدٍ قليل الماء، إنما يتبرّضُهُ النَّاسُ تَبرُّضاً، فلم يُلْبِثْهُ النَّاسُ أن نَزحُوه، فَشَكَوْا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَطَشَ، فانتزع سهماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثمَّ أمرهم أن يَجْعلُوه فيه، قال: فواللهِ ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّىِّ، حتى صدرُوا عنه.
وفَزِعَتْ قريشٌ لنزوله عليهم، فأحبَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبعَثَ إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بنَ الخطَّاب لِيبعثه إليهم، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ ليس لى بمكة أحدٌ من بنى كعب يغضَبُ لى إن أوذيتُ، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بن عفان، فإن عشيرَتَه بها، وإنه مبلِّغٌ ما أردتَ، فدعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمانَ بنَ عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: "أخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، وادعُهُم إلى الإسلام"، وأمره أن يأتىَ رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمناتٍ، فيدخُلَ عليهم، ويبشِّرَهم بالفتح، ويخبِرَهم أن الله عزَّ وجلَّ مظهِرٌ دينَه بمكة، حتى لا يُسْتَخْفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمرَّ على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد ؟ فقال: بعثنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدعوكُم إلى الله وإلى الإسلام، وأُخبِركُم أنَّا لم نأتِ لِقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، فقالوا: قد سمعنا ما تقُولُ، فانفُذْ لِحاجتك، وقام إليه أبانُ بنُ سعيد بن العاص، فرحَّب به، وأسرج فرسَه، فحمل عُثمانَ على الفرس، وأجاره، وأردفَه أبانُ حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يَرْجِعَ عثمانُ: خَلَص عثمان قبلنا إلى البيت وطافَ به، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَظنُّه طَافَ بالبَيْتِ ونَحنُ مَحْصُورُونَ" ،

فقالُوا: وما يمنعُه يا رسول اللهِ وقد خَلَصَ ؟ قال: "ذَاكَ ظَنِّى به، ألاَّ يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى نَطُوفَ مَعَهُ"
واختلط المسلمون بالمشركين فى أمر الصلح، فرمى رجلٌ من أحد الفريقين رجلاً مِن الفريق الآخر، وكانت معركة، وترامَوْا بالنَّبلِ والحِجارة، وصاح الفريقانِ كلاهما، وارتهن كُلُّ واحدٍ مِن الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عثمانَ قد قُتِلَ، فدعا إلى البَيْعة، فثار المسلمون إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو تحتَ الشجرة، فبايعُوه على ألاَّ يَفِرُّوا، فأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد نفسه، وقال: "هذِهِ عَنْ عُثْمَان ".
ولما تَمَّتِ البيعة، رجع عُثمان، فقال له المسلمون: اشتفيتَ يا أبا عبد الله مِن الطواف بالبيت، فقال: بئس ما ظننتُم بى، والذى نفسى بيده، لو مكثت بها سنةً، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيمٌ بالحُدَيْبِيَةِ، ما طُفْتُ بِها حتى يَطُوفَ بها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد دعتنى قريشٌ إلى الطوافِ بالبيت، فأبيتُ، فقال المسلمون: رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أعلمنَا باللهِ، وأحسننا ظَنا، وكان عمر آخِذاً بِيدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلبَيْعةِ تحتَ الشجرة، فبايعه المسلمون كُلُّهُم إلا الجدَّ بْنَ قَيْسٍ.
وكانَ مَعْقِلُ بنُ يسار آخذاً بِغصنها يرفَعهُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أوَّلَ من بايعه أبو سِنان الأسَدِى.
وبايعه سلمةُ بنُ الأكوع ثلاثَ مرات، فى أول الناس، وأوسطِهم، وآخِرِهم.

فبينما هم كذلك، إذ جاء بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعى فى نَفرٍ مِن خُزاعة، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل تِهامَة، فقال: إنى تركتُ كعبَ بنَ لُؤَى، وعامر بن لؤى نزلوا أعدَادَ مِياه الحُدَيْبية معهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مقاتِلُوكَ، وصادُّوك عن البيت، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا لَمْ نِجِئْ لِقِتَالِ أحَدٍ، ولَكِنْ جِئْتَنا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشَاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُم، ويُخَلُّوا بيْنى وبَيْنَ النًَّاسِ، وَإنْ شَاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيهِ الناس، فَعَلُوا وإلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُم أَبَوْا إلاَّ القِتَالَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمْرِى هذَا حَتَّى تَنْفَردَ سَالِفَتِى، أوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ".
قال بُديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قُريشاً، فقال: إنى قد جئتُكم مِن عند هذا الرجل، وقد سمعتُه يقول قولاً، فإن شئتم عرضتُه عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجةَ لنا أن تُحدِّثنا عنه بشىء. وقال ذوو الرأى منهم: هاتِ ما سمعته، قال: سمعتُه يقول كذا وكذا. فحدَّثهم بما قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال عُروةُ بنُ مسعود الثَّقفى: إن هذَا قد عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلوها، ودعونى آتِه، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يُكلمه، فقال له النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحواً من قوله لِبُديل، فقال له عروةُ عند ذلك: أى محمد؛ أرأيتَ لو استأصلتَ قومَك هل سمعتَ بأحدٍ مِن العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى، فواللهِ إنى لأرى وجوهاً، وأرى أوشَاباً من الناس خليقاً أن يَفِرُّوا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أنحنُ نَفِرُّ عنه وندعه. قال: مَن ذا ؟ قالُوا: أبو بكر. قال: أما والذى نفسى بيده، لولا يَدٌ كانت لكَ عندى لم أَجْزِكَ بها، لأجبتُك، وجعل يُكلِّم النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلما كلَّمه أخذَ

بلحيته، والمغيرةُ بنُ شُعبة عِند رأسِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه السيفُ، وعليه المِغفرُ، فكلما أهوى عُروةُ إلى لحية النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضرب يَده بِنَعْلِ السيفِ، وقال: أخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحية رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفع عروة رأسه وقال: مَن ذا ؟ قالوا: المغيرةُ بنُ شعبة. فقال: أَىْ غُدَرُ، أوَ لستُ أسعى فى غَدرتك ؟ وكان المغيرةُ صحب قوماً فى الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا الإسْلامُ فأقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فى شَىء".
ثم إن عروة جعلَ يَرْمُق أصحابَ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعينيه، فواللهِ مَا تَنَخَّمَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخامة إلا وقعت فى كفِّ رَجُلٍ منهم، فَدَلَكَ بها جِلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم، ابتدروا أمرَه، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، فرجع عروةُ إلى أصحابه، فقال: أىْ قوم؛ واللهِ لقد وفدتُ على الملوكِ: على كسرى، وقيصرَ، والنجاشىِّ، واللهِ ما رأيتُ ملكاً يُعظمه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمد محمداً، واللهِ إن تنخَّم نُخامة إلا وَقَعتْ فى كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم، خفضُوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، وقد عرض عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلُوها، فقال رجل من بنى كِنانة: دعونى آتِهِ، فقالوا: ائْتِهِ، فلما أشرفَ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا فُلانٌ"، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْنَ، فابعثُوها له، فبعثوها له، واستقبله القومُ يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال: "سُبْحَانَ اللهِ، مَا يَنْبَغى لِهَؤُلاَء أن يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ"، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيتُ البُدن قد

قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ. وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت
فقام مِكْرَزُ بنُ حَفص، فقال: دعونى آته. فقالوا: ائتهِ. فلما أشرف عليهم، قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذا مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، وهو رجل فاجر"، فجعل يُكَلِّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا هُوَ يكلمه، إذ جاء سُهيلُ بنُ عمرو، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ من أمْركُم"، فقال: هاتِ، اكتُب بيننا وبينكم كِتاباً، فدعا الكاتب، فقال: "اكتُب بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ". فقال سهيل: أما الرحمنُ، فواللهِ ما ندرى ما هُو، ولكن اكتب: باسمِكَ اللهُمَّ كما كنتَ تكتبُ، فقال المسلمون: واللهِ لا نكتُبها إلا بسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبْ باسْمِكَ اللهُمَّ" ، ثم قال: "اكْتُبْ: هذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ"، فقال سُهيل: فواللهِ لو كنَّا نعلمُ أنك رسولُ اللهِ، ما صددناكَ عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنِّى رَسُولُ اللهِ وإنْ كَذَّبْتُمُونى، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله" فَقَال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "على أَنْ تخَلُّوا بَيْنَنَا وبَيْن البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ"، فقال سهيل: واللهِ لا تتحدَّثُ العربُ أنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، ولكن ذلك مِن العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: على أن لا يأتِيك مِنَّا رجل وإن كان على دِينك إلا رددتَه إلينا، فقال المسلمون: سُبْحَانَ اللهِ، كيف يُردُّ إلى المشركين، وقد جاء مسلماً.
فبينا هُم كذلك، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسُفُ فى قيوده قَدْ خَرَج من أسفل مكة حتى رَمَى بنفسه بين ظُهورِ المُسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمدُ أول ما أقاضيكَ عليه أن تَرُدَّهُ إلىَّ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا لم نقضِ الكتابَ بعد"، فقال: فواللهِ إذاً لا أُصَالحك على شىء أبداً، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَجِزْهُ لى"، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل. قال مِكرز:

بلى قد أجزناه. فقال أبو جندل: يا معشرَ المسلمين؛ أُرَدُّ إلى المشركين، وقد جِئتُ مسلماً، ألا ترون ما لقيتُ ؟ وكان قد عُذِّبَ فى اللهِ عذاباً شديداً، قال عُمَرُ بنُ الخطاب: واللهِ ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذ. فأتيتُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسولَ الله؛ ألستَ نبى الله حقاً ؟ قال: "بلى"، قلتُ: ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل ؟ قال: "بلى"، فقلتُ: علامَ نُعطى الدَّنيَّةَ فى ديننا إذاً، ونَرْجِعَ ولما يَحْكُم اللهُ بيننا وبينَ أعدائنا ؟ فقال: "إنِّى رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، وَلَسْتُ أعْصِيهِ"، قلتُ: أوَ لستَ كنتَ تُحدثنا أنَّا سنأتى البيتَ ونطوفُ به ؟ قال: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَام" ؟، قلتُ: لا. قالَ: "فإنَّكَ آتيهِ ومُطَّوِّفٌ به ". قال: فأتيتُ أبا بكر، فقلتُ له كما قلتُ لِرسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردَّ علىَّ أبو بكر كما ردَّ علىّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء، وزاد: فاستَمْسِك بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فواللهِ إنَّه لَعَلى الحَقِّ. قال عُمر: فعملت لذلك أعمالاً.
فلمَّا فرغ مِن قضية الكتاب، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثم احْلِقُوا" فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رجلٌ واحد حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، فلما لم يَقُمْ مِنْهم أحد، قام فدخل على أُمِّ سلمة، فذكر لها مَا لَقِىَ مِنَ الناس، فقالت أُمُّ سلمة: يا رسُول الله؛ أَتُحِبُّ ذلك ؟ اخرُجْ ثم لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تَنْحَرَ بُدْنَك، وتدعو حَالِقَكَ فيحلقَكَ، فقام، فخرج، فلم يُكَلِّمْ أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدنة، ودعا حَالِقه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك، قامُوا فنحروا، وجعل بعضُهم يَحْلِقُ بعضاً، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضاً غماً، ثم جاءه نسوةٌ مؤمناتٌ،

فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ: {بِعِصَمِ الكَوَافِرِ}[ الممتحنة:10]فطلَّق عُمَرُ يومئذٍ امرأتين كانتا له فى الشِرْك، فتزوَّج إحداهُمَا معاوية، والأُخرى صفوان بن أُمية، ثم رجع إلى المدينة، وفى مرجعه أنزل الله عليه: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيمَاً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً}[ الفتح: 1-2]، فقال عمر: أوَ فتحٌ هُوَ يا رسول الله ؟ قال: "نعم"، فقال الصحابةُ: هنيئاً لكَ يا رَسُولَ اللهِ، فما لَنَا ؟ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...}[الفتح: 4]الآية.
ولما رجع إلى المَدِينة، جاءه أبو بصير رجل من قريش مسلماً، فأرسلوا فى طلبه رجلين، وقالوا: العهدَ الذى جعلتَ لنا، فدفعه إلى الرَّجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَةِ، فنزلوا يأكُلون مِن تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: واللهِ إنِّى لأرى سيفَكَ هذا جيداً، فاستلَّه الآخرُ، فقال: أَجَلْ واللهِ إنه لجيد، لقد جربتُ به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرنى أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخرُ بعدو حتى بلغ المدينة، فدخل المسجدَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآهُ: "لَقَدْ رَأى هذَا ذُعْرَاً"، فلما انتهى إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: قُتِلَ واللهِ صاحبى، وإنى لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبىَّ اللهِ؛ قد واللهِ أوفى الله ذِمَّتك، قد رددتنى إليهم، فأنجانى الله منهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَر حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ" ، فلما سمِعَ ذلك، عرف أنه سيرده

إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البَحرِ، وينفلتُ منهم أبو جندل بنُ سهيل، فلحق بأبى بصير، فلا يخرُجُ مِن قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبى بصير، حتى اجتمعت منهم عِصابة، فواللهِ لا يسمعُونَ بعيرٍ لقُريش خرجت إلى الشام إلا اعترضُوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ الله والرحم لمَا أرسل إليهم، فمَن أتاه منهم، فهو آمن، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ....} حتى بلغ: {حَمِيَّةَ الجَاهِليَّةِ}[الفتح: 24-26]، وكانت حميتُهم أنهم لم يُقِرُّوا أنه نبى الله، ولم يُقروا بِبِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم، وحالُوا بينهم وبين البيت.
قلتُ: فى "الصحيح": أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "توضأ، ومجَّ فى بئر الحديبية من فمه، فجاشتْ بالماءِ" كذلك قال البراء بنُ عازب، وسلمةُ بنُ الأكوع فى "الصحيحين".
وقال عروة: عن مروان بن الحكم، والمِسور بن مَخْرَمَة، أنه غرز فيها سهماً مِن كنانته، وهو فى "الصحيحين" أيضاً.

وفى مغازى أبى الأسود عن عروة: توضأ فى الدَّلْوِ، ومضمض فاه، ثم مَجَّ فيه، وأمر أن يُصَبَّ فى البئر، ونزع سهماً من كِنانته، وألقاه فى البئر، ودعا الله تعالى، فَغَارَتْ بالماء حتى جعلُوا يغترِفُونَ بأيديهم منها، وهم جلوس على شقِّها، فجمع بين الأمرين، وهذا أشبه والله أعلم.
وفى "صحيح البخارى": عن جابر، قال: عَطِشَ الناسُ يومَ الحُديبية، ورسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه رَكْوَة يتوضأ منها، إذ جَهَشَ الناسُ نحوه، فقال: "ما لكم" ؟ قالوا: يا رسُولَ اللهِ؛ ما عندنا ماء نشرب، ولا ما نتوضأ إلا ما بينَ يديكَ، "فوضع يده فى الرَّكوة، فجعل الماءُ يفورُ من بين أصابعه أمثال العيون، فشربوا، وتوضؤوا، وكانوا خمسَ عشرة مائة، وهذِهِ غيرُ قصة البئر".
وفى هذه الغزوة أصابهم ليلة مطر، فلما صلَّى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبحَ، قال: " أَتَدْرُونَ مَاذا قالَ رَبُّكُم اللَّيْلَةَ" ؟ قالوا: اللهُ ورسُوله أعلم. قال: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بى وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتهِ، فَذلِكَ مُؤْمنٌ بى، كَافرٌ بالكَوْكَبِ، وأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذَا وكَذَا، فَذلِكَ كَافرٌ بى مُؤْمنٌ بالكوكب".

فصل
وجرى الصلحُ بين المسلمين وأهلِ مكة على وضعِ الحربِ عشرَ سنين، وأن يأمنَ الناسُ بعضهم من بعض، وأن يَرجعَ عنهم عامَهُ ذلك، حتى إذا كان العامُ المقبل، قَدِمهَا، وخَلّوْا بينَه وبين مكَّة، فأقام بها ثلاثاً، وأن لا يدخُلَهَا إلا بسلاح الراكب، والسيوف فى القِرَب، وأنَّ مَن أتانا مِن أصحابكَ لم نرده عليك، ومَن أتاكَ من أصحابنا رددتَه علينا، وأنَّ بيننا وبينَك عَيْبَةً مكفوفةً، وأنه لا إسْلالَ ولا إغْلالَ، فقالوا: يا رسولَ الله؛ نُعطيهم هذا ؟ فقال: "مَنْ أتاهم منا فأبعَدَهُ اللهُ، ومَن أتانا مِنهم فرددناه إليهم، جَعَلَ اللهُ له فَرَجاً ومخرجاً".
وفى قِصة الحُديبية، أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فِديةَ الأذى لمن حلق رأسَه بالصيام، أو الصَّدقة، أو النُّسك فى شأن كعب بن عُجرة.
وفيها دعا رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمُحَلِّقِينَ بالمَغْفِرَة ثلاثاً، ولِلمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وفيها نحرُوا البَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ، والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ.
وفيها أهدى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جملة هَدْيهِ جملاً كان لأبى جهل

كان فى أنفه بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِيغيظَ بهِ المشركين.
وفيها أُنزِلَتْ سورةُ الفتح، ودخلت خُزاعة فى عَقْدِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، ودخلَتْ بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، وكان فى الشرط أن مَن شاء أن يدخل فى عقده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل، ومَن شاء أن يدخل فى عقد قريش دخل.
ولما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمناتٌ، مِنهن أُمُّ كُلثُوم بنتُ عقبة ابن أبى معيط، فجاء أهلُهَا يسألونها رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشرطِ الذى كانَ بينهم، فلم يَرْجِعْها إليهم، ونهاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك، فقيل: هذا نسخ للشرط فى النساء. وقيل تخصيص للسُّنَّة بالقرآن، وهو عزيزٌ جداً. وقيل: لم يقع الشرطُ إلا على الرجال خاصة، وأراد المشركون أن يُعَمِّمُوهُ فى الصنفين، فأبى الله ذلك.
فصل بعض ما فى قصة الحُديبية مِن الفوائِدِ الفِقهية
فمنها: اعتمارُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أشهر الحجِّ، فإنه خرج إليها فى ذى القعدة.
ومنها: أن الإحرامَ بالعُمرة من الميقات أفضلُ، كما أن الإحرامَ بالحجِّ كذلك، فإنه أحرم بهما مِن ذى الحُليفة، وبينها وبينَ المدينة ميلٌ أو نحوُه، وأما حديث: " مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ " وفى لفظ: "كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ

الذُّنُوبِ" فحديث لا يثبُت، وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً.
ومنها: أن سَوْقَ الهَدى مسنونٌ فى العُمرة المفرَدَة، كما هو مسنون فى القِران.
ومنها: أن إشْعَارَ الهَدى سُنَّة لا مُثلَةٌ منهى عنها.
ومنها: استحبابُ مُغايظة أعداءِ اللهِ، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدى فى جُملة هَدْيه جملاً لأبى جهل فى أَنْفِهِ بُرَةٌ مِن فضةٍ يَغيظُ به المشركين، وقد قال تعالى فى صفة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: {وَمَثَلُهُمْ فِى الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[الفتح: 29] ، وقال عَزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍ نَيْلاً إلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
ومنها: أن أميرَ الجيشِ ينبغى له أن يبعثَ العُيونَ أمامه نحوَ العدو.
ومنها: أن الاستعانَةَ بالمُشرِكِ المأمونِ فى الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عَيْنه الخزاعىَّ كَانَ كافراً إذ ذاك، وفيه مِن المصلحة أنه أقربُ إلى اختلاطه بالعدوِّ، وأخذه أخبارهم.

ومنها: استحبابُ مشورةِ الإمام رعيَّته وجيشه، استخراجاً لوجه الرأى، واستطابةً لنفوسهم، وأمناً لِعَتْبِهِم، وتعرفاً لمصلحةٍ يختصُّ بعلمها بعضُهم دون بعض، وامتثالاً لأمر الربِّ فى قوله تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ}[آل عمران: 159] ، وقد مدَحَ سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: 138].
ومنها: جواز سبى ذرارى المشركينَ إذا انفردُوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال.
ومنها: ردُّ الكَلامِ الباطِل ولو نُسِبَ إلى غير مُكَلَّفٍ، فإنهم لما قالوا: خلأتِ القَصْوَاءُ، يعنى حَرَنَتْ وألحَّتْ، فلَمْ تَسِرْ، والخِلاء فى الابل بكسر الخاء والمدِّ نظير الحِران فى الخيل، فلما نسبُوا إلى الناقة ما ليس من خُلُقِهَا وطبعها، ردَّهُ عليهم، وقال: "ما خَلأَتْ ومَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُق"، ثم أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبب بروكها، وأن الذى حَبَسَ الفيلَ عن مكة حبسها للحكمة العظيمة التى ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده.
ومنها: أن تسميةَ ما يُلابسه الرجلُ مِن مراكبه ونحوها سُنَّة.
ومنها: جوازُ الحَلِف، بل استحبابُه على الخبر الدينى الذى يريد تأكيده، وقد حُفِظَ عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَلِف فى أكثر من ثَمَانِينَ موضعاً، وأمره الله تعالى بالحَلِفِ على تصدِيقِ ما أخبر به فى ثلاثة مواضِعَ: فى "سورة يونس"، و"سبأ"، و"التغابن".

ومنها: أن المُشْرِكين، وأهلَ البِدَع والفجور، والبُغَاة والظَّلَمة، إذا طَلَبُوا أمراً يُعَظِّمُونَ فيه حُرمةً مِن حُرُماتِ الله تعالى، أُجيبُوا إليه وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن مُنِعوا غيره، فيُعاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبَغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك، فكُلُّ مَن التمس المعاونةَ على محبوب للهِ تعالى مُرْضٍ له، أُجيبَ إلى ذلك كائِناً مَن كان، ما لم يترتَّب على إعانته على ذلك المحبوبِ مبغوضٌ للهِ أعظمُ منه، وهذا مِن أدقِّ المواضع وأصعبِهَا، وأشقِّهَا على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة مَن ضاق، وقال عمر ما قال، حتَّى عَمِلَ له أعمالاً بعده، والصِّدِّيقُ تلقاه بالرضى والتسليم، حتى كان قلبُه فيه على قلبِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجاب عُمَرَ عما سأل عنه من ذلك بعَيْن جوابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك يدل على أن الصِّدِّيق رضى الله عنه أفضلُ الصحابة وأكملُهم، وأعرفُهم باللهِ تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمُهم بدينه، وأقومُهم بمحابِّه، وأشدُّهم موافقةً له، ولذلك لم يسأل عمر عما عَرَضَ له إلا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصِدِّيقَه خاصة دونَ سائر أصحابه.
ومنها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَلَ ذاتَ اليمين إلى الحُديبية. قال الشافعى: بعضُهَا مِن الحِل، وبعضُها مِن الحَرَم.
وروى الإمام أحمد فى هذه القصة أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلِّى فى الحرم، وهو مضطرب فى الحِل، وفى هذا كالدّلالة على أن مضاعفةَ الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخصُّ بها المسجد الذى هو مكانُ الطواف، وأن قوله: "صَلاَةٌ فى المَسْجِدِ الحَرَام أَفْضَلُ مِنْ مِائة صَلاةٍ فى مَسْجِدى"،

كقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}[التوبة: 128] ، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[الإسراء: 1]، وكان الإسراء مِن بيت أُم هانئ.
ومنها: أن مَن نزل قريباً مِن مكة، فإنَّهُ ينبغى له أن ينزل فى الحِلِّ، ويصلى فى الحَرم، وكذلك كان ابنُ عمر يصنعُ.
ومنها: جوازُ ابتداءِ الإمام بطلب صلح العَدُوِّ إذا رأى المصلحةَ للمسلمين فيه، ولا يَتوقَّفُ ذلكَ على أن يكون ابتداءُ الطلب منهم.
وفى قِيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف، ولم يكن عادته أن يُقام على رأسه، وهو قاعد، سُنَّةٌ يُقتدى بها عند قدومِ رسل العدو من إظهار العزِّ والفخر، وتعظيم الإمام، وطاعته، ووقايته بالنفوس، وهذه هى العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من هذا النوع الذى ذمَّه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامَاً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّار"، كما أن الفخرَ والخُيلاء فى الحرب ليسا من هذا النوع المذموم فى غيره، وفى بعث البُدْنِ فى وجه الرسول الآخر دليل على استحباب إظهارِ شعائر الإسلام لرسل الكفار.
وفى قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمغيرة: "أمَّا الإسْلاَمُ فَأَقْبلُ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فى شىء"، دليل على أن مال المشرك المعاهَد معصوم، وأنه لا يملكُ، بل يُرد عليه، فإن المغيرةَ كان قد صحبهم على الأمان، ثم غدر

بهم، وأخذ أموالهم، فلم يتعرَّض النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأموالهم، ولا ذبَّ عنها، ولا ضمنها لهم، لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة.
وفى قول الصِّدِّيق لعروة: امصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، دليلٌ على جواز التصريح باسم العَوْرة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال، كما أذن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُصرَّح لمن ادَّعى دعوى الجاهلية بِهَنِ أبيه، ويقال له: اعضُضْ أيْرَ أبيك، ولا يُكْنَى له، فلكل مقام مقال.
ومنها: احتمالُ قِلَّةِ أدبِ رسولِ الكُفار، وجهلِه وجفوته، ولا يقابَل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة، ولم يُقابل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُروةَ على أخذهِ بلحيته وقتَ خطابه، وإن كانت تلك عادَة العرب، لكن الوقارَ والتعظيمَ خلافُ ذلك.
وكذلك لم يُقابل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسولى مسيلمةَ حين قالا: نشهدُ أنه رسول الله، وقال: "لَوْلا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا".
ومنها: طهارة النُّخَامَةِ، سواء أكانت من رأسٍ أو صدر.
ومنها: طهارةُ الماءِ المستعمل.
ومنها: استحبابُ التفاؤُل، وأنَّهُ ليس مِن الطِّيَرةِ المكْرُوهَة، لقوله لما جاء سهيل: "سَهُلَ أَمْرُكُم".
ومنها: أن المشهودَ عليه إذا عُرِفَ باسمه واسمِ أبيه، أغنى ذلك عن ذِكر الجَدِّ، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزد على محمد بن عبد الله، وقَنِعَ مِن

سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة، واشتراطُ ذِكر الجد لا أصل له، ولما اشترى العَدَّاءُ بْنُ خالد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغلامَ فكتب له: "هذا مَا اشْتَرَى العَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بن هَوْذَةَ" فذكر جده، فهو زيادةُ بيان تَدُلُّ على أنه جائز لا بأس به، ولا تَدُلُّ على اشتراطه، ولما لم يكُنْ فى الشهرة بحيث يُكتفى باسمه واسم أبيه ذكر جده، فيُشترط ذِكْرُ الجد عند الاشتراك فى الاسم واسم الأب، وعند عدمِ الاشتراك، واكتُفى بذكر الاسم واسمِ الأب.. والله أعلم.
ومنها: أن مصالحةَ المشركين ببعض ما فيه ضَيْمٌ على المُسلمينَ جائزةٌ للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتينِ باحتمالِ أدناهما.
ومنها: أن مَن حَلَفَ على فِعْل شىء، أو نَذَره، أو وَعَدَ غيرَه به ولم يُعيِّن وقتاً، لا بلفظه، ولا بنيته، لم يكن على الفور، بل على التراخى.
ومنها: أن الحلاقَ نُسُكٌ، وأنه أفضلُ من التقصير، وأنه نُسُكٌ فى العُمرةِ، كما هو نُسُكٌ فى الحجِّ، وأنه نُسُكٌ فى عُمرة المحصور، كما هو نُسُك فى عُمرة غيره.
ومنها: أن المُحْصَرَ ينحرُ هَدْيَه حيث أُحْصِرَ من الحِلِّ أو الحَرَم، وأنه لا يجب عليه أن يُواعِدَ مَن ينحرُهُ فى الحرم إذا لم يَصِل إليه، وأنه

لا يتحلل حتى يصل إلى محله، بدليل قوله تعالى : {وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}[الفتح: 25].
ومنها: أن الموضِعَ الذى نحر فيه الهَدْى، كان من الحِلِّ لا من الحرم، لأن الحَرَمَ كُلَّهُ محلُّ الهَدْى.
ومنها: أن المُحْصَرَ لا يجب عليه القضاءُ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرَهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، والعُمْرةُ من العام القابل لم تكن واجبةً، ولا قضاءً عن عُمرة الإحصار، فإنهم كانُوا فى عُمرة الإحصار ألفاً وأربعمائة، وكانوا فى عُمرة القضيةِ دُون ذلك، وإنما سُمِّيت عُمرةَ القضية والقضاء، لأنها العُمرة التى قاضاهم عليها، فأُضيفت العُمرة إلى مصدر فعله.
ومنها: أن الأمر المطلقَ على الفور وإلا لم يَغْضَبْ لِتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر، وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنَّهُم كانوا يَرْجُون النسخ، فأخَّروا متأوِّلين لذلك، وهذا الاعتذارُ أولى أن يُعتذر عنه، وهو باطل، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو فَهِمَ منهم ذلك، لم يشتَدَّ غضبُه لتأخير أمره، ويقول: "مَالى لا أغْضَبُ، وأَنَا آمُرُ بالأَمْر فلا أُتَّبعُ" ، وإنما كان تأخيرُهم مِن السعى المغفور لا المشكور، وقد رضىَ الله عنهم، وغفر لهم، وأوجب لهم الجنَّة.
ومنها: أن الأصل مشارَكَةُ أُمَّتِه له فى الأحكام، إلا ما خصَّه الدليلُ، ولذلك قالت أُمُّ سلمة: "اخرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحدَاً حتى تَحْلِقَ رأسك وتنحر هَدْيك"، وعلمت أن الناس سيتابعونه.
فإن قيل: فكيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله، ولم يمتثِلُوه حين أمرهم به ؟ قيل: هذا هو السببُ الذى لأجله ظنَّ مَن ظنَّ أنهم أخَّروا الامتثال طمعاً فى النسخ، فلما فعلَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، عَلِمُوا حينئذ أنه حكم مُسْتَقِرٌ غيرُ

منسوخ، وقد تقدم فسادُ هذا الظن، ولكن لما تغيَّظَ عليهم، وخرج ولم يُكلمهم، وأراهُم أنه بادر إلى امتثال ما أمر به، وأنه لم يُؤخِّر كتأخيرهم، وأن اتباعهم له وطاعتَهم تُوجِبُ اقتداءهم به، بادرُوا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثالِ أمره.
ومنها: جوازُ صُلحِ الكُفَّارِ على ردِّ مَن جاء منهم إلى المسلمين، وألا يُرد مَنْ ذهب من المسلمين إليهم، هذا فى غير النساء، وأما النساء، فلا يجوزُ اشتراطُ رَدِّهن إلى الكفار، وهذا موضعُ النسخ خاصة فى هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيلَ إلى دعوى النسخ فى غيره بغير موجب.
ومنها: أن خُروجَ البُضع من ملك الزوج متقوَّم، ولذلك أوجبَ اللهُ سبحانه ردَّ المهر على مَن هاجرت امرأتُه، وحِيل بينَه وبينها، وعلى مَن ارتدَّت امرأتُه مِن المسلمين إذا استحق الكفارُ عليهم ردَّ مهورِ مَن هاجر إليهم مِن أزواجهم، وأخبر أن ذلك حُكمُه الذى حكم به بينهم، ثم لم ينسخه شىءٌ، وفى إيجابِه ردَّ ما أعطى الأزواجُ من ذلك دليلٌ على تقوُّمه بالمسمَّى، لا بمهر المثل.
ومنها: أن ردَّ مَن جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول مَن خرج منهم مسلماً إلى غيرِ بلدِ الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام، لا يجبُ عليه ردُّه بدون الطلب، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَرُدَّ أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاؤوا فى طلبه، مكَّنهم من أخذه ولم يكرهْهُ على الرجوع.
ومنها: أن المعاهدين إذا تسلَّموه وتمكَّنُوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بديةٍ ولا قَوَدٍ، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه فى ذلك حُكمَ قتله لهم فى ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصيرٍ قتل أحد الرجلين المعاهَدَيْنِ بذى الحُلَيْفَةِ، وهى مِن حُكم المدينة، ولكن كان قد تسلَّموه،

وفُصِلَ عن يد الإمام وحكمه.
ومنها: أن المعاهَدِينَ إذا عاهدوا الإمام، فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم، وغَنِمَتْ أموالهم، ولم يَتَحَيَّزُوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعُهم عنهم، ومنعُهم منهم، وسواءٌ دخلوا فى عَقدِ الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهدُ الذى كان بين النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين، لم يكن عهداً بين أبى بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعضِ ملوكِ المسلمين وبعضِ أهل الذِّمةِ من النصارى وغيرِهم عهد، جاز لملك آخر مِن ملوك المسلمين أن يَغْزُوَهُم، ويغنَم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخُ الإسلام فى نصارى مَلَطْيَةَ وسبيهم، مستدلاً بقصة أبى بصير مع المشركين.
فصل فى الإشارة إلى بعضِ الحِكمِ التى تضمَّنتها هذه الهدنة
وهى أكبرُ وأجَلُّ مِن أن يُحيط بها إلا اللهُ الذى أحكم أسبابهَا، فوقعت الغايةُ على الوجه الذى اقتضته حكمته وحمدُه.
فمنها: أنها كانت مُقَدِّمةً بين يدى الفتح الأعظم الذى أعزَّ اللهُ بهِ رسولَه وجندَه، ودخل الناس به فى دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهُدنة باباً له، ومفتاحاً، ومؤذِناً بين يديه، وهذه عادةُ الله سبحانه فى الأُمور العظام التى يقضيها قدراً وشرعاً، أن يُوطِّئَ لها بين يديها مقدمات وتوطئات، تُؤذِنُ بها، وتدُلُّ عليها.
ومنها: أن هذه الهُدنة كانت من أعظم الفُتوح، فإن الناسَ أمِنَ بعضُهم بعضاً، واختلطَ المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم

القُرآن، وناظرُوهم على الإسلام جهرةً آمنين، وظهر مَن كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه فى مُدة الهُدنة مَن شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله "فَتْحاً مُّبِيناً". قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاءً عظيماً، وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحُديبية.
وحقيقة الأمر: أن الفتح فى اللُّغة فتحُ المغلق، والصلح الذى حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مُغلقاً حتى فتحه الله، وكان مِن أسباب فتحه صدُّ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ عن البيت، وكان فى الصورة الظاهرة ضيماً وهضماً للمسلمين، وفى الباطن عزَّا وفتحاً ونصراً، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إلى ما وراءَهُ مِن الفتح العظيم، والعزِّ، والنصرِ من وراء ستر رقيق، وكان يُعطى المشركين كلَّ ما سألوه مِن الشروط، التى لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم ما فى ضمن هذا المكروه من محبوب: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:216].
وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلى ... مَحْبوبِهَا سَبَبَاً مَا مِثْلُه سَبَبُ
فكان يَدْخُلُ على تلك الشروط دخولَ واثِق بنصر الله له وتأييده، وأن العاقِبةَ له، وأن تلك الشروطَ واحتمالها هو عَيْنُ النصرة، وهو مِن أكبر الجند الذى أقامه المشترطون، ونصبُوه لحربهم، وهم لا يشعرون، فذلُّوا مِن حيث طلبوا العز، وقُهِرُوا من حيثُ أظهروا القدرة والفخر والغلبة، وعزَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعساكِرُ الإسلام من حيث انكسروا لله، واحتملُوا الضَّيْم له وفيهِ، فدار الدَّورُ، وانعكس الأمرُ، وانقلب العِّزُّ بالباطل ذُلاً بحقٍ، وانقلبت الكَسرة لله عزاً باللهِ، وظهرت حِكمة اللهِ وآياتُه، وتصديقُ وعده، ونصرةُ رسوله على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها التى لا اقتراح للعقول وراءها.

ومنها: ما سبَّبه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعانِ، والانقيادِ على ما أحبُّوا وكرهوا، وما حصل لهم فى ذلك من الرضى بقضاء الله، وتصديقِ موعوده، وانتظارِ ما وُعِدُوا به، وشهودِ مِنَّة الله ونِعْمتهِ عليهم بالسَّكِينةِ التى أنزلها فى قُلوبهم، أحوج ما كانوا إليها فى تلك الحال التى تَزَعْزَعُ لها الجبالُ، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبُهم، وقويت به نفُوسُهم، وازدادوا به إيماناً.
ومنها: أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذى حكم به لِرسوله وللمؤمنين سبباً لما ذكره مِن المغفرة لرسوله ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، ولإتمام نِعمتهِ عليه،ولهدايته الصِّراطَ المستقيم، ونصره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به مع ما فيهِ من الضيم، وإعطاءِ ما سألوه، كان من الأسباب التى نال بها الرسولُ وأصحابُه ذلك، ولهذا ذكره الله سبحانه جَزَاءً وغاية، وإنما يكون ذلك على فِعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى، وفتحه.
وتأمل كيف وصفَ سبحانه النصرَ بأنه عزيزٌ فى هذا الموطن، ثم ذكر إنزالَ السكينة فى قلوبِ المؤمنين فى هذا الموطنِ الذى اضطربت فيهِ القلوبُ، وقَلِقَتْ أشدَّ القلق، فهى أحوجُ ما كانت إلى السكينةِ، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم، ثم ذكر سُبحانه بَيْعتَهم لِرسوله، وأكَّدها بكونها بَيْعةً له سبحانه، وأن يَده تعالى كانت فوقَ أيديهم إذ كانت يدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وهو رسولُه ونبيُّه، فالعقدُ معه عقدٌ مع مُرْسِلِهِ، وبَيْعته بيعته، فمن بايعه، فكأنما بايع الله، ويدُ الله فوقَ يده، وإذا كان الحجرُ الأسودُ يمينَ الله فى الأرض، فمَن صافحه وقبَّله، فكأنما صافح الله، وقبَّل

يمينه، فيدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بهذا مِن الحَجَر الأسود، ثم أخبر أن ناكِثَ هذه البيعة إنما يعود نكثُه على نفسه، وأن للمُوَفِّى بها أجراً عظيماً فَكُلُّ مؤمن فقد بايع الله على لسان رسوله بَيْعة على الإسلام وحقوقه، فناكِث ومُوفٍ.
ثم ذكرَ حالَ مَن تخلَّفَ عنه من الأعراب، وظنهم أسوأ الظَّنِّ باللهِ: أنَّهُ يخذُل رسولَه وأولياءَه، وجندَه، ويُظْفِرُ بهم عدوَّهم، فلن ينقلبوا إلى أهليهم، وذلك مِن جهلهم بالله وأسمائِهِ وصِفاتِه، وما يليق به، وجهلهم برسوله وما هُوَ أهل أن يُعامِلَه به ربُّه ومولاه.
ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البَيْعة لرسوله، وأنه سبحانه علم ما فى قلوبهم حينئذ مِن الصِّدق والوفاء، وكمال الانقياد، والطاعة، وإيثار الله ورسولِهِ على ما سواهُ، فأنزل الله السكينةَ والطُّمَأْنِينة، والرِّضى فى قلوبهم، وأثابهم على الرِّضى بحُكمه، والصبرِ لأمره فتحاً قريباً، ومغانِمَ كثيرة يأخذونها، وكان أوَّلُ الفتح والمغانم فتحَ خَيْبَرَ، ومغانمها، ثم استمرت الفتوحُ والمغانمُ إلى انقضاء الدهر.
ووعدهم سبحانه مغانِمَ كثيرة يأخذونها، وأخبرهم أنه عجَّل لهم هذه الغنيمة، وفيها قولان. أحدهما: أنه الصلحُ الذى جرى بينهم وبين عدوهم، والثانى: أنها فتحُ خيبر وغنائمُها، ثم قال: {وَكَفَّ أَيْدِىَ

النَّاسِ عَنكُمْ}[الفتح: 20]، فقيل: أيدى أهلِ مكة أن يقاتلوهم، وقيل: أيدى اليهود حين همُّوا بأن يغتالُوا مَنْ بالمدينة بعد خروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من الصحابة منها، وقيل: هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسَد وغطفان. والصحيح تناول الآية للجميع.
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}[الفتح: 20]. قيل: هذه الفعلة التى فعلها بكم، وهى كفُّ أيدى أعدائكم عنكم مع كثرتهم، فإنَّهُم حينئذٍ كان أهل مكة ومَن حولها، وأهلُ خيبر ومَنْ حولها، وأسَدٌ وغَطَفَان، وجمهورُ قبائل العرب أعداء لهم، وهم بينَهم كالشَّامَةِ، فلم يَصِلُوا إليهم بسوء، فمِن آياتِ الله سبحانه كفُّ أيدى أعدائهم عنهم، فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم، وشدةِ عداوتهم، وتولى حراستهم، وحفظهم فى مشهدهم ومغيبِهم.
وقيل: هى فتح خيبر، جعلها آية لعباده المؤمنين، وعلامة على ما بعدها من الفتوح، فإن اللهَ سبحانه وعدهم مغانِم كثيرة، وفتوحاً عظيمة، فعجَّل لهم فتحَ خيبر، وجعلها آية لما بعدها، وجزاءاً لِِصبرهم ورضَاهم يومَ الحديبية وشكراناً، ولهذا خصَّ بها وبغنائمها مَنْ شهد الحديبية. ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيمَاً}[الفتح: 20]، فجمع لهم إلى النصرِ والظَّفَرِ والغنائم الهداية، فجعلهم مهديِّين منصُورين غانمين، ثم وعدهم مغانِمَ كثيرة وفُتوحاً أُخرى، لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها، فقيل: هى مكَّةُ، وقيل: هى فارِس والروم، وقيل: الفتوحُ التى بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها. ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءَه، لولَّى الكفارُ الأدبارَ غيرَ منصورين، وأن هذه
سُنَّته فى عباده قبلَهم، ولا تبديلَ لسُنَّته.

فإن قيل: فقد قاتلُوهم يوم أُحُد، وانتصروا عليهم، ولم يولُّوا الأدبار ؟
قيل: هذا وعد معلَّق بشرطٍ مذكور فى غير هذا الموضع، وهو الصبر والتقوى، وفات هذا الشرط يومَ أُحُد بِفَشَلِهم المنافى للصبر، وتنازعهم، وعصيانهم المنافى للتقوى، فصرفهم عن عدوهم، ولم يحصُل الوعدُ لانتفاء شرطه.
ثم ذكر سبحانه أنه هو الذى كفَّ أيدى بعضِهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم، لما لَه فى ذلك من الحِكم البالغة التى منها: أنه كان فيهم رجالٌ ونساء قد آمنوا، وهم يكتُمون إيمانَهم، لم يعلمْ بهم المسلمون، فلو سلَّطكم عليهم، لأصبتم أُولئك بمعرَّة الجيش، وكان يُصيبكم منهم معرَّةُ العُدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به، وذكر سبحانه حصول المعرَّةِ بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفِّين بهم، لأنها موجبُ المعرَّة الواقعة منهم بهم، وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميَّزوا منهم، لعذَّب أعداءه عذاباً أليماً فى الدنيا، إما بالقتلِ والأسر، وإما بغيره، ولكن دفع عنهم هذا العذَابَ لوجود هؤلاء المؤمنين بَيْنَ أظهرهم، كما كان يدفعُ عنهم عذابَ الاستئصال، ورسولُه بين أظهرهم.
ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفارُ فى قلوبهم مِن حَمِية الجاهليةِ التى مصدرها الجهلُ والظُّلم، التى لأجلها صدُّوا رسولَه وعِبادَه عن بيته، ولم يُقِرُّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يُقِرُّوا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه، وتيقنِهم صحةَ رسالته بالبراهين التى شاهدوها وسمعوا بها فى مدة عشرين سنة، وأضاف هذَا الجَعْلَ إليهم وإن كان بقضائه وقدره، كما يُضاف إليهم سائرُ أفعالهم التى هى بقُدرتهم وإرادتهم.
ثم أخبر سبحانه أنه أنزل فى قلبِ رسوله وأوليائه مِن السكينة ما هو مقابل

لما فى قلوب أعدائه مِن حَمِيَّة الجاهلية، فكانت السكينةُ حظَّ رسوله وحِزبه، وحَميةُ الجاهلية حظَّ المشركين وجندهم، ثم ألزم عِبادَه المؤمنين كلمة التقوى، وهى جِنس يَعُمُّ كُلَّ كلمةٍ يُتقى الله بها، وأعلى نوعِها كلمةُ الإخلاص، وقد فُسِّرَتْ ببسم الله الرحمن الرحيم، وهى الكلمةُ التى أبت قريش أن تلتزِمها، فألزمها اللهُ أولياءَهُ وحزبه، وإنما حَرَمَهَا أعداءَهُ صيانة لها عن غير كفئها، وألزمها مَن هو أحقُّ بهَا وأهلها، فوضعها فى موضعها، ولم يُضيعها بوضعها فى غير أهلها، وهو العليم بمحالِّ تخصيصه ومواضعه.
ثم أخبر سبحانه أنه صدَقَ رسُولَه رؤياه فى دخولهم المسجدَ آمنين، وأنه سيكون ولا بُدَّ، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك فى هذا العامِ، واللهُ سبحانه عَلِمَ مِن مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، فأنتم أحببتُم استعجالَ ذلك، والربُّ تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلمُوه، فقدَّم بين يدى ذلك فتحاً قريباً، توطئة له وتمهيداً.
ثم أخبرهم بأنه هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودينِ الحقِّ لِيُظهره على الدِّين كُلِّه، فقد تكفَّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهلِ الأرض، ففى هذا تقوية لقلوبهم، وبِشارة لهم وتثبيتٌ، وأن يكونوا على ثقة مِن هذا الوعد الذى لا بُدَّ أن ينجزه، فلا تظنُّوا أن ما وقع من الإغماض والقهرِ يومَ الحُديبية نُصرة لعدوه، ولا تخلياً عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحقِّ، ووعده أن يُظهِرَه على كل دِينٍ سواه.
ثم ذكر سبحانه رسولَه وحزبَه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتِهم فى التوراة والإنجيل، فكان فى هذا أعظمُ البراهين على صدق مَن جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون

فى الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم: إنهم متغلِّبون طالبُو ملك ودنيا، ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هَدْيَهم وسيرتَهم، وعدلهم وعلمهم، ورحمَتهم وزهدَهم فى الدنيا، ورغبتهم فى الآخرة، قالوا: ما الذين صَحِبُوا المسيحَ بأفضلَ مِن هؤلاء، وكان هؤلاء النصارى أعرفَ بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم، والرافضةُ تصفِهُم بضد ما وصفهم الله به فى هذه الآية وغيرها،{ومَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}[الكهف: 17].

فصل: فى غزوة خيبر
قال موسى بنُ عقبة: ولما قدِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ مِن الحُديبية، مَكَثَ بها عشرين ليلةً أو قريباً منها، ثم خرج غازياً إلى خيبر، وكان اللهُ عزَّ وجلَّ وعده إياها، وهو بالحُديبية.
وقال مالك: كان فتحُ خيبرَ فى السنة السادسة، والجمهور: على أنها فى السابعة. وقطع أبو محمد بنُ حزم: بأنها كانت فى السادسةِ بلا شك، ولعل الخلافَ مبنىٌ على أوَّلِ التاريخ، هل هو شهر ربيع الأول شهرُ مَقدَمِه المدينة، أو مِن المحرَّم فى أوَّل السنة ؟ وللناس فى هذا طريقانِ: فالجمهورُ على أن التاريخَ وقع مِن المحرَّم، وأبو محمد بن حزم: يرى أنه مِن شهر ربيع الأول حين قَدِمَ، وكان أوَّلَ مَن أرَّخ بالهجرة يَعلى بن أُمية باليمن، كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وقيل:

عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، سنةَ ست عشرة مِن الهجرة.
وقال ابنُ إسحاق: حدثنى الزُّهرى، عن عُروة، عن مروانَ بن الحكم، والمِسور بنِ مَخْرَمَة، أنهما حدَّثاه جميعاً، قالا: انصرفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الحُديبية، فنزلت عليه سورةُ الفتح فيما بينَ مكة والمدينة، فأعطاه اللهُ عزَّ وجلَّ فيها خيبرَ: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تأخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}[الفتح: 20]: خيبر، فقدِم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ فى ذى الحجة، فأقام بها حتى سار إلى خيبر فى المحرَّم، فنزلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرَّجيعِ: وادٍ بين خيبرَ وغَطَفَان، فتخوَّف أن تمدهم غَطَفَانُ، فبات به حتَّى أصبح، فغدا إليهم... انتهى.واستخلف على المدينة سِباعَ بنَ عُرْفُطَةَ، وقَدِمَ أبو هريرة حينئذ المدينة، فوافى سِباعَ بنَ عُرفُطة فى صلاة الصُّبح، فسمِعه يقرأ فى الركعة الأولى : {كهيعص}[مريم: 1] ، وفى الثانية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين: 1]، فقال فى نفسه: ويل لأبى فلان، له مِكيالان، إذا اكتال اكتالَ بالوافى، وإذا كال كال بالناقِص، فلما فرغ من صلاته، أتى سباعاً، فزوَّده حتى قَدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلَّم المسلمينَ، فأشْركُوه وأصحابه فى سُهمانهم.
وقال سلمةُ بنُ الأكوع: "خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر، فسِرْنا ليلاً، فقال رجلٌ مِن القَومِ لعامر بنِ الأكوع: ألا تُسمِعُنَا مِن هُنَيْهَاتِك، وكان عامر رجلاً شاعراً ؟ فنزل يحدُو بالقوم يقول:
اللًَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا

فاغْفِر فِدَاءً لَكَ ما اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينةً عَلَيْنا ... إنَّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
وبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا ... وإنْ أرَادُوا فتْنَةً أَبَيْنا
فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَذَا السّائِقُ" ؟ قالوا: عامر. فقال: "رَحِمَهُ اللهُ"، فقال رجلٌ مِن القوم: وجبت يا رسولَ اللهِ لولا أمتعتَنَا به. قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصةٌ شديدة، ثم إنَّ الله تعالى فتح عليهم، فلما أَمْسَوْا، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذِهِ النِّيرانُ، عَلَى أَىِّ شَىءٍ تُوقِدُونَ" ؟ قالوا: على لحم. قال: "عَلَى أَىِّ لَحْمٍ" ؟ قالوا: على لحم حُمُر أنسية. فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أهْريقُوها واكْسِرُوها"، فقال رجل: يا رسول الله؛ أو نُهْرِيقُها ونغسِلُها ؟ فقال: "أو ذَاكَ"، فلما تصافّ القومُ، خرج مَرْحَب يخطُر بسيفه وهو يقول:
قَد عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنى مَرْحَبُ ... شَاكى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فنزل إليه عامر وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّى عَامِرُ ... شاكِى السِّلاح بَطَلٌ مُغامِرُ
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب فى ترس عامر، فذهب عامر يَسْفُلُ له، وكان سيفُ عامر فيه قِصر، فرجع عليه ذُباب سيفه، فأصابَ عينَ ركبته، فمات منه، فقال سلمة للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زعمُوا أن عامراً حَبِطَ عملُه، فقال: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ وجمع بين أصبعيه إنه

لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عربىٌ مشى بها مِثْلَه".
فصل
ولما قَدمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، صلَّى بها الصُّبحَ، وركب المسلمون، فخرج أهلُ خيبر بمساحِيهم ومكاتِلهم، ولا يَشْعُرونَ، بل خرجُوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش، قالوا: محمَّدٌ واللهِ، محمَّدٌ والخميسُ، ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِين".
ولما دنا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشرف عليها، قال: "قفوا" فوقف الجيشُ، فقال: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمواتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، ورَبَّ الأَرَضينَ السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، وربَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضْلَلْنَ، فإنَّا نَسْألُكَ خَيْرَ هذِهِ القرْيَةِ

وخَيْرَ أَهْلِها وَخَيْرَ مَا فِيهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ القَرْيَةِ وشَرِّ أَهْلِهَا وشَرِّ مَا فيها، أقْدِمُوا بِسْم اللهِ".
ولما كانت ليلة الدخول، قال: "لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ" ، فبات الناسُ يدوكون أيهُّم يُعطاها، فلما أصبح الناسُ، غَدَوْا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهم يَرْجُو أن يُعطاها، فقال: "أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أبى طَالب" ؟ فقالُوا: يا رسُولَ الله؛ هو يَشتكى عينيه. قال: "فأرْسِلُوا إلَيْهِ"، فأُتى به، فبصق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عينيه، ودعا لهُ، فَبَرَأ حتَّى كأنْ لم يَكُنْ به وَجَعٌ، فأعطاهُ الرايَةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ أُقاتِلهم حتى يكُونوا مثلنا ؟ قال: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، وأَخْبِرْهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فيهِ، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ".

فخرج مَرْحَبٌ وهو يقول:
أنَا الَّذى سَمَّتْنى أُمِّى مَرْحَبُ ... شَاكِى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فبرز إليه علىٌ وهو يقول:
أَنَا الَّذِى سَمَّتْنى أُمِّى حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ
أوفيهمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
فضرب مَرْحَباً، ففلَق هامتَه، وكان الفتح.
ولما دنا علىُّ رضىَ الله عنه من حُصونهم، اطلع يهودىٌ مِن رأس الحصن، فقال: مَنْ أنت ؟ فقال: أنا علىُّ بنُ أبى طالب. فقال اليهودى: علوتُم وما أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
هكذا فى "صحيح مسلم": أن علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الذى قتل مَرْحَبَا.
وقال موسى بن عُقبة، عن الزهرى وأبى الأسود، عن عروة ويونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدَّثنى عبد الله بن سهل أحد بنى حارثة عن جابر بن عبد الله، أن محمَّد بن مسلمة هو الذى قتله، قال جابر فى حديثه: خرج مَرْحبُ اليهودىُّ مِن حصن خيبر قد جمع سِلاحه، وهو يرتجزُ ويقول: مَن يُبارِزُ ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِهذَا" ؟ فقال

محمَّدُ بنُ مسلمة: أنا له يا رسولَ الله، أنا واللهِ المَوْتُورُ الثائرُ، قتلوا أخى بالأمسِ، يعنى محمودَ بن مسلمة، وكان قُتِل بخيبر، فقال: "قُمْ إلَيْهِ، اللهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ"، فلما دنا أحدُهما مِن صاحبه، دخلَتْ بينهما شجرةٌ، فجعل كُلُّ واحد منهما يلوذُ بها من صاحبه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كُلُّ واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجُل القائم، ما فيها فَنَن، ثُمَّ حملَ على محمد فضربه، فاتقاه بالدَّرقة، فوقع سيفُه فيها، فعضَّتْ به، فَأَمْسَكَتْهُ، وضربه محمَّدُ بن مسلمة فقتله، وكذلك قال سلمة بن سلاَّمة، ومجمع بن حارثة: إن محمد بن مسلمة قتل مرحباَ.
قال الواقدى: وقيل: إن محمَّد بن مسلمة ضرب ساقى مَرْحب فقطعهما، فقال مرحب: أَجْهِز علىَّ يا محمد. فقال محمد: ذُقِ الموت كما ذاقه أخى محمود، وجاوزه، ومرَّ به علىُّ رضى الله عنه، فضرب عُنقه، وأخذ سلَبه، فاختصما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَلَبِهِ، فقال محمَّدُ بن مسلمة: يا رسولَ الله؛ ما قطعتُ رجليه ثم تركتُه إلا لِيذوقَ الموتَ، وكنت قادراً أن أُجْهِزَ عليه. فقال علىُّ رضى الله عنه: صَدَقَ، ضربتُ عنقه بعد أن قطع رجليه، فأعطى رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محمَّد بن مسلمة سيفَه ورمحه، ومِغفره وبَيْضَته، وكان عند آلِ محمد بن مسلمة سيفُه فيه كتاب لا يُدرى ما فيه، حتى قرأه يهودى، فإذا فيه:
هذَا سَيْفُ مَرْحَبْ ... مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ
ثم خرج[ بعد مرحب أخوه ] ياسر، فبرز إليه الزبير، فقالت صفيَّةُ

أُمه: يا رسولَ اللهِ؛ يقتلُ ابنى ؟ قال: "بَلْ ابنُكِ يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ الله"، فقتله الزبير.
قال موسى بن عقبة: ثم دخل اليهودُ حِصناً لهم منيعاً يقال له: القَمُوص، فحاصرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريباً مِن عشرينَ ليلة، وكانت أرضاً وَخْمَةً شَدِيدَةَ الحرِّ، فجُهِدَ المسلمون جَهْدَاً شديداً، فذبحوا الحُمُرَ فنهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكلها، وجاء عبدٌ أسود حبشى من أهل خيبر، كان فى غنم لسيده، فلما رأى أهلَ خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما تُريدون ؟ قالوا: نُقاتل هذا الذى يزعم أنه نبىٌ، فوقع فى نفسه ذكر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال: "أَدْعُو إلى الإسْلام، وأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إلهَ إلا الله، وأنِّى رَسُولُ الله، وأَنْ لا تَعْبُدَ إلا الله". قال العبدُ: فمالى إن شهدتُ وآمنتُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ ؟ قال: "لَكَ الجَنَّةُ إنْ مِتَّ على ذلكَ"، فأسلم، ثم قال: يا نبىَّ اللهِ؛ إن هذه الغنم عندى أمانة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أخْرِجْها مِنْ عِنْدِكَ وارْمِها بالحَصْباءِ، فإنَّ اللهَ سَيُؤَدِّى عَنْكَ أَمَانَتَكَ"، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيِّدها، فعلم اليهودى أن غلامه قد أسلم، فقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، فوَعَظهم، وحضَّهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهودُ، قُتِلَ فيمن قُتِلَ العبدُ الأسود، فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم، فأُدخل فى الفُسْطَاطِ، فزعموا أن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطلع فى الفُسطاط، ثم أقبل على أصحابه وقال: "لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ هذا العَبْدَ، وسَاقَهُ إلى خَيْرٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الحُور العين، وَلَمْ يُصَلِّ للهِ سَجْدَةً قَطُّ".
قال حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ؛ إنى رجل أسودُ اللَّون، قبيحُ الوجه، مُنْتِنُ الرِّيح،

لا مالَ لى، فإن قاتلتُ هؤلاء حتى أُقْتَلَ، أأدخلُ الجنَّة ؟ قال: "نعم"، فتقدَّم، فقاتلَ حتَّى قُتِلَ، فأتى عليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقتول، فقال: "لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحَكَ، وَكَثَّرَ مَالَكَ"، ثم قال: "لَقَدْ رَأَيْتُ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الحُورِ العينِ يَنْزِعَان جُبَّتَهُ عَنْهُ، يدْخُلانِ فِيما بَيْنَ جِلْدِهِ وجُبَّته".
وقال شدَّادُ بنُ الهاد: جاء رجل من الأعرابِ إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمنَ به واتَّبعه، فقَالَ: أُهاجِرُ معكَ، فأوصى به بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوةُ خيبر، غَنِمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، فقسمه، وقسم للأعرابى، فأعطى أصحابه ما قسمه له، وكان يَرعى ظهرَهم، فلما جاء، دفعُوهُ إليه، فقال: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذهُ، فجاء به إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما هَذَا يا رسول اللهِ ؟ قال: "قَسْمٌ قَسَمْتُهُ لَكَ"، قال: ما على هذا اتبعتُك، ولكن اتبعتُك على أن أُرمى هاهنا وأشار إلى حَلْقِه بسهم، فأموتَ فأدخل الجنَّة، فقال: "إنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ"، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتِى به إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مقتول، فقال: "أهو هو" ؟ قالوا: نعم. قال: "صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ"، فكفَّنه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جبته، ثم قدَّمه، فصلَّى عليه، وكان مِن دعائه له: "اللهُمَّ هذا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهاجِراً فى سَبِيلِكَ، قُتِلَ شَهِيداً، وأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ".
قال الواقدى: وتحوَّلت اليهود إلى قلعة الزبير: حصنٍ منيع فى رأس قُلّةٍ، فأقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثةَ أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له "عزال" فقال: يا أبا القاسم؛ إنك لو أقمتَ شهراً ما بَالوا، إن لهم شراباً وعُيوناً،

تحتَ الأرض، يخرجُون بالليل، فيشربُون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعُون منك، فإن قطعْت مشربَهم عليهم أصحَرُوا لك، فسار رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مائهم، فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم،خرجوا، فقاتلُوا أشد القتال، وقُتِلَ مِن المسلمين نَفَرٌ، وأُصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تحوَّل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل الكُتَيْبَةِ والوَطِيح والسُّلالِم حصنِ ابن أبى الحُقيق، فتحصَّن أهلُه أشد التحصن، وجاءهم كُل فَلٍّ كان انهزم مِن النَّطاة والشَّق، فإن خيبر كانت جانبين: الأول:الشَّق والنَّطاة، وهو الذى افتتحه أولاً، والجانب الثانى: الكُتيبة والوطيح والسُّلالم، فجعلوا لا يخرجُون مِن حُصونهم حتى همَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينصبَ عليهم المَنجنيق، فلما أيقنُوا بالهَلَكَةِ، وقد حصرهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعةَ عشر يوماً، سألُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ، وأرسل ابنُ أبى الحُقيق إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنْزِلُ فَأُكَلِّمك ؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، فنزل ابنُ أبى الحُقيق، فصالَحَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حقن دِماء مَنْ فى حُصونهم من المقاتلة وتركِ الذُّرِّيَّة لهم، ويخرجُون من خيبر وأرضِها بذراريهم، ويُخلُّون بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينَ ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء، والكُراع والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَبَرِئَتْ مِنْكُم ذَِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمونى شَيْئاً" ، فصالحوه على ذلك.
قال حمَّادُ بن سلمة: أنبأنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلبَ على الزرعِ والنخل والأرض، فصالحُوه على أن يُجلوا منها، ولهم ما حملت ركابُهم ولِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفراءُ والبيضاءُ، واشترط عليهم

أن لا يكتموا ولا يُغَيِّبُوا شيئاً، فإن فعلُوا فلا ذِمَّةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكاً فيه مال وحُلى لحُيَىّ بن أَخْطَب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعم حُيى ابن أخطب: "ما فَعَلَ مَسْكُ حُيَىّ الذى جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِير" ؟. قال: أذهبته النفقاتُ والحروب، فقال: "العَهْدُ قَريبٌ، والمَالُ أكْثَرُ مِنْ ذلِكَ"، فدفعه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الزُّبير، فمسَّه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال: "قَدْ رأيْتُ حُيَيّاً، يَطُوفُ فى خربة هاهنا"، فذهبوا، فطافوا، فوجدوا المَسْكَ فى الخربة، فقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنى أبى الحُقيق، وأحدُهما زوج صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، وسبى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءهم وذراريهم، وقسم أموالَهم بالنَّكْثِ الذى نَكَثُوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد؛ دعنا نكُون فى هذه الأرض نُصلِحُها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغُون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطرَ مِن كل زَرعٍ وكل ثمرٍ ما بدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرهم. وكان عبد الله بن رواحة يخرصُه عليهم كما تقدم. ولم يقتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الصلح إلا ابنى أبى الحُقيق للنكث الذى نكثوا، فإنهم شرطوا إن غيَّبوا، أو كتموا، فقد برئت منهم ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، فغيَّبوا، فقال لهم: "أين المال الذى خرجتم به من المدينة حين أجليناكم" ؟ قالوا:ذهب فحلفوا على ذلك، فاعترف ابن عم كنانه عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الزبير يعذبه، فدفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنانه إلى محمد بن مسلمة فقتله

ويقال: إن كنانه هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمه.
وسبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيه بنت حيي بن أخطب وابتة عمتها، وكانت صفية تحت كنانه لن أبى الحقيق، وكانت عروساً حديثة عهد بالدخول، فأمر بلالاً أن يذهب بها إلى رحله، فمر بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أذهبت الرحمة منك يا بلال.
وعرض عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام، فأسلمت، فاصطفاها لنفسه، وأعتقها، وجعل عِتْقَهَا صَدَاقها، وبنى بها فى الطريق، وأولم عليها، ورأى بوجهها خُضرةً، فقال: "ما هذا" ؟ قالت: يا رسولَ اللهِ؛ رأيتُ قبل قدومك علينا، كأن القَمرَ زال من مكانه، فسقط فى حَجرى، ولا واللهِ ما أذكرُ مِن شأنك شيئاً، فقصصتها على زوجى، فلطم وجهى، وقال: تمنين هذَا المَلِكَ الذى بالمدينة.
وشك الصحابة: هل اتخذها سُرِّيَّة أو زوجة ؟ فقالوا: انظروا إن حجبها، فهى إحدى نِسائه، وإلا فهى مما ملكتْ يمينُه، فلما رَكِب، جعل ثَوبه الذى ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شدَّ طرفه تحته، فتأخَّرُوا عنه فى المسير، وعَلِمُوا أنها إحدى نسائه، ولما قدم لِيحملها على الرَحْل أجلَّته أن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت.

ولما بنى بها، بات أبو أيوب ليلَته قائماً قريباً من قُبته، آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما رأى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كبَّرَ أبو أيوب حين رآه قد خرج، فسأله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مالك يا أبا أيوب" ؟ فقال له: أَرِقْتُ ليلتى هذِهِ يا رسولَ اللهِ لما دخلتَ بهذه المرأة، ذكرتُ أنك قتلتَ أباها وأخاها، وزوجَها وعامةَ عشيرتها، فخِفْتُ أن تغتالك. فضحِكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له معروفاً.
فصل
وقسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبرَ على ستة وثلاثين سهماً، جمع كُلُّ سهم مائةَ سهمٍ، فكانت ثلاثةَ آلافٍ وستَّمائة سَهْمٍ، فكان لِرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهمٌ كسهمِ أحدِ المسلمين، وعَزَلَ النِّصفَ الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهمٍ لنوائبه وما ينزلُ به من أُمور المسلمين، قال البيهقى: وهذا لأن خيبر فُتحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً، وشطرُها صُلحاً، فقسم ما فتح عَنوةً بين أهلِ الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحاً لِنوائبه وما يحتاجُ إليه من أُمور المسلمين.
قلت: وهذا بناء منه على أصل الشافعى رحمه الله، أنه يجب قسم الأرض المفتتحةِ عَنوة كما تُقسم سائرُ المغانم، فلما لم يجده قسم النصفَ مِن خيبر، قال: إنه فُتِح صلحاً. ومَن تأمّل السيرَ والمغازىَ حقَّ التأمل،

تبيَّن له أن خيبر إنما فُتحت عَنوة، وأن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استولى على أرضها كُلِّهَا بالسيفِ عَنوة، ولو فُتِح شئ منها صُلحاً، لَم يُجلهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها، فإنه لما عزم على إخراجهم منها، قالوا: نحن أعلمُ بالأرض منكم، دعونا نكون فيها، ونعمرها لكم بشرط ما يخرج منها، وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة، وقد حصل بين اليهود والمسلمين بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم، ولكن لما أُلجئُوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه، أن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفراء والبيضاء، والحَلْقَةَ والسلاح، ولهم رقابهم وذريتهم، ويجلوا من الأرض، فهذا كان الصلح، ولم يقع بينهم صلح أن شيئاً من أرض خيبر لليهود، ولا جرى ذلك البتة، ولو كان كذلك، لم يقل: نقركم ما شئنا، فكيف يقرهم في أرضهم ما شاء؟ ولم كان عمر أجلاهم كُلَّهم مِن الأرضِ، ولم يُصالحهم أيضاً على أن الأرضَ للمسلمين، وعليها خراجٌ يؤخذ منهم، هذا لم يقع، فإنه لم يضرب على خيبر خراجاً البتة.
فالصوابُ الذى لا شكَّ فيه: أنها فُتِحت عَنوة، والإمام مُخيَّر فى أرض العَنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْمِ بعضها ووقفِ البعض، وقد فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنواع الثلاثة، فقسم قُريظة والنضير، ولم يَقْسِمْ مكة، وقسم شَطْرَ خيبر، وترك شطرها، وقد تقدَّم تقريرُ كون مكة فُتِحت عَنوة بما لا مدفع له.
وإنما قُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طُعمة مِن الله لأهل الحُديبية مَن شهد منهم، ومَن غاب، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمانِ، فَقُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، ولم يغب عن خيبرمن أهل الحُديبية إلا جابر بن عبد الله، فقسم له رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسهم مَنْ حضرها.
وقسم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً، وكانوا ألفاً وأربعمائة وفيهم مائتا فارس، هذا هو الصحيحُ الذى لا ريبَ فيه.
وروى عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أعطى الفارس سهمين والراجلَ سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمين، وللراجل سهماً، فقال: للفارس، وليس يَشُكُّ أحد مِن أهل العلم فى تقدُّم عُبيد الله بن عمر على أخيه فى الحفظ، وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق الأزرق الواسطى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب للفرس بسهمين، وللفارس بسهم.
ثم روى من حديث أبى معاوية، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو فى "الصحيحين"، وكذلك رواه الثورى، وأبو أسامة عن عُبيد الله.
قال الشافعى رحمه الله: وروى مجمع بن جارية أن النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم

سهام خيبر على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارسَ سهمين، والراجل سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: ومجمع بن يعقوب يعنى راوى هذا الحديث عن أبيه، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يُعرف فأخذنا فى ذلك بحديث عُبيد الله، ولم نر له مثله خبراً يُعارضه، ولا يجوز ردُّ خبر إلا بخبر مثله.
قال البيهقى: والذى رواه مجمع بن يعقوب بإسناده فى عدد الجيش وعدد الفرسان، قد خُولِفَ فيه، ففى رواية جابر، وأهل المغازى: أنّهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وهم أهلُ الحُديبية، وفى رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبشير بن يسار، وأهلِ المغازى: أن الخيل كانت مائتى فرس، وكان لِلفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم.
وقال أبو داود: حديثُ أبى معاوية أصحُّ، والعملُ عليه، وأرى الوهم فى حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتى فارس.
وقد روى أبو داود أيضاً من حديث أبى عمرة، عن أبيه، قال: "أتينا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة نَفَرٍ، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين". وهذا الحديث فى إسناده عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو المسعودى، وفيه ضعف. وقد رُوى الحديثُ عنه على وجهٍ آخر، فقال: أتينا رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة نَفَرٍ،

معَنَا فرس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، ذكره أبو داود أيضاً.
فصل
وفى هذه الغزوة، قدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عمه جعفرُ ابنُ أبى طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون: عبدُ الله بنُ قيس أبو موسى، وأصحابُه، وكان فيمن قَدِمَ معهم أسماءٍ بنت عميس.
قال أبو موسى: بلغنا مَخْرَجُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن باليمن، فخرجنا مُهاجرين أنا وأخوانِ لى:أنا أصغرُهما، أحدهُما أبو رُهْم، والآخر أبو بُردة، فى بِضع وخمسين رجلاً من قومى، فركبنا سفينةً، فألقتنا سفينتُنا إلى النجاشىِّ بالحبشة، فوافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أبى طالب وأصحابَه عنده، فقال جعفر: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثنا، وأَمَرَنَا بالإقامة، فأقيمُوا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فَوَافَقْنَا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ افتَتَحَ خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحدٍ غابَ عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا لأصحابِ سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم، وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهِجرة، قال: ودَخَلَتْ أسماءُ بِنتُ عميس على حفصة، فدخل عليها عمر، فقال: مَنْ هذِهِ ؟ قالت: أسماءُ. فقال عُمَرُ: سبقناكم بالهجرة، نحن أحقُّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنكم، فَغَضِبَتْ، وقالت: يا عُمَرُ؛ كلا واللهِ، لقد كنتم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُطعِمُ جائعكم، ويَعِظُ جاهِلَكُم، وكنا فى أرض البُعداء البُغضاء، وذلك فى اللهِ، وفى رسوله، وايمُ اللهِ، لا أطعَمُ طَعَاماً، ولا أشربُ شراباً حتى أذكر ما قلتَ لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن كنا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله لا أكذب ولا أزيغ

ولا أزيدُ على ذلك، فلما جاء النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا رسول الله؛ إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما قلتِ له" ؟ قالت: قلت له كذا وكذا. فقال: "لَيْسَ بِأَحَقَّ بى مِنْكُم، ولَهُ ولأَصْحابه هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، ولَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَان" ، وكان أبو موسى وأصحابُ السفينة يأتون أسماء أرسالاً يسألونها عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شىء، هم به أفرحُ ولا أعظمُ فى أنفسهم مما قال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ولما قَدِمَ جعفرٌ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلقاه وقبَّل جبهته، وقال: "واللهِ ما أدرى بأَيِّهما أفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَر أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَر" ؟.
وأما ما رُوى فى هذه القِصة، أن جعفراً لما نظر إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حجَل يَعنى: مشى على رِجل واحدةٍ إعظاماً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعله أشباهُ الدِّباب الرَّقَّاصُون أصلاً لهم فى الرقص، فقال البيهقى وقد رواه مِن طريق الثورى عن أبى الزبير، عن جابر: وفى إسناده إلى الثورى مَن لا يُعرف.
قلت: ولو صح، لم يكن فى هذا حُجة على جواز التشبُّه بالدّباب، والتكسر والتخَنُّث فى المشى المنافى لهَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيماً لِكبرائها، كضرب الجُوك عند الترك ونحو ذلك، فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة، ثم تركها لِسُّنَّة الإسلام،

فأين هذا من القفز والتكسر، والتثنى والتخنُّث.. وبالله التوفيق.
قال موسى بن عقبة: كانت بنو فَزارة ممن قدم على أهلِ خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يُعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبَوْا عليه، فلما فتح اللهُ عليه خيبَر، أتاهُ مَن كان ثَمَّ من بنى فزارة، فقالوا: وعدك الذى وعدتنا، فقال: "لكم ذو الرُّقيبة جبل من جبال خيبر" فقالوا: إذاً نُقاتلك. فقال: "مَوْعِدُكم كذا"، فلما سَمِعُوا ذلك مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجوا هاربين.
وقال الواقدى: قال أبو شُييم المزنى وكان قد أسلم فحسن إسلامه: لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن، رجع بنا عُيينة، فلما كان دون خيبر، عرَّسنا من اللَّيل، ففزِعنا، فقال عُيينة: أبشروا، إنى أرى الليلة فى النوم أننى أُعطيت ذا الرُّقيبة جبلاً بخيبر قد واللهِ أخذتُ برقبة محمد، فلما قدمنا خيبر، قدم عُيينة، فوجد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فتح خيبر. فقال: يا محمد؛ أعطنى ما غنمتَ من حُلفائى، فإنى انصرفتُ عنك، وقد فرغنا لك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتَ ولكِنَّ الصِّيَاحَ الَّذِى سَمِعْتَ نَفَّرَكَ إلى أهْلِكَ" . قال: أجزنى يا محمد ؟ قال: "لك ذو الرقيبة". قال: وما ذو الرقيبة ؟
قال: "الجبلُ الذى رأيتَ فى النوم أنك أخذته". فانصرف عُيينة، فلما رجع إلى أهله، جاءه الحارث بن عوف، فقال: ألم أقل لك: إنك تُوضِع فى غير شىء، واللهِ لَيَظْهَرَنَّ محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يُخبروننا بهذا، أشَهد لسمِعْتُ أبا رافع سلام بن أبى الحُقيق يقول: إنَّا نحسُد محمداً على النبوة حيث خرجت من بنى هارون، وهو نبى مرسل، ويهود لا تُطاوعنى على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر، قال الحارث: قلت لسلام: يملِكُ الأرض جميعاً ؟ قال: نعم والتوراةِ

التى أنزلت على موسى، وما أُحِبُّ أن تعلم يهودَ بقولى فيه.
فصل
وفى هذه الغزاةِ، سُمَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهدت له زينبُ بنتُ الحارث اليهوديةُ امرأةُ سلام بن مِشْكَم شاةً مشويَّةً قد سمَّتها، وسألت: أىُّ اللَّحم أحبُّ إليه ؟ فقالوا: الذِّراعُ، فأكثرت من السُّمِّ فى الذراع، فلما انتهش من ذِراعها، أخبره الذِّراعُ بأنه مسموم، فلفظ الأكلة، ثم قال: "اجْمَعُوا لى مَنْ هاهنا من اليَهُودِ" ، فجُمِعوا له، فقالَ لهم: "إنِّى سَائِلُكُم عَن شَىءٍ، فَهَلْ أنتمْ صَادِقِىَّ فيه" ؟ قالوا: نَعَمْ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَبُوكُم" ؟ قالوا: أبونا فلان. قال : "كَذَبْتُمْ، أبُوكُم فُلان". قالوا: صدقتَ وبَررْتَ، قال: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقىَّ عَنْ شىءٍ إنْ سَأَلْتُكُم عَنْهُ" ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذَبْنَاكَ، عرفتَ كذبنا كما عرفتَه فى أبينا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَهْلُ النَّار" ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تَخْلُفُوننا فيها. فقال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْسَؤوا فيها، فَواللهِ لاَ نَخْلُفُكُم فيها أَبَدَاً"، ثم قال: "هَلْ أَنْتُم صَادِقِىَّ عَن شَىءٍ إن سأَلْتُكُم عَنْهُ" ؟ قالوا: نعم. قال: "أجَعَلْتُمْ فى هذِهِ الشَّاةِ سُمّاً" ؟ قالوا: نعم. قال: "فَمَا حَمَلَكُم على ذلكَ" ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذِباً نستريحُ منك، وإن كنت نبيَّاً لم يضرَّك".

وجئ بالمرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: أردتُ قتلَكَ. فقال : "ما كان اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَىَّ "، قالوا: ألا نقتُلها ؟ قال: "لا"، وَلم يتعرض لها، ولم يُعاقبها، واحتجم على الكاهِلِ، وأمرَ مَن أكل منها فاحتجم، فمات بعضُهم، واختُلِف فى قتل المرأة، فقال الزهرى: أسلمت فتركها، ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ثم قال معمر: والناسُ تقول: قتلها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْلِيَّةً.... وذكر القصة، وقال: فمات بشرُ بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية: "ما حملكِ على الذى صنعتِ" ؟ قال جابر: فأمر بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ.
قلت: كلاهما مرسل، ورواه حمَّاد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة متصلاً: "أنه قتلها لما مات بشر بن البراء".
وقد وُفِّقَ بين الروايتين، بأنه لم يقتُلْها أولاً، فلما مات بشر، قتلها.
وقد اختُلِف: هل أكل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها أو لم يأكل ؟ وأكثرُ الروايات، أنه أكل منها، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى قال فى وجعه الذى مات فيه: "مَا زِلْتُ أَجِدُ مِن الأُكْلَةِ الَّتى أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَر،

فهذَا أوانُ انْقِطَاع الأبْهَرِ منِّى".
قال الزهرى: فتوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً.
قال موسى بن عقبة وغيره: وكان بينَ قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبرَ تَرَاهُنٌ عظيم، وتبايع، فمنهم مَن يقول: يظهر محمدٌ وأصحابُه، ومنهم يقول: يظهر الحليفان ويهودُ خيبر، وكان الحجَّاج بن عِلاط السُّلمى قد أسلم وشَهِدَ فتح خيبر، وكانت تحتَهُ أُمُّ شيبة أختُ بنى عبد الدار بن قُصَىّ، وكان الحجاجُ مُكثِرَاً مِن المال، كانت له معادِن بأرضِ بنى سُليم، فلما ظهر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خيبر، قال الحجاج بن عِلاط: إن لى ذهباً عِند امرأتى، وإن تعلم هى وأهلُها بإسلامى، فلا مال لى، فَأْذَنْ لى، فلأسرع السَّيرَ وأسْبقِ الخبر، ولأخبِرَنَّ أخباراً إذا قدمت أدرأُ بها عن مالى ونفسى، فأَذِنَ له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلما قَدِمَ مكة، قال لامرأته: أخفى علىَّ واجمعى ما كان لى عندكِ مِن مال، فإنى أريد أن أشترىَ مِن غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استُبيحُوا، وأُصيبت أموالُهم، وإن محمدَاً قد أُسِرَ، وتفرَّق عنه أصحابُه، وإن اليهودَ قد أقسموا: لَتَبْعَثَنَّ به إلى مكة ثم لتقتُلَنَّه بقتلاهم بالمدينة، وفشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين، وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرحَ والسرورَ، فبلغ العباسَ عمَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَلَةُ النَّاس وجَلَبَتُهم، وإظهارُهم السُّرور، فأراد أن يقوم ويخرج، فانخزل ظهرُه، فلم يقدر على القيام، فدعا ابناً له يقال له:

"قُثَمُ". وكان يُشبه رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل العباس يرتَجِزُ، ويرفع صوته لئلا يشمتَ به أعداءُ الله:
حِبِّى قُثَمْ حِبِّى قُثم ... شَبيهُ ذِى الأَنْفِ الأَشمْ
نَبِىُّ ربِّى ذى النِّعَمْ ... برَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغمْ
وحشر إلى باب داره رجالٌ كثيرون من المسلمين والمشركين، منهم المظهِرُ للفرح والسرور، ومنهم الشامِتُ المغرى، ومنهم مَنْ به مثلُ الموت من الحُزْن والبلاء، فلما سمع المسلمون رجزَ العباس وتجلُّدَه، طابت نفوسُهم، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم، ثم أرسلَ العباسُ غلاماً له إلى الحجاج، وقال له: اخلُ به، وقل له: ويلَك ما جئتَ به، وما تقول، فالذى وعَد الله خيرٌ مما جئتَ به ؟ فلما كلَّمه الغلامُ قال له: اقرأ على أبى الفضل السلام، وقل له: فَلْيَخْلُ بى فى بعض بيوته حتى آتيَه، فإن الخبرَ على ما يَسُرُّه، فلما بلغ العبدُ باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباسُ فرحاً كأنه لم يُصبه بلاءٌ قطُّ، حتى جاءه وقبَّل ما بين عينيه، فأخبره بقول الحجاج، فأعتقه، ثم قال: أخبرنى. قال: يقولُ لك الحجاج: أُخْلُ بِهِ فى بعض بيوتِك حتى يأتيكَ ظهراً، فلما جاءه الحجاج، وخلا به، أخذ عليه لتكتمَنَّ خبرى، فوافقه عباس على ذلك، فقال له الحجاج: جئتُ وقد افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وغنم أموالهم، وجرت فيها سهامُ الله، وإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اصطفى صفيَّةَ بِنت حُيَىّ لنفسه، وأعرسَ بها، ولكن جئتُ لمالى، أردت أن أجمعه وأذهب به، وإنى استأذنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أقول، فَأَذِنَ لى أن أقول ما شئت، فأخْفِ علىَّ ثلاثاً، ثم اذكرْ ما شئت. قال: فجمعت له امرأتُه متاعه، ثم انشمر راجعاً، فلما كان بعدَ ثلاث، أتى العباسُ امرأة الحجاج،

فقال: ما فعل زوجُكِ ؟ قالت: ذهب، وقالت: لاَ يَحْزُنْك اللهُ يا أبا الفضل، لقد شقَّ علينا الذى بلغك. فقال: أجل، لا يَحْزُنُنى الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أُحِبُّ، فتح اللهُ على رسوله خيبرَ، وجرت فيها سهامُ الله، واصطفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيَّة لنفسه، فإن كان لكِ فى زوجك حاجة، فالحقى به. قالت: أظنُّك واللهِ صادقاً. قال: فإنى واللهِ صادق، والأمرُ على ما أقول لك. قالت: فمن أخبرك بهذا ؟ قال: الذى أخبركِ بما أخبركِ، ثم ذهب حتَّى أتى مجالسَ قريش، فلما رأوه، قالوا: هذا واللهِ التجلُّدُ با أبا الفضل، ولا يصيبُك إلا خير. قال: أجل لم يُصبنى إلا خيرٌ، والحمد لله، أخبرنى الحجَّاج بكذا وكذا، وقد سألنى أن أكتُمَ عليه ثلاثاً لحاجة، فردَّ الله ما كان للمسلمين مِن كآبة وجَزَع على المشركين، وخرج المسلمون مِن مواضعهم حتى دخلوا على العباس، فأخبرهم الخبرَ، فأشرقت وجوهُ المسلمين.
فصل: فيما كان فى غزوة خَيْبَر من الأحكام الفقهية
فمنها محاربةُ الكفار ومقاتلتُهم فى الأشهر الحُرُم، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع مِن الحُديبية فى ذى الحِجَّة، فمكث بها أيَّاماً، ثم سار إلى خَيْبَرَ فى المحرَّم، كذلك قال الزُّهرىُّ عن عُروة، عن مروان والمِسور بن مخرمة، وكذلك قال الواقدى: خرج فى أول سنة سبع من الهِجرة، ولكن فى الاستدلال بذلك نظر، فإن خُروجَه كان فى أواخر المحرَّم

لا فى أوله، وفتحُها إنما كان فى صَفَر، وأقوى من هذا الاستدلال بيعةُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَه عند الشجرة بَيْعةَ الرضوان على القتال، وألا يَفِرُّوا، وكانت فى ذى القَعْدَة، ولكن لا دليلَ فى ذلك، لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يُريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف فى جواز القتال فى الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يُقاتل فيه ابتداءً، فالجمهور: جوَّزوه، وقالوا: تحريمُ القِتَال فيه منسوخٌ، وهو مذهبُ الأئمة الأربعة، رحمهم الله.
وذهب عطاء وغيرُه إلى أنه ثابتٌ غيرُ منسوخ، وكان عطاء يحلِفُ بالله: ما يَحِلُّ القِتَالُ فى الشهر الحرام، ولا نسَخَ تحريمَه شىءٌ.
وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلالُ بحصار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطائف، فإنه خرج إليها فى أواخِر شوَّال، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضُها كان فى ذى القَعَدة، فإنه فتح مكة لِعَشرٍ بقينَ مِن رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرةَ يقصُرُ الصلاة، فخرج إلى هَوازن وقد بقى من شوَّال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هَوازِنَ، وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف، فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وهذا يقتضى أن بعضها فى ذى القَعَدة بلا شك.
وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابنُ حزم: وهو الصحيح بلا شك، وهذا عجيب منه، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفى "الصحيحين" عن أنس بن مالك فى قصة الطائف، قال:

"فحاصرناهُم أربعينَ يوماً، فاستعصوا وتمنعوا" وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القَعدة بلا ريب، ومع هذا فلا دليل في القصة، لأن غزو الطائف كان مِن تمام غزوة هَوازن، وهم بدؤوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقتال، ولما انهزموا، دخل ملكُهم، وهو مالكُ بنُ عوف النَّضري مع ثقيف في حِصن الطائف محاربينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان غزوُهُم مِن تمام الغزوة التي شرع فيها، والله أعلم.
وقال الله تعالى في (سورة المائدة) وهي من آخر القرآن نزولاَ، وليس فيها منسوخ: { يَا أيُها الَذِينَ آمَنُوا لا تُحلُوا شَعَائِرَ اللهِ ولا الشَهْرَ الحَرامَ، ولا الهَدْي ولا القَلائِدَ} [المائدة: 2].
وقال في سورة البقرة: {ويسأَلُونَكَ عَنِ الشَهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيه قُل: قِتَالٌ فيهِ كَبير وصدٌ عَنْ سَبيلِ اللهِ} [البقرة: 217]، فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحوُ ثمانيةِ أعوام، وليس في كتاب الله ولا سنةِ رسوله ناسخ لحكمهما، ولا أجمعتِ الأمةُ على نسخه، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى: {وقاتِلُوا المُشرِكِينَ كَافَةَ} [التوبة: 36] ونحوِها من العمومات، فقد استدلَّ على النسخ بما لا يدُلُ عليه، ومن استدل عليه بان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا عامر في سريةٍ إلى أوطاس في ذي القَعدة، فقد استدل بغير دليل، لأن ذلك كان مِن تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداءً منه لقتالهم في الشهر الحرام.

فصل
ومنها: قِسمة الغنائم، للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وقد تقدم تقريره.
ومنها: أنه يجوز لآحادِ الجيش إذا وجد طعاماَ أن يأكلَه ولا يُخمسَه، كما أخذ عبد الله بن المغفل جِراب الشحْمِ الذي دُلي يومَ خيبر، واختص به بمحضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنها: أنه إذا لحق مددٌ بالجيش بعد تَقضّي الحرب، فلا سهمَ له إلا بإذن الجيش ورضاهم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَم أصحابَه في أهل السفينة حينَ قَدِمُوا عليه بخيبر - جعفرٍ وأصحابه -أن يُسهِمَ لهم، فأسهم لهم.
فصل
ومنها تحريمُ لحوم الحُمُرِ الإِنسية، صح عنه تحريمُها يومَ خيبر، وصح عنه تعليلُ التحريم بأنها رِجسٌ، وهذا مقدَّمٌ على قول من قال من الصحابة: إنما حرمها، لأنها كانت ظهرَ القوم وحَمُولَتهم، فلما قيل له: فنيَ الظهرُ وأكلت الحمر، حرمها، وعلى قول من قال: إنما حرمها، لأنها لم تُخمس، وعلى قول من قال: إنما حرمها لأنها كانت حول القرية، وكانت تأكُلُ العَذِرَةَ، وكل هذا في "الصحيح"، لكن قولُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها رِجْسٌ" مقدَّم على هذا كلَه، لأنه مِن ظن الراوي،

وقولِه بخلاف التعليل بكونها رجساً.
ولا تعارضُ بين هذا التحريم وبين قوله تعالى: {قُل لاَ أَجِدُ فيما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَماً عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُه إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيتَةً أو دَماً مَسْفُوحاَ، أَو لَحْمَ خَنْزِيرٍ فإِنَهُ رجس أَو فِسْقاً أُهِلَ لِغَيْرِ اللهِ به} [الأنعام:145]، فإنه لم يكن قد حُرِّمَ حينَ نزول هذه الآية مِن المطاعم إلا هذه الأربعة، والتحريمُ كانَ يتجدَدُ شيئاً فشيئاً، فتحريمُ الحُمُر بعد ذلك تحريمٌ مبتدأ لما سكت عنه النصُّ، لا أنه رافع لما أباحه القرآن، ولا مُخصص لعمومه، فضلاً عن أن يكون ناسخاَ. والله أعلم.
فصل
ولم تُحرم المتعةُ يومَ خيبر، وإنما كان تحريمُها عامَ الفتحِ هذا هو الصوابُ، وقد ظنَّ طائفة مِن أهل العلم أنه حرمها يومَ خيبر، واحتجوا بما في "الصحيحين" من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أن رسولَ الله نَهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعَن أكل لحوم الحمر الإِنسية".

وفي "الصحيحين" أيضاً: أن علياً رضي الله عنه، سمع ابن عباس يُلينُ في مُتعة النساء، فقال: مهلاً يا ابنَ عباس، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية" ، وفي لفظ للبخاري عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإِنسية.
ولما رأى هؤلاء أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباحها عامَ الفتح، ثم حرَمها، قالوا: حُرمَت، ثُم أبيحت، ثم حُرِّمَت.
قال الشافعي: لا أعلمُ شيئاَ حُرم، ثم أبيح، ثم حُرمَ إلا المتعة، قالُوا: نُسِخَتْ مرتين، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لم تُحرم إلا عامَ الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة. قالوا: وإنما جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الإخبار بتحريمها، وتحريمِ الحُمُر الأهلية، لأن ابن عباس كان يُبيحهما، فروى له علي تحرِيمَهما عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رداً عليه، وكان تحريمُ الحُمُرِ يومَ خيبر بلا شك، وقد ذكر يومَ خيبر ظرفاً لتحريم الحُمُرِ، وأطلَقَ تحريمَ المتعة، ولمٌ يقيده بزمن، كما جاء ذلك في "مسند" الإمام أحمد بإسناد صحيح: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حرَّم لحومَ الحُمُرِ الأهلية يومَ خَيْبَر، وحرَّم مُتعة النساء" وفى لفظ: "حرَّم مُتعة النساء، وحرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر"، هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مميزاً، فظن بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر زمنٌ للتحريمين، فقيَّدهما به، ثم جاء بعضُهم، فاقتصر على أحد المحرَّمين وهو تحريمُ الحُمُر، وقيَّده بالظرف، فمن هاهنا نشأ الوهم.
وقصة خَيْبَر لم يكن فيها الصحابةُ يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا

فى ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نقلَه أحدٌ قطُّ فى هذه الغزوة، ولا كان للمُتعة فيها ذِكرٌ البتة، لا فِعلاً ولا تحريماً، بخِلاف غزاة الفتح، فإن قصةَ المتعة كانت فيها فِعلاً وتحريماً مشهورة، وهذه الطريقة أصحُّ الطريقتين.
وفيها طريقة ثالثة: وهى أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُحرِّمها تحريماً عاماً البتة، بل حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها عند الحاجة إليها، وهذه كانت طريقةَ ابن عباس حتى كان يُفتى بها ويقولُ: هى كالميتةِ والدمّ ولحمِ الخنزير، تُباح عند الضرورة وخشيةِ العنت، فلم يفهم عنه أكثرُ الناسِ ذلك، وظنوا أنه أباحها إباحةً مطلقةً، وشبَّبوا فى ذلك بالأشعار، فلما رأى ابنُ عباس ذلك، رجع إلى القول بالتحريم.
فصل
[فى جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض،وكيف عامَلَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خَيْبَر]
ومنها: جوازُ المساقاة والمزارعة بجُزء مما يخرُج مِن الأرض مِن ثمر أو زرع، كما عامل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ خَيْبَر على ذلك، واستمر ذلك إلى حين وفاته لم يُنسخ البتة، واستمر عملُ خلفائه الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة فى شىء، بل مِن باب المشاركة، وهو نظيرُ المضاربة سواء، فمَن أباح المضاربةَ، وحرَّم ذلك، فقد فرَّق بين متماثلين.
فصل
ومنها: أنه دفع إليهم الأرضَ على أن يعملُوها مِن أموالهم، ولم يدفع

إليهم البِذْرَ، ولا كان يَحمِلُ إليهم البِذرَ من المدينة قطعاً، فدل على أن هَدْيَه عدمُ اشتراط كونِ البِذر مِن ربِّ الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هَدْىَ خلفائه الراشدينَ مِن بعده، وكما أنه هو المنقولُ، فهو الموافقُ للقياس، فإن الأرضَ بمنزلة رأس المال فى القِراض، والبِذر يجرى مجرى سقى الماء، ولهذا يموتُ فى الأرض، ولا يرجعُ إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشْتُرِطَ عودُه إلى صاحبه، وهذا يُفسِدُ المزارعة، فعُلِمَ أن القياسَ الصحيح هو الموافق لهَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين فى ذلك.. والله أعلم.
فصل
ومنها: خَرْصُ الثمار على رؤوس النخل وقِسمتها كذلك، وأن القسمة ليست بيعاً.
ومنها: الاكتفاءُ بخارِصٍ واحد، وقاسِمٍ واحد.
ومنها: جواز عقدِ المُهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخُه متى شاء.
ومنها: جوازُ تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط، كما عَقَدَ لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرط أن لا يُغيِّبوا ولا يَكْتُموا.
ومنها: جوازُ تقريرِ أربابِ التُّهم بالعُقوبة، وأن ذلك من الشريعة العادلة لا مِن السياسة الظالمة.
ومنها: الأخذُ فى الأحكام بالقرائن والأمارات، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكنانة: "المَالُ كَثيرٌ، والعَهْدُ قَرِيبٌ"، فاستدل بهذا على كذبه فى قوله: أذهبته الحروبُ والنفقة.

ومنها: أن مَن كان القولُ قولَه إذا قامت قرينةٌ على كذبه، لم يُلتفت إلى قوله، ونُزِّلَ منزلة الخائن.
ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا خالفوا شيئاً مما شُرِطَ عليهم، لم يبق لهم ذِمة، وحلَّت دِماؤهم وأموالهم، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد لهؤلاء الهُدنة، وشرط عليهم أن لا يُغيِّبوا ولا يَكتُموا، فإن فعلوا حلَّت دِماؤهم وأموالُهم، فلما لم يفُوا بالشرط، استباحَ دماءَهم وأموالَهم، وبهذا اقتدى أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب فى الشروط التى اشترطها على أهل الذِّمة، فشرط عليهم أنهم متى خالفُوا شيئاً منها، فقد حلَّ له منهم ما يَحِلُّ مِن أهل الشِّقاق والعَداوة.
ومنها: جوازُ نسخ الأمر قبل فِعله، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بكسرِ القُدور، ثم نسخه عنهم بالأمر بِغَسْلِهَا.
ومنها: أن ما لا يُؤكل لحمُه لا يَطْهُر بالذَّكاة لا جِلدهُ ولا لحمه، وأن ذبيحته بمنزلة موته، وأن الذكاة إنما تعمل فى مأكول اللَّحم.
ومنها: أن مَن أخذ مِن الغنيمة شيئاً قبل قسمتها لم يملكْه، وإن كان دونَ حقه، وأنه إنما يملِكُه بالقسمة، ولهذا قال فى صاحب الشَّملة التى غلَّها: "إنَّها تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً". وقال لصاحب الشِّراك الذى غلَّه: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ".
ومنها: أن الإمام مخيَّر فى أرض العَنوة بين قِسمتها وتركها، وقَسْم بعضها، وتَرْكِ بعضها.
ومنها: جواز التفاؤُل بل استحبابُه بما يراه أو يسمعه مما هو من

أسباب ظهورِ الإسلام وإعلامه، كما تفاءل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برؤية المَساحى والفؤوس والمكاتِل مع أهل خَيْبَر، فإن ذلك فألٌ فى خرابها.
ومنها: جواز إجلاء أهل الذِّمةِ من دار الإسلام إذا اسْتُغنِىَ عنهم، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُقِرُّكُم مَا أَقَرَّكمُ اللهُ"، وقال لكبيرهم: "كَيْفَ بكَ إذا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّام يَوْماً ثُمَّ يَوْماً" ، وأجلاهم عمرُ بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مذهبُ محمد بن جرير الطبرى، وهو قولٌ قوى يسوغُ العملُ به إذا رأى الإمامُ فيه المصلحةَ.
ولا يُقال: أهل خَيْبَر لم تكن لهم ذِمة، بل كانُوا أهلَ هُدنة، فهذا كلام لا حاصِل تحته، فإنهم كانوا أهلَ ذِمة، قد أمِنوا بها على دمائهم وأموالهم أماناً مستمراً، نعم لم تكن الجزيةُ قد شُرِعَت، ونزل فرضُها، وكانوا أهلَ ذِمة بغير جزية، فلما نزل فرضُ الجزية، استُؤنِفَ ضربُها على مَن يُعقد له الذِّمة مِن أهل الكِتاب والمجوس، فلم يكن عدمُ أخذ الجزية منهم، لكونهم ليسوا أهلَ ذِمة، بل لأنها لم تكن نزل فرضُها بعد.
وأما كونُ العقد غيرَ مؤبَّد، فذاك لمدة إقرارهم فى أرض خَيْبَر، لا لمدة حقنِ دمائهم، ثم يستبيحها الإمامُ متى شاء، فلهذا قال: "نُقِرُّكُمْ ما أقرَّكمُ اللهُ أَوْ مَا شَئْنَا" ، ولم يقل: نحقِنُ دماءكم ما شئنا، وهكذا كان عقدُ الذمة لقُريظة والنَّضير عقداً مشروطاً، بأن لا يُحاربوه، ولا يُظاهِرُوا عليه، ومتى فعلوا، فلا ذِمة لهم، وكانوا أهلَ ذِمة بلا جزية، إذ لم يكن نزلَ فرضُها إذ ذاك، واستباحَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْىَ نسائهم وذرارِيهم، وجعل نقضَ العهد سارياً فى حق النِّساء والذُرِّية، وجعل حُكم الساكت والمقر حُكمَ الناقِضِ والمحارب، وهذا موجبُ هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أهل الذِّمة بعد الجزية أيضاً، أن يسرىَ نقضُ العهد فى ذُرِّيتهم

ونسائهم، ولكن هذا إذا كان الناقِضُون طائفةً لهم شَوْكة ومَنَعة، أما إذا كان الناقض واحداً مِن طائفة لم يُوافقه بقيتهم، فهذا لا يسرى النقضُ إلى زوجته وأولاده، كما أن مَن أهدر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دماءهم ممن كان يسبُّه، لَمْ يَسْبِ نساءَهم وذُرِّيتهم، فهذا هَدْيُه فى هذا، وهو الذى لا محيدَ عنه.. وبالله التوفيق.
ومنها: جوازُ عِتق الرجل أَمَتَه، وجعل عِتقها صَداقاً لها، ويجعلها زوجتَه بغير إذنها، ولا شهودٍ، ولا ولى غيره، ولا لفظِ إنكاح ولا تزويجٍ، كما فعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفيَّة، ولم يقل قطّ: هذا خاصٌ بى، ولا أشار إلى ذلك، مع علمه باقتداء أُمَّته به، ولم يقُلْ أحد من الصحابه: إن هذا لا يصْلُح لغيره، بل رَوَوُا القِصة ونقلُوها إلى الأُمَّة، ولم يمنعوهم، ولا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاقتداء به فى ذلك، والله سبحانه لمَّا خصَّه فى النكاح بالموهوبة قال: {خَالِصةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب: 50]، فلو كانت هذه خالِصة له من دون أُمَّته، لكان هذا التخصيصُ أولى بالذِكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم، بخلاف المرأة التى تَهَبُ نفسَها للرجل لنُدرته، وقِلَّته، أو مثله فى الحاجة إلى البيان، ولا سيما والأصل مشاركة الأُمَّة له، واقتداؤها به، فكيف يسكت عن منع الاقتداء به فى ذلك الموضع الذى لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز، هذا شبهُ المحال، ولم تجتمع الأُمَّة على عدم الاقتداء به فى ذلك، فيجب المصيرُ إلى إجماعهم.. وبالله التوفيق.
والقياس الصحيحُ: يقتضى جوازَ ذلك، فإنه يملِكُ رقبتَها، ومنفعة وطئها، وخدمتها، فله أن يُسقِطَ حقَّه مِن مِلك الرقبة، ويستبقى مِلك المنفعةِ، أو نوعاً منها، كما لو أعتق عبدَه، وشرط عليه أن يخدِمَه

ما عاش، فإذا أخرج المالك رقبةَ ملكه، واستثنى نوعاً مِن منفعته، لم يُمنع من ذلِكَ فى عقد البيع، فكيف يُمنع منه فى عقد النكاح، ولما كانت منفعةُ البُضع، لا تُستباح إلا بعقدِ نكاح أو مِلك يمين، وكان إعتاقُها يُزِيلُ ملكَ اليمين عنها، كان مِن ضرورة استباحة هذه المنفعة، جعلُها زوجة، وسيدها كان يلى نكاحها، وبيعها ممن شاء بغير رضاها، فاستثنى لنفسه ما كان يَملِكُه منها، ولما كان مِن ضرورته عقدُ النكاح ملكه، لأن بقاء ملكه المستثنى لا يَتِمُّ إلا به، فهذا محضُ القياس الصحيح الموافق للسُّنَّة الصحيحة.. والله أعلم.
ومنها: جوازُ كذب الإنسانِ على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمَّن ضرَر ذلك الغير إذا كان يُتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجَّاحُ بن عِلاط على المسلمين، حتى أخذَ مالَه مِن مكة مِن غير مضرَّة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة فى جنب المصلحة التى حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذى حصل بالخبرِ الصَّادِق بعد هذا الكذب، فكان الكذبُ سبباً فى حصول هذه المصلحة الراجحة، ونظيرُ هذا الإمامُ والحاكمُ يوهِمُ الخصمَ خلافَ الحق لِيتوصل بذلك إلى استعلام الحقِّ، كما أوهم سليمانُ بن داود إحدى المرأتين بِشَقِّ الولد نِصفين حتى توصَّل بذلك إلى معرفة عَيْن الأُم.
ومنها: جوازُ بناء الرجل بامرأته فى السفر، وركوبها معه على دابة بين الجيش.

ومنها: أن مَنْ قتل غيره بسُمٍّ يَقْتُلُ مثله، قُتِلَ بِهِ قِصاصاً، كما قُتِلَتِ اليهوديةُ ببشر بن البراء.
ومنها: جوازُ الأكل من ذبائح أهل الكتاب، وحِلُّ طعامهم.
ومنها: قبولُ هديةِ الكافر. فإن قيل: فلعل المرأةَ قُتِلَتْ لنقض العهد لِحرابها بالسُّمِّ لا قِصاصاً، قيل: لو كان قتلُها لنقض العهد، لقُتِلَت من حين أقرَّت أنها سمَّت الشاة، ولم يتوقف قتلُها على موت الآكل منها.
فإن قيل: فهلاَّ قُتِلَتْ بنقضِ العهد ؟ قيل: هذا حُجَّةُ مَن قال: إن الإمام مخيَّر فى ناقض العهد، كالأسير.
فإن قيل: فأنتم تُوجبون قتله حتماً كما هو منصوص أحمد، وإنما القاضى أبو يعلى ومَن تبعه قالوا: يُخيَّر الإمامُ فيه، قيل: إن كانت قِصةُ الشاة قبلَ الصُّلح، فلا حُجَّةَ فيها، وإن كانت بعدَ الصلح، فقد اختُلِفَ فى نقضِ العهد بقتل المسلم على قولين، فمَن لم ير النقضَ به، فظاهر، ومَن رأى النقضَ به، فهل يتحتمُ قتلُهُ، أو يُخيَّر فيه، أو يفصِلُ بينَ بعض الأسباب الناقضة وبعضها، فيتحتم قتلُه بسبب السبب، ويُخيَّر فيه إذا نقضه بحرابه، ولحوقه بدار الحرب، وإن نقضه بسواهما كالقتل، والزنى بالمسلمة، والتجسُّس على المسلمين، وإطلاع العدو على عَوْراتهم ؟ فالمنصوصُ: تَعيُّنُ القتل، وعلى هذا فهذه المرأةُ لما سمَّتِ الشاةَ، صارت بذلك محاربة، وكان قتلُها مُخيَّراً فيه، فلما مات بعضُ المسلمين من السُّم، قُتِلَتْ حتماً إما قِصاصاً، وإما لنقض العهد بقتلها المسلم، فهذا محتمل.. والله أعلم.
واختُلِف فى فتح خَيْبَر: هل كان عَنوة، أو كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة ؟

فروى أبو داود من حديث أنس: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا خَيْبَرَ، فأصبناها عَنوة فَجُمِعَ السَّبى".
وقال ابنُ إسحاق: سألتُ ابنَ شهاب، فأخبرنى أن رسولَ الله صلى الله عليه سلم افتتح خَيْبَرَ عَنوَةً بعد القتال.
وذكر أبو داود، عن ابن شهاب: "بلغنى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح خَيْبَرَ عَنوةً بعد القتالِ، ونزل مَن نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال".
قال ابنُ عبد البر: هذا هو الصحيح فى أرض خَيْبَر، أنها كانت عَنوة كلّها مغلوباً عليها، بخلافِ فَدَك، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم جميعَ أرضِها على الغانمين لها، المُوجِفين عليها بالخيلِ والرِّكاب، وهم أهلُ الحُديبية، ولم يختلفِ العلماءُ أن أرض خَيْبَرَ مقسومة، وإنما اختلفوا: هل تُقسم الأرض إذا غُنِمَتِ البلادُ أو توقَف ؟
فقال الكوفيون: الإمام مخيَّرٌ بين قِسمتها كما فعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرضِ خَيْبَر، وبين إيقافها كما فعل عُمَرُ بسوادِ العراق.
وقال الشافعى: تُقسم الأرض كُلُّهَا كما قَسَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، لأن الأرضَ غنيمةٌ كسائر أموال الكفار.
وذهب مالك إلى إيقافها اتباعاً لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر فى جماعة من الصحابة من إيقافها لمن يأتى بعده من المسلمين، وروى مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعتُ

عمر يقول: "لَوْلاَ أنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لا شَىء لَهُمْ ما افْتَتَحَ المُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلاَّ قَسَمْتُها سُهْمَاناً كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ سُهْمَاناً".
وهذا يدل على أن أرضَ خَيْبَر قُسِمَتْ كُلُّهَا سُهماناً كما قال ابنُ إسحاق.
وأما مَن قال: إن خَيْبَر كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة، فقد وهم وغَلِطَ، وإنما دخلت عليهم الشبهةُ بالحِصنين اللَّذينِ أسلمهما أهلُهُما فى حقن دمائهم، فلما لم يكن أهلُ ذينك الحِصنين مِن الرجال والنساء والذُرِّية مغنومين، ظن أن ذلك لصلح، ولعمرى إن ذلك فى الرجال والنساء والذُرِّية، كضربٍ من الصلحِ، ولكنهم لم يتركوا أرضَهم إلا بالحصار والقتالِ، فكان حكمُ أرضهما حكمَ سائر أرضِ خَيْبَر كلِّها عَنوة غنيمةً مقسومةً بين أهلها.
وربما شُبِّهَ على مَن قال: إن نصفَ خَيْبَر صُلحٌ، ونصفها عَنوة، بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم خَيْبَرَ نِصفين: نصفاً له، ونِصفاً لِلمسلمين".
قال أبو عمر: ولو صح هذا، لكان معناه أنَّ النِّصْفَ له مع سائر مَن وقع فى ذلك النصف معه، لأنها قُسمت على ستة وثلاثين سهماً، فوقع السهمُ للنبى صلى الله عله وسلم وطائفة معه فى ثمانية عشر سهماً، ووقع سائرُ الناس فى باقيها، وكُلُّهُم ممن شهد الحُديبية ثم خَيْبَرَ، وليست الحصونُ التى أسلمها أهلُها بعد الحصار والقتال صُلحاً، ولو كانت صُلحاً لملكها

أهلُها كما يملك أهلُ الصُّلْحِ أرضَهم وسائر أموالهم، فالحق فى هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب، هذا آخر كلام أبى عمر.
قلت: ذكر مالك، عن ابن شهاب، أن خَيْبَرَ كان بعضُها عَنوة، وبعضُها صلحاً، والكُتيبة أكثُرها عَنوةً، وفيها صلح، قال مالك: والكُتيبة أرضُ خَيْبَرَ، وهو أربعون ألف عَذق.
وقال مالك: عن الزهري، عن ابن المسيب: "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتتح بعض خيبر عنوة".
فصل
ثم انصرف رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن خَيْبَر إلى وادى القُرَى، وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمى، وهم على غير تعبئةٍ، فقُتِلَ مِدْعَمٌ عبدُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النَّاس: هنيئاً له الجنَّةُ، فقال النبىُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلاَّ والَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتى أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِم، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً "، فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أو شِرَاكين، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أوْ شراكان مِنْ نارٍ".

فعبَّأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه لِلقتال، وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعدِ بْنِ عُبادة، ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سَهل بن حُنيف، وراية إلى عبَّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا، أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام، فقتله، ثم برز آخرُ، فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ، دعا مَن بقى إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّى بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنمه اللهُ أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادى القُرَى أربعةَ أيًَّام، وقسم ما أصابَ على أصحابه بوادى القُرَى، وترك الأرضَ والنخل بأيدى اليهود، وعامَلهم عليها، فلما بلغ يهودَ تيماءَ ما واطأ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلَ خَيْبَر وفَدَك ووادى القُرَى، صالحوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقاموا بأموالهم، فلما كانَ زمنُ عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، أخرج يهود خَيْبَر وفَدَك، ولم يُخرج أهلَ تيماء ووادى القُرَى، لأنهما داخلتان فى أرض الشام، ويرى أن ما دون وادى القُرَى إلى المدينة حِجاز، وأن ما وراء ذلك مِن الشام وانصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى المدينة.

فلما كانَ ببعضِ الطريق، سار ليله حتَّى إذا كان ببعض الطريق أدركهم الكَرى، عرَّس، وقال لبلال: "اكلأ لَنا اللَّيْلَ" [ فصلَّى بلالٌ ما قُدِّر له، ونام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه فلما تقاربَ الفجرُ استند بلال إلى راحِلته مُواجه الفجر ]، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بلالٌ، ولا أحدٌ من أصحابه حتى ضربتهم الشمسُ، فكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوَّلَهُم استيقاظاً، فَفَزِعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أىْ بلالُ" ؟ فقال: أخذَ بنفسى الذى أَخَذَ بِنَفْسِكَ، بأبى أنتَ وأُمِّى يا رسولَ اللهِ. فاقتادوا رواحلهم شيئاً حتى خرجُوا مِن ذلك الوادى، ثم قال: "هذا وادٍ به شَيْطَانٌ"، فلما جاوزه، أمرهم أن ينزِلُوا وأن يتوضؤوا، ثم صلَّى سُنَّة الفجر، ثم أمر بلالاً، فأقام الصلاة، وصلَّى بالناس، ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ قَبضَ أَرْوَاحَنا، ولَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إلَيْنَا فى حِين غَيْرِ هذا، فإذا رَقَدَ أَحَدُكُم عَنِ الصَّلاةِ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ فَزِعَ إليها فَلْيُصَلِّها كمَا كانَ يُصَلِّيهَا فى وَقْتِهَا" ، ثم التفتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبى بكر فقال: "إنَّ الشَّيْطَانَ أتى بِلالاً، وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّى فَأضْجَعَه فَلَمْ يَزَلْ يُهدِّئه كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبىُّ حَتَّى نام "، ثم دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً، فأخبره بمثل ما أخبر به أبا بكر.وقد رُوى أن هذه القصة كانت فى مرجعهم مِن الحدَيبية، ورُوى أنها كانت فى مرجعهم مِن غزوة تبوك، وقد روى قِصَّة النومِ عن صلاةِ

الصبح عِمرانُ بن حُصين،
ولم يُوقِّت مدتَها، ولا ذكر فى أى غزوة كانت، وكذلك رواها أبو قتادة كلاهما فى قصة طويلة محفوظة.
وروى مالك، عن زيد بن أسلم: أن ذلك كان بطريق مكة، وهذا مرسل.
وقد روى شعبة، عن جامع بن شداد، قال: سمعتُ عبد الرحمن بن أبى علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود، قال: أقبلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن الحُديبية، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَكْلَؤنا" ؟. فقال بلال: أنا... فذكر القصة.
لكن قد اضطربت الرواةُ فى هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة، عن جامع: إن الحارس فيها كان ابنَ مسعود، وقال غُنْدَرٌ عنه: إن الحارس كان بلالاً، واضطربت الرواية فى تاريخها، فقال المعتمِرُ بنُ سليمان: عن شعبة عنه: إنها كانت فى غزوة تبوك، وقال غيرُه عنه: إنها كانت فى مرجعهم من الحُديبية، فدل على وهمٍ وقع فيها، ورواية الزهرى عن سعيد سالمة مِن ذلك.. وبالله التوفيق.

فصل فى فقه هذه القصة
فيها: أن من نام عن صلاة أو نسيها، فوقتُها حينَ يستيقظ أو يذكرُها.
وفيها: أن السنن الرواتبَ تُقضَى، كما تُقضَى الفرائض، وقد قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةَ الفجر معها، وقضى سُنَّةَ الظهر وحدها، وكان هَديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضاءَ السنن الرواتب مع الفرائض.
وفيها: أن الفائتة يُؤذَّن لها ويُقام، فإن فى بعض طرق هذه القصة، أنه أمر بلالاً، فنادى بالصلاة، وفى بعضها: فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام ذكره أبو داود.
وفيها: قضاء الفائتة جماعة.
وفيها: قضاؤها على الفور لقوله: "فليُصلِّها إذا ذكرها"، وإنما أخَّرها عن مكان مُعرَّسِهم قليلاً، لكونه مكاناً فيه شيطان، فارتحل منه إلى مكان خيرٍ منه، وذلك لا يفُوِّت المبادرة إلى القضاء، فإنهم فى شغل الصلاة وشأنها.
وفيها: تنبيه على اجتناب الصلاة فى أمكنة الشيطان. كالحمَّام، والحُشِّ بطريق الأَوْلى، فإن هذه منازِلُه التى يأوى إليها ويسكُنها، فإذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ترك المبادرةَ إلى الصلاة فى ذلك الوادى، وقال: "إن به شيطاناً" ، فما الظن بمأوى الشيطان وبيته.

فصل
ولما رجع رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائِحَهم التى كانوا منحُوهم إياها مِن النخيل حين صار لهم بخَيْبَر مالٌ ونخيلٌ، فكانت أُمُّ سُليم وهى أُم أنس بن مالك أعطت رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقاً، فأعطاهن أُمَّ أيمن مولاته، وهى أُم أُسامة بن زيد، فردَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أُم سُليم عِذاقها، وأعطى أُم أيمن مكانهن من حائطه مكانَ كل عَذق عشرة.
فصل
وأقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المدينة بعد مقدَمه مِن خَيْبَر إلى شوَّال، وبعث فى خلال ذلك السرايا.
فمنها: سريةُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه إلى نجدٍ قِبَلَ بنى فَزارة، ومعه سلمةُ بنُ الأكوع، فوقع فى سهمه جاريةٌ حسناء، فاستوهبها مِنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة.
ومنها: سريةُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى ثلاثين راكباً نحو هوازن، فجاءهم الخبر، فهربوا وجاؤوا محالهم، فلم يَلْقَ منهم أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة، فقال له الدليل: هل لك فى جمعٍ من خَثْعَم

جاؤوا سائرين، وقد أجدبت بلادُهم ؟ فقال عمر: لم يأمرنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، ولم يَعْرِضْ لهم.
ومنها: سرية عبد الله بن رواحة فى ثلاثين راكباً، فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رِزَام اليهودى، فإنه بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يجمع غَطفان لِيغزوه بهم، فأتوه بخَيْبَر فقالوا: أرسلنا إليك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليستعملك على خَيْبَر، فلم يزالوا حتى تَبِعَهم فى ثلاثين رجلاً مع كُلِّ رجل منهم رديفٌ من المسلمين، فلما بلغوا قَرقرة نِيار وهى من خَيْبَر على ستة أميال ندم يسير، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله بن أنيس، فزجر بعيره، ثم اقتحم عن البعير يسوقُ القوم حتى إذا استمكن مِن يسير، ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفى يده مِخرشَ من شوحط، فضرب به وجه عبد الله فشجَّه مأمومَة، فانكفأ كُلُّ رجل من المسلمين على رديفه، فقتله غيرَ رجل مِن اليهود أعجزهم شداً، ولم يُصَبْ مِن المسلمين أحدٌ، وقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبصق فى شجَّة عبد الله بن أنيس، فلم تَقِحْ، ولم تُؤذه حتى مات.
ومنها: سريةُ بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مُرَّة بفدك فى ثلاثين رجلاً، فخرج إليهم، فلقى رِعاء الشاء، فاستاق الشاءَ والنَّعم، ورجع إلى المدينة، فأدركه الطلبُ عند الليل، فباتُوا يرمونهم بالنَبْلِ حتى فنى نَبْلُ بشير وأصحابه، فولَّى منهم مَنْ ولَّى، وأُصيب منهم مَنْ أُصيب،

وقاتل بشير قتالاً شديداً، ورجع القومُ بنَعمهم وشائهم، وتحامل بشيرٌ حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برئت جِراحه، فرجع إلى المدينة
ثم بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية إلى الحُرَقَةِ من جُهينة، وفيهم أسامةُ بن زيد، فلما دنا منهم، بعث الأميرُ الطلائع، فلما رجعوا بخبرهم، أقبل حتى إذا دنا منهم ليلاً، وقد احتلبوا وهدؤوا، قام فحمدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وحدَه لا شريكَ له، وأن تُطيعونى، ولا تعصونى، ولا تُخالفوا أمرى، فإنه لا رأى لمن لا يُطاع، ثم رتبهم وقال: يا فلان، أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يُفارِقْ كلٌ منكما صاحِبَه وزميله، وإياكم أن يَرْجع أحد منكم، فأقول: أين صاحبك ؟ فيقول: لا أدرى، فإذا كبَّرتُ، فكبِّروا، وجرَّدوا السيوف، ثم كَبَّروا، وحملوا حملة واحدة، وأحاطُوا بالقوم، وأخذتهم سيوفُ الله، فهم يضعونها منهم حيث شاؤوا، وشعارهم: أَمِتْ أمِتْ، وخرج أُسامة فى أثر رجل منهم يقال له مِرداسُ بن نَهِيك، فلما دنا منه، وَلَحَمَهُ بالسيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله، ثم استاقوا الشَّاءَ والنَّعم والذُّرِّيَّة، وكانت سُهمانُهم عشرة أبعرة لكل رجُل أو عِدْلَها من النَّعم، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُخبر بما صنع أُسامة، فكَبُر ذلك عليه، وقال: "أقتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ؟" فَقَالَ: إنَّمَا قالها متعوِّذاً، قال: "فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه" ثم قال: "مَنْ لَكَ بلا إله إلاَّ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ "، فما زال يُكرر ذلك عليه حتى تمنَّى أن يكون أسلمَ يومئذ وقال:

يا رسولَ الله ؛ أُعطى الله عهداَ ألا أقتُل رجلاَ يقول: لا إله إلا الله، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعدى" فقال أُسامة: بعدك.
فصل
وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غالب بن عبد الله الكَلبى إلى بنى المُلَوَّح بالكَدِيد، وأمره أن يُغير عليهم.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى يعقوبُ بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهنى، عن جندب بن مَكيث الجُهنى، قال: كنتُ فى سريته، فمضينا حتى إذا كنا بِقَدِيد لَقِينَا به الحارث بن مالك بن البَرْصَاء الليثى، فأخذناه، فقال: إنما جئتُ لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله: إن كنتَ إنما جئتَ لِتسلم، فلا يضرُّك رِباطُ يوم وليلة، وإن كنتَ على غير ذلك، استوثقنا مِنك، فأوثقه رِباطاً وخلَّف عليه رُويجلاً أسود، وقال له: امكث معه حتى نمر عليك، فإذا عَازَّك، فاحتَّز رأسَه، فمضينا حتى أتينا بطن الكَدِيد، فنزلناه عشيةً بعد العصر، فبعثنى أصحابى إليه، فَعَمَدْتُ إلى تل يُطلعنى على الحاضر، فانبطحتُ عليه، وذلك قبلَ غروب الشمس، فخرج رجل منهم، فنظر فرآنى منبطِحاً على التل، فقال لامرأته: إنى لأرى سَواداً على هذا التلِّ ما رأيتُه فى أوَّلِ النهار، فانظرى لا تكونُ الكِلابُ اجترَّت بعضَ أوعيتك، فنظرتْ، فقالت: لا واللهِ لا أفقد شيئاً. قال:

فناولينى قوسى وسهمين من نبلى، فناولته، فرمانى بسهم، فوضعه فى جنبى، فنزعته فوضعتُه ولم أتحرك، ثم رمانى بالآخر، فوضعه فى رأس منكبى، فنزعتُه فوضعتُه ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما واللهِ، لقد خالطه سهامى، ولو كان ربيئةً لتحرَّك، فإذا أصبحتِ، فابتغى سَهْمَىَّ فخُذيهما لا تمضغهما الكلاب علىَّ، قال: فأمهلناهم حتى إذا راحت روائحهم، واحتلبُوا وسكنوا، وذهبت عَتَمَةُ الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنَا مَن قتلنا، واستقنا النَّعم، فوجهنا قافلين به، وخرج صريخُهم إلى قومهم، وخرجنا سِراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك وصاحِبه، فانطلقنا به معنا، وأتانا صريخُ الناس، فجاءنا ما لا قِبَلَ لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطنُ الوادى مِن قُدَيْدٍ، أرسل اللهُ عزَّ وجَلَّ من حيث شاء سيلاً، لا واللهِ ما رأينا قبل ذلك مطراً، فجاء بما لا يقدر أحد يَقْدَمُ عليه، فلقد رأيتُهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يَقْدِرُ أحد منهم أن يقدَم عليه، ونحن نَحْدوها، فذهبنا سِراعاً حتى أسندناها فى المُشلَّل، ثم حدرناها عنه، فأعجزنا القومَ بما فى أيدينا.
وقد قيل: إن هذه السرية هى السرية التى قبلها.. والله أعلم.
فصل
ثم قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خَيْبَر، فقال

له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما وراءك"؟ قال: تركتُ جمعاً من يَمَن وغَطَفَان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة: إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسيرَ إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً، فساروا الليل وكمنوا النَّهارَ، حتى أتوا أسفلَ خَيْبَر، حتى دَنَوْا مِن القوم، فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبرُ جمعهم فتفرَّقوا، فخرج بشير فى أصحابه حتى أتى محالَّهم، فيجدُها ليس بها أحد، فرجع بالنَّعم، فلما كانوا بسلاح، لَقُوا عيناً لعُيينة، فقتلوه، ثم لقُوا جمعَ عُيينة وعُيينة لا يشعُرُ بهم، فناوشوهم، ثم انكشفَ جمع عُيينة، وتبعهم أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصابُوا منهم رجلين، فَقَدِمُوا بهما على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلما فأرسلهما.
وقال الحارث بن عوف لعُيينة وقد لقيه منهزماً تعدُو به فرسه: قف. قال: لا أقدِرُ خلفى الطلب، فقال له الحارث: أما آن لك أن تُبصرَ بعضَ ما أنت عليه، وأن محمداً قد وطأ البلادَ، وأنت تُوضع فى غير شىء؟ قال الحارث: فأقمتُ مِن حين زالت الشمسُ إلى الليل وما أرى أحداً، ولا طلبوه إلا الرعبَ الذى دخله.
فصل
وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى فى سَرِيَّة، وكان مِن قصته ما ذكر ابن إسحاق، أن رجلاً من جُشَم بنِ معاوية، يقال له:

قيس بن رفاعة، أو رِفاعة بن قيس، أقبل فى عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يُريد أن يجمع قَيْساً على محاربة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ذا اسم وشَرَفٍ فى جُشَم، قال: فدعانى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجلين من المسلمين، فقال: "اخرُجُوا إلى هذا الرَّجُلِ حَتَّى تَأتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وعِلْمٍ" ، فقدَّم إلينا شارفاً عجفاءَ، فَحُمِلَ عليها أحدُنا، فواللهِ ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجالُ من خلفها بأيديهم حتى استقلَّت وما كادت، وقال: "تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ" فخرجنا ومعنا سِلاحُنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكَمَنْتُ فى ناحيةٍ، وأمرتُ صاحبىَّ، فكمنا فى ناحية أُخرى مِن حاضر القوم، قلت لهما: إذا سمعتمانى قد كبَّرتُ وشددتُ فى ناحية العسكر، فكبِّرا وشُدَّا معى، فواللهِ إنَّا كذلك ننتظر أن نرى غِرة أو نرى شيئاً، وقد غَشِيَنَا الليلُ حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح فى ذلك البلد، فأبطأ عليهم، حتى تخوَّفُوا عليه، فقام صاحبُهم رِفاعة بن قيس، فأخذ سيفَه، فجعله فى عنقه، وقال: واللهِ لأتبَعَنَّ أثر راعينا هذا، واللهِ لقد أصابه شرٌ، فقال نفر ممن معه: واللهِ لا تذهبُ، نحنُ نكفيكَ. فقال: واللهِ لا يذهبُ إلا أنا. قالوا: فنحن معك، وقال: واللهِ لا يتبعُنى منكم أحد، وخرج حتى يمرَّ بى، فلما أمكننى، نفحتُه بسهم فوضعتُه فى فؤاده، فواللهِ ما تكلَّم، فوثبتُ إليه فاحتززتُ رأسه، ثم شددتُ فى ناحية العسكر، وكبَّرتُ، وشدَّ صاحبَاى فكبَّرا، فواللهِ ما كان إلا النجاءُ ممن كان فيه: عندك عندك بكلِّ ما قدرُوا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خفَّ معهم من أموالهم، واستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجئتُ برأسه أحمله معى، فأعطانى من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً فى صداقى، فجمعتُ

إلىَّ أهلى، وكنتُ قد تزوجتُ امرأة من قومى، فأصدقتها مائتى درهم، فجئتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستعينُه على نكاحى، فقال: "والله ما عندى ما أعينك"، فلبثتُ أياماً، ثم ذكر هذه السرية.
فصل
[فى بعثه سرية إلى إضَم]
وبعث سرية إلى إضَم، وكان فيهم أبو قَتادة، ومُحلِّم بن جَثَّامة فى نفر من المسلمين، فمرَّ بهم عامِرُ بن الأضبط الأشجعى على قَعودٍ له معه مُتَيِّعٌ له، ووطَبٌ مِن لَبن، فسلَّم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه مُحُلِّم بنُ جَثَّامة فقتله لشئ كان بينه وبينه، وأخذ بعيرَه ومُتَيِّعه، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخبرُوه الخبر، فنزل فيهم القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيَرةٌ، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِّنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتبَيَّنُواْ، إنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:94]، فلما قدموا، أُخْبِرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أقتلتَه بعد ما قال آمنتُ بالله؟".

ولما كان عامُ خَيْبَر، جاء عُيينةُ بن بدرٍ يطلُب بِدَمِ عامر بن الأضبط الأشجعى وهو سيِّدُ قَيْس، وكان الأقرعُ بنُ حابس يرُدُّ عن مُحَلِّم، وهو سيدُ خِنْدِف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم عامر: "هَلْ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا الآن مِنَّا خَمْسِينَ بَعيراً وخَمْسِينَ إذا رَجَعْنَا إلى المدينة"؟ فقال عُيينةُ بنُ بدر: واللهِ لا أدعُه حتى أُذيقَ نساءه من الحُرقة مثل ما أذاق نسائى، فلم يزل به حتَّى رضُوا بالدية، فجاؤوا بمُحلِّم حتى يستغفر له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قام بين يديه، قال: "اللهُمَّ لا تَغْفِرْ لمحلِّم" وقالها ثلاثاً، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال ابن إسحاق: وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وحدَّثنى سالم أبو النضر، قال: لم يقبلوا الديةَ حتى قام الأقرعُ بنُ حابس، فخلا بهم، فقال: يا معشر قَيْس ؛ سألكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتيلاً تترُكُونه لِيُصلحَ به بين النَّاس، فمنعتمُوه إياه. أفأمِنْتُم أن يغضَبَ عليكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيغضبَ اللهُ عليكم لِغضبه، أو يلعَنَكُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيلعَنَكُم اللهُ بلعنته، واللهِ لتُسْلِمُنَّه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لآتِيَنَّ بخمسين من بنى تميم كُلُّهم يشهدُون أن القتيل ما صلَّى قَط فلأطُلَّنَّ دمه، فلما قال ذلك: أخذُوا الدية.

فصل
فى سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمى
ثبت فى "الصحيحين" من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: نزلَ قولُه تعالى: {يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59]، فى عبد الله بن حُذافة السَّهمى بعثه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَرِيَّةٍ.
وثبت فى "الصحيحين" أيضاً من حديث الأعمش، عن سعيد بن عُبيدة، عن أبى عبد الرحمن السُّلَمى، عن علىٍّ رضى الله عنه، قال: استعملَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجُلاً مِنَ الأنصارِ على سَرِيَّةٍ، بعثَهم وأمرهم أن يسمعُوا له ويُطِيعُوا، قال: فأغضبُوه فى شىءٍ، فقال: اجمعوا لى حَطَباً، فجمعوا، فقال: أَوْقِدُوا نارا، فأوقَدُوا، ثم قال: ألم يَأْمُرْكُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمعُوا لى وتُطيعوا؟ قالُوا: بَلَى، قال: فادْخُلُوهَا، قال: فنظر بعضُهم إلى بعضٍ، وقالُوا: إنما فَرَرْنَا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن النَّار. فَسَكَن غَضَبُهُ، وطُفِئَتِ النَّارُ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرُوا ذلك له فقال: "لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْرُوف".

وهذا هو عبد الله بن حُذافة السَّهمى.
فإن قيل: فلو دخلُوها دخلُوها طاعة للهِ ورسُولِه فى ظنهم، فكانوا متأوِّلين مخطئين، فكيف يُخَلَّدُون فيها؟ قيل: لما كان إلقاءُ نفوسهم فى النار معصيةً يكونون بها قاتِلى أنفسهم، فهمُّوا بالمُبَادرة إليها من غير اجتهاد منهم: هل هُو طاعةٌ وقُربة، أو معصيةٌ؟ كانوا مُقْدِمينَ على ما هو محرَّم عليهم، ولا تَسوغُ طاعةُ ولى الأمر فيه، لأنه لا طاعةَ لمخلوق فى معصيةِ الخالق، فكانت طاعةُ مَنْ أمرهم بدخول النار معصيةً للهِ ورسوله، فكانت هذه الطاعة هى سببَ العُقوبة، لأنها نفسُ المعصية، فلو دخلُوها، لكانُوا عُصاةً للهِ ورسولِه، وإن كانوا مطيعين لولى الأمر، فلم تدفع طاعتُهم لولى الأمرِ معصيتَهم للهِ ورسوله، لأنهم قد عَلِمُوا أن مَن قتل نفسه، فهو مستحِقٌ للوعيد، واللهُ قد نهاهم عن قتل أنفسهم، فليس لهم أن يُقْدِمُوا على هذا النهى طاعة لمن لا تَجِبُ طاعتُه إلا فى المعروف.
فإذا كان هذا حُكْمَ مَنْ عذَّب نفسه طاعة لولى الأمر، فكيف مَن عذَّب مسلماً لا يجوز تعذيبُه طاعة لولى الأمر.
وأيضاً فإذا كان الصحابةُ المذكورون لو دخلُوها لما خرجوا منها مع قصدِهم طاعةَ اللهِ ورسوله بذلك الدخولِ، فكيف بمن حمله على ما

لا يجوزُ مِن الطاعة الرغبةُ والرهبةُ الدنيوية.
وإذا كان هؤلاء لو دخلُوها، لما خرجوا منها مع كونهم قصدُوا طاعة الأمير، وظنُّوا أن ذلك طاعةٌ للهِ ورسوله، فكيف بمن دخلها مِن هؤلاء المُلَبِّسين إخوان الشياطين، وأوهمُوا الجُهَّالَ أن ذلك ميراثٌ من إبراهيم الخليل، وأن النار قد تصيرُ عليهم بَرْداً وسلاماً، كما صارت على إبراهيم، وخيارُ هؤلاء ملبوسٌ عليه يظنُّ أنه دخلها بحال رحمانى، وإنما دخلها بحالِ شيطانى، فإذا كان لا يعلم بذلك، فهو ملبوس عليه، وإن كان يعلم به، فهو مُلبِّسٌ على الناس يُوهمهم أنه مِن أولياء الرحمن، وهو مِن أولياء الشيطان، وأكثرُهم يدخلها بحال بُهتانى وتحيُّل إنسانى، فهم فى دخولها فى الدنيا ثلاثةُ أصناف: ملبوسٌ عليه، وملبِّس، ومتحيِّل، ونار الآخرة أشد عذاباً وأبقى

فصل: فى عُمرة القضيِّةِ
قال نافع: كانت فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وقال سليمان التَّيمى: لما رجعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خيبر، بعث السَّرايا، وأقام بالمدينةِ حتى استهل ذو القَعدة، ثم نادى فى النَّاس بالخروج.
قال موسى بن عقبة: ثم خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العام المقبل مِن عام الحُديبية معتمراً فى ذى القَعدة سنةَ سبع، وهو الشهر الذى صدَّه فيه المشركون عن المسجدِ الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجُج، وضع الأداة

كُلَّهَا: الجَحَف والمِجَانَّ، والنَّبل والرِّماح، ودخلوا بسلاح الراكبِ السيوفِ، وبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفرَ بنَ أبى طالب بين يديه إلى ميمونة بنتِ الحارث ابن حَزْنِ العامِرِيَّة، فخطبها إليه، فجعلت أمرَها إلى العبَّاس بن عبد المطلب، وكانت أُختها أُم الفضل تحتَه، فزوَّجَهَا العباسُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قَدِمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أصحابه فقال: "اكْشِفُوا عَنِ المَنَاكِب، واسْعَوْا فى الطَّوَاف"، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم وقُوَّتَهم. وكان يُكايدُهم بكُلِّ ما استطاع، فوقف أهل مكة: الرجالُ والنساءُ والصبيانُ، ينظرون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبدُ الله بنُ رواحة بين يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتجز متوشِّحاً بالسيف يقول:
خَلُّوا بَنى الكُفَّارِ عَن ْ سَبيلِهِ ... قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمنُ فى تَنْزِيلِهِ
فى صُحُفٍ تُتْلَى عَلى رَسُولِهِ ... يَارَبِّ إنِّى مُؤْمِنٌ بِقيلِهِ
إنِّى رَأَيْتُ الحَقَّ فى قبُولِهِ ... اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلى تَأْوِيلِهِ
ضَرْباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِه ... وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلهِ
وتغيَّب رجال من المشركين كراهية أن ينظُروا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَقَاً وغيظاً، فأقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثلاثاً، فلما أصبحَ مِن اليوم الرابع، أتاه سُهَيْلُ بنُ عمروٍ، وحُويطِبُ بنُ عبد العُزَّى، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مجلسِ الأنصارِ يتحدَّث مع سعدِ بن عُبادة، فصاح حُويطب:

نناشدُك الله والعقد لما خرَجْتَ مِنْ أرضِنَا، فقد مضت الثلاثُ، فقال: سعد بن عُبادة: كذبتَ لا أُمَّ لك، ليست بأرضِكَ ولا أرض آبائك، واللهِ لا نخرُج، ثم نادى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُويطِباً أو سُهيلاً، فقال : "إنِّى قَدْ نَكَحْتُ مِنْكُم امْرَأَةً فما يَضُرُّكُم أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، ونَضَعَ الطَعَامَ، فَنَأْكُل، وتَأكُلونَ مَعَنَا" ، فقالوا: نُنَاشِدُك الله والعقد إلا خرجتَ عنا، فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا رافع، فأذَّنَ بالرحيل، وركِبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلَ بطنَ سَرِف، فأقام بها، وخلَّف أبا رافع لِيحمِلَ ميمونَةَ إليه حين يُمسى، فأقام حتى قَدِمَتْ ميمونةُ ومَنْ معها، وقد لَقُوا أذى وعَناءً مِن سُفهاءِ المشركين وصِبيانهم، فبنى بها بِسَرِف، ثم أدلجَ وسار حتَّى قَدِمَ المدينة، وقدَّر اللهُ أن يكون قبر ميمونَةَ بِسَرِفَ حيث بنى بها.
فصل
وأما قولُ ابنِ عباس: "إن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوَّجَ مَيْمُونَةَ، وهُوَ مُحْرمٌ، وبَنَى بِهَا وهُوَ حَلالٌ" فمما استدُركَ عليهِ، وعُدَّ من وهمه، قال سعيدُ بنُ المسيِّب: ووهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تَزَوَّجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بعد ما حلَّ. ذكره البخارى.

وقال يزيدُ بن الأصم عن ميمونة: تزوَّجنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَحْنُ حَلاَلاَنِ بِسَرِفَ. رواه مسلم.
وقال أبو رافع: تزوَّجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيمونةَ، وهُوَ حلالٌ، وبَنَى بها وهُوَ حلال، وكُنْتُ الرَّسُولَ بينهما. صحَّ ذلك عنه.
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب: هذا عبدُ الله بن عباس يزعُمُ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكح ميمونَة وهو مُحْرمٍ، وإنما قَدِم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكَّةَ، وكان الحِلُّ والنكاحُ جميعاً، فشُبِّهَ ذلك على الناس.
وقد قيل: إنه تزوَّجها قبل أن يُحرم، وفى هذا نظر إلا أن يكونَ وكَّل فى العقد عليها قبل إحرامه، وأظنُّ الشافعىَّ ذكر ذلك قولاً، فالأقوال ثلاثة:
أحدها: أنه تزوَّجها بعد حلِّه من العُمرة، وهو قولُ ميمونة نفسها، وقولُ السفير بينها وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أبو رافع، وقولُ سعيد بن المسيِّب، وجمهورِ أهل النقل.
والثانى: أنه تزوَّجها وهو مُحرِم، وهو قولُ ابن عباس، وأهلِ الكوفة وجماعة

والثالث: أنه تزوَّجها قبل أن يُحرم.
وقد حُمِلَ قولُ ابن عباس أنه تزوجها وهو مُحْرمٌ، على أنه تزوجها فى الشهر الحرام، لا فى حال الإحرام، قالوا: ويُقال: أحرم الرجلُ: إذا عقد الإحرام، وأحرم: إذا دخل فى الشهر الحرام، وإن كان حلالاً بدليل قول الشاعر:
قَتلُوا ابْنَ عَفَّانَ الخَليفَةَ مُحْرِماِ ... وَرِعاً فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولاً
وإنما قتلُوه فى المدينة حلالاً فى الشهر الحرام.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث عُثمانَ بن عفَّان رضى الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ، وَلاَ يَخْطُبُ".
ولو قُدِّرَ تعارضُ القولِ والفِعل ههنا، لوجب تقديمُ القولِ، لأن الفِعلَ موافق للبراءة الأصلية، والقولُ ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام، ولو قُدِّمَ الفِعْلُ، لكان رافعاً لموجب القول، والقولُ رافع لموجب البراءة الأصلية، فيلزمُ تغييرُ الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام.. والله أعلم.
فصل
ولما أراد النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخروجَ مِن مكة، تبعتهم ابنةُ حمزةَ تُنادى:

يا عَمُّ يَا عَمُّ، فتناولها علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنهُ، فأخذ بيدها، وقال لِفاطمة: دونك ابنةَ عمِّكِ، فحملتها، فاختصم فيها علىٌ وزيدٌ وجعفرٌ، فقال على: أنا أخذتُها، وهى ابنةُ عمى، وقال جعفرٌ: ابنةُ عمى وخالتُها تحتى، وقال زيد: ابنةُ أخى، فقضى بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخالتها، وقال: "الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، وقال لعلى: "أَنْتَ مِنِّى وأَنَا مِنْكَ"، وقال لجعفر: "أَشْبَهْتَ خَلْقى وخُلُقى"، وقال لزيد: "أَنْتَ أَخُونَا ومَوْلاَنَا". متفق على صحته.
وفى هذه القصة مِن الفقه: أن الخالةَ مقدَّمة فى الحَضانة على سائر الأقارِبِ بعد الأبوين.
وأن تزوُّجَ الحاضِنَة بقريب من الطفل لا يسقط حضانَتَها، نص أحمد رحمه الله تعالى فى رواية عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها فى الجارية خاصة، واحتج بِقصة بنتِ حمزة هذه، ولما كان ابنُ العم ليس مَحْرَماً لم يُفرِّق بينه وبين الأجنبى فى ذلك، وقال: تَزوُّجُ الحاضنة لا يُسقط حضانتها للجارية،وقال الحسن البصرى: لا يكون تزوُّجها مُسقطاً لحضانتها بحال ذَكَراً كان الولد أو أُنثى، وقد اختُلِف فى سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال:
أحدها: تسقط به ذَكَراً كان أو أُنثى، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايات عنه.
والثانى: لا تسقط بحال، وهو قول الحسن، وابن حزم.

والثالث: إن كان الطفل بنتاً، لم تسقط الحضانةُ، وإن كان ذَكَراً سقطت، وهذه رواية عن أحمد رحمه الله تعالى، وقال فى رواية مهنا: إذا تزوجتِ الأمُّ وابنُها صغير، أُخِذَ منها، قيل له: والجارية مِثْلُ الصبىّ؟ قال: لا، الجاريةُ تكون معها إلى سبع سنين، وحكى ابنُ أبى موسى روايةً أُخرى عنه: أنها أحقُّ بالبنت وإن تزوَّجت إلى أن تبلغ.
والرابع: أنها إذا تزوَّجت بنسيب مِن الطفل، لم تسقط حضانتُها، وإن تزوَّجت بأجنبى، سقطت، ثم اختلف أصحابُ هذا القول على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يكفى كونُه نسيباً فقط، مَحْرَمَاً كان أو غيرَ محرم، وهذا ظاهرُ كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم.
الثانى: أنه يُشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ الحنفية.
الثالث: أنه يُشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل وِلادة، بأن يكون جداَ للطفل، وهذا قولُ بعض أصحاب أحمد، ومالك، والشافعى.
وفى القصة حُجَّة لمن قدَّم الخالة على العمَّة، وقرابةَ الأُم على قرابة الأب، فإنه قضى بها لخالتها، وقد كانت صفيَّةُ عمَّتها موجودةً إذ ذاك، وهذا قولُ الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وعنه رواية ثانية: أن العمَّة مقدَّمة على الخالة، وهى اختيارُ شيخنا.
وكذلك نساءُ الأب يُقدَّمن على نساء الأُم، لأن الولايةَ على الطفل فى الأصل للأب، وإنما قُدِّمتْ عليه الأمُّ لمصلحة الطفل وكمال تربيته، وشفقتها وحنوها، والإناثُ أقومُ بذلك من الرجال، فإذا صار الأمر إلى النساء فقط، أو الرجال فقط، كانت قرابةُ الأب أولى من قرابة الأُم، كما يكون الأبُ أولى مِن كل ذَكر سواه، وهذا قوى جداً.

ويُجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمَّتها بأن العمَّة لم تَطلُبِ الحضانة، والحضانة حق لها يُقضَى لها به بطلبه، بخلاف الخالة، فإن جعفراً كان نائباً عنها فى طلب الحضانة، ولهذا قضى بها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها فى غيبتها.
وأيضاً فكما أن لِقرابة الطفل أن يمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوَّجت، فللزوج أن يمنعها مِن أخذه وتفرغها له، فإذا رضىَ الزوج بأخذه حيث لا تسقطُ حضانتُها لِقرابته، أو لكون الطفل أُنثى على رواية، مُكِّنَتْ من أخذه وإن لم يرض، فالحق له، والزوج ههنا قد رضىَ وخاصم فى القصة، وصفيَّة لم يكن منها طلب.
وأيضاً فابنُ العم له حضانةُ الجارية التى لا تُشتَهى فى أحد الوجهين، بل وإن كانت تُشتهَى، فله حضانتُها أيضاً، وتُسلَّم إلى امرأةٍ ثقة يختارها هو، أو إلى محرمه، وهذا هو المختارُ لأنه قريبٌ من عصباتها، وهو أولى من الأجانب والحاكم، وهذه إن كانت طفلة فلا إشكال، وإن كانت ممن يُشتهَى، فقد سُلِّمتْ إلى خالتها، فهى وزوجها من أهل الحضانة. والله أعلم.
وقول زيد: ابنة أخى، يُريد الإخاء الذى عقده رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين حمزةَ لما واخى بين المهاجرين، فإنه واخى بين أصحابه مرتين، فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبلَ الهجرة على الحقِّ والمواساة، وآخى بين أبى بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبى وقاص، وبين أبى عبيدة وسالم مولى أبى حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله.والمرة

الثانية: آخى بين المهاجرين والأنصار فى دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة.
فصل
واختُلِفَ فى تسمية هذه العُمرة بعُمرة القضاء، هل هو لكونها قضاءً للعُمرة التى صُدُّوا عنها، أو من المقاضاة؟ على قولين تقدَّما، قال الواقدى: حدَّثنى عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العُمرة قضاء، ولكن كان شرطاً على المسلمين أن يعتمِرُوا فى الشَّهر الذى حاصرهم فيه المشركون.
واختلف الفقهاءُ فى ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أن مَن أُحصر عن العُمرة يلزمه الهَدْى والقضاء، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، بل أشهرُها عنه.
والثانى: لا قضاء عليه، وعليه الهَدْى، وهو قول الشافعى، ومالك فى ظاهر مذهبه، ورواية أبى طالب عن أحمد.
والثالث: يلزمه القضاء، ولا هَدْى عليه، وهو قول أبى حنيفة.
والرابع: لا قضاء عليه، ولا هَدْى، وهو إحدى الروايات عن أحمد.
فمَن أوجبَ عليه القضاء والهَدْىَ، احتج بأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه نحروا الهَدْىَ حين صُدُّوا عن البيت، ثم قَضَوْا مِن قابل، قالوا: والعُمرة تلزم بالشروع فيها، ولا يسقط الوجوبُ إلا بفعلها، ونحر الهَدْى لأجل التحلل قبل تمامها، وقالوا: وظاهِرُ الآية يُوجب الهَدْى، لقوله تعالى: {فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ} [البقرة: 196]
ومَن لم يُوجبهما، قالوا: لم يأمرُ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أُحصروا معه

بالقضاء ولا أحداً منهم، ولا وقف الحِلُّ على نحرهم الهَدْىَ، بل أمرهم أن يَحْلِقُوا رؤوسهم، وأمر مَن كان معه هَدْى أن ينحر هَدْيه.
ومَن أوجب الهَدْىَ دون القضاء احتج بقوله: {فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْىِ}.
ومَن أوجب القضاء دون الهَدْى، احتج بأن العُمرة تلزم بالشروع، فإذا أُحْصِرَ، جاز له تأخيرُها لعذر الإحصار، فإذا زال الحصر، أتى بها بالوجوب السابق، ولا يُوجب تخلل التحلل بين الإحرام بها أولاً، وبين فعلها فى وقت الإمكان شيئاً، وظاهر القرآن يردُّ هذا القول، ويُوجب الهَدْىَ دون القضاء، لأنه جعل الهَدْىَ هو جميعَ ما على المُحْصَرِ، فدلَّ على أنه يُكتفى به منه. والله أعلم.
فصل
وفى نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُحصر بالحديبية، دليلٌ على أن المحصَرَ ينحر هَدْيَه وقتَ حصره، وهذا لا خلاف فيه إذا كان مُحْرِماً بعُمرة، وإن كان مفرداً أو قارناً، ففيه قولان:
أحدهما: أن الأمر كذلك، وهو الصحيح لأنه أحد النُسُكين، فجاز الحل منه، ونحرُ هَدْيه وقت حصره، كالعُمرة، لأن العُمرة لا تفوتُ، وجميعُ الزمان وقتٌ لها، فإذا جاز الحِلُّ منها ونحرُ هَدْيها مِن غير خشية فواتها، فالحجُّ الذى يُخشى فواته أولى، وقد قال أحمد فى رواية حنبل: إنه لا يَحلُّ، ولا ينحرُ الهَدْى إلى يوم النحر، ووجه هذا أنَّ للهدى محلَّ زمانٍ ومحلَّ مكانٍ، فإذا عجز عن محل المكان لم يسقُطْ عنه محلُّ الزمان لتمكنه من الإتيان بالواجب فى محله الزمانى، وعلى هذا

القول لا يجوزُ له التحللُ قبلَ يوم النحر، لقوله: {ولاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ}[البقرة: 196]
فصل
وفى نحره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحِلِّه، دليلٌ على أن المُحصَر بالعُمرة يتحلل، وهذا قولُ الجمهور. وقد رُوى عن مالك رحمه الله: أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوت، وهذا تبعُدُ صحته عن مالك رحمه الله، لأن الآية إنما نزلت فى الحُديبية، وكان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُه كُلُّهم مُحرِمينَ بعُمرة، وحلُّوا كُلُّهم، وهذا مما لا يَشُكُّ فيه أحد مِن أهل العلم.
فصل
وفى ذبحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحُديبية وهى مِن الحل بالاتفاق، دليلٌ على أن المُحْصَرَ ينحر هَدْيه حيث أُحْصِرَ مِن حِل أو حَرَم، وهذا قولُ الجمهور وأحمد، ومالك، والشافعى.
وعن أحمد رحمه الله رواية أُخرى، أنه ليس له نحرُ هَدْيه إلا فى الحرم، فيبعثُه إلى الحرم، ويُواطئ رجلاً على أن ينحرَه فى وقت يتحلل فيه، وهذا يُروى عن ابن مسعود رضى الله عنه، وجماعة من التابعين، وهو قول أبى حنيفة.
وهذا إن صح عنهم فينبغى حملُه على الحصر الخاص، وهو أن يتعرَّضَ ظالِمٌ لجماعة أو لواحد، وأما الحصرُ العام، فالسُنَّة الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدلُّ على خلافه، والحُديبية من الحل باتفاق الناس، وقد قال الشافعى: بعضُها من الحل، وبعضُها من الحرم، قلت: ومراده أن أطرافها من

الحرم وإلا فهى من الحل باتفاقهم.
وقد اختلف أصحابُ أحمد رحمه الله فى المُحْصَر إذا قدر على أطراف الحرم، هل يلزمه أن ينحر فيه؟ فيه وجهان لهم.
والصحيحُ: أنه لا يلزمُه، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحرَ هَدْيَه فى موضعه مع قُدرته على أطراف الحرم، وقد أخبر اللهُ سبحانه أن الهَدْىَ كان محبوساً عن بلوغِ مَحلِّه، ونصبَ الهَدْى بوقوع فعل الصَّدِّ عليه، أى: صدُّوكم عن المسجد الحرام، وصدُّوا الهَدْى عن بلوغ محله، ومعلوم أن صَدَّهم وصدَّ الهَدْى استمر ذلك العام ولم يزل، فلم يَصِلُوا فيه إلى محل إحرامهم، ولم يَصِلِ الهدىُ إلى محل نحره، والله أعلم.

فصل: فى غزوة مؤتة
وهى بأدنى البلقاءِ من أرض الشام، وكانت فى جُمادى الأُولى سنة ثمان، وكان سببُها أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الحارث بن عميرٍ الأَزْدِى أحَد بنى لِهْب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رِباطاً، ثم قدَّمه فضرب عنقه، ولم يُقْتَل لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولٌ غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث البعوثَ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: "إنْ أُصيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أبى طالب عَلى النَّاس، فإنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ الله بْنُ رَواحة". فتجهَّز الناس وهُم ثلاثةُ آلاف، فلما حضر خروجُهم، ودَّع الناسُ

أُمراءَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسلَّمُوا عليهم، فبكى عبدُ الله بنُ رواحة، فقالوا: ما يُبكيك؟ فقال: أما واللهِ ما بى حُبُّ الدنيا ولا صَبابَةٌ بكم، ولكنى سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ آيةً مِن كتاب الله يذكُر فيها النار: {وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً}[مريم: 71]، فلستُ أدرى كيف لى بالصَّدَرِ بَعْدَ الوُرُودِ؟ فقال المسلمون: صحبكم اللهُ بالسلامة، ودفعَ عنكم، وردّكم إلينا صالِحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكِنَّنِى أَسْأَلُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِف الزَّبدَا
أَوْ طَعْنَةً بيَدى حَرَّان مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ والكَبِدا
حَتَّى يُقَالَ إذا مرُّوا عَلى جَدَثى ... يَا أَرْشَدَ اللهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدا
ثم مَضَوْا حتى نزلوا مَعَان، فبلغ الناسَ أن هِرَقْل بالبلقاء فى مائة ألفٍ مِن الروم، وانضمَّ إليهم مِن لَخم، وجُذام، وبَلْقَيْن، وبَهْرَاء، وبَلي، مائةُ ألف، فلما بلغ ذلك المسلمين، أقامُوا على مَعان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا: نكتُبُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنُخبِرُه بعدد عدونا، فإما أن يُمِدَّنا بالرجال، وإما أن يأمُرَنَا بأمره، فنمضى له، فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة، فقال: يا قوم؛ واللهِ إنَّ الذى تكرهون للتى خرجتُم تطلبُون: الشهادة، وما نُقاتِلُ الناسَ بعدد ولا قُوَّة ولا كثرة، ما نُقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا به الله، فانطلِقُوا، فإنما هى إحدى الحُسنيين، إما ظَفَرٌ وإما شَهَادَةٌ.
فمضى الناسُ حتَّى إذا كانوا بتُخُوم البَلقاء، لقيتهم الجموعُ بقرية

يقال لها: مَشَارف، فدنا العدوُّ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبَّى المسلمون، ثم اقتتلوا والرايةُ فى يد زيدِ بن حارثة، فلم يزل يُقاتل بها حتى شَاطَ فى رماح القوم وخرَّ صرِيعاً، وأخذها جعفرٌ، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتالُ، اقتحم عن فرسه، فعقرَها، ثم قاتَل حتَّى قُتِلَ، فكان جعفر أوَّل مَن عَقَرَ فرسَه فى الإسلامِ عند القتال، فقُطِعَتْ يمينُه، فأخذ الراية بيساره، فَقُطِعَتْ يسارُه، فاحتضن الراية حتى قُتِلَ وله ثلاث وثلاثون سنة، ثم أخذها عبدُ الله بن رَوَاحةَ، وتقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزِلُ نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل، فأتاه ابنُ عم له، بعَرق من لحم فقال: شُدّ بها صُلْبَك، فإنك قد لقيتَ فى أيَّامِكَ هذِهِ ما لقيت، فأخذها مِن يده، فانتهس منها نهسة، ثم سمع الحَطْمَةَ فى ناحية الناس، فقال: وأنت فى الدنيا، ثم ألقاه مِن يده، ثم أخذ سيفه وتقدَّم، فقاتل حتَّى قُتِلَ، ثم أخذ الراية ثابتُ بن أقْرَم أخو بنى عَجلان، فقال: يا معشر المسلمين؛ اصطلحُوا على رجل منكم، قالوا: أنتَ، قال: ما أنا بفاعلٍ، فاصطلح الناسُ على خالد بن الوليد، فلما أخذ الرايةَ، دافع القومَ، وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين، وانصرف بالناس.
وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين، والذى فى "صحيح البخارى" أن الهزيمة كانت على الروم.
والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأُخرى.
وأطلع الله سبحانه على ذلك رسولَه مِن يومهم ذلك، فأخبر به أصحابه،

وقال: "لَقَدْ رُفِعُوا إلىَّ فى الجَنَّةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْتُ فى سَرِيرِ عَبْدِ اللهِ بْن رواحة ازْوِرَاراً عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ، فقلت: عَمَّ هذَا؟ فقيل لى: مَضَيا، وتَرَدَّدَ عَبْدُ اللهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ ثُمَّ مَضَى".
وذكر عبدُ الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن جدعان، عن ابن المسيِّب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُثِّلَ لى جَعْفَرٌ وَزَيدٌ وابْنُ رَوَاحةَ فى خَيْمَةٍ مِنْ دُرٍّ، كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَرِيرٍ، فَرَأَيْتُ زَيْداً وابْنَ رَواحَةَ فى أًعْناقهما صُدُود، ورَأَيْتُ جَعْفَراً مُسْتَقِيماً لَيْسَ فِيهِ صُدُودٌ قال: فَسَأَلْتُ أوْ قِيلَ لى: إنَّهما حِينَ غَشِيَهُمَا المَوْتُ أَعْرَضَا أَو كَأَنَّهُمَا صَدَّا بِوُجُوهِهما، وأمَّا جَعْفَرٌ فَإنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ".
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى جعفر: "إنَّ الله أَبْدَلَهُ بِيَدَيْهِ جَنَاحَيْنِ يَطيرُ بِهِمَا فى الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَ ".
قال أبو عمر: وروينا عن ابن عمر أنه قال: "وجدنا ما بين صدرِ جعفر ومنكبيه وما أقبلَ منه، تِسعين جِراحةً ما بين ضربةٍ بالسيف وطعنة بالرمح".
وقال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن منْية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخبر أهلِ مُؤْتة، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ شِئْتَ فَأخْبِرْنى، وإنْ شِئْتَ

أخْبَرْتُكَ" ، قال: أخبرنى يا رسولَ الله، فأخبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرَهُم كُلَّهُ، ووصفَهُم له، فقال: والَّذِى بعثَكَ بالحقِّ، ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً لم تذكُرْه، وإن أمرهم لكما ذكرتَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ رَفَعَ لى الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مُعْتَرَكَهُمْ".
واستُشهدَ يومئذ: جعفرٌ، وزيدُ بن حارثة، وعبدُ الله بن رواحة، ومسعود ابن الأوس، ووهبُ بن سعد بن أبى سَرْح، وعبَّادُ بن قيس، وحارثةُ بن النعمان، وسُراقة بنُ عمرو بن عطية، وأبو كُليب وجابر ابنا عمرو بن زيد، وعامر وعمرو ابنا سعيد ابن الحارث، وغيرهم.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حُدِّثَ عن زيد بن أرقم قال: كنتُ يتيماً لعبد الله بن رواحة فى حجره فخرج بى فى سفره ذلك مُردفى على حَقيبة رَحْلِه، فواللهِ إنه ليسيرُ ليلةً إذ سمعتُه وهو يُنشد:
إذا أَدْنيْتنِى وَحَمَلْتِ رَحْلِى ... مَسِيرَةَ أرْبَعٍ بَعْدَ الحِسَاءِ
فَشَأْنكِ فانْعَمِى وخَلاَكِ ذَمٌ ... وَلاَ أرْجِعْ إلى أَهْلى وَرَائى
وَجَاءَ المُسْلِمُونَ وَغَادَرُونى ... بِأَرْضِ الشَّام مُسْتَنْهَى الثَّواءِ
فصل
وقد وقع فى الترمذى وغيره أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكَّة يومَ الفتح وعبدُ الله ابن رواحة بين يديه ينشد: خَلُّوا بَنِى الكفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الأبيات.

وهذا وهم، فإن ابنَ رواحة قتل فى هذه الغزوة، وهى قبل الفتح بأربعة أشهر، وإنما كان يُنْشَدُ بين يديه شعر ابن رواحة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل.

فصل: فى غزوة ذات السلاسل
وهى وراء وادى القُرى بضم السين الأُولى وفتحها لغتان وبينها وبينَ المدينة عشرةُ أيام، وكانت فى جُمادى الآخرة سنة ثمان.
قال ابن سعد: بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جمعاً مِن قُضاعة قد تجمَّعُوا يُرِيدُونَ أن يدنُوا إلى أطراف المدينة، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرَو بن العاص، فعقد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداءَ، وبعثه فى ثلاثمائة مِن سَراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرساً، وأمره أن يستعينَ بمن مرَّ به من بَلِيٍّ، وعُذْرَةَ، وبَلْقَينِ، فسار اللَّيل، وكَمَن النهار، فلما قَرُبَ مِن القوم، بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافعُ بن مَكِيثٍ الجُهَنى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمدُّه، فبعث إليه أبا عُبيدة بنَ الجرَّاح فى مائتين، وعقد له لِواء، وبعث له سَراة المهاجرين والأنصار، وفيهم أبو بكر، وعمرُ، وأمره أن يلحقَ بعمرو، وأن يكونا جميعاً ولا يختلِفا، فلما لحق به، أراد أبو عبيدةَ أن يَؤُمَّ الناسَ، فقال عمرو: إنما قَدِمْتَ علىَّ مدداً وأنا الأميرُ، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يُصلِّى بالناس، وسار حتى وطئ بلاد

قضاعة، فدوّخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم، ولقى فى آخر ذلك جمعاً، فحمل عليهم المسلمون فهربُوا فى البلاد، وتفرَّقُوا، وبعث عوفَ بن مالك الأشجعى بريداً إلى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بقُفولهم وسلامتهم وما كان فى غزاتهم.
وذكر ابنُ إسحاق نزولَهم على ماء لِجُذام يقال له: السلسل، قال: وبذلك سميت ذات السلاسل.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبى عدى، عن داود، عن عامر قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشَ ذاتِ السَّلاسِل، فاستعمل أبا عُبيدة على المهاجرينَ، واستعمل عَمْرو بنَ العاص على الأعراب، وقال لهما: "تَطَاوَعا" قال: وكانوا أُمِرُوا أن يُغيرُوا على بَكر، فانطلق عمرو، وأغار على قُضاعة لأن بكراً أخوالُه، قال: فانطلق المغيرةُ بن شعبة إلى أبى عُبيدة فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعملك علينا، وإن ابن فلان قد اتبع أمر القوم، فليس لك معه أمرٌ، فقال أبو عبيدة: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن نَتَطَاوَعَ، فأنا أُطيع رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن عصاه عمرو.
فصل
وفى هذه الغزوة احتلم أميرُ الجيش عَمْرُو بن العاص، وكانت ليلةً باردة، فخاف على نفسه من الماء، فتيمَّمَ وصلَّى بأصحابه الصُّبح،

فذكرُوا ذلك للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا عمرو؛ صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟". فأخبره بالذى منعه مِن الاغتسال، وقال: إنى سمعتُ اللهَ يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ، إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمَاً}[النساء: 29]، فضَحِكَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يَقُلْ شيئاً، وقد احتجَّ بهذه القِصَّةِ مَنْ قال: إنَّ التيممَ لا يرفعُ الحَدَث، لأن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماهُ جُنباً بعد تيممه، وأجابَ مَن نازعهم فى ذلك بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الصحابة لما شَكَوْه قالوا: صلَّى بنا الصبحَ، وهو جُنُب، فسأله النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وقال: "صَلَّيْتَ بِأَصحابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟" ، استفهاماً واستعلاماً، فلما أخبره بعُذره، وأنه تيمَّم للحاجة، أقرَّه على ذلك.
الثانى: أن الرواية اختلفت عنه، فرُوى عنه فيها أنه غسل مغابِنه وتوضَّأ وضوءه للصلاة، ثم صلَّى بهم، ولم يذكر التيممَ، وكأن هذه الرواية أقوى مِن رواية التيمم، قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر روايةَ التيمم قبلها، ثم قال: وهذا أوصلُ من الأول، لأنه عن عبد الرحمن بن جُبير المصرى، عن أبى القيس مولى عمرو، عن عمرو. والأُولى التى فيها التيمُم، من رواية عبد الرحمن بن جُبير، عن عمرو بن العاص، لم يذكر بينهما أبا قيس.

الثالث: أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يستعلِمَ فقهَ عمرو فى تركه الاغتسال، فقال له: "صَلَّيْتَ بأصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟". فما أخبره أنه تيمَّم للحاجة علم فقهه، فلم يُنكر عليه، ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم والله أعلم خَشيةَ الهلاك بالبرد، كما أخبر به، والصلاة بالتيمم فى هذه الحال جائزة غيرُ منكر على فاعلها، فعُلِم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه، والله أعلم.
فصل: فى سرية الخَبَطَ
وكان أميرها أبا عُبيدة بن الجرَّاح، وكانت فى رجَب سنة ثمانٍ فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيِّد الناس فى كتاب "عيون الأثر" له، وهو عندى وهم، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
قالوا: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عُبيدة بن الجرَّاح فى ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمرُ بن الخطاب إلى حىٍّ مِن جُهينة بالقِبْلِيَّة مما يلى ساحِلَ البحر، وبينها وبين المدينة خمسُ ليال، فأصابهم فى الطَّرِيق جوعٌ شديد، فأكلوا الخَبَطَ، وألقى إليهم البحرُ حوتاً عظيماً، فأكلوا منه، ثمَّ انصرفوا، ولم يلقَوْا كَيْداً، وفى هذا نظر، فإن فى "الصحيحين" من حديث جابر قال: "بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثمائة راكب، أميرُنا أبو عبيدة بن الجرَّاح نَرْصُدُ عِيراً لقريش، فأصابنا جوعٌ شديد حتى أكلنا الخَبَطَ، فسمى جيشَ الخَبَطِ، فنحر رجلٌ ثلاث جزائر، ثمَّ نحر ثلاث جزائر، ثمَّ نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عُبيدة نهاه،

فألقى إلينا البحرُ دابَّةً يقال لها: العنبرُ، فأكلنا منها نصفَ شهر، وادهنا مِن وَدَكها حتى ثَابتْ إلينا أجسامُنا، وصَلُحت، وأخذ أبو عُبيدة ضِلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطولِ رجُل فى الجيش، وأطولِ جملٍ، فحُمِلَ عليه ومرَّ تحتَه، وتزودنا من لحمه وَشَائقَ، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرنا له ذلكَ، فقال : "هُوَ رِزْقٌ أخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَىْءٌ تُطْعِمُونَا"؟، فأرسلنا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكل".
قلتُ: وهذا السياقُ يدل على أن هذه الغزوةَ كانت قبل الهُدنة، وقبلَ عُمرةِ الحُديبية، فإنه مِن حين صالح أهلَ مكة بالحُديبية لم يكن يرصُدُ لهم عِيراً، بل كان زمنَ أمنٍ وهُدنة إلى حين الفتح، ويبعُدُ أن تكون سرية الخَبَطِ على هذا الوجه مرتين: مرة قبل الصُّلح، ومرَّة بعده.. والله أعلم.
فصل: فى فقه هذه القصة
ففيها جوازُ القِتال فى الشَّهرِ الحَرامِ إن كان ذِكْرُ التاريخ فيها برجب محفوظاً، والظاهر والله أعلم أنه وهم غيرُ محفوظ، إذ لم يُحفظ

عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه غزا فى الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعثَ فيه سريَّة، وقد عيَّرَ المشركون المسلمين بقتالهم فى أوَّل رجب فى قصة العلاء بن الحضرمى، فقالُوا: استحلَّ محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ، وأنزل الله فى ذلك: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}[البقرة: 217]، ولم يثبُت نسخُ هذا بنص يجبُ المصيرُ إليه، ولا أجمعتِ الأُمةُ على نسخه، وقد استُدِلَّ على تحريم القِتال فى الأشهر الحُرُم بقوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة: 5]، ولا حُجَّة فى هذا، لأن الأشهر الحُرُم ههنا هى أشهر التسيير الأربعة التى سيَّر الله فيها المشركين فى الأرض يأمنُون فيها، وكان أولها يومَ الحج الأكبر عاشرَ ذى الحِجَّة، وآخِرُها عاشِر ربيع الآخر، هذا هو الصحيحُ فى الآية لوجوه عديدةٍ، ليس هذا موضعها
وفيها: جوازُ أكل ورق الشجر عند المخمَصَةِ، وكذلك عُشْبُ الأرض.
وفيها: جوازُ نهى الإمام وأميرِ الجيش للغُزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجُوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهرهم عِند لقاء عدُوِّهم، ويجب عليهم الطاعةُ إذا نهاهم.
وفيها: جوازُ أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل فى قوله عَزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة: 3]، وقد قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ}[المائدة: 5] ، وقد صحَّ عن أبى بكر الصِّدِّيق، وعبدِ الله بن عباس، وجماعةٍ من الصحابة، أن صيدَ البحر ما صِيد منه، وطعامَه ما مات فيه، وفى السنن: عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ

والجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فالكَبِدُ والطِّحَالُ"حديث حسن، وهذا الموقوف فى حكم المرفوع، لأن قولَ الصحابى: "أُحِلَّ لنا كذا، وحُرِّمَ علينا" ينصَرِفُ إلى إحلال النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحريمه.
فإن قيل: فالصحابةُ فى هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما همّوا بأكلها قالُوا: إنها ميتة، وقالوا: نحنُ رسلُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحنُ مضطرون، فأكلُوا، وهذا دليلٌ على أنهم لو كانوا مستغنين عنها، لما أكلُوا منها.
قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين، ولكن هيأ الله لهم مِن الرزق أطيَبه وأحلَّه، وقد قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بعد أن قَدِمُوا: "هَلْ بَقِىَ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَئ"؟ قالوا: نعم، فأكل منه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "إنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ لَكُم"، ولو كان هذا رِزق مضطر لم يأكل منه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حال الاختيار، ثم لو كان أكلهم منها للضرورة، فكيف ساغَ لهم أن يدَّهِنُوا من وَدَكهَا ويُنجِّسوا به ثيابهم وأبدانَهم، وأيضاً فكثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبعَ مِن الميتة، إنما يُجَوِّزون منها سدَّ الرمق، والسَّرِيَّة أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمِنُوا، وتزوَّدوا منها.
فإن قيل: إنما يتم لكم الاستدلالُ بهذه القصة إذا كانت تلك الدابَّة قد ماتت فى البحر، ثم ألقاها ميتةً، ومن المعلوم، أنه كما يُحتَمَلُ ذلك يُحتمل أن يكون البحرُ قد جَزَرَ عنها، وهىَ حية، فماتت بمُفارقة

الماء، وذلك ذكاتُها وذكاةُ حيوان البحر، ولا سبيلَ إلى دفع هذا الاحتمال، كيف وفى بعض طرق الحديث: "فجَزَرَ البَحْرُ عَنْ حُوتٍ كالظَّرِبِ".
قيل: هذا الاحتمالُ مع بُعده جِداً، فإنه يكاد يكون خرقاً للعادة، فإن مثلَ هذه الدابة إذا كانت حية إنما تكون فى لُجَّةِ البحر وثَبَجِهِ دون ساحِلِه، وما رقَّ منه ودنا من البر، وأيضاً فإنه لا يكفى ذلك فى الحِلِّ، لأنه إذا شك فى السبب الذى مات به الحيوان، هل هو سبب مبيح له أو غير مبيح؟ لم يَحِلَّ الحيوانُ، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصيد يُرمى بالسهم، ثم يُوجد فى الماء: "وإنْ وَجَدْتَّه غَرِيقاً فى المَاء، فلا تأكلْهُ فإنَّكَ لا تَدْرِى الماءُ قَتَلَه أَوْ سهمك"، فلو كان الحيوانُ البحرىُّ حراماً إذا مات فى البحر، لم يُبَحْ، وهذا مما لا يُعلم فيه خلاف بين الأئمة.
وأيضاً فلو لم تكن هذه النصوصُ مع المبيحين، لكان القياسُ الصحيحُ معهم، فإن الميتة إنما حُرِّمَتْ لاحتقان الرُّطوباتِ والفضلاتِ والدمِ الخبيث فيها، والذكاةُ لما كانت تُزيل ذلك الدم والفضلات، كانت سببَ الحِلِّ، وإلا فالموتُ لا يقتضى التحريم، فإنه حاصل بالذكاة كما يحصُلُ بغيرها، وإذا لم يكن فى الحيوان دم وفضلاتٌ تُزيلها الذكاة، لم يَحْرُمْ بالموت، ولم يُشترط لحِلِّه ذكاة كالجراد، ولهذا لا ينجَسُ بالموت ما لا نَفس له سائلة، كالذُّباب والنَّحلة، ونحوهما، والسمكُ من هذا الضرب، فإنه لو كان له دم وفضلات تحتقِن بموته، لم يَحِلَّ لموته بغير ذكاة، ولم يكن فرق بينَ موته فى الماء وموتِه خارجَه، إذ من المعلوم أن موتَه فى البر لا يُذهِبُ تلك الفضلات التى تُحرِّمُه عند المحرِّمين إذا مات فى البحر، ولو لم يكن فى المسألة نصوص، لكان هذا القياسُ كافياً.. والله أعلم.

فصل
وفيها دليل على جواز الاجتهاد فى الوقائع فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإقراره على ذلك، لكن هذا كان فى حال الحاجة إلى الاجتهاد، وعدمِ تمكنهم مِن مراجعة النص، وقد اجتهد أبو بكر، وعمر رضى الله عنهما بينَ يدى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عدةٍ من الوقائع، وأقرَّهُما على ذلك، لكن فى قضايا جزئية مُعيَّنة، لا فى أحكام عامة وشرائع كلية، فإن هذا لم يَقَعْ منْ أحدٍ من الصحابة فى حضوره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البتة.

فصل: فى الفتح الأعظم
الذى أعزَّ اللهُ به دينَه، ورسولَه، وجنده، وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيتَه الذى جعله هُدىً للعالمين مِن أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتحُ الذى استبشر به أهلُ السماءِ، وضربت أطنابُ عِزِّه على مَناكِبِ الجوزاء، ودخل الناسُ به فى دين الله أفواجاً، وأشرق به وجهُ الأرضِ ضِياءً وابتهاجاً، خرج له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتائِبِ الإسلام، وجُنود الرحمن سنةَ ثمانٍ لعشر مَضَيْنَ مِن رمضان، واستعمل على المدينة أبا رُهْمٍ كُلثوم بن حُصين الغِفارى. وقال ابن سعد: بل استعمل عبدَ الله بْنَ أُمِّ مكتوم.
وكان السبب الذى جرَّ إليه، وحدا إليه فيما ذكر إمامُ أهل السير والمغازى والأخبار محمد بن إسحاق بن يسار، أن بنى بَكر بن عبدِ مناة

بن كِنانة عَدَتْ على خُزاعة، وهُمْ على ماءٍ يُقال له: الوتير، فبيَّتُوهم وقتلُوا منهم، وكان الذى هاج ذلك أن رجلاً من بنى الحضرمى يقال له: مالكُ بن عبَّاد خرج تاجراً، فلما توسَّط أرضَ خُزاعة، عَدَوْا عليه فقتلُوه، وأخذُوا مالَه، فعدت بنُو بكر على رجل من بنى خُزاعة فقتلُوه، فعدت خُزاعة على بنى الأسود، وهم سَلْمَى وكُلثوم وذُؤَيْب، فقتلوهُم بِعَرَفة عند أنصاب الحَرَمِ، هذا كُلُّهُ قَبْلَ المبعث، فلما بُعِثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء الإسلام، حجز بينهم، وتشاغلَ الناسُ بشأنه، فلما كان صُلْحُ الحُديبية بينَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينَ قريش، وقع الشرطُ: أنه مَن أحبَّ أن يدخل فى عَقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهدِهِ، فَعَلَ، ومَن أحبَّ أن يدخلُ فى عَقد قريش وعَهدهم، فعل، فدخلت بنو بكر فى عَقد قُريش وعهدهم، ودخلت خُزاعة فى عَقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، فلما استمرَّت الهُدنة، اغتنمها بنو بكر من خُزاعة، وأرادوا أن يُصيبُوا منهم الثأرَ القديم، فخرج نوفلُ بنُ معاوية الدِّيلى فى جماعة مِن بنى بكر، فبيَّت خُزاعة وهم على الوَتير، فأصابُوا منهم رجالاً، وتناوشُوا واقتتلوا، وأعانت قُريش بنى بكر بالسِّلاح، وقاتلَ معهم مِن قريش مَن قاتل مستخفياً ليلاً، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أُمية، وحُويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرز بن حفص، حتى حازوا خُزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل؛ إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال كلمة عظيمة: لا إله لَهُ اليوم، يا بنى بكر أصيبُوا ثأركم، فلعمرى إنكم لتسرِقُون فى الحرم أفلا تُصيبُونَ ثأركُم فيه؟ فلما دَخَلَتْ خُزاعة مكة، لجؤوا إلى دار بُديل بن ورقاء الخُزاعى ودار مولى لهم يقال له: رافع، ويخرج عمرو بن سالم الخُزاعى حتى

قَدِمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فوقف عليه، وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى أصحابه فقال:
ياربِّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدا ... حِلْفَ أَبينَا وَأبيهِ الأتْلَدا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدَاً وكُناوَالِدا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدا
فَانْصُرْ هَداَكَ اللهُ نَصراً أَبَدا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا ... أَبْيَضَ مِثْلَ البدْرِ يَسْمو صُعُدَا
إنْ سِيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فى فَيلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِى مُزْبِدا
إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدا ... ونَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لى فى كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعو أَحدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالوَتِيرِ هُجَّدَا
وَقَتَلُونَا رُكَّعَاً وَسُجَّدَا
يقول: قُتِلْنَا وقَدْ أَسْلَمْنَا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتَ يَا عَمْرو بنَ سالم"، ثم عرضَتْ سحابةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "إنَّ هذه السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بنى كَعْبٍ"، ثم خرج بُديل بنُ ورقاء فى نَفَرٍ من خُزاعة، حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه بما أُصيب منهم، وبمُظَاهَرَةِ قريش بنى بكر عليهم، ثم رجعُوا إلى مكة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس: "كَأَنَّكُم بأَبِى سُفْيانَ، وَقَدْ جَاءَ لِيَشُدَّ العَقْدَ وَيَزِيدَ فى المُدَّة".
ومضى بُديل بنُ ورقاء فى أصحابه حتى لَقُوا أبا سفيان بنَ حرب بعُسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشُدَّ العقدَ، ويزيدَ فى المدة، وقد رَهِبُوا الذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بُديلَ بن ورقاء، قال: من أين

أقبلتَ يا بُديل؟ فظنَّ أنه أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سِرتُ فى خُزاعة فى هذا الساحل، وفى بطن هذا الوادى، قال: أَوَ ما جئتَ محمداً؟ قال: لا، فلما راح بُديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة، لقد علفَ بها النوى، فأتى مَبْرَكَ راحِلته، فأخذ من بعرها، ففتَّه، فرأى فيها النوى، فقال: أحِلفُ باللهِ لقد جاء بُديل محمداً.
ثم خرج أبو سفيان حتى قَدِمَ المدينة، فدخل على ابنتِه أُمِّ حبيبة، فلما ذهب لِيجلس على فِراش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَوَتْهُ عنه، فقال: يا بُنية؛ ما أدرى أَرغبتِ بى عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنى؟ قالت: بل هو فِراشُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت مُشرك نَجَسٌ، فقال: واللهِ لقد أصابك بعدى شر.
ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلَّمه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، ثم ذهبَ إلى أبى بكر، فكلَّمه أن يُكَلَّمَ لَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عُمَرَ بنَ الخطاب فكلَّمه، فقال: أنا أشفعُ لكم إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فواللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به، ثم جاء فدخل على علىٍّ بن أبى طالب، وعنده فاطمَةُ، وحسنٌ غلامٌ يَدِبُّ بين يديهما، فقال: يا علىُّ؛ إنك أمسُّ القومِ بى رحماً، وإنى قد جئتُ فى حاجة، فلا أرْجِعَنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لى إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سُفيان، واللهِ لقد عزم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمر ما نستطيعُ أن نُكَلِّمَه فيه، فالتفتَ إلى فاطمة فقال: هَلْ لَكِ أَنْ تأمُرى ابْنَك هذا، فيجير بينَ الناس،فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: واللهِ ما يبلغُ ابنى ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: يا أبا الحسن؛ إنى أرى الأُمورَ قد اشتدت علىَّ، فانصحنى، قال: واللهِ ما أعلم لك شيئاً يُغنى عنك،

ولكنك سَيدُ بنى كِنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أَوَ ترى ذلك مغنيا عنى شيئاً، قال: لا واللهِ ما أظنه، ولكنِّى ما أجد لك غيرَ ذلك، فقام أبو سفيان فى المسجد فقال: أيها الناس؛ إنى قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئتُ محمداً فكلَّمتُه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ شيئاً، ثم جئتُ ابن أبى قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتُ عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدُو، ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علىَّ بشئ صنعته، فواللهِ ما أدرى، هل يُغنى عنى شيئاً، أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلتُ، فقالُوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلَك، واللهِ إن زاد الرجلُ على أن لعب بك، قال: لا واللهِ ما وجدتُ غير ذلك.
وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناسَ بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يُجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى الله عنها، وهى تُحَرِّكُ بعضَ جهاز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أى بُنيَّة؛ أمركنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتجهيزه؟ قالت: نعم، فتجهز. قال: فأين تَرَيْنَهُ يُريد، قالت: لا والله ما أدرى.
ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، فأمرهم بالجد والتجهيز، وقال: "اللهُمَّ خُذِ العُيُونَ والأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَها فى بِلاَدِهَا"، فتجهز الناسُ.
فكتب حاطِبُ بن أبى بَلْتَعَةَ إلى قُريش كتاباً يُخبرهم بمسيرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تُبلغه قريشاً،

فجعلته فى قُرون فى رأسها، ثم خرجَتْ به، وأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبرُ مِن السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزُبير، وغير ابن إسحاق يقول: بعث علياً والمقداد والزبير، فقال: انطلقا حتَّى تأتيا رَوْضَةَ خاخ، فإنَّ بها ظعينة معها كِتاب إلى قُريش، فانطلقا تَعَادى بهما خَيْلُهما، حتى وجدا المرأةَ بذلك المكانِ، فاستنزلاها، وقالا: معكِ كتابٌ؟ فقالت: ما معى كتاب، ففتشا رَحْلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها على رضى الله عنه: أحِلفُ باللهِ ما كذبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا كذبنا، واللهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أو لنُجَرِّدَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ منه، قالت: أَعْرِضْ، فأعرض، فحلَّت قُرون رأسها، فاستخرجت الكِتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فيه: مِن حاطب ابن أبى بَلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطباً، فقال: ما هذا يا حَاطِبُ؟ فقال: لا تَعْجَل علىَّ يا رسولَ الله، واللهِ إنى لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددتُ، ولا بدَّلْتُ، ولكنى كُنْتُ امرءاً مُلْصَقاً فى قريش لستُ من أنفسهم، ولى فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لى فيهم قرابة، يحمونهم، وكان مَنْ معكَ لهم قراباتٌ يحمونهم، فأحببتُ إذ فاتنى ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتى، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب: دعنى يا رسول الله أضرب عُنُقَهُ، فإنه قد خان اللهَ ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّهُ قَدْ شَهدَ بَدْراً، وما يُدْريكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ الله قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْملُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم" فَذَرَفَتْ عَيْنَا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.

ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُوَ صائم، والناسُ صِيامٌ، حتى إذا كانوا بالكُدَيد وهو الذى تسميه النَّاسُ اليومَ قُدَيْداً أفطرَ وأفطرَ الناسُ معه.
ثم مضى حتى نزلَ مرَّ الظَّهْرَانِ، وهو بطن مَرِّ، ومعه عشرةُ آلاف، وعمَّى اللهُ الأخبارَ عن قريش، فهم على وَجَلِ وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسَّسُ الأخبار، فخرج هو وحكيمُ بنُ حِزام، وبُدَيْلُ بنُ ورقاء يتحسَّسُونَ الأخبار، وكان العبَّاسُ قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجُحْفَةِ، وقيل: فوق ذلك، وكان مِمن لقيه فى الطريق ابنُ عمه أبو سفيان بن الحارث، وعبدُ الله بنُ أبى أُميَّة لقياه بالأبواء، وهما ابن عمِّه وابنُ عمَّته، فأعرض عنهما لِما كان يلقاه مِنهما مِن شِدَّةِ الأذى والهَجْوِ، فقالت له أُمُّ سَلَمة: لا يَكُن ابنُ عمِّكَ وابنُ عمَّتك أشقى الناس بك، وقال علىّ لأبى سفيان فيما حكاه أبو عمر: ائتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَل وجهه، فقل له ما قال إخوةُ يوسف ليوسف: {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف: 91]. فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسنَ منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف: 92]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:
لَعَمْرُك إنِّى حينَ أَحْمِلُ رايةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاَّتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكا لمُدْلِجِ الحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهفَ ... هذَا أوانى حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِى
هَدَانِى هَادٍ غَيْرُ نَفْسِى وَدَلَّنِى ... عَلى اللهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدرَه وقال: "أَنْتَ طَرَّدْتَنِى كُلَّ مُطَرَّدٍ" ،

وحَسُنَ إسلامُه بعد ذلك.
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلم حياءً منه، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحبه، وشهد له بالجنَّة، وقال: "أرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَة "، ولما حضرته الوفاةُ، قال: لا تَبْكُوا علىَّ، فواللهِ ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ
فلما نزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ الظهران، نزله عشاء، فأمر الجيشَ، فأوقدوا النيران، فأُوقِدَت عشرةُ آلاف نار، وجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحَرَس عُمَرَ بنَ الخطَّاب رضى الله عنه، وركب العباسُ بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء، وخرج يلتمِسُ لعله يجد بعضَ الحطَّابة، أو أحداً يُخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخلَها عَنْوَةً، قال: واللهِ إنى لأسير عليها إذ سمعتُ كلامَ أبى سفيان، وبُديل بن ورقاء وهُما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قطُّ ولا عسكراً، قال: يقولُ بدليل: هذه واللهِ خزاعة حَمَشَتْهَا الحَرْبُ، فيقول أبو سفيان: خُزاعة أقلُّ وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكَرها، قال: فعرفتُ صوته، فقلت: أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: أبا الفضل؟ قلتُ: نعم، قال: مالك فِداك أبى وأُمى؟ قال: قلتُ: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس، واصباحَ قُريش واللهِ، قال: فما الحيلةُ فِداك أبى وأُمى؟ قلت: واللهِ لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ، فاركب فى عجزِ هذه البغلة حتى آتىَ

بِكَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأستأمنه لك، فركب خَلْفِى ورجع صَاحِبَاه، قال: فجئتُ به، فكلما مررتُ به على نار من نيران المسلمين، قالوا: مَنْ هذَا؟، فإذا رأَوْا بغلةَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عليها، قالوا: عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته، حتى مررتُ بنارِ عمر بن الخطاب، فقال: مَن هذا؟ وقام إلىَّ، فلما رأى أبا سفيان على عَجزِ الدابة، قال: أبو سفيان عَدُوُّ اللهِ، الحمد للهِ الذى أمْكَنَ مِنْكَ بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحوَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وركضتُ البغلة، فَسَبَقَتْ، فاقتحمتُ عن البغلة، فدخلتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودخل عليه عُمَرُ، فقال: يا رسولَ الله؛ هذا أبو سفيان، فدعنى أَضْرِبْ عنقه، قال: قلتُ: يا رسول الله؛ إنى قد أجرته، ثم جلستُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذتُ برأسه، فقلتُ: واللهِ لا يُناجيه الليلةَ أحد دونى، فلما أكثر عُمَرُ فى شأنه، قلتُ: مهلاً ياعمر، فواللهِ لو كان مِن رجال بنى عدى بْنِ كعب ما قُلْتَ مِثْلَ هذا، قال: مهلاً يا عبَّاسُ، فواللهِ لإسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إلىَّ مِنْ إسْلام الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، ومَا بى إلا أنِّى قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إسْلامَكَ كَانَ أحبَّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطَّاب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ بِهِ يا عبَّاسُ إلى رَحْلِك، فإذا أَصْبَحْتَ فَأتنى به، فذهبتُ فلما أصبحتُ، غدوتُ به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما رآه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله"؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ، وأكرمَكَ، وأوصلَكَ، لقد ظننتُ أن لو كان مع اللهِ إلهٌ غيرُه، لقد أغنى شيئاً بعد، قال: "ويحَكَ يا أبا سفيان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّى رَسُولُ الله"؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ وأكرمَكَ وأوصلَكَ، أما هذه، فإن فى النفس حتى الآن منها شيئاً، فقال له العباس: ويحكَ أسلم، واشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله قبل أن

تُضَرَبَ عُنقُك، فأسلم وشَهِدَ شهادةَ الحق، فقال العباسُ: يا رسولَ اللهِ؛ إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: "نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن".
وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادى عند خَطْمِ الجبلِ حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال: يا عباسُ؛ مَنْ هذه؟ فأقول: سُليم، قال: فيقول: مالى ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباسُ؛ مَنْ هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَة، فيقول: مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال: مالى ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال: سبحان اللهِ با عباس، مَن هؤلاء؟ قال: قلتُ: هذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال: واللهِ يا أبا الفضل؛ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال: قلتُ: يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال: فنعم إذاً، قال: قلتُ: النَّجاء إلى قومك.
وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة، فلما مرَّ بأبى سفيان، قال له: اليَوْم يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً.
فلما حاذى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان، قال: يارسولَ الله؛ ألم تسمعْ ما قال سعد؟ قال: "وما قال"؟، فقال: كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف: يا رسولَ الله؛ ما نأمن أن يكون له فى قُريش صَوْلة، فقال رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً". ثم أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرُجْ عن سعد إذ صار إلى ابنه، قال أبو عمر: ورُوى أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزع منه الراية، دَفَعَها إلى الزبير.
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته: يا معشرَ قُريش ؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت: اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال: ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا: قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك؟ قال: ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد
وسار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل مكة من أعلاها، وضُرِبَتْ له هنالك قُبَّة، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدَ بنَ الوليد أن يدخلها من أسفلها، وكان على المُجَنِّبَةِ اليُمنى، وفيها أسلم، وسُليم، وغِفار، ومُزَيْنَة، وجُهينة، وقبائل مِن قبائل العرب، وكان أبو عُبيدة على الرجالة والحُسًَّرِ، وهم الذين لا سلاح معهم، وقال لخالد ومَن معه: "إن عرضَ لكم أحدٌ من قُريش، فاحصدوهم حصداً حتى تُوافونى على الصَّفا"، فما عرض لهم أحد إلا أنامُوه، وتجمَّع سفهاء قريش وأخِفَّاؤُها مع عِكرمة بن أبى جهل، وصفوان بنِ أُميَّة، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَةِ لِيقاتِلُوا المسلمين، وكان حِمَاسُ

بنُ قيس بن خالد أخو بنى بكر يُعِدُّ سلاحاً قبل دخول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت له امرأتُه: لماذا تُعِدُّ ما أرى؟ قال: لِمحمد وأصحابه، قالت: واللهِ ما يقومُ لِمحمد وأصحابه شىء، قال: إنى واللهِ لأرجو أنْ أُخْدِمَك بعضهم، ثم قال:
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لى عِلَّهْ ... هذا سِلاَحٌ كَاملٌ وألَّهْ
وذُو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلهْ
ثم شهد الخَنْدَمَةَ مع صفوان وعِكرمة وسهيل بن عمرو، فلما لَقِيَهُم المسلمون ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كُرز بن جابر الفهرى، وخُنَيْس بن خالد ابن ربيعة من المسلمين، وكانا فى خيل خالد بن الوليد، فشذَّا عنه، فسلكا طريقاً غيرَ طريقه، فقُتِلا جميعاً، وأُصيبَ من المشركين نحو اثنى عشر رجلاً، ثم انهزموا، وانهزم حِماس صاحبُ السلاح حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقى علىَّ بابى، فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمهْ ... إذْ فَرَّ صَفْوانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيوف المُسْلِمَهْ ... يَقْطَعْنَ كَلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْباً فلا نَسْمَعُ إلاَّ غَمْغَمَهْ ... لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِى فى اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وقال أبو هريرة: أقبل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخل مكة، فبعث الزبيرَ على إحدى المجنبتين، وبعث خالدَ بن الوليد على المجنبةِ الأُخرى، وبعث أبا عُبيدة ابنَ الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادى ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فى كتيبته، قال: وقد وبَّشت قريش أوباشاً لها، فقالوا: نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لِقريش شىء كنا معهم، وإن أُصيبُوا أعطينا الذى سُئِلنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أبا هريرة"، فقلتُ: لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعدَيك، فقال: "اهْتِفْ لى بالأنصارِ، ولا يَأْتِينى إلاَّ أنْصارى" ، فهتف بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَتَروْنَ إلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِم"؟ ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأُخرى: "احْصُدُوهُم حَصْداً حتَّى تُوافُونِى بالصَّفَا"، فانطلقنا، فما يشاءُ أحد منا أن يقتُلَ منهم إلا شاء، وما أحد منهم وجَّه إلينا شيئاً.
ورُكِزَتْ رايةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحَجُونِ عند مسجد الفَتْح.
ثم نهض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرون والأنصار بينَ يديه، وخلفَه وحولَه، حتى دخل المسجِدَ، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طافَ بالبيتِ، وفى يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطْعَنُها بالقوسِ ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]{جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] والأصنامُ تتسَاقَطُ على وجوهها.
وكان طوافُه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذٍ، فاقتصر على الطَّوافِ، فلما أكملهُ، دعا عثمان بنَ طلحة، فأخذ منه مفتاحَ الكعبة، فأمر بها

فَفُتحت، فدخلها فرأى فيها الصَّوَرَ، ورأى فيها صورةَ إبراهيم وإسماعيل يستقسمانِ بِالأزْلاَمِ، فقال: "قَاتَلَهُم اللهُ، واللهِ إن اسْتَقْسما بِها قطُّ".
ورأى فى الكعبة حمامة من عِيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصُّوَرِ فمُحيت.
ثم أغلق عليه البابَ، وعلى أُسامة وبلال، فاستقبل الجِدَارَ الذى يُقابل البابَ، حتى إذا كانَ بينَه وبينَه قدرُ ثلاثةِ أذْرُعٍ، وقف وصلَّى هناك، ثم دار فى البيت، وكبَّر فى نواحيه، ووحَّد الله، ثم فتح البابَ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنَعُ، فأخذَ بعضَادتى الباب، وهم تحتَه، فقال: "لا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، ألا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أوْ مَال أوْ دَم، فَهُو تَحْتَ قَدَمَى هاتين إلاَّ سِدَانة البيْت وسقَايةَ الحَاجِّ، ألا وَقَتْلُ الخَطَأ شِبْهُ العَمْدِ السَّوطُ والعَصا، ففيهِ الدِّيةُ مُغَلَّظَةً مائة مِنَ الإبلِ، أرْبَعُونَ مِنْهَا فى بُطُونِها أوْلادُها، يَا مَعْشَرَ قُرَيْش؛ إنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُم نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعظُّمَها بالآباء، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ"، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعارَفُواْ، إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].
ثم قال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش؛ مَا تَرَوْنَ أنِّى فَاعِلٌ بكم"؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابنُ أخ كريم، قال: "فإنِّى أقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ:

لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم اليَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ".
ثم جلس فى المسجد، فقام إليه علىٌرضى الله عنه، ومفتاحُ الكعبة فى يده، فقال: يا رسول الله؛ اجمَعْ لنا الحِجَابَة مع السِّقَاية صلَّى الله عليك، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَة"؟ فدُعِىَ له،

فقال له: هَاكَ مِفْتَاحَكَ يا عُثْمَانُ، اليَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء".
وذكر ابن سعد فى "الطبقات" عن عثمان بن طلحة، قال: كنا نفتحُ الكعبةَ فى الجاهلية يومَ الاثنين، والخميس، فأقبلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً يُريد أن يدخُلَ الكعبة مع الناس، فأغلظتُ له، ونِلتُ منه، فحلمَ عنِى، ثم قال: "يا عثمانُ؛ لعلَّك سترى هذا المِفتاح يوماً بيدى أضعهُ حيث شِئْتُ"، فقلتُ: لقد هلكت قريشٌ يومئذ وذلَّت، فقال: "بل عَمَرَتْ وعزَّتْ يومئذ"، ودخل الكعبة، فوقعت كلمتُه منى موقِعاً ظننتُ يومئذ أن الأمرَ سيصيرُ إلى ما قال، فلما كان يومُ الفتح، قال: يا عثمان؛ ائتنى بالمفتاح، فأتيتُه به، فأخذه منِّى، ثم دفعه إلىَّ وقال: "خُذُوها خَالِدَةً تَالِدَةً لا يَنْزِعُها مِنْكُم إلاَّ ظَالِمٌ، يا عُثمانُ؛ إنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُم عَلَى بَيْتهِ، فَكُلُوا مِمَّا يَصِلُ إلَيْكُم مِنْ هذا البَيْت بالمَعْرُوف"، قال: فلما ولَّيتُ، نادانى، فرجَعْتُ إليه فقال: "أَلَمْ يَكُنِ الَّذى قُلْتُ لَكَ"؟ قال: فذكرتُ قوله لى بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح بيدى أضعه حيث شِئتُ"، فقلتُ: بلَى أَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ الله.
وذكر سعيدُ بن المسيِّب أن العباس تطاولَ يومئذٍ لأخذ المفتاح فى رجال من بنى هاشم، فردَّه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عثمان بن طلحة.
وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلالاً أن يصعَد فيؤذِّنَ على الكعبة، وأبو سفيان بنُ حرب، وعتَّابُ بنُ أسيد، والحارثُ بنُ هِشام، وأشرافُ قريش جُلوسٌ بِفِناء الكعبة، فقال عتَّاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سَمِعَ هذا، فيسمعَ منه ما يُغِيظُه، فقال الحارث: أما واللهِ لو أعلم أنه حقٌ لاتبعته،

فقال أبو سفيان: أما واللهِ لا أقول شيئاً، لو تكلمتُ، لأخبرت عنى هذه الحصباءُ، فخرج عليهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: "قَدْ عَلِمْتُ الَّذِى قُلْتُم" ، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنكَ رسول الله، واللهِ ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك
فصل
ثم دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دارَ أُمِّ هانئ بنت أبى طالب، فاغتسل، وصلَّى ثمانَ ركعات فى بيتها، وكانت ضُحَىً، فظنها مَن ظنها صلاةَ الضحى، وإنما هذه صلاةُ الفتح، وكان أُمراءُ الإسلام إذا فتحوا حِصناً أو بلداً، صلَّوْا عَقِيبَ الفتح هذه الصلاةَ اقتداءً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفى القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكراً لله عليه، فإنها قالت: ما رأيتُه صلاها قبلَها ولا بعدَها.
وأجارت أُم هانئ حَمَوَيْنِ لهَا، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هانئ".

فصل
ولما استقر الفتح، أمَّنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كُلَّهُم إلا تسعة نَفَر، فإنه أمر بقتلهم،وإن وُجِدُوا تحتَ أستارِ الكعبةِ، وهم عبدُ الله بن سعد بن أبى سَرْح، وعِكْرِمةُ بن أبى جهل، وعبد العُزَّى بن خَطَل، والحارثُ بنُ نُفيل ابن وهب، ومَقِيس بن صُبابة، وهَبَّار بن الأسود، وقينتان لابن خَطَل، كانتا تُغَنِّيان بهجاءِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسارةُ مولاةٌ لبعض بنى عبد المطلب.
فأما ابنُ أبى سَرْح فأسلم، فجاء به عثمانُ بن عفان، فاستأمن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقومَ إليه بعضُ الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك، وهاجر، ثم ارتدَّ، ورجع إلى مكة.
وأما عِكرمةُ بنُ أبى جهل، فاستأمَنَت له امرأتُه بعد أن فرَّ، فأمَّنه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ وأسلم وحَسُنَ إسلامه.
وأما ابنُ خَطَل، والحارث، ومَقِيس، وإحدى القَينتين، فقُتِلُوا، وكان مقيسٌ، قد أسلم، ثم ارتدَّ وقَتَلَ، ولَحِقَ بالمشركين، وأما هَبَّار بن الأسود، فهو الذى عرض لزينبَ بنتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هاجرت، فنخَس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينَها، ففرَّ، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه.
واستؤمن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسارة ولإحدى القَينتين، فأمَّنَهُمَا فأسلمتا.
فلما كان الغدُ مِن يوم الفتح، قامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الناس خطيباً،

فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عليه، ومجَّده بما هُوَ أهلُه، ثم قال: "يا أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فهى حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أنْ يَسْفِكَ فيها دَماً أوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقولوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، ولَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإنَّمَا حَلَّتْ لى سَاعَةً مِنْ نَهارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كحُرْمَتِهَا بالأمْس، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائبَ".
ولما فتح اللهُ مكة على رسوله، وهى بلدُه، ووطنُه، ومولدُه، قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ فتحَ الله عليه أرضَه وبلدَه أن يُقيمَ بها، وهو يدعو على الصفا رافِعاً يديه؟ فلما فرغ من دُعائه، قال: "ماذا قلتم"؟ قالوا: لا شىء يا رسولَ الله، فلم يَزَلْ بهم حتَّى أخبروه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَعَاذَ الله، المحْيَا مَحياكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم".
وهمَّ فَضَالةُ بن عُمير بن الملِّوح أن يقتُلَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفَضَالة"؟ قال: نعم فَضَالة يا رسولَ الله، قال: "ماذا كنتَ تُحَدِّثُ به نفسَك"؟ قال: لا شىء، كنتُ أذكر الله، فَضَحِكَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "اسْتَغْفِرِ الله"، ثم وضع يده

على صدره، فسكن قلبُه، وكان فَضَالة يقول: واللهِ ما رَفَعَ يدَه عن صدرى حتى ما خَلَقَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلىَّ منه، قال فَضَالة: فرجعتُ إلى أهلى، فمررتُ بامرأة كنتُ أتحدث إليها، فقالت: هلمَّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فَضَالة يقول:
.قَالَتْ هَلُمَّ إلى الحَدِيثِ فَقُلْتُ لا ... يأْبَى عَلَيْك اللهُ والإسْلامُ
لَوْ قدْ رَأَيْتِ مُحَمَّداً وقَبِيلهُ ... بِالفَتْحِ يَوْم َ تُكَسَّرُ الأصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّناً ... والشِّرْكُ يَغْشِى وَجْهه الإظْلامُ
وفرَّ يومئذ صفوانُ بن أُميَّة، وعِكرمةُ بنُ أبى جهل، فأما صفوانُ، فاستأمن له عُميرُ بن وهب الجُمَحى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمَّنه وأعطاه عِمامته التى دخل بها مكة، فلحقه عميرٌ وهو يُريدُ أن يركب البحر فردَّه،فقال: اجعلنى فيه بالخيار شهرين، فقال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.
وكانت أُمُّ حكيم بنتُ الحارث بن هشام تحتَ عِكرمة بن أبى جهل، فأسلمت، واستأمنت له رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمَّنه فَلَحِقَتْ بِهِ باليمن، فأمَّنته فردَّته، وأقرهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وصفوان على نكاحهما الأول.
ثم أمرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تميم بن أسيد الخُزاعى فجدَّد أنصاب الحرم.
وبثَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سراياه إلى الأوثان التى كانت حولَ الكعبة، فكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنها اللات والعُزَّى، ومنَاةُ الثالثةُ الأُخرى، ونادى منادِيهِ بمكة: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلا يَدَعْ فى بَيْتِهِ صَنماً إلا كسَره"

فبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى لِخمس ليال بقينَ من شهر رمضان ليهدمها، فخرج إليها فى ثلاثين فارساً مِن أصحابِهِ حتَّى انْتَهَوا إليها، فهدمها ثم رجع إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال: "هَلْ رَأَيْتَ شَيْئاً"؟ قال: لا، قال: "فإنَّك لم تَهْدِمْهَا فارْجِعْ إليها فاهدِمْهَا"، فرجع خالد وهو متغيِّظ فجرَّد سيفَه، فخرجت إليه امرأة عجوز عُريانة سوداءُ ناشرة الرأس، فجعل السَّادِنُ يصيحُ بها، فضربها خالد فجزلَها باثنتين، ورجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال: "نَعَمْ تِلْكَ العُزَّى، وقَدْ أَيِسَتْ أنْ تُعْبَدَ فى بِلادِكُمْ أَبَداً" وكانت بنخلة، وكانت لِقريش وجميعِ بنى كِنانة، وكانت أعظمَ أصنامِهم، وكان سدنتُها بنى شيبان.
ثم بعثَ عَمْرَو بن العاص إلى سُواع، وهو صنم لهُذَيْل ليهدمه، قال عَمْرو: فانتهيتُ إليه وعنده السَّادِن، فقال: ما تُريد؟ قلتُ: أمرنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أهْدِمَه، فقال: لا تَقدِرُ على ذلك، قلت: لِمَ؟ قالت: تُمنع. قلتُ: حتَّى الآن أنت عَلى الباطِل، ويحك، فهل يَسْمَعُ أو يُبْصِرُ؟، قال: فدنوتُ منه فكسرتُه، وأمرتُ أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم نجدْ فيه شيئاً، ثم قلتُ للسَّادِن:كيف رأيتَ؟ قال: أسلمتُ لله.
ثم بعثَ سعد بن زيد الأشهلى إلى مَنَاة، وكانت بالمُشَلَّل عند قُديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فخرج فى عشرين فارساً حتى انتهى إليها وعندها سادِنٌ، فقال السَّادِنُ: ما تُريدُ؟ قلتُ: هَدْمَ مَنَاة، قال: أنتَ

وذاك، فأقبل سعدٌ يمشى إليها، وتخرُج إليه امرأة عُريانة سوداءُ، ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتَضْرِبُ صدرَها، فقال لها السَّادِنُ: مَنَاة؛ دونك بعضَ عُصاتك، فضربها سعد فقتلَها، وأقبل إلى الصنم، ومعه أصحابه فهدمه، وكسروه، ولم يجدوا فى خزانته شيئاً.
ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة
قال ابنُ سعد: ولما رجع خالدُ بن الوليد من هَدْم العُزَّى، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيمٌ بمكة، بعثه إلى بنى جُذيمةَ داعياً إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج فى ثلاثمائة وخمسين رجلاً مِن المهاجرين والأنصار وبنى سُليم، فانتهى إليهم، فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلَّينا وصدَّقنا بمحمد وبنينا المساجدَ فى ساحتنا، وأذَّنا فيها، قال: فما بالُ السلاح عليكم؟ قالوا: إن بينَنا وبَيْنَ قومٍ من العرب عداوةً، فخِفنا أن تكونُوا هم، وقد قيل: إنهم قالوا صبأنا، ولم يُحسِنُوا أن يقولُوا: أسلمنا، قال: فضعُوا السلاح، فوضعُوه، فقال لهم: استأسِرُوا، فاستأسرَ القومُ، فأمر بعضَهم فكتف بعضاً، وفرَّقهم فى أصحابه، فلما كان فى السَّحَر، نادى خالدُ بن الوليد: مَن كان معه أسيرٌ، فليضرِبْ عُنُقَه، فأما بنو سُليم فقتلُوا مَن كان فى أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أسراهم، فبلغ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صنع خالِدٌ، فقال: "اللهُمَّ إنِّى أبْرأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" ، وبعث علياً يُودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم.

وكان بين خالدٍ وعبدِ الرحمن بن عَوْف كلامٌ وشرٌ فى ذلك، فبلغ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مَهْلاَ يَا خَالدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِى فَوَاللهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَباً ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فى سَبِيلِ اللهِ مَا أدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِى وَلا رَوْحَتَه".
فصل
وكان حسَّانُ بن ثابت رضى الله عنه قد قال فى عُمْرة الحُديبية:
عَفَتْ ذَاتُ الأَصَابعِ فالجِوَاءُ ... إلى عَذْراءَ مَنْزِلُها خَلاَءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِى الحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفِّيها الرَّوَامِسُ والسَّماءُ
وكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وشَاءُ
فَدَعْ هذَا ولكِن مَنْ لِطَيفٍ ... يُؤَرِّقُنِى إذَا ذَهَبَ العِشَاءُ
لشَعْثَاءَ الَّتى قَدْ تَيَّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبَهِ مِنْهَا شِفَاءُ

كَأنَّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا ما الأشْرِباتُ ذُكِرْنَ يَوْمَاً ... فَهُنَّ لِطَيِّبِ الرَّاحِ الفِداءُ
نُوَلِّيها المَلاَمَةَ إن أَلَمْنا ... إذَا مَا كَانَمَغْثٌ أَو لحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا مُلُوكاً ... وَأُسْداً مَا يُنَهْنِهُنا اللِّقَاءُ
عدِمْنَا خَيْلَنَاإنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كدَاءُ
يُنَازِعْنَ الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسَلُ الظِّمَاءُ
تَظَلُّ جِيادُنَا مُتمَطِّراتٍ ... تُلَطِّمُهُنَّ بِالخُمُرِ النِّسَاءُ
فَإمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الفَتْحُ وانْكَشَفَ الغِطَاءُ
وَإلاَّ فَاصْبِرُوا لجِلاد يَوْمٍ
... يُعِزُّ اللهُ فِيه مَنْ يَشَاءُ

وَجِبْريلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا ... وَرُوحُ القُدْس لَيْس لَهُكِفَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ أرْسَلْتُ عَبْداً ... يَقُولُ الحَقَّ إنْ نَفَعَ البلاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُوموا صدِّقوهُ ... فَقُلْتُمْ لاَ نَقُومُ ولا نَشَاءُ
وَقَالَ اللهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْداً ... هُمُ الأنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنَا فى كُلّ ِ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالقَوَافِى مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّماءُ
أَلا أَبْلِغْ أبَا سُفْيانَ عَنِّى ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الخَفَاءُ
بِأَنَّ سَيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدا ... وَعَبْدُ الدَّارِ سادَتُهَا الإمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدا ً فأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللهِ فى ذَاكَ الجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَاالفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَاركاً بَرّاً حَنِيفاً ... أَمِينَ اللهِ شِيمَتُهُ الوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُه سَوَاءُ

فإنَّ أبى وَوَالِدَه ُ وعِرْضِى ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقاءُ
لِسَانِى صَارِمٌ لاَ عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِى لا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ
فصل: فى الإشارة إلى ما فى الغزوة من الفقه واللَّطائف
كان صلحُ الحديبية مقدِّمةً وتوطئة بينَ يدى هذا الفتح العظيم، أَمِنَ الناسُ به، وكلَّم بعضُهم بعضاً وناظره فى الإسلام، وتمكن مَن اختفى مِن المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوةِ إليه، والمناظرةِ عليه، ودخل بسببه بَشَرٌ كثيرٌ فى الإسلام، ولهذا سمَّاه الله فتحاً فى قوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}[الفتح: 1]، نزلت فى شأن الحُديبية، فقال عمر: يا رسول الله ؛ أَوَ فتحٌ هو؟ قال: "نعم". وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحاً، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}إلى قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}[الفتح: 27] وهذا شأنه سبحانه أن يُقدِّم بين يدى الأُمور العظيمة مقدِّماتٍ تكونُ كالمدخل إليها، المنبهة عليها، كما قدَّم بين يدى قصة المسيح وخلقه مِن غير أب، قِصة زكريا، وخلقِ الولد له مع كونه كبيراً لا يُولد لمثله، وكما قدَّم بين يدى نسخ القِبْلة قصةَ البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه بِه، وذِكْر بانيه، وتعظِيمهِ، ومدحه، ووطأ قبل ذلك كُلِّه بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقُدرته الشاملة له، وهكذا ما قدَّم بين يدى مبعث رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قصة الفيل،

وبِشارات الكُهَّان به، وغير ذلك، وكذلك الرُّؤيا الصالحة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت مقدِّمةً بين يدى الوحى فى اليقظة، وكذلك الهِجرة كانت مقدِّمةً بين يدى الأمر بالجهاد، ومَن تأمل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تَبْهَرُ حِكمتُه الألبابَ.
فصل
[فى أن أهل العهد إذا حاربوا مَن هم فى ذِمَّة الإمام وجواره وعهده يصيرون حرباً له بذلك]
وفيها: أن أهل العهد إذا حاربُوا مَن هم فى ذمة الإمام وجواره وعهده، صارُوا حرباً له بذلك، ولم يبق بينهم وبينه عهدٌ، فله أن يُبَيِّتَهم فى ديارهم، ولا يحتاجُ أن يُعلِمَهُمْ على سواء، وإنما يكون الإعلامُ إذا خاف منهم الخيانَة، فإذا تحقَّقها، صاروا نابذين لعهده.
فصل
وفيها: انتقاضُ عهد جميعهم بذلك، رِدْئهم ومُباشِرِيهم إذا رضُوا بذلك، وأقرُّوا عليه ولم يُنكروه، فإن الذين أعانُوا بنى بكر مِن قُريش بعضُهم، لم يُقاتِلُوا كُلُّهم معهم، ومع هذا فغزاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّهم، وهذا كما أنهم دخلوا فى عقد الصلح تبعاً، ولم ينفرِدْ كلُّ واحد منهم بصُلح، إذ قد رَضُوا به وأقرُّوا عليه، فكذلك حُكم نقضهم للعهد، هذا هَدْىُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى لا شك فيه كما ترى.
وطردُ هذا جريانُ هذا الحكمِ على ناقضى العهد مِن أهل الذِّمة إذا رضى جماعتُهم به، وإن لم يُباشر كُلُّ واحد منهم ما ينقُضُ عهده، كما

أجلى عُمَرُ يهودَ خيبر لما عدا بعضُهم على ابنه، ورَمَوْه مِن ظهر دار فَفَدَعُوا يده، بل قد قتل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميع مقاتلة بنى قُريظة، ولم يسأل عن كل رجل منهم: هل نقض العهد أم لا؟ وكذلك أجلى بنى النَّضير كُلَّهم، وإنما كان الذى هَمَّ بالقتل رجلان، وكذلك فعلَ ببنى قَيْنُقَاع حتى استوهبهم منه عبدُ الله ابن أُبَىّ، فهذه سيرتُه وهَدْيُه الذى لا شك فيه، وقد أجمع المسلمون على أن حكم الرِّدء حكمُ المباشِرِ فى الجهاد، ولا يُشترط فى قسمة الغنيمة، ولا فى الثواب مباشرةُ كل واحدٍ واحدٍ القتال.
وهذا حكمُ قُطَّاع الطريق، حكمُ ردئهم حكمُ مباشرهم، لأن المباشِرَ إنما باشر الإفساد بقوة الباقين، ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه، وهذا هو الصوابُ الذى لا شك فيه، وهو مذهبُ أحمد،ومالك،وأبى حنيفة، وغيرهم.
فصل
وفيها: جوازُ صلح أهلِ الحرب على وضع القِتال عشرَ سنين، وهل يجوزُ فوق ذلك؟ الصواب: أنه يجوزُ للحاجة والمصلحة الراجِحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعفٌ وعدوُّهم أقوى منهم، وفى العَقد لِما زاد عن العشر مصلحةٌ للإسلام.
فصل
وفيها: أن الإمام وغيرَه إذا سُئل ما لا يجوز بذلُه، أو لا يجبُ،

فسكت عن بذله، لم يكن سكوتُه بذلاً له، فإن أبا سفيان سأل رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجديدَ العهد، فسكتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجبه بشئ، ولم يكن بهذا السكوتِ معاهِداً له.
فصل
وفيها: أن رسولَ الكفار لا يُقتل، فإن أبا سفيان كان ممن جَرَى عليه حُكْمُ انتقاضِ العهد، ولم يقتُلْه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان رسولَ قومه إليه.
فصل
وفيها: جوازُ تبييتِ الكفار، ومُغافَضَتُهم فى ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوةُ، وقد كانت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبيِّتُون الكفَّار، ويُغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوتُه.
فصل
وفيها: جوازُ قتل الجاسوسِ وإن كان مسلماً لأن عمر رضى الله عنه سأل رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلَ حاطب بن أبى بَلتعةَ لما بعثَ يُخبر أهلَ مكة بالخبر، ولم يقل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَحِلُّ قتله إنه مسلم، بل قال: "ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم" فأجاب بأن فيه مانعاً من قتله، وهو شهودهُ بدراً، وفى الجواب بهذا كالتنبيه على جواز

قتل جاسوسٍ ليس له مِثْلُ هذا المانع، وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، وقال الشافعى وأبو حنيفة: لا يُقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب، والصحيح: أن قتله راجع إلى رأى الإمام، فإن رأى فى قتله مصلحة للمسلمين، قتله، وإن كان استبقاؤه أصلحَ، استبقاه.. والله أعلم.
فصل
وفيها: جوازُ تجريدِ المرأة كُلِّها وتكشيفها للحاجة والمصلحةِ العامة، فإن علياً والمقداد قالا للظعينة: لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لنكْشِفَنَّك، وإذا جاز تجريدُها لحاجتها إلى حيث تدعو إليها، فتجريدُها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى.
فصل
وفيها: أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاقِ والكُفْرِ متأوِّلاً وغضباً للهِ ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفُر بذلك، بل لا يأثمُ به، بل يُثاب على نيِّته وقصده، وهذا بِخِلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يُكفِّرون ويُبدِّعُون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفَّروه وبدَّعوه.
فصل
وفيها: أن الكبيرةَ العظيمَةَ مما دون الشركِ قد تُكَفَّرُ بالحسنةِ الكبيرةِ

الماحية، كما وقع الجَسُّ مِن حاطب مكفَّراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنةُ العظيمةُ مِن المصلحة، وتضمنتهُ مِن محبة الله لها ورضاه بها، وفرحِه بها، ومباهاتِه للملائكة بفاعلها، أعظمُ مما اشتملت عليه سيئةُ الجسِّ مِن المفسدة، وتضمَّنَتْهُ مِن بغضِ الله لها، فغلب الأقوى على الأضعفِ، فأزاله، وأبطل مقتضاه، وهذه حكمةُ الله فى الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبينِ لصحةِ القلب ومرضه، وهى نظيرُ حكمته تعالى فى الصحة والمرضِ اللاحِقين للبدن، فإن الأقوى منهما يَقْهَرُ المغلوبَ، ويصير الحكمُ له حتى يذهبَ أثرُ الأضعف، فهذه حِكمتُه فى خلقه وقضائه، وتلك حِكمته فى شرعه وأمره.
وهذا كما أنه ثابت فى محو السيئاتِ بالحسنات، لقوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: 14]. وقوله تعالى: {إن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: 31]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأتبع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها" ، فهوثابت فى عكسه لقوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}[البقرة: 264]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]. وقول عائشة، عن زيد ابن أرقم أنه لما باع بالعينة: "إنَّه قد أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ أَنْ يَتُوبَ".

وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث الذى رواه البخارى فى "صحيحه": "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ "... إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافُع الحسناتِ والسيئات، وإبطالِ بعضها بعضاً، وذهابِ أثر القوى منها بما دونَه، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط.
وبالجملة.. فقوة الإحسان ومرضُ العصيان متصاولان ومتحاربان، ولهذا المرض مع هذه القوة حالةُ تزايد وترام إلى الهلاك، وحالةُ انحطاط وتناقص، وهى خيرُ حالات المريض، وحالةُ وقوف وتقابل إلى أن يقهرَ أحدُهما الآخر، وإذا دخل وقتُ البُحران وهو ساعة المناجزة، فحظُّ القلب أحدُ الخطتين: إما السلامةُ وإما العطبُ، وهذا البُحران يكونُ وقتَ فعلِ الواجبات التى تُوجِبُ رِضَى الربِّ تعالى ومغفرتَه، أو تُوجبُ سُخْطَه وعقوبَته، وفى الدعاء النبوى: "أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ"، وقال عن طلحة يومئذ: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ"،

ورُفِع إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ وقالوا: يا رسولَ الله؛ إنه قد أوجب، فقال: "أَعْتِقُوا عَنْهُ ". وفى الحديث الصحيح "أَتَدْرُونَ مَا المُوجِبتَان"؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الجَنَّة، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّار"، يريد أن التوحيد والشِّرك رأس الموجبات وأصلها، فهما بمنزلة السمِّ القاتِل قطعاً، والترياق المنجى قطعاً.
وكما أن البدن قد تَعْرِضُ له أسبابٌ رديئة لازمة تُوهِنُ قوَّته وتُضعِفُها، فلا ينتفعُ معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة، بل تُحيلُها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوَّتها، فلا يزدادُ بها إلا مرضاً، وقد تقومُ به موادٌ صالحة وأسبابٌ موافِقة تُوجِبُ قوَّتَه، وتُمَكِّنُه مِن الصحة وأسبابها، فلا تكادُ تضرُّه الأسبابُ الفاسِدةُ، بل تُحيلها تلك الموادُّ الفاضلة إلى طبعها، فهكذا موادُّ صحة القلبِ وفسادِه.
فتأمل قوة إيمانِ حاطب التى حملته على شهودِ بدر، وبذلِه نفسَه مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيثارِهِ اللهَ ورسولَه على قومه وعشيرتهِ وقرابتهِ وهم بين ظهرانى العدُوِّ، وفى بلدهم، ولم يَثْنِ ذلكَ عِنَانَ عزمِه، ولا فَلَّ مِن حَدِّ إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهلُه وعشيرته وأقاربُه عندهم، فلما جاء مرضُ الجسِّ، برزت إليه هذه القوةُ، وكان البُحرانُ صالحاً، فاندفع المرض، وقام المريض، كأن لم يكن به قَلبَةٌ، ولما رأى الطبيبُ قوةَ

إيمانه قد استعلت على مرض جَسِّه وقهرته، قال لمن أراد فصده: لا يحتاجُ هذا العارض إلى فصاد، "ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهل بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفرْتُ لَكُم".
وعكس هذا ذو الخُويصِرَة التميمى وأضرابه مِن الخوارج الذين بلغ اجتهادُهم فى الصلاةِ والصِّيَامِ والقراءة إلى حد يَحْقِرُ أحدُ الصحابة عملَه معه كيف قال فيهم: "لَئِنْ أدْركْتُهُم لأَقْتَلَنَّهُم قَتْلَ عَادٍ"، وقال: "اقْتُلُوهُم فإنَّ فى قَتْلِهِمْ أَجْرَاً عِنْدَ اللهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ". وقال: "شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ"، فلم ينتفِعُوا بتلك الأعمال العظيمةِ مع تلك المواد الفاسدة المهلكةِ واستحالت فاسدةً.
وتأمَّل فى حال إبليس لما كانت المادةُ المهلكة كامنة فى نفسه، لم ينتفعْ معها بما سَلَف مِن طاعاته، ورجع إلى شاكلته وما هُوَ أولى به، وكذلك الذى آتاه اللهُ آياتِه، فانسلخَ مِنها، فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، فكان مِن الغاوين وأضرابُه وأشكالُه، فالمعوَّلُ على السرائر والمقاصد والنِّياتِ والهِمم، فهى الإكسير الذى يَقْلِبُ نحاسَ الأعمال ذهباً، أو يرُدُّهَا خَبَثَاً... وبالله التوفيق.
ومَن له لُبٌ وعقل، يعلم قَدْرَ هذِهِ المسألة وشِدَّةَ حاجته إليها، وانتفاعه بها، ويطَّلِعُ منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته فى خلقه، وأمره، وثوابِه، وعِقابه، وأحكامِ الموازنة، وإيصالِ اللَّذة والألم إلى الروح والبدن فى المعاش والمعاد، وتفاوتِ المراتب فى ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائمٌ على كُلِّ نفس بما كسبت.

فصل
وفى هذه القصة جوازُ مباغتة المعَاهَدِينَ إذا نقضُوا العهد، والإغارةُ عليهم، وألا يُعلمهم بمسيره إليهم، وأما ما داموا قائمين بالوفاء بالعهد، فلا يجوزُ ذلك حتى يَنْبِذَ إليهم على سواء
فصل
وفيها:جواز بل استحباب كثرة المسلمين وقوتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدوِّ إذا جاؤوا إلى الإمام كما يفعل ملوك الإسلام، كما أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيقاد النيران ليلة الدخول إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان عند خطم الجبل، وهو ما تضايق منه حتى عُرِضت عليه عساكر الإسلام، وعصابة التوحيد وجند الله، وعُرِضت عليه خاصِكية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم فى السلاح لا يُرى منهم إلا الحدق، ثم أرسله، فأخبر قريشاً بما رأى.
فصل
وفيها: جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام، كما دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف أنه لا يدخلها مَن أراد الحج أو العُمْرة إلا بإحرام، واختُلِفَ فيما سوى ذلك إذا لم يكن

الدخولُ لحاجة متكررة، كالحشَّاشِ والحطَّاب، على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يجوزُ دخولُها إلا بإحرام، وهذا مذهبُ ابنِ عباس رضى الله عنه، وأحمد فى ظاهر مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه.
والثانى: أنه كالحشَّاشِ والحطَّاب، فيدخُلها بغير إحرام، وهذا القولُ الآخر للشافعى، ورواية عن أحمد.
والثالث: أنه إن كان داخِلَ المواقيت، جاز دخولُه بغير إحرام، وإن كان خارجَ المواقيت، لم يدخُلْ إلا بإحرام، وهذا مذهب أبى حنيفة وهَدْىُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلومٌ فى المجاهد، ومريدِ النُّسك، وأما مَنْ عداهما فلا واجبَ إلا ما أوجبه اللهُ ورسولُه، أو أجمعت عليه الأُمةُ.
فصل
وفيها البيانُ الصريح بأن مكة فُتِحَتْ عَنْوَةً كما ذهب إليه جمهورُ أهل العلم، ولا يُعرف فى ذلك خلاف إلا عن الشافعى وأحمد فى أحد قوليه، وسياق القصة أوضحُ شاهد لمن تأمله لقول الجمهور، ولمَّا استهجن أبو حامد الغزالى القول بأنها فُتِحَتْ صلحاً، حكى قول الشافعى أنها فُتِحَتْ عَنوة فى "وسيطه"، وقال: هذا مذهبُه.
قال أصحاب الصلح: لو فتحت عَنوة، لقسمها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الغانمين كما قسم خَيْبَر، وكما قسم سائر الغنائم مِن المنقولات، فكان يُخمسها ويَقْسِمُها، قالوا: ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم، فأمَّنهم،كان هذا عقد صلح معهم، قالوا: ولو فُتِحَتْ عَنوة، لملكَ==

4.   زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى : 751هـ)

الغانمون رباعها ودورَها، وكانوا أحقَّ بها مِن أهلها، وجاز إخراجهم منها، فحيثُ لم يحكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها بهذا الحُكم، بل لم يَرُدَّ على المهاجرين دُورَهُم التى أُخْرِجُوا منها، وهى بأيدى الذين أخرجوهم، وأقرَّهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها، والانتفاع بها، وهذا مناف لأحكام فتوح العَنوة، وقد صرَّح بإضافة الدُور إلى أهلها، فقال: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ، فَهُوَ آمِنٌ".
قال أرباب العَنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيَّد بدخول كُلِّ واحد داره، وإغلاقِه بابه، وإلقائه سلاحه فائدة، ولم يُقاتِلْهم خالدُ بن الوليد حتى قتل منهم جماعة، ولم يُنكر عليه، ولَمَا قَتَلَ مَقيسَ بن صُبابة، وعبدَ الله بن خَطَلٍ ومَن ذُكِرَ معهما، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع، لاستثنى فيه هؤلاء قطعاً، ولنقل هذا وهذا، ولو فُتِحَتْ صُلحاً، لم يُقاتِلْهم، وقد قال: "فإنْ أحَدٌ ترخَّصَ بقتال رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ"، ومعلوم أن هذا الإذن المختصَّ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو الإذن فى القتال لا فى الصلح، فإن الإذن فى الصلح عام.
وأيضاً فلو كان فتحُها صلحاً، لم يقل: إن الله قد أحلَّها له ساعةً من نهار، فإنها إذا فُتِحَت صُلحاً كانت باقية على حُرْمتها، ولم تخرج بالصُّلْح عن الحُرْمة، وقد أخبر بأنها فى تلك الساعة لم تكن حراماً، وأنها بعد انقضاء ساعة الحربِ عادت إلى حُرْمتها الأُولى.
وأيضاً فإنها لو فُتِحَتْ صُلحاً لم يعبئْ جيشه: خيالَتهم ورجالَتهم مَيمنةً ومَيسرة، ومعهم السِّلاح، وقال لأبى هريرة: "اهتِفْ لى بالأنصَارِ"، فهتفَ بهم، فجاؤوا، فأطافُوا برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَتَروْنَ إلى أوْبَاشِ قُرَيْش وأتْبَاعِهِمْ"، ثم قال بيديه إحداهما على الأُخرى: "احْصُدُوهُمْ

حَصْدَاً حَتَّى توافُونى عَلَى الصَّفَا" ، حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله ؛ أُبيحت خضراءُ قريش، لا قريشَ بعد اليوم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ، فَهُوَ آمِنٌ ". وهذا محال أن يكون مع الصلح، فإن كان قد تقدَّم صلح وكَلاَّ فإنه ينتقِضُ بدون هذا.
وأيضاً فكيف يكون صلحاً، وإنما فُتِحت بإيجاف الخيلِ والرِّكاب، ولم يَحبِسِ اللهُ خيلَ رسوله ورِكابه عنها، كما حبسها يومَ صُلح الحُدَيبية، فإن ذلكَ اليوم كان يوم الصلح حقاً، فإن القَصواء لما بركت به، قالوا: خَلأَتِ القَصْوَاءُ، قال: "ما خلأت وما ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ"، ثم قال: "واللهِ لاَ يَسْأَلُونى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فًيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُماتِ الله إلاَّ أَعْطَيْتُهُمُوهَا".
وكذلك جرى عقدُ الصلح بالكتاب والشهود، ومحضر ملإٍ من المسلمين والمشركين، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة، فجرى مثلُ هذا الصلح فى يومِ الفتح، ولا يُكتب ولا يُشهد عليه، ولا يحضُرُه أحد، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه، هذا مِن الممتنع البيِّنِ امتناعه، وتأمل قوله: "إن اللهَ حَبَسَ عَنْ مكَّةَ الفيلَ، وسلَّط عليها رسولَه والمؤمنين"، كيف يُفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذى كان يدخُلها عليهم عَنوة، فحبسه عنهم، وسلَّط رسولَه والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عَنوة بعد القهر، وسلطان العَنوة، وإذلال الكفر وأهله، وكان ذلك أجَلَّ قدراً، وأعظمَ خطراً، وأظهرَ آيةً، وأتمَّ نُصرةً، وأعلى كلمةً من أن يُدخلهم تحت رِقِّ الصلح، واقتراحِ العدو وشروطهم، ويمنعهم سلطان العَنوة وعِزَّها وظفرها فى أعظم فتح فتحه على رسوله، وأعزَّ به دينه، وجعله آيةً للعالمين.

قالوا: وأما قولكم: إنها لو فُتِحَت عَنوة، لقُسِمت بين الغانمين، فهذا مبنىٌ على أن الأرض داخلةٌ فى الغنائم التى قسمها اللهُ سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها، وجمهورُ الصحابة والأئمةِ بعدهم على خِلافِ ذلك، وأن الأرض ليست داخلة فى الغنائم التى تجب قسمتُها، وهذه كانت سيرةَ الخُلفَاءِ الراشدين، فإن بلالاً وأصحابَه لما طلبوا مِن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن يقسِمَ بينهم الأرض التى افتتحوها عَنوة وهى الشامُ وما حولها، وقالوا له: خُذ خُمسها واقسِمْهَا، فقال عمر: هذا غيرُ المال، ولكن أحبسه فَيْئاً يجرى عليكم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه رضى الله عنهم: اقسمها بينَنَا، فقال عمر: "اللهُمَّ اكْفِنِى بلالاً وذَوِيهِ"، فما حال الْحَوْلُ ومنهم عين تَطْرِفُ، ثم وافق سائِرُ الصحابة رضى الله عنهم عمرَ رضى الله عنه على ذلك، وكذلك جرى فى فتوح مِصرَ والعِراق، وأرض فارس، وسائرِ البلاد التى فُتحتْ عَنوة لم يَقْسِمْ منها الخلفاءُ الراشدون قريةً واحدة.
ولا يَصحُّ أن يُقال: إنه استطابَ نفوسَهم، ووقفها برضاهم، فإنَّهم قد نازعُوهُ فى ذلك، وهو يأبى عليهم، ودعا على بلالٍ وأصحابه رضى الله عنهم وكان الذى رآه وفعله عَيْنَ الصواب ومحضَ التوفيق، إذ لو قُسِمَتْ، لتوارثها ورثةُ أُولئك وأقاربُهم، فكانت القريةُ والبلدُ تصير إلى امرأة واحدة، أو صبىٍّ صغير، والمقاتلة لا شئ بأيديهم، فكان فى ذلك أعظمُ الفسادِ وأكبرُه، وهذا هو الذى خاف عمرُ رضى الله عنه منه، فوفَّقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض، وجعلها وقفاً على المقتالةِ تجرى عليهم فَيْئاً حتى يغزوَ منها آخِرُ المسلمين، وظهرت بركةُ رأيه ويُمنه على الإسلام وأهله، ووافقه جمهور الأئمة.

واختلفوا فى كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثرُ نصوصه، على أن الإمام مخيَّر فيها تخييرَ مصلحة لا تخييرَ شهوة، فإن كان الأصلحُ للمسلمين قسمتَها، قسمها، وإن كان الأصلحُ أن يَقِفَها على جماعتهم، وقفها، وإن كان الأصلح قِسمة البعضِ ووقفَ البعض، فعلَه، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قَسَمَ أرض قُريظة والنًَّضير، وترك قِسمة مكة، وقسمَ بعضَ خيبر، وترك بعضَها لما يَنُوبُه مِن مصالح المسلمين.
وعن أحمد روايةٌ ثانية: أنها تصير وقفاً بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن يُنشئ الإمام وقفها، وهى مذهب مالك.
وعنه رواية ثالثة: أنه يقسِمُها بين الغانمين كما يَقْسِمُ بينهم المنقولَ، إلا أن يتركوا حقوقَهم منها، وهى مذهب الشافعى.
وقال أبو حنيفة: الإمام مخيَّر بين القسمة، وبين أن يُقِرَّ أربابَها فيها بالخراج، وبين أن يُجلىَهم عنها وينفذ إليها قوماً آخرين يضرِبُ عليهم الخراجَ.
وليس هذا الذى فعل عمرُ رضى الله عنه بمخالفٍ للقرآن، فإن الأرض ليست داخلةً فى الغنائم التى أمر الله بتخميسها وقسمتها، ولهذا قال عمر: إنها غيرُ المال، ويدل عليه أن إباحةَ الغنائم لم تكن لغير هذِه الأُمة، بل هو مِن خصائصها، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحديث المتفق على صحته: "وَأُحِلَّتْ لى الغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلُّ لأَحد قَبْلِى" ، وقد أحلَّ اللهُ سبحانه الأرض التى كانت بأيدى الكفارِ لمن قبلنا مِن أتباع الرسل إذا استوْلَوْا عليها عَنوة، كما أحلَّها لِقوم موسى، فلهذا قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبارِكُمْ

فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]. فموسى وقومُه قاتلوا الكُفَّارَ، واستولَوْا على ديارهم وأموالهم، فجمعُوا الغنائِم، ثمَّ نزلت النارُ مِن السماء فأكلتها، وسكنُوا الأرض والدِّيار، ولم تُحَرَّم عليهم، فعُلِم أنها ليست مِن الغنائمِ، وأنها للهِ يُورِثُها مَنْ يشاء.
فصل
وأما مكة، فإن فيها شيئاً آخر يمنع مِن قسمتها ولو وجبت قسمةُ ما عداها مِن القُرى، وهى أنها لا تُملك، فإنها دارُ النُّسُك، ومتعبَّدُ الخلق، وحرَمُ الربِّ تعالى الذى جعله للناس سواءً العاكِفُ فيه والباد، فهى وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء، ومِنَى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج: 25]، والمسجد الحرام هنا، المراد به الحرم كُلُّهُ، كقوله تعالى: { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة: 28]. فهذا المرادُ به الحرم كُلُّه، وقولُه سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى}[الإسراء: 1] ، وفى الصحيح: أنه أُسْرِىَ به مِّنَ بيت أُم هانئ، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة: 196]

وليس المراد به حضورَ نفس موضع الصلاة اتفاقاً، وإنما هو حضورُ الحرم والقُرب منه، وسياقُ آية الحج تدُلُّ على ذلك، فإنه قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، وهذا لا يختصُّ بمقام الصلاةِ قطعاً، بل المراد به الحَرَمُ كُلُّه، فالذى جعله للناس سواءً العاكف فيه والباد، هو الذى توعَّد مَنْ صَدَّ عنه، ومَن أراد الإلحادَ بالظلم فيه، فالحرمُ ومشاعرُه كالصَّفا والمروة، والمسعى ومِنَى، وعَرَفَة، ومُزْدَلِفَة، لا يختصُّ بها أحدٌ دونَ أحد، بل هى مشتركة بين الناس، إذ هى مَحلُّ نُسُكهم ومتعبدِهم، فهى مسجد من الله، وقفه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُبنى له بيت بمِنَى يُظِلُّه من الحر، وقال: "مِنَى مُناخُ مَن سَبَقَ".
ولهذا ذهب جمهورُ الأئمةِ مِن السَّلَف والخَلَف، إلى أنه لا يجوزُ بيعُ أراضى مكة، ولا إجارةُ بيوتها، هذا مذهبُ مجاهد وعطاء فى أهل مكة، ومالك فى أهل المدينة، وأبى حنيفة فى أهل العراق، وسفيان الثورى، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وروى الإمام أحمد رحمه الله، عن علقمة بن نضلة، قال: كانت رِباعُ مكة تُدعى السَّوائب على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر وعمر، مَن احتاج سكن، ومَن استغنى أسكن.
وروى أيضاً عن عبد الله بن عمر: "مَن أكل أُجُورَ بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه نار جهنم" رواه الدارقطنى مرفوعاً إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه: "إنَّ الله حَرَّمَ مَكَّة، فَحَرامٌ بَيْعَ رِبَاعِهَا وأَكْلُ ثَمَنِهَا".
وقال الإمام أحمد: حدثنا معمر، عن لَيْثٍ، عن عطاء، وطاووس،

ومجاهد، أنهم قالوا: يُكره أن تُباع رِباعُ مكَّة أو تُكرى بيوتها.
وذكر الإمام أحمد، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: مَن أكل من كِراء بيوتِ مكة، فإنما يأكُلُ فى بطنه ناراً.
وقال أحمد: حدَّثنا هُشيم، حدَّثنا حجَّاج، عن مجاهد، عن عبد الله ابن عمر، قال: نَهَى عَنْ إجارَةِ بُيوتِ مَكَّة وعَنْ بَيْعِ رَباعِهَا، وذكر عن عطاء، قال: نهى عن إجارة بيوتِ مكة.
وقال أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف قال: حدَّثنا عبد الملك، قال: كتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوتِ مكة، وقال: إنه حرام، وحكى أحمد عن عمر، أنه نهى أن يتَّخِذَ أهلُ مكَّة للدورِ أبواباً، لِينزِلَ البادى حيث شاء، وحكى عن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه نهى أن تُغْلَقَ أبوابُ دورِ مكة، فنهى مَن لا باب لداره أن يتَّخِذَ لها باباً، ومَن لداره باب أن يُغْلِقَه، وهذا فى أيام المَوْسِم.ِ
قال المجوِّزون للبيع والإجارة: الدليلُ على جواز ذلك، كتابُ الله وسُنَّةُ رسولِه، وعملُ أصحابه وخُلفائه الراشدين. قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}[الحشر: 8]، وقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ}[آل عمران: 195]، وقال: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}[الممتحنة: 9] فأضاف الدورَ إليهم، وهذه إضافة تمليك، وقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قيل له: أين تنزِلُ غداً بدارك بمكة؟ فقال: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِباعٍ" ، ولم يقل: إنه لا دار لى، بل أقرَّهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلاً استولى عليها ولم ينزِعْهَا مِن يده،

وإضافةُ دورهم إليهم فى الأحاديث أكثرُ من أن تُذكر، كدار أُم هانىء، ودار خديجة، ودار أبى أحمد بن جحش وغيرها، وكانوا يتوارثُونها كما يتوارثون المنقولَ، ولهذا قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلِ"، وكان عقيل هو ورث دورَ أبى طالب، فإنه كان كافراً، ولم يرثه على رضى الله عنه، لاختلاف الدينِ بينهما، فاستولى عَقِيلٌ على الدور، ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، مَن مات، ورِثَ ورثتُه داره إلى الآن، وقد باع صفوانُ بنُ أُميَّة داراً لعمر بن الخطاب رضى الله عنه بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجناً، وإذا جاز البيعُ، والميراثُ، فالإجارة أجْوزُ وأجوز، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججُهم فى القوة والظهور لا تُدفع، وحُجج الله وبيناتُه لا يُبطِلُ بعضُها بعضاً بل يُصَدِّقُ بعضُهَا بعضاً، ويجبُ العملُ بموجبها كُلِّهَا، والواجبُ اتباعُ الحق أين كان.
فالصوابُ القولُ بموجب الأدلة مِن الجانبين، وأنَّ الدورَ تملك، وتُوهب، وتُورث، وتُباع، ويكون نقلُ الملك فى البناء لا فى الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه، لم يكن له أن يبيعَ الأرض، وله أن يَبنيها ويُعيدَها كما كانت، وهو أحقُّ بها يسكُنها ويُسْكِنُ فيها مَن شاء، وليس له أن يُعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق إن يقدَّم فيها على غيره، ويختصُ بها لسبقه وحاجته، فإذا استغنى عنها، لم يكن له أن يُعاوض عليها، كالجلوس فى الرِّحاب، والطرقِ الواسعة، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التى مَن سبق إليها، فهو أحق بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى، لم يكن له أن يُعاوض، وقد صرَّح أربابُ هذا القول بأن البيعَ ونقلَ الملك فى رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، ذكره أصحاب أبى حنيفة.

فإن قيل: فقد منعتم الإجارة، وجوَّزتُم البيع، فهل لهذا نظيرٌ فى الشريعة، والمعهود فى الشريعة أن الإجارة أوسعُ من البيع، فقد يمتنع البيع، وتجوز الإجارة، كالوقف والحر، فأما العكس، فلا عهد لنا به؟.
قيل: كُلُّ واحد من البيع والإجارة عقدٌ مستقل غيرُ مستلزم للآخر فى جوازه وامتناعه، وموردهما مختلِف، وأحكامُهما مختلفة، وإنما جاز البيعُ، لأنه وارد على المحل الذى كان البائعُ أخصَّ به من غيره، وهو البناء، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة، وهى مشتركة، وللسابق إليها حقُّ التقدم دون المعاوضة، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة، فإن أبيتم إلا النظيرَ، قيل: هذا المكاتبُ يجوزُ لسيده بيعُه، ويصيرُ مكاتباً عند مشتريه، ولا يجوزُ له إجارتُه إذ فيها إبطالُ منافعه وأكسابه التى ملكها بعقد الكتابة، والله أعلم. على أنه لا يمنعُ البيع، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركةً بين المسلمين، فإنها تكون عند المشترى كذلك مشتركة المنفعة، إن احتاج سكن، وإن استغنى أسكن كما كانت عند البائع، فليس فى بيعها إبطالُ اشتراك المسلمين فى هذه المنفعة، كما أنه ليس فى بيع المكاتب إبطالُ ملكه لمنافعه التى ملكها بعقد المكاتبة، ونظيرُ هذا جوازُ بيع أرض الخَراج التى وقفها عمر رضى الله عنه على الصحيح الذى استقر الحال عليه من عمل الأُمة قديماً وحديثاً، فإنها تنتقل إلى المشترى خَراجية، كما كانت عند البائع، وحق المقاتلة إنما هو فى خَراجها، وهو لا يَبْطُلُ بالبيع، وقد اتفقت الأُمة على أنها تُورث، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفاً، فكذلك ينبغى أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها، وقد نصّ أحمد على جواز جعلها صداقاً فى النكاح، فإذا جاز نقلُ الملك فيها بالصداق والميراث والهبة، جاز البيعُ فيها قياساً، وعملاً، وفقهاً.. والله أعلم.

فصل
فإذا كانت مكةُ قد فُتِحَتْ عَنوة، فهل يُضرب الخراجُ على مزارعها كسائر أرض العَنوة، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا؟
قيل: فى هذه المسألة قولان لأصحاب العَنوة:
أحدهما: المنصوصُ المنصور الذى لا يجوز القولُ بغيره، أنه لا خَراج على مزارعها وإن فتحت عَنوة، فإنها أجَلُّ وأعظم من أن يُضرب عليها الخَراج، لا سيما والخَراجُ هو جزية الأرض، وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس، وحرَمُ الرَّبِّ أجَلُّ قَدراً وأكبرُ من أن تُضرب عليه جزية، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليهِ مِن كونها حرماً آمناً يشترِكُ فيه أهلُ الإسلام، إذ هو موضع مناسِكهم ومتعبدهم وقِبْلةُ أهل الأرض.
والثانى وهو قول بعض أصحاب أحمد أن على مزارعها الخَراج، كما هو على مزارع غيرها من أرض العَنوة، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه، ولفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه الراشدين مِن بعده رضى الله عنهم، فلا التفات إليه.. والله أعلم.
وقد بنى بعضُ الأصحاب تحريمَ بيع رِباع مكَّة على كونها فُتِحَتْ عَنوة، وهذا بناء غيرُ صحيح، فإن مساكن أرض العَنوة تُباع قولاً واحداً، فظهر بطلان هذا البناء.. والله أعلم.
وفيها: تعيينُ قتلِ السَّابِّ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن قتله حدٌ لا بُدَّ من استيفائه، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُؤمِّن مقيسَ بنَ صُبابة، وابن خطل، والجاريتين اللَّتين كانتا تُغنِّيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يُقتلن كما لا تُقتل الذُرِّية، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين، وأهدر دم أُمِّ ولد

الأعمى لما قتلها سيدُها لأجل سبِّها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقتل كعب بن الأشرف اليهودى، وقال: "مَنْ لِكَعْب فإنَّهُ قَدْ آذى اللهَ ورَسُولَهُ"، وكان يسبه، وهذا إجماعٌ من الخلفاء الراشدين، ولا يُعلم لهم فى الصحابة مخالفٌ، فإن الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قال لأبى برزة الأسلمى وقد همَّ بقتل مَن سبَّه: لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرَّ عمر رضى الله عنه براهب، فقيل له: هذا يسبُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: لو سمعته لقتلتُه، إنَّا لم نعطهم الذِّمَّة على أن يسبُّوا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ريبَ أن المحاربة بسَبِّ نبينا أعظمُ أذيَّةً ونِكاية لنا من المحاربة باليد، ومنع دينار جزيةٍ فى السنة، فكيف يُنقض عهدُه ويُقتل بذلك دون السبِّ، وأىُّ نسبة لمفسدة منعه ديناراً فى السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسَبِّ نبينا أقبحَ سبّ على رؤوس الأشهاد، بل لا نِسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسبِّ، فأولى ما انتقض به عهدُه وأمانُه سبُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينتقض عهدُه بشىء أعظمَ مِنه إلا سبَّه الخالق سبحانه، فهذا محضُ القِياس، ومقتضى النصوص، وإجماعُ الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم وعلى هذه المسألة أكثرُ من أربعين دليلاً.
فإن قيل: فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتُلْ عبد الله بن أُبَىّ وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، ولم يقتل ذَا الخُويصرة التميمى وقد قال له: اعْدِلْ فإنَّكَ لم تَعْدِلْ، ولم يقتل مَن قال له: يقولون:

إنك تنهى عن الغى وتستخلى به، ولم يقتل القائل له: إنَّ هذِهِ القِسْمَةَ ما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللهِ، ولم يقتل مَن قال له لما حكم للزبير بتقديمه فى السقى: أن كان ابنَ عمتك، وغيرُ هؤلاء ممن كان يبلُغه عنهم أذى له وتنقُّص.
قيل: الحقُّ كان له فله أن يستوفِيَهِ، وله أن يُسْقِطَه، وليس لمن بعده أن يُسْقِطَ حقَّه، كما أن الربَّ تعالى له أن يَستوفى حقَّه، وله أن يُسقِطَ، وليس لأحد أن يُسْقِطَ حقَّه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان فى ترك قتل من ذكرتُم وغيرهم مصالحُ عظيمة فى حياته زالت بعد موته مِن تأليف الناس، وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتُلُ أصحابَه، لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أُبَىّ: "لاَ يَبْلُغُ النَّاسَ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابه".
ولا ريب أن مصلحةَ هذا التأليف، وجمعَ القلوب عليه كانت أعظمَ عنده وأحبَّ إليه مِن المصلحة الحاصلة بقتل مَن سبَّه وآذاه، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجَّحت جداً، قتل السابَّ، كما فعل بكعب بن الأشرف، فإنه جاهر بالعداوة والسَّبِّ فكان قتلُه أرجحَ من إبقائه، وكذلك قتلُ ابنِ خَطَل، ومقيس، والجاريتين، وأُم ولدِ الأعمى، فَقَتَلَ للمصلحة الراجحة، وكفَّ للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نُوَّابه وخلفائه، لم يكن لهم أن يُسقطوا حقه

فصل: فيما فى خطبته العظيمة ثانى يوم الفتح من أنواع العلم
فمنها قولُه: "إنَّ مَكَّة حَرَّمَها اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ" ، فهذا تحريمٌ شرعى قَدَرى سبق به قدرُه يومَ خلق هذا العالَم، ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما فى "الصحيح" عنه، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اللهُمَّ إنَّ إبْرَاهيمَ خَليلَكَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإنِّى أُحرِّمُ المدِينَة "، فهذا إخبارٌ عن ظهور التحريم السابق يومَ خلق السمواتِ والأرضَ على لسان إبراهيم، ولهذا لم يُنازع أحد من أهل الإسلام فى تحريمها، وإن تنازعُوا فى تحريم المدينة، والصوابُ المقطوعُ به تحريمُها، إذ قد صحَّ فيه بضعةٌ وعِشرونَ حديثاً عن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مطعن فيها بوجه.
ومنها: قوله: "فلا يَحلُّ لأَحَدٍ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمَاً" ، هذا التحريمُ لسفك الدم المختصِّ بها، وهو الذى يُباح فى غيرها، ويُحرم فيها لكونها

حرماً، كما أن تحريم عَضْدِ الشجر بها، واختلاء خلائها، والتقاط لُقطتها، هو أمر مختصٌ بها، وهو مباحٌ فى غيرها، إذ الجميعُ فى كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواعٌ:
أحدها وهو الذى ساقه أبو شريح العدوى لأجله: أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تُقاتَل، لا سيما إن كان لها تأويل، كما امتنع أهلُ مكة مِن مبايعة يزيد، وبايعُوا ابنَ الزبير، فلم يكن قِتالهُم، ونصبُ المنجنيق عليهم، وإحلالُ حَرَمِ الله جائزاً بالنص والإجماع، وإنما خالف فى ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعتُه، وعارض نصَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأيه وهواه، فقال: إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِياً، فيقال له: هو لا يُعيذ عاصياً مِن عذاب الله، ولو لم يُعِذْه من سفك دمه، لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يُعيذُ العصاةَ مِن عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامُه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يُعِذ مقيس ابن صُبابة، وابن خَطَل، ومَن سُمِّىَ معهما، لأنه فى تلك الساعة لم يكن حَرَماً، بل حِلاً، فلما انقضت ساعةُ الحرب، عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرضَ. وكانت العربُ فى جاهليتها يرى الرجلُ قاتِلَ أبيه، أو ابنه فى الحرم، فلا يَهيجُه، وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التى صار بها حرماً، ثم جاء الإسلام، فأكَّدَ ذلك وقوَّاه، وعلم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مِن الأُمة مَن يتأسَّى به فى إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق، وقال لأصحابه: "فإنْ

أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقولوا: إنَّ الله أذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ"، وعلى هذا فَمَن أتى حداً أو قِصاصاً خارِجَ الحرم يُوجِبُ القتل، ثم لجأ إليه، لم يَجُزْ إقامتُه عليه فيه، وذكر الإمام أحمد عن عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: لو وجدتُ فيه قاتِلَ الخطاب ما مَسِسْتُه حتَّى يخرُجَ منه. وذُكِر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لو لقيتُ فيه قاتِلَ عمر مَا نَدَهْتُه، وعن ابن عباس، أنه قال: لو لقيتُ قاتِلَ أبى فى الحرم ما هِجتُه حتى يخرُجَ منه، وهذا قولُ جمهورِ التابعين ومَنْ بعدهم، بل لا يُحفظ عن تابعىّ ولا صحابىّ خلافُه، وإليه ذهب أبو حنيفةَ ومَنْ وافقه من أهل العراق، والإمامُ أحمد ومَنْ وافقه مِن أهل الحديث.
وذهب مالك والشافعىُّ إلى أنه يُستوفى منه فى الحرم، كما يُستوفى منه فى الحِلِّ، وهو اختيارُ ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعمومِ النُّصوص الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص فى كُلِّ مكانٍ وزمانٍ، وبأن النبىَّْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل ابن خَطَل، وهو متعلِّق بأستار الكعبة، وبما يُروى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إنَّ الحَرَمَ لاَ يُعيذُ عَاصِياً وَلاَ فَاراً بِدَمٍ وَلاَ بِخَرْبَةٍ"، وبأنه لو كان الحدودُ والقِصاصُ فيما دونَ النفسِ، لم يُعِذْهُ الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يُوجب حداً أو قِصاصاً، لم يعذه الحرم، ولم يَمنع من إقامته عليه، فكذلك إذا أتاه خارِجَه، ثم لجأ إليه، إذ كونُه حَرَماً بالنسبة إلى عصمته، لا يختلِفُ بين الأمرين،

وبأنه حيوان أُبيح قتلُه لِفساده، فلم يفترِق الحالُ بين قتله لاجئاً إلى الحرم، وبين كونه قد أوجب ما أُبيح قتلُه فيه، كالحيَّة، والحِدَأةِ، والكَلْبِ العَقُور، ولأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خَمْسٌ فَواسِقُ يُقْتَلْنَ فى الحِلِّ والحَرَم"، فنبَّه بقتلهن فى الحِلِّ والحَرَم على العِلَّة، وهى فسقُهن، ولم يجعل التجاءَهن إلى الحرم مانِعاً مِن قتلهن، وكذلك فاسق بنى آدم الذى قد استوجب القتلَ.
قال الأوَّلون: ليس فى هذا ما يُعارِضُ ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران: 97]، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلْفِ فى خبره تعالى، وإما خبرٌ عن شرعه ودينه الذى شرعه فى حرمه، وإما إخبارٌ عن الأمرِ المعهود المستمِرِّ فى حرمه فى الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت: 67] ، وقوله تعالى: { وَقَالُواْ إن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ}[القصص: 57] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة، فلا يُلتفت إليه، كقول بعضهم: ومَن دخله كان آمناً مِن النار، وقول بعضهم: كان آمناً مِن الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله، وهو فى قعر الجحيم.
وأما العموماتُ الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص فى كل زمان ومكان، فيقال أولاً: لا تعرُّضَ فى تلك العموماتِ لِزمان الاستيفاء، ولا مكانه، كما لا تعرُّضَ فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللَّفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمُّنه، فهو مطلَقٌ بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع، لم يُقَلْ: إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام،

فلا يقول محَصِّل: إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[النساء: 24] مخصوص بالمنكوحة فى عِدَّتها، أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوصُ العامة فى استيفاء الحدود والقِصاص لا تعرُّض فيها لزمنه، ولا مكانه، ولا شرطه، ولا مانعه، ولو قُدِّر تناول اللَّفظ لذلك، لوجب تخصيصُه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطُل موجبها، ووجب حملُ اللَّفظ العام على ما عداها كسائِر نظائره، وإذا خصصتُم تلك العموماتِ بالحامل، والمرضِعِ، والمريض الذى يُرجى برؤه، والحال المحرمةِ للاستيفاء، كشِدَّةِ المرض، أو البردِ، أو الحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم: ليس ذلك تخصيصاً، بل تقييداً لمطلقها، كِلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء.
وأما قتلُ ابن خَطَل، فقد تقدَّم أنه كان فى وقت الحِلِّ، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع الإلحاق، ونصَّ على أن ذلك مِن خصائصه، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وإنَّمَا أُحِلَّت لى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" صريح فى أنه إنما أُحِلَّ له سفكُ دمٍ حلال فى غيرِ الحرم فى تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالاً فى كل وقت، لم يختصَّ بتلك الساعة، وهذا صريحٌ فى أن الدم الحلالَ فى غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة، وأما قوله: "الحَرَمُ لا يُعِيذُ عَاصِياً" فهو مِن كلام الفاسِق عمرو بن سعيد الأشدق، يردُّ به حديثَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين روى له أبو شُريح الكعبى هذا الحديث، كما جاء مبيناً فى "الصحيح" فكيف يُقَدَّمُ علَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما قولُكم: لو كان الحدُّ والقِصاصُ فيما دون النفس، لم يُعِذْهُ الحرمُ منه، فهذه المسألةُ فيها قولان للعلماء، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد، فمَن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصِمة بالنسبة

إلى النفس وما دونها، ومَن فرَّق، قال: سفكُ الدم إنما ينصِرفُ إلى القتل، ولا يلزمُ من تحريمه فى الحرم تحريمُ ما دونَه، لأن حُرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشدُّ، قالوا: ولأن الحد بالجَلْد أو القطع يجرى مجرى التأديب، فلم يمنع منه كتأديب السَّيِّدِ عبدَه، وظاهرُ هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دُونها فى ذلك، قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمِّه، أن الحدود كلَّها تُقام فى الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرمَ لم يقُم عليه الحدُّ حتى يخرُجَ منه، قالوا: وحينئذ فنجيبُكم بالجواب المركَّب، وهو أنه إن كان بينَ النفس وما دونَها فى ذلك فرق مؤثر، بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر، سوَّينا بينهما فى الحكم، وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانُه على التقديرين.
قالوا: وأما قولكم: إن الحرمَ لا يُعيذ مَن انتهكَ فيه الحُرمةَ إذ أتى فيه ما يُوجب الحد، فكذلك اللاجىء إليه، فهو جمعُ بينَ ما فَرَّقَ اللهُ ورسُوله والصحابةُ بينهما، فروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "مَنْ سَرَقَ أو قَتَلَ فى الحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ، فإنَّه لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنَّهُ يُناشَدُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَيُؤْخَذَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَإنْ سَرَقَ أَو قَتَلَ فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فى الحَرَم". وذكر الأثرم، عن ابن عباس أيضاً: منْ أحدَثَ حَدَثاً فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عليهِ ما أَحْدَثَ فيهِ من شىء، وقد أمر الله سبحانه بقتل مَنْ قاتل فى الحرم، فقال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم}.[البقرة: 191]

والفرق بين اللاجئ والمتهتِك فيه من وجوه:
أحدها : أن الجانى فيه هاتكٌ لحُرمته بإقدامه على الجِنَاية فيه، بخلاف مَنْ جَنَى خارِجَه ثم لجأ إليه، فإنَّه معظِّمٌ لحُرمته مستشعِرٌ بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطلٌ.
الثانى: أن الجانى فيه بمنزلة المفسد الجانى على بساطِ الملك فى دارِهِ وحَرَمِه، ومَنْ جنى خارِجَه، ثم لجأ إليه، فإنَّه بمنزلة مَن جَنَى خارِجَ بِساط السلطانِ وحَرَمِه، ثم دخل إلى حَرَمِه مستجيراً.
الثالث: أن الجانى فى الحرم قد انتهك حُرمة الله سبحانه، وحُرمة بيته وحَرَمه، فهو هاتِك لحُرمتين بخلاف غيره.
الرابع: أنه لو لم يُقم الحدُّ على الجُنَاة فى الحرم، لعمَّ الفسادُ، وعَظُمَ الشَّرُّ فى حرم الله، فإن أهلَ الحرم كغيرهم فى الحاجة إلى صِيانة نفوسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولو لم يُشرع الحد فى حقِّ مَن ارتكب الجرائم فى الحرم، لتعطلت حدودُ الله، وعمَّ الضررُ للحرم وأهله.
والخامس : أن اللاجىء إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجىء إلى بيت الرب تعالى، المتعلق بأستاره، فلا يُناسب حالُه ولا حالُ بيته وحرمه أن يُهاج، بخلاف المُقْدِم على انتهاك حُرْمته، فظهر سِرُّ الفرق، وتبيَّن أن ما قاله ابن عباس هو محضُ الفقه.
وأما قولُكم: إنه حيوان مفسد، فأُبيحَ قتلُه فى الحِلِّ والحَرَمِ كالكلبِ العَقور، فلا يَصِحُّ القياسُ، فإن الكلبَ العقور طبعُه الأذى، فلم يُحرمه الحرمُ ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمىُّ فالأصل فيه الحُرْمةُ، وحُرْمتُه عظيمة، وإنما أُبيحَ لِعارض، فأشبه الصائلَ مِن الحيوانات المباحة مِن المأكولات، فإن الحرم يَعْصِمُهَا.

وأيضاً فإن حاجةَ أهلِ الحرم إلى قتل الكلب العَقُور، والحيَّة، والحِدَأة كحاجة أهل الحِلِّ سواء، فلو أعاذها الحرم لَعظُمَ عليهم الضررُ بها.
فصل
ومنها: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ"، وفى اللَّفظ الآخر: "ولا يُعْضَدُ شَوْكُهَا"، وفى لفظ فى "صحيح مسلم": "ولاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا" لا خلاف بينهم أن الشجر البرىَّ الذى لم يُنْبِتْهُ الآدمىُّ على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللَّفظ، واختلفوا فيما أنبته الآدمىُّ مِن الشجر فى الحرم على ثلاثة أقوال، وهى فى مذهب أحمد:
أحدها: أن له قلعَه، ولا ضمانَ عليه، وهذا اختيارُ ابن عقيل، وأبى الخطاب، وغيرهما.
والثانى: أنه ليس له قلعُه، وإن فعل، ففيه الجزاءُ بكل حال، وهو قولُ الشافعى، وهو الذى ذكره ابن البناء فى "خصاله".
الثالث : الفرق بين ما أنبته فى الحِلِّ، ثم غرسَه فى الحرم، وبين ما أنبته فى الحَرم أوَّلاً، فالأول: لا جزاء فيه، والثانى: لا يُقلع وفيه الجزاء بكل حال، وهذا قول القاضى.
وفيه قول رابع: وهو الفرقُ بين ما يُنبت الآدمى جنسه كاللَّوز والجَوز، والنخل، ونحوه، وما لا يُنبت الآدمى جنسه كالدَّوح، والسَّلَم،

ونحوه، فالأول يجوز قلعُه ولا جزاء فيه، والثانى: لا يجوزُ، وفيه الجزاء.
قال صاحب "المغنى": والأولى الأخذ بعُموم الحديث فى تحريم الشجر كُلِّه، إلا ما أنبتَ الآدمىُّ مِن جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع، والأهلى من الحيوان، فإننا إنما أخرجنا مِن الصيد ما كان أصلُه إنسياً دون ما تأنَّسَ مِن الوحشى، كذا ههنا، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع، فصار فى مذهب أحمد أربعةُ أقوال.
والحديث ظاهر جداً فى تحريم قطع الشوك والعَوْسَج، وقال الشافعى: لا يحرُم قطعه، لأنه يُؤذى الناس بطبعه، فأشبه السباع، وهذا اختيارُ أبى الخطاب، وابن عقيل، وهو مروى عن عطاء ومجاهد وغيرهما.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُعْضَدُ شَوْكُهًَا "،وفى اللَّفظ الآخر: "لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا" صريح فى المنع، ولا يَصِحُّ قياسُه على السباع العادِية، فإن تلك تَقْصِدُ بطبعها الأذى، وهذا لا يُؤذى مَن لم يَدْنُ منه.
والحديثُ لم يُفرِّق بين الأخضر واليابس، ولكن قد جوَّزُوا قَطْعَ اليابس، قالوا: لأنه بمنزلة الميت، ولا يُعرف فيه خلاف، وعلى هذا فسياقُ الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد، وليس فى أخذ اليابسِ انتهاكُ حُرمة الشجرة الخضراء التى تُسبِّحُ بحمدِ ربِّها، ولهذا غرس النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على القبرين غُصنين أخضرين، وقال: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا".
وفى الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرةُ بنفسها، أو انكسر الغصنُ، جاز الانتفاعُ به، لأنه لم يَعْضُدْهُ هوَ، وهذا لا نزاع فيه.

فإن قيل: فما تقولون فيما إذا قلعها قالِع، ثم تركها، فهل يجوز له أو لِغيره أن ينتفع بها؟
قيل: قد سُئِل الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال: مَن شبَّهه بالصيد، لم ينتفع بحطبها، وقال: لم أسمع إذا قطعه ينتفِعُ به. وفيه وجه آخر، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاعُ به، لأنه قُطِع بغير فعله، فأُبيح له الانتفاعُ به كما لو قلعته الريح، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله مُحْرم حيث يَحْرُمُ على غيره، فإنَّ قَتْلَ المُحْرم له جعله ميتةً. وقوله فى اللَّفظ الآخر (ولا يُخْبَطُ شَوْكُها" صريح أو كالصريح فى تحريم قطع الورق، وهذا مذهبُ أحمد رحمه الله، وقال الشافعى: له أخذه، ويُروى عن عطاء، والأول أصحُّ لظاهر النصِّ والقياس، فإن منزلته من الشجرة منزلةُ ريش الطائر منه، وأيضاً فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان، فإنه لباسُها ووقايتُها.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُخْتَلَى خلاها" لا خلاف أن المراد مِن ذلك ما يَنْبُتُ بنفسه دون ما أنبته الآدميون، ولا يدخل اليابسُ فى الحديث، بل هو للرَّطبِ خاصة، فإن الخلا بالقصر: الحشيش الرطب ما دام رطباً، فإذا يبس، فهو حشيش، وأخلتِ الأرض، كَثُرَ خَلاها، واخْتلاء الخَلى: قطعه، ومنه الحديث: كان ابن عمر يَخْتَلِى لِفرسه، أى: يقطع لها الخَلى، ومنه سميت المِخلاة: وهى وعاء الخَلى، والإذخر: مستثنى بالنص، وفى تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه.
فإن قيل: فهل يتناول الحديثُ الرعى أم لا؟
قيل: هذا فيه قولان،

أحدهما: لا يتناولُه، فيجوز الرعىُ، وهذا قولُ الشافعىوالثانى: يتناولُه بمعناه، وإن لم يتناوله بلفظه، فلا يجوز الرعى، وهو مذهب أبى حنيفة، والقولان لأصحاب أحمد.
قال المحرِّمون: وأىُّ فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة، وبين إرسالِ الدابة عليه ترعاه؟
قال المبيحون: لما كانت عادةُ الهَدَايا أن تدخل الحَرَم، وتكثُر فيه، ولم يُنقل قطُّ أنها كانت تُسَدُّ أفواهُها، دل على جواز الرعى.
قال المحرِّمون: الفرقُ بين أن يُرسلها ترعى، ويُسلطها على ذلك، وبين أن تَرعى بطبعها مِن غير أن يُسلِّطَهَا صاحِبُهَا، وهو لا يجب عليه أن يَسُدَّ أفواهها، كما لا يجب عليه أن يَسُدَّ أنفَه فى الإحرام عن شمِّ الطيب، وإن لم يجز له أن يتعمَّد شمَّه، وكذلك لا يجبُ عليه أن يمتنع من السير خشية أن يُوطئ صيداً فى طريقه، وإن لم يجز له أن يقصد ذلك، وكذلك نظائرهُ. فإن قيل: فهل يدخُلُ فى الحديث أخذ الكمأة والفقع، وما كان مغيباً فى الأرض؟
قيل: لا يدخل فيه، لأنه بمنزلة الثمرة، وقد قال أحمد: يُؤكل من شجر الحرم الضغابيسُ والعِشْرِق.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" صريحٌ فى تحريم التسبُّب إلى قتل

الصيد واصطيادِهِ بكل سبب، حتى إنه لا يُنفِّره عن مكانه، لأنه حيوان محترَم فى هذا المكان، قد سبق إلى مكان، فهو أحقُّ به، ففى هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان، لم يُزعج عنه.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَها إلا مَنْ عَرَّفَهَا". وفى لفظ: "ولاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ"، فيه دليل على أن لُقَطَةَ الحرم لا تُملك بحال، وأنها لا تُلتقط إلا للتعريف لا للتمليكِ، وإلا لم يكن لِتخصيص مكة بذلك فائدة أصلاً، وقد اختُلِفَ فى ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة: لُقَطَةُ الحِلِّ والحَرَم سواء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وأحدُ قولى الشافعى، ويُروى عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة رضى الله عنهم، وقال أحمد فى الرواية الأخرى، والشافعى فى القول الآخر: لا يجوز التقاطُها للتمليك، وإنما يجُوز لِحفظها لِصاحبها، فإن التقطها، عرَّفها أبداً حتى يأتى صَاحبُها، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدى، وأبى عُبيد، وهذا هو الصحيح، والحديثُ صريحٌ فيه، والمُنشِدُ: المعرِّف. والناشد: الطالب، ومنه قوله:
إصَاخَة الناشِدِ لِلمُنْشِدِ
وقد روى أبو داود فى "سننه": أن النَبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الحَاجِّ" ، وقال ابنُ وهب: يعنى يترُكُها حتى يَجِدَها صاحبُها.

قال شيخنا: وهذا من خصائص مكة، والفرقُ بينها وبين سائر الآفاق فى ذلك، أن الناس يتفرَّقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكن صاحبُ الضالةِ مِن طلبها والسؤالِ عنها، بخلاف غيرها من البلاد.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخطبة: "ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ " فيه دليل على أن الواجب بقتل العمدِ لا يتعيَّن فى القِصاص، بل هُو أحدُ شيئين: إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ.
وفى ذلك ثلاثة أقوال: وهى روايات عن الإمام أحمد.
أحدها: أن الواجب أحد شيئين، إما القِصاصُ، وإما الدِّيَةُ، والخيرةُ فى ذلك إلى الولى بين أربعة أشياء: العفوِ مجاناً، والعفوِ إلى الدِّيَةِ، والقِصاصِ، ولا خلاف فى تخييره بين هذه الثلاثة. والرابع: المصالحة على أكثر من الدِّيَةِ، فيه وجهان. أشهرهما مذهباً: جوازه. والثانى: ليس له العفو على مال إلا الدِّيَة أو دونها، وهذا أرجحُ دليلاً، فإن اختار الدِّيَة، سقط القودُ، ولم يملِكْ طلبَه بعد، وهذا مذهبُ الشافعى، وإحدى الروايتين عن مالك.
والقول الثانى : أن موجِبَه القَود عَيْناً، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدِّيَة إلا برضى الجانى، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجانى، فقَودُه بحاله، وهذا مذهبُ مالك فى الرواية الأُخرى وأبى حنيفة.
والقولُ الثالث : أن موجِبَه القَودُ عَيْناً مع التخيير بينه وبين الدِّيَة، وإن لم يرض الجانى، فإذا عفا عن القِصاص إلى الدِّيَة، فرضىَ الجانى،

فلا إشكالَ، وإن لم يرض، فله العودُ إلى القِصاص عَيْناً، فإن عفا عن القَود مطلقاً، فإن قلنا: الواجبُ أحدُ الشيئين، فله الديَة، وإن قلنا: الواجبُ القِصاص عَيْناً، سقط حقُّه منها.
فإن قيل: فما تقولون فيما لو مات القاتل؟
قلنا: فى ذلك قولان: أحدهما: تسقطُ الدِّيَة، وهو مذهبُ أبى حنيفة، لأن الواجبَ عندهم القِصاصُ عَيْناً، وقد زال محلُّ استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبدُ الجانى، فإن أرشَ الجناية لا ينتقِلُ إلى ذِمَّة السيدِ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن، حيثُ لا يسقُطُ الحقُّ لثبوته فى ذِمة الراهن والمضمونِ عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة.
وقال الشافعى وأحمد: تتعينُ الدِّيَةُ فى تِرْكته، لأنه تعذَّر استيفاءُ القِصاصِ من غير إسقاط، فوجب الدِّيَةُ لئلا يذهبُ الورثة من الدم والدِّيَة مجاناً، فإن قيل: فما تقولون لو اختار القِصَاص، ثم اختار بعده العفو إلى الدِّيَة، هل له ذلك؟
قلنا: هذا فيه وجهان، أحدهما: أنَّ له ذلك، لأن القِصاص أعلى، فكان له الانتقالُ إلى الأدنى، والثانى: ليس له ذلك، لأنه لما اختار القِصاص، فقد أسقط الدِّيَة باختياره له، فليس له أن يعودَ إليها بعد إسقاطها.
فإن قيل: فكيف تجمعون بين هذا الحديث، وبينَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ عَمْدَاً، فَهُوَ قَوَدٌ" ؟.

قيل: لا تعارُضَ بينهما بوجه، فإن هذا يدل على وجوب القَوْد بقتل العمد، وقوله: "فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ" يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله، وهو الدِّيَةُ، فأىُّ تعارض؟، وهذا الحديثُ نظيرُ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ}، وهذا لا ينفى تخيير المستحق له بين ما كُتِبَ له، وبين بدله.. والله أعلم.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الخطبة: "إلاَّالإذْخِرَ" ، بعد قولِ العباس له: إلا الإذْخِرَ، يدل على مسألتين:
إحداهما: إباحة قطع الإذَخِرَ.
والثانية : أنه لا يُشترط فى الاستثناء أن ينويَه من أول الكلام، ولا قبل فراغه، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان ناوياً لاستثناء الإذْخِر من أول كلامه، أو قبلَ تمامه، لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك، وإعلامه أنهم لا بدَّ لهم منه لِقَيْنِهِمْ وبيوتهم، ونظير هذا استثناؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسهيل ابن بيضاء من أسارى بدر بعد أن ذكَّرهُ به ابنُ مسعود، فقال: "لا يَنْفَلِتَنَّ أحَدٌ مِنْهُم إلا بِفِدَاء أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ" فقال ابنُ مسعود: إلا سهيلَ ابْنَ بيضاء، فإنى سمعتُه يذكر الإسلام، فقال: "إلاَّ سُهَيْلَ ابْنَ بَيْضَاء" ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء فى الصورتين من أول كلامه.
ونظيره أيضاً قولُ المَلَك لِسليمان لما قال:"لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امرأَةٍ غُلاماً يُقَاتِلُ فى سبيلِ اللهِ"، فقال له المَلَكُ: قُلْ: إنْ شَاءَ

اللهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَقُلْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ قَالَ:إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، لَقَاتَلُوا فى سبيل الله أَجمَعُون" ،وفى لفظ: "لَكَانَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ" فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه فى هذه الحالة لنفعه، ومَن يشترط النية يقول: لا ينفعُه.
ونظيرُ هذا قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً، واللهِ لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً" ثلاثاً، ثم سكت، ثم قال:" إنْ شَاءَ اللهُ"، فهذا استثناء بعد سكوت، وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه، وقد نص أحمد على جوازه، وهو الصوابُ بلا ريب، والمصيرُ إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى.. وبالله التوفيق.
فصل
وفى القصة: أن رجلاً مِن الصحابة يقال له: أبو شاه، قام، فقال: اكتُبوا لى، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبُوا لأبى شَاه"، يُريدُ خطبته، ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ النهى عن كِتابة الحديث، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ كَتَبَ عَنِّى شَيْئاً غَيْرَ القُرْآنِ، فَلْيَمْحُهُ" وهذا كان فى أول الإسلام خشية أن يختلِط الوحىُ الذى يُتلَى بالوحى الذى لا يُتلَى،

ثم أذِن فى الكتابة لحديثه.
وصح عن عبد الله بن عَمْرو أنه كان يكتُب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تُسمَّى الصادقة، وهى التى رواها حفيده عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عنه، وهى من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها فى درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها.
فصل
وفى القصة: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل البيت، وصلَّى فيه، ولم يدخله حتى مُحيت الصورُ منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة فى المكان المصوّرِ، وهذا أحقُّ بالكراهة من الصلاة فى الحمَّام، لأن كراهة الصلاة فى الحمَّام، إما لكونه مَظِنَّة النجاسة، وإما لكونه بيتَ الشيطان، وهو الصحيح، وأما محلُّ الصور، فَمَظِنَّةُ الشِّرْكِ، وغالِبُ شرك الأُمم كان من جهة الصور والقبور.
فصل
وفى القصة: أنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء، ففيه دليل على جواز لِبْس السواد أحياناً، ومِنْ ثَمَّ جعل خلفاء بنى العباس لِبْس السواد شعاراً

لهم، ولِولاتهم، وقضاتهم، وخطبائهم، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلبسه لباساً راتباً، ولا كان شعارَه فى الأعياد، والجُمَع، والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لبسُ العمامة السوداء يومَ الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائِرُ لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض.
فصل
ومما وقع فى هذه الغزوة، إباحةُ مُتعة النساء، ثم حرَّمها قبلَ خروجه مِن مكة،واخْتُلِفَ فى الوقت الذى حُرِّمت فيه المُتعة، على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم خَيْبَر، وهذا قولُ طائفة من العلماء.منهم: الشافعى، وغيره.
والثانى : أنه عامَ فتح مكة، وهذا قولُ ابنِ عيينة، وطائفة.
والثالث: أنه عام حُنَيْن، وهذا فى الحقيقة هو القولُ الثانى، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح.
والرابع : أنه عامَ حَجَّةِ الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجَّةِ الوداع، كما سافر وهم معاوية من عُمْرةِ الجِعرانة إلى حَجَّةِ الوداع حيث قال: قصرتْ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشقص على المروة فى حَجَّته، وقد تقدَّم فى الحَج، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان، ومِن مكان إلى مكان، ومِن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يعرض للحُفَّاظ فمَن دونهم.
والصحيح:أنَّ المُتعةإنماحُرِّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت فى "صحيح

مسلم" أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإذنه، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر، لزم النسخُ مرتين، وهذا لا عهد بمثله فى الشريعة البتة، ولا يقعُ مثلُه فيها، وأيضاً: فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كُنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك فى سورة المائدة بقوله: { اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لَّكُمْ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ،وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}[المائدة: 5]، وهذا متصل بقوله: {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: 3] ، وبقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}[المائدة: 3]، وهذا كان فى آخِر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة زمنَ خَيْبَر، ولا كان للمسلمين رغبةٌ فى الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استُرِقَّ مَن استُرِقَّ منهن، وصِرْنَ إماءً للمسلمين. فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت فى "الصحيحين" من حديث على بن أبى طالب: "أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية" وهذا صحيح صريح؟
قيل: هذا الحديثُ قد صحَّت روايتُه بلفظين: هذا أحدُهما. والثانى: الاقتصار على نهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نِكاح المُتعة، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى، قال قاسم بن أصبغ: قال سفيان ابن عيينة: يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر، لا عن نكاح المُتعة،ذكره أبو عمر،وفى "التمهيد": ثم قال: على هذا

أكثرُ الناس انتهى، فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن، فرواه: حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتعة زمن خَيْبَر، والحُمُرَ الأهلية، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتعة زمَن خَيْبَر، فجاء بالغلط البيِّن.
فإن قيل: فأى فائدة فى الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا فى وقت واحد، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ؟ قيل: هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس فى المسألتين، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر، فناظره على بن أبى طالب فى المسألتين، وروى له التحريمين، وقيَّد تحريمَ الحُمُر بزمن خَيْبَر، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم المُتعة، وحرَّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة، وعليه أكثرُ الناس، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما، لا مقيِّداً لهما بيوم خَيْبَر.. والله الموفق.ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هَلْ حرَّمها تحريمَ الفواحش التى لا تُباح بحال، أو حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذى نظر فيه ابنُ عباس وقال: أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسَّعَ فيها مَنْ توسَّع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلِّها، ورجع عنه، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ

اللهُ لَكُمْ}[المائدة: 87]، ففى
"الصحيحين" عنه قال: كنَّا نغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس لنا نِساء، فقلنا: ألا نختصِى؟ فنهانا، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوبِ إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَاأَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا،إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 87]
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما: الردُّ على مَن يُحرِّمها، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والثانى: أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً، وأنه معتد، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما رخَّص فيها للضرورة، وعند الحاجة فى الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة. فمَن رخَّص فيها فى الحَضَر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يُحب المعتدين.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم فى "صحيحه" من حديث جابر، وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذِن لكم أن تستمتعوا، يعنى: مُتعة النساء.
قيل: هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم، ثم حرَّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص لنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ أوطاسٍ فى المُتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها. وعام أوطاس: هو عام الفتح، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى "صحيحه"، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ فى شأن عَمْرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنا أنهى عنهما: مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجِّ.
قيل: الناس فى هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عُمَر هو الذى حرَّمها ونهى عنها، وقد أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباع ما سَنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن معبد فى تحريم المُتعة عامَ الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابنُ معين، ولم ير البخارىُّ إخراجَ حديثه فى "صحيحه" مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديثُ سبرة، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها، ويحتجّ بالآية، وأيضاً ولو صح لم يقل عُمَر: إنها كانت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أنهى عنها، وأُعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّمها ونهى عنها. قالوا: ولو صح لم تُفعل على عهد الصِّدِّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً
والطائفة الثانية: رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة، ولو لم يصح، فقد صحَّ حديثُ على رضى الله عنه: أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرَّم مُتعة النساء، فوجب حملُ حديث جابر على أن الذى أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَررضىالله عنه، فلما وقع فيها النزاعُ،

ظهر تحريمُها واشتهر، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها.. وبالله التوفيق
فصل [فى جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين]
وفى قصة الفتح من الفقه: جوازُ إجارة المرأةِ وأمانِها للرجل والرجلين،كما أجاز النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانَ أُمِّ هانىء لِحموَيْها.
وفيها من الفقه جوازُ قتل المرتد الذى تغلَّظت رِدَّتُه من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتُب الوحىَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ارتدَّ، ولحق بمكة، فلما كان يومُ الفتح، أتى به عثمانُ ابن عفان رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبايعه، فأمسك عنه طويلاً، ثم بايعه، وقال: "إنما أمسكتُ عنه ليقوم إليه بعضُكُم فيضربَ عنقه"، فقال له رجل: هلاَّ أومأتَ إلىَّ يا رسول الله؟ فقال: "مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُن"، فهذا كان قد تغلَّظ كفرُه برِدَّته بعد إيمانه، وهجرته، وكتابةِ الوحى، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبُه، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُريدُ قتله، فلما جاء به عثمانُ بنُ عفان وكان أخاه مِن الرضاعة، لم يأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله حياءً مِن عثمان، ولم يُبايعه ليقوم إليه بعضُ أصحابه فيقتله، فهابُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقْدِمُوا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عثمان، وساعدَ القدرُ السَّابقُ لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه،

وكان ممن استثنى الله بقوله: {كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكََ وَأَصْلَحُواْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ}[آل عمران: 86-89] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَن تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ" ، أى: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخالِفُ ظاهِرُه باطِنَه، ولا سِرُّه علانِيتَه، وإذا نفذ حكمُ اللهِ وأمرُه، لم يُومِ به، بل صرَّحَ به، وأَعلَنه، وأظهره.

فصل: فى غزوة حُنَيْن وتُسمى غزوة أوطاس
وهما موضعان بينَ مكة والطائف، فسُمِّيت الغزوةُ باسم مكانها، وتُسمى غزوةَ هَوازن، لأنهم الذين أَتَوْا لِقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما فتح اللهُ عليه مِن مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قَيْس عَيلان إلا هؤلاء،

ولم يحضُرْهَا مِن هَوازِن: كعبٌ، ولا كِلاب، وفى جشم: دريدُ بنُ الصِّمة، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيُهُ ومعرفتُه بالحرب، وكان شجاعاً مجرَّباً، وفى ثقيف سيِّدَانِ لهم، وفى الأحلاف: قاربُ بن الأسود، وفى بنى مالك: سُبيع بن الحارث وأخوه أحمر ابن الحارث، وجِماعُ أمر الناس إلى مالك بن عوف النَّصْرى، فلما أجمع السيرَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ساق مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناسُ وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمة، فلما نزل قال: بأى واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نِعْمَ مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضِرْس، ولا سَهْلٌ دَهْسٌ، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصبى، ويُعار الشاء؟ قالوا: ساق مالِكُ بن عوفٍ مع الناسِ نِساءَهُم وأموالَهم وأبناءهم. قال: أَيْنَ مالك؟ قيل: هذا مالك، ودُعي له. قال: يا مالك ؛ إنك قد أصبحتَ رئيسَ قومك، وإن هذا يومٌ كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء؟، قال: سقتُ مع الناس أبناءهم، ونساءَهم، وأموالَهم. قال: ولِمَ؟ قال: أردتُ أن أجعل خلفَ كُلِّ رجل أهلَه وماله ليقاتل عنهم. فقال: راعي ضأنٍ واللهِ، وهل يردُّ المنهزمَ شيء ، إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليكَ، فُضِحْتَ فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعبٌ وكِلاب؟ قالوا: لم يشهدْها أحدٌ منهم. قال: غاب الحَدُّ

والجِدُّ، لو كان يوم علاءٍ ورِفعة، لم تَغِبْ عنه كعبٌ ولا كِلاب، ولوَدِدْت أنكم فعلتم ما فعلت كعبٌ وكلاب، فمَن شهدها منكم؟ قالوا: عَمْرو بن عامر، وعَوْف بن عامر، قال: ذَانِكَ الجَذَعَانِ من عامر، لا ينفعان ولا يضران. يا مالك ؛ إنك لم تصنع بتقديم البَيْضةِ بَيْضةِ هَوازِن إلى نحورِ الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتمنَّع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصُّباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحقَ بك مَنْ وراءَك، وإن كانت عليك، ألْفاك ذلك، وقد أحرزتَ أهلك ومالك. قال: واللهِ لا أفعلُ، إنك قد كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقلُكَ، واللهِ لتُطِيعُنَّنى يا معشَرَ هَوازِن، أو لأتَّكئِنَّ على هذا السيف حتى يخرُجَ مِن ظهرى، وكره أن يكون لِدُريد فيها ذِكر ورأى، فقالوا: أطعناك، فقال دُريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنى.
يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
أقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتمُوهم فاكسروا جُفون سيوفكم، ثم شُدُّوا شدةَ رجل واحد.. وبعث عيوناً مِن رجاله، فأَتَوْه وقد تفرَّقت أوصالُهم، قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رِجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ، واللهِ ما تماسكنا أن أصابَنَا ما ترى، فواللهِ ما ردَّه ذلك عن وجهه

أن مَضَى على ما يُريدُ.
ولما سمع بهم نبىُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل فى الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الخبر
فلما أجمع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير إلى هَوازِن، ذُكِرَ له أن عند صفوان بنِ أُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال: يا أبا أُمية ؛ أعِرْنا سِلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ"، فقال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة دِرع بما يكفيها مِن السلاح، فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأله أن يكفيَهم حملها، ففعل.
ثم خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه ألفانِ مِن أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، وكانوا اثنى عشر ألفاً، واستعمل عتَّابَ بن أسيد على مكة أميراً، ثم مضى يُريد لقاء هوازن.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن ابن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: لما استقبلنا وادى حُنَيْن، انحدرنا فى وادٍ من أودية تِهامة أجوفَ حَطُوط، إنما ننحدر فيه

انحداراً. قال: وفى عَماية الصبح، وكان القومُ قد سبقونا إلى الوادى، فكَمَنُوا لنا فى شِعابه وأحْنائه ومضايقه، قد أجمعوا، وتهيؤوا، وأعدوا فواللهِ ما راعنا ونحن منحطُّون إلا الكتائبُ، قد شدُّوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، وانشمر الناسُ راجعين لا يَلْوِى أحدٌ منهم على أحد،وانحازرسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ اليمين، ثم قال: "إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إلىَّ، أنا رَسُولُ الله، أنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله"، وبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ من المهاجرين والأنصارِ وأهلِ بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته: على والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه، والفَضل بن العباس، وربيعةُ بن الحارث، وأُسامةُ بن زيد، وأيمن ابن أُم أيمن، وقُتِلَ يومئذ. قال: ورجل من هَوازِن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رُمح طويل أمامَ هَوازِن، وهَوازِنُ خلفه، إذا أدرك، طعن برمحه، وإذا فاته الناسُ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه على بن أبى طالب، ورجل من الأنصار يُريدانه، قال: فأتى على منْ خَلْفِهِ، فضرب عرقوبى الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصارىُّ على الرجل، فضربه ضربةً أطن قدَمه بنصف ساقه، فانجعفَ عن رحله، قال: فاجتلد الناسُ، قال: فواللهِ ما رجعت راجعةُ الناس مِن هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون، ورأى مَن كان مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جُفاة أهل مكة الهزيمة، تكلَّم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضِّغنِ، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهُم دونَ البحر، وإن الأزلامَ لمعه فى كِنانته، وصرخ جَبَلَة بن الحنبل وقال ابن هشام:

صوابه كَلَدَة: ألا بطل السِّحْرُ اليوم، فقال له صفوانُ أخوه لأُمه وكان بعدُ مشركاً: اسكت فضَّ اللهُ فاك، فواللهِ لأن يَرُبَّنى رَجُلٌ مِن قريش، أحبُّ إلىَّ من أن يربَّنى رجلٌ مِن هَوازِن.
وذكر ابنُ سعد عن شيبة بن عُثمان الحَجَبى، قال: لما كان عامُ الفتح، دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عَنوة، قلت: أسيرُ مع قريش إلى هَوازِن بحُنَيْن، فعسى إن اختلطوا أن أُصيب مِن محمد غِرَّة، فأثارَ منه، فأكون أنا الذى قمتُ بثأر قريش كُلِّها، وأقولُ: لو لم يبقَ مِن العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً، ما تبعتُه أبداً، وكنت مُرْصداً لما خرجتُ له لا يزدادُ الأمر فى نفسى إلا قوةً، فلما اختلط الناسُ، اقتحم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بغلته، فأصلتَ السيف، فدنوتُ أريدُ ما أريدُ منه، ورفعتُ سيفى حتى كِدتُ أشعره إياه، فرُفِعَ لى شُواظٌ مِن نار كالبرق كاد يمحشُنى، فوضعتُ يدى على بصرى خوفاً عليه، فالتفتَ إلىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادانى: "يَا شَيْبُ؛ ادْنُ مِنِّى" فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَمَسَحَ صَدْرِى، ثم قال: "اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانَ" قال: فواللهِ لهو كان ساعتَئِذٍ أحبَّ إلىَّ مِنْ سمعى، وبصرى، ونفسى، وأذهبَ اللهُ ما كان فى نفسى، ثم قال: "ادْنُ فقاتِلْ"، فتقدمتُ أمامَه أضربُ بسيفى، الله يعلمُ أنى أحب أن أقيَه بنفسى كُلَّ شئ، ولو لقيتُ تلك الساعة أبى لو كان حياً لأوقعتُ به السيف، فجعلتُ ألزمُه فيمن لزمه حتى تراجعَ المسلمون، فكرُّوا كَرَّةَ رجل واحد، وقُرِّبَتْ بغلةُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستوى عليها، وخرج فى أثرهم حتى تفرَّقوا فى كُلِّ وجه، ورجع إلى معسكره، فدخل خِباءه، فدخلتُ عليه، ما دخل عليه أحدٌ غيرى حباً لرؤية وجهه، وسروراً به،

فقال: "يا شَيْبُ؛ الذى أرادَ اللهُ بكَ خَيْرٌ ممَّا أرَدْتَ لِنَفْسِك"، ثم حدَّثنى بكلِّ ما أضمرتُ فى نفسى ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال: فقلتُ: فإنى أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنكَ رسولُ الله، ثم قلت: استغفر لى. فقال: "غَفَرَ اللهُ لَكَ".
وقال ابن إسحاق: وحدَّثنى الزُّهْرى، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب، قال: إنى لمعَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخذٌ بِحَكَمَةِ بغلته البيضاء، قد شَجَرْتُها بها، وكنت امرءاً جسيماً شديدَ الصوت، قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول حين رأى ما رأى من الناس: "إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ". قال: فلم أر الناس يَلْوُون على شىء، فقال: "يا عَبَّاسُ اصْرَخْ: يا مَعْشَر الأنْصَارِ، يَامَعْشَرَ أَصْحَاب السَّمُرَةِ"، فأجابوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.قال: فيذهبُ الرجلُ ليثنى بعيرَه، فلا يقدِرُ على ذلك، فيأخذ دِرعه فيقذفها فى عُنُقه، ويأخذ سيفَه وقوسه وتُرسَه، ويقتحِمُ عن بعيره، ويُخلى سبيلَه، ويؤم الصوت حتى ينتهىَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلُوا النَّاس، فاقتتلُوا فكانت الدعوة أوَّلَ ماكانت: يا للأنصار، ثم خلصت آخراً: يا للخزرج، وكانوا صُبُرَاً عند الحرب، فأشرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ركائبه، فنظر إلى مُجْتَلَدِ القوم، وهم يَجْتَلِدُونَ، فقال: "الآنَ حَمِىَ الوَطيسُ" وزَاد غيره:
أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ ... أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وفى "صحيح مسلم": ثم أخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصيَاتٍ،فرمى بها فى وجوه الكُفَّارِ،ثم قال:"انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، فما هو إلا أن

رماهم، فما زِلْتُ أرى حَدَّهُم كليلاً، وأمرَهم مُدْبِرَاً.
وفى لفظ له: إنه نزل عن البغلة، ثم قبضَ قبضة مِن تُراب الأرض، ثم استقبل بها وجوهَهم، وقال: "شَاهَتِ الوُجُوهُ"، فما خلق اللهُ منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوا مدبرين.
وذكر ابن إسحاق عن جُبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمةِ القوم، والناس يقتتلون يومَ حُنَيْنٍ مثلَ البَجادِ الأسود، أقبل مِن السماء حتى سقط بيننا وبينَ القوم، فنظرتُ فإذا نمل أسودُ مبثوث قد ملأ الوادى، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فلم أشك أنها الملائكة.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالكُ بن عَوْف، وعسكر بعضُهم بأوطاس، وتوجَّه بعضُهم نحو نخلةَ، وبعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى آثار مَن توجَّه قِبل أوطاس أبا عامر الأشعرىَّ، فأدرك مِن الناس بعضَ مَن انهزم، فناوشُوه القِتَال، فرُمِى بسهم فقُتِل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى، وهو ابن أخيه، فقاتلهم، ففتح الله عليه، فهزمهم اللهُ، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لعُبَيْدٍ أبى عَامِرٍ وَأَهْلهِ، واجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ" واستغفر لأبى موسى.
ومضى مالكُ بن عوف حتى تحصَّن بحصن ثقيف، وأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسَّبْى والغنائمِ أن تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذلكَ كُلُّهُ، ووجَّهوه إلى الجِعْرَانَةِ،

وكان السَّبىُ ستةَ آلاف رأس، والإبلُ أربعةً وعشرين ألفاً، والغنم أكثرَ من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أُوقية فضة، فاستأنى بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقدَموا عليه مسلمين بِضْعَ عشرة ليلة
ثم بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلَّفةَ قلوبُهم أوَّلَ الناسِ، فأعطى أبا سفيان بنَ حرب أربعين أُوقية، ومائةً من الإبل، فقال: ابنى يزيد؟ فقال: "أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائةً مِنَ الإبل"، فقال: ابنى معاوية؟ قال: "أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَمِائَةً من الإبل"، وأعطى حكيم بن حِزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أُخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين، وذكر أصحاب المائة وأصحاب الخمسين وأعطى العباسَ بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعراً، فكمَّل له المائة.
ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاءِ الغنائم والناس، ثم فضَّها على الناس، فكانت سهامُهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعينَ شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطى مِن تلك العطايا فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وَجَدَ هذا الحىُّ من الأنصار فى أنفسهم، حتى كَثُرت فيهم القالةُ، حتى قال قائلُهم: لقى واللهِ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومَه، فدخل عليه سعدُ بنُ عبادة، فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحىَّ من الأنصار قد وَجَدوا عليك فى أنفسهم لِما صنعتَ فى هذا الفئ الذى أصبتَ، قسمتَ فى قومك، وأعطيتَ عطايا عِظاماً فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىِّ من الأنصار

منها شىء. قال:
"فأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ"؟ قال: يا رسولَ الله؛ ما أنا إلا مِن قومِى. قال: "فاجْمَعْ لى قَومَكَ فى هذِهِ الحَظِيرَةِ" قال: فجاء رجالٌ من المهاجرينَ، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا، أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحىُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ؛ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنى عَنْكُم، وجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فى أَنْفُسِكُمْ، ألَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَداكُم اللهُ بى، وعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بى، وأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبكُم"؟ قالوا: الله ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ، ثم قال: "أَلاَ تُجيبُونى يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ"؟ قالوا: بماذَا نجيبُك يا رسولَ الله، للهِ ولِرسُولِه المنُّ والفَضْلُ؟ قال: "أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُم، لَقُلْتُم، فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، ومَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيداً فآوَيْنَاكَ، وعائِلاً فآسيناكَ، أَوجَدْتم علىَّ يَا مَعْشَرَ الأنْصارِ فى أَنْفُسِكُم فى لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قوماً لِيُسْلِمُوا، وَوكَلْتُكُم إلى إسْلامِكُم، ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاء والبَعير، وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ الله إلى رحالِكم، فَوالَّذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُون بِهِ خيرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلا الهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرُءاً مِن الأنْصارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَوَادياً، وسَلَكَت الأنصار شِعْباً وَوَادياً لَسَلكْتُ شِعْبَ الأنْصارِ وواديها، الأنصارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثارٌ، اللهُمَّ ارْحَمِ الأنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصار، وأبناءَ أبناءِ الأنْصار".
قال: فبكى القومُ حتَّى أخضلُوا لِحاهم، وقالوا: رَضينَا برسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمَاً وحظاً، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرَّقوا.

وقدمت الشَّيماءُ بنت الحارث بن عبد العُزَّى أُختُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرّضاعة، فقالت: يا رسول الله؛ إنى أختُك مِن الرضاعة، قال: "وما علامَةُ ذلك"؟ قالت: عضَّةٌ عَضَضتنيها فى ظهرى، وأنا متورِّكَتُكَ. قال: فعرف رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلامة. فبسط لها رداءَهُ، وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال: "إنْ أحْبَبْتِ الإقامَةَ فَعِنْدِى مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وإنْ أحْبَبْتِ أنْ أُمَتِّعَكِ فَتَرْجِعى إلى قَوْمِكِ"؟ قالت: بل تُمَتِّعنى وتردُّنى إلى قومى، ففعل، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غُلاما يقال له: "مكحول" وجارية، فزوجت إحداهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية. وقال أبو عمر: فأسلمت، فأعطاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أعبد وجارية، ونعما، وشاءً، وسماها حذافة. وقال: والشيماء لقب.
فصل
وقدم وفد هَوازِنَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أربعةَ عشر رجلاً، ورأسُهم زُهَيرُ بن صُرَد، وفيهم أبو بُرقان عمُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة،
فسألوه أن يَمُُنَّ عليهم بالسَّبْى والأموال، فقال: "إنَّ مَعِى مَنْ تَرَوْنَ، وإنَّ أحَبَّ الحَدِيث إلىَّ أصْدَقُهُ، فَأَبْنَاؤُكُم ونِسَاؤُكُمْ أحَبُّ إلَيْكُم أمْ أمْوَالُكُمْ"؟ قالوا: ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً فقال: "إذا صَلَّيْتُ الغَدَاةَ فَقُومُوا فقولوا: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المُؤمِنينَ، ونَسْتَشْفِعُ بِالمُؤمنين إلى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا سَبْينَا"، فلما صلَّى الغداة،

قاموا فقالُوا ذلِكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا مَا كَانَ لى ولبنى عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ"، فقال المهاجِرُونَ والأنصار: ما كان لنا فهو لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الأقرعُ بنُ حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عُيينة بن حِصن: أما أنا وبنو فَزارة فلا، وقال العباسُ بنُ مرداس: أما أنا وبنُو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال العباسُ بنُ مرداس: وهَّنتمونى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ هؤلاء القَّوْمَ قَدْ جَاؤوا مُسْلِمِينَ، وقَدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ سَبْيَهُم، وقَد خَيَّرْتُهم، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأبناء والنِّساء شَيئاً، فمنْ كانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شئ، فَطَابَتْ نَفْسَهُ بأن يَرُدَّه، فسبيلُ ذلكَ، وَمَنْ أحَبَّ أنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقِّهِ، فليردَّ عليهِمْ، ولَهُ بِكُلِّ فَرِيضَةٍ ستُّ فرائضَ منْ أوَّلِ ما يفئ اللهُ علينا" ، فقال الناسُ: قد طيبنا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: "إنَّا لا نعرِفُ مَنْ رَضِىَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ، فارْجِعُوا حَتَّى يَرفَعَ إلينَا عرفاؤُكم أَمْرَكُم "، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم.
ولم يتخلف منهم أحد غير عُيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت فى يديه، ثم ردَّها بعد ذلك، وكسا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبىَ قُبطية قُبطية.

فصل: فى الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنُّكت الحكمية
كان اللهُ عَزَّ وجَلَّ قد وعد رسولَه، وهو صادقُ الوعد، أنه إذا فتح مكَّة، دخل النَّاسُ فى دينه أفواجاً، ودانت له العربُ بأسرها، فلما تمَّ له الفتحُ المبين، اقتضت حِكمتُه تعالى أن أمسك قلوبَ هَوازِنَ ومَن تَبِعَهَا عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتألَّبوا لحرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، لِيظهر أمرُ الله، وتمامُ إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولِتكون غنائمُهم شكراناً لأهل الفتح، وليُظهرَ اللهُ سبحانه رسولَه وعِبادَه، وقهرَه لهذه الشَوْكة العظيمة التى لم يلق المسلمون مثلها، فلا يُقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب، ولغير ذلك مِن الحكم الباهرة التى تلوحُ للمتأملين، وتبدو للمتوسمين
واقتضت حكمتُه سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارةَ الهزيمة والكسرة مع كثرة عَددهم، وعُددهم، وقوةِ شَوْكتهم لِيُطامِنَ رُؤوساً رُفِعت بالفتح، ولم تدخل بلدَه وحرمه كما دخله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إنَّ ذقنه تكادُ تَمَسُّ سرجه تواضعاً لربه، وخضوعاً لعظمته، واستكانةً لعزَّته، أن أحلَّ له حَرَمهُ وبلده، ولم يَحِلَّ لأحد قبله ولا لأحد بعدَه، ولِيبين سُبحانه لمن قال: "لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ عن قِلَّةٍ" أن النصرَ إنما هو من عنده، وأنه مَن ينصرُه، فلا غالب له، ومَن يخذُله، فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذى تولَّى نصر رسوله ودينه، لا كثرتُكم التى أعجبتكم، فإنها لم تُغن عنكم شيئاً، فوليتُم مُدبرين، فلما انكسرت قلوبُهم، أُرسلت إليها خِلَعُ الجبر مع بَرِيدِ النصر،

فأنزل الله سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمتُه أن خِلَعَ النصر وجوائزَه إنما تفِيضُ على أهل الانكسار: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُون}[القصص: 6]
ومنها: أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائمَ مكة، فلم يغنمُوا منها ذهباً، ولا فضةً، ولا متاعاً، ولا سبياً، ولا أرضاً كما روى أبو داود، عن وهب ابن منبِّه، قال: سألتُ جابراً: هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الفَتْح شَيْئاً؟ قال: لا. وكانوا قد فتحوها بإيجافِ الخيل والركاب، وهُم عشرةُ آلاف، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيشُ مِن أسباب القوة، فحرَّك سبحانَه قلوبَ المشركين لغزوهم، وقذفَ فى قلوبهم إخراجَ أموالهم، ونَعمهم، وشائهم، وسَبيهم معهم نُزُلاً، وضِيافةً، وكرامةً، لِحزبه وجنده، وتمَّمَ تقديرَه سبحانه بأن أطمعهم فى الظفر، وألاح لهم مبادئ النصر، ليقضى اللهُ أمراً كان مفعولاً، فلما أنزل اللهُ نصرَهُ على رسوله وأوليائه، وبردت الغنائمُ لأهلها، وجرت فيها سهامُ الله ورسوله، قيل: لا حاجةَ لنا فى دمائكم، ولا فى نسائكم وذراريكم، فأوحى اللهُ سبحانه إلى قلوبهم التوبةَ والإنابةَ، فجاؤوا مسلمين. فقيل: إن مِن شُكْرِ إسلامِكم وإتيانكم أن نَرُدَّ عَلَيْكُمْ نِسَاءَكُم وأَبْنَاءَكُم وَسَبْيَكُم، و{إن يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأنفال: 70]

ومنها: أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوةِ بدر، وختم غزوهم بغزوة حُنَيْن، ولهذا يُقْرَنُ بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال: بدرٌ وحُنَيْن، وإن كان بينهما سبعُ سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين فى هاتين الغزاتين، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رمى فى وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طُفِئَت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، فالأُولى:خوَّفتهم وكسرت مِن حَدِّهم، والثانية: استفرغت قواهم، واستنفدت سهامَهم، وأذلَّت جمعهم حتى لم يجدوا بُداً من الدخول فى دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه جَبَرَ بها أهلَ مكة، وفرَّحهم بما نالُوه من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عينَ جبرهم، وعرَّفهم تمامَ نعمته عليهم بما صرف عنهم من شر هَوازِن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نُصِرُوا عليهم بالمسلمين، ولو أُفردوا عنهم، لأكلهم عدوُّهم... إلى غير ذلك من الحكم التى لا يُحيط بها إلا الله تعالى.
فصل
وفيها من الفقه: أن الإمام ينبغى له أن يبعث العيونَ ومَنْ يدخلُ بين عدوه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن.
ومنها: أن الإمام له أن يستعيرَ سلاحَ المشركين وعُدَّتهم لِقتال عدوه، كما استعار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدراع صفوان، وهو يومئذ مشركٌ.

ومنها: أن مِن تمام التوكل استعمالَ الأسبابِ التى نصبها الله لمسبباتها قدراَ وشرعاً، فإن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أكملُ الخلق توكُّلاً، وإنما كانوا يَلْقَوْنَ عدوَّهم، وهم متحصِّنُون بأنواع السِّلاح، ودخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكَّة، والبَيْضَةُ على رأسه، وقد أنزل الله عليه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]
وكثير ممن لا تحقيق عنده، ولا رسوخ فى العلم يستشكلُ هذا، ويتكايس فى الجواب تارة بأن هذا فعله تعليماً للأُمة، وتارة بأن هذا كان قبلَ نزول الآية. ووقعت فى مصر مسألة سأل عنها بعضُ الأمراء، وقد ذُكِرَ له حديثٌ ذكره أبو القاسم بن عساكر فى "تاريخه الكبير" أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بعد أن أهدت له اليهوديةُ الشاةَ المسمومةَ لا يأكل طعاماً قُدِّمَ له حتى يأكل منه مَن قدَّمه.
قالوا: وفى هذا أُسوة للملوك فى ذلك. فقال قائل: كيف يُجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ فإذا كانَ الله سبحانه قد ضمن له العِصْمةَ، فهو يعلم أنه لا سبيلَ لبَشَرٍ إليه.
وأجاب بعضهُم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضُهم بأن هذا كان قبلَ نزولِ الآية، فلما نزلت لم يكن لِيفعل ذلك بعدَها، ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العِصمة، لا يُنافى تعاطيه لأسبابها، لأغناهم عن هذا التكلُّف، فإن هذا الضمانَ له من ربه تبارك وتعالى لا يُناقِضُ احتراسَه مِن الناس، ولا يُنافيه، كما أن إخبارَ الله سبحانه له بأنه يُظهر دينَه على الدِّينِ كُلِّه، ويُعليه، لا يُناقض أمره بالقتال، وإعدادِ العُدَّة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد، والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية، فكان إذا أراد الغزوة، ورَّى

بغيرها، وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التى جعلها الله مُفضية إلى ذلك، مقتضية له، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمُ بربِّه، وأتبعُ لأمره من أن يعطِّل الأسبابَ التى جعلها الله له بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر، وإظهار دينه، وغلبته لعدوه، وهذا كما أنه سبحانه ضمن له حياتَه حتَّى يُبلِّغ رسالاتِه، ويُظهر دينه، وهو يتعاطى أسبابَ الحياة مِن المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، وهذا موضِعٌ يغلَطُ فيه كثير مِن الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدُّعاء، وزعم أنه لا فائدةَ فيه، لأن المسؤول إن كان قد قُدِّر، ناله ولا بد، وإن لم يُقدَّر، لم ينله، فأى فائدة فى الاشتغال بالدعاء؟ ثم تكايسَ فى الجواب، بأن قال: الدعاءُ عبادة، فيقال لهذا الغالِط: بقى عليك قسم آخر وهو الحقُّ أنه قد قدَّر له مطلوبَه بسببٍ إن تعاطاه، حصل له المطلوبُ، وإن عطل السبب، فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب فى حصول المطلوب، وما مثل هذا الغالط إلا مثلُ مَن يقول: إن كان الله قد قدَّر لى الشبع، فأنا أشبع، أكلتُ أو لم آكل، وإن لم يُقدِّر لى الشبع، لم أشبع أكلتُ أو لم آكل، فما فائدة الأكل؟ وأمثال هذه التُّرَّهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه.. وبالله التوفيق
فصل
وفيها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرط لصفوان فى العارية الضمان، فقال: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" فهل هذا إخبار عن شرعه فى العارية، ووصف لها بوصفٍ شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمانُ كما يُضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها، ومعناه: أنى ضامن لك تأديَتَها،

وأنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء.
فقال الشافعى وأحمد بالأول، وأنها مضمونة بالتلف، وقال أبو حنيفة ومالك بالثانى، وأنها مضمونة بالرد على تفصيل فى مذهب مالك، وهو أن العَيْن إن كانت مما لا يُغاب عليه، كالحيوان والعَقار، لم تُضمن بالتلف إلا أن يظهر كَذِبه، وإن كانت مما يُغاب عليه كالحلى ونحوه، ضُمنت بالتلف إلا أن يأتىَ ببينة تشهد على التلف، وسر مذهبه أن العارية أمانة غيرُ مضمونة كما قال أبو حنيفة، إلا أنه لا يُقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرَّق بين ما يُغاب عليه، وما لا يُغاب عليه.
ومأخذ المسألة أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفوان: "بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ"، هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أى: أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردَّها، وهو يحتمل الأمرين، وهو فى ضمان الرد أظهرُ لثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ فى اللَّفظ الآخر: "بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ"، فهذا يبينُ أن قوله: "مضمونة"، المراد به: المضمونة بالأداء.
الثانى: أنَّه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها منى أخذَ غصب تحولُ بينى وبينها؟ فقال: "لا بل أخذ عارية أُؤديها إليك". ولو كان سأله عن تلفها وقال: أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
الثالث: أنَّه جعل الضمانَ صِفة لها نفسها، ولو كان ضمانَ تلف، لكان الضمانُ لِبدلها، فلما وقع الضمانُ على ذاتها، دل على أنه ضمانُ أداء.
فإن قيل: ففى القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضمنها، فقال: أنا اليوم فى الإسلام أرغبُ، قيل: هل عرض عليه أمراً واجباً أو أمراً جائزاً مُستحَباً الأَوْلى فعلُه، وهو من مكارم الأخلاق

والشيم، ومن محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثانى بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجباً، لم يعرضه عليه، بل كان يفى له به، ويقول: هذا حقُّك، كما لو كان الذاهب بعينه موجوداً، فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله
فصل
وفيها: جوازُ عقرِ فرسِ العدو ومركُوبه إذا كان ذلك عوناً على قتله، كما عقر علىُّ رضى الله عنه جمل حامل راية الكفار، وليس هذا مِن تعذيب الحيوان المنهى عنه.
وفيها: عفُو رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن همَّ بقتله، ولم يُعاجله، بل دعا له ومسح صدره حتى عاد، كأنه ولى حميم.
ومنها: ما ظهر فى هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة، من إخباره لشيبة بما أضمر فى نفسه، ومن ثباته، وقد تولَّى عنه الناسُ، وهو يقول:
أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ ... أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وقد استقبلته كتائبُ المشركين.
ومنها: إيصالُ الله قبضته التى رمى بها إلى عيون أعدائه على البُعْدِ منه، وبركتُه فى تلك القبضة، حتى ملأت أعينَ القوم، إلى غير ذلك من معجزاته فيها، كنزول الملائكة للقتال معه، حتى رآهم العدوُّ جهرة، ورآهم بعض المسلمين.
ومنها: جوازُ انتظار الإمام بقسم الغنائمُ إسلامَ الكفار ودخولَهم

فى الطاعة، فيرد عليهم غنائِمَهَم وسبيَهم، وفى هذا دليل لمن يقول: إن الغنيمة إنما تُملك بالقسمة، لا بمجرد الاستيلاء عليها، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء، لم يستأنِ بهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيردها عليهم، وعلى هذا فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة، أو إحرازها بدار الإسلام، رُدَّ نصيبُه على بقية الغانمين دون ورثته، وهذا مذهب أبى حنيفة: لو مات قبل الاستيلاء لم يكن لورثته شئ، ولو مات بعد القسمة فسهمه لورثته
فصل
وهذا العطاء الذى أعطاه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش، والمؤلَّفة قلوبُهم، هل هو مِن أصل الغنيمة أو من الخُمُس، أو من خُمس الخُمُس؟ فقال الشافعى ومالك: هو من خُمس الخُمُس، وهو سهمُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى جعله الله له من الخُمس، وهو غير الصَّفىِّ وغيرُ ما يُصيبه من المغنم، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستأذن الغانمين فى تِلك العطية، ولو كان العطاءُ من أصل الغنيمة، لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخُمُس، لأنه مقسوم على خمسة، فهو إذاً من خُمس الخُمُسِ، وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاءُ هو من النفل، نَفَلَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به رؤوسَ القبائِلِ والعشائِرِ ليتألَّفهم به وقومَهم على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثُلث بعد الخُمس، والرُّبع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشَوْكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كما قال بعضُ هؤلاء الذين نفلهم: لقد أعطانى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنه لأبغض الخلق إلىَّ، فما زال يُعطينى حتى إنه لأحب

الخلق إلىَّ، فما ظنك بعطاءٍ قوَّى الإسلامَ وأهله، وأذلَّ الكفرَ وحِزبه، واستجلب به قلوبَ رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضِبُوا، غَضِبَ لغضبهم أتباعهم، وإذا رَضُوا رَضُوا لرضاهم. فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحدٌ مِن قومهم، فللَّهِ ما أعظمَ موقِعَ هذا العطاء، وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله.
ومعلوم: أن الأنفال لله ولرسوله يقسِمُها رسوله حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها فى هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولمَا عَمِيَتْ أبصارُ ذى الخويصرة التميمى وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة. قال له قائلهم: اعْدِل فإنَّكَ لم تعدل. وقال مشبِهُه:
إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله، ولعَمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله، ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يُسلِّط عليها ناراً من السماء تأكلها، وهو فى ذلك كله أعدلُ العادلين، وأحكمُ الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثاً، ولا قدَّرَهُ سُدى، بل هو عَيْن المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه، وعِزَّته، وحكمته، ورحمته، ولقد أتمَّ نعمته على قوم ردَّهم إلى منازلهم برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقودونه إلى ديارهم، وأرضى مَن لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم، ويُحرِّمون، ورسولُه منفِّذٌ لأمره

فإن قيل: فلو دعت حاجةُ الإمام فى وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه، هل يسوغ له ذلك؟
قيل: الإمام نائب عن المسلمين يتصرَّفُ لمصالحهم، وقيام الدين. فإن تعيَّن ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن حَوْزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعيَّن عليه، وهل تُجوِّز الشريعة غير هذا، فإنه وإن كان فى الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقَّعَةُ مِن فوات تأليف هذا العدو أعظمُ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين.. وباللهِ التوفيق.
فصل
وفيها: أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن لم يُطيِّبْ نَفْسَه، فَلَهُ بِكُلِّ فريضَةٍ ستُّ فرائض مِنْ أوَّل ما يفئ اللهُ عَلَيْنَا".
ففى هذا دليل على جواز بيع الرقيق، بل الحيوان بعضه ببعض نسيئةً ومتفاضلاً.
وفى "السنن" من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، وكان يأخذُ البعيرَ بالبعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ.

وفى "السنن" عن ابن عمر، عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن بَيْع الحَيَوانِ بالحيوان نسيئةً، ورواه الترمذى من حديث الحسن عن سمرة، وصحَّحه.
وفى الترمذى من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لا يَصْلُحُ نَسِيئاً، ولا بَأسَ بِهِ يَداً بيدٍ" قال الترمذى: حديث حسن.
فاختلف الناس فى هذه الأحاديث، على أربعة أقوال، وهى روايات عن أحمد.
أحدها : جواز ذلك متفاضلاً، ومتساوياً، نسيئة، ويداً بيدٍ، وهو مذهب أبى حنيفة، والشافعى.
والثانى : لا يجوز ذلك نسيئةً، ولا متفاضلاً.
والثالث: يحرم الجمع بين النَّساء والتفاضل،ويجوز البيع مع أحدهما، وهو قولُ مالك رحمه الله.
والرابع : إن اتحد الجنس، جاز التفاضُلُ، وحَرمَ النَّساء، وإن اختلف الجنس، جاز التفاضل والنَّساء.
وللناس فى هذه الأحاديث والتأليفِ بينها ثلاثة مسالك:
أحدها : تضعيفُ حديث الحسن عن سمرة، لأنه لم يُسمع منه سوى حديثين ليس هذا منهما، وتضعيفُ حديث الحجاج بن أرطاة.

والمسلك الثانى : دعوى النسخ، وإنلم يتبين المتأخِّر منها من المتقدِّم، ولذلك وقع الاختلاف.
والمسلك الثالث : حملُها على أحوال مختلفة، وهو أن النهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، إنما كان لأنه ذريعة إلى النسيئة فى الربويات، فإن البائع إذا رأى ما فى هذا البيعِ من الربح لم تقتصر نفسه عليه، بل تجره إلى بيع الربوى كذلك، فسدَّ عليهم الذريعة، وأباحه يدَاً بيدٍ، ومنع من النَّساء فيه، وما حُرِّم للذريعة يُباح للمصلحة الراجحة، كما أباح مِن المُزابنة العرايا للمصلحة الراجحة، وأباح ما تدعو إليه الحاجةُ منها، وكذلك بيعُ الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلاً فى هذه القصة، وفى حديث ابن عمر إنما وقع فى الجهاد، وحاجة المسلمين إلى تجهيز الجيش، ومعلوم أن مصلحةَ تجهيزه أرجحُ من المفسدة فى بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والشريعةُ لا تُعطِّلُ المصلحة الراجحة لأجل المرجوحة، ونظير هذا جوازُ لبس الحرير فى الحرب، وجوازُ الخُيلاء فيها، إذ مصلحة ذلك أرجح من مفسدة لبسه، ونظيرُ ذلك لِباسه القَبَاء الحرير الذى أهداه له ملك "أيلة" ساعة، ثم نزعه للمصلحة الراجحة فى تأليفه وجبره، وكان هذا بعد النهى عن لباس الحرير، كما بيَّناه مستوفًى فى كتاب "التخيير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير"، وبيَّنا أن هذا كان عامَ الوفود سنة تسع، وأن النهىَ عن لباس الحريركان قبلَ ذلك، بدليل أنه نهى عمر عن لبس الحُلة الحرير التى أعطاه إياها، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة، وهذا كان قبلَ الفتح، ولباسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدية ملك "أيلة" كان بعد ذلك، ونظير هذا نهيُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة قبل طلوع الشمس، وبعد العصر، سداً لذريعة التشبه بالكفار، وأباح ما فيه مصلحة راجحة

مِن قضاء الفوائت، وقضاء السنن، وصلاة الجنازة، وتحية المسجد، لأن مصلحة فعلها أرجح من مفسدة النهى.. والله أعلم.
وفى القصة دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلاً غيرَ محدود، جاز إذا اتفقا عليه ورضيا به، وقد نص أحمد على جوازه فى رواية عنه فى الخيار مدة غير محدودة، أنه يكون جائزاً حتى يقطعاه، وهذا هو الراجح، إذ لا محذور فى ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضى بموجب العقد، فكلاهما فى العلم به سواء، فليس لأحدهما مزية على الآخر، فلا يكون ذلك ظلماً
فصل
وفى هذه الغزوة أنه قال:"مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُه" وقاله فى غزوة أُخرى قبلها، فاختلف الفقهاء، هل هذا السَلَب مُستحَقٌ بالشرع أو بالشرط؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
أحدهما: أنه له بالشرع، شرطه الإمامُ أو لم يَشرِطه، وهو قول الشافعى.
والثانى : أنه لا يُستحَق إلا بشرط الإمام، وهو قول أبى حنيفة. وقال مالك رحمه الله: لا يُستحَق إلا بشرط الإمام بعد القتال. فلو نص قبله، لم يجز. قال مالك: ولم يبلغنى أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك إلا يوم حُنَيْن، وإنما نفَّل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن برد القتال.
ومأخذ النزاع أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو الإمام، والحاكم، والمفتى، وهو الرسول، فقد يقول الحكمَ بمنصب الرسالة، فيكون شرعاً عاماً

إلى يوم القيامة كقوله: "مَنْ أَحْدَثَ فى أمْرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ ". وقوله : "مَنْ زَرَعَ فى أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْع شَىءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ"، وكحكمه "بالشَّاهدِ، واليمينِ"، و"بالشُّفعة فيما لم يُقْسَمْ".
وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهِند بنتِ عُتبة امرأة أبى سُفيان، وقد شكَتْ إليه شُحَّ زوجِها، وأنه لا يُعطيها ما يكفيها: "خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ" فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدعُ بأبى سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البيِّنة.
وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأُمة فى ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم مَن بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التى راعاها النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زماناً ومكاناً وحالاً، ومن ههنا تختلِفُ الأئمة فى كثير من المواضع التى فيها أثر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ" هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقاً بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة،فيكون شرعاً عاماً؟وكذلك قوله: "مَنْ أَحْيا أرْضاً مَيتَةً فَهِىَ لَهُ " هل هو شرع عام لكل أحد،

أَذِنَ فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة، فلا يُملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على القولين، فالأول: للشافعى وأحمد فى ظاهر مذهبهما.
والثانى : لأبى حنيفة، وفرَّق مالك بين الفلوات الواسعة، وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام فى الثانى دون الأول.
فصل
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ" دليل على مسألتين:
إحداهما: أن دعوى القاتل أنه قتل هذا الكافِرَ، لا تُقبل فى استحقاق سَلَبِهِ.
الثانية : الاكتفاء فى ثبوت هذه الدعوى بشاهد واحد من غير يمين، لما ثبت فى الصحيح عن أبى قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حُنَيْن، فلما التقينا، كانت للمسلمين جولةٌ، فرأيتُ رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرتُ إليه حتى أتيتُه مِن ورائه، فضربتُه على حبل عاتقه، وأقبل علىَّ، فضمَّنى ضمَّة، وجدتُ منها ريحَ الموت، ثم أدركه الموتُ، فأرسلنى، فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعُوا، وجلس رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ" ، قال: فقمتُ فقلت: مَن يشهد لى؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك قال: فقمتُ فقلت: مَن يشهد لى؟ ثم قال ذلك الثالثة، فقمتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما لكَ يا أبا قتادة"؟ فقصصتُ عليه القِصَّةَ، فقال رجل من القوم: صدق يا رسُول الله، وسَلَبُ ذلك القتيل عندى، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصِّدِّيق: لاهَا اللهِ إذاً

لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يُقَاتِلُ عَنْ الله ورسوله، فيُعطيك سَلَبه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"صَدَقَ فَأعْطِهِ إيَّاهُ"، فأعطانى، فبعتُ الدرع، فابتعتُ بهِ مخَرَفاً فى بنى سلمة، فإنه لأوَّل مال تأثَّلْتُه فى الإسلام.
وفى المسألة ثلاثة أقوال، هذا أحدها، وهو وجه فى مذهب أحمد.
والثانى: أنه لا بد من شاهد ويمين، كإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث وهو منصوص الإمام أحمد: أنه لا بُدَّ من شاهدين، لأنها دعوى قتل، فلا تُقبل إلا بشاهدين
وفى القصة دليل على مسألة أُخرى، وهى أنه لا يُشترط فى الشهادة التلفظُ بلفظ: "أشهد" وهذا أصح الروايات عن أحمد فى الدليل، وإن كان الأشهر عند أصحابه الاشتراط، وهى مذهبُ مالك. قال شيخنا: ولا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراطُ لفظ الشهادة، وقد قال ابن عباس: شهد عندى رجال مرضيون وأرضاهم عندى عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح، ومعلوم: أنهم لم يتلفظوا له بلفظ: "أشهد"، إنما كان مجرد إخبار، وفى حديث ماعز: فلما شهد على نفسه أربع شهادات رجَمَه، وإنما كان منه مجرد إخبار عن نفسه، وهو إقرار، وكذلك قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى، قُلْ لاَ أَشْهَدُ} [الأنعام: 19]، وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}[الأنعام: 130]، وقوله: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً}[النساء: 166]، وقوله: {ءَأَقْرَرْتُمْ

وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِى، قَالُواْ أَقْرَرْنَا، قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 81]، وقوله: {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِماً بالْقِسْطِ}[آل عمران: 18] إلى أضعافِ ذلك مما ورد فى القرآن والسُّنَّة من إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرَّد عن لفظ: "أشهد".
وقد تنازع الإمام أحمد وعلى بن المدينى فى الشهادة للعشرة بالجنَّة، فقال على: أقول: هُم فى الجنَّة، ولا أقولُ: أشهد أنهم فى الجنَّة. فقال الإمام أحمد: متى قلتَ: هم فى الجنَّة، فقد شهدتَ، وهذا تصريح منه بأنه لا يُشترط فى الشهادة لفظ "أشهد". وحديث أبى قتادة من أبين الحجج فى ذلك.
فإن قيل: إخبار مَن كان عنده السَلَب إنما كان إقراراً بقوله: هو عندى، وليس ذلك من الشهادة فى شئ. قيل: تضمَّن كلامه شهادةً وإقراراً بقوله: "صدق"، شهادة له بأنه قتله، وقوله:"هو عندى" إقرارٌ منه بأنه عنده، والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قضى بالسَلَب بعد البيِّنة، وكان تصديق هذا هو البيِّنة
فصل
وقوله صَلى الله عَليه وسلم: " فَلَهُ سَلَبُه" ، دليل على أنَّ له سَلَبُه كله غيرَ مخمَّس، وقد صرَّح بهذا فى قوله لسلمة بن الأكوع لما قتل قتيلاً: "له سَلَبُهُ أَجْمَعُ".
وفى المسألة ثلاثة مذاهب، هذا أحدها.
والثانى : أنه يُخمَّس كالغنيمة، وهذا قولُ الأوزاعى وأهل الشام،

وهو مذهب ابن عباس لدخوله فى آية الغنيمة.
والثالث: أن الإمام إن استكثره خمَّسه، وإن استقلَّه لم يُخمِّسه وهو قول إسحاق، وفعله عمر بن الخطاب، فروى سَعيد فِى "سننه" عن ابن سيرين، أن البَرَاء بن مالك بارز مرزُبانَ المرازبة بالبحرين، فطعنَه، فَدَقَّ صُلْبَه، وأخذ سِوارَيْهِ وسَلَبه، فلما صلَّى عمرُ الظهرَ، أتى البَرَاء فى داره فقال: إنَّا كنا لا نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وإن سَلَب البَرَاء قد بلغ مالاً، وأنا خامِسُه، فكان أوَّلَ سَلَبٍ خُمِّس فى الإسلام سَلَبُ البَرَاء، وبلغ ثلاثين ألفاً، والأول: أصح، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُخَمِّسِ السَّلَب وقال: "هو له أجمع"، ومضت على ذلك سُنَّته وسُنَّةُ الصِّدِّيق بعده، وما رآه عمرُ اجتهاد منه أداه إليه رأيه.
والحديث يدل على أنه مِن أصل الغنيمة، فإنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى به للقاتل، ولم ينظُرْ فى قيمته، وقدره، واعتبار خروجه من خُمس الخُمس، وقال مالك: هو من خُمس الخُمس، ويدل على أنه يستحقه مَن يُسهم له، ومن لا يُسهم له من صبى وامرأة، وعبد ومشرك. وقال الشافعى فى أحد قوليه: لا يستحق السَّلَب إلا مَن يستحق السهم، لأن السهم المجمَع عليه إذا لم يستحقه العبد والصبى، والمرأة والمشرك، فالسَّلَبُ أولى، والأول أصحُّ للعموم، ولأنه جار مجرى قول الإمام: مَن فعل كذا وكذا، أو دلَّ على حصن، أو جاء برأس، فله كذا مما فيه تحريض على الجهاد، والسهم مُستحَق بالحضور، وإن لم يكن منه فعل، والسَّلَب مستحق بالفعل، فجرى مجرى الجعالة.

فصل [فى أنه يستحق سَلَب جميع مَن قتله وإن كثروا]
وفيه دلالة على أنه يستحق سَلَبَ جميع مَن قتله، وإن كَثُروا، وقد ذكر أبو داود أن أبا طلحة قتل يوم حُنَيْن عشرين رجلاً، فأخذ أسلابهم.

فصل: فى غزوة الطائف
فى شوَّال سنة ثمان قال ابن سعد: قالوا: ولما أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسير إلى الطائف، بعث الطُّفيل بن عمرو إلى ذى الكَفَّيْنِ: صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسى، يَهدِمه، وأمره أن يستمدَّ قومه، ويُوافيه بالطائف، فخرج سريعاً إلى قومه، فهدم ذا الكَفَّيْنِ، وجعل يَحُشُّ النار فى وجههِ ويُحَرِّقه ويقول:
يَا ذَا الكَفَيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكا ... مِيلادُنَا أقْدَمُ مِنْ مِيلاَدِكَا
إنى حَشَشْتُ النَّار فى فُؤادِكَا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعاً، فوافَوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام، وقدم بِدَبَّابَةٍ ومنجنيق.

قال ابن سعد: ولما خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن حُنَيْن يُريد الطائفَ، قَدِمَ خالدُ ابن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف قد رَمُّوا حِصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلُح لهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس، دخلوا حِصنهم وأغلقوه عليهم، وتهيؤوا للقتال، وسار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل قريباً من حصن الطائف، وعسكر هناك، فرَمَوا المسلمين بالنبل رمياً شديداً، كأنه رِجْلُ جَرَادٍ حتى أُصيب ناسٌ من المسلمين بجراحة، وقُتِلَ منهم اثنا عشر رجلاً، فارتفع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى موضع مسجد الطائف اليومَ، وكان معه من نسائه أمُّ سلمة وزينب، فضرب لهما قُبَّتين، وكان يُصَلِّى بين القُبَّتين مدة حصار الطائف، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً، وقال ابن إسحاق: بِضعاً وعشرين ليلة.
ونصب عليهم المنجنيق، وهو أول ما رمى به فى الإسلام.
وقال ابن سعد: حدَّثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن مكحول أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوماً.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان يوم الشَّدْخَةِ عند جِدار الطائف، دخل نَفَر مِن أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتَ دبابةٍ، ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنَّبل، فقتلُوا منهم رجالاً، فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناسُ فيها يقطعون.

قال ابن سعد: فسألوه أن يدعها للهِ وللرَّحم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"فإنى أدَعُهَا للهِ ولِلرَّحمِ" فَنَادى منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّما عبدٍ نزل من الحِصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعةَ عشر رجلاً، منهم أبو بكرة، فأعتقهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفع كُلَّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونهُ، فشَقَّ ذلك على أهلِ الطائف مشقةً شديدة
ولم يُؤذَن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى فتح الطائف، واستشار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوفلَ ابنَ معاوية الدِّيلى، فقال: "ما ترى"؟ فقال: ثَعْلَبٌ فى جُحْرٍ، إن أقمتَ عليه أخذتَه، وإن تركتَه لم يضرك. فأمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرَ بن الخطاب، فأذَّن فى الناس بالرحيل، فضجَّ الناسُ من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يُفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فاغدُوا على القتال " فَغَدَوْا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّا قَافِلُونَ غداً إن شاء اللهُ"، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك، فلما ارتحلوا واستقلُّوا، قال: "قولوا: آيبُون تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ"، وقيل: يا رسول الله؛ ادعُ الله على ثقيف، فقال: "اللهُمَّ اهْدِ ثَقيفاً وائتِ بِهِمْ".

واستشهدَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف جماعةٌ، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف إلى الجِعرانة، ثم دخل منها محرماً بعُمْرَة، فقضى عُمْرتَه، ثم رجع إلى المدينة.
فصل
قال ابن إسحاق: وقدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة مِن تبوك فى رمضانَ، وقَدِمَ عليه فى ذلك الشهر وفدُ ثقيف، وكان مِن حديثهم: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف عنهم اتَّبع أثَره عروةُ بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخُل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجعَ إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كما يتحدث قومُك أنهم قاتلوك"، وعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان منهم، فقال عُرْوَة: يا رسول الله؛ أنا أحبُّ إليهم مِن أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يُخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عُلِّيَّة له، وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينَه، رمَوْه بالنبل مِن كل وجه، فأصابه سهمٌ فقتله، فقيل لعُرْوة: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادةٌ ساقها الله إلىَّ، فليس فىَّ إلا ما فى الشهداء الذين قُتِلُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يرتحِلَ عنكم، فادفِنونى معهم، فدفنُوه معهَم، فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيه: "إن مَثَلَه فى قَوْمِهِ، كَمَثَلِ صَاحبِ يَس فى قَوْمِهِ".
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عُرْوَة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينَهم، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب مَنْ حولهم مِن العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً، كما أرسلوا عُرْوَة،

فكلَّموا عبد ياليل ابن عمرو بن عُمير، وكان فى سن عُرْوَة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يفعل وخشى أن يُصنع به كما صُنِع بعُرْوَة، فقال: لستُ بفاعل حتى تُرسلوا معى رجالاً، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثةً من بنى مالك، فيكونون ستة، فبعثوا معه الحَكَم بن عَمْرو بن وَهْب، وشُرَحبيل بن غيلان، ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص، وأوس ابن عوف، ونمير بن خَرَشَة، فخرج بهم، فلما دَنَوْا من المدينة، ونزلوا قناة لَقُوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتدَّ ليبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر فقال: أقسمتُ عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أكونَ أنا أُحدِّثه، ففعل، فدخل أبو بكر على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرةُ إلى أصحابه، فروَّح الظهر معهم، وأعلمهم كيف يُحيُّون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضرب عليهم قُبَّة فى ناحية مسجده كما يزعمون.
وكان خالدُ بن سعيد بن العاص هو الذى يمشى بينهم، وبين رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اكتتبوا كِتابهم، وكان خالد هو الذى كتبه، وكانوا لا يأكلون طعاماً يأتيهم من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يأكُلَ منه خالد، حتى أسلموا.
وقد كان فيما سألوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدع لهم الطاغيةَ، وهى اللاتُ لا يَهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، فما برِحُوا يسألونه سنةً سنةً، ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى، وإنما يريدون بذلك فيما يُظهرون أن يَسْلَمُوا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى

يدخُلَهُمُ الإسلامُ، فأبىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وقد كانوا يسألونه مع ترك الطاغية أن يُعفيهم مِن الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانَهم بأيديهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما كسرُ أوثانكم بأيديكم، فسنُعفيكم منه، وأما الصلاةُ، فلا خير فى دين لا صلاة فيه". فلما أسلمُوا وكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً، أمَّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سناً، وذلك أنه كان من أحرصهم على التفقه فى الإسلام، وتعلُّم القرآن.
فلما فرغوا من أمرهم وتوجَّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة بن شعبة أن يُقَدِّمَ أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان، فقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذى الهَدْمِ، فلما دخل المغيرةُ بن شعبة، علاها يضربُها بالمعول، وقام دونَه بنو مُعتِّب خشية أن يُرمى أو يُصاب كما أُصيب عُروة، وخرج نساء ثقيف حُسَّراً يبكين عليها، ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس "واهاً لك واهاً لك" فلما هدمها المغيرةُ، وأخذ مالها وحُليها، أرسل إلى أبى سفيان مجموعَ مالها مِن الذهب والفضَّة والجَزْع.
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفد ثقيف حين قُتِلَ عُروة يريدان فراق ثقيف، وأن لا يُجامعاهم

على شيء أبداً، فأسلما، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تولَّيا مَنْ شِئْتُمَا" قالا: نتولَّى الله ورسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وخالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ"، فقالا: وخالنا أبا سفيان.
فلما أسلم أهل الطائف، سأل أبو مليح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقضى عن أبيه عُروة دَيْنًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقْضِهِ وعُروة والأسود أخوان لأب وأُم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكاً" فقال قارب ابن الأسود: يا رسول الله؛ لكن تَصِلُ مسلماً ذا قرابة يعنى نفسَه وإنما الدَّيْنُ علىَّ، وأنا الَّذى أُطْلَبُ به، فأمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان أن يَقضى دَيْنَ عُروة والأسود من مال الطاغية، ففعل.
وكان كتابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى كتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى رسول الله إلى المؤمنين، إن عِضَاه وَجٍّ وصيدَه حرام، لا يُعضد، من وُجِدَ يصنعُ شيئاً مِن ذلك، فإنه يُجلد، وتُنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك، فإنه يؤخذ، فيبلغ به إلى النبى محمد، وإن هذا أمرُ النبى محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعداه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله. فهذه قصة ثقيف من أولها إلى آخرها، سُقناها كما هى، وإن تخلل بين غزوها وإسلامها غزاةُ تبوك وغيرها، لكن آثرنا أن لا نقطع قِصتهم، وأن ينتظم أوَّلُهَا بآخرها ليقع الكلام على فقه هذه القصة وأحكامها فى موضع واحد

فنقول: فيها مِن الفقه: جوازُ القتال فى الأشهر الحُرُم، ونسخُ تحريم ذلك، فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة إلى مكة فى أواخر شهر رمضان بعد مضى ثمان عشرة ليلة منه، والدليل عليه ما رواه أحمد فى "مسنده": حدثنا إسماعيل عن خالد الحذَّاء، عن أبى قِلابة، عن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: "أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ"، وهذا أصح مِن قول مَن قال: إنه خرج لعشر خلون من رمضان، وهذا الإسناد على شرط مسلم، فقد رَوى به بعينه: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىء".
وأقام بمكة تسع عشرة ليلة يقصرُ الصلاة، ثم خرج إلى هوازن، فقاتلهم، وفرغ منهم، ثم قصد الطائف، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة فى قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلة فى قول ابن سعد، وأربعين ليلة فى قول مكحول. فإذا تأملت ذلك، علمتَ أن بعض مدةِ الحصار فى ذى القعدة، ولا بُد، ولكن قد يُقال: لم يبتدئ القتال إلا فى شوَّال، فلما شرع فيه، لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتدأ قِتالاً فى شهر حرام، وفرق بين الابتداء والاستدامة.

فصل
ومنها: جواز غزوِ الرجل وأهلُه معه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معه فى هذه الغزوة أُم سلمة وزينب.
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار، ورميهم به وإن أفضى إلى قتل مَن لم يُقاتل مِن النساء والذُرِّية.
ومنها: جوازُ قطع شجر الكُفار إذا كان ذلك يُضعفهم ويَغيظهم، وهو أنكى فيهم
ومنها: أنَّ العبد إذا أَبَقَ من المشركين ولحق بالمسلمين، صار حراً. قال سعيد ابن منصور: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن الحجاج، عن مِقْسَم، عن ابن عباس، قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتِقُ العبيد إذا جاؤوا قَبْلَ مواليهم.
وروى سعيد بن منصور أيضاً، قال: قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبدَ إذا خرجَ مِن دار الحرب قبل سيده أنه حر، فإن خرج سيدُّه بعده لم يُرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد، ثم خرج العبد، رُدَّ على سيده.
وعن الشعبى، عن رجل مِن ثقيف، قال: سألنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يَرُدَّ علينا أبا بَكْرَةَ، وكان عبداً لنا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصِر ثقيفاً، فأسلم، فأبى أن يَرُدَّهُ علينا، فقال: "هُوَ طَلِيقُ الله، ثمَّ طَلِيقُ رَسُولِهِ" فلم يرده علينا.

قال ابن المنذر: وهذا قول كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم.
فصل
ومنها: أن الإمام إذا حاصر حِصناً، ولم يُفتح عليه، ورأى مصلحةَ المسلمين فى الرحيل عنه، لم يَلزمه مصابرتُه، وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرةُ إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها.
فصل
ومنها: أنه أحرم من الجِعْرَانَةِ بعُمْرة، وكان داخلاً إلى مكة، وهذه هى السُّنَّة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعلُه كثيرٌ ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجِعْرانة ليُحرم منها بعُمْرة، ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدٌ من أصحابه البتة، ولا استحبَّه أحدٌ من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس، زعموا أنه اقتداء بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلاً إلى مكة، ولم يخرج منها إلى الجِعرانة ليُحرم منها، فهذا لون، وسُنَّته لون.. وبالله التوفيق
فصل
ومنها: استجابةُ الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاءه لثقيف أن يهديَهم، ويأتى بهم، وقد حاربوه وقاتلوه، وقتلوا جماعةً من أصحابه، وقتلوا رسولَ

رسوله الذى أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كُلِّه فدعا لهم، ولم يدع عليهم، وهذا من كمال رأفته، ورحمته، ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
ومنها: كمالُ محبة الصِّدِّيق له، وقصدُه التقربَ إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يُبشِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذى بشَّره وفرَّحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثِرَهُ بقُرْبَةٍ من القُرْبِ، وأنه يجوز للرجل أن يُؤثر بها أخاه، وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ، لا يصح. وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه فى بيتها جوار النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه فى الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره. ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هوأعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له فى الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قُرْبةً، وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُنَّة، ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة،

وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه، واستسلم للموت، كان ذلك جائزاً، ولم يقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّماً، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: {وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة فى فتوح الشام، وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمَع عليها والمتنازَع فيها إلى الميتِ إلا إيثارٌ بثوابها، وهو عَيْن الإيثار بالقُرَب، فأى فرق بين أن يُؤثره بفعلها ليحرز ثوابَها، وبين أن يعمل، ثم يؤثره بثوابها. وبالله التوفيق
فصل
ومنها: أنه لا يجوزُ إبقاء مواضع الشِّرك والطواغيت بعد القُدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائرُ الكفر والشِّرك، وهى أعظمُ المنكرات، فلا يجوز الإقرارُ عليها مع القُدرة ألبتة، وهذا حكمُ المشاهد التى بُنيت على القبور التى اتُخِذَت أوثاناً وطواغيت تُعبد من دون الله، والأحجار التى تُقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شىء منها على وجه الأرض مع القُدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركاً عندها، وبها والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وتُميت وتُحيى، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعلُه إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سَنَن مَن كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، وأخذوا مأخذهم شِبراً بشِبر، وذراعاً بذراع،

وغلب الشِّرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسُّنَّة بدعة، والبدعة سُنَّة، ونشأ فى ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطُمست الأعلام، واشتدت غربةُ الإسلام، وقلَّ العُلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأسُ، وظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس، ولكن لا تزالُ طائفة مِن العِصابة المحمَّدية بالحق قائمين، ولأهل الشِّرك والبِدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين
فصل
ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التى تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت فى الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام،بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التى تُساق إليها كلها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال اللات، وأعطاها لأبى سفيان يتألَّفه بها، وقضى منها دَيْن عُروة والأسود، وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التى بُنيت على القبور التى اتُخِذت أوثاناً، وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين، وكذلك الحكم فى أوقافها، فإن وقفها، فالوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيُصرف فى مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا فى قُرْبة وطاعة لله ورسوله، فلا يَصِحُّ الوقف على مشهد، ولا قبر يُسرج عليه ويُعظَّم، ويُنذَر له، ويُحَج إليه، ويُعبد من دون الله، ويُتخَذ وثناً من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومَن اتبع سبيلهم.

فصل
ومنها: أنَّ وادى وَجّ وهو وادٍ بالطائف حَرَمٌ يحرم صيدُه، وقطعُ شجره، وقد اختلف الفقهاء فى ذلك، والجمهور قالوا: ليس فى البقاع حَرَمٌ إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم فى حَرَم المدينة، وقال الشافعى رحمه الله فى أحد قوليه: وَجٌ حَرَم يحرم صيده وشجره، واحتجَّ لهذا القول بحديثين أحدهما هذا الذى تقدم، والثانى: حديث عُروة بن الزبير، عن أبيه الزبير، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّ صَيْدَ وَجّ وعِضَاهَه حَرَم مُحَرَّم لله" رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا الحديث يُعرف بمحمد بن عبد الله بن إنسان عن أبيه عن عُروة. قال البخارى فى تاريخه: لا يُتابَع عليه.
قلت: وفى سماع عُروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه.. والله أعلم
فصل
ولما قدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، ودخلت سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يأخذون الصدقات من الأعراب، قال ابن سعد: ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُصَدِّقِين، قالوا: لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هلال المحرَّم سنة تسع، بعث المُصَدِّقين يصدقون العرب، فبعث عُيينة بن حِصن إلى بنى تميم، وبعث يزيد بن الحُصين إلى أسلم وغِفار، وبعث عَبَّاد بن بشر الأشهلى

إلى سليم ومُزينة، وبعث رافع بن مكيث إلىجُهينة،وبعث عمرو بن العاص إلى بنى فَزَارَة، وبعث الضحَّاك بن سفيان إلى بنى كِلاب، وبعث بشر بن سفيان إلى بنى كعب، وبعث ابن اللُّتْبِيَّة الأزدى إلى بنى ذبيان، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُصَدِّقين أن يأخذوا العفوَ منهم، ويتوقَّوْا كرائم أموالهم. قيل: ولما قدم ابن اللُّتْبِيَّة حاسبه. وكان فى هذا حُجَّة على محاسبة العمال والأمناء، فإن ظهرت خيانتُهم عزلهم، وولَّى أميناً.
قال ابن إسحاق: وبعث المهاجر بنَ أبى أُمية إلى صنعاء، فخرج عليه العَنسى وهو بها، وبعث زياد بن لبيد إلى حضرموت، وبعث عدىًَّ بنَ حاتم إلى طئ وبنى أسد، وبعث مالك بن نُويرة على صدقات بنى حنظلة، وفرَّق صدقات بنى سعد على رجلين، فبعث الزِّبْرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية، وبعث العلاء بن الحضرمى على البحرين، وبعث علياً رضوان الله عليه إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم

فصل: فى السرايا والبعوث فى سنة تسع
ذكر سَرِيَّة عُيينة بن حصن الفَزَارى إلى بنى تميم، وذلك فى المحرَّم من هذه السنة، بعثه إليهم فى سَرِيَّة لِيغزوهم فى خمسين فارساً ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى، فكان يسيرُ الليل ويكمُن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوْا، فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، فساقهم إلى المدينة،فأُنزِلُوا فى دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عطارد بن حاجب، والزِّبْرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورباح بن الحارث، فلما رأوا نِساءهم وذراريَهم، بكوا إليهم، فَعَجِلُوا، فجاؤوا إلى باب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنادوا: يا محمد اخرُج إلينا، فخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام بلالٌ الصلاة، وتعلَّقُوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلَّى الظهرَ، ثم جلس فى صحن المسجد، فقدَّموا عُطارد بن حاجب، فتكلَّم وخطب، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابت بن قيس ابن شماس، فأجابهم، وأنزل الله فيهم :{إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ، وَاللهُ غَفُورٌ رَّحيمٌ}[الحجرات: 4-5] فردَّ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسرى والسبىَ.
فقام الزِّبْرقان شاعر بَنى تميم فأنشد مفاخراً
َنحْن الكِرامُ فَلا حَىٌ يُعادِلُنَا ... مِنَّا المُلُوكُ، وفِينا تُنْصَبُ البِيَعُ
وكم قَسَرْنَا من الأحْياءِ كُلِّهِم ... عند النِّهابِ وفَضْلُ العزِّ يُتَّبِعُ

ونَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ القَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِن الشِّواءِ إذا لم يُؤْنَس القزَعُ
بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أرْضٍ هُويّاً ثُمَّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً فِى أَرُومَتِنَا ... للنازلين إذا ما أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فلا ترانا إلى حىٍّ نُفاخِرُهُم ... إلا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطعُ
فمَنْ يُفَاخِرُنَا فى ذَاكَ نَعْرِفُه ... فَيَرْجِعُ القَوْمُ والأخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إنَّا أَبَيْنَا وَلاَ يَأْبَى لَنَا أحَدٌ ... إنَّا كَذلِكَ عِنْدَ الفَخْر نَرْتَفِع
...
فقام شاعر الإسلام حسَّان بن ثابت، فأجابه على البديهة:
إنَّ الذَّوائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاس تُتَّبَعُ
يَرْضَى ِبها كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوى الإله وكُلُّ الخَيْر مُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إذا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُم ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فى أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنَّ الخَلائِقَ فاعْلَم شَرُّهَا البِدَعُ
إنْ كَانَ فِى النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فَكُلُّ سَبقٍ لأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لاَ يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمُ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ ولاَ يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمَاً فَازَ سَبْقُهُم ... أَوْ وازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدى مَتَعُوا
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فى الوَحْى عِفَّتُهُمْ ... لاَ يَطْبَعُونَ وَلا يُرْدِيهُمُ الطَّمَعُ
لاَ يَبْخَلُونَ عَلَى جَار بفَضْلِهِمُ ... وَلا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ

إذَا نَصَبْنَا لِحَىٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبُّ إلى الوَحْشيّةِ الذُّرُعُ
نَسْمُوا إذا الحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لاَ يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُمُ ... وإنْ أُصِيبُوا فَلا جَوْرٌ وَلاَ هَلَعُ
كَأَنَّهُمْ فى الوَغَى والمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بحلية فى أرسَاغِها فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أتَوا عَفْواً إذا غضبُوا ... وَلا يَكُنْ هَمكَ الأمْرَ الَّذِى منعُوا
فَإنَّ فى حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَراً يُخاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ والسَّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتِ الأهوَاءُ والشِّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِى قَلْبٌ يُوَازِرُهُ ... فيما أحَبَّ لِسَانٌ حائِكٌ صَنَعُ
فَإنَّهُمْ أَفْضَلُ الأَحْيَاءِ كُلِّهِم ... إنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ القَوْل أو شمعوا
فلما فرغ حسَّان، قال الأقرع بن حابس: إنَّ هذا الرجل لَمُؤَتَّى له، لَخطيبُه أخطبُ مِن خطيبنا، ولَشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحسن جوائزهم.
فصل
قال ابن إسحاق: فلما قدم وفد بنى تميم، دخلوا المسجد، ونادوا

رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن صياحهم، فخرج إليهم، فقالوا: جئنا لِنفاخِرك، فأْذن لشاعرنا وخطيبنا قال: "نعم قَدْ أذِنْتُ لخطيبكم فليقم"، فقام عُطارد بن حاجب، فقال: الحمدُ لله الذى جعلنا ملوكاً، الذى له الفضل علينا، والذى وهب لنا أموالاً عِظاماً نفعل فيها المعروفَ، وجعلنا أعزَّ أهلِ المشرق وأكثَره عدداً، وأيسرَه
عُدّة، فمَن مثلُنا فى الناس؟ ألسنا رؤوس الناس، وأُولى فضلهم، فمَن فاخرنا، فليعُدّ مثل ما عَدَدْنَا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكن نستحيى من الإكثار لما أعطانا، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، أو أمرٍ أفضل مِن أمرنا. ثم جلس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بن قيس بن شماس: "قُمْ فَأَجِبْهُ"، فقام فقال:
الحمد لله الذى السَّمواتُ والأرضُ خلقه، قضى فيهن أمرَه، ووسع كرسيَّه علمه، ولم يكن شىء قط إلا من فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمَه نَسَباً، وأصدقَه حديثاً، وأفْضلَه حسباً، فأنزل عليهِ كِتاباً، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله مِن العالمين، ثم دعا الناسَ إلى الإيمان بالله، فآمن به المهاجرون من قومه ذوى رحمه، أكرم الناس أحساباً، وأحسنهم وجوهاً، وخير الناس فعلاً، ثم كان أوَّل الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحن، فنحن أنصار الله، ووزراءُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نُقاتِلُ الناسَ حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسولِه منع ماله ودمه، ومَن نكث جاهدناه فى الله أبداً، وكان قتلُه علينا يسيراً، أقول هذا، وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
ثم ذكر قيام الزِّبْرقان وإنشاده، وجواب حسَّان له بالأبيات المتقدمة، فلما فرغ حسَّان من قوله، قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل خطيبُه

أخطبُ مِن خطيبنا، وشاعِرُه أشعر من شاعرنا، وأقوالُهم أعلى من أقوالنا، ثم أجازهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحسن جوائزهم.
فصل: فى ذكر سَرِيَّة قُطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم وكانت فى صفر سنة تسع
قال ابن سعد: قالُوا: بعث رسولُ الله قُطبة بن عامر فى عشرين رجلاً إلى حيٍّ مِن خثعم بناحية تَبَالة، وأمره أن يَشُنَّ الغارة، فخرجوا على عشرة أبعِرة يعتقِبُونها، فأخذوا رجلاً، فسألوه، فاستعجمَ عليهم، فجعل يصيحُ بالحاضرة ويحذِّرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضرة، فشنُّوا عليهم الغارة، فاقتتلوا قِتالاً شديداً حتى كَثُر الجرحى فى الفريقين جميعاً، وقَتَل قُطبةُ بن عامر مَن قتل، وساقُوا النَّعَم والنساءَ والشَّاء إلى المدينة، وفى القصة: أنه اجتمع القوم وركبوا فى آثارهم، فأرسل اللهُ سبحانه عليهم سيلاً عظيماً حال بينهم وبين المسلمين، فساقُوا النَّعَم والشاءَ والسبى، وهم ينظرون لا يستطيعون أن يعبروُا إليهم حتى غابوا عنهم.
فصل: فى ذكر سَرِيَّة الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب فى ربيع الأول سنة تسع
قالوا: بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشاً إلى بنى كلاب، وعليهم الضحاك

بن سفيان بن عوف الطائى، ومعه الأصْيَدُ بن سلمة، فلقوهم بالزُّجِّ "زُجِّ لاوة"، فدعَوْهم إلى الإسلام، فأبَوْا، فقاتلوهم، فهزموهم. فلحق الأصْيَد أباه سلمة، وسلمة على فرس له فى غدير بالزُجِّ، فدعاه إلى الإسلام، وأعطاهُ الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه، فضرب الأصْيَد عرقوبى فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه، ارتكز سلمة على الرمح فى الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدُهم فقتله، ولم يقتله ابنه.
فصل: فى ذكر سرِيَّة علقمة بن مُجَزِّز المدلجى إلى الحبشة سنة تسع فى شهر ربيع الآخر
قالوا: فلما بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ ناساً من الحبشة تراياهم أهلُ جدة، فبعث إليهم علقمة بن مُجَزِّز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، وقد خاض إليهم البحر، فهربُوا منه، فلما رجع تعجَّل بعض القوم إلى أهليهم، فأذن لهم، فتعجَّل عبد الله بن حذافة السهمى، فأمَّره على مَن تعجَّل، وكانت فيه دُعابة، فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا ناراً يصطلُون عليها، فقال: عزمتُ عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فقام بعضُ القوم، فتجهَّزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كُنتُ أضحكُ معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "مَنْ أَمَرَكُم بِمَعْصِيَةٍ فلا تُطِيعُوهُ".
قلت: فى "الصحيحين" عن علىّ بن أبى طالب قال: بعث رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّة، واستَعملَ عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، ثم قال: ألم يأمْركُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمعوا لى؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها، فنظر بعضُهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النار، فكانُوا كذلك حتى سكن غضبُه، وطُفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَداً"، وقال: "لا طَاعَة فى مَعْصِيَة الله، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْروف".
فهذا فيه أنَّ الأمير كان من الأنصار، وأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذى أمَّره، وأنَّ الغضب حمله على ذلك.
وقد روى الإمام أحمد فى "مسنده" عن ابن عباس، فى قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 99] ، قال: نزلت فى عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَرِيَّة، فإما أن يكونا واقعتين، أو يكون حديث علىّ هو المحفوظ.. والله أعلم.

فصل: فى ذكر سَرِيَّة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى صنم طيئ ليهدمه فى هذه السنة
قالوا: وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىَّ بن أبى طالب فى مائة وخمسين رجلاً من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفُلس، وهو صنم طيئ ليهدمه، فشنوا الغارَة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه، وملؤوا أيديَهم من السبى والنَّعَم والشاء، وفى السبى أختُ عدى بن حاتم، وهرب عدى إلى الشام، ووجدوا فى خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدراع، فاستعمل على السبى أبو قتادة، وعلى الماشية والرِّثَّةِ عبد الله بن عتيك، وقسم الغنائم فى الطريق، وعزل الصفى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقسم على آل حاتم حتى قَدِمَ بهم المدينة.
قال ابن إسحاق: قال عدى بن حاتم: ما كان رجل من العرب أشدَّ كراهية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منى حين سمعتُ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنت امرءاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير فى قومى بالمرباع، وكنت فى نفسى على دين، وكنت ملكاً فى قومى، فلما سمعتُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كرهتُه، فقلت لغلام عربى كان لى، وكان راعياً لإبلى: لا أبا لك ؛ اعدد لى من إبلى أجمالاً ذللاً سماناً فاحبسها قريباً منى، فإذا سمعتَ بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذِنِّى، ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى ؛ ما كنتَ صانعاً إذا غشيتكَ خيلُ محمد، فاصنعه الآن، فإنى قد رأيتُ رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوشُ محمد. قال: فقلت: فقرِّب إلىَّ أجمالى،

فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى مِن النصارى بالشام، وخلفتُ بنتاً لحاتم فى الحاضرة، فلما قدمتُ الشام، أقمتُ بها، وتحالفنى خيلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتُصيبُ ابنة حاتم فيمن أصابت، فَقُدِمَ بها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هربى إلى الشام، فمرَّ بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله ؛ غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بى من خدمة، فَمُنَّ علىَّ، مَنَّ اللهُ عليك، قال: "مَن وافدك"؟ قالت: عدىُّ بن حاتم. قال: "الذى فَرَّ من الله ورسوله"؟ قالت: فَمُنَّ علىَّ. قال: فلما رجع ورجل إلى جنبه يُرى أنه علىّ، قال: سليه الحملان، قالت: فسألتُه، فأمر لها به. قال عدى: فأتتنى أُختى، فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلُها، ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال عدى: فأتيتُه وهو جالس فى المسجد، فقال القومُ: هذا عدىُّ بنُ حاتم، وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفِعْتُ إليه، أخذ بيدى، وقد كان قبل ذلك قال:
"إنى أرجو أن يجعل الله يدَه فى يدى"، قال: فقام لى، فلقيَتْهُ امرأة، ومعها صبى، فقالا: إنَّ لنا إليكَ حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدى حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلستُ بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّكَ أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله"؟ قال: قلت: لا. قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: "إنما تَفِرُّ أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبرُ من الله"؟ قال: قلت: لا. قال: "فإنَّ اليهود مغضوبٌ عليهم وإنَّ النصارى ضالون" قال: فقلت: إنى حنيف مسلم. قال: فرأيتُ وجهه ينبسِطُ فرحاً. قال: ثم أمرنى فأُنزلتُ عند رجل من الأنصار، وجعلتُ أغشاه، آتيه طرفى النهار، قال: فبينا أنا عنده،

إذ جاء قوم فى ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلَّى وقام، فحثَّ عليهم، ثم قال: "يا أيُّهَا النَّاسُ ؛ ارْضَخوا منَ الفَضْل ولَوْ بصَاع، ولَوْ بنِصْفِ صَاع، وَلَوْ بقَبْضَةٍ، وَلَو بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، يقى أحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ أَو النَّارَ وَلَوْ بِتَمْرَةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ، فَإنْ لَمْ تَجِدوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإنَّ أَحَدَكُم لاقى الله، وقائلٌ لَهُ مَا أَقُولُ لَكُمْ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالاً وَوَلَداً؟ فيقول: بَلَى، فيقول: أيْنَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ، وبَعْدَهُ وعَنْ يمينِهِ وعَنْ شِمَالِهِ، ثم لا يَجدُ شَيْئاً يقى به وَجْهَهُ حَرَّ جَهَنَّمَ، لِيقِ أحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فإنْ لَمْ يَجدْ فَبكلمةٍ طيِّبةٍ، فإنى لا أخافُ عَلَيْكُم الفَاقَة، فإنَّ الله نَاصِرُكُم ومُعْطيكم حَتَّى تَسيرَ الظَّعِينةُ مَا بَيْنَ يَثْرِبَ والحيرة، وأكثر ما يُخَافُ عَلَى مَطيَّتها السُّرّق"، قال: فجعلتُ أقول فى نفسى: فأين لصوص طيئ؟،

فصل: فى ذكر قصة كعب بن زهير مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تَبُوك
قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف، كتب بُجَيْر ابن زُهَيْر إلى أخيه كعب يُخبره أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجالاً بمكة

ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بقى من شعراء قريش ابن الزَّبَعْرَى، وهُبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كلِّ وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة، فَطِرْ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً مسلماً، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّى بُجَيْراً رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فيما قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فبَيِّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلى أىِّ شَىءٍ غَيْر ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُمَّاً ولا أباً ... عَلَيْهِ ولَمْ تُدْرِكْ عليه أخَاًلَكا
فَإنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسفٍ ... وَلاَ قَائِلٍ إمَّا عَثَرْتَ لَعًالَكَا
سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كَأْسَاً رَويَّةً ... فَأَنْهَلَكَ المَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا
قال: وبعث بها إلى بُجير، فلما أتت بُجيراً، كره أن يكتمها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنشده إياها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَقَاكَ المَأْمُونُ، صَدَقَ وإنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا المَأْمُونُ "، ولما سمع: "عَلَى خُلُق لَمْ تُلْفِ أُما وَلا أَباً عَلَيْهِ"، فقال: أجل. قال: لم يلف عليه أباه ولا أُمه، ثم قال بجير لكعب:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْباً فَهَلْ لَكَ فى الَّتِى ... تَلُومُ عليها بَاطِلاً وهى أحزَمُ
إلى الله لا العُزَّى ولا اللاتِ وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النَّجَاءُ وتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمَ لا يَنْجُو وليس بِمفْلِتٍ ... مِنَ النَّاسِ إلا طَاهِرُ القَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وهو لا شَىءَ دِينُهُ ... ودِينُ أبى سُلْمى عَلىَّ مُحَرَّمُ
فلما بلغ كعباً الكتاب، ضاقت به الأرضُ، وأشفق على نفسه، وأرجف به مَن كان فى حاضِره من عدوه، فقال: هو مقتول،

فلما لم يجد من شىء بُداً، قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جُهينة، كما ذُكِر لى، فغدا به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين صلَّى الصبح، فصلَّى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أشار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هذا رسولُ الله، فقم إليه فاستأمِنْه، فَذُكِرَ لى أنه قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس إليه، فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرِفُه، فقال: يا رسول الله؛ إنَّ كعب ابن زهير قد جاء ليستأمِنَك تائباً مسلماً، فهل أنتَ قابلٌ منه إن أنا جئتُك به؟ قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم". قال: أنا يا رسولَ الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسولَ الله؛ دعنى وعدو الله أضربْ عنقه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه" قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع به صاحبُهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية التى يصف فيها محبوبته وناقته التى أولها:
َبانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى اليَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
يَسْعَى الغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ ... إنَّكَ يَا ابْنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لا أُلْهِيَنَّكَ إنى عَنْكَ مَشْغُولُ

فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِى لاَ أَبَا لَكُم
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابن أُنْثَى وإن طَالَتْ سَلاَمَتُه
يَوْماً عَلَى آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبِّئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنى
والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذى أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الـ
ـقُرْآنِ فيهَا مَوَاعيظٌ وَتَفْصِيلُ
لاَ تَأْخُذَنِّى بِأَقْوَالِ الوُشَاةِ ولَمْ
أُذْنِبْ ولو كَثُرَتْ فىَّ الأَقَاويلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَاماً لَوْ يَقُومُ بِهِ
أرى وأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الفِيلُ
لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ خَوْفٍ بوادِرُه
إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَنْوِيلُ
حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِى مَا أُنَازِعُهَا
فى كَفِّ ذِى نَقِماتٍ قَوْلُه القِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوفُ عندى إذ أُكَلِّمُه
وقيلَ إنَّك منسوبٌ ومسؤولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَراءِ الأَرْضِ مُخْدَرُهُ
فى بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَه غِيلُ
يَغْدُوُ فيُلْحِمُ ضِرغامَيْن عَيْشُهُمَ
الَحْمٌ مِنَ النَّاسِ، مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذا يُسَاورُ قِرْناً لاَ يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهو مَفْلُولُ

مِنْهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجَوِّ نَافِرَةً ... وَلا تَمَشَّى بوَادِيهِ الأرَاجِيلُ
وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أخُو ثِقَةٍ ... مضرَّج البَزِّ والدُّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُولُ
فى عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لما أسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَما زَالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُفٌ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيلُ
يمْشُونَ مَشْىَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُم ... ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ
شُمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فى الهَيْجا سَرَابيلُ
بيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لها حَلَقٌ ... كَأنَّهَا حَلَقُ القَفْعاءِ مَجْدُولُ

لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ ... قَوْمَاً ولَيْسُوا مَجَازِيعاً إذا نِيلُوا
لاَ يَقَع الطَّعْنُ إلاَّ فى نُحُورِهمُ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ
قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب:
"إذاَ عرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ" وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين بمدحته، غضبت عليه الأنصارُ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار فى قصيدته التى يقول فيها:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الحَيَاةِ فَلاَ يَزَلْ ... فى مِقْنَبٍ مِنْ صَالحى الأنْصَارِ
وَرِثُوا المَكَارِمَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ ... إنَّ الخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيارِ
البَاذِلِينَ نُفُوسَهمْ لِنَبِيِّهمْ ... يَوْمَ الهِيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّارِ
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِم ... بِالمَشْرَفِىِّ وبِالقَنَا الخَطَّارِ
والبَائِعِينَ نُفُوسَهْمُ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعانُقٍ وَكِرارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكاً لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّارِ
وَإذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِم ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأعْفَارِ
قَوْمٌ إذا خَوَتِ النُّجُومُ فَإنَّهُم ... لِلطارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِى

وكعب بن زهير من فحول الشعراء، هو وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة، ومما يُستحسن لكعب قوله:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَىءٍ لأَعْجَبَنى ... سَعْىُ الفَتَى وهو مَخْبُوءٌ له القَدَرُ
يَسْعَى الفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْركُهَا ... فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أمَلٌ ... لاَ تَنْتَهِى العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهى الأَثَرُ
ومما يُستحسن له أيضاً قوله فى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تُحْدى بِهِ النَّاقَةُ الأَدْمَاءُ مُعْتَجِراً ... لِلبُرْدِ كَالبَدْرِ جُلِّى لَيْلَة الظُّلَمِ
ففى عِطافَيْهِ أو أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ

فصل: فى غزوة تَبُوك وكانت فى شهر رجَب سنةَ تسع
قال ابن إسحاق: وكانت فى زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام فى ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلَّما يخرج فى غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يوم، وهو فى جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: "يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ فى جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ"؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجباً بالنساء

منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ"، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49]
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا فى الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81].
ثُم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّ فى سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ فى ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْناً.
وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ،

وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء.
وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "لا أجدُ مَا أَحْمِلُكم عَلَيْه "، فتولَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما يُنفقون، وهم سالمُ بن عُمير، وعُلْبَةُ بنُ زيد، وأبو ليلى المازنى، وعمرو بن عَنَمَة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية.
وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار.
وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح.
وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: "واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه"، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: "مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرَاً مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذى هُوَ خَيْرٌ".
فصل
وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم

تجعل فى يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة"؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: "أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ"، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فى الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة".
وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع فى حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت.
فلما سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثين ألفاً مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص.
قال ابن إسحاق: ولما أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخروجَ، خلَّف علىَّ بنَ أبى طالب على أهله، فأرْجَفَ به المنافقون، وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالاً وتخففاً منه، فأخذ علىُّ رضى الله عنه سِلاحه، ثم خرج حتى أتى رسولَ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نازل بالجُرْفِ، فقال: يا نبىَّ الله؛ زعم المنافقون أَنك إنما خلَّفتنى لأنك استثقلتنى وتخففتَ منى، فقال: "كَذَبُوا، ولكِنِّى خَلَّفْتُكَ لما تركْتُ وَرَائِى، فارْجعْ فَاخْلُفْنى فى أهْلِى وَأَهْلِكَ، أَفَلاَ تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسى؟ إلا أنَّهُ لا نَبِىَّ بَعْدِى" فرجع علىُّ إلى المدينة.
ثُمَّ إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياماً إلى أهله فى يوم حار، فوجد امرأتين له فى عريشينِ لهما فى حائطه، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها، وبرَّدَتْ له ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما دخل، قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الضِّحِّ، والرِّيح، والحر، وأبو خيثمة فى ظِلٍّ بارد، وطعام مُهَيأ، وامرأة حسناء، فى ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَفِ، ثم قال: واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهيِّئا لى زاداً، ففعلتا، ثم قدَّم ناضِحه، فارتحله، ثم خرج فى طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أدركه حين نزل تَبُوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى فى الطريق يطلُب رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب: إنَّ لى ذنباً، فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نازل بتَبُوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مُقبل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ أبَا خَيْثَمَةَ" قالوا: يا رسول

الله؛ هو واللهِ أبو خيثمة، فلما أناخَ أقبل، فسلَّم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة"، فأخبرَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرَه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَاً ودعا له بخير.
وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمود، قال: "لا تَشْرَبُوا مِنَ مَائِهَا شَيْئاً، وَلا تَتَوَضَّؤوا مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وما كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوه فَاعْلِفُوهُ الإبِلَ، ولا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئاً، ولا يَخْرُجَنَّ أحَدٌ منكم إلا ومعه صَاحِبٌ له"، ففعل النَّاسُ، إلا أنَّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدُهما لحاجته، وخرج الآخرُ فى طلب بعيره، فأما الذى خرج لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذى خرج فى طلب بعيره، فاحتملته الريحُ حتى طرحته بجبلى طيئ، فأُخبرَ بذلك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "ألمْ أنْهَكُم أَنْ لا يَخْرُجَ أحَدٌ مِنْكُم إلاَّ ومَعَهُ صَاحِبُه"، ثم دعا للذى خُنِقَ على مذهبه فشُفى، وأما الآخر، فأهدته طيئ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم المدينة.
قلت: والذى فى "صحيح مسلم"، من حديث أبى حُمَيد: انطلقنا حتى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سَتَهُبُّ عَلَيْكُم اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُمْ مِنْكُم أحَدٌ، فَمنْ كانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالهُ" فهبَّت رِيحٌ شَدِيدَة، فقام رجل فحملته الريحُ حتى ألقته بِجَبَلَىْ طَىِّء.
قال ابن هشام: بلغنى عن الزُّهْرى أنه قال: لما مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بالحِجْر، سجَّى ثوبه على وجهه، واستحثَّ راحلته، ثم قال: "لا تَدْخُلُوا بُيوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم إلاَّ وَأَنْتُم بَاكُونَ خَوْفاً أنْ يُصِيبَكُم مَا أَصَابَهُمْ".
قلت: فى "الصحيحين" من حديث ابن عمر، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تَدْخُلوا عَلى هؤلاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لم تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلوا عَلَيْهِم لا يُصِيبُكم مِثْلُ مَا أَصَابَهُم".
وفى "صحيح البخارى" أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه.
وفى "صحيح مسلم": أنه أمرهم أن يَعْلِفوا الإبلَ العَجِينَ، وأن يُهرِيقُوا الماءَ، ويستقوا من البئر التى كانت تَرِدُها الناقة. وقد رواه البخارىُّ أيضاً، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه مَنْ روى الطرح.
وذكر البيهقىُّ أنه نادى فيهم: الصلاةَ جامعة، فلما اجتمعوا، قال: "علامَ تدخُلون على قوم غَضِبَ اللهُ عليهم"، فناداه رجل فقال: نَعْجَبُ مِنْهُم يَا رَسول الله، فقال: " ألاَ أُنْبِئُكُم بِما هُوَ أعْجَبُ مِنْ ذلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أنْفُسِكُم يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُم وَمَا هُو كَائِنٌ بَعْدَكُم، اسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَعْبأُ بِعَذِابِكُم شَيْئاً، وَسَيأتِى اللهُ بِقَوْمٍ لا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفْسِهِم شيئاً".

فصل
قال ابن إسحاق: وأصبح الناسُ ولا ماء معهم، فَشكَوْا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسلَ الله سُبحانه سحابةً، فأمطرت حتى ارتوى الناسُ، واحتملُوا حاجَتهم من الماء.
ثم إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سار حتى إذا كان ببعضِ الطريق، ضلَّت ناقتُه، فقال زيد بن اللُّصَيْتِ وكان منافقاً: أليس يزعُمُ أنه نبى، ويُخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدرى أين ناقتُه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ رَجُلاً يَقُولُ، وذَكَرَ مَقَالَتَهُ، وإنِّى والله لا أعْلَمُ إلاَّ ما عَلَّمنى اللهُ، وقَدْ دَلَّنى الله عَلَيْهَا، وهى فى الوَادى فى شِعْبِ كَذا وكَذَا، وقَدْ حَبَسَتْها شَجَرَةٌ بِزِمَامِها، فانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتونى بها" فذهبوا فأَتَوْهُ بها.وفى طريقه تلك خَرَصَ حديقة المرأة بعشرة أوسق.
ثم مضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل يتخلَّف عنه الرجلُ فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول: "دَعُوه فإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُم، وإنْ يَكُ غَيْرَ ذلِكَ، فَقَد أرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ". وتلوَّم على أبى ذَرٍ بعيرُه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم

خرج يتبعُ أثر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماشياً، ونزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ هذا الرجل يمشى على الطريق وحدَه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ أبَا ذَرٍ"، فلما تأمله القومُ، قالوا: يا رسول الله؛ واللهِ هو أبو ذر. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَحِمَ اللهُ أبا ذَرٍ؛ يَمْشِى وَحْدَهُ، ويَمُوتُ وَحْدَهُ، ويُبْعَثُ وحْدَهُ".
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القُرظى، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذَةِ، وأصابه بها قَدَرُه، لم يكن معه أحدٌ إلا امرأتُه وغلامُه، فأوصاهما: أن غَسِّلانى وكَفِّنانى، ثم ضعانى على قارعة الطريق، فأوَّل رَكْب يمرُّ بكم فقولُوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعينونا على دفنه، فلما مات، فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبدُ الله بن مسعود فى رهط معه من أهل العِراق عُمَّاراً فلم يَرُعْهُمْ إلا بالجِنازة على ظهر الطَّريق قد كادت الإبلُ تَطَؤُها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكى ويقول: صدقَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَمْشِى وَحْدَكَ، وتَمُوتُ وَحْدَكَ، وتُبْعَثُ وَحْدَكَ" ، ثم نزل هو وأصحابه، فوارَوْه، ثم حَدَّثهم عبدُ الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مسيره إلى تَبُوك.
قلت: وفى هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان فى "صحيحه"

وغيره فى قصة وفاته، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُم ذر، قالت: لما حضرت أبا ذَر الوفاةُ، بَكَيْتُ، فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلت: ما لى لا أبكى، وأنت تموتُ بفَلاة من الأرض، وليس عندى ثوبٌ يسعُك كفَناً، ولا يدان لى فى تغييبك؟ قال: أبشرى ولا تبكى، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفلاةٍ مِنَ الأرض يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المُسْلمين" وليس أحَدٌ من أولئِكَ النَّفَرِ إلا وقد مات فى قريةٍ وجمَاعةٍ، فأنا ذلِكَ الرَّجُلُ، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصرى الطريق، فقُلت: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطُّرُقُ؟، فقال: اذهبى فتبصَّرى. قالت: فكنتُ أُسنِدُ إلى الكَثِيبِ أتبصَّر، ثم أرجع فأُمرِّضه، فبينا أنا وهو كذلك، إذ أنا برجال على رِحالهم كأنهم الرَّخَمُ تَخُبُّ بهم رواحِلُهم، قالت: فأشَرتُ إليهم، فأسرعوا إلىَّ حَتى وقفُوا علىَّ فقالوا: يا أَمةَ الله؛ مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يَمُوت تُكفنونه. قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا: صاحِبُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نعم، ففدَّوْه بآبائهم وأُمهاتِهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشِروا فإنى سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنَفَر أنا فيهم: " لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ منكم بِفَلاةٍ مِن الأرضِ يَشْهَدُه عِصَابةٌ من المؤمنين" وَلَيْسَ مِنْ أُولئِكَ النَّفَرِ رَجُلٌ إلاَّ وقد هَلَكَ فى جَمَاعَةٍ، واللهِ ما كَذَبْتُ ولاَ كُذِبْتُ، إنه لو كان عندى ثوبٌ يسعُنى كفناً لى أو لامرأتى، لم أكُفَّن إلا فى ثوب هُوَ لى أو لها، فإنى أنشُدُكُم الله أن لا يكفِّنَنى رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو بريداً، أو نقيباً، وليس من أولئك النَّفَر أحد إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمُّ، أُكَفِّنُك فى ردائى هذا، وفى ثوبين مِن عَيبتى من غزل أُمى. قال: أنتَ فكفِّنى، فكفَّنه الأنصارى، وقاموا عليه، ودفنوه

فى نَفَر كُلُّهم يمان.
رجعنا إلى قصة تبوك: وقد كان رهطٌ من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت أخو بنى عَمْرو بن عَوْف، ومنهم رجل مِن أشجع حليف لبنى سلمة يقال له: مَخْشى بن حُمَيِّر، قال بعضهم لبعضٍ: أتحسبون جلاد بنى الأصفر، كقتال العرب بَعضِهم لبعض؟ واللهِ لكأنَّا بكم غداً مقرَّنين فى الحِبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مَخْشِى بن حُمَيِّر: واللهِ لودِدت أنى أُقَاضَى على أن يُضرب كُل منا مائةَ جَلدة، وإنَّا ننفلِتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمَّار بن ياسر: "أدْرِك القَوْمَ، فإنهم قد احْتَرَقُوا فَسَلْهُم عَمَّا قالوا؟ فإن أنكروا، فَقُلْ: بل قُلتُم: كذا وكذا". فانطلق إليهم عمَّار، فقال لهم ذلك، فأتوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتذِرُون إليه، فقال وديعة بن ثاب: كنا نخوضُ ونلعبُ، فأنزل الله فيهم : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ} [التوبة: 65] فقال مخشى بن حُمْيِّر: يا رسول الله؛ قعد بى اسمى واسمُ أبى، فكان الذى عُفىَ عنه فى هذه الآية، وتسمَّى عبد الرحمن، وسألَ الله أن يُقتل شهيداً لا يُعلم بمكانه، فقُتِل يومَ اليمامة، فلم يوجد له أثر.
وذكر ابن عائذ فى "مغازيه"، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل تَبُوكَ فى زمان قلَّ ماؤُها فيه، فاغترف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرفةً بيده من ماء، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها، ففارت عينُها حتى امتلأت، فهى كذلك حتى الساعة.
قلت: فى "صحيح مسلم" أنه قال قبل وصوله إليها: "إنَّكُم سَتَأتُونَ غداً إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِىَ النَّهارُ،

فمَن جَاءَهَا فلا يَمَسنَّ مِنْ مائِها شيئاً حتى آتى ". قال: فجئناها وقَدْ سَبَق إليها رَجُلانِ، والعَيْن مِثْلُ الشِّرَاكِ تًبِضُّ بشئ من ماءٍ، فسألهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل مَسَسْتُما مِن مائها شيئاً"؟ قالا: نَعم، فسبَّهُمَا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال لهما ما شاء اللهُ أن يقول، ثُمَّ غرفُوا مِن العَيْن قليلاً قليلاً حتى اجتمع فى شئ، وغسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وجهَه ويَدَيْه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء مُنْهمِرٍ، حتى استقى النَّاسُ، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ يا مُعاذُ إن طالتْ بكَ حَياةٌ أن ترى ما هاهنا قدْ مُلِئ جِنَاناً".
فصل
ولما انتهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تَبُوك، أتاه صاحبُ أَيْلَة، فصالحَه وأعطاه الجزيةَ، وأتاه أهل جَرْبا، وأذْرُح، فأعطَوْه الجزيَة، وكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً، فهو عِندهم، وكتب لِصاحب أَيْلة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أَمَنَةٌ مِن الله، ومحمد النبى رسول الله لِيُحَنَّةَ بن رُؤْبَةَ، وأهلِ أَيْلَة، سُفنهم، وسيارتهم فى البرِّ والبحرِ، لهم ذِمةُ اللهِ، ومحمد النبى، ومَنْ كان معهم مِن أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يَحولُ مالُه دونَ نفسه، وإنَّه لمن أخذه مِن الناس، وإنه لا يحِلُّ أن يُمنعوا ماءً يردونه، ولا طريقاً يردونه من بَحْرٍ أو بَرٍّ".

فصل: فى بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليدإلى أُكَيْدِرِ دُومة
قال ابن إسحاق: ثم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيْدر دُومة، وهو أُكَيْدر بن عبد الملِك، رجل مِن كِندة، وكان نصرانياً، وكان ملكاً عليها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد: "إنَّكَ سَتجِدُه يَصِيدُ البَقَرَ"، فخرجَ خالد حتى إذا كان مِن حصنه بمنظر العَيْن، وفى ليلة مُقمرة صَافية، وهو على سطح له، ومعه امرأته، فباتَتِ البقرُ تَحُكُّ بِقُرونها بابَ القصر، فقالتْ له امرأتُه: هل رأيتَ مثل هذا قطُّ؟ قال: لا واللهِ. قالت: فمَن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل، فأمر بفرسه، فأُسرجَ له، وركب معه نَفَر مِن أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسَّان، فركب وخرجُوا معه بمطاردهم، فلما خرجُوا، تلقَّتهم خيلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذته، وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قَباء مِن دِيباج مخوَّصٌ بالذهب، فاستلبه خالد، فبعثَ به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ قدومه عليه، ثم إن خالداً قدم بأُكَيْدر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحقن له دَمَه، وصالحه على الجزية، ثم خلَّى سبيله، فرجع إلى قريته.
وقال ابنُ سعد: بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالداً فى أربعمائة وعشرين فارساً، فذكر نحو ما تقدَّم. قال: وأجار خالد أُكَيْدر من القتل حتى يأتىَ به رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أن يَفتح له دُومة الجندل، ففعلَ وصالحه على ألفى بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة دِرع، وأربعمائة رُمح، فعزل للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

صَفِيَّهُ خالِصاً، ثم قسم الغنيمة، فأخرج الخُمس، فكان للنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قسم ما بقى فى أصحابه، فصار لِكل واحد منهم خَمْسُ فرائض.
وذكر ابنُ عائذ فى هذا الخبر، أنَّ أُكَيْدر قال عن البقر: واللهِ ما رأيتها قط أتتنا إلا البارحة، ولقد كنتُ أُضْمِرُ لها اليومينِ والثلاثة، ولكن قدر الله.
قال موسى بن عُقبة: واجتمع أُكَيْدر، ويُحَنَّة عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاهما إلى الإسلام، فأبيا، وأقرا بالجزية، فقاضاهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قضية دُومة، وعلى تَبوك، وعلى أَيْلَة، وعلى تيماء، وكتب لهما كتاباً.
رجعنا إلى قصة تبوك: قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك بِضعَ عشرة ليلةً لم يُجاوزها، ثم انصرف قافلاً إلى المدينة، وكان فى الطريق ماء يخرج من وَشَل يُروى الراكبَ والراكبين والثلاثة، بوادٍ يقال له: وادى المُشَقَّق، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَبَقَنَا إلى ذلِك المَاءِ، فَلاَ يَسْتَقِينَّ منه شَيْئاً حَتَّى نأتيه" قال: فسبقه إليه نَفَر من المنافقين، فاستَقَوْا، فلم ير فيه شيئاً، فقال: "مَنْ سَبَقَنَا إلى هذَا المَاءِ"؟ فقيل له: يا رسول الله؛ فلان وفلان. فقال: "أوَ لَمْ أَنْهَهُم أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئاً حَتَّى آتيَه"، ثم لَعَنهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا عليهم، ثم نَزَل فوضع يده تحتَ الوشل، فجعل يَصُبُّ فى يده ما شاء الله أن يَصُبَّ، ثم نَضَحه به، ومسحه بيده، ودعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شاء الله أن يدعوَ به، فانخرق مِن الماءكما يقول مَن سمعه ما إن له حِسّاً كحِسِّ الصواعِق، فشرب الناسُ، واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَئِنْ بَقِيتُم أوْ مَنْ بَقِىَ مِنْكُم لَيَسْمَعَنَّ بهذا الوادى، وهُوَ أخْصَبُ مَا بين يَدَيْهِ ومَا خلفه".
قلت: ثبت فى "صحيح مسلم" أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: "إنَّكُم

سَتَأْتُونَ غَداً إنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوك، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوها حَتَّى يُضْحِى النّهارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمسَّ مِنْ مَائِها شَيئاً".... الحديث، وقد تقدَّم.فإن كانت القصة واحدة، فالمحفوظُ حديث مسلم، وإن كانت قصتين، فهو ممكن.
قال: وحدَّثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى، أن عبدَ اللهِ ابن مسعود كان يُحَدِّثُ، قال: قُمت مِن جوفِ الليل، وأنا معَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوةِ تَبُوكَ، فرأيت شُعلةً من نار فى ناحية العسكر، فاتَّبَعْتُها أنظُرُ إليها، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وإذا عبدُ الله ذو البِجادَيْنِ المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حُفرته، وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه، وهو يقول: "أدنيا إلىَّ أخاكما"، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه، قال: "اللهُمَّ إنِّى قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ "، قال: يقولُ عبد الله بن مسعود: ياليتنى كنتُ صاحِبَ الحُفرة. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجعَه مِن غزوة تَبُوك: "إنَّ بالمَدِينَةِ لأَقْواماً ما سِرْتُم مَسيراً، ولا قَطَعْتُمْ وادياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم" قالوا: يا

رسول الله؛ وهُمْ بالمدينة؟ قال: "نَعَمْ حَبَسَهُم العُذْرُ".
فصل: فى خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك وصلاته
ذكر البيهقى فى "الدلائل"، والحاكم من حديث عُقبة بن عامر، قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوة تَبُوك، فاسترقد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة لمَّا كان منها عَلَى ليلة، فلم يستيقِظ فيها حتَّى كانت الشمسُ قِيدَ رُمح قال: "أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يَا بِلالُ اكْلأ لَنا الفَجْرَ"، فقال: يا رسول اللهِ؛ ذهب بى من النومِ الذى ذَهَبَ بك، فانتقلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلكَ المنزل غيرَ بعيد، ثم صلَّى، ثم ذهب بقِيةَ يومه وليلته، فأصبح بتَبُوكَ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثم قال: "أمَّا بَعْدُ.. فَإنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وأَوْثَقُ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرُ المِلَل مِلَّةُ إبراهيمَ، وخَيْرُ السَّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وأَحْسَنُ القَصَصِ هذا القُرآنُ، وخَيْرُ الأُمُورِ عَوَازِمُها، وَشَرُّ الأُمُور مُحْدَثَاتُها، وأَحْسَنُ الهَدْى هَدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وأَشْرَفُ المْوتِ قَتْلُ الشُّهَداءِ، وأَعْمَى العَمَى الضَّلالةُ بَعْدَ الهُدَى، وخَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ، وخَيْرُ الهُدى ما أتُّبعَ، وشرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، واليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، ومَا قَلَّ وكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وشَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْت، وشَرُّ النَّدامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يأْتى الجُمُعَةَ إلا دُبُراً، ومِنْهُم مَنْ لاَ يَذْكُرُ اللهَ إلا هُجْراً، ومنْ أَعْظَم الخَطَايَا اللِّسانُ

الكَذَّابُ، وخَيْرُ الغِنى غِنى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوى، وَرَأْسُ الحُكْمِ مَخَافَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وخَيْرُ مَا وَقَرَ فى القُلوبِ اليَقِينُ، والارْتيابُ مِنَ الكُفْرِ، والنِّياحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثا جَهَنَّمَ، والسُّكْر كَىٌ مِنَ النَّارِ، والشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ، والخَمْرُ جماعُ الإثْمِ، وشَرُّ المَأْكَلِ مَالُ اليَتِيمِ، والسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِه، والشَّقِىُّ مَنْ شَقى فى بَطْنِ أُمِّهِ، وإنَّما يَصِيرُ أَحَدُكُم إلى مَوْضِع أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، والأَمْرُ إلى الآخِرَةِ، ومَلاكُ العَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وشرُّ الرَّوَايا رَوَايا الكَذِب، وكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وسِبَابُ المُؤْمِنِ فُسوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ، وأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، ومَنْ يتألَّ عَلى اللهِ يُكَذِّبْه، ومَنْ يَغْفِرْ يُغْفَرْ لَه، ومَنْ يَعْفُ، يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، ومَنْ يَكْظِم الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، ومَنْ يَصْبِرْ عَلى الرَّزِيِّةِ يُعَوِّضه اللهُ، ومَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ، يُسَمِّع اللهُ بِهِ، ومَنْ يَتَصَبَّر، يُضْعِفِ اللهُ لَهُ، ومَنْ يَعْصِ اللهَ يُعَذِّبْه الله".. ثم استغفر ثلاثاً.
وذكر أبو داود فى "سننه" من حديث ابن وهب: أخبرنى معاويةُ، عن سعيد بن غَزوان، عن أبيه أنه نزلَ بتَبُوك، وهو حاجٍ، فإذا رجلٌ مُقْعَدٌ، فسألتُه عن أمره، قال: سأُحدِّثُك حديثاً، فلا تُحَدِّثْ به ما سمعتَ أنِّى حَىٌ: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزلَ بتَبُوكَ إلى نخلة، فقال: "هذِهِ قِبْلَتُنا"، ثم صلَّى إليهَا، قال: فأقبلتُ وأنا غلامٌ أسعى، حتى مررتُ بينه وبينها، فقال:

"قطَع صلاتَنا، قطعَ الله أثَرَه"، قال: فما قُمتُ عليهما إلى يومى هذا.
ثم ساقه أبو داود من طريق وكيع، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نِمران، قال: رأيت رجلاً بتَبُوك مقعداً، فقال: مررتُ بين يدىْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حمار وهو يُصلِّى، فقال: "اللهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ"، فما مشيتُ عليهما بعد. وفى هذا الإسناد والذى قبله ضعف.
فصل: فى جمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصلاتين فى غزوة تَبُوك
قال أبو داود: حدثنا قُتيبة بن سعيد، حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الطفيلِ، عن عامِر بن واثلة، عن معاذ بن جَبل، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى غزوةِ تَبُوك إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشَّمسُ، أَخَّرَ الظُّهر حتى يجمعها إلى العصر، فيُصَلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحل قَبْلَ المغرب، أخَّرَ المغربَ حتَّى يُصلىها مع العِشاء، وإذا ارتحلَ بعد المغرب، عَجَّلَ العِشاء، فصلاها مع المغرب.
وقال الترمذى: "إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ، عَجَّلَ العَصْرَ إلى الظُّهْرِ

وَصَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً"، وقال: حديثٌ حسن غريب.
وقال أبو داود: هذا حديثٌ مُنكر، وليس فى تقديمِ الوقتِ حديثٌ قائِم.
وقال أبو محمد بن حزم: لا يَعْلَمُ أحدٌ مِن أصحابِ الحديثِ ليزيد بنِ أبى حبيب سماعاً مِن أبى الطُّفَيْل.
وقال الحاكم فى حديث أبى الطُّفَيْل هذا: هو حديثٌ رواتُه أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرِف له عِلَّة نُعلِّله بها، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وذكر عن البخارى: قلت لقُتيبة بن سعيد: مع مَن كتبتَ عن اللَّيث حديثَ يزيد بن أبى حبيب عن أبى الطُّفَيْل؟ قال: كتَبتُه مع خالد المدائنى، وكان خالد المدائنى يُدخل الأحاديثَ على الشيوخ. ورواه أبو داود أيضاً: حدَّثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله بن موهب الرَّملى، حدثنا مفضَّل بن فضالة، واللَّيث ابن سعد، عن هِشام بن سعد، عن أبى الزُّبير، عن أبى الطُّفَيْل، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فى غزوة تَبُوكَ إذا زاغَت الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ جمعَ بين الظُّهر والعصر، وفى المغرب مِثْلَ ذلك: إن غابَتِ الشَّمسُ قبل أن يرتَحِلَ، جمع بينَ المغربِ والعِشاء، وإن ارتحل قبل أن تَغِيبَ الشمسُ، أخَّرَ المغرب حتَّى يَنْزِلَ لِلعِشَاءِ، ثم يجمَع بينهما.
وهِشام بن سعد: ضعيف عندهم، ضعَّفه الإمام أحمد، وابنُ معين، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، ويحيى بن سعيد، وكان لا يُحدِّث عنه،

وضعَّفه النسائىُّ أيضاً، وقال أبو بكر البزَّار: لم أر أحداً توقَّف عن حديث هِشام ابن سعد، ولا اعتلَّ عليه بعِلَّة تُوجب التوقف عنه، وقال أبو داود: حديث المفضَّل واللَّيث حديث منكر.
فصل: فى رجوعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَبُوك وما هَمَّ المنافقون به من الكَيْدِ به وعِصمة الله إياه
ذكر أبو الأسود فى "مغازيه" عن عُرْوَة قال: ورجع رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلاً مِن تَبُوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناسٌ من المنافقين، فتآمرُوا أن يطرحُوه من رأسِ عَقَبَةٍ فى الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكُوها معه، فلما غشيَهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُخبر خبرهم، فقال: "مَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَأْخُذَ بِبَطْنِ الوَادِى، فإنَّه أَوْسَعُ لَكُمْ" وأَخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَقَبة، وأخذ الناسُ ببطن الوادى إلا النَّفَرَ الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما سمعوا بذلك، استعدُّوا وتلثَّموا، وقد همُّوا بأمر عظيم، وأمر رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذيفةَ بنَ اليمان، وعمَّارَ بن ياسر، فمشيا معه، وأمر عمَّاراً أن يأخذ بزِمام الناقة، وأمر حُذيفة أن يسوقها، فبينا هُم يسيرون، إذ سمعوا وكزة القومِ مِن ورائهم قد غَشَوْه، فَغَضِبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر حُذيفة أن يردهم، وأبصرَ حذيفة غضبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرجع ومعه مِحجن، واستقبل وجوهَ رواحلهم، فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصرَ القومَ، وهم متلثِّمون، ولا يشعرُ إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم اللهُ سبحانه حين أبصروا حُذيفة، وظنوا أنَّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعُوا حتى خالَطُوا الناسَ، وأقبل حُذيفة حتى أدرك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فلما أدركه، قال: "اضْرِب الرَّاحِلَة يا حُذَيْفَة، وامْشِ أنْتَ ياعَمَّارُ"، فأسرعوا حتى استووا بِأَعْلاها، فخرجوا من العَقَبَةِ ينتظرون الناسَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحذيفَة: "هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هؤُلاءِ الرَّهْطِ أو الرَّكْبِ أحَداً"؟ قال حُذيفة: عرفتُ راحِلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتُهم، وهم متلثِّمون، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل عَلِمْتُم ما كانَ شأن الرَّكْبِ وما أرادوا"؟ قالوا: لا واللهِ يا رسول الله، قال: "فإنهم مَكَرُوا لِيَسِيرُوا مَعِى، حَتَّى إذا اطَّلعتُ فى العَقَبَةِ طَرحُونى منها" قالوا: أَوَ لا تأمُرُ بهم يا رسول الله إذاً، فنضرِبَ أعناقهم، قال: "أكره أن يتحدَّث الناسُ ويقولوا: إنَّ محمداً قد وضع يده فى أصحابه"، فسماهم لهما، وقال:"اكتماهم"
وقال ابن إسحاق فى هذه القصة: "إنَّ الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأُخبِرُك بهم إن شاء الله غداً عند وجه الصبح، فانطلِقْ حتى إذا اصبَحْت، فاجمعهم"، فلما أصبح قال: "ادع عبد الله بن أُبَىّ، وسعد بن أبى سرح، وأبا خاطر الأعرابى، وعامراً، وأبا عامر، والجُلاس بن سويد ابن الصامت، وهو الذى قال: لا ننتهى حتى نرمى محمداً مِن العَقَبَةِ الليلة، وإن كان محمد وأصحابُه خيراً منا، إنا إذاً لغنم وهو الراعى، ولا عقل لنا

وهو العاقِل، وأمره أن يدعُوَ مجمع بن حارثة، ومليحاً التيمى، وهو الذى سرق طِيبَ الكعبة، وارتدَّ عن الإسلام، وانطلق هارِباً فى الأرض، فلا يُدْرى أين ذهب، وأمره أن يدعوَ حِصن بن نمير الذى أغار على تمر الصدقة فسرقه، وقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ، ما حَمَلَكَ عَلَى هذَا"؟ فقال: حملنى عليه أنى ظننتُ أنَّ الله لا يُطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه، وعلمتَه، فأنا أشهد اليوم أنك رسُولُ الله، وإنى لم أُؤمن بك قطُّ قبل هذه الساعة، فأقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثرَته، وعفا عنه، وأمره أن يدعو طُعيمة بن أبيرق، وعبدَ الله ابن عُيينة، وهو الذى قال لأصحابه: اسهرُوا هذه الليلة تسلمُوا الدهرَ كُلَّه، فواللهِ ما لكم أمر دون أن تقتلُوا هذا الرجل، فدعاه فقال: "وَيْحَكَ، مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلى لَوْ أنِّى قُتِلْتُ"؟ فقال عبد الله: فواللهِ يا رسولَ الله لا نزالُ بخير ما أعطاك الله النصرَ على عدوِّك، إنما نحن باللهِ وبِكَ، فتركه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "ادعُ مُرَّة بن الربيع"، وهو الذى قال: نقتل الواحد الفرد، فيكون الناسُ عامةً بقتله مطمئنين، فدعاه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلى أنْ تَقُولَ الَّذى قُلْتَ"؟ فقال: يا رسولَ الله؛ إن كنتُ قلتُ شيئاً من ذلك إنك لعالِم بهِ، وما قلتُ شيئاً من ذلك، فجمعهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم اثنا عشر رجلاً الذين حاربُوا اللهَ ورسولَه وأرادوا قتله، فأخبرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم، ومنطقهم، وسرهم، وعلانيتهم، وأطلعَ اللهُ سبحانه نبيه على ذلك بعلمه، ومات الاثنا عشر منافقين محاربين للهِ ولرسوله، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة: 74] وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضِّرار، وهو الذى كان يُقال له: "الراهب"، فسمَّاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الفاسق"، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، فأرسلوا إليه، فقدم عليهم، فلما قدِم عليهم، أخزاه الله وإيَّاهم، فانهارت تلك البقعة فى نار جهنم.

فصل
قلت: وفى سياق ما ذكره ابن إسحاق وَهْمٌ من وجوه:
أحدُها: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسرَّ إلى حُذيفة أسماء أُولئك المنافقين، ولم يُطلع عليهم أحداً غيره، وبذلك كان يُقال لحذيفة: إنه صاحِبُ السِّرِّ الذى لا يعلمهُ غيرُه، ولم يكن عمر، ولا غيرُه يعلمُ أسماءهم، وكان إذا مات الرجل وشكُّوا فيه، يقول عمر: انظروا، فإن صلَّى عليه حذيفة، وإلا فهو منافق منهم.
الثانى : ما ذكرناه من قوله: فيهم عبد الله بن أُبَىّ، وهو وَهْمٌ ظاهر، وقد ذكر ابن إسحاق نفسه، أنَّ عبد الله بن أُبَىِّ تخلَّف فى غزوة تبوك.
الثالث : أن قوله: وسعد بن أبى سرح وَهْمٌ أيضاً، وخطأ ظاهرٌ، فإن سعد ابن أبى سرح لم يُعرف له إسلام ألبتة، وإنما ابنُه عبد الله كان قد أسلم وهاجر، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بمكة، حتى استأمن له عثمانُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح، فأمَّنه وأسلم، فَحَسُنَ إسلامُه، ولم يظهر منه بعد ذلك شئ يُنكر عليه، ولم يكن مع هؤلاء الاثنى عشر ألبتة، فما أدرى ما هذا الخطأ الفاحش.
الرابع: قوله: وكان أبو عامر رأسَهم، وهذا وَهْمٌ ظاهر لا يخفى على مَنْ دونَ ابن إسحاق، بل هو نفسُه قد ذكر قِصة أبى عامر هذا فى قصة الهجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر لما هاجر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، خرجَ إلى مكة ببضعَة عشرَ رجلاً، فلما افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مكة، خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهلُ الطائف، خرج إلى الشام، فمات بها طريداً وحيداً غريباً، فأين كان الفاسقُ وغزوة تَبُوك ذهاباً وإياباً.
فصل: فى أمر مسجد الضِّرار الذى نهى اللهُ رسولَه أن يقومَ فيه، فهدمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوك، حتى نزل بذى أوَان، وبينها وبين المدينة ساعة، وكان أصحابُ مسجد الضِّرار أتَوْه وهو يتجهَّز إلى تَبُوك، فقالوا: يا رسولَ الله ؛ إنَّا قد بنينا مسجداً لِذى العِلَّة والحاجة، واللَّيلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نُحِبُّ أن تأتيَنا فتُصَلِّىَ لنا فيه، فقال: "إنِّى عَلى جَناح سَفَر، وحَالِ شُغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنا إنْ شَاءَ اللهُ لأَتَيْنَاكُم فَصَلَّيْنَا لَكُم فيه"، فلما نزل بذى أوانَ جاءه خبرُ المسجد من السماء، فدَعا مالك بن الدُّخْشم أخا بنى سلمة بن عوف، ومَعن بن عدى العجلانى، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجدِ الظالِمِ أهلُه، فاهدِماه، وحرِّقاه، فخرجا مُسرعَين، حتى أتيا بنى سالم بن عوف، وهم رهطُ مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرْنى حتى أخرُج إليك بنارٍ مِن أهلى، ودخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلاه وفيه أهلُه، فحرقاه وهدماه، فتفَرَّقوا عنه، فأنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ}[التوبة: 107]. إلى آخر القصة.

وذكر ابن إسحاق الذين بنوه، وهم إثنا عشر رجلاً، منهم: ثعلبةُ بن حاطب. وذكر عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس فى قوله:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وكُفْراً}، هم أُناس من الأنصار ابتَنوْا مسجداً فقال لهم أبو عامر: ابنُوا مسجدكم، واستمِدُّوا ما استطعتم مِن قوة ومِن سلاح، فإنى ذاهبٌ إلى قَيْصرَ ملكِ الروم، فآتى بجند من الروم، فأُخْرِجُ محمداً وأصحابه، فلما فرغوا مِن مسجدهم، أتوا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنَّا قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنُحب أن تُصَلِّى فيه، وتدعو بالبركة، فأنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ: {لا تَقُمْ فِيهِ أبَداً، لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ} يعنى مسجد قُبَاء {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}[التوبة: 108] إلى قوله: {فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ}[التوبة: 109] يعنى قواعده، {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} يعنى: الشكَ {إلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعنى بالموت

فصل: [فى خروج الناس لتلقيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند مقدمه المدينة ]
فلما دنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساءُ والصبيان والولائد يقلن:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا للهِ دَاعِى
وبعضُ الرواة يَهِمُ فى هذا ويقولُ: إنما كان ذلك عند مقدَمِه إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر، لأن ثنياتِ الوداع إنما هى من ناحية الشام، لا يراها القادِمُ من مكة إلى المدينة، ولا يمرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام، فلما أشرف على المدينة، قال: "هذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه".
فلما دَخلَ قال العباسُ: يا رسول الله؛ ائذن لى أمتدِحك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قل: لا يَفْضُض اللهُ فَاكَ" فقال:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فى الظِّلاَلِ وَفِى ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لاَ بَشَرٌ ... أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلاَ عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ ... أَلْجَمَ نَسْراً وَأَهْلَه الغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلى رَحِمٍ ... إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ

حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ مِن ... خِنْدِفَ عَلْيَا تَحْتَها النُّطُقُ
وَأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ ال ... أرض وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فى ذَلِك الضياءِ وَفى النْ ... ورِ وَسُبْلَ الرَّشَادِ نَخْتَرِق
فصل
ولما دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينَة، بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس للنَّاس، فجاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذِرون إليه، ويحلِفُون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سَرائِرَهم إلى الله،
وجاءه كعبُ بنُ مالك، فلما سلَّم عليه، تبسم تبسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال له: "تعال". قال: فجئتُ أمشى حتى جلستُ بين يديه، فقال لى:"ماخَلَّفَكَ، ألم تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهرَك"؟ فقلتُ: بَلَى إنى واللهِ لو جلستُ عندَ غيرِك من أهل الدنيا، لرأيتُ أن أخرُجَ مِن سخطه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدلاً، ولكنى واللهِ لقد عَلِمْتُ إن حدثتُك اليومَ حديثَ كذب تَرضى به علىَّ، ليوشِكَنَّ اللهُ أَن يُسْخِطَك عَلىَّ، ولئن

حدَّثْتُكَ حَديثَ صِدقٍ، تَجِدُ علىَّ فيه، إنِّى لأرجُو فيه عفوَ اللهِ عنى، واللهِ ما كان لى مِن عذر، واللهِ ما كنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنى حين تخلَّفتُ عنك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما هذَا فَقَدْ صَدَقَ، فقُم حتى يقضِىَ اللهُ فيك". فقمتُ، وثار رِجالٌ من بنى سلمة، فاتبعونى يُؤنِّبونى، فقالوا لى: واللهِ ما علمناكَ كنتَ أذنبتَ ذنباً قبلَ هذا، ولقد عَجَزْتَ ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذنبَك استغفارُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لك. قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنبونى حتى أردتُ أن أرجع، فأكذِبَ نفسى، ثم قلتُ لهم: هل لقى هذا معى أحدٌ؟ قالوا: نعم رَجُلانِ قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلَ ما قيل لك، فقلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرارة بنُ الربيع العامرى، وهِلالُ بنُ أُمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالِحين شهدا بدراً فيهما أُسوةٌ، فمضيتُ حين ذكروهما لى.
ونهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمينَ عن كلامِنا أيُّها الثَّلاثَةُ مِن بين مَنْ تخلَّفَ عنه، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لى الأرضُ، فما هى بالتى أعرِفُ، فلبثنا على ذلك خمسينَ ليلةً، فأما صاحباى، فاستكانا وقعدا فى بيوتِهما يَبكيانِ، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنتُ أخرج، فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ فى الأسواق، ولا يُكلِّمنى أحد، وآتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُسَلِّمُ عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام علىَّ أم لا؟ ثم أُصَلِّى قريباً منه، فأسارِقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتى، أقبل إلىَّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرضَ عنى، حتى إذا طالَ علىَّ ذلك مِن جفوة المسلمين، مشيتُ حتى

تسوَّرتُ جدار حائط أبى قتادة، وهو ابنُ عمى، وأحبُّ الناسِ إلىَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادة؛ أنشدُك باللهِ، هل تعلَمُنى أُحِبُّ الله ورسولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فسكت، فعُدت، فناشدتُه، فسكت، فعُدت فناشدتُه، فقال: اللهُ ورَسُولُه أعلمُ، ففاضت عيناى، وتولّيتُ حتَّى تسورتُ الجِدَار.
فبينا أنا أمشى بسوق المدينة، إذا نَبَطِى من أنباطِ الشام ممن قَدِمَ بالطعام يَبيعه بالمدينة يقولُ: مَنْ يدُلُّ على كعبِ بْنِ مالك، فطفِقَ الناسُ يُشِيرونَ لهُ حتَّى إذا جاءنى، دفع إلىَّ كتاباً من ملك غَسَّان، فإذا فيه:
أما بعدُ.. فإنه بلغنى أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك. فَقُلْتُ لما قرأتها: وهذا أيضاً مِن البلاء، فتيممتُ بها التنور، فسجرتُها حتى إذا مضت أربعون ليلةً مِن الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتينى، فقال: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلتُ: أُطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربْها، وأرسل إلى صاحبىَّ مثل ذلك، فقلتُ لامرأتى: الحقى بأهلك، فكونى عندهم حتى يَقْضِىَ اللهُ فى هذا الأمر، فجاءت امرأةُ هلال بن أُمية، فقالت: يا رسول الله؛ إنَّ هلالَ بنَ أُمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدُمه قال: "لا ولكن لا يقرَبُك"، قالت: إنه واللهِ ما بِه حركة إلى شىء، واللهِ ما زال يبكى منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعضُ أهلى: لو استأذنتَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى امرأتك كما أذن لامرأة هِلال بن أُمية أن تخدُمه، فقلت: واللهِ لا أستأذِنُ فيها رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وما يُدرينى ما يقولُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجل شاب، ولبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمُلَت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلامنا، فلما صَلَّيتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على سطح بيت من بيوتنا، بينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله تعالى، قد ضاقت علىَّ نفسى، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوتَ صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ ابنَ مالك؛ أبشر، فخررتُ ساجداً، فعرفتُ أن قد جاء فرجٌ مِن اللهِ، وآذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوبة الله علينا حين صَلَّى الفجر، فذهب الناسُ يُبشرونَنا، وذهب قِبَلَ صاحبىَّ مبشرون، وركضَ إلىَّ رجل فرساً، وسعى ساع مِن أسلمَ، فأوفى على ذِرْوة الجبل، وكان الصوتُ أسرعَ مِن الفرس، فلما جاءنى الذى سمعتُ صوته يبشرنى، نزعتُ له ثوبىَّ فكسوتُه إياهما ببُشراه، واللهِ ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، فانطلقتُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلقانى الناسُ فوجاً فوجاً يُهنئوننى بالتوبة يقولون: لِيهْنِكَ توبةُ الله عليك، قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس حولَه الناس، فقام إلىَّ طلحةُ بنُ عُبيد الله يُهروِلُ حتى صافحنى وهنَّأنى، واللهِ ما قام إلىَّ رجل من المهاجرين غيره، ولستُ أنساها لِطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور: "أَبْشِرْ بِخَيْر يَوْم مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ". قال قلتُ: أمِن عندك يا رسولَ الله، أم مِن عند الله؟ قال: "لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ"، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قِطعةُ قمر، وكنا نعرفُ ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه، قلت: يا رسول الله؛ إنَّ مِن توبتى أن أنخلِع مِن مالى صَدَقة إلى الله، وإلى رسوله، فقال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قلت: فإنى أُمِسكُ سهمى الذى بخَيْبرَ. فقلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الله إنما نجانى بالصدق، وإنَّ من توبتى ألاَّ أُحَدِّثُ إلا

صدقاً ما بقيتُ، فواللهِ ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومى هذا ما أبلانى، واللهِ ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومى هذا كذباً، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقيتُ، فأنزلَ الله تعالى على رسوله: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}[التوبة: 117 ] إلى قوله :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119]، فواللهِ ما أنعم الله علىَّ نعمة قَطُّ بعد أن هدانى للإسلام، أعظمَ فى نفسى من صدقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن لا أكون كذبته، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فإن الله قال للذين كذَبُوا حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ باللهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ}[التوبة:95] إلى قوله: {فَإنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 96].
قال كعب: وكان تخلُّفنا أيُّها الثَّلاثَةُ عن أمر أُولئك الذين قبل منهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال الله: {وعَلى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118]، وليس الذى ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه. وقال عثمان بن سعيد الدارمى: حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنى معاوية

بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، فى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً}[التوبة: 102] قال: كانوا عشرةَ رهط تخلَّفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى غزوة تَبُوك، فلما حضر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوثقَ سبعةٌ منهم أنفسَهم بسوارى المسجد، وكان يَمُرُّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجع فى المسجد عليهم، فلما رآهم قال: "مَنْ هؤلاء المُوثِقُون أنْفُسَهُم بالسوارِى"؟ قالوا: هذا أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلَّفوا عنك يا رسولَ الله أوثقُوا أنفسَهم حتى يُطلِقَهُم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعذرهم. قال: "وأنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُم وَلاَ أَعْذِرُهم حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِى يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّى وتَخَلَّفُوا عَن الغَزْو مَعَ المُسْلِمِينَ"، فلما بلغهم ذلك، قالوا: ونحن لا نُطْلِقُ أنفسنا حتى يكون اللهُ هو الذى يُطلقنا، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وعسى من الله واجب {إنه هو التواب الرحيم}. فلما نزلت، أرسل إليهم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأطلقهم، وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله؛ هذه أموالنا، فتصدَّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: "ما أُمِرْتُ أنْ آخُذَ أمْوَالَكُم" فأنزل الله: {خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 103] يقول: استغفر لهم، {إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ فأخذ} مِنهم الصدقة، واستغفر لهم، وكان ثلاثة نَفَر لم يُوثقوا أنفسهم بالسوارى، فأُرجِئوا لا يَدرونَ أيُعذَّبون أم يُتاب عليهم؟ فأنزل الله تعالى: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ والمُهَاجِرِينَ والأَنْصارِ} إلى قَولِه: {وعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّ

فُواْ}. إلى قوله: {إنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرًَّحِيمُ} تابعَه عطية ابن سعد.
فصل: فى الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد
فمنها: جوازُ القتال فى الشهر الحرام إن كان خروجُه فى رجب محفوظاً على ما قاله ابن إسحاق، ولكن ههنا أمر آخر، وهو أن أهلَ الكتاب لم يكونوا يُحرِّمون الشهرَ الحرام، بخلاف العرب، فإنها كانت تُحرِّمه، وقد تقدَّم أنَّ فى نسخ تحريمِ القتال فيه قولين، وذكرنا حُجَج الفريقين.
ومنها: تصريحُ الإمام للرعية، وإعلامُهم بالأمر الذى يضرُّهم سترُه وإخفاؤُه، ليتأهبوا له، ويُعِدُّوا له عُدته، وجوازُ ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة.
ومنها: أنَّ الإمام إذا استنفر الجيش، لزمهم النفيرُ، ولم يجز لأحد التخلفُ إلا بإذنه، ولا يُشترطُ فى وجوب النفير تعيينُ كلِّ واحد منهم بعينه، بل متى استنفر الجيش، لزم كُلَّ واحد منهم الخروجُ معه، وهذا أحدُ المواضع الثلاثة التى يصير فيها الجهاد فرض عَيْن. والثانى: إذا حضر العدوُّ البلد. والثالث: إذا حضر بين الصفين.
ومنها: وجوبُ الجهاد بالمال، كما يجبُ بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهى الصوابُ الذى لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيقُ الأمر بالجهاد بالنفس فى القرآن وقرينُه، بل جاء مقدَّماً على الجهاد بالنفس فى كُلِّ موضع، إلا موضعاً واحداً، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكدُ من الجهاد بالنفس، ولا ريبَ أنه أحدُ الجهادين، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فَقَدْ غَزَا" ، فيجب على القادر عليه، كما

يجب على القادر بالبدن، ولا يَتِمُّ الجهاد بالبدن إلا ببذله، ولا ينتصر إلا بالعدد والعُدد، فإن لم يقدر أن يكثر العَدد، وجب عليه أن يمد بالمال والعُدة، وإذا وجب الحجُّ بالمال على العاجز بالبدن، فوجوبُ الجهاد بالمال أَوْلى وأَحرى.
ومنها: ما برز به عُثمانُ بن عفان من النفقةِ العظيمة فى هذه الغزوة، وسبق به الناس، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غَفَرَ اللهُ لَكَ يا عُثْمَانُ ما أَسْرَرْتَ، ومَا أَعْلَنْتَ، ومَا أَخْفَيْتَ، وما أبْدَيْتَ". ثم قال: "ما ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ اليَوْمِ"، وكان قد أنفق ألفَ دينار، وثلاثمائة بعير بعُدتها وأحلاسها وأقتابِها.
ومنها: أن العاجزَ بماله لا يُعذرُ حتى يَبْذُلَ جهده، ويتحقَّقَ عجزُهُ، فإن الله سبحانه إنما نفى الحَرَجَ عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحملهم، فقال:{ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد، فهذا العاجز الذى لا حَرَج عليه.
ومنها: استخلافُ الإمام إذا سافر رجلاً من الرعية على الضعفاء، والمعذورين، والنساء، والذُرِّية، ويكون نائبه مِن المجاهدين، لأنه من أكبر العون لهم. وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستخلِف ابنَ أُمِّ مكتوم، فاستخلفه بضعَ عشرة مرة، وأما فى غزوة تَبُوك.
فالمعروفُ عند أهل الأثر أنه استخلف علىَّ ابن أبى طالب، كما فى "الصحيحين" عن سعد بن أبى وقاص، قال: خلَّف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً رضى الله عنه فى غزوة تَبُوك، فقال: يا رسول الله؛ تُخَلِّفُنى مَعَ النساءِ والصبيان، فقال: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ

مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى". ولكن هذه كانت خلافةً خاصة على أهله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الاستخلافُ العام، فكان لمحمد بن مسلمة الأنصارى، ويدل على هذا أن المنافقين لما أرجفُوا به، وقالوا: خلَّفه استثقالاً، أخذ سلاحه ثم لحق بالنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره، فقال: "كَذَبُوا، ولكِنْ خَلَّفْتُكَ لِما تَرَكْتُ وَرائى، فارْجعْ فاخْلُفْنى فى أَهْلى وَأَهْلِكَ".
ومنها: جواز الخَرْصِ للرُّطَبِ على رؤوس النخل، وأنه من الشرع، والعمل بقول الخارص، وقد تقدَّم فى غزاة خَيْبَر، وأن الإمام يجوز أن يخرِصَ بنفسه، كما خرصَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديقة المرأة.
ومنها أنَّ الماء الذى بآبار ثمود، لا يجوز شُربه، ولا الطبخُ منه، ولا العجينُ به، ولا الطهارةُ به، ويجوز أن يُسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة. وكانت معلومةً باقية إلى زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم استمر عِلْمُ الناسِ بها قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا يرِدُ الركوبُ بئراً غيرها، وهى مطويَّةٌ محكمة البناء، واسعة الأرجاء، آثار العِتق عليها بادية، لا تشتبِه بغيرها.
ومنها: أنَّ مَن مرَّ بديار المغضوب عليهم والمعذَّبين، لم ينبغ له أن يدخُلَها، ولا يُقيم بها، بل يُسرع السير، ويتقنَّع بثوبه حتى يُجاوِزَها، ولا يدخل عليهم إلا باكياً معتبراً.
ومن هذا إسراعُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السير فى وادى مُحَسِّر بين مِنَى وعَرَفة، فإنه المكانُ الذى أهلك الله فيه الفيلَ وأصحابه.
ومنها: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمعُ بين الصلاتين فى السفر، وقد جاء جمعُ التقديم فى هذه القصة فى حديث معاذ، كما تقدَّم، وذكرنا عِلَّة الحديث.

ومَن أنكره، ولم يجئ جمع التقديم عنه فى سفر إلا هذا، وصح عنه جمعُ التقديمِ بعَرَفة قبل دخوله إلى عَرَفة، فإنه جَمَعَ بين الظهر والعصر فى وقت الظهر، فقيل: ذلك لأجل النُّسُك، كما قال أبو حنيفة. وقيل: لأجل السفر الطويل، كما قاله الشافعى وأحمد. وقيل: لأجل الشغل، وهو اشتغالُه بالوقوف، واتصالُه إلى غروب الشمس. قال أحمد: يجمع للشغل، وهو قول جماعة من السَّلَف والخَلَف، وقد تقدَّم.
ومنها: جوازُ التَّيَمُم بالرمل، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَصحابَه، قطعوا الرمال التى بين المدينة وتَبُوك، ولم يحملوا معهم تراباً بلا شك، وتلك مفاوز مُعْطِشة شكوا فيها العطشَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقطعاً كانوا يتيممون بالأرض التى هم فيها نازلون، هذا كُلُّه مما لا شك فيه مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِى الصَّلاةُ، فَعِنْدَهُ مَسْجِدُه وَطَهُورُه".
ومنها: أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بتَبُوك عشرين يوماً يَقْصُر الصلاة، ولم يَقل للأُمَّة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثرَ من ذلك، ولكن اتفقت إقامتُه هذه المدة، وهذه الإقامة فى حال السفر لا تخرج عن حكم السفر، سواءٌ طالت أو قصرت إذا كان غيرَ مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.
وقد اختلف السَّلَفُ والخَلَف فى ذلك اختلافاً كثيراً، ففى "صحيح البخارى" عن ابن عباس، قال: أقامَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض أسفاره تسعَ عشرةَ يُصلِّى ركعتين، فنحن إذا أقمْنا تِسْعَ عشرةَ نُ

صَلِّى ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا، وظاهرُ كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمنَ الفتح، فإنه قال: أقام رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ثمان عشرة زمنَ الفتح، لأنه أراد حُنَيْناً، ولم يكن ثَمَّ أجمعَ المُقام، وهذه إقامته التى رواها ابنُ عباس. وقال غيرُه: بل أراد ابنُ عباس مقامه بتَبُوك، كما قال جابر بن عبد الله: أقام النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَبُوك عشرينَ يوماً يقصُر الصلاة، رواه الإمام أحمد فى "مسنده".
وقال عبد الرحمن بن المِسور بن مَخْرَمَة: أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصُرُها سعد ونُتِمُّها.
وقال نافعُ: أقام ابنُ عمر بأذَربيجَانَ ستةَ أشهر يُصَلِّى ركعتين، وقد حال الثلجُ بينه وبين الدخول.
وقال حفصُ بن عُبيد الله: أقام أنسُ بنُ مالك بالشام سنتين يُصَلِّى صلاةَ

المسافر.
وقال أنسُ: أقام أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَامَهُرْمُزَ سَبعة أشهر يقصُرون الصلاة.
وقال الحسن: أقمتُ مع عبد الرحمن بن سَمُرة بكابُل سنتينِ يقصرُ الصلاة ولا يجمع.
وقال إبراهيم: كانوا يُقيمون بالرَّىِّ السنة، وأكثر من ذلك، وسجستان السنتين.
فهذا هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كما ترى، وهو الصوابُ.
وأما مذاهبُ الناس، فقال الإمام أحمد: إذا نوى إقامةَ أربعة أيام، أتم، وإن نوى دونها، قصر، وحمل هذه الآثار على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم يُجمعوا الإقامة ألبتة، بل كانوا يقُولون: اليوم نخرج، غداً نخرج. وفى هذا نظر لا يخفى، فإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح مكة، وهى ما هى، وأقام فيها يُؤسِّسُ قواعِدَ الإسلام، ويهدِمُ قواعِدَ الشِّرك، ويُمهِّد أمر ما حولها مِن العرب، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام لا يتأتَّى فى يوم واحد، ولا يومين، وكذلك إقامتُه بتَبُوك، فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعاً، أنه كان بينه وبينهم عِدَّةُ مراحل يحتاج قطعها إلى أيام، وهو يعلم

أنهم لا يُوافون فى أربعة أيام، وكذلك إقامة ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصُر الصلاة من أجل الثلج، ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحللُ ويذوب فى أربعة أيام، بحيث تنفتح الطُّرُق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصُر، وإقامةُ الصحابة بِرَامَهُرْمُزَ سبعة أشهر يقصُرون، ومن المعلوم أن مثل هذا الحِصار والجهاد يُعلَم أنه لا ينقضى فى أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهاد عدو، أو حبس سلطان، أو مرض، قصر، سواء غلب على ظنِّه انقضاءُ الحاجة فى مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب، ولا سُنَّة، ولا إجماع، ولا عمل الصحابة. فقالُوا: شرط ذلك احتمالُ انقضاء حاجته فى المدة التى لا تقطع حكم السفر، وهى ما دُون الأربعة الأيام، فيقال: من أين لكم هذا الشرط، والنبىُّ لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصُر الصلاة بمكة وتَبُوك لم يقل لهم شَيْئاً، ولم يُبين لهم أنه لم يَعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلمُ أنهم يقتدون به فى صلاته، ويتأسَّوْنَ به فى قصرها فى مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً: لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا مِن أهم المهمات، وكذلك اقتداءُ الصحابة به بعدَه، ولم يقولوُا لمن صَلَّى معهم شيئاً من ذلك.
وقال مالك والشافعى: إنْ نوى إقامةَ أكثرَ مِن أربعة أيام أتمَّ، وإن نوى دونها قصر.
وقال أبو حنيفة: إنْ نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتمَّ، وإن نوى دونها قصر، وهو مذهب الليث بنِ سعد، ورُوى عن ثلاثة من الصحابة: عمر، وابنه، وابن عباس. وقال سعيد بن المسيِّب: إذا أقمتَ أربعاً فصَلِّ أربعاً، وعنه: كقول أبى حنيفة.
وقال علىُّ بن أبى طالب: إنْ أقامَ عشراً، أتمَّ، وهو روايةٌ عن ابن عباس.

وقال الحسن: يقصُر ما لم يقدَم مصراً.
وقالت عائشةُ: يقصُر ما لم يضع الزاد والمزاد.
والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج، فإنه يقصر أبداً، إلا الشافعىّ فى أحد قوليه، فإنه يقصُر عنده إلى سبعة عشر، أو ثمانية عشر يوماً، ولا يقصُر بعدها. وقد قال ابن المنذر فى "إشرافه": أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يُجْمِع إقامة وإن أتى عليه سنون.
فصل
ومنها: جوازُ بلِ استحبابُ حِنْث الحالف فى يمينه إذا رأى غيرَها خيراً منها، فيكفِّرُ عن يمينه، ويفعلُ الذى هو خير، وإن شاء قدَّم الكَفَّارة على الحِنث، وإن شاء أخَّرها، وقد رُوى حديث أبى موسى هذا: "إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ، وتحلَّلتُها"، وفى لفظ: "إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذِى هُوَ أَخْيَرُ"، وفى لفظ: "إلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى"، وكلُّ هذه الألفاظ فى "الصحيحين"، وهى تقتضى عدم الترتيب.
وفى السنن من حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا،. فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذى هُوَ خَيْرٌ ". وأصله فى "الصحيحين"، فذهب أحمد، ومالك،

والشافعى إلى جواز تقديم الكَفَّارة على الحِنث، واستثنى الشافعىُّ التكفيرَ بالصوم، فقال: لا يجوزُ التقديمُ، ومنع أبو حنيفة تقديمَ الكفَّارة مطلقاً.
فصل
ومنها: انعقادُ اليمين فى حال الغضب إذا لم يَخْرُج بصحابه إلى حد لا يعلم معه ما يقول، وكذلك ينفُذ حكمه، وتَصِحُّ عقُودُه، فلو بلغ به الغضبُ إلى حد الإغلاق، لم تنعقِدْ يمينه ولا طلاقه. قال أحمد فى رواية حنبل فى حديث عائشة: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا طَلاَقَ وَلا عَتَاقَ فى إغْلاَقٍ"، يريد الغضبَ.
فصل
ومنها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملَكم "، قد يتعلق به الجبرىُّ، ولا متعلق له به، وإنما هذا مثل قوله: "واللهِ لا أُعْطى أحَداً شَيْئاً، ولا أَمْنَعُ، وإنَّما أَنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ"، فإنه عبد الله ورسوله،

إنما يتصرف بالأمر، فإذا أُمِرَه ربه بشىءٍ، نفذه، فالله هو المعطى، والمانع، والحامل، والرسول منفذ لما أمر به. وأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}[الأنفال: 17] ، فالمرادُ به القبضةُ من الحصباء التى رمى بها وجوهَ المشركين، فوصلَت إلى عُيون جميعهم، فأثبتَ اللهُ سبحانه له الرمىَ باعتبار النبذِ والإلقاء، فإنه فعله، ونفاه عنه باعتبار الإيصال إلى جميع المشركين، وهذا فعلُ الرب تعالى لا تَصِلُ إليه قُدْرَةُ العبد، والرمىُ يُطلق على الخَذف وهو مبدؤه، وعلى الإيصال، وهو نهايتُه.
فصل
ومنها: تركُه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفرُ الصريحُ، فاحتج به مَن قال: لا يُقْتَلُ الزنديق إذا أظهر التوبة، لأنهم حلفوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ما قالوا، وهذا إذا لم يكن إنكاراً، فهو توبة وإقلاع، وقد قال أصحابُنا وغيرهم:ومَن شُهِدَ عليه بالرِّدَّةِ، فشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، لم يكشف عن شىء عنه بعد، وقال بعض الفقهاء: إذا جحد الرِّدَّة، كفاه جحدها. ومَن لم يقبل توبة الزنديق، قال: هؤلاء لم تَقُمْ عليهم بيِّنة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحكمُ عليهم بعلمه، والذى بلَّغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم قولَهم لم يبلِّغه إياه نصابُ البيِّنة، بل شهد به عليهم واحد فقط، كما شهد زيدُ ابن أرقم وحدَه على عبد الله بن أُبَىّ، وكذلك غيرُه أيضاً، إنما شهد عليه واحد.
وفى هذا الجواب نظر، فإن نفاق عبد الله بن أُبَىّ، وأقوالَه فى النفاق كانت كثيرةً جداً، كالمتواترة عند النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وبعضهم أقرَّ بلسانه، وقال: "إنما كنا نخوضُ ونلعب"، وقد واجهه بعضُُ الخوارج

فى وجهه بقوله: إنَّك لم تَعْدِلْ. والنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل له: ألا تقتلهم؟ لم يقل ما قامت عليهم بيِّنةٌ، بل قال: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَه".
فالجوابُ الصحيح إذن: أنه كان فى ترك قتلهم فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصلحة تتضمن تأليفَ القلوب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجمع كلمة الناس عليه، وكان فى قتلهم تنفيرٌ، والإسلام بعدُ فى غُربة، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحرصُ شىْءٍ على تأليف الناسِ، وأتركُ شىْء لما يُنَفِّرُهم عن الدخول فى طاعته، وهذا أمر كان يختصُّ بحال حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك تركُ قتل مَن طعن عليه فى حكمه بقوله فى قصة الزُّبير وخصمه: أنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ. وفى قسمه بقوله: إنَّ هذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. وقول الآخر له: إنك لم تعدِل، فإنَّ هذا محضُ حقه، له أن يستوفِيَه، وله أن يترُكَه، وليس للأُمة بعده تركُ استيفاء حقِّه، بل يتعينُ عليهم استيفاؤه، ولا بُدَّ، ولتقرير هذه المسائل موضع آخر، والغرضُ التنبيه والإشارة.
فصل
ومنها: أن أهلَ العهد والذِّمَّة إذا أحدث أحد منهم حَدَثاً فيه ضرر على

الإسلام، انتقضَ عهدُه فى ماله ونفسه، وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام، فدمُه وماله هدر، وهو لمن أخذه، كما قال فى صلح أهل أيلة: فمَن أحدث منهم حَدَثاً، فإنه لا يحول مالُه دون نفسه، وهو لمن أخذه من الناس، وهذا لأنه بالإحداث صار محارباً، حكمه حكم أهل الحرب.
فصل
ومنها: جواز الدفن بالليل، كما دفن رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا البِجادين ليلاً، وقد سُئل أحمد عنه، فقال: وما بأسٌ بذلك. وقال: أبُو بكر دُفِنَ ليلاً، وعلىّ دفن فاطمة ليلاً. وقالت عائشة: سمعنا صوتَ المساحِى من آخِر الليل فى دفن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. انتهى.ودفن عُثمان، وعائشةُ، وابنُ مسعود ليلاً.
وفى الترمذى عن ابن عباس، أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل قبراً ليلاً، فأُسْرِجَ له سِراج، فأخذه من قِبَل القِبْلة، وقال: "رحمك الله؛ إن كُنْتَ لأَوَّاهَاً تَلاءً لِلْقُرآن". قال الترمذى: حديث حسن.
وفى البخارى: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن رجل فقال: "مَنْ هذَا"؟

قالُوا: فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ؛ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى "صحيحه" أن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب يوماً، فذكر رجلاً مِن أصحابِه قُبضَ فَكُفِّن فى كَفَنٍ غَيْرِ طَائِل، وَقُبِرَ لَيْلاً، فزجَرَ النَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُقَبَرَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ حتَّى يُصَلَّى عليه إلا أَنْ يُضطرَّ إنْسَانٌ إلَى ذلِكَ؟ قال الإمام أحمد: إليه أذهب.
قيل: نقول بالحديثين بحمد اللهِ، ولا نرُدُّ أحدَهما بالآخر، فنكره الدفنَ بالليل، بل نزجُر عنه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، كميت مات مع المسافرين بالليل، ويتضرَّرون بالإقامة به إلى النهار، وكما إذا خِيف على الميت الانفجارُ، ونحو ذلك من الأسباب المرجحة للدفن ليلاً.. وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: أن الإمام إذا بعث سَرِيَّةً، فغنِمَت غنيمة، أو أسرت أسيراً، أو فتحت حِصناً، كان ما حصل من ذلك لها بعد تخميسه، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم ما صالح عليه أُكَيْدِر من فتح دُومة الجندل بين السريَّة الذين بعثهم مع خالد، وكانوا أربعمائة وعشرين فارساً، وكانت غنائِمُهم ألفى بعير وثمانمائة رأس، فأصاب كُلَّ رجل منهم خمسُ فرائض، وهذا بخلاف ما إذا أخرجت السريةُ من الجيش فى حال الغزو، فأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابُوا يكون غنيمة للجميع بعد الخُمُس والنَّفلَ، وهذا كان هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فصل
ومنها: قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ بالمَدِينَةِ أقْواماً مَا سِرْتُمْ مَسيراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم"، فهذه المعية هى بقلوبهم وهممهم، لا كما يظنه طائفة من الجُهَّال أنهم معهم بأبدانهم، فهذا محال، لأنهم قالوا له: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة حَبَسَهُمُ العُذْرُ"، وكانوا معه بأرواحهم، وبدار الهجرة بأشباحهم، وهذا مِن الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع، وهى القلب، واللِّسان، والمال، والبدن. وفى الحديث: "جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَقُلُوبِكُم وأَمْوالِكُم".
فصل
ومنها: تحريقُ أمكنة المعصية التى يُعصى اللهُ ورسولُه فيها وهدمُها، كما حرقَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد الضِّرار، وأمر بهدمه، وهو مسجدٌ يُصلَّى فيه، ويُذكر اسمُ الله فيه، لما كان بناؤه ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنينَ، ومأوى للمنافقين، وكُلُّ مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيلُه، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِعَ له. وإذا كان هذا شأنَ مسجد الضِّرارِ، فمشاهِدُ الشِّرْكِ التى تدعو سدنتُها إلِى اتخاذ مَنْ فيها أنداداً من دون الله أحقُّ بالهدمِ وأوجب، وكذلك محالُّ المعاصى والفسوق، كالحانات، وبُيوت الخمَّارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمرُ بن الخطاب قريةً

بكمالها يُباع فيها الخمر، وحرق حانوت رُويشد الثقفى وسماه فويسقاً، وحرق قصرَ سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريق بيوت تَاركى حضور الجماعة والجُمُعة، وإنما منعه مَن فيها من النساء والذُرِّية الذين لا تجبُ عليهم كما أخبر هو عن ذلك.
ومنها: أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ولا قُربة، كما لم يصحَّ وقفُ هذا المسجد، وعلى هذا: فيُهدم المسجد إذا بُنى على قبر، كما يُنبش الميتُ إذا دُفِنَ فى المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع فى دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر. منع منه، وكان الحكم لِلسابق، فلو وُضِعا معاً، لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تَصِحُّ الصلاة فى هذا المسجد لنهى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، ولعنه مَن اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً، فهذا دينُ الإسلام الذى بعث الله به رسوله ونبيه، وغربتُه بينَ الناس كما ترى.
فصل
ومنها: جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش،

وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياساً على أكل العنب، وشرب العصير الذى لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التى تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
ومنها: استماعُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه فى هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: "احْثُوا فى وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ".
ومنها: ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها:
فمنها: جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه فى طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور.
ومنها: جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع.
ومنها: تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه.
ومنها: أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعباً كان لا يراها دونَ مشهد بدر.

ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة فى أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة.
ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز.
ومنها: أن الجيشَ فى حياة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُنَّته التى أمر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها.
ومنها: أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ فى تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24] ، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا فى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الأنعام: 110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]. وقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}[التوبة: 115] وهو كثير فى القرآن.
ومنها: أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أحد رجال ثلاثة: إما مغموصٌ عليه فى النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه فى بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بتبوك: "مَا فَعَلَ كَعْب"؟ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحاً له، ومُرعاةً وإهمالاً للقوم المنافقين.
ومنها: جوازُ الطعنِ فى الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبّاً عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّنَّة فى أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم.
ومنها: جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن فى كعب: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيراً، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على واحد منهما.
ومنها: أن السُّنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله.
ومنها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه.
ومنها: تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثاً تأديباً له، وزجراً لغيره، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب

والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه فى وجهه، ولا سيما عند المَعتَبَةِ كما قيل:
إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة ... فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ
ومنها: معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول.
ومنها: توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا فى العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات فى العواقب، وحلاوات المبادى مرارات فى العواقب. وقول النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب: "أما هذا، فقد صدق"، دليلٌ ظاهر فى التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء: 78-79]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جُعِلت لى الأرضُ مسجداً وتُرْبَتُها طهوراً"، وقوله فى

هذا الحديث: "أما هذا فقد صدق"، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
وقول كعب: هل لقى هذا معى أحد؟ فقالوا: نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، وهذا هو الروح الذى منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله: {وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]
وقوله: "فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدراً لى فيهما أُسوة" هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازى والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين فى أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يَهْجُرْ حاطباً، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله: "وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم"، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ.
قال أبو الفرج بن الجوزى: ولم أزل حريصاً على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا فى هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدراً، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان.

فصل
وفى نهى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجرَ الصادقين وتأديبَهم على هذا الذنب، وأما المنافِقون، فجُرمهم أعظمُ من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل فى مرض النفاق، ولا فائدةَ فيه، وهكذا يفعلُ الرب سبحانه بعباده فى عقوبات جرائمهم، فيؤدِّبُ عبده المؤمن الذى يحبُه وهو كريم عنده بأدنى زَلَّة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حَذِراً، وأما مَن سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلَى بينَه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث له نِعمة، والمغرورُ يظن أن ذلك مِن كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يُريد به العذابَ الشديد، والعقوبةَ التى لا عاقبة معها، كما فى الحديث المشهور: "إذَا أرَادَ اللهُ بَعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ بِعَبْدٍ شَراً، أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ فى الدُّنْيَا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيَامَة بذُنُوبِه".
وفيه دليل أيضاً على هِجران الإمام، والعالمِ، والمطاعِ لمن فعل ما يستوجِبُ العَتب، ويكون هِجرانه دواء له بحيث لا يضعُف عن حصولِ الشفاء به، ولا يزيدُ فى الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه.
وقوله: "حتى تنكرت لى الأرض، فما هِىَ بالتى أعرِفُ" هذا التنكرُ

يجده الخائفُ والحزينُ والمهمومُ فى الأرض، وفى الشجر، والنبات حتى يجدَه فيمن لا يُعلم حاله من الناس، ويجده أيضاً المذنبُ العاصى بحسب جُرمه حتى فى خُلُقِ زوجته وولده، وخادمه ودابته، ويَجِدُه فى نفسه أيضاً، فتتنكر له نفسُه حتى ما كأنَّه هو، ولا كأنَّ أهلَه وأصحابَه، ومَن يُشْفِقُ عليه بالَّذِينَ يعرِفُهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على مَن هو ميتُ القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراكُ هذا التنكر والوحشة. وما لجرح بميت إيلام.
ومن المعلوم، أن هذا التنكرَ والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلبُ إذا استحكم مرضُه، واشتد ألمُه بالذنوب والإجرام، لم يجد هذه الوحشة والتنكر، ولم يحس بها، وهذه علامةُ الشقاوة، وأنه قد أيسَ من عافية هذا المرض، وأعيا الأطباء شِفاؤه، والخوفُ والهمُّ مع الريبة، والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ مِن الذنب.
فَمَا فى الأرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِىءٍ ... وَلا فى الأرْضِ أخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ
وهذا القدرُ قد ينتفع به المؤمنُ البَصيرُ إذا ابتُلِىَ به ثم راجع، فإنه ينتفع به نفعاً عظيماً مِن وجوه عديدة تفوتُ الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه من ذلك أعلام النبوة، وذوقُه نفس ما أخبر به الرسولُ فيصير تصديقه ضرورياً عنده، ويصيرُ ما ناله مِن الشر بمعاصيه، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التى لا تتطرقُ إليها الاحتمالات، وهذا كمن أخبرك أن فى هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيتَ وكيتَ على التفصيل، فخالفته وسلكتها، فرأيتَ عَيْن ما أخبرَكَ به، فإنك تَشْهَدُ صِدقَه فى نفس خِلافك لهُ، وأما إذا سلكت طريقَ الأمن وحدها، ولم تجد من تلك المخاوف

شيئاً، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلاً، فإن علمه بتلك يكون مجملاً.
فصل
منها: أن هلال بنَ أُمية ومرارة قعدا فى بيوتهما، وكانا يُصلِّيان فى بيوتهما، ولا يحضُران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذر يُبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيُقال: لما أُمِرَ المسلمون بهجرهم تُركوا: لم يُؤمروا، ولم يُنهوا، ولم يُكلَّموا، فكان مَن حضر منهم الجماعة لم يُمنع، ومَن تركها لم يُكلَّم، أو يقال: لعلهما ضَعُفَا وعَجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب: وكنتُ أنا أجلدَ القوم وأشبَّهم، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين.
وقوله: "وآتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأُسلِّم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول: هل حرَّك شفتيه برد السلام علىَّ أم لا"؟ فيه دليل على أن الرد على مَن يستحق الهجرَ غيرُ واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بُد من إسماعه.
وقوله: "حتى إذا طال ذلك علىَّ، تسورتُ جدار حائط أبى قتادة"، فيه دليل على دخول الإنسان دارَ صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك، وإن لم يستأذِنْه.
وفى قول أبى قتادة له: "الله ورسوله أعلم"، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يُكلِّمه، فقال مثلَ هذا الكلام جواباً له لم يحنث، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال

أبى قتادة.
وفى إشارة الناس إلى النَّبطى الذى كان يقول: مَن يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيقٌ لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحاً: ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلاماً له، فلا يكونون به مخالفين للنهى، ولكن لِفرط تحرِّيهم وتمسكهم بالأمر، لم يذكروه له بصريح اسمه. وقد يقال: إن فى الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه، وهى ذريعةٌ قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أفقه وأحسن.
وفى مكاتبة ملك غسَّان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى، وامتحان لإيمانه ومحبته للهِ ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانُه بهجر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين له، ولا هو ممن تحمِلُه الرغبة فى الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له مِن النفاق، وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به، وجبره لكسره، وهذا البلاءُ يُظهر لُبَّ الرجل وسره، وما ينطوى عليه، فهو كالكِير الذى يُخرج الخبيث من الطيب.
وقوله: "فتيممتُ بالصحيفة التنورَ"، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفساد والمضرَّة فى الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذى يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه.
وكانت غسَّان إذ ذاك وهُم ملوك عرب الشام حرباً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا ينعلُون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدى إلى ملكهم الحارث بن أبى شمر الغسَّانى يدعوه إلى الإسلام،

وكتب معه إليه، قال شجاع: فانتهيتُ إليه وهو فى غَوْطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لِقيصر، وهو جاءٍ من حمصَ إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لِحاجبه: إنى رسول رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فقال: لا تَصِلُ إليه حتى يخرُجَ يومَ كذا وكذا، وجعل حاجبُه وكان رومياً اسمه مرى يسألُنى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنتُ أُحدِّثُه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلِبَ عليه البكاء، ويقول: إنى قرأتُ الإنجيل، فأجدُ صفة هذا النبى بعَيْنه، فأنا أُؤمن به وأُصدِّقه، فأخافُ من الحارث أن يقتلنى، وكان يُكرمنى ويُحسن ضيافتى، وخرج الحارث يوماً فجلس، فوضع التاجَ على رأسه، فأذِن لى عليه، فدفعتُ إليه كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأه، ثمَّ رمى به، قال: مَن ينتزِعُ مِنى ملكى، وقال: أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئتُه، علىَّ بالناس، فلم تزل تُعرض حتى قام، وأمر بالخيول تُنعل، ثم قال: أخبر صاحِبَكَ بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تَسِرْ، ولا تَعْبُرْ إليه، والهُ عنه، ووافنى بإيلياء، فلما جاءه جوابُ كتابه، دعانى فقال: متى تُريد أن تخرُج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً، فأمر لى بمائةِ مثقالٍ ذهباً، ووصلنى حاجبُه بنفقة وكُسوةٍ، وقال: اقرأ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منى السلام، فقدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، فقال: "بَادَ مُلْكُه"، وأقرأته من حاجبه السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدق"، ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، ففى هذه المدة أرسل ملكُ غسَّان يدعو كعباً إلى اللحاق به، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودِينه.

فصل
[فى أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة باعتزال نساءهم]
أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة، كالبشارة بمقدمات الفَرَج والفتح مِن وجهين:
أحدهما: كلامُه لهم، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله.
الثانى: مِن خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد فى العبادة، وشد المئزر، واعتزال محل اللهو واللَّذة، والتعوض عنه بالإقبال على العبادة، وفى هذا إيذان بقرب الفَرَج، وأنه قد بقى من العتب أمر يسير.
وفقه هذه القصة، أن زمن العبادات ينبغى فيه تجنبُ النساء، كزمن الإحرام، وزمن الاعتكاف، وزمن الصيام، فأراد النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون آخرُ هذه المدة فى حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام فى توفرها على العبادة، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم، إذ لعَلهم يضعف صبرهم عن نسائهم فى جميعها، فكان من اللُّطف بهم والرحمة، أن أُمروا بذلك فى آخر المدة، كما يؤمر به الحاج من حين يُحرم، لا من حين يعزم على الحج.
وقول كعب لامرأته: "الحقى بأهلك"، دليل على أنه لم يقطع بهذه اللَّفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه. والصحيح: أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك إذا أراد به غير تسييب الزوجة، وإخراج الرقيق عن ملكه، لا يقع به طلاقٌ ولا عتاق، هذا هو الصواب الذى ندينُ الله به، ولا نرتابُ فيه ألبتة.
فإذا قيل له: إن غلامك فاجر أو جاريتك تزنى، فقال: ليس كذلك،

بل هو غلام عفيف حر، وجارية عفيفة حرة، ولم يُرد بذلك حرية العتق، وإنما أراد حرية العفة، فإن جاريته وعبده لا يُعتقان بهذا أبداً، وكذا إذا قيل له: كم لغلامك عندك سنة؟ فقال: هو عتيق عندى، وأراد قدم ملكه له، لم يُعتق بذلك، وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق، فسئل عنها، فقال: هى طالق، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق، وإنما أراد أنها فى طلق الولادة، لم تُطلَّق بهذا، وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أُريد بها، ودل السياق عليها، فدعوى أنها صريحة فى العتاق والطلاق مع هذه القرائن مكابرة، ودعوى باطلة قطعاً.
فصل
وفى سجود كعب حين سمع صوت المبشِّر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهى سجودُ الشكر عند النعم المتجددة، والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصِّدِّيق لما جاءه قتلُ مُسَيْلِمة الكذَّاب، وسجد علىُّ بن أبى طالب لما وجد ذا الثُّديَّةِ مقتولاً فى الخوارج، وسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بشَّره جبريلُ أنه مَن صَلَّى عليه مَرَّة صَلَّى الله عليه بها عشراً، وسجد حين شفع لأُمته، فشفعه الله فيهم ثلاث مرات، وأتاه بشير فبشَّره بظفر جند له على عدوهم ورأسه فى حَجر عائشة، فقام فخرَّ ساجداً، وقال أبو بكرة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه أمر يسُرُّه خرَّ للهِ ساجداً، وهى آثار صحيحة لا مطعن فيها.

وفى استباق صاحب الفرس والراقى على سلع ليبشِّرا كَعباً دليل على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه، وتنافُسهم فى مسَّرة بعضهم بعضاً.
وفى نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير، دليل على أن إعطاء المبشِّرين من مكارم الأخلاق والشيم، وعادة الأشراف، وقد أعتق العباس غلامه لما بشَّره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يسره.وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه.
وفيه دليل على استحباب تهنئة مَن تجدَّدت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سُنَّة مستحَبة، وهو جائز لمن تجددت له نِعمةٌ دنيوية، وأن الأَوْلى أن يقال له: لِيهنك ما أعطاك الله، وما مَنَّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام، فإن فيه تولية النعمة ربَّها، والدعاء لمن نالها بالتهنى بها.
وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يومُ توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ".
فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه، ومن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سعادته، ويومُ توبته كمالها وتمامها.. والله المستعان.
وفى سرور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأُمة، والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم مِن فرح كعب وصاحبيه.
وقول كعب: "يا رسول الله؛ إن من توبتى أن أنخلع من مالى"، دليل على

استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال.
وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" ، دليل على أن مَن نذر الصدقة بكُلِّ ماله، لم يلزمه إخراجُ جميعه، بل يجوز له أن يُبقى له منه بقية، وقد اختلفت الرواية فى ذلك، ففى "الصحيحين" أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ" ولم يُعيِّن له قدراً، بل أطلق ووكله إلى اجتهاده فى قدر الكفاية، وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة، فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته، فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجُه إذا نذره، هذا قياسُ المذهب، ومقتضى قواعِد الشريعة، ولهذا تُقدَّم كفاية الرجل، وكفايةُ أهله على أداء الواجبات المالية، سواء أكانت حقاً لله كالكفَّارات والحَجِّ، أو حقاً للآدميين كأداء الديون
فإنَّا نترك للمفلس ما لا بُدَّ منه من مسكن، وخادم، وكسوة، وآلةِ حِرفة، أو ما يتَّجِرُ به لمؤنته إن فُقِدت الحرفة، ويكون حق الغرماء فيما بقى. وقد نص الإمام أحمد على أن مَن نذر الصدقة بمالِه كُلِّه، أجزأه ثُلُثه، واحتج له أصحابُه بما رُوى فى قصة كعب هذه، أنه قال: "يا رسول الله؛ إنَّ من توبتى إلى الله ورسوله أن أخرُجَ من مالى كُلِّه إلى الله ورسوله صدقة، قال: "لا"، قلت: فنصفُه؟. قال: "لا"، قلت: فثُلُثه قال: "نعم"، قلت: فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر". رواه أبو داود. وفى ثبوت هذا ما فيه، فإن الصحيح فى قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزُّهْرى، عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك"،

مِن غير تعيين لقدره، وهم أعلمُ بالقصة مِن غيرهم، فإنهم ولدُه، وعنه نقلوها.
فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد فى "مسنده" أن أبا لُبابةَ بن عبد المنذر لما تابَ اللهُ عليه، قال: يا رسولَ الله؛ إنَّ مِنْ تَوْبَتى أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِى وأُساكِنَكَ، وأن أنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ". قيل: هذا هو الذى احتج به أحمد، لا بحديث كعب، فإنه قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا نذر أن يتصدَّق بماله كُلِّه أو ببعضه، وعليه دَيْنٌ أكثر مما يملكه، فالذى أذهبُ إليه أنه يُجزئه من ذلك الثُلُث، لأن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أبا لُبابة بالثُلُث، وأحمد أعلمُ بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذى فيه ذكر الثُلُث، إذ المحفوظ فى هذا الحديث: "أمسك عليك بعضَ مالك" وكأنّ أحمد رأى تقييد إطلاق حديثِ كعبٍ هذا بحديث أبى لبابة.
وقوله فيمن نذر أن يتصدَّق بماله كله أو ببعضه وعليه دَيْن يستغرِقه: إنه يجزئه من ذلك الثُلُث، دليل على انعقاد نذره، وعليه دَيْن يستغرِقُ ماله، ثم إذا قضى الدَّيْن، أخرج مقدار ثُلُث ماله يومَ النذر، وهكذا قال فى رواية ابنه عبد الله: إذا وهب ماله، وقضى دَيْنه، واستفاد غيره، فإنما يجبُ عليه إخراجُ ثُلُث ماله يوم حِنثه، يريد بيوم حِنثه يومَ نذره، فينظر قدر الثُلُث ذلك اليوم، فيُخرجه بعد قضاء دَيْنه.

وقوله: أو ببعضه. يُريد أنه إذا نذر الصدقة بمُعيَّن مِن ماله، أو بمقدار كألْفٍ ونحوها، فيجزئه ثُلُثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزومُ الصدقة بجميع المُعيَّن، وفيه روايةٌ أُخرى، أن المُعيَّن إن كان ثُلُث ماله فما دونه، لزمه الصدقةُ بجميعه، وإن زاد على الثُلُث، لزمه منه بقدر الثُلُث، وهى أصحُّ عند أبى البركات.
وبعد.. فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً، وإنما قالا: إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا، وهذا ليس بصريح فى النذر، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما، فأخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه، فأذن له فى قدر الثُلُث.
فإن قيل: هذا يدفعُه أمران. أحدهما: قوله: "يُجزئك"، والإجزاء إنما يُستعمل فى الواجب، والثانى: أن منعه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث دليل على أنه ليس بقُربة، إذ الشارع لا يمنع من القُرَب، ونذر ما ليس بقُربة لا يلزم الوفاءُ به.
قيل: أما قوله: "يُجزئك"، فهو بمعنى يكفيك، فهو من الرباعى، وليس من "جزى عنه" إذا قضى عنه، يقال: أجزأنى: إذا كفانى، وجزى عنى: إذا قضى عنى، وهذا هو الذى يُستعمل فى الواجب، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لأبى بُردة فى الأُضحية: "تَجْزِى عَنْكَ وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" والكفاية تُستعمل فى الواجب والمستحَب.
وأما منعُه مِن الصدقة بما زاد على الثُلُث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به، وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كُلِّه لم يصبِرْ على الفقر والعدم، كما فعل بالذى جاءه بالصُّرة ليتصدق بها، فضربه بها، ولم يقبلها منه خوفاً عليه من الفقر، وعدم الصبر. وقد يقال وهو أرجحُ إن شاء الله تعالى: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل كُلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله، فمكَّن أبا بكر الصِّدِّيق من إخراج مالِه كُلِّه، وقال: "ما أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ"؟ فقال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله،
فلم يُنكر عليه، وأقرَّ عمر على الصدقة بِشَطْرِ ماله، ومنع صاحب الصُّرةِ

من التصدُّق بها، وقال لكعب: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ"، وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثُلُث، ويبعُد جداً بأن يكون الممسَك ضِعفى المُخْرَج فى هذا اللَّفظ، وقال لأبى لبابة: "يُجزئك الثُلُث"، ولا تناقض بين هذه الأخبار، وعلى هذا، فمَن نذر الصدقة بماله كُلِّه، أمسك منه ما يحتاجُ إليه هو وأهلُه، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناسِ مدةَ حياتِهم من رأس مال أو عَقار، أو أرض يقومُ مَغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقى.. والله أعلم.
وقال ربيعة بن أبى عبد الرحمن: يتصدَّقُ منه بقدر الزكاة، ويُمسك الباقى. وقال جابر بن زيد: إن كان ألفين فأكثرَ، أخرج عُشْرَهُ، وإن كان ألفاً، فما دون فسُبْعَهُ، وإن كان خمسمِائة فما دُون فَخُمْسَهُ. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يتصدَّق بكلِّ ماله الذى تجبُ فيه الزكاةُ، وما لا تجب فيه الزكاة، ففيه روايتان: أحدهما: يُخرجه، والثانية: لا يلزمه منه شيئ.
وقال الشافعى: تلزمه الصدقةُ بماله كله، وقال مالك، والزُّهرى، وأحمد: يتصدَّقُ بثُلُثه، وقالت طائفة: يلزمه كفَّارة يمين فقط.
فصل
ومنها: عِظَم مقدارِ الصِّدق، وتعليقُ سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة مِن شرهما به، فما أنجى الله مَن أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك مَن أهلَكه إلا بالكذب، وقد أمر اللهُ سبحانه عِباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ َآمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهلَ الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهلَ الكذب والتكذيب،

وهو تقسيم حاصِر مطَّرد منعكِس. فالسعادةُ دائرة مع الصدق والتصديقِ، والشقاوةُ دائرة مع الكذب والتكذيب.
وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفعُ العبادَ يومَ القيامة إلا صدقهم، وجعل عَلَم المنَافقين الذى تميزوا به هو الكذبَ فى أقوالهم وأفعالهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه الكذبُ فى القول والفعل، فالصدق بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحِليته، ولباسُه، بل هو لبُّه وروحه. والكذب: بريدُ الكفر والنفاق، ودليلهُ، ومركبه، وسائقه، وقائدُه، وحليته، ولباسه، ولبُّه، فمضادة الكذبِ للإيمان كمضادة الشِّرك للتوحيد، فلا يجتمعُ الكذب والإيمان إلا ويطرُد أحدهما صاحبه، ويستقِرُّ موضعه، والله سبحانه أنجى الثلاثَةَ بصدقهم، وأهلكَ غيرَهم من المخلَّفين بكذبهم، فما أنعم اللهُ على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذى هو غِذاء الإسلام وحياتُه، ولا ابتلاه ببلية أعظمَ من الكذب الذى هو مرضُ الإسلام وفساده. والله المستعان.
وقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ. إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 117]، هذا من أَعظَم ما يُعَرِّفُ العبد قدرَ التوبة وفضلَها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنَّه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزواتِ بعد أن قَضَوْا نحبَهم، وبذلوا نفوسهم، وأموالهم، وديارهم لله، وكان غايةَ أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ توبةِ كعب خيرَ يوم مَرَّ عليه منذ ولدته أُمه، إلى ذلك اليوم، ولا يعرِفُ هذا حق معرفته إلا مَن عرف الله، وعرف حقوقَه عليه، وعرف ما ينبغى له من عُبوديته، وعرف نفسَه وصفاتِها وأفعالها، وأن الذى قام

به مِن العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه، كقَطْرة فى بحرٍ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة، فسُبحان مَن لا يسعُ عبادَه غيرُ عفوه ومغفرته، وتغمده لهم بمغفرته ورحمته، وليس إلا ذلك أو الهلاك، فإن وضع عليهم عدله، فعذَّب أهلَ سماواته وأرضه عذَّبهم، وهو غيرُ ظالم لهم، وإن رحمهم، فرحمتُه خير لهم من أعمالهم، ولا يُنجى أحداً منهم عملُه.
فصل
وتأمل تكريرَه سبحانه توبتَه عليهم مرتين فى أول الآية وآخِرها، فإنه تاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا، تاب عليهم ثانياً بقبولها منهم، وهو الذى وفقهم لِفعلها، وتفضَّل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه، وله وفى يديه، يعطيه مَن يشاءُ إحساناً وفضلاً، ويحرمه مَن يشاء حكمةً وعدلاً.
فصل
وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ}[التوبة: 118]، قد فسَّرها كعبٌ بالصواب، وهو أنهم خُلِّفُوا من بين مَن حلفَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واعتذر من المتخلفين، فخلَّف هؤلاء الثلاثة عنهم، وأرجأ أمرهم دونهم، وليس ذلك تخلُّفهم عن الغزو، لأنه لو أراد ذلك، لقال: تخلَّفوا، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ}[التوبة: 120]، وذلك لأنهم تخلَّفوا بأنفسهم بخلاف تخليفهم عَن أمر المتخلِّفين سواهم، فإن الله سبحانه هو الذى خلَّفهم

عنهم، ولم يتخلَّفوا عنه بأنفسهم.. والله أعلم.
فصل: فى حَجَّة أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه سنة تسع بعد مقدمه من تَبُوك
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منصرَفه مِن تَبُوك بقيةَ رمضانَ وشوَّالاً وذا القَعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنةَ تسع لِيقيم للمسلمين حَجَّهم، والناس من أهل الشِّرك على منازلهم من حَجِّهم، فخرج أبو بكر والمؤمنون.
قال ابن سعد: فخرج فى ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشرين بدنة، قلَّدها وأشعرها بيده، عليها ناجية بن جُندب الأسلمى، وساق أبو بكر خمس بدنات.
قال ابن إسحاق: فنزلت براءة فى نقضِ ما بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين مِن العهد الذى كانوا عليه، فخرج علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء.
قال ابن سعد: فلما كان بالعَرْج وابن عائذ يقول: بضَجَنان لحقه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه على العضباء، فلما رآه أبو بكر، قال: أميرٌ أو مأمورٌ؟ قال: لا بل مأمور، ثم مضيا.
وقال ابن سعد: فقال له أبو بكر: أستعملك رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثنى أقرأ براءة على الناس، وأَنبذ إلى كل ذى عَهدٍ

عهده، فأقام أبو بكر للناس حَجَّهم، حتى إذا كان يومُ النحر، قام علىُّ بن أبى طالب، فأذَّن فى الناس عند الجمرة بالذى أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونبذ إلى كل ذى عهد عهده، وقال: أَيها الناس؛ لا يدخُلُ الجنَّة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوفُ بالبيت عُريان، ومَن كان له عهد عِند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو إلى مُدَّته.
وقال الحميدى: حدَّثنا سفيان، قال: حدَّثنى أبو إسحاق الهَمْدَانى،عن زيد بن يُثَيْع، قال: سألنا علياً، بأى شئ بُعِثْتَ فى الحَجَّة؟ قال: بُعِثتُ بأربع: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلا نفسٌ مُؤمِنة، ولا يَطُوفُ بالبيت عُريان، ولا يجتمِعُ مُسلم وكافر فى المسجد الحرام بعد عامِه هذا، ومَنْ كان بينَه وبَيْن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد، فعهده إلى مُدَّته، ومَن لم يكن له عهد، فأجلُه إلى أربعةِ أشهرِ.
وفى "الصحيحين": عن أبى هُريرة، قال: بعثنى أبو بكر فى تلك الحَجَّة فى مُؤذِّنِينَ بعثهم يومَ النحر يؤذِّنون بمِنَى: أَلاَّ يَحُجَّ بعدَ هذا العامِ مُشرِك، ولا يَطُوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بَكر بعلىِّ بنِ أبى طالب رضى الله عنهما، فأمره أن يُؤذِّن ببراءة، قال: فأذَّن معنا علىُّ فى أهل مِنَى يَوْمَ النحرِ ببراءة، وأَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان.

وفى هذه القصة دليل على أن يومَ الحج الأكبر يومُ النحر، واختُلِف فى حَجَّة الصِّدِّيق هذه، هل هى التى أسقطت الفرضَ، أو المسقطة هى حَجَّة الوداع مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ على قولين. أصحهما الثانى، والقولان مبنيان على أصلين: أحدُهما: هل كان الحَجُّ فُرِضَ قَبْلَ عام حَجَّة الوداع أو لا؟ والثانى: هل كانت حَجَّةُ الصِّدِّيق رضى الله عنه فى ذى الحجة، أم وقعت فى ذى القَعدَة من أجل النسئ الذى كان الجاهليةُ يؤخِّرون له الأشهر ويُقدِّمونها؟ على قولين. والثانى: قولُ مجاهد وغيره. وعلى هذا، فلم يُؤخِّر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَجَّ بعد فرضه عاماً واحداً، بل بادر إلى الامتثال فى العام الذى فُرِض فيه، وهذا هو اللائق بهَدْيه وحاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسَ بِيدِ مَن ادَّعى تقدُّم فرض الحَجّ سنةَ ست أو سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع دليل واحد، وغايةُ ما احتج به مَن قال: فُرِضَ سنة ست قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ}[البقرة: 196]، وهى قد نزلت بالحُديبية سنة ست، وهذا ليس فيه ابتداءُ فرض الحَجّ، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شُرِعَ فيه، فأين هذا مِن وجوب ابتدائه، وآيةُ فرض الحَجّ وهى قوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ منِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97]، نزلت عامَ الوفود أواخرَ سنة تسع.

فصل: فى قدوم وفود العرب وغيرهم على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدِم عليه وفدُ ثقيف، وقد تقدَّم مع سياق غزوة الطائف. قال موسى بن عقبة: وأقام أبو بكر لِلناس حَجَّهم، وقدم عروةُ بن مسعود

الثقفىُّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرجع إلى قومه، فذكر نحوَ ما تقدم، وقال: فقدم وفدهم، وفيهم: كِنانة بن عبد ياليل، وهو رأسُهم يومئذ، وفيهم: عُثمان بنُ أبى العاص، وهو أصغرُ الوفد، فقال المغيرةُ ابن شُعْبة: يا رسولَ الله؛ أنزل قومى علىَّ فأكرمهم، فإنى حديثُ الجرح فيهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا أَمْنَعُكَ أَنْ تُكْرِمَ قَوْمَكَ، ولكِنْ أنْزِلْهُمْ حَيْثُ يَسْمَعُونَ القُرْآنَ" ، وكان من جُرح المغيرة فى قومه أنه كان أجيراً لثقيفٍ، وأنهم أقبلوا مِن مُضَرَ حتى إذا كانوا ببعض الطريق، عدا عليهم وهُمْ نيام، فقتلهم، ثم أقبل بأموالِهم حتى أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الإسْلاَمُ فَنَقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلاَ، فإنَّا لا نَغْدِرُ" ، وأبى أن يُخَمِّسَ ما معه، وأنزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدَ ثقيف فى المسجد، وبنى لهم خِياماً لكى يسمعوا القرآن، ويَروا الناسَ إذا صَلَّوْا، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب لا يذكرُ نفسه، فلما سمعه وفدُ ثقيف، قالوا: يأمُرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهدُ به فى خُطبته، فلما بلغه قولُهم، قال: "فإنى أول مَن شهد أنى رسولُ الله". وكانوا يغدُون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ يوم، ويخلِّفونَ عثمان بن أبى العاص على رحالهم، لأنه أصغرُهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مراراً حتى فَقُه فى الدين وعلم، وكان إذا وجدَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً، عَمَدَ إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحبه، فمكث الوفد يختلِفُون إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، فقال كِنانة بنُ عبدِ ياليل: هل أنتَ مقاضينا حتى نرجِعَ إلى قومنا؟ قال: "نعم، إن أنتم أقررتُم بالإسلام أُقاضيكم، وإلا فلا قضية، ولا صُلْحَ بينى وبينكم". قال: أفرأيت الزِّنَى، فإنَّا قوم نغترِبُ، ولا بد

لنا منه؟ قال: "هُوَ عَلَيْكُم حَرَامٌ فَإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {وَلا تَقْرَبُواْ الزِّنَى، إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}[الإسراء: 32]، قالوا: أفرأيتَ الرِّبا فإنه أموالُنا كلها؟ قال: "لَكُمْ رُؤوسُ أمْوالِكُم إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}[البقرة: 278] .قالوا: أفرأيتْ الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: "إنَّ الله قدْ حَرَّمَهَا، وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْاْ إنَّمَا الخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90] فارتفع القومُ، فخلا بعضُهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنَّا نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة، انطلِقُوا نُكاتبه على ما سألناه، فَأَتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: نعم لك ما سألتَ، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال: "اهدِمُوها". قالوا: هيهاتَ لو تعلمُ الرَّبَّةُ أنك تُريد هدمها، لقتلت أهلها، فقال عمر بن الخطاب: ويحكَ يا ابنَ عبد ياليل، ما أجهلَك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنَّا لم نأتك يا ابن الخطاب، وقالوا لِرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نحن، فإنَّا لا نهدِمُها أبداً. قال: "فسَأَبْعَثُ إلَيْكُم مَنْ يَكْفِيكُم هَدْمَها" فَكاتبوه، فقال كِنانة بنُ عبد ياليل: ائذن لنا قبلَ رسولِك، ثم ابعثْ فى آثارنا، فإنَّا أعلمُ بقومنا، فأَذِنَ لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكرمهم وحبَاهم، وقالوا: يا رسولَ الله؛ أمِّر علينا رجلاً يؤمنا مِن قومنا، فأمَّر عليهم عثمانَ بن أبى العاصِ لِما رأى مِن حرصه على الإسلام، وكان قد تعلَّم سوراً مِن القرآن قبل أن يخرج، فقال كِنانة بن عبد ياليل: أنا أعلمُ الناس بثقيف، فاكتموهُمُ القضية، وخوِّفُوهم بالحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً سألنا أُموراً أبيناها عليه، سألنا أن نَهْدِمَ اللاتَ والعُزَّى، وأن نُحَرِّمَ الخمرَ والزِّنَى، وأن نُبْطِلَ أموالنا فى الربا.
فخرجت ثقيفٌ حين دنا منهم الوفدُ يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العَنَق، وقطروا الإبل،

وتغشَّوا ثيابهم كهيئة القوم قد حزِنُوا وكربوا، وَلم يرجعوا بخير، فقال بعضُهم لبعض: ما جاء وفدُكم بخير، ولا رجعوا به، وترجَّل الوفد، وقصدُوا اللاتَ، ونزلوا عندها واللات وثن كان بين ظهرانى الطائف، يُستر ويُهدى له الهَدْى كما يُهدى لبيت اللهِ الحرام فقال ناسٌ من ثقيف حين نزل الوفدُ إليها: إنَّهم لا عهد لهم برؤيتها، ثم رجع كُلُّ رجل منهم إلى أهله، وجاء كُلاً منهم خَاصَّتُه مِن ثقيف، فسألوهم ماذا جئتُم به وماذا رجعتم به؟ قالوا: أتينا رجلاً فظاً غليظاً يأخُذ مِن أمره ما يشاءُ، قد ظهر بالسيفِ، وداخ له العرب، ودان له الناس، فعرض علينا أُموراً شداداً: هدَم اللات والعُزَّى، وتركَ الأموال فى الربا إلا رؤوس أموالكم، وحرَّم الخمر والزِّنَى، فقالت ثقيف: واللهِ لا نقبل هذا أبداً. فقال الوفدُ: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، وتعبَّؤوا له، ورُمُّوا حِصنكم، فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يُريدون القِتال، ثم ألقى الله عَزَّ وجَلَّ فى قلوبهم الرُّعبَ، وقالوا: واللهِ ما لنا به طاقة، وقد داخ له العرب كُلُّها، فارجعُوا إليه، فأعطُوه ما سأل، وصالِحُوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رغبوا، واختاروا الأمان على الخوف والحرب، قال الوفد: فإنَّا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس، وأوفاهم، وأرحمهم، وأصدقهم، وقد بُورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه، وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله، فقالت ثقيف: فلِم كتمتمُونا هذا الحديث، وغممتُمونَا أشدَّ الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزِعَ اللهُ مِن قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أياماً. ثم قدم عليهم رُسُلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أُمِّرَ عليهم خالدُ بن الوليد، وفيهم المغيرةُ بن شُعْبة، فلما قَدِمُوا، عَمَدُوا إلى اللات ليهدموها، واستكَفَّتْ ثقيف كُلُّها، الرِّجالُ والنساءُ والصبيانُ، حتى خرج العواتِق مِن الحِجال لا ترى عامةُ ثقيف أنها مهدومة يظنُّون أنها ممتنعة، فقام المغيرةُ بنُ

شُعْبة، فأخذ الكِرْزِين، وقال لأصحابه: واللهِ لأُضحكنَّكم من ثقيف، فضرب بالكِرْزِين، ثم سقط يركُض، فارتجَّ أهلُ الطائف بضجَّةٍ واحدة، وقالوا: أبعد اللهُ المغيرة، قتلته الرَّبَّة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا: مَن شاء منكم، فليقرب، وليجتهد على هدمها، فواللهِ لا تُستطاع، فوثب المغيرة بن شُعْبة، فقال: قبَّحكم الله يا معشر ثقيف، إنما هى لكَاع حِجَارة ومَدَر، فاقبلوا عافيةَ اللهِ واعبدوه، ثم ضرب البابَ فكسره، ثم علا سورَها، وعلا الرجالُ معه، فما زالوا يهدِمُونها حجراً حجراً حتى سوَّوْها بالأرض، وجعل صاحب المفتاح يقول: ليغضبن الأساس، فليخْسِفَنَّ بهم، فلما سمع ذلك المغيرة، قال لِخالد: دعنى أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا تُرابها، وانتزعوا حُليها ولباسها، فبُهِتَتْ ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرُّضَّاعُ، وتركوا المِصَاعَ.
وأقبل الوفدُ حتى دخلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحُليها وكِسوتها، فقسمه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يومه، وحمد الله على نُصرة نبيه وإعزاز دينه، وقد تقدَّم أنه أعطاه لأبى سفيان بن حرب، هذا لفظ موسى بن عقبة.
وزعم ابن إسحاق أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم من تبوك فى رمضان، وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.
وروينا فى "سنن أبى داود" عن جابر قال: اشترطَتْ ثقيفٌ عَلَى النَّبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا صَدَقَة عليها ولا جِهَادَ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذلِكَ : "سَيَتَصَدَّقون ويُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا".
وروينا فى "سنن أبى داود الطيالسى"، عن عثمان بن أبى العاص، أنَّ

النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يجعل مَسْجِدَ الطائِفِ حيث كانت طاغيتُهم.
وفى "المغازى" لمعتمِر بن سليمان قال: سمعتُ عبد الله بن عبد الرحمن الطائفى يُحدِّث عن عثمان بن عبد الله، عن عمه عمرو بن أَوْس، عن عثمان بن أبى العاص، قال: استعملنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصغرُ السِّتَّة الذين وفدُوا عليه من ثقيف، وذلك أنى كنتُ قرأتُ سورة البقرة، فقلت: يا رسولَ الله؛ إنَّ القرآن يتفلَّتُ مِنِّى، فوضع يدَه على صدرى وقال: "يا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثمان" فما نسيتُ شيئاً بعده أريد حفظه.
وفى "صحيح مسلم" عن عثمان بن أبى العاص، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ الشَيطَانَ قد حَالَ بينى وبَيْنَ صلاتى وقراءتى، قال: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقالُ لَهُ: خِنْزِبِ، فإذا أحْسَسْتهُ، فَتَعَوَّذْ باللهِ مِنْهُ، واتْفِلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً"، ففعلتُ، فأذهبَه اللهُ عنِّى.
فصل
وفى قصة هذا الوفد مِن الفقه، أنَّ الرجلَ من أهل الحرب إذا غَدَر بقومه، وأخذ أموالَهم، ثم قَدِم مسلماً، لم يتعرَّض له الإمامُ، ولا لما أخذه مِن المال، ولا يضمنُ ما أتلفه قبلَ مجيئه من نفس ولا مال، كما لم يتعرض النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخذه المغيرةُ من أموال الثقفيين، ولا ضَمِنَ ما أتلفه

عليهم، وقال: "أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال، فلست منه فى شىء".
ومنها: جوازُ إنزال المشرك فى المسجد، ولا سيما إذا كان يرجو إسلامه، وتمكينه من سماع القرآن، ومشاهدة أهل الإسلام، وعبادتهم.
ومنها: حسنُ سياسة الوفد، وتلطفهم حتى تمكنَّوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به فتصوَّروا لهم بصُورة المنكر لِما يكرهونه، الموافق لهم فيما يَهْوَوْنه حتى ركنوا إليهم، واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول فى دعوة الإسلام أذعنوا، فأعلمهم الوفدُ أنهم بذلك قد جاؤوهم، ولو فاجؤوهم به من أول وهلة لما أقرُّوا به، ولا أذعنوا، وهذا مِن أحسن الدعوة، وتمامِ التبليغ، ولا يتأتَّى إلا مع ألبَّاءِ الناس وعُقلائهم.
ومنها: أن المستحق لإمرة القوم وإمامتِهم أفضلُهم وأعلمُهم بكتاب الله، وأفقهُهم فى دينه.
ومنها: هدمُ مواضِع الشِّرك التى تُتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمُها أحبُّ إلى الله ورسوله، وأنفعُ للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حالُ المشاهد المبنية على القبور التى تُعبد مِن دون الله، ويُشْرَك بأربابها مع الله، لا يَحِلُّ إبقاؤها فى الإسلام، ويجب هدمُها، ولا يَصحُّ وقفُها، ولا الوقفُ عليها، وللإمام أن يقطِعَها وأوقافها لجند الإسلام، ويستعينَ بها على مصالح المسلمين، وكذلك ما فيها من الآلات، والمتاع، والنذور التى تُساق إليها، يُضاهىَ بها الهدايا التى تُساق إلى البيت الحرام، للإمام أخذُها كلها، وصرفها فى مصالح المسلمينَ، كما أخذ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال بيوت هذه الطواغيت، وصرفها فى مصالح الإسلام، وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، سواء من النذور لها، والتبركِ بها، والتمسح بها، وتقبيلها، واستلامها. هذا كان شِركَ القوم بها، ولم يكونوا يعتقِدون أنها خَلَقَتِ

السَّمواتِ والأرضَ، بل كان شِركُهم بها كشِرك أهلِ الشِّرك من أرباب المشاهِد بعينه.
ومنها: استحبابُ اتخاذِ المساجد مكانَ بيوت الطواغيت، فيُعبد اللهُ وحدَه، لا يُشْرَك به شيئاً فى الأمكنه التى كان يُشرَكُ به فيها، وهكذا الواجبُ فى مثل هذه المشاهد أن تُهدَمَ، وتُجعلَ مساجِدَ إن احتاج إليها المسلمون، وإلا أقطعها الإمامُ هى وأوقافُها للمقاتلة وغيرهم.
ومنها: أن العبدَ إذا تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، وتَفَلَ عن يساره، لم يضُرَّه ذلك، ولا يقطعُ صلاته، بل هذا مِن تمامها وكمالها.. والله أعلم.
فصل
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضَرَبَتْ إليه وفُود العرب مِن كل وجه، فدخلوا فى دين الله أفواجاً يضربِون إليه مِن كل وجه.
فصل
وقد تقدم ذكر وفد تميم ووفد طيئ.
ذكر وفد بنى عامر، ودعاء النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عامر بن الطُّفيل
وكفاية الله شره وشر أَرْبَد بن قيس بعد أن عصم منهما نبيه
روينا فى كتاب "الدلائل" للبيهقى، عن يزيد بن عبد الله أبى العلاء، قال: وَفَدَ أبى فى وَفْدِ بنى عامر إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: أنت سيدُنا، وذُو

الطَّوْل علينا فقال: "مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانَ، السَّيِّدُ الله".
روينا عن ابن إسحاق، قال: لما قدم على رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بنى عامر فيهم عامرُ بن الطُّفيل، وأرْبَدُ بن قيسٍ بن جزء بن خالد بن جعفر، وجَبَّارُ بن سُلْمَى ابن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء النَّفَر رؤساءَ القوم وشياطينهم، فقدم عدوُّ الله عامرُ بنُ الطُّفيل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُوَ يريد الغدرَ به، فقال له قومُه: يا عامر؛ إنَّ الناس قد أسلموا، فقال: واللهِ لقد كنتُ آليتُ ألا أنتهىَ حتَّى تتبع العرب عَقِبَى، وأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى مِن قريش، ثم قال لأرْبَد: إذا قَدِمنا على الرجل، فإنى شاغل عنك وجهه،

فإذا فعلتُ ذلك، فاعْلُهُ بالسِّيف، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عامر: يا محمد؛ خالِّنى. قال: "لا واللهِ حتى تُؤمِنَ بالله وحدّه". قال: يا محمد؛ خالِّنى. قال: "حتى تؤمنَ بالله وحده لا شريك له"، فلما أبى عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال له: أما واللهِ لأملأنها عليكَ خيلاً ورِجالاً. فلما ولَّى، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اكْفِنى عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْل"، فلما خرجوا مِن عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عامر لأرْبَد: ويحك يا أربد، أين ما كُنْتُ أمَرْتُك بِه؟ واللهِ ما كان على وجه الأرض أخوفُ عندى على نفسى منك، وايمُ اللهِ لا أخافُك بعد اليوم أبداً. قال: لا أبا لك، لا تَعْجَلْ علىَّ، فواللهِ ما هممتُ بالذى أمرتنى به، إلا دخلتَ بينى وبين الرجل، أفأضرِبُك بالسيف؟
ثم خرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطُّفيل الطاعونَ فى عنقه، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سَلول، ثم خرج أصحابُه حين رأوه حتى قَدِمُوا أرض بنى عامر، أتاهم قومُهم فقالوا: ما وراءك يا أربَد؟ فقال: لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددتُ أنه عندى فأرمِيَه بنبلى هذه حتى أقتُلَه، فخرج بعد مقالته بيوم أو بيومين معه جمل يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما، وكان أربد أخا لبيد بن ربيعة لأُمه، فبكى ورثاه.
وفى "صحيح البخارى" أنَّ عامِرَ بنَ الطُّفيل أتى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أُخيِّرُك بَيْنَ ثَلاثِ خِصال: يكونُ لك أهلُ السهلِ، ولى أهلُ المدر، أو

أكونُ خليفَتك من بعدك، أو أغزوك بغَطَفَان بألف أشقر، وألف شقراء، فطُعِنَ فى بيت امرأة فقال: أغُدَّة كَغُدَّةِ البَكْر فى بيت امرأة من بنى فلان؟ ائتونى بفرسى، فركِبَ، فمات على ظهر فرسه.
فصل: فى قدوم وفد عبد القيس [وما فى قصتهم من الفوائد]
فى "الصحيحين" مِن حديث ابنِ عباس: أنَّ وفدَ عبد القيس قَدِمُوا على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مِمَّنِ القَوْمُ"؟ فقالوا: مِن رَبيعة. فقال: "مَرْحَباً بِالوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى". فقالوا: يا رسول الله؛ إن بيننا وبينك هذا الحىَّ مِن كفار مُضَرَ، وإنَّا لا نِصِلُ إليك إلا فى شهرٍ حرام، فمُرنا بأَمْرٍ فَصْلٍ نأخذُ به ونأمر به مَن وراءنا، وندخُل به الجنَّة، فقال: "آمُرُكُم بأَرْبَعٍ، وأَنْهاكُم عَنْ أَرْبَع: آمُرُكُم بالإيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الإيمان بالله؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إلَه إلا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وإقَام الصَّلاةِ، وإيتَاء الزَّكَاةِ، وصَوْم رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعطُوا الخُمْسَ مِنَ المَغْنَم. وأَنْهَاكُمْ عَنْ أرْبَع: عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَم، والنَّقِير، والمُزَفَّتِ، فَاحْفَظُوهُنَّ وادْعُوا إلَيْهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُم". زاد مسلم: قالوا: يا رسول الله؛ ما عِلمُكَ بِالنَّقِير؟

قال: "بلى جِذع تَنقُرُونَهُ، ثمَّ تُلْقُونَ فيه مِن التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّونَ عَلَيْهِ المَاءَ حَتَّى يَغلِىَ، فإذَا سَكَنَ، شَرِبْتُمُوهُ، فعسى أحَدُكُم أَنْ يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بالسَّيفِ"، وفى القوم رجل به ضربة كذلك. قال: وكنت أخبؤها حَياءً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: ففيم نشرَبُ يا رسول الله؟ قال: "اشْرَبُوا فى أسْقِيَةِ الأدَمِ التى يُلاثُ عَلَى أفْوَاهِها". قالوا: يا رسولَ الله؛ إنَّ أرضَنَا كثيرةُ الجِرذان لا تبقى فيها أسقية الأَدَم، قال: "وإن أكلها الجِرْذَانُ" مرتين أو ثلاثاً، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأشج عبد القيس: "إنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُما الله: الحِلْمُ والأَنَاةُ".
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارود بن بشر بن المعلَّى وكان نصرانياً، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى وفد عبد القيس، فقال: يا رسولَ الله؛ إنى على دينٍ، وإنى تاركٌ دِينِى لِدينك، فتضمنُ لى بما فيه؟ قال: "نعم أَنا ضَامِنٌ لِذلِك، إنَّ الَّذى أدْعُوكَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِى كُنْتَ عَلَيْهِ"، فأسلمَ وأسلمَ أصحابه، ثم قال: يا رسولَ الله؛ احملنا. فقال: "واللهِ مَا عِندى مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ" فقال: يا رسولَ الله؛ إنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بلادِنا ضَوَالَّ من ضوالِّ الناس، أفنتبلغُ عليها؟ قال: "لا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ".

فصل
ففى هذه القصة: أن الإيمانَ باللهِ هو مجموعُ هذه الخصالِ مِن القول والعمل، كما على ذلك أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعون، وتابعوهم كُلُّهم، ذكره الشافعى فى "المبسوط"، وعلى ذلك ما يُقارب مائة دليل مِن الكتاب والسُّنَّة.
وفيها: أنه لم يَعُدَّ الحجَّ فى هَذِهِ الخصال، وكان قدومُهم فى سنة تِسع، وهذا أحدُ ما يُحتج به على أن الحَجَّ لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فُرِض فى العاشرة، ولو كان فُرِضَ لعدَّه من الإيمان، كما عدَّ الصوم والصلاة والزكاة.
وفيها: أنه لا يُكره أن يُقال: "رمضان" للشهر خلافاً لمن كره ذلك، وقال: لا يُقال إلا شهر رمضان.
وفى "الصحيحين ": "مَن صَامَ رمضان إيمَاناً واحْتِسَاباً، غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وفيها: وجوبُ أداءِ الخُمس من الغنيمة، وأنه من الإيمان.
وفيها: النهىُ عن الانتباذ فى هذه الأوعية، وهل تحريمُه باقٍ أو منسوخ؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد. والأكثرون على نسخه بحديث بُرَيدة الذى رواه مسلم وقال فيه: "وكُنْتُ نَهَيْتُكُم عَن الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِراً". ومَن قال: بأحكام أحاديث النهى،

وأنها غير منسوخة، قال: هى أحاديث تكادُ تبلغ التواتر فى تعددها وكثرة طُرقها، وحديثُ الإباحة فرد، فلا يبلُغْ مقاومتَها، وسر المسألة أن النَّهى عن الأوعية المذكورة من باب سدِّ الذرائع، إذ الشرابُ يُسرع إليه الإسكارُ فيها. وقيل: بل النهى عنها لصلابتها، وأن الشراب يُسكر فيها، ولا يُعلم به بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشرابَ متى غلا فيها وأسكر، انشقت، فيُعلم، بأنه مسكر، فعلى هذه العِلَّة يكون الانتباذ فى الحجارة، والصُّفر أولى بالتحريم، وعلى الأول لا يحرم، إذ لا يُسرِعُ الإسكار إليه فيها، كإسراعه فى الأربعة المذكورة، وعلى كلا العِلَّتين، فهو من باب سدِّ الذريعة، كالنهى أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشِّركِ، فلما استقر التوحيدُ فى نفوسهم، وقوىَ عندهم، أذِن فى زيارتِها، غير أن لا يقولوا هُجراً. وهكذا قد يقال فى الانتباذ فى هذه الأوعية إنه فطمهم عن المسكر وأوعيته، وسدَّ الذريعة إليه إذ كانوا حديثى عهد بشربه، فلما استقر تحريمُه عندهم، واطمأنت إليه نفوسُهم، أباح لهم الأوعية كُلَّها غير أن لا يشربوا مسكراً، فهذا فِقه المسألة وسِرُّها.
وفيها: مدح صفتى الحِلم والأناة، وأنَّ الله يحبهما، وضِدهما الطيشُ والعَجَلة، وهما خُلُقَانِ مذمومانِ مفسدان للأخلاق والأعمال.
وفيه دليل على أن اللهَ يُحِبُّ من عبده ما جبله عليه من خصال الخير، كالذكاء، والشجاعة، والحِلم.
وفيه دليل على أن الخُلُقَ قد يحصل بالتخلُّق والتكلف، لقوله فى هذا الحديث: "خُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا، أَوْ جَبَلَنى الله عَلَيْهِما"؟، فقال: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"

وفيه دليل على أنه سُبحانه خالقُ أفعالِ العباد وأخلاقِهِم، كما هو خالقُ ذَوَاتِهِم وصفاتِهِم، فالعبدُ كُلُّه مخلوق ذاتُه وصفاتُه وأفعالُه، ومَن أخرج أفعالَه عن خلق الله، فقد جعل فيه خالقاً مع الله، ولهذا شبَّه السَّلَفُ القَدَرِيَّة النفاة بالمجوس، وقالوا: هم مجوسُ هذه الأُمَّة، صحَّ ذلك عن ابن عباس.
وفيه إثباتُ الجَبْلِ لا الجَبْرِ للهِ تعالى، وأنه يَجْبِل عبده على ما يريد، كما جبل الأشجَّ على الحِلم والأناة، وهما فِعلان ناشئان عن خُلُقين فى النفس، فهو سبحانه الذىِ جبل العبدَ على أخلاقه وأفعاله، ولهذا قال الأوزاعى وغيرُه من أئمة السَّلَف: نقول: إن الله جبلَ العبادَ على أعمالهم، ولا نقول: جَبَرَهم عليها. وهذا من كمال علم الأئمة، ودقيقِ نظرهم، فإن الجبر أن يُحْمَل العبد على خلاف مراده، كجبر البِكْر الصغيرة على النكاح، وجبر الحاكم مَن عليه الحق على أدائه، والله سبحانه أقدرُ من أن يجبر عبده بهذا المعنى، ولكنه يجبُلُه على أن يفعل ما يشاء الرب بإرادة عبده واختياره ومشيئته، فهذا لون، والجبر لون.
وفيها: أنَّ الرجلَ لا يجوزُ له أن ينتفع بالضالة التى لا يجوز التقاطُها، كالإبل، فإنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجَوِّزْ للجارود ركوب الإبل الضالة، وقال: "ضالَّةُ المُسلْمِ حَرَقُ النَّارِ" ، وذلك لأنه إنما أُمِرَ بتركها، وأن لا يلتقطها حفظاً على ربِّها حتى يَجِدَها إذا طلبها، فلو جوَّز له ركوبَها والانتفاعَ بها، لأفضى إلى أن لا يقدر عليها ربُّها، وأيضاً تطمع فيها النفوس، وتتملكها، فمنع الشارع من ذلك.

فصل: فى قدوم وفد بنى حنيفة
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بنى حنيفة، فيهم مُسَيْلِمةُ الكذَّاب، وكان منزلُهم فى دار امرأة من الأنصار من بنى النجَّار، فأتوا بمُسَيْلِمَةَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَرُ بالثياب، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس مع أصحابه، فى يده عَسِيبٌ من سَعَفِ النخل، فلما انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ سَأَلتنى هذا العَسِيبَ الَّذِى فى يدى مَا أَعْطَيْتُك".
قال ابن إسحاق: فقال لى شيخ من أهلِ اليمامة من بنى حنيفة: إنَّ حديثه كان على غير هذا، زعم أن وفد بنى حنيفة أتَوْا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخلَّفُوا مُسَيْلِمَةَ فى رحالهم، فلما أسلموا، ذكروا له مكانه، فقالُوا: يا رسول الله؛ إنَّا قد خلَّفنا صاحباً لنا فى رحالنا وركابنا يحفظُها لنا، فأمر له رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أمر به للقوم، وقال: "أما إنه ليس بِشَرِّكُم مكاناً"، يعنى حِفظَه ضَيْعَة أصحابِه، وذلك الذى يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم انصرفُوا وجاؤوه بالذى أعطاه، فلما قدموا اليمامه، ارتدَّ عدوُّ اللهِ وتنبَّأ، وقال: إنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معه، ألم يَقُلْ لكم حين ذكرتمونى له: "أما إنه ليس بشرِّكم مكاناً"؟، وما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أُشركت فى الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم اللهُ على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صِفَاقٍ وَحَشا. ووضع عنهم الصلاةَ، وأحلَّ لهم الخمر والزِّنَى، وهو مع ذلك

يشهد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبىّ، فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق: وقد كان كتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِن مُسَيْلِمَة رسول الله إلى محمَّد رسولِ الله، أما بعد: فإنى أُشْرِكْتُ فى الأمر معك، وإن لنا نِصفَ الأمر، ولقريشٍ نصفَ الأمر، وليس قريش قوماً يَعْدِلُون. فقدِم عليه رسولُه بهذا الكتاب، فكتب إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسم الله الرحمن الرحيم: مِنْ محمَّدٍ رسولِ الله، إلى مُسَيْلِمَة الكذَّاب، سلامٌ على مَن اتَّبع الهُدى. أما بعد: فإن الأرض للهِ يُورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"، وكان ذلك فى آخر سنة عشر.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى سعدُ بنُ طارق، عن سلمة بن نُعيم بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين جاءه رَسُولا مُسَيْلِمَة الكذَّاب بكتابه يقولُ لهما: "وأَنْتُمَا تَقُولاَنِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ"؟ قالا: نعم. فقال: "أمَا واللهِ لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ، لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُما".
وروينا فى "مسند أبى داود الطيالسى" عن أبى وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابنُ النَّوَّاحة وابنُ أُثَال رسَولين لمُسَيْلِمَة الكذَّاب إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تشهدَانِ أِّنِّى رَسُول الله"؟ فقالا: نشهد أن مُسَيْلِمَةَ رسولُ الله. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آمَنْتُ بِاللهِ ورَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاَ لَقَتَلْتُكُما". قال عبد الله: فمضت السُّنَّة بأن الرُّسُل لا تُقتل.

وفى "صحيح البخارى" عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال: لما بُعِثَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا: جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها.
قلت: وفى "الصحيحين" من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ، فجعل يقولُ: إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها فى بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطعةُ جريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة فى أصحابه، فقال: "إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الَّذِى أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى" ثم انصرف. قال ابنُ عباس: فسألتُ عن قول النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّك الَّذِى أُريتُ فيه ما أُريتُ" فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فى يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ فى المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ". وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم.
وفى "الصحيحين" مِن حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ فى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ".
فصل: فى فقه هذه القصة
فيها: جوازُ مكاتبةِ الإمام لأهل الرِّدَّة إذا كان لهم شَوْكة، ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار: سلامٌ على مَن اتبَّع الهُدَى.
ومنها: أنَّ الرسول لا يُقتل ولو كان مرتداً، هذه السُّنَّة.
ومنها: أنَّ للإمام أن يأتىَ بنفسه إلى مَن قدم يُريد لقاءه من الكفار.
ومنها: أنَّ الإمام ينبغى له أن يستعينَ برجل من أهل العلم يُجيب عنه أهلَ الاعتراض والعِناد.
ومنها: توكيلُ العالِم لبعض أصحابِه أن يتكلَّم عنه، ويُجيب عنه.
ومنها: أنَّ هذا الحديثَ من أكبرِ فضائلِ الصِّدِّيق، فإنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفخ السِّوارين بروحه فطارا، وكان الصِّدِّيق هو ذلك الرُّوح الذى نفخ مُسَيْلِمَة وأطاره.
قال الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا

ومن هاهنا دلَّ لباس الحلى للرجل على نكَدٍ يلحقه وهمٍّ يناله، وأنبأنى أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نِعمة بن سرور المقدسى المعروف بالشهاب العابِر. قال: قال لى رجل: رأيتُ فِى رجلى خِلخالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم، وكان كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ كأن فى أنفى حلقةَ ذهبٍ، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد، فجرى كذلك.
وقال آخر: رأيتُ كُلاباً معلقاً فى شفتى، قلت: يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد فى شفتك، فجرى كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى سِواراً والناس يُبصرونه، فقلتُ له: سوء يُبصره الناس فى يدك، فعن قليل طلع فى يده طلوع.
ورأى ذلك آخر لم يكن يُبصره الناس، فقلت له: تتزوجُ امرأةً حسنة، وتكون رقيقة.
قلتُ: عبَّر له السِّوار بالمرأة لما أخفاه، وستره عن الناس، ووصفها بالحُسن لحُسن منظر الذهب وبهجته، وبالرِّقة لشكل السوار.
والحلية للرجل تنصرف على وجوه. فربما دلَّت على تزويج العُزَّاب لكونها من آلات التزويج، وربما دلَّت على الإماء والسرارى، وعلى الغناء، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائى وما يليق به.

قال أبو العباس العابر: وقال لى رجل: رأيتُ كأنَّ فى يدى سواراً منفوخاً لا يراه الناس، فقلت له: عندك امرأة بها مرضُ الاستسقاء، فتأمل كيف عبَّر له السِّوار بالمرأة، ثم حكم عليها بالمرض لصُفرة السِّوار، وأنه مرض الاستسقاء الذى ينتفخ معه البطن.
قال: وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى خلخالاً وقد أمسكه آخر، وأنا ممسك له، وأصيحُ عليه وأقول: اترك خلخالى، فتركه، فقلتُ له: فكان الخلخالُ فى يدك أملس؟ فقال: بل كان خشناً تألمتُ منه مرةً بعد مرةً، وفيه شراريف، فقلت له: أُمك وخالُك شريفان، ولستَ بشريف، واسمُك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس ردىء يتكلم فى عِرضك، ويأخذ مما فى يدك، قال: نعم، قلت: ثم إنه يقع فى يد ظالم متعد، ويحتمى بك، فتشدُّ منه، وتقولُ: خلِّ خالى، فجرى ذلك عن قليل.
قلت: تأمل أَخْذَه الخال من لفظ "الخلخال"، ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه، خلِّ خالى، وأخذ شرفه من شراريف الخلخال، ودلَّ على شرف أُمه، إذ هى شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف، إذ شرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقاً هى فى أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسانَ خاله لسان ردىء يتكلم فى عِرضه بالألم الذى حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة، فهى خشونةُ لسان خاله فى حقه، واستدل على أخذ خاله ما فى يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه فى النوم بخشونته، واستدلَّ بإمساك الأجنبى للخلخال، ومجاذبة الرائى عليه على وقوع الخال فى يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدلَّ بصياحه على المجاذب له، وقوله: خلِّ خالى على أنه يعين خاله على ظالمه، ويشدٍّ منه، واستدل على قهره لذلك المجاذِب له، وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حالَ شيخنا هذا، ورسوخه فى علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لى

قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى.
فصل: فى قدوم وفد طيئ على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وقدم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد طيئ، وفيهم زيدُ الخيل، وهو سيِّدُهم، فلما انتَهَوْا إليه، كلَّمهم، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ذُكِرَ لى رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ بِفَضْلٍٍ ثُمَّ جَاءَنى إلاَّ رَأَيْتُه دُونَ ما يُقالُ فيه إلاَّ زَيْدَ الخَيْلِ: فَإنَّه لَمْ يَبْلُغ كُلَّ ما فِيهِ"، ثم سمَّاه: زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً إلى قومه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى المَدِينَةِ" فإنَّهُ قال: وقد سمَّاها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم غير الحُمَّى وغير أُمِّ مَلْدَم، فلم يُثبته، فلما انتهى إلى ماء مِن مياه نجد يقال له: فَرْدَة، أصابته الحُمَّى بها، فمات، فلما أحس بالموت أنشد:
أمُرْتَحِلٌ قَوْمِى المَشَارِقَ غَدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فى بيْتٍ بفَرْدَةَ مُنجِد
ألا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنى
... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَدِ
قال ابن عبد البر: وقيل: مات فى آخر خلافة عمر رضى الله عنه، وله

ابنان: مُكْنِف، وحُريث، أسلما، وصحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدا قِتال أهل الرِّدَّة مع خالدِ بن الوليد.
فصل: فى قدوم وفد كِندة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: حدثنى الزُّهْرى، قال: قدم الأشعثُ بنُ قيس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثمانين أو ستين راكباً من كِندة، فدخلُوا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجده قد رَجَّلُوا جُمَمَهم، وتسلَّحوا، ولبسوا جِبَابَ الحِبَرَاتِ مكفَّفة بالحرير، فلما دخلوا، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوَلَمْ تُسْلِموا"؟ قالوا: بلى. قال: "فَما بالُ هذا الحَرير فى أعْنَاقِكُم"؟. فشقُّوهُ، ونزعوه، وألقَوْه، ثم قال الأشعث: يا رسول الله؛ نحنُ بنو آكلِ المُرار، وأنت ابنُ آكلِ المُرار، فضحك رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "ناسِبُوا بهذا النَّسَبِ رَبِيعَةَ بن الحارث، والعَبَّاس بن عَبْد المُطَّلب".
قال الزُّهْرى وابن إسحاق: كانا تاجرين، وكانا إذا سارا فى أرض العرب، فسُئِلا مَن أنتُما؟ قالا: نحن بنو آكِلِ المُرار، يتعزَّزون بذلك فى العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل المُرار من كِندة كانوا ملوكاً. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنَانَة لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا ننْتَفِى مِنْ أبِينَا".
وفى "المسند" من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم ابن هيضم، عن الأشعث بن قيس، قال: قدمنا على رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ كِندة، ولا يَرون إلا أنى أفضلُهم، قلتُ: يا رسول الله؛ ألستُم منا؟ قال: "لا، نَحْنُ بَنُو النَّضْر بن كِنَانَة، لا نَقْفُو أُمَّنا ولا نَنْتَفى مِنْ أبينا"، وكان الأشعث يقول: لا أُوتى برجل نفى رجلاً مِن قريش من النَّضْر بن كِنانة إلا جلدتُه الحد.
وفى هذا من الفقه، أنَّ مَن كان مِن ولد النَّضْر بن كِنانة، فهو من قريش.
وفيه: جوازُ إتلاف المالِ المحرَّم استعمالُه، كثياب الحرير على الرجال، وأنَّ ذلك ليس بإضاعة.
والمُرار: هو شجر من شجر البوادى، وآكل المُرار: هو الحارث بن عَمْرو ابن حِجر بن عَمْرو بن معاوية بن كندة، وللنبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدة مِن كندة مذكورة، وهى أُم كِلاب بن مُرَّة، وإياها أراد الأشعث.
وفيه: أنَّ مَن انتسب إلى غير أبيه، فقد انتفى من أبيه، وقفى أُمه، أى: رماها بالفجور.
وفيها: أنَّ كِندة ليسوا من ولد النَّضْر بن كِنانة.
وفيه: أنَّ مَن أخرج رجلاً عن نسبه المعروف، جُلِدَ حَدَّ القذف.
فصل: فى قدوم وفد الأشعريين وأهل اليمن
روى يزيد بن هارون، عن حُمَيد، عن أنس، أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

"يَقْدَمُ قَوْمٌ هم أرَقُّ منكم قُلُوباً"، فقدِم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون:
غَداً نَلْقَى الأَحِبَّة ... مُحَمَّداً وحِزْبَه
وفى "صحيح مسلم" عن أبى هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "جَاء أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أَفْئِدَةً وأَضْعَفُ قلوباً، والإيمانُ يَمانٍ، والحِكْمَة يَمَانِيةٌ، والسَّكِينةُ فى أهْل الغَنَم، الفَخْرُ والخُيَلاءُ فى الفَدَّادِين مِنْ أهْلِ الوَبَر قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ".
وروينا عن يزيد بن هارون، أنبأنا ابنُ أبى ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد ابن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: كنا مَع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفر، فقال: "أتَاكُم أهْلُ اليَمَنِ كَأَنَّهُم السَّحَابُ، هُمْ خِيَارُ مَنْ فى الأرْضِ"، فقال رجلٌ من الأنصار: إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكت، ثم قال: إلا نحنُ يا رسولَ الله، فسكتَ، ثم قال: "إلاَّ أنْتُم" كَلِمَةً ضَعِيفَةً.
وفى "صحيح البخارى": أنَّ نَفَراً من بنى تميم، جاؤوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أَبْشِرُوا يا بنى تَمِيم"، فقالوا: بَشَّرْتَنَا فأَعطنا، فتغيَّر وجهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء نَفَرٌ من أهل اليمن، فقال: "اقْبَلُوا البُشْرى إذْ لَمْ يَقْبَلهَا بَنُو تَمِيم"، قالوا: قد قَبِلْنَا، ثم قالُوا: يا رسول الله؛ جئنا لنتفقه فى الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كَانَ اللهُ، ولَمْ يَكُنْ

شَىْءٌ غَيْره، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ، وكَتَبَ فى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْء".
فصل: فى قدوم وفد الأزدِ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرَدُ بنُ عبد الله الأزْدى، فأسلم وحَسُن إسلامُه فى وفد من الأَزْد، فأمَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَن أسلم مِن قومه، وأمره أن يُجاهد بمن أسلم مَن كان يليه مِن أهل الشِّركِ من قبائل اليمن، فخرج صُرَدُ يسيرُ بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل بِجُرَشَ، وهى يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائلُ من قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خَثْعَمُ، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، فحاصرُوهم فيها قريباً من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلاً، حتى إذا كان فى جبل لهم يقال له: "شَكَرَ"، ظن أهلُ جُرَشَ أنه إنما ولَّى عنهم منهزماً، فخرجُوا فى طلبه حتى إذا أدركوه، عطف عليهم، فقاتلهم، فقتلهم قتلاً شديداً، وقد

كان أهلُ جُرَشَ بعثُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين منهم يرتادان وينظُران، فبينا هما عند رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشيةً بعدَ العصر، إذ قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بأىِّ بلاد اللهِ شكَر"؟ فقام الجُرشيانِ، فقالا: يا رسول الله؛ ببلادنا جبل يُقال له: "كشر"، وكذلك تُسميه أهلُ جُرش، فقال: "إنَّهُ لَيْسَ بِكَشَر، ولكِنَّهُ شكر"، قالا: فما شأنُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: فقال: "إنَّ بُدْنَ اللهِ لتُنْحَرُ عِنْدَهُ الآن"، قال: فجلس الرجلانِ إلى أبى بكر، وإلى عثمان، فقالا لهما: ويحكما، إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليَنعَى لكُما قومَكما، فقوما إليه، فاسألاه أن يدعوَ الله أن يرفَع عن قومكما، فقاما إليه، فسألاه ذلك، فقال: "اللُّهُمَّ ارْفَعْ عَنْهُمْ"، فخرجَا مِن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعين إلى قومهما، فوجدا قومَهما أُصيبُوا فى اليومِ الذى قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال، وفى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر، فخرج وفدُ جُرش حتى قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلموا، وحمى لهم حِمى حول قريتهم.
فصل: فى قدوم وفد بنى الحارث بن كعب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: ثم بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدَ بنَ الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جُمَادَى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلهم ثلاثاً، فإن استجابُوا، فاقبلْ منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتِلْهم، فخرج خالدٌ حتى قَدِمَ عليهم، فبعث الرُّكبان يضرِبُون فى كُلِّ وجه، ويدعُون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناسُ؛

أسلموا لِتسلموا، فأسلم الناسُ، ودخلُوا فيما دَعَوْا إليه، فأقام فيهم خالدٌ يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فكتب له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقْبِلَ ويُقْبِلَ معه وفدهم، فأقبل وأقبل معه وفدُهم، فيهم: قيسُ بنُ الحصين ذى الغَصَّة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله ابن قُراد، وشَدَّاد بن عبد الله، وقال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فى الجَاهِلِيَّة"؟ قالوا: لم نكن نغلِبُ أحداً. قال: "بلى". قالوا: كنا نجتمِعُ ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم. قال: "صدقتم"، وأمَّر عليهم قيسَ بن الحُصين، فرجعوا إلى قومهم فى بقيةٍ من شوَّال، أو من ذى القَعدة، فلم يمكثُوا إلا أربعة أشهر حتى توفى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فصل: فى قدوم وفد هَمْدَانَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقدم عليه وفدُ هَمْدَانَ، منهم: مَالك بن النَّمَط، ومالك بن أيفع، وضِمام بن مالك، وعَمْرو بن مالك، فلقُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجِعَه مِن تَبُوك، وعليهم مُقَطَّعَاتُ الْحِبَرَاتِ والعمائم العَدَنية على الرواحل المَهْرِية والأَرْحَبِيَّة، ومالك بن النَّمط يرتجزُ بين يدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول:
إلَيْكَ جَاوَزْنَ سَوَادَ الرِّيفِ فى هَبَوَاتِ الصَّيْفِ والخَرِيفِ
مُخَطَّمَاتٍ بِحِبَالِ اللِّيفِ
وذكروا له كلاماً حسناً فصيحاً، فكتب لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً أقطعهم فيه ما سألوه، وأمَّر عليهم مالك بن النَّمط، واستعمله على مَن أسلم من قومه، وأمره بقتال ثَقيف، وكان لا يخرُج لهم سرحٌ إلا أغارُوا عليه.
وقد روى البيهقى بإسناد صحيح، من حديث أبى إسحاق، عن البراء،

أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالدَ بن الوليد إلى أهلِ اليمن يدعُوهم إلى الإسلام، قال البراء: فكنتُ فيمن خرجَ مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستةَ أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يُجيبوه، ثم إنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث علىَّ بنَ أبى طالب رضى الله عنه، فأمره أن يُقْفِلَ خالداً إلا رجلاً ممن كان مع خالد أحبَّ أن يُعقِبَ مع علىّ رضى الله عنه، فليُعقب معه، قال البَراء: فكنتُ فيمن عقب مع علىّ، فلما دنونا مِن القوم، خرجوا إلينا، فصلَّى بنا علىُّ رضى الله عنه، ثم صفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدَّم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلمت هَمْدَانُ جميعاً، فكتب علىٌ رضى الله عنه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامهم، فلما قرأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكتاب، خَرَّ ساجِداً، ثم رفع رأسه فقال: "السَّلاَمُ عَلى هَمْدَانَ، السَّلامُ عَلى هَمْدَانَ" ، وأصل الحديث فى صحيح البخارى.
وهذا أصحُّ مما تقدَّم، ولم تكن هَمْدَانُ أن تُقاتل ثقيفاً، ولا تُغير على سرحهم، فإن هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف.

فصل: فى قدوم وفد مُزينة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روينا من طريق البيهقى، عن النُّعمان بن مُقَرِّن، قال: قَدِمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعمائة رجل من مُزينة، فلما أردنا أن ننصرف، قال: "يا عُمَرُ؛ زَوِّدِ القَوْمَ" فقال: ما عندى إلا شئٌ من تمر، ما أظنُّه يقعُ من القوم موقعاً، قال: "انطلِق فَزَوِّدْهُم" قال: فانطلق بهم عمر، فأدخلهم منزله، ثم أصعدهم إلى عُلَّيَّة، فلما دخلنا، إذا فيها مِن التمر مِثْلُ الجَمَلِ الأوْرَق، فأخذ القومُ منه حاجَتَهم، قال النُّعمان: فكنت فى آخر مَن خرج، فنظرتُ فما أفقد موضع تمرة مِن مكانها.
فصل: فى قدوم وفد دَوْس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك بخيبر
قال ابن إسحاق: كان الطُّفيل بن عَمْرو الدُّوسى يُحدِّث أنه قَدِمَ مكة، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطُّفَيلُ رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، قالوا له: إنك قَدِمْتَ بلادنا، وإنَّ هذا الرجلَ وهو الذى بين أظهرنا فَرَّقَ جماعتنا، وشتَّتَ أمرنا، وإنما قوله كالسِّحر يُفَرِّقُ بين المرءِ وابنه، وبينَ المرءِ وأخيه، وبين المرءِ وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حلَّ علينا، فلا تُكَلِّمه، ولا تَسْمَعْ منه، قال:

فواللهِ ما زالُوا بى حتى أجمعتُ أن لا أسمعَ منه شيئاً، ولا أُكَلِّمَه حتى حشوتُ فى أذنىَّ حين غدوتَ إلى المسجد كُرسُفاً فَرَقاً من أن يَبْلُغَنى شىْءٌ من قوله. قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمٌ يُصلِّى عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه، فأبى اللهُ إلا أن يُسمِعَنى بعضَ قوله، فسمعتُ كلاماً حسناً، فقلتُ فى نفسى: واثكل أُمِّياه، واللهِ إنى لرجل لبيب شاعر، ما يَخفى علىَّ الحَسنُ من القبيح، فما يمنعُنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان ما يقولُ حسناً، قبلتُ، وإن كان قبيحاً، تركتُ، قال: فمكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته، فتبعتُه
حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ: يا محمد؛ إن قومَك قد قالُوا لى كذا وكذا، فَواللهِ ما بَرِحُوا يُخوفونى أمرَك حتى سددتُ أُذنى بِكرْسُفٍ لئلا أسمعَ قولَك، ثم أبى الله إلا أن يُسمِعَنيه، فسمعتُ قولاً حسناً، فاعرض علىَّ أمرك، فعرض علىَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلامَ، وتلا علىَّ القرآن، فلا واللهِ ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه، ولا أمراً أعدلَ منه، فأسلمتُ، وشهدتُ شهادةَ الحق، وقلتُ: يا نبى الله؛ إنى امرؤ مُطاع فى قومى، وإنى راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادعُ الله لى أن يجعل لى آية تكون عَوْناً لى عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً" قال: فخرجتُ إلى قومى حتَّى إذا كنتُ بثنية تُطلعنى على الحاضر، وقع نورٌ بين عَيْنَىَّ مثلَ المصباح، قلتُ: اللهُمَّ فى غير وجهى إنى أخشى أن يظنوا أنها مُثلة وقعت فى وجهى لِفراقى دينهم، قال: فتحوَّل، فوقع فى رأس سَوطى كالقنديل المعلَّق، وأنا أنهبطُ إليهم من الثَّنِيَّة حتى جئتُهم، وأصبحتُ فيهم، فلما نزلتُ، أتانى أبى، وكان شيخاً كبيراً، فقلتُ: إليك عنى يا أبتِ، فلستَ منى ولستُ منك، قال: لِمَ يا بُنَىّ؟ قلتُ: قد أسلمتُ، وتابعتُ دينَ محمد. قال: يا بُنَىّ فدينى دينُك. قال: فقلت: اذهب فاغتسِلْ، وطهِّرْ ثيابَك، ثم تَعالَ حتى أُعلِّمك ما

عَلِمْتُ. قال: فذهب فاغتسل، وطهَّرْ ثيابه، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحِبتى، فقلتُ لها: إليكِ عنِّى، فلستُ منكِ ولستِ منى. قالت: لِمَ بأبى أنت وأُمى؟، قلتُ: فرَّق الإسلامُ بينى وبينَكِ، أسلمتُ وتابعتُ دين محمد. قالت: فدينى دينُك، قال: قلتُ: فاذهبى فاغتسلى، ففعلت، ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوتُ دَوْساً إلى الإسلام فأبطؤوا علىّ، فجئتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلتُ: يا رسول الله؛ إنه قد غلبنى على دَوْس الزِّنَى، فادعُ الله عليهم، فقال: " اللهُمَّ اهْدِ دَوْساً" ، ثم قال: "ارجع إلى قومِك فادعُهم إلى الله، وارفُق بهم" فرجعتُ إليهم، فلم أزل بأرض دَوْس أدعوهم إلى الله، ثم قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَر، فنزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً مِن دَوْس، ثم لحقنا برسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخَيْبَر، فأسهم لنا مع المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلما قُبِضَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدَّت العربُ، خرج الطُّفَيلُ مع المسلمين حتى فرغوا مِن طُليحة، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامَةِ، ومعه ابنه عَمْرو بن الطُّفَيْل، فقال لأصحابه: إنى قد رأيتُ رؤيا فاعبُروها لى؛ رأيتُ أنَّ رأسى قد حُلِقَ، وأنه قد خرج مِن فمى طائر، وأن امرأة لقيتنى، فأدخلتنى فى فَرْجها، ورأيتُ أنَّ ابنى يطلبُنى طلباً حثيثاً، ثم رأيتُه حُبِسَ عنى، قالوا: خيراً رأيت. قال: أما واللهِ إنى قد أوَّلتُها. قالوا: وما أوَّلتَها؟ قال: أما حلق رأسى، فوضعُه، وأما الطائر الذى خرج من فمى، فروحى، وأما المرأة التى أدخلتنى فى فَرْجها، فالأرض تُحفر، فأغيب فيها، وأما طلب ابنى إياى وحبسُه عنى، فإنى أراه سيجاهد، لأن يصيبه من الشهادة ما أصابنى. فقُتِل الطُّفَيْل شهيداً باليمامة، وجُرِح ابنه عَمْرو جرحاً شديداً، ثم قُتِل عام اليرموك شهيداً فى زمن عمر رضى الله عنه.

فصل: في فقه هذه القصة
فيها: أنَّ عادة المسلمين كانت غُسْلَ الإسلامِ قبل دخولهم فيه، وقد صح أمرُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وأصح الأقوال: وجوبُه على مَن أجنب فى حال كفره ومَن لم يُجنب.
وفيها: أنَّه لا ينبغى للعاقل أن يُقَلِّد الناسَ فى المدح والذم، ولا سيما تقليدَ مَن يَمدح بهوى ويذُمُّ بهوى، فكم حَالَ هذا التقليدُ بينَ القُلُوب وبين الهُدى، ولم ينجُ منه إلا مَن سبقت له مِن الله الحُسْنَى.
ومنها: أنَّ المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم.
ومنها: وقوعُ كرامات الأولياء، وأنها إنما تكون لحاجة فى الدِّين، أو لمنفعةٍ للإسلام والمسلمين، فهذه هى الأحوال الرحمانية، سببُها متابعة الرسول، ونتيجتُها إظهارُ الحق، وكسرُ الباطل، والأحوال الشيطانية ضِدُّها سبَباً ونتيجة.
ومنها: التأنى والصبرُ فى الدعوة إلى الله، وأن لا يُعجل بالعقوبةِ والدعاء على العصاة، وأما تعبيرُه حلق رأسه بوضعه، فهذا لأن حلق الرأس وضعُ شعره على الأرض، وهو لا يدُلُّ بمجرده على وضع رأسه، فإنه دال على خلاص من هم، أو مرض، أو شدة لمن يليقُ به ذلك، وعلى فقر ونَكَدٍ، وزوالِ رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك، ولكن فى منام الطُّفَيْل قرائن

اقتضت أنَّه وضْعُ رأسه، منها أنه كان فى الجهاد، ومقاتلة العدو ذى الشَوْكة والبأس.
ومنها: أنَّه دخل فى بطن المرأة التى رآها، وهى الأرض التى هى بمنزلة أُمه، ورأى أنَّه قد دخل فى الموضع الذى خرج منه، وهذا هو إعادته إلى الأرض، كما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ}[طه: 55] ، فأوَّلَ المرأة بالأرض إذ كلاهما محلُ الوطء، وأوَّلَ دخولَه فى فَرْجها بعودِه إليها كما خُلِقَ منها، وأوَّلَ الطائر الذى خرج مِن فِيه بروحه، فإنها كالطائر المحبوس فى البدن، فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذى فارق حبسه، فذهب حيثُ شاء، ولهذا أخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّ نَسْمَةَ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فى شَجَرِ الجَنَّة" ، وهذا هو الطائرُ الذى رُؤى داخلاً فى قبر ابن عباس لما دُفِنَ، وسُمِعَ قارئ يقرأ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً}[الحجر: 27]. وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحُسْنِه وقُبحهِ، تكونُ الروح، ولهذا كانت أرواحُ آلِ فرعون فى صورة طيور سود تَرِدُ النارَ بكرة وعشيةً، وأوَّلَ طلبَ ابنه له باجتهاده فى أن يلحق به فى الشهادة، وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك.. والله أعلم.

فصل: فى قدوم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ نصارى نجران بالمدينة، فحدَّثنى محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدم وفد نجرانَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دخلُوا عليه مسجدَه بعد صلاة العصر، فحانت صلاتُهم، فقاموا يُصَلُّون فى مسجده، فأراد الناسُ منعهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُم" فاسْتَقْبَلُوا المَشْرِقَ، فَصَلَّوا صَلاَتَهُمْ.
قال: وحدَّثنى يزيدُ بنُ سفيان، عن ابن البيلمانى، عن كُرز بن علقمة، قال: قدم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ نصارى نجران ستون راكباً، منهم: أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، والأربعة والعشرون، منهم ثلاثةُ نَفَر إليهم يؤول أمرُهم: العاقِبُ أميرُ القوم، وذو رأيهم، وصاحِبُ مشورتهم، والذى لا يَصْدُرون إلا عن رأيه وأمره، واسمُه عبد المسيح، والسيد: ثِمالُهم، وصاحِبُ رَحْلهم، ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بنى بكر بن وائل أُسقُفهم وحَبْرُهم وإمامُهم، وصاحِبُ مِدْرَاسِهِم.
وكان أبو حارثة قد شَرُفَ فيهم، ودَرَسَ كتبَهم، وكانت ملوكُ الروم مِن أهل النصرانية قد شرَّفوه، وموَّلُوه، وأخدَموه، وبَنَوْا له الكنائِسَ،

وبسطوا عليه الكراماتِ لِما يبلغهم عنه مِن علمه واجتهاده فى دينهم.
فلما وجَّهوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له مُوجِّهاً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى جنبه أخٌ له يقال له: كُرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلةُ أبى حارثة. فقال له كُرز: تعس الأبعدُ يريدُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له أبو حارثة: بل أنت تَعِسْتَ. فقال: ولِمَ يا أخى؟ فقال: واللهِ إنه النبىُّ الأُمىُّ الذى كنا ننتظرُه. فقال له كُرز: فما يمنعُك من اتِّباعه وأنت تعلمُ هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القومُ: شرَّفونا، وموَّلونا، وأكرمونا، وقد أبَوْا إلا خِلافَه، ولو فعلتُ نزعوا منا كُلَّ ما ترى، فأضمر عليها مِنه أخوه كُرز ابن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى محمد بن أبى محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدَّثنى سعيد بن جُبير، وعِكرمة، عن ابن عباس، قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبارُ يهود عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتنازعُوا عنده، فقالت الأحبارُ: ما كان إبراهيمُ إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانياً، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينْ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ واللهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 65-68] فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبُدَك كما تعبُدُ النَّصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل مِن نصارى نجران: أَوَ ذلك تريدُ يا محمد، وإليه

تدعونا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَعَاذَ الله أنْ أعْبُدَ غَيْرَ الله، أوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنى ولا أَمَرَنى"، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79] ، ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه، وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: {وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إ لى قوله: {مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 81].
وحدَّثنى محمد بن سهل بن أبى أمامة، قال: لما قدم وفدُ نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه عن عيسى ابن مريم، نزل فيهم فاتحةُ آل عمران إلى رأس الثمانين منها.
وروينا عن أبى عبد الله الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس وكان نصرانياً فأسلم: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل نجران: "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أمَّا بَعْدُ.. فَإنى أدْعُوكُم إلى عِبَادَةِ الله مِنْ عِبَادَةِ العِبَادِ، وأَدْعُوكُم إلى وِلاَيَةِ اللهِ مِنْ وِلاَيَةِ العِبَادِ، فإنْ أَبَيْتُمْ فَالجِزْيَةُ، فَإنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِحَربٍ، والسَّلام". فلما أتى الأسقف الكتابُ فقرأه، فَظِعَ به، وذعر به ذعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل نجرانَ يُقال له: "شُرحبيل ابن وداعة"، وكان من همدان، ولم يكن أحد يُدعى إذا نزل مُعضِلة قبله، لا الأيهم، ولا السيدُ، ولا العاقِبُ، فدفع الأسقف كِتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم؛ ما رأيُك؟ فقال شُرحبيل: قد علمتَ ما وعد الله إبراهيم فى ذُرِّية إسماعيل من النبوة، فما

يؤمَن أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لى فى النبوة رأى، لو كان من أمر الدنيا أشرتُ عليك فيه برأى وجهدتُ لك فيه، فقال الأسقف: تنح فاجلس، فتنحَّى شُرحبيل فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل مِن أهل نجران يقال له: "عبد الله ابن شُرحبيل"، وهو من ذى أصبح من حِمْيَر، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأى فيه، فقال له مثلَ قول شُرحبيل. فقال له الأسقف: تنح فاجلِس، فتنحَّى، فجلس ناحية، فبعث الأسقفُ إلى رجل من أهل نجران يقال له: "جبار بن فيض" من بنى الحارث بن كعب، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأى فيه، فقال له مثلَ قولِ شُرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحَّى، فلما اجتمع الرأىُ منهم على تلك المقالة جميعاً، أمر الأسقفُ بالناقوس، فضُرِبَ به، ورُفِعَتِ المسوحُ فى الصوامع، وكذلك كانُوا يفعلون إذا فزِعُوا بالنهار، وإذا كان فزَعُهم بالليل ضُرِبَ الناقوس، ورُفِعَت النيران فى الصوامع، فاجتمعَ حين ضُرَِبَ بالناقوس، ورُفِعَت المسوح أهلُ الوادى أعلاه وأسفله، وطولُ الوادى مسيرةُ يوم للراكب السريع، وفيه ثلاثٌ وسبعون قرية، وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسألهم عن الرأى فيه، فاجتمع رأىُ أهلِ الوادى منهم على أن يبعثوا شُرحبيل بن وداعة الهَمْدَانى، وعبد الله بن شُرحبيل، وجبار بن فيض الحارثى، فيأتوهم بخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فانطلق الوفدُ حتى إذا كانُوا بالمدينة، وضعُوا ثيابَ السفر عنهم، ولبسوا حُللاً لهم يجرُّونها من الحِبَرَةِ، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أَتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلَّموا عليه، فلم يَرْدَّ عليهم السلامَ، وتصدَّوا لِكلامه نهاراً طويلاً، فلم يُكلِّمهم، وعليهم تِلك الحُلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمانَ بن عفان، وعبد الرحمن بن عَوْف، وكانا معرفةً لهم، كانا

يُخرِجان العِيرَ فى الجاهلية إلى نجرانَ، فيُشترَى لهما مِن بُرِّها وثمرها وذرتها، فوجدوهما فى ناس من الأنصار والمهاجرين فى مجلس، فقالوا: يا عثمان، ويا عبدَ الرحمن؛ إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلَّمنا عليه، فلم يَرُدَّ علينا سلامنا، وتصدَّيْنَا لِكلامه نهاراً طويلاً، فأعيانا أن يُكلِّمنا، فما الرأىُ منكما، أنعود؟ فقالا لعلى بن أبى طالب وهو فى القوم: ما ترى يا أبا الحسن فى هؤلاء القوم؟ فقال علىُّ لعثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمَهم، ويلبسوا ثيابَ سفرهم، ثم يأتوا إليه، ففعل الوفدُ ذلك، فوضعوا حُللهم وخواتيمهم، ثم عادُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلَّمُوا عليه، فردَّ سلامهم، ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألةُ حتى قالُوا له: ما تقولُ فى عيسى عليه السلام؟ فإنَّا نرجع إلى قومنا، ونحنُ نصارى، فيسرُّنا إن كنت نبياً أن نعلم ما تقول فيه؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا عِنْدِى فِيهِ شَىْءٌ يَوْمِى هذا، فَأقِيمُوا حَتى أُخْبِرَكم بِمَا يُقَالُ لى فى عِيسى عَلَيْهِ السَّلام"، فأصبح الغدُ وقد أنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءنا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا ونِسَاءكُمْ وأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61] فأبوا أن يُقِرُّوا بذلك، فلما أصبح رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغَد بعدما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملاً على الحسن والحسين رضى الله عنهما فى خميل له، وفاطمةُ رضى الله عنها تمشى عند ظهره للمُباهلة، وله يومئذ عِدةُ نِسوة، فقال شُرحبيل لصاحبيه: يا عبدَ الله بن شُرحبيل، ويا جبار ابن فيض، قد علمتما أن الوادِى إذا اجتمع أعلاه وأسفلُه لم يَرِدُوا، ولم يصدُرُوا إلا عن رأى، وإنى واللهِ أرى أمراً مقبلاً، وأرى واللهِ إن كان هذا الرجلُ

مَلكاً مبعوثاً، فكنا أولَ العرب طعن فى عينه، وردَّ عليه أمره لا يذهب لنا من صدره، ولا مِن صدور قومه حتى يُصيبونا بجائحة، وإنَّا أدنى العرب منهم جواراً، وإن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً، فلاعنَّاه، فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرةٌ ولا ظفرٌ إلا هلَكَ، فقال له صاحباه: فما الرأىُ فقد وضعتك الأمورُ على ذِراعٍ، فهاتِ رأيك؟ فقال: رأيى أن أُحكِّمَه، فإنى أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنتَ وذاك.
فلقى شُرحبيلُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى قد رأيتُ خيراً مِن مُلاعنتك، فقال: "وما هو"؟ قال شُرحبيل: حُكمك اليومَ إلى الليل وليلتك إلى الصَّباح، فمهما حكمتَ فينا، فهو جائز.
فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّ وَرَاءَكَ أَحَداً يُثَرِّبُ عَلَيْكَ"؟ فقال له شُرحبيل: سل صاحبىَّ، فسألهما، فقالا: ما يَردُ الوادى، ولا يصدُر إلا عن رأى شُرحبيل. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كافر" أو قال: "جاحد مُوَفَّق".
فرجع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يُلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أتَوْه، فكتب لهم فى الكتاب:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما كتب محمد النبىُّ رسولُ اللهِ لنجرانَ إذ كان عليهم حُكمه فى كل ثمرة، وفى كل صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق، فأفضَلَ عليهم، وتركَ ذلك كُلَّه على ألفى حُلَّة، فى كل رَجَب ألفُ حُلَّة، وفى كُلِّ صَفَر ألفُ حُلَّة، وكل حُلَّة أوقية، ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقى، فبحساب، وما قَضَوْا مِن دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عَرَضٍ، أُخِذَ منهم بحساب، وعلى نجران مثواةُ رسلى، ومتعتهم بها عشرين فدونه، ولا يُحبس رسول فوقَ شهر، وعليهم عاريةٌ ثلاثين

درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً إذا كان كيدٌ باليمن ومغدرة، وما هلك مما أعارُوا رسولى مِن دروع، أو خيل، أو ركاب، فهو ضَمانٌ على رسولى حتى يؤدِّيَه إليهم، ولنجرانَ وحسبها جوارُ الله وذِمَّةُ محمد النبىِّ على أنفسهم، ومِلَّتهم، وأرضِهم، وأموالهم، وغائِبهم، وشاهِدهم، وعشيرتهم، وتبعهم، وأن لا يُغيِّروا مما كانوا عليه، ولا يُغيَّر حق من حقوقهم ولا مِلَّتهم، ولا يُغيَّرُ أسقفٌ من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه عن وَفهيَّتِه وكل ما تحت أيديهم مِن قليل أو كثير، وليس عليهم ريبة ولا دمُ جاهلية، ولا يُحشَرُونَ، ولا يُعَشَّرُون، ولا يطأ أرضَهم جيش، ومَن سأل منهم حقاً فبينهم النَّصَفُ غيرَ ظالمين ولا مظلومين، وَمن أكل ربا مِن ذى قبل، فذمِّتى منه بريئة، ولا يُؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما فى هذه الصحيفة جوارُ الله وذِمَّةُ محمد النبى رسول الله حتى يأتى الله بأمره ما نصحُوا وأصلحُوا فيما عليهم غيرَ منقلبين بظلم". شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عَمْرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس الحنظلى، والمغيرة بن شعبة، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم، انصرفوا إلى نجران، فتلقاهم الأسقف ووجوهُ نجران على مسيرة ليلة، ومع الأسقف أخٌ له من أُمه، وهو ابنُ عمه من النسب، يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفدُ كتابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأسقف، فبينا هو يقرؤه، وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كَبَتْ ببشرٍ ناقتُه، فَتَعَّسَ بِشْرٌ، غير أنه لا يكنى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له الأسقف عند ذلك: قد تَعَّسْتَ واللهِ نبِيّاً مرسلاً، فقال بشر: لا جَرَم واللهِ لا أحُلُّ عنها عقداً حتى آتيه، فضربَ وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقفُ ناقته عليه، فقال له:

افهم عنى إنما قلتُ هذا لتبلغ عنى العربَ مخافة أن يقولوا: إنَّا أُخِذْنَا حُمقة أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تَنْخَعْ به العربُ، ونحن أعزُّهم وأجمعُهم داراً، فقال له بشر: لا واللهِ لا أقيلُك ما خرج من رأسك أبداً، فضرب بشر ناقته، وهو مُولٍّ ظهره للأسقف وهو يقول:
إلَيْكَ تَعْدُو قَلِقاً وَضِينُها مُعْتَرِضاً فى بَطْنِهَا جَنِينُها
مُخَالِفاً دِينَ النَّصارى دِينُها
حتى أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يزل مع النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك.
ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبى شمر الزبيدى، وهو فى رأس صومعة له، فقال له: إن نبياً قد بُعِث بتهامة، وإنَّه كتب إلى الأسقف، فأجمع أهلُ الوادى أن يُسَيِّروا إليه شُرحبيل بن وداعة، وعبد الله بن شُرحبيل، وجبار ابن فيض، فيأتونهم بخبره، فسارُوا حتى أتَوْه، فدعاهم إلى المباهلة، فكرهوا ملاعنته، وحكَّمه شُرحبيل فحكم عليهم حكماً، وكتب لهم كتاباً، ثم أقبل الوفدُ بالكتاب حتى دفعُوه إلى الأسقف، فبينا الأسقفُ يقرؤه وبشر معه حتى كبت ببشر ناقته فتعَّسَه، فشهد الأسقفُ أنه نبى مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوَه يُريد الإسلام، فقال الراهب: أنزلونى وإلا رميتُ بنفسى مِن هذه الصومعة، فأنزلوه، فانطلق الراهبُ بِهَدِية إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منها هذا البُردُ الذى يَلبَسُهُ الخلفاء والقعب والعصا، وأقام الراهبُ بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحىُ، والسنن، والفرائض، والحدودُ، وأبى الله لِلراهب الإسلام، فلم يُسلم، واستأذنَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرجعة إلى قومه، وقال: إنَّ لى حاجةً ومعاداً إن شاء الله تعالى، فرجع إلى قومه، فلم يعد حتى قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإنَّ الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه السَّيد والعاقِب ووجوهُ قومه، وأقامُوا عنده يستمعون ما ينزل اللهُ عليه، فكتب للأسقف

هذا الكتاب وللأساقفة بنجران بعده: "بسْم اللهِ الرَّحْمَن الرَّحيم، منْ مُحَمَّدٍ النَّبىِّ إلى الأسقُفُ أبى الحارث وأسَاقِفَةِ نَجْرانَ وكَهَنَتِهِم، ورُهْبَانِهِمْ، وأهْلِ بِيَعِهم، ورَقيقِهم، ومِلَّتِهم، وسَوَقِتِهِم، وعَلى كُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِم مِنْ قَلِيلٍ وَكثِيرٍ، جِوارُ اللهِ ورَسُولِه، لا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌ مِنْ أُسْقُفَتِهِ ولا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، ولا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِه، ولا يُغَيَّرُ حَقٌ مِنْ حُقُوقِهِم، ولا سُلْطَانهم، ولا مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، عَلى ذلِكَ جِوَارُ اللهِ ورَسُولِه أبَداً ما نَصحوا وأَصْلَحوا عَلَيْهِم، غَيْرَ منقَلِبِين بِظَالِمٍ، ولا ظَالِمِينَ". وكتب المغيرةُ بن شعبة، فلما قبض الأسقفُ الكتاب، استأذن فى الانصراف إلى قومه ومَن معه، فأذن لهم، فانصرفوا.
وروى البيهقى بإسناد صحيح إلى ابن مسعود، أنَّ السيد والعاقب أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأراد أن يُلاعنهما، فقال أحدُهما لصاحبه: لا تُلاعِنْه، فواللهِ إن كان نبياً فلاعنتَه لا نُفْلِحُ نحن، ولا عَقِبُنا مِن بعدنا، قالوا له: نُعطيك ما سألتَ، فابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعثْ معنا إلا أميناً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لأَبْعَثَنَّ مَعَكُم رَجُلاً أميناً حَقَّ أمِينٍ"، فاستشرف لها أصحابُه، فقال: "قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ" فلمَّا قَامَ، قال: "هذا أمِينُ هذِهِ الأُمَّة".
ورواه البخارى فى "صحيحه" من حديث حذيفة بنحوه.
وفى "صحيح مسلم" من حديث المُغيرة بن شُعبة قال: بعثنى رسولُ الله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نجران، فقالُوا فيما قالوا: أرأيتَ ما يقرؤون: {يَا أُخْتََ هَارُونَ}، وقد كان بينَ عيسى وموسى ما قد علمتم، قال: فأتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرتُه قال: "أفَلا أخْبَرْتَهُم أنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسماءِ أَنْبِيَائِهِمْ والصَّالِحينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُم".
وروينا عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: وبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىَّ بن أبى طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتِهم، ويَقْدَمَ عليه بجزيتهم.
فصل: فى فقه قصة وفد نجران
ففيها: جوازُ دُخولِ أهلِ الكتاب مساجدَ المسلمين.
وفيها: تمكينُ أهلِ الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يُمكَّنون من اعتياد ذلك.
وفيها: أنَّ إقرارَ الكاهن الكِتابى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه نبى لا يُدخله فى الإسلام ما لم يلتزِمْ طاعتَه ومتابعته، فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكونُ رِدَّة منه، ونظيرُ هذا قول قول الحَبْرينِ له، وقد سألاه ثلاث مسائل، فلما أجابهما، قالا: نشهد أنك نبى، قال: "فما يمنعُكما مِن اتباعى"؟ قالا: نخاف أن تقتُلَنا اليهودُ، ولم يُلزمهما بذلك الإسلام، ونظيرُ ذلِكَ شهادةُ عمه أبى طالب له بأنه صادق، وأنَّ دينَه مِن خير أديان البرية ديناً، ولم تُدخِلْه هذه الشهادةُ فى الإسلام.
ومَن تأمَّل ما فى السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب

والمشركين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة فى الإسلام، علم أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةُ والإقرارُ، والانقيادُ، والتزامُ طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.
وقد اختلف أئمةُ الإسلام فى الكافر إذا قال: أشهدُ أن محمداً رسولُ اللهِ ولم يَزِدْ، هل يُحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال، وهى ثلاثُ روايات عن الإمام أحمد، إحداها: يُحكم بإسلامه بذلك، والثانية: لا يُحكم بإسلامه حتى يأتىَ بشهادة أنْ لا إله إلا الله، والثالثة: أنَّه إذا كان مقراً بالتوحيد، حُكِم بإسلامه، وإن لم يكن مقراً، لم يُحكم بإسلامه حتى يأتىَ به، وليس هذا موضعَ استيفاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليه إشارة، وأهلُ الكتابين مجمعون على أنَّ نبياً يخرج فى آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يَشُكُّ علماؤهم فى أنه محمدُ بنُ عبد الله بن عبد المطلب، وإنما يمنعُهم من الدخول فى الإسلام رئاستُهم على قومهم، وخضوعُهم لهم، وما ينالونه منهم مِن المال والجاه.
ومنها: جوازُ مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحبابُ ذلك، بل وجوبُه إذا ظهرت مصلحتُه من إسلام مَن يُرجى إسلامُه منهم، وإقامة الحُجَّة عليهم، ولا يهرُب من مجادلتهم إلا عاجزٌ عن إقامة الحُجَّة، فليوَلِّ ذلك إلى أهله، وليُخَلّ بَيْنَ المَطِىِّ وحَادِيها، والقوسِ وباريها، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا مِن الحُجَج التى تلزمُ أهل الكتابَيْنِ الإقرارَ بأنه رسولُ الله بما فى كتبهم، وبما يعتقدونه بما لا يُمكنهم دفعُه ما يزيد على مائة طريق، ونرجو من الله سبحانه إفرادَها بمصنَّف مستقل.
ودار بينى وبين بعض علمائهم مناظرةٌ فى ذلك، فقلت له فى أثناء

الكلام: ولا يتم لكم القَدح فى نبوة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بالطعن فى الربِّ تعالى والقدح فيه، ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد، تعالى الله عن ذلك، فقال: كيف يلزمُنا ذلك؟ قلت: بل أبلغ مِن ذلك، لا يَتمُّ لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى، وبيانُ ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبىٍّ صادق، وهو يزعمكم ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفترىَ على الله، ويتقوَّل عليه ما لم يقُلْه، ثم يتم له ذلك، ويستمر حتى يُحلِّل، ويُحَرِّمَ، ويفرِضَ الفرائضَ، ويشرع الشرائع، وينسخَ المِلل، ويضربَ الرِّقاب، ويقتلَ أتباعَ الرُّسل، وهم أهلُ الحق، ويسبى نساءَهم وأولادَهم، ويَغْنَم أموالهم ودِيارَهم، ويَتِمَّ له ذلك حتى يفتحَ الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له، والربُّ تعالى يُشاهده، وما يفعل بأهل الحقِّ وأتباع الرُّسُل، وهو مستمر فى الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كُلِّه يُؤيده وينصُره، ويُعلى أمره، ويُمكِّن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البَشَر، وأعجَب من ذلك أنه يُجيب دعواته، ويُهلِكُ أعداءَه من غير فعل منه نفسه ولا سبب، بل تارة بدعائه، وتارة يستأصِلُهم سبحانه من غير دعاء منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يقضى له كل حاجة سأله إياها، ويعده كل وعد جميل، ثم ينجز له وعده على أتمِّ الوجوه، وأهنئها، وأكملها، هذا وهو عندكم فى غاية الكذِب والافتراءِ والظُّلم، فإنه لا أكذبَ ممن كذبَ على اللهِ، واستمرَّ على ذلك، ولا أظلمَ ممن أبطل شرائعَ أنبيائه ورُسُله، وسعى فى رفعها من الأرض، وتبديلها بما يُريد هو، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رُسُله، واستمرت نصرتُه عليهم دائماً، والله تعالى فى ذلك كُلِّهِ يقره، ولا يأخُذ منه باليمين، ولا يقطَعُ منه الوتَين، وهو يُخبِرُ عن ربه أنه أُوحى إليه أنه لا: {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ

أُوحِىَ إلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ}[الأنعام: 93] ، فيلزمُكم معاشِرَ مَنْ كذَّبه أحدُ أمرين لا بد لكم منهما:
إما أن تقُولوا: لا صانِع للعالَم، ولا مُدَبِّرَ، ولو كان للعالَم صانع مدبِّرٌ قديرٌ حكيم، لأخذ على يديه، ولقابله أعظمَ مقابلة، وجعله نكالا للظالمينَ إذ لا يليقُ بالملوك غيرُ هذا، فكيف بملك السماواتِ والأرض، وأحكم الحاكمين؟
الثانى: نِسبةُ الربِّ إلى ما لا يليق به من الجور، والسفه، والظلم، وإضلال الخلق دائماً أبَد الآباد، لا بَلْ نصرة الكاذب، والتمكين له من الأرض، وإجابة دعواته، وقيام أمره مِن بعده، وإعلاء كلماته دائماً، وإظهار دعوته، والشهادة له بالنبوة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد فى كل مجمع وناد، فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فلقد قدحتم فى رب العالمين أعظمَ قدح، وطعنتم فيه أشَدَّ طعن، وأنكرتموه بالكلية، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذَّابين قام فى الوجود، وظهرت له شَوْكة، ولكن لم يتم له أمرُه، ولم تطل مدته، بل سَلَّط عليه رُسُله وأتباعهم، فمحقوا أثره، وقطعوا دابره، واستأصلوا شأفته. هذه سُنَّته فى عباده منذ قامت الدنيا، وإلى أن يرث الأرض ومَن عليها.
فلما سمع منى هذا الكلام، قال: معاذَ الله أن نقول: إنه ظالم أو كاذب، بل كُلُّ منصف من أهل الكتاب يُقِرُّ بأنَّ مَن سلك طريقه، واقتفى أثَره، فهو مِن أهل النجاة والسعادة فى الأُخرى، قلتُ له: فكيف يكون سالكُ طريق الكذَّاب، ومقتفى أثره بزعمكم مِن أهل النجاة والسعادة؟
فلم يجد بُداً من الاعتراف برسالته، ولكن لم يُرسَل إليهم. قلت: فقد لزمك تصديقُه ولا بد، وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسولُ رب العالَمين إلى الناس أجمعينَ، كِتَابِيهم وأُمِّيهم،

ودعا أهل الكتاب إلى دينه، وقاتل مَن لم يدخُلْ فى دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية، فَبُهِتَ الكافِرُ، ونهض مِن فوره.
والمقصود: أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزل فى جِدالِ الكفار على اختلاف مِللهم ونِحَلِهم إلى أن تُوفى، وكذلك أصحابُه من بعده، وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتى هى أحسن فى السورة المكية والمدنية، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحُجَّةِ إلى المُباهلة، وبهذا قام الدينُ، وإنما جُعِلَ السيفُ ناصِراً للحُجَّة، وأعدلُ السيوفِ سيفٌ ينصُرُ حُجَجَ اللهِ وبيِّناتِه، وهو سيفُ رسوله وأُمته.
فصل
ومنها: أنَّ مَن عظَّم مخلوقاً فوقَ منزلته التى يستحِقُّها، بحيثُ أخرجه عن منزلة العبودية المحضة، فقد أشرك بالله، وعَبَدَ مع الله غيره، وذلك مخالفٌ لجميع دعوة الرُّسُل، وأما قوله: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلا أظن ذلك محفوظاً، وقد كتب إلى هرقل: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وهذه كانت سُنَّته فى كُتبه إلى الملوك، كما سيأتى إن شاء الله تعالى، وقد وَقع فى هذه الرواية هذا، وقال ذلك قبل أن ينزل عليه: {طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِين}[النمل: 1] وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكيَّة باتفاق، وكتابه إلى نجرانَ بعد مرجعه من تبوك.
وفيها: جواز إهانةِ رُسُل الكفار، وتركِ كلامهم إذا ظهر منهم التعاظمُ والتكبر، فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُكلِّم الرُّسُل، ولم يرُدَّ السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم، وألقوا حُللهم وحُلاهم.

ومنها: أنَّ السُّنَّة فى مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حُجَّةُ اللهِ، ولم يرجعوا، بل أصرُّوا على العناد أن يدعوَهم إلى المباهلة، وقد أمر اللهُ سبحانه بذلك رسولَه، ولم يقل: إنَّ ذلك ليس لأُمتك مِن بعدك، ودعا إليه ابنُ عمِّه عبدُ الله بن عباس لمن أنكر عليه بعضَ مسائل الفروع، ولم يُنكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعىُّ: سفيانَ الثورىَّ فى مسألة رفع اليدين، ولم يُنكر عليه ذلك، وهذا من تمام الحُجَّة.
ومنها: جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال ومِن الثياب وغيرها، ويجرى ذلك مجرى ضربِ الجزية عليهم، فلا يحتاج إلى أن يُفرد كل واحد منهم بجزية، بل يكون ذلك المالُ جزيةً عليهم يقتسِمُونها كما أحبوا، ولما بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عَدْله معافرياً. والفرق بين الموضعين أن أهلَ نجران لم يكن فيهم مسلم، وكانوا أهل صلح، وأما اليمن فكانت دار الإسلام، وكان فيهم يهود، فأمره أن يضرِبَ الجزية على كل واحد منهم، والفقهاء يخصون الجزية بهذا القسم دون الأول، وكلاهما جزية، فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصَغَار فى كل عام.
ومنها: جواز ثبوت الحُلل فى الذِمَّة، كما تثبت فى الدية أيضاً، وعلى هذا يجوز ثبوتُها فى الذِمَّة بعقد السَلَم وبالضَّمان وبالتَّلَفِ، كما تثبت فيها بعقد الصداق والخلع.
ومنها: أنَّه يجوز معاوضتُهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه.
ومنها: اشتراطُ الإمام على الكفار أن يُؤووا رُسُلَه ويُكرموهم، ويُضيفوهم أياماً معدودة.
ومنها: جوازُ اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه مِن سلاح،

أو متاع، أو حيوان، وأن تلك العارية مضمونة، لكن هل هى مضمونة بالشرط أو بالشرع؟ هذا محتمل، وقد تقدَّم الكلام عليه فى غزوة حُنَيْن، وقد صرَّح هاهنا بأنها مضمونة بالرد، ولم يتعرض لضمان التلف.
ومنها: أنَّ الإمامَ لا يُقِرُّ أهلَ الكتاب على المعاملات الربوية، لأنها حرام فى دينهم، وهذا كما لا يُقِرُّهم على السّكْرِ، ولا على اللِّواط والزِّنَى، بل يحدُّهم على ذلك.
ومنها: أنَّه لا يجوزُ أن يُؤخذ رجلٌ من الكفار بظلم آخر، كما لا يجوز ذلك فى حق المسلمين، وكلاهما ظلم.
ومنها: أنَّ عقدَ العهد والذِمَّة مشروطٌ بنصح أهل العهد والذِمَّة وإصلاحهم، فإذا غشُّوا المسلمين وأفسدوا فى دينهم، فلا عهد لهم ولا ذِمَّة، وبهذا أفتينا نحن وغيرُنا فى انتقاض عهدهم لما حرقوا الحريق العظيمَ فى دمشق حتى سرى إلى الجامِع، وبانتقاض عهد مَن واطأهم وأعانهم بوجه ما، بل ومَن علم ذلك، ولم يرفعه إلى ولى الأمر، فإنَّ هذا مِن أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين.
ومنها: بعثُ الإمامُ الرجل العالِم إلى أهل الهُدنة فى مصلحة الإسلام، وأنه ينبغى أن يكون أميناً، وهو الذى لا غرض له ولا هوى، وإنما مرادُه مجردُ مرضاة الله ورسوله، لا يشوبُها بغيرها، فهذا هو الأمين حقُّ الأمين، كحال أبى عُبيدة بن الجرَّاح.
ومنها: مناظرةُ أهل الكتاب وجوابُهم عما سألوه عنه، فإن أشكل على المسؤول، سأل أهل العلم.
ومنها: أنَّ الكلام عند الإطلاق يُحمل على ظاهره حتى يقومَ دليلٌ على خلافه، وإلا لم يُشكل على المغيرة قوله تعالى: {يَا أُخْتََ هَارُونَ}،

هذا وليس فى الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يلزم الإشكال، بل المورد ضمَّ إلى هذا أنه هارون بن عمران، ولم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه أخو موسى بن عمران، ومعلوم أنه لا يدل اللَّفظ على شىء من ذلك، فإيرادُه إيراد فاسد، وهو إما من سوء الفهم، أو فساد القصد.
وأما قول ابنِ إسحاق: إنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه إلى أهل نجرانَ ليجمع صدقاتِهم، ويقدم عليه بجزيتهم، فقد يُظن أنه كلامٌ متناقضٌ، لأن الصَدَقةَ والجزية لا تجتمعان، وأشكلُ منه ما ذكره هو وغيرُه أنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر، أو جُمادى الأُولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعُوَهم إلى الإسلام قبل أن يُقاتِلَهم ثلاثاً، فإن استجابُوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركاب يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، فأسلم الناسُ، ودخلوا فيما دُعُوا إليه، فأقام فيهم خالد يُعلِّمهم الإسلامَ، وكتب بذلك إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكتب إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقبل، ويُقبل إليه بوفدهم، وقد تقدَّم أنهم وَفدُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصالحهم على ألفى حُلَّة، وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يُغيَّروا عن دينهم، ولا يُحشروا، ولا يُعشروا.
وجواب هذا: أنَّ أهل نجران كانوا صنفين: نصارى وأُمِّيين، فصالحَ النصارى على ما تقدَّم، وأما الأُميِّون منهم، فبعث إليهم خالدَ بن الوليد، فأسلموا وقدم وفدُهم على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الذين قال لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِمَ كُنْتُم تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُم فى الجَاهِلَيَّةِ"؟، قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: "صدقتم"، وأمَّرَ عليهم قَيْس بن الحُصين، وهؤلاء هم بنو الحارث بن كعب، فقوله: بعث علياً إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم أو

جزيتهم، أراد به الطائفتين من أهل نجران، صدقات مَن أسلم منهم، وجزية النصارى.
فصل: فى قدوم رسول فَرْوَةَ بنِ عمرو الجُذَامى ملك عرب الروم
قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عَمْرو الجُذامى إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروةُ عاملاً للروم على مَن يليهم من العرب، وكان منزِلُه مَعانَ وما حوله من أرض الشام، فلما بلغ الرومُ ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، فلما اجتمعت الرومُ لصلبه على ماء لهم يقال له: "عفراء"، بفلسطين، قال:
أَلا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنَّ حَلِيلها ... عَلى مَاءِ عَفْرَا فَوْقَ إحْدَى الرَّوَاحِلِ
عَلى نَاقَةٍ لم يَضْرِب الفَحْلُ أُمَّها ... مُشَذَّبَةً أَطْرَافُها بِالمَنَاجِلِ
قال ابن إسحاق: وزعم الزُّهْرى أنهم لما قدَّموه، ليقتُلوه قال:
بَلِّغْ سَرَاةَ المُسْلِمِينَ بِأَنَّنِى ... سِلْمٌ لِرَبِّى أعْظُمى ومَقَامى
ثم ضربوا عنقه، وصلبوه على ذلك الماء يرحمه الله تعالى.

فصل: فى قدوم وفد بنى سعد بن بكر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال ابن إسحاق: حدَّثنى محمد بن الوليد بن نويفع عن كُريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: بعثتْ بنو سعد بن بكر ضِمَام بن ثَعلبة وافداً إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَدِمَ عليه، فأناخ بعيرَه على باب المسجد، فعقله، ثم دخلَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فى المسجد جالس فى أصحابه، فقال: أيُّكم ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب"، فقال: محمد؟ فقال: "نعم"، فقال: يا ابنَ عبد المطلب؛ إنى سائِلُك ومُغْلِظٌ عليك فى المسألة، فلا تجِدَن فى نفسك. فقال: "لاَ أَجِدُ فى نَفْسِى فَسَلْ عَمَّا بدا لك" فقال: أَنْشُدُكَ اللهَ إلهك وإله أهلِك، وإله مَنْ كان قبلك، وإله مَنْ هو كائِنٌ بعدك، آللهُ بعثَك إلينا رسولاً؟ قال: "اللهُمَّ نعم"، قال: فأَنْشُدُكَ اللهَ إلهكَ، وإله مَنْ كَان قبلك، وإله مَن هو كائِنٌ بعدك. آللهُ أمَرَكَ أن نعبُدَه لا نُشرِكُ به شيئاً، وأن نخلَع هذه الأندَادَ التى كان آباؤنا يعبُدون؟ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ نعم"، ثم جعل يذكُر فرائِضَ الإسلام فريضةً فريضةً: الصلاةَ، والزكاةَ، والصيامَ، والحَجَّ، وفرائضَ الإسلام كُلَّها، ينشُدُه عند كُلِّ فريضة كما نشدَه فى الَّتى قبلها حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهدُ أنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وسأؤدى هذه الفرائضَ، وأجتنبُ ما نهيتنى عنه، لا أزيدُ ولا أنقُصُ، ثم انصرف راجعاً إلى بعيره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولىَّ: "إنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيصَتَيْنِ، يَدْخُلِ الجَنَّة" وكان ضِمام رجلاً جلداً أشعرَ ذا غديرتين، ثم أتى بعيره، فأطلق عِقاله، ثم خرجَ حتَّى قَدِمَ على قومه،

فاجتمعوا عليه، وكان أوَّلَ ما تكلَّم به أن قال: بئستِ اللاتُ والعُزَّى، فقالُوا: مَهْ يا ضِمام، اتق البرصَ، والجنونَ، والجُذام. قال: ويلَكم، إنهما ما يَضُران ولا ينفعَانِ، إنَّ الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أَشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وإنى قد جئتُكم مِن عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فواللهِ ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضِرتِه رجلٌ ولا امرأة إلا مسلماً
قال ابن إسحاق: فما سمعنا بوافد قومٍ أفضل مِن ضِمام بن ثعلبة، والقصة فى "الصحيحين" من حديث أنس بنحو هذه.
وذكر الحَجّ فى هذه القصة يدل على أن قدوم ضِمام كان بعد فرض الحَجّ، وهذا بعيد، فالظاهر أنَّ هذه اللَّفظة مدرجة من كلام بعض الرواة.. والله أعلم.
فصل: فى قدوم طارق بن عبد الله وقومه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روينا فى ذلك لأبى بكر البيهقى، عن جامع بن شدَّاد، قال: حدَّثنى رجل يُقال له: طارق بن عبد الله. قال: إنى لقائم بسوق المجاز، إذ أقبل

رجل عليه جُبَّة له وهو يقول: "يا أيُّها الناس؛ قولُوا: لا إله إلا اللهُ تُفْلِحُوا"، ورجل يتبعُه يَرميه بالحِجارة يقول: يا أيُّها الناسُ؛ لا تُصدِّقوه فإنه كذَّاب، فقلتُ: مَنْ هذَا؟ فقالوا: هذا غلام من بنى هاشم الذى يزعمُ أنه رسولُ الله، قال: قلتُ: مَن هذا الذى يفعل به هذا؟ قالوا: هذا عمُّه عبدُ العُزَّى، قال: فلما أسلم الناسُ، وهاجرُوا، خَرجنا من الرَّبَذَةِ نُريدُ المدينةَ نمتارُ مِن تمرها، فلما دنونا مِن حيطانها ونخلها، قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثِياباً غيرَ هذه، فإذا رجل فى طِمرين له، فسلَّم وقال: مِن أين أقبلَ القومُ؟ قلنا: من الرَّبَذَةِ. قال: وأين تُريدون؟ قلنا: نُريدُ هَذِهِ المدِينةَ، قال: ما حاجتُكم فيها؟ قلنا: نمتارُ من تمرها. قال: ومعنا ظعينةٌ لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: أتبيعون جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعاً من تمر، قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئاً، فأخذ بخِطام الجمل، فانطلق، فلما توارَى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا، واللهِ ما بِعنا جملنا ممن نعرف، ولا أخذنا له ثمناً، قال: تقولُ المرأةُ التى معنا: واللهِ لقد رأيتُ رجلاً كأنَّ وجهه شِقةُ القمر ليلَةَ البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم.
وفى رواية ابن إسحاق قالت الظعينة: فلا تَلاوموا، فلقد رأيتُ وجه رجل لا يغدِرُ بكم، ما رأيتُ شيئاً أشبَهَ بالقمر ليلةَ البدر من وجهه، فبينما هم كذلك إذ أقبل رجلٌ فقال: أنا رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم، هذا تمرُكم، فكُلوا، واشبعوا، واكتالُوا، واستوفوا، فأكلنا حتى شبِعنا، واكتلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فدخلنا المسجد، فإذا هو قائم على المنبر يخطبُ الناس، فأدركنا من خطبته وهو يقول : "تَصَدَّقُوا فَإنَّ الصَّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ، اليَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، أُمَّكَ وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وأَخَاكَ وأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" إذ أقبل رجل من بنى يربوع، أو قال: من الأنصار، فقال:

يا رسول الله؛ لنا فى هؤلاء دماء فى الجاهلية، فقال: "إنَّ أُمّاً لا تَجْنى عَلَى وَلَدٍ" ثلاث مرات.
فصل: فى قدوم وفد تُجيب
وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد تُجيب، وهم من السَّكُونِ ثلاثةَ عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله؛ سقنا إليك حق الله فى أموالنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُدُّوها فَاقْسِمُوها على فُقَرَائِكُم" قالوا: يا رسول الله؛ ما قدمنا عليك إلا بما فَضَل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله؛ ما وفَدَ مِن العرب بمثل مَا وفد به هذا الحى من تُجيب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الهُدَى بِيَدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فَمَنْ أرادَ بِهِ خَيْراً شَرَحَ صَدْرَهُ للإيمَان" ، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يُحسن ضِيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يُطيلوا اللْبَث، فقيل لهم: ما يُعجبكم؟ فقالوا: نرجِعُ إلى مَن وراءنا فنخبِرُهم برؤيتنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلامِنا إياه، وما ردَّ علينا، ثم جاؤوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُودِّعُونه،

فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يُجيزُ به الوفودَ. قال: "هَلْ بَقِىَ مِنْكُمْ أَحَدٌ"؟ قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثُنا سناً، قال: "أرسلوه إلينا"، فلما رجعوا إلى رِحالهم، قالوا للغلام: انطلِق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاقضِ حاجتَك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلامُ حتى أتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله؛ إنى امرؤ مِن بنى أبْذَى، يقول: مِن الرهط الذين أتوك آنفاً، فقضيتَ حوائِجَهم، فاقض حاجتى يا رسول الله. قال: "وما حاجتُك"؟ قالَ: إنَّ حاجتى ليست كحاجة أصحابى، وإن كانوا قَدِمُوا راغبين فى الإسلام، وساقُوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى واللهِ ما أعمَلنى من بلادى إلا أن تسألَ الله عزَّ وجلَّ أن يغفر لى ويرحمنى، وأن يجعل غِناى فى قلبى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل إلى الغلام: "اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، واجْعَلْ غِناهُ فى قَلْبِهِ" ، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الموسم بِمِنَى سنةَ عشر، فقالوا: نحن بنو أبْذَى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما فَعَلَ الغُلامُ الَّذِى أتانى مَعَكُم"؟ قالوا: يا رسول الله؛ ما رأينا مثله قطُّ، ولا حُدِّثنا بأقنعَ منه بما رزقه الله، لو أن الناسَ اقتسموا الدنيا ما نظر نحوَها ولا التفتَ إليها، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَمْدُ للهِ إنى لأرْجُو أَنْ يَمُوتَ جَمِيعاً"، فقال رجل منهم: أوَ ليس يموتُ الرجلُ جميعاً يا رسولَ الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَشَعَّبُ أهْوَاؤه وهُمُومُه فى أوْدِيَةِ الدُّنْيَا، فَلَعَلَّ أجَلَهُ أَنْ يُدْرِكَهُ فى بَعْضِ تِلْكَ الأَوْدِيَةِ فلا يُبالى الله عزَّ وجَلَّ فى أيِّها هَلَك"، قالوا: فعاش ذلك الغلامُ فينا على أفضلِ حال، وأزهده فى الدنيا، وأقنعه بما رُزِقَ، فلما توفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجعَ مَنْ رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام فى قومه، فذكَّرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبُو بكر الصِّدِّيق يَذْكُره

ويسأل عنه حتى بلغَه حالُه، وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً.
فصل: فى قدوم وفد بنى سَعد هُذَيْم مِن قُضاعة
قال الواقدى، عن أبى النعمان، عن أبيه من بنى سعد هُذَيْم: قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وافداً فى نَفَرٍ من قومى، وقد أوطأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلادَ غلبةً، وأداخَ العرب، والناسُ صِنفَانِ: إما داخل فى الإسلام راغبٌ فيه، وإما خائفٌ من السيف، فنزلنا ناحيةً من المدينة، ثم خرجنا نؤُمُّ المسجدَ حتى انتهينا إلى بابه، فنجدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى على جِنازة فى المسجد، فقُمنا ناحيةً، ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم حتى نلقى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونبايعَه، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: "مَنْ أَنْتُم"؟ فقلنا: من بنى سعد هُذَيْم، فقال: "أمسلِمُون أَنْتُم"؟ قلنا: نعم. قال: "فَهَلاَّ صَلَّيتُم عَلى أَخِيكُم"؟ قلنا: يا رسول الله؛ ظننا أنَّ ذلك لا يجوز لنا حتى نُبايعَك، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَمَا أَسْلَمْتُم فَأَنْتُم مُسْلِمُون"، قالوا: فأسلمنا وبايعنا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا قد خلفنا عليها أصغرَنا، فبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلبنا، فَأُتِىَ بنا إليه، فتقدَّم صاحبُنا إليه، فبايعه على الإسلام، فقُلنا: يا رسولَ الله؛ إنه أصغرُنا وإنه خادِمُنا، فقال: "أصْغَرُ القَوْم خَادِمُهُم، بَارَكَ اللهُ عَلَيْهِ" ، قال: فكان واللهِ خيرَنا، وأقرأَنا للقرآن لدعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، ثم أمَّره رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فكان يَؤُمُّنا، ولما أردنا الانصراف، أمر بلالاً فأجازنا بأواقٍ من فِضَّة لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم اللهُ الإسلام.
فصل: فى قدوم وفد بنى فَزَارة
قال أبو الربيع بن سالم فى كتاب "الاكتفاء": ولما رجعَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن تَبُوك، قَدِمَ عليه وفدُ بنى فَزَارة بضعة عشر رجلاً، فيهم خارجةُ ابنُ حِصن، والحُرُّ بن قيس ابن أخى عُيَيْنة بنِ حصن، وهو أصغرُهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث، وجاؤوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرِّينَ بالإسلام وهم مُسنِتُونَ على رِكاب عِجافٍ، فسألهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بلادهم، فقال أحدهُم: يا رسولَ الله؛ أسنَتَتْ بلادُنا، وَهَلَكَتْ مواشينا، وأجدب جنابُنا، وغَرِثَ عيالنا، فادعُ لنا ربك يُغيثُنا، واشفعْ لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربُّك إليك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحانَ الله، وَيْلَكَ يا هذا، إنَّما شَفَعْتُ إلى رَبِّى عَزَّ وجَلَّ، فَمَنِ الَّذِى يَشْفَعُ رَبُّنا إليه؟ لا إله إلاَّ هُو العَظِيمُ، وَسِعَ كُرْسِيُّه السَّمَواتِ والأرْضَ، فَهى تَئِطُّ مِنْ عَظَمَتِه وجَلاَلِهِ كَما يَئِطُّ الرَّحْلُ الجَدِيد"، وقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ليَضْحَكُ

مِنْ شَغَفِكُمْ وأَزْلِكمْ، وقُرْبِ غِيَاثكُمْ" ، فقال الأعرابى: يا رسولَ الله؛ ويضحكُ ربُّنا عَزَّ وجَلَّ؟ قال: "نعم" فقال الأعرابى: لَنْ نَعْدَم مِنْ رَبٍّ يضحَكُ خيراً، فضحِكَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله، وصَعِدَ المنبرَ، فتكلَّم بكلمات، وكان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا رفع الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياضُ إبطيه، وكان مما حُفِظَ من دعائه : "اللهُمَّ اسْقِ بلاَدَكَ وبَهَائِمَكَ، وانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وأحْى بَلَدَكَ المَيِّت، اللهُمَّ اسْقِنا غَيْثاً مُغيثا مَريئاً مَرِيعاً طَبَقاً واسعاً عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ، نَافِعاً غَيْرَ ضارٍّ، اللهُمَّ سُقْيا رَحْمَةٍ لا سُقْياَ عَذَابٍ، ولا هَدْمٍ، ولا غَرَقٍ، ولا مَحْق، اللهُمَّ اسْقِنا الغيثَ وانْصُرنا على الأَعْدَاء".
فصل: فى قدوم وفد بنى أسَد
وقَدِم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بنى أسد عشرةُ رهط، فيهم وابصة ابن معبد، وطلحةُ بن خُويلد، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسٌ مع أصحابه فى المسجد، فتكلَّمُوا، فقال متكلِّمهم: يا رسولَ الله؛ إنَّا شهدنا أنَّ الله وحدَه لا شريكَ

له، وأنك عبدُه ورسوله، وجئناك يا رسولَ اللهِ، ولم تَبْعَثْ إلينا بعثاً، ونحن لمن وراءنا. قال محمد بن كعب القرظى: فأنزل الله على رسوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ، قُل لا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسْلامَكُم، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات: 17]، وكان مما سألوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه يومئذ العِيَافَةُ والكَهَانَةُ وضربُ الحَصى، فنهاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك كله، فقالوا: يا رسول الله؛ إنَّ هذه أُمُورٌ كنا نفعلها فى الجاهلية، أرأيتَ خصلةً بقيت؟ قال: "وما هِىَ"؟ قالوا: الخَطُّ. قال: "عُلِّمَهُ نَبىٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ صَادَفَ مِثْلَ عِلْمِهِ عَلِمَ".
فصل: فى قدوم وَفدِ بَهْراء
ذكر الواقدى عن كريمةَ بنتِ المقداد قالت: سمعتُ أمى ضُباعة بنت الزُّبَيْر ابن عبد المطلب تقول: قدم وفدُ بهراءَ مِن اليمن على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وهم ثلاثةَ عشرَ رجلاً، فأقبلُوا يقودُون رواحِلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد، ونحنُ فى منازلنا ببنى حُدَيلة، فخرج إليهم المقدادُ، فرحب بهم، فأنزلهم، وجاءهم بِجفْنَةٍ مِنْ حَيس قد كنَّا هيأناها قبل أن يَحِلُّوا لنجلس عليها، فحملها المقدادُ، وكان كريماً على الطعام، فأكلُوا منها حتى نَهِلُوا، ورُدَّتْ إلينا القَصْعةُ، وفيها أُكَلٌ، فجمعنا تلك الأُكَل فى قصعةٍ صغيرة، ثم بعثنا بها إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سِدرة مولاتى، فوجدتْه فى بيت أُمِّ سلمة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضُباعة أرسلَتْ بهذا"؟ قالت سدرة: نعم يا رسولَ الله، قال: "ضَعِى" ثم قال: "ما فعل ضيفُ أبى معبد"؟ قلتُ: عندنا، قالت: فأصابَ منها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكلاً هو ومَن معه فى البيت حتى نَهِلُوا، وأكلت معهم سِدْرَةُ، ثم قال: "اذْهَبِى بِمَا بَقِىَ إلى ضَيْفِكُم"، قالت سِدرة: فرجعتُ بما بقى فى القصعة إلى مولاتى، قالت: فأكل منها الضيفُ ما أقاموا، نرددها عليهم، وما تَغِيضُ حتى جعل القومُ يقولون: يا أبا معبد إنك لتَنْهَلُنا مِن أحبِّ الطعام إلينا ما كنا نَقْدِرُ على مثل هذا إلا فى الحين، وقد ذُكِرَ لنا أنَّ الطعامَ ببلادكم إنما هو العُلقَةُ أو نحوه، ونحن عندك فى الشِّبَعِ، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكل منها أكلاً، وردَّها، فهذه بركةُ أصابعِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل القومُ يقولون: نشهد أنَّه رسول الله، وازدادوا يقيناً، وذلك الذى أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعلَّموا الفرائضَ، وأقاموا أياماً، ثم جاؤوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُودِّعونه، وأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهليهم.

فصل: فى قدوم وفد عُذرة
وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد عُذرة فى صفر سنة تسعٍ اثنا عشرَ رجلاً، فيهم جمرة بن النعمان، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن القَوْم"؟ فقال متكلِّمهم: مَن لا تُنكِرُه، نحن بنو عُذرة إخوة قُصَى لأُمِّه، نحنُ الذين عضدوا قُصياً، وأزاحوا مِن بطن مكةَ خُزاعة وبنى بكر، ولنا قَراباتٌ وأرحام، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مرحباً بكم وأهلاً، مَا أعَرفَنى بكم"، فأسلموا، وبشَّرهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفتح الشام، وهرب هِرقل إلى ممتنع مِن بلاده، ونهاهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التى كانوا يذبحونها، وأخبرهم أنْ ليس عليهم إلا الأُضحية، فأقاموا أياماً بدار رملة، ثم انصرفُوا وقد أُجيزوا.
فصل: فى قدوم وفد بَلِىّ
وقدم عليه وفد بَلِىٍّ فى ربيع الأول من سنة تسع، فأنزلهم رُويفع بن ثابت البَلَوى عنده، وقَدِمَ بهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: هؤلاء قومى، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَرْحباً بِكَ وَبِقَوْمِكَ"، فأسلموا، وقال

لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الحَمْدُ للهِ الَّذِى هَداكمْ للإسْلاَم، فَكُلُّ مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ الإسْلامِ، فَهُوَ فى النَّارِ"، فقال له أبو الضُّبَيْب شيخُ الوفد: يا رسول الله؛ إنَّ لى رغبة فى الضيافة، فهل لى فى ذَلِكَ أجْر؟ قال: "نَعَمْ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَنَعْتَه إلى غَنِىٍّ أو فَقِيرٍ، فَهُوَ صَدَقَة"، قال: يا رسول الله؛ ما وقتُ الضِّيافة؟ قال: "ثَلاثَة أيامٍ، فما كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، ولا يَحلُّ لِلْضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدِكَ فَيُحْرِجَك"، قال: يا رسولََ الله؛ أرأيتَ الضَّالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: "هىَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئبِ"، قال: فالبعير؟ قال: "مَا لَكَ ولَهُ، دعه حَتَّى يَجِدَهُ صَاحِبُه"، قال رويفع: ثم قاموا فرجعُوا إلى منزلى، فإذا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتى منزلى يحمِلُ تمراً، فقال: "اسْتَعِنْ بِهذا التَّمر"، وكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثاً، ثم ودَّعُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجازهم، ورجعوا إلى بلادهم.
فصل
فى هذه القصةِ من الفقه: أنَّ للضيف حقاً على مَن نزل به، وهو ثلاثُ مراتب: حقٌ واجب، وتمامٌ مُستحَب، وصدقةٌ من الصدقات، فالحقُّ الواجب يَوْمٌ وليلة، وقد ذكر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المراتب الثلاثة فى الحديث المتفق على صحته من حديث أبى شريح الخُزاعى، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَن كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِر، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَه" ، قالوا: ومَا جائزته يا رسول الله؟ قال: "يَوْمُه ولَيْلَتُه، والضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أيَّام، فَما كَانَ وَرَاءَ ذَلكَ، فَهُوَ صَدَقَة، ولا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِىَ عِنْدَه حَتَّى يُحْرِجَه".

وفيه: جوازُ التقاط الغنم، وأنَّ الشاة إذا لم يأتِ صاحبُها، فهى ملك الملتقِط، واستدل بهذا بعضُ أصحابنا على أنَّ الشاةَ ونحوَها مما يجوزُ التقاطه يُخيَّرُ الملتقِط بين أكله فى الحال، وعليه قيمته، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين تركِه والإنفاق عليه من ماله، وهل يَرجِعُ به؟ على وجهين، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلها له، إلا أن يظهر صاحبُها، وإذا كانت له، خُيِّرَ بين هذه الثلاثة، فإذا ظهر صاحبُها، دفعها إليه أو قيمتها، وأما متقدمو أصحاب أحمد، فعلى خلاف هذا، قال أبو الحسين: لا يتصرَّفُ فيها قبلَ الحَوْل رواية واحدة، قال: وإن قلنا: يأخُذُ ما لا يستقِلُّ بنفسه كالغنم، فإنه لا يتصرَّف بأكل ولا غيره رواية واحدة، وكذلك قال ابن عقيل، ونص أحمد فى رواية أبى طالب فى الشاة: يُعرِّفُها سنة، فإن جاء صاحبها رَدَّها إليه، وكذلك قال الشريفان: لا يملك الشاةَ قبل الحَوْل روايةً واحدة. وقال أبو بكر: وضالةُ الغنم إذا أخذها يُعرِّفُها سنة، وهو الواجب، فإذا مضت السنةُ ولم يَعْرِفْ صاحِبَها،كانت له، والأولُ أفقهُ وأقربُ إلى مصلحة الملتقِطِ والمالك، إذ قد يكون تعريفُها سنة مستلزماً لتغريمِ مالكها أضعافَ قيمتها إن قلنا: يرجِعُ عليه بنفقتها، وإن قلنا: لا يرجِعُ، استلزمَ تغريم الملتقِط ذلك، وإن قيل: يدعُها ولا يلتقِطُها، كانت للذئب وتَلِفَتْ، والشارع لا يأمر بضياع المال.
فإن قيل: فهذا الذى رجحتموه مخالف لنصوص أحمد وأقوالِ أصحابه، وللدليل أيضاً.
أما مخالفة نصوص أحمد، فمما تقدَّم حكايته فى رواية أبى طالب، ونص أيضاً فى روايته فى مضطرٍ وجد شاة مذبوحة وشاة ميتة، قال: يأكُلُ

من الميتة، ولا يأكل من المذبوحة، الميتةُ أُحِلَّت، والمذبوحةُ لها صاحب قد ذبحها، يُريد أن يُعَرِّفها، ويطلبَ صاحبَها، فإذا أوجب إبقاءَ المذبوحة على حالها، فإبقاءُ الشاة الحيةِ بطريق الأَوْلى، وأما مخالفةُ كلام الأصحاب فقد تقدَّم، وأما مخالفةُ الدليل، ففى حديث عبد الله بن عَمْرو: يا رسولَ الله؛ كيف ترى فى ضالة الغنم؟ فقال: "هى لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْب، احْبِسْ عَلى أَخِيكَ ضَالَّتَهُ". وفى لفظ: "رُدَّ عَلى أَخِيكَ ضَالَّتَه"، وهذا يمنع البيع والذبح.
قيل: ليس فى نص أحمد أكثرُ من التعريف، ومَن يقول: إنه مخيَّرٌ بين أكلِها وبيعِها وحفظِها، لا يقول بسقوط التعريف، بل يُعرِّفها مع ذلك، وقد عرف شِيتَها وعلامَتها، فإن ظهر صاحبُها أعطاه القيمة. فقول أحمد: يُعرِّفها أعم من تعريفها وهى باقية، أو تعريفها وهى مضمونة فى الذِمَّة لمصلحة صاحبها وملتقطها، ولا سيما إذا التقطها فى السفر، فإن فى إيجاب تعريفها سنةً من الحَرَج والمشقة ما لا يرضى به الشارعُ، وفى تركها مِن تعريضها للإضاعة والهلاك ما يُنافى أمره بأخذها، وإخبارَه أنه إن لم يأخذها كانت للذئب، فيتعينُ ولا بد: إما بيعُها وحِفْظُ ثمنها، وإما أكلُها وضمانُ قيمتها أو مثلها.
وأما مخالفة الأصحاب، فالذى اختار التخيير من أكبر أئمة الأصحاب، ومَن يُقاس بشيوخ المذهب الكبار الأجلاء، وهو أبو محمد المقدسى قدَّس الله روحه، ولقد أحسن فى اختياره التخيير كُلَّ الإحسان.
وأما مخالفة الدليل، فأين فى الدليل الشرعى المنع من التصرف فى الشاة

الملتقطة فى المفازة وفى السفر بالبيع والأكل، وإيجابِ تعريفها والإنفاقِ عليها سنة مع الرجوع بالإنفاق، أو مع عدمه؟ هذا ما لا تأتى به شريعةٌ فضلاً أن يقوم عليه دليل، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْبِسْ عَلى أَخيكَ ضَالَّتَهُ" صريح فى أنَّ المراد به أنْ لا يستأثِرَ بها دونه، ويُزيل حقه، فإذا كان بيعها وحفظ ثمنها خيراً له من تعريفها سنة، والإنفاقِ عليها، وتغريمِ صاحبها أضعافَ قيمتها، كان حبسُها وردُّها عليه هو بالتخيير الذى يكون له فيه الحظ، والحديثُ يقتضيه بفحواه وقوته، وهذا ظاهر.. وبالله التوفيق.
ومنها: أنَّ البعيرَ لا يجوز التقاطُه، اللهُمَّ إلا أن يكون فَلُوَّاً صغيراً لا يمتنِعُ من الذئب ونحوه، فحكمه حكم الشاة بتنبيه النص ودلالته.
فصل: فى قدوم وفد ذى مُرَّة
وقدِمَ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ذى مُرَّة ثلاثة عشر رجلاً رأسهُم الحارث بن عَوْف، فقالوا: يا رسول الله؛ إنًَّا قومُك وعشيرتُك، نحن قوم من بنى لؤى بنِ غالب، فتبسَّمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال للحارث: أين تركت أهلَك؟ قال: بِسلاح وما والاها. قال: وكيف البلادُ؟ قال: واللهِ إنَّا لمُسْنِتُونَ، ما فى المال مخ، فادعُ الله لنا. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ اسْقِهِمُ الغَيْثَ " فأقاموا أياماً، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَدِّعين له، فأمر بلالا أن يُجيزهم، فأجازهم بعشر أواق فِضَّة، وفضَّل الحارث بن عوف أعطاه اثنتى عشرة أُوقية،

ورجعوا إلى بلادهم، فوجدُوا البلاد مطيرة، فسألوا: متى مُطِرْتُم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذى دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، وأخصبَتْ بعد ذلك بلادُهم.
فصل: فى قدوم وفد خَوْلان
وقدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى شهر شعبان سنة عشر وفدُ خَوْلان، وهم عشرة، فقالوا: يا رسول الله؛ نحن على مَن وَرَاءَنَا مِن قومنا، ونحن مؤمنون بالله عَزَّ وَجَّل، ومصدِّقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباطَ الإبل، وركبنا حُزُونَ الأرض وسهولَها، والمنة لله ولِرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ مَسِيرِكُم إلىَّ فَإنَّ لَكُم بِكُلِّ خَطْوَة خَطاهَا بَعِيرُ أحَدِكُم حَسَنَة، وأما قولُكم: زائِرِينَ لك، فإنه مَنْ زَارَنى بِالمَدِينَةِ، كَانَ فى جِوارى يَوْمَ القِيَامَةِ"، قالوا: يَا رسول الله؛ هذا السفرُ الذى لا تَوَى عَلَيْهِ، ثم قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَعَلَ عَم أنَسٍ"؟ وهو صنم خَوْلان الذى كانوا يعبدونه قالوا: أبشِرْ، بدَّلنا اللهُ به ما جئتَ به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسِّكون به، ولو قدمنا عليه، لهدمناه إن شاء الله، فقد كنا منه فى غُرور وفِتنة. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ومَا أَعْظَمَ مَا رَأَيْتُم مِنْ فِتْنَتِه"؟ قالوا: لقد رأيتنا أَسْنَتْنَا حَتَّى أكلنا الرِّمة، فجمعنا ما قَدَرْنا عليه، وابتعنا به مِائة ثور، ونحرناها ل "عم أنس" قُرباناً فى غَداةٍ واحدةٍ، وتركناها تَردُها السباع، ونحن أحوَجُ

إليها من السباع، فجاءنا الغيثُ مِن ساعتنا، ولقد رأينا العُشْبَ يُوارى الرجالَ، ويقول قائِلُنا: أنعم علينا "عم أنس"، وذكروا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كانوا يَقسِمُون لصنمهم هذا من أنعامهم وحُروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له، وجزءاً لله بِزعمهم، قالوا: كنا نزرعُ الزرعَ، فنجعلُ له وسطَه، فنسميه له، ونسمى زرعاً آخر حجرة لله، فإذا مالت الريحُ فالذى سميناه لله جعلناه ل "عم أنس"، وإذا مالت الريح، فالذى جعلناه، لم نجعله لله، فذكر لهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الله أنزل علىَّ فى ذلك: {وَجَعَلُواْ للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}[الأنعام: 136]، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُم"، وسألوه عن فرائض الدين، فأخبرهم، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداءِ الأمانةِ، وحُسنِ الجوار لمن جاورُوا، وأن لا يظلِمُوا أحداً. قال: "فإن الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ"، ثم ودَّعوه بعد أيام، وأجازهم، فرجعُوا إلى قومهم، فلم يَحُلُّوا عقدة حتى هدموا "عم أنس".
فصل: فى قدوم وفد محارب
وقَدِمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ محارب عامَ حَجَّة الوداع، وهم كانوا أغلظَ العرب، وأفظَّهم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك المواسم أيامَ عَرْضِهِ نَفْسَهُ على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاء رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم عشرة نائبين عمن وراءَهم مِن قومهم، فأسلموا، وكان بِلالٌ يأتيهم بِغَداء وعَشاء

إلى أن جلسُوا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من الظهر إلى العصر، فعرف رجلاً منهم، فأمدَّه النظر، فلما رآه المحاربى يُديمُ النظرَ إليه، قال: كأنك يا رسولَ الله توهمنى؟ قال: "لقد رأيتُك"، قال المحاربىُّ: أى واللهِ، لقد رأيتنى وكلَّمتنى، وكلَّمتُك بأقبح الكلام، ورددتُك بأقبح الرد بعُكاظ، وأنت تطُوفُ على الناس، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نعم"، ثم قال المحاربىُّ: يا رسولَ الله؛ ما كان فى أصحابى أشدُّ عليكَ يومئذ، ولا أبعدُ عن الإسلام منى، فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدَّقتُ بك، ولقد مات أُولئك النَفَرُ الذين كانوا معى على دينهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ هذِهِ القُلُوبَ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، فقال المحاربىُّ: يا رسولَ اللهِ؛ استغفر لى مِن مراجعتى إيَّاك، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الكُفْر"، ثم انصرفُوا إلى أهليهم.
فصل: فى قدوم وفد صُدَاء فى سنة ثمان
وقَدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد صُداء، وذلك أنه لما انصرف من الجِعْرَانَةِ، بعث بعوثاً، وهيأ بعثاً، استعمل عليه قيسَ بنَ سعدِ بن عبادة، وعقد له لواءً أبيض، ودفع إليه رايةً سوداء، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائةٍ مِن المسلمين، وأمره أن يطأ ناحيةً من اليمن كان فيها صُداء، فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ؛ جئتُك وافداً على مَن ورائى فاردُدِ الجيشَ، وأنا لك بقومى، فردَّ رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيسَ بن سعد من صَدْرِ قَنَاة، وخرج الصُّدائى إلى قومه، فقدِم على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة عشر رجلاً منهم، فقال سعدُ بن عُبادة: يا رسولَ اللهِ؛ دعهم ينزِلوا علىَّ، فنزلُوا عليه، فحيَّاهم وأكرمهم، وكساهم، ثم راح بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبايعُوه على الإسلام، فقالوا: نحنُ لك على مَن وراءنا من قومنا، فرجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم مائةُ رجل فى حَجَّة الوداع، ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المُصْطَلِقِ، وذكر من حديث زياد بن الحارث الصُّدائى، أنه الذى قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: اردُدِ الجيشَ وأنا لك بقومى، فردَّهم، قال: وقدم وفدُ قومى عليه، فقال لى: "يا أخا صُداءٍ، إنَّكَ لَمُطَاعٌ فى قَوْمِكَ"؟ قالَ: قلتُ: بلى يا رسولَ الله مِن الله عَزَّ وجَلَّ، ومن رسوله، وكان زيادٌ هذا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض أسفاره، قال: فاعتَشى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أى سار ليلاً واعتشينا معه، وكنت رجلاً قوياً، قال: فجعل أصحابُه يتفرَّقون عنه، ولزِمْتُ غَرْزَهُ، فلما كان فى السَّحَر، قال: "أذِّن يا أخا صُداء" فأذَّنْتُ على راحلتى، ثم سرنا حتى ذهبنا، فنزل لحاجته، ثم رجع، فقال: يا أخا صُداء؛ هل معك ماء؟ قلت: معى شىء فى إداوتى، فقال: "هاته" فجئت به، فقال: "صُبَّ" فصببتُ ما فى الإداوة فى القعب، فجعل أصحابُه يتلاحقون، ثم وضع كفَّه على الإناء، فرأيتُ بين كل أصبعين من أصابعه عَيْناً تفورُ، ثم قال: "يا أخا صُدَاء؛ لولا أنى أستحيى من ربِّى عَزَّ وجَلَّ، لسقينا واستقينا" ثم توضأ وقال: "أذِّن فى أصحابى: مَن كانت له حاجة بالوضوء فَلْيَرِدْ" قال: فوردُوا من آخرهم، ثم جاء بلال يُقيم، فقال: "إنَّ أخَا صُدَاءٍ أذَّنَ، ومَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يُقِيمُ" فأقمتُ، ثم تقدَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلَّى بنا، وكنتُ سألتُه قَبْلُ أَن يؤمِّرَنى على قومى، ويكتُبَ لى بذلك كتاباً، ففعل، فلما فرغ مِن

صلاته، قام رجل يتشكى من عامله، فقال: يا رسول الله؛ إنه أخذنا بذُحُولٍ كانت بيننا وبينه فى الجاهلية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسلِم" ، ثم قام آخر، فقال: يا رسولَ الله؛ أعْطنى مِن الصِّدَقة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ لم يَكِلْ قِسْمَتَهَا إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا نَبِىٍّ مُرْسَل، حتَّى جَزَّأََهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فإنْ كُنْتَ جُزْءاً منها أَعْطَيْتُكَ، وإنْ كُنْتَ غَنِيّاً عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأْسِ، ودَاءٌ فى البَطْن "، فقُلتُ فى نفسى: هاتان خصلتان حين سألت الإمارة، وأنا رجل مسلم، وسألتُه مِن الصدقة، وأنا غنى عنها، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ هذان كتاباك فاقبلْهُما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِمَ"؟ فقلت: إنى سمعتك تقولُ: "لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ" ، وأنا مسلم، وسمعتُك تقول: "مَنْ سَأَلَ مِنَ الصَّدَقةِ، وَهُوَ غَنِىٌ عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأسِ، ودَاءٌ فى البَطْنِ" وأنا غَنِىٌ، فقالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إنَّ الَّذِى قلتُ كَمَا قُلتُ"، فقبلهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال لى: "دُلَّنى على رَجُلٍ مِنْ قَوْمِكَ أَسْتَعْمِلُه"، فدللتُه على رجل منهم، فاستعملَه، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ لنا بئراً إذا كان الشتاءُ، كفانا ماؤها، وإذا كان الصيفُ، قَلَّ علينا، فتفرقنا على المياه، والإسلامُ اليومَ فينا قليل، ونحن نخاف، فادعُ الله عَزَّ وجَلَّ لنا فى بئرنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ناوِلنى سَبْعَ حَصَيَاتٍ"، فناولتُه، فَعَرَكَهُنَّ بيده، ثم دفعهن إلىَّ وقال: "إذا انتهيتَ إليها، فألقِ فيها حصاةً حصاةً، وسمِّ الله" قال: ففعلت، فما أدركنا لهَا قعراً حتَّى الساعة.

فصل: فى فقه هذه القصة
ففيها: استحبابُ عقد الألوية والرايات للجيش، واستحبابُ كونِ اللِّواء أبيض، وجواز كونِ الراية سوداء مِن غير كراهة.
وفيها: قبولُ خبرِ الواحد، فإن النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ الجيش من أجل خبر الصُّدَائى وحده.
وفيها: جوازُ سير اللَّيل كُلِّه فى السفر إلى الأذان، فإنَّ قوله: "اعتشى" أى: سار عشية، ولا يُقال لما بعد نصف الليل.
وفيها: جوازُ الأذان على الراحلة.
وفيها: طلبُ الإمام الماءَ من أحد رعيته للوضوء، وليس ذلك من السؤال.
وفيها: أنه لا يتيممُ حتى يَطلُبَ الماء فيُعْوِزه.
وفيها: المعجزةُ الظاهرة بفورانِ الماء من بين أصابعه، لما وضعها فيه، أمدَّه الله به وكثَّره، حتى جعل يفورُ مِن خلال الأصابع الكريمة، والجهال تَظُنُّ أنه كان يشق الأصابع، ويخرج من خلال اللَّحم والدم، وليس كذلك، وإنما بوضعه أصابعه فيه حلَّت فيه البركة من الله والمدد، فجعل يفور حتى خرج من بين الأصابع، وقد جرى له هذا مراراً عديدة بمشهد أصحابه.
وفيها: أن السُّنة أن يتولَّى الإقامة مَن تولَّى الأذان، ويجوزُ أن يُؤذِّن واحد، ويُقيم آخر، كما ثبت فى قصة عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان، وأخبر به النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ألْقِهِ على بلالٍ"، فألقاه عليه، ثم أراد بلال

أن يُقيم، فقال عبد الله بن زيد: يا رسولَ الله؛ أنا رأيتُ، أريد أن أقيم، قال: "فأقم"، فأقام هو، وأذَّن بلال، ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وفيها: جوازُ تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئاً، ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته، ولا يُناقِض هذا قوله فى الحديث الآخر: "إنَّا لَنْ نُوَلِّىَ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ"، فإن الصُّدائى إنما سأله أن يؤمِّره على قومه خاصة، وكان مطاعاً فيهم، محبَّباً إليهم، وكان مقصودُه إصلاحَهم، ودُعاءهم إلى الإسلام، فرأى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مصلحة قومِه فى توليته، فأجابه إليها، ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظِّ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها، فولَّى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليتُه للهِ، ومنعه لله.
وفيها: جواز شِكاية العمال الظَلَمة، ورفعهم إلى الإمام، والقدح فيهم بظلمهم، وأنَّ تركَ الولاية خيرٌ للمسلم مِن الدخول فيها، وأنَّ الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة، أُعطَى منها بقوله ما لم يظهر منه خلافُه.
ومنها: أنَّ الشخصَ الواحد يجوز أن يكون وحده صنفاً من الأصناف لقوله: " إنَّ الله جَزَّأَها ثَمانِيَة أَجْزاءٍ، فَإنْ كُنتَ جُزْءاً منها أعْطَيْتُكَ".

ومنها: جوازُ إقالةِ الإمامِ لولاية مَن ولاَّهُ إذا سأله ذلك.
ومنها: استشارةُ الإمام لذى الرأى مِن أصحابه فيمن يُولِّيه.
ومنها: جوازُ الوضوء بالماء المبارَك، وأن بركته لا تُوجب كراهةَ الوضوء منه، وعلى هذا فلا يُكره الوضوء مِن ماء زمزم، ولا مِن الماء الذى يجرى على ظهر الكعبة.. والله أعلم.
فصل: فى قدوم وفد غسَّان
وقدموا فى شهر رمضانَ سنةَ عشر، وهم ثلاثةُ نَفَر، فأسلمُوا وقالُوا: لا ندرى أيتبعُنا قومُنا أم لا؟ وهم يُحبُّون بقاءَ ملكهم، وقربَ قيصر، فأجازهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجوائز، وانصرفوا راجعين، فقدِمُوا على قومهم، فلم يستجيبُوا لهم، وكتمُوا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة، فأخبره بإسلامه، فكان يُكرمه.
فصل: فى قدوم وفد سَلامان
وقَدِمَ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد سَلامان سبعة نَفَر، فيهم حبيبُ ابن عمرو،

فأسلموا. قال حبيب: فقلت: أى رسول الله؛ ما أفضلُ الأعمالِ؟ قال: "الصَّلاةُ فى وَقْتِهَا". ثم ذكر حديثاً طويلاً، وصلُّوا معه يومئذ الظهر والعصر، قال: فكانت صلاةُ العصر أخفَّ مِن القيام فى الظهر، ثم شَكَوْا إليه جَدْبَ بِلادهم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده: "اللهُمَّ اسْقِهِمُ الغَيْثَ فى دَارِهم"، فقلتُ: يا رسول الله؛ ارفع يديك، فإنَّه أكثرُ وأطيبُ، فتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفع يديه حتى رأيتُ بياض إبطيه، ثم قام وقُمنا عنه، فأقمنا ثلاثاً، وضِيافتُه تجرى علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمسَ أواقٍ لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثرَ هذا وأطيَبه، ثم رحلنا إلى بلادنا، فوجدناها قد مُطِرَت فى اليومِ الَّذى دعا فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تلك الساعة.
قال الواقدى: وكان مقدمُهم فى شوَّال سنة عشر.
فصل: فى قدوم وفد بنى عَبْس
وقَدِمَ عليه وفدُ بنى عَبْس، فقالوا: يا رسولَ اللهِ؛ قَدِمَ علينا قُرَّاؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلامَ لمن لا هِجرة له، ولنا أموالٌ ومواشٍ، وهى معايشنا، فإن كان لا إسلامَ لمن لا هِجرة له، فلا خيرَ فى أموالنا، بعناها وهاجَرْنا من آخرنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا اللهَ حَيْثُ كُنْتُم، فَلَن يَلَتِكُمُ اللهُ مِنْ أعْمَالِكُم شَيْئاً" وسألهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن خالد بن سنان، هل له عَقِبٌ؟ فأخبروه أنه لا عَقِبَ له، كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحدِّث أصحابه عن خالد بن سنان، فقال: "نَبِىٌ ضَيَّعَهُ قَوْمُه".
فصل: فى قدوم وفد غامد
قال الواقدى: وقَدِمَ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ غامد سنة عشر، وهم عشرة، فنزلوا ببقيع الغَرْقَدِ، وهو يومئذ أثْلٌ وطرفاء، ثم انطلقُوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلَّفوا عند رَحْلهم أحدثَهم سِنّاً، فنام عنه، وأتى سارقٌ، فسرق عَيْبةً لأحدهم فيها أثوابٌ له، وانتهى القومُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلَّموا عليه، وأقرُّوا له بالإسلام، وكتب لهم كتاباً فيه شرائعُ مِن شرائع الإسلام، وقال لهم: "مَنْ خَلَّفْتُم فى رِحَالِكم"؟ فقالوا: أحدثَنا يا رسولَ الله، قال: "فإنَّه قَدْ نَامَ عَنْ مَتَاعِكُم حَتَّى أتى آتٍ فأَخَذَ عَيْبَةَ أحَدِكُم"، فقال أحدُ القوم: يا رسولَ اللهِ؛ ما لأحد من القوم عَيْبةٌ غيرى، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقَدْ أُخِذَتْ ورُدَّتْ إلى مَوْضِعِها"، فخرج القومُ سِراعاً حتى أتوا رَحْلهم، فوجدوا صاحِبَهم، فسألوه عما أخبرَهُم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فزعْتُ مِن نومى، ففقدتُ العَيْبَة، فقمتُ فى طلبها، فإذا رجل قد كان قاعداً، فلما رآنى، فثار يعدو منى، فانتهيتُ إلى حيث انتهى، فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غَيَّب العَيْبَة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنَّه رسول الله، فإنه قد أخبرنا بأخذها، وأنها قد رُدَّت، فرجعوا إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه، وجاء الغلامُ الذى خلَّفوه، فأسلم، وأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَىَّ بنَ كعب، فعلَّمهم قرآناً، وأجازهم كما كان يُجيز الوفود وانصرفوا.

فصل: فى قدوم وفد الأزد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذكر أبو نعيم فى كتاب "معرفة الصحابة"، والحافظ أبو موسى المدينى، من حديث أحمد بن أبى الحوارى، قال: سمعت أبا سليمان الدارانى قال: حدَّثنى علقمة بن يزيد بن سويد الأزدىّ، قال: حدَّثنى أبى عن جدى سويد بن الحارث قال: وفدتُ سابعَ سبعةٍ مِن قومى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما دخلنا عليه، وكلَّمناه، أعجبَه ما رأى مِن سمتنا وزِيِّنا، فقال: "ما أنْتُم"؟ قلنا: مؤمنون، فتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "إنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكُم وإيمَانِكم"؟ قلنا: خمسَ عشرة خَصْلة، خمسٌ منها أمرتنا بها رُسُلُك أن نُؤمِنَ بها، وخمسٌ أمرتنا أنْ نَعْمَلَ بها، وخمسٌ تخلَّقنا بها فى الجاهلية، فنحن عليها الآن، إلا أن تكره منها شيئاً، فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ومَا الخَمْسُ الَّتى أمَرتْكُم بها رُسُلى أنْ تُؤْمِنُوا بها"؟ قلنا: أمَرَتنا أن نُؤمِنَ باللهِ، وملائِكَتِه، وكتبه، ورُسُله، والبعثِ بعدَ الموت. قال: "ومَا الخَمْسُ التى أمَرْتُكُم أنْ تَعْمَلُوا بها"؟ قلنا: أمرتنا أن نقولَ: لا إله إلا الله، ونُقيمَ الصلاة، ونُؤتِىَ الزكاة، ونصومَ رمضان، ونحجَّ البيت الحرام مَن استطاع إليه سبيلاً، فقال: "وما الخَمْسُ الَّتِى تَخَلَّقْتُم بِها فى الجَاهِليَّة"؟ قالوا: الشكرُ عند الرخاء، والصبرُ عند البلاء، والرضا بمُرِّ القضاء، والصدق فى مواطن اللِّقاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُكَمَاءٌ عُلَمَاء كَادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أنْ يَكُونُوا أَنْبيَاء" ، ثم قال: "وأَنا أزِيدُكُم خَمْساً، فَتَتِمُّ لَكُم عِشْرُونَ خَصْلَةً،

إنْ كُنْتُم كما تَقُولُونَ، فَلا تَجْمَعُوا ما لاَ تَأكُلُونَ، ولا تَبْنُوا ما لا تَسْكُنون، ولا تُنافِسُوا فى شَىْءٍ أنتم عَنْه غَداً تَزُولُونَ، واتَّقُوا الله الذى إليه تُرْجَعُونَ وَعَلَيْهِ تُعْرَضُون، وارْغَبُوا فِيما عَلَيْهِ تَقْدمُونَ، وفيه تَخْلُدون "، فانصرف القوم من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحفظوا وصيته، وعملوا بها.
فصل: فى قدوم وفد بنى المُنْتَفِقِ على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل فى مسند أبيه، قال: كتب إلىَّ إبراهيم بنُ حمزة بن محمد بن حمزة بن مُصعب بن الزُّبَير الزُّبَيْرى: كتبتُ إليك بهذا الحديث، وقد عرضتُه وسمعته على ما كتبتُ به إليك، فحدِّث بذلك عنى، قال: حدَّثنى عبدُ الرحمن بن المغيرة الحِزامى، قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن عياش السَّمَعى الأنصارى، عن دَلْهم بن الأسود بن عبد الله ابن حاجب بن عامر بن المنتَفِق العقيل، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دَلهم: وحدَّثنيه أيضاً، أبى الأسود بن عبد الله، عن عاصم بن لقيط: أنَّ لقيط بن عامر، خرج وافِداً إلى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه صَاحِبٌ له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المُنْتَفِق، قال لقيط: فخرجتُ أنا وصاحبى حتَّى قَدِمنا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوافيناه حينَ انصرفَ من

صلاة الغداة، فقامَ فى النَّاسِ خطيباً، فقال : "أيُّها النَّاسُ؛ ألا إنِّى قَدْ خَبَّأْتُ لَكُم صَوْتِى مُنْذُ أرْبَعَة أيَّام، ألا لِتَسْمَعوا اليَوْمَ، ألاَ فَهَلْ مِنْ امْرِىءٍ بَعَثَهُ قَوْمُه فقالوا له: اعْلَمْ لَنَا ما يَقُولُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألاَ ثَمَّ رَجُلٌ لَعَلَّهُ يُلْهيه حَدِيثُ نَفْسِهِ أوْ حَدِيثُ صَاحِبِه أوْ يُلْهِيهِ ضَالٌ، أَلاَ إنِّى مَسْؤُولٌ هَلْ بَلَّغْتُ، ألاَ اسْمَعُوا تَعِيشوا، ألاَ اجْلِسُوا".
فجلس الناسُ، وقمت أنا وصاحبى حتى إذا فرغ لنا فؤادُه ونظره، قلت: يا رسول الله؛ ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لَعَمْرُ اللهِ، عَلِمَ أنى أبْتَغى السَّقْطَةَ، فقال: "ضَنَّ رَبُّكَ بِمَفَاتِيح خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاَّ الله"، وأشار بيده.
فقلت: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "عِلْمُ المَنِيَّة، قَدْ عَلِمَ مَتَى مَنيَّةُ أحَدِكُم ولا تَعْلَمُونَه، وعِلْمُ المَنِىِّ حِينَ يَكُونُ فى الرَّحِم قَدْ عَلِمَهُ ومَا تَعْلَمُونَهُ، وعِلْمُ ما فى غَدٍ قَدْ عَلِمَ مَا أَنْتَ طَاعِمٌ ولا تَعْلَمُه، وعِلْمُ يَوْمِ الغَيْثِ يُشرف عَليْكُم أزِلِين مُشْفِقيْن فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أنَّ غَوْثكُم إلى قَرِيبٍ".
قال لقيطٌ: فقلتُ: لن نَعْدَمَ مِن ربٍّ يضحكُ خيراً يا رَسُولَ اللهِ. قال: "وعِلْمُ يَوْمِ السَّاعَةِ".
قلنا: يا رَسولَ الله؛ علِّمنا مما تُعلِّم الناسَ وتعلم، فإنَّا مِن قبيل لا يُصدِّقون تصديقنا أحداً مِن مِذحج التى تربو علينا، وخثعم التى تُوالينا وعشيرتنا التى نحن منها.
قال: "تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ، ثُمَّ يُتَوَفَّى نَبِيُّكُم، ثُمَّ تَلْبَثُونَ مَا لَبِثْتُمْ، ثُمَّ تُبْعَثُ الصَّائِحةُ، فَلَعَمْرُ إلهِكَ ما تَدَعُ عَلى ظَهّرِها شَيْئاً إلا مَاتَ، والمَلائِكَةُ الَّذِينَ مَعَ رَبِّكَ، فأَصْبَحَ رَبُّكَ عَزَّ وجَلَّ يَطُوفُ فى الأرْضِ، وخَلَتْ عَلَيْهِ البِلادُ، فأَرْسَلَ رَبُّكَ السَّمَاءَ تَهْضِبُ مِنْ عِنْد العَرْش، فَلَعَمْرُ إلهِكَ ما تَدَعُ عَلى ظَهْرِهَا مِنْ مَصْرَعِ قَتِيلٍ، ولا مَدْفَنِ مَيِّتٍ إلا شَقَّت القَبْر عَنْهُ حَتَّى تَخْلُفَهُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِه فَيَسْتَوِى جالِساً، فيَقُولُ رَبُّك: مَهْيَم، لما كان فيه يقول: يَا رَبِّ، أمْسِ، اليوم، لعهده بالحياة، يحسبه حديثاً بأهله".
فقلتُ: يا رسولَ الله؛ فكيف يجمعُنا بعد ما تمزِّقنا الرياحُ والبِلَى والسِّباعَ؟

قال: "أُنْبئُكَ بِمثل ذلِكَ فى آلاءِ الله: الأرْضُ أشْرَفْتَ عليها وهىَ فى مَدَرة بَالِيةِ" فقلتَ: لا تحيى أبداً، ثم أرْسَلَ اللهُ عَلَيْهَا السَّمَاء، فلَمْ تَلْبثْ عَلَيك إلاَّ أيًَّاماً حَتَّى أشْرَفْتَ عَلَيْهَا وهى شَرْبَةٌ واحِدَةٌ، ولَعَمْرُ إلهِكَ لَهُوَ أقْدَرُ على أن يَجْمَعَكُم مِنَ المَاءِ عَلى أَنْ يَجْمَعَ نَباتَ الأرْضِ فتَخْرُجونَ مِنَ الأصْواءِ، ومِنْ مَصارِعِكُم، فتنظُرُونَ إلَيْهِ ويَنْظُرُ إليكُم".
قال: قلتُ: يا رسولَ الله؛ كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟
قال: "أُنْبئُك بمثل هذا فى آلاءِ الله: الشَّمْسُ والقَمَرُ آيةٌ منه صَغِيرَةٌ تَرَونَهُما وَيَرَيَانِكُمْ سَاعَةً واحِدَةً ولا تُضارُّون فى رُؤْيَتهما، ولَعَمْرُ إلهكَ لهوَ أقدرُ على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما ويريانكم لا تضارُّون فى رؤيتهما".
قلت: يا رسولَ اللهِ؛ فما يفعل بنا ربُّنا إذا لقيناه؟ قال: "تُعْرَضُونَ عليه بادِيَةً له صَفَحَاتُكم لا يخْفى عليه منكم خَافِيةٌ، فيأْخُذُ رَبُّكَ عَزَّ وجَلَّ بيدِهِ غُرْفَةً من ماءٍ، فيَنْضَحُ بها قِبلَكُم، فَلَعَمْرُ إلهكَ ما يُخْطئ وَجْه أحَدٍ منكم منها قَطْرَة، فأمَّا المُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ البَيْضَاءِ، وأَمَّا الكَافِرُ فَتَنْضَحُه أو قال: فتخطَمُه بمثل الحُمَم الأسْود، ألا ثم يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ ويَفْتَرِقُ على أثَرِهِ الصَّالِحُونَ فَيَسْلُكون جِسْراً مِنَ النَّارِ يَطَأُ أَحَدُكُم الجَمْرَة يقول: حِسِّ، يقول رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ: أو أَنه، ألا فَتَطلعون على حَوْضِ نَبيِّكُم عَلى أَظْمَأِ واللهِ نَاهِلَة قَطُّ ما رَأَيتُها، فَلَعَمْرُ إلهكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُم يَدَهُ إلاَّ وقَعَ عليها قَدَحٌ يُطَهِّرُه مِنَ الطَّوْفِ، والبَوْلِ، والأذى، وتُخنس الشَّمْسُ والقَمَرُ فلا تَرَوْنَ منهما واحداً".
قال: قلتُ: يا رسول الله؛ فبمَ نبصر؟ قال: "بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتك هذِهِ، وذَلِكَ قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ فى يَوْمٍ أَشْرَقَت الأَرْضُ وواجَهَتْ بِه الجِبالَ".
قال: قلتُ: يا رسولَ الله؛ فبم نُجزَى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِها، والسَّيِّئَةُ بِمِثْلِها إلاَّ أَنْ يَعْفُوَ".
قال: قلتُ: يا رسول الله؛ ما الجنَّةُ وما النارُ؟

قال: "لَعَمْرُ إلهكَ إنَّ النَّارَ لها سَبْعَة أَبْوابٍ مَا مِنْها بَابَانِ إلاَّ يًسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَاماً، وإنَّ الجَنَّة لها ثَمَانِيَةُ أبوابٍ ما منها بَابَانِ إلاَّ يَسِيرُ الرَّاكِبُ بينهما سَبْعِينَ عَاماً".
قلتُ: يا رسول الله؛ فعلام نطلع من الجنَّة؟ قال: "على أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ ما بِهَا صُداعٌ ولا نَدَامَةٌ، وأَنْهارٍ مِنْ لَبَنٍ ما يَتَغَيَّرُ طَعْمُه، ومَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وفاكِهةٍ، ولَعَمْرُ إلهكَ مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٌ مِنْ مِثلِهِ مَعَهُ وأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ".
قلت: يا رسول الله؛ أوَ لنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: "المُصْلِحاتُ لِلصَّالِحِين" وفى لفظ: "الصالِحاتُ لِلصَّالِحِينَ" تَلَذُّونَهُنَّ ويَلَذُّوَنكُم مثلَ لذَّاتكم فى الدُّنْيا غَيْرَ أنْ لا تَوَالُد".
قال لقيط: فقلت: يا رسول الله؛ أقصى ما نحنُ بالغون ومنتهون إليه؟ فلم يُجبه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: قلتُ: يا رسولَ الله؛ علام أبايُعك؟ فبسط النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده، وقال : "عَلى إقام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاةِ، وزِيالِ المُشْرِكِ، وَأنْ لا تُشْرِكَ باللهِ إلهاً غَيْرَهُ".
قال: قلت: يا رسولَ الله؛ وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده، وظنَّ أنى مشترط ما لا يُعطينيه، قال: قلتُ: نحلُّ منها حيث شئنا، ولا يجنى امرؤٌ إلا على نفسه، فبسط يده، وقال: "لك ذلك تَحِلُّ حَيْثُ شِئْتَ، ولا يَجْنِى عَلَيْكَ إلاَّ نَفْسُكَ"، قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: "ها إنَّ ذَيْن، ها إنَّ ذَيْن مَرَّتين لَعَمْرُ إلهك مِن أتقى الناسِ فى الأُولى والآخِرَة"، فقال له كعب بن الخدرية أحدُ بنى بكر بن كلاب: مَنْ هُمْ يا رسولَ اللهِ؟ قال: "بنو المنتفِق، بنو المنتفِق، بنو المنتفِق، أهل ذلك منهم".
قال: فانصرفنا، وأقبلتُ عليه، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ هل لأحد ممن مضى من خير فى جاهليتهم؟ فقال رجل مِن عُرْضِ قريش: واللهِ إنَّ أباكَ المنتفِق لفى النار، قال: فكأنه وقع حرٌ بينَ جِلد وجهى ولحمه مما قال لأبى على رؤوس الناس، فهممتُ أن أقول: وأبوك يا رسولَ الله؟ ثم إذا الأخرى أجمل، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ وأهلك؟ قال: "وأَهْلى

لَعَمْرُ اللهِ، حَيْثُ ما أَتَيْتَ على قَبْرِ عامِرىٍّ، أو قُرَشى من مشرك قُلْ: أرسلنى إليك مُحَمَّدٌ، فأُبَشِّرُكَ بما يَسُوؤُكَ، تُجَرُّ عَلى وجْهِكَ وبَطْنِكَ فى النَّارِ".
قال: قلتُ: يا رسولَ الله؛ وما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يُحسنون إلا إياه، وكانوا يَحسِبُون أنهم مصلحون؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ بَعَثَ فى آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيّاً، فمَن عَصى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، ومَنْ أطاع نَبِيَّهُ كان مِنَ المُهْتَدِين".
هذا حديث كبير جليل، تُنادى جلالتُه وفخامتُه وعظمتُه على أنه قد خرج مِن مِشكاة النُّبوة، لا يُعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدنى، رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزُّبَيْرى، وهما من كبار علماء المدينة، ثقتان محتجٌ بهما فى الصحيح، احتجَّ بهما إمامُ أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخارى، ورواه أئمةُ أهل السُّنَّة فى كتبهم، وتلقَّوْه بالقبول، وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحدٌ منهم فيه، ولا فى أحد من رُواته.
فممن رواه: الإمام ابن الإمام، أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل فى مسند أبيه، وفى كتاب "السُّنَّة" وقال: كتب إلىَّ إيراهيمُ بن حمزة ابن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزُّبَيْر الزُّبَيْرى: كتبتُ إليك بهذا الحديث، وقد عرضتُه، وسمعتُه على ما كتبتُ به إليك، فحدِّث به عنى.
ومنهم: الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عَمْرو بن أبى عاصم النبيل فى كتاب "السُّنَّة" له.

ومنهم: الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسَّال فى كتاب "المعرفة".
ومنهم: حافظُ زمانه، ومحدِّثُ أوانه، أبو القاسم سليمان بن أحمد ابن أيوب الطبرانى فى كثير من كتبه.
ومنهم: الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حَيَّان أبو الشيخ الأصبهانى فى كتاب "السُّنَّة".
ومنهم: الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده، حافظ أصبهان.
ومنهم: الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه.
ومنهم: حافظُ عصره، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهانى، وجماعة من الحُفَّاظ سواهم يطول ذكرهم.
وقال ابن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعانى، وعبد الله ابن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهلِ الدين جماعة مِن الأئمة منهم أبو زرعة الرازى، وأبو حاتم، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم يُنكِره أحد، ولم يتكلم فى إسناده، بل رَوَوْه على سبيل القبول والتسليم، ولا يُنْكِر هذا الحديثَ إلا جاحِدٌ، أو جاهل، أو مخالف للكتاب والسُّنَّة، هذا كلام أبى عبد الله بن منده.
وقوله: "تَهْضِبُ": أى تُمطر، و"الأَصْواءِ": القبور. و"الشَّربة" بفتح الراء الحوضُ الذى يجتمع فيه الماء، وبالسكون والياء: الحنظلة، يُريد أنَّ الماء قد كثر، فمن حيث شئت تشرب، وعلى رواية السكون والياء: يكون قد شبَّه الأرض بخُضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة واستوائها.

وقوله: "حسِّ": كلمة يقولُها الإنسانُ إذا أصابه على غفلة ما يحرِقُه أو يُؤلمه. قال الأصمعى: وهى مِثل أوه.
وقوله: "يقولُ ربُّك عَزَّ وجَلَّ: أو أنه". قال ابنُ قتيبة: فيه قولان؛ أحدهما: أن يكون "أنه" بمعنى "نعم". والآخر: أن يكون الخبر محذوفاً كأنه قال: أنتم كذلك، أو أنه على ما يقول. و"الطوف": الغائط. وفى الحديث: لا "يُصَلِّ أَحَدُكم، وهو يُدافِعُ الطَّوْفَ والبَوْلَ" و"الجسر": الضِّراط. وقوله: "فيقول ربك: مَهيم": أى: ما شأنُك وما أمرُك، وفيم كنتَ.
وقوله: "يُشرف عَليْكُم أزلين": الأزل بسكون الزاى الشدة، والأزل على وزن كَتِف: هو الذى قد أَصَابه الأزل، واشتد به حتى كاد يقنَطُ.
وقوله: "فَيَظَلُّ يَضْحَكُ" هو من صفات أفعَاله سبحانه وتعالى التى لا يُشبهه فيها شىءٌ مِن مخلوقاته، كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة فى أحاديث كثيرة لا سبيلَ إلى ردها، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها، وكذلك: "فأصبح ربك يطوفُ فى الأرضِ"، هو من صفات فعله، كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ}، {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} ، و"ينْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيا"، و"يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُبَاهِى بِأَهْلِ المَوْقِفِ المَلائِكَةَ"، والكلام فى الجميع صراط واحد مستقيم، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل.
وقوله: "والملائكة الذين عند ربك": لا أعلم موت الملائكة جاء فى حديث صريح إلا هذا، وحديث إسماعيل بن رافع الطويل، وهو حديث الصُّور، وقد يُستدل عليه بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ اللهُ}[الزمر: 68]

وقوله: "فلَعَمْر إلهك". هو قَسم بحياة الرب جَلَّ جلالُه، وفيه دليل على جوازِ الإقسام بصفاته، وانعقادِ اليمين بها، وأنها قديمة، وأنه يُطلق عليه منها أسماء المصادر، ويُوصف بها، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء، وأن الأسماء الحُسْنَى مشتقة مِن هذه المصادر دالة عليها.
وقوله: "ثم تجىء الصائحة": هى صيحة البعث ونفخته.
وقوله: "حتى يخلفه مِن عند رأسه": هو من أخلف الزرعُ: إذا نبت بعد حصاده، شبَّه النشأة الآخرة بعد الموت بإخلاف الزرع بعد ما حُصِد، وتلك الخلفة مِن عند رأسه كما ينبت الزرع.
وقوله: "فيستوى جالساً": هذا عند تمام خِلقته وكمال حياته، ثم يقومُ بعد جلوسه قائماً، ثم يُساق إلى موقف القيامة إما راكباً وإما ماشياً.
وقوله: "يقول: يارب أمس، اليوم"، استقلال لمدة لبثه فى الأرض، كأنه لبث فيها يوماً، فقال: أمس، أو بعضَ يوم، فقال: اليوم، يحسب أنه حديثُ عهد بأهله، وأنه إنما فارقهم أمسِ أو اليوم.
وقوله: "كيف يجمعُنا بعد ما تمزِّقنا الرياحُ والبِلَى والسِّباع"؟ وإقرار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له على هذا السؤال، رد على مَن زعم أنَّ القوم لم يكونوا يخوضُون فى دقائق المسائل، ولم يكونوا يفهمون حقائقَ الإيمان، بل كانوا مشغولين بالعمليات، وأن أفراخ الصابئة، والمجوس مِن الجهمية والمعتزلة والقَدَرية أعرفُ منهم بالعلميات.
وفيه دليل على أنهم كانوا يُورِدُون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يُشْكِلُ عليهم من الأسئلة والشبهات، فيُجيبهم عنها بما يُثْلِجُ صدورهم، وقد أورد عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسئلة أعداؤه وأصحابه، أعداؤه: للتعنت والمغالبة، وأصحابه: للفهم والبيان وزيادة الإيمان، وهو يُجيب كُلاً عن سؤاله إلا ما لا جواب

عنه، كسؤاله عن وقت الساعة، وفى هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبد بعد ما فرَّقها، وينشئها نشأة أُخرى، ويخلقه خلقاً جديداً كما سمَّاه فى كتابه، كذلك فى موضعين منه. وقوله: "أنبئك بمثل ذلك فى آلاء الله"، آلاؤه: نِعمه وآياتُه التى تعرَّف بها إلى عباده.
وفيه: إثبات القياس فى أدلة التوحيد والمعاد، والقرآن مملوء منه.
وفيه: أنَّ حكمَ الشئ حكمُ نظيره، وأنَّه سبحانه إذا كان قادراً على شىء، فكيف تعجِزُ قدرتُه عن نظيره ومثله؟ فقد قرر اللهُ سبحانه أدلة المعاد فى كتابه أحسنَ تقرير وأبينَه وأبلغَه، وأَوصلَه إلى العقول والفِطر، فأبى أعداؤه الجاحدون إلا تكذيباً له، وتعجيزاً له، وطعناً فى حِكمته، تعالى عما يقولون عُلواً كبيراً.
وقوله فى الأرض: "أشرفت عليها، وهى مدرة بالية". هو كقوله تعالى: {وَيُحْيْى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها}[الروم: 19]. وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[فصلت: 39]، ونظائره فى القرآن كثيرة.
وقوله: "فتنظرون إليه وينظر إليكم"، فيه إثبات صفة النظر للهِ عَزَّ وجَلَّ، وإثباتُ رؤيته فى الآخرة.
وقوله: "كيف ونحن ملءُ الأرض وهو شخص واحد"، قد جاء هذا فى هذا الحديث، وفى قوله فى حديث آخر: "لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ" والمخاطَبون بهذا قوم عرب يعلمون المرادَ منه، ولا يقع فى قلوبهم تشبيهُه سبحانه بالأشخاص، بل هم أشرفُ عقولاً، وأصحُّ أذهاناً، وأسلمُ قلوباً من ذلك، وحقق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوعَ الرؤية عَيَاناً برؤية الشمس والقمر

تحقيقاً لها، ونفياً لتوهم المجاز الذى يظنه المعطِّلون.
وقوله: "فيأخذ ربك بيده غُرْفَةً من الماء فينضَحُ بها قِبَلكم"، فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله، وإثبات الفعل الذى هو النضحُ، و"الَّريْطة": الملاءة. و"الحُمَم": جمع حُمَمة، وهى الفحمة.
وقوله: "ثم يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ"، هذا انصراف من موقف القيامة إلى الجنَّة.
وقوله: "وَيْفترِقُ على أثَرِهِ الصَّالِحُونَ": أى يفزعون ويمضون على أثره.
وقوله: "فَتَطلعون على حَوْضِ نَبيِّكُم": ظاهر هذا أنَّ الحوض من وراء الجِسرِ، فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعوا الجسر، وللسَّلَف فى ذلك قولان حكاهما القرطبى فى "تذكرته"، والغزالى، وغلَّطا مَن قال: إنه بعد الجسر، وقد روى البخارى: عن أبى هريرة، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "بَيْنا أنَا قَائِمٌ على الحَوْضِ إذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إذا عَرَفْتُهُم خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنى وبَيْنهِم، فقال لهم: هَلُمَّ، فقلتُ: إلى أين؟ فقال: إلى النَّارِ واللهِ، قلتُ: ما شأنهم؟ قال: إنَّهُم ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِم، فَلا أرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُم إلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَم". قال: فهذا الحديث مع صحته أدلُّ دليل على أن الحَوْض يكون فى الموقف قبل الصِّراط، لأن الصِّراط إنما هو جسر ممدود على جهنم، فمن جازه سلم من النار.
قلتُ: وليس بين أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعارض ولا تناقض ولا اختلاف، وحديثُه كُلُّه يُصدِّقُ بعضه بعضاً، وأصحابُ هذا القول

إن أرادوا أن الحَوْض لا يُرَى ولا يُوصَل إليه إلا بعد قطع الصِّراط، فحديث أبى هريرة هذا وغيره يردُّ قولَهم، وإن أرادوا أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراط وقطعوه بدا لهم الحَوْضُ فشربوا منه، فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا، وهو لا يُناقض كونَه قبل الصِّراط، فإن قوله: "طولُه شهر، وعرضُه شهر"، فإذا كان بهذا الطول والسعة، فما الذى يُحيل امتدادَه إلى وراء الجسر، فيرده المؤمنون قبل الصِّراط وبعدَه، فهذا فى حيز الإمكان، ووقوعه موقوفٌ على خبر الصادق.. والله أعلم.
وقوله: "على أَظْمَأِ واللهِ ناهِلَة قَطُّ": الناهلة: العطاش الواردون الماء، أى: يردونه أظمأ ما هم إليه، وهذا يُناسِب أن يكون بعد الصِّراط، فإنه جسرُ النار، وقد وردوها كُلُّهم، فلما قطعوه، اشتد ظمؤُهم إلى الماء، فوردوا حوضَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما وردوه فى موقف القيامة.
وقوله: "تُخنس الشَّمْسُ والقَمَرُ": أى: تختفيان فتحتبسان، ولا يُريان، والاختناس: التوارى والاختفاء، ومنه: قول أبى هريرة: فانخنستُ منه.
وقوله: "ما بين البابين مسيرةُ سبعين عاماً"، يحتمِلُ أن يُريد به أنَّ ما بين الباب والباب هذا المقدار، ويحتمِلُ أن يريد بالبابين المصراعين، ولا يُناقِضُ هذا ما جاء مِن تقديره بأربعين عاماً لوجهين؛ أحدهما: أنه لم يُصرِّحْ فيه راويه بالرفع، بل قال: ولقد ذُكِرَ لنا أنَّ ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً. والثانى: أنَّ المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبطئه.. والله أعلم.
وقوله فى خمر الجنَّة: "أنه ما بها صُداعٌ ولا نَدَامةٌ"، تعريض بخمر الدنيا وما يلحقُها مِن صُداع الرأس، والندامة على ذهابِ العقلِ والمال،

وحصولِ الشر الذى يُوجبه زوالُ العقل. و"الماء غير الآسن": هو الذى لم يتغير بطول مكثه.
وقوله فى نساء أهل الجنَّة: "غَيْرَ أنْ لا تَوَالدُ": قد اختلف الناس، هل تلدُ نساءُ أهلِ الجنَّة؟ على قولين، فقالت طائفة: لا يكون فيها حبل ولا وِلادة، واحتجَّت هذه الطائفة بهذا الحديث، وبحديث آخر أظنه فى "المسند" وفيه: "غير أن لا مَنِىّ ولا مَنِيَّة"، وأثبتت طائفة من السَّلَف، الوِلادة فى الجنَّة، واحتجَّت بما رواه الترمذى فى "جامعه" من حديث أبى الصِّدِّيق الناجى، عن أبى سعيد قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المُؤمِنُ إذا اشْتَهَى الوَلَدَ فى الجَنَّةِ كَانَ حَمْلُه وَوَضْعُهُ وسِنُّه فى سَاعَةٍ كَما يَشْتَهِى". قال الترمذى: حسن غريب، ورواه ابن ماجه.
قالت الطائفة الأولى: هذا لا يدل على وقوع الولادة فى الجنَّة، فإنه علَّقه بالشرط، فقال: "إذا اشتهى"، ولكنه لا يشتهى، وهذا تأويل إسحاق ابن راهويه، حكاه البخارى عنه. قالوا: والجنَّةُ دارُ جزاء على الأعمال، وهؤلاء ليسوا من أهل الجزاء، قالوا: والجنَّة دارُ خلود لا مَوتَ فيها، فلو توالد فيها أهلُها على الدوام والأبد، لما وسعتهم، وإنما وسعتهم الدنيا بالموتِ.

وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كُلِّه وقالت: "إذا" إنما تكون لمحقَّقِ الوقوع، لا المشكوك فيه، وقد صحَّ أنه سبحانه يُنشئ للجنَّة خَلْقاً يُسكنهم إياها بلا عمل منهم، قالوا: وأطفالُ المسلمين أيضاً فيها بغير عمل. وأما حديث سعتها: فلو رُزِقَ كُلُّ واحد منهم عشرة آلاف من الولد وَسِعَتهم، فإن أدناهم مَن ينظر فى ملكه مسيرة ألفى عام.
وقوله: "يا رسول الله؛ أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه"، لا جواب لهذه المسألة، لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها، فلا يعلمه إلا الله، وإن أراد: أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنَّة والنار، فلا تعلم نفس أقصى ما ينتهى إليه من ذلك، وإن كان الانتهاء إلى نعيم وجحيم، ولهذا لم يُجبه النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله فى عقد البَيْعة: "وزيال المشرك": أى: مفارقته ومعاداته، فلا يُجاورُه ولا يُواليه كما جاء فى الحديث الذى فى السنن: "لا تراءى ناراهما"، يعنى المسلمين والمشركين.
وقوله: "حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلنى إليك محمد": هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغُ أمر ونهى، وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم، ودليلٌ على أنَّ مَن مات مشركاً فهو فى النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانُوا قد غيَّروا الحنيفية دينَ إبراهيم، واستبدلوا بها الشِّرك، وارتكبوه، وليس معهم حُجَّة من

الله به، وقبحُه والوعيدُ عليه بالنار لم يزل معلوماً مِن دين الرُّسُل كُلِّهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبارُ عقوباتِ الله لأهله متداولة بين الأُمم قرناً بعد قرن، فللَّه الحُجَّة البالغة على المشركين فى كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فَطَرَ عَبَادَه عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لِتوحيد إلهيته، وأنه يستحيلُ فى كل فِطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يُعذِّب بمقتضى هذه الفِطرة وحدَها، فلم تزل دعوةُ الرُّسُل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرُّسُل، والله أعلم.
فصل: فى قدوم وفدِ النَّخْع على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقَدِمَ عليه وَفْدُ النَّخْعِ، وهُمْ آخِرُ الوفود قدوماً عليه فى نصف المحرَّم سنةَ إحدى عشرةَ فى مِائتى رجل، فنزلُوا دارَ الأضيافِ، ثم جاؤوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرِّينَ بالإسلام، وقد كانُوا بايعوا معاذَ بن جبل، فقال رجل منهم، يقال له "زُرارة بن عَمْرو": يا رسولَ الله؛ إنى رأيتُ فى سفرى هذا عجَباً، قال: "وما رأيتَ"؟ قال: رأيتُ أتاناً تركتُها فى الحىِّ كأنها ولدت جدياً أسفَع أحوَى، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَرَكْتَ أمَةً لَكَ مُصِرَّةً عَلى حَمْلٍ"؟ قال: نعم، قال: "فإنَّها قَدْ وَلَدَتْ غُلاماً وهُوَ ابْنُكَ"، قال: يا رسولَ الله؛ فما بالُه أسفعَ أحوى؟ فقال: "ادْنُ

مِنِّى"، فدنا منه، فقال: "هَلْ بِكَ مِنْ بَرَصٍ تَكْتُمه"؟، قال: والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ مَا عَلِمَ بِهِ أحَدٌ، ولا اطلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُكَ، قال: "فَهُوَ ذلِكَ"، قال: يا رسول الله؛ ورأيتُ النُّعمان بن المنذر عليه قُرطان مُدَملجَانِ ومَسكتان، قال: "ذلكَ مَلِكُ العَرَبِ، رَجَعَ إلى أحْسَن زِيِّهِ وبَهْجَتِهِ"، قال: يا رسولَ الله؛ ورأيتُ عجوزاً شمطاء قد خرجت من الأرض، قال: "تِلْكَ بَقِيَّةُ الدُّنْيَا"، قال: ورأيتُ ناراً خرجت من الأرض، فحالَتْ بينى وبين ابنٍ لى يُقال له: "عمرو" وهى تقولُ: لَظَى لَظَى، بصير، وأعمى، أطعمونى آكلُكم أهلَكم ومالَكم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِلْكَ فِتْنَةٌ تَكُونُ فى آخِر الزَّمان" قال: يا رسول الله؛ وما الفتنةُ؟ قال: "يَقْتُلُ النَّاسُ إمَامَهُمْ، ويَشْتَجِرُونَ اشْتِجَارَ أطْبَاقِ الرَّأْس" وخالفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أصابعه "يَحسبُ المسئُ فيها أنه محسن، ويكُونُ دَمُ المُؤمِن عِنْدَ المُؤْمِن فيها أَحْلَى مِنْ شُرْبِ المَاءِ، إنْ مَاتَ ابنُكَ أدْركْتَ الفِتْنَة، وإن مِتَّ أنت أدْرَكَها ابْنُك" فقال: يا رسولَ الله؛ ادعُ الله أن لا أدركها، فقالَ له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهُمَّ لا يُدْرِكُها"، فمات وبقى ابنه، وكان ممن خلعَ عثمان.

فصل: ذكر هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مكاتباته إلى الملوك وغيرهم
ثبت فى "الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كتب إلى هِرَقل: "بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّوم، سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبعَ الهُدى، أمَّا بَعْدُ: فَإنى أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإنْ تَوَلَّيْتَ، فَإنَّ عَلَيك إثْمَ الأرِيسِّيينَ، و{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ، فَإن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران: 64]".
وكَتَبَ إلى كِسْرَى: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى وآمَنَ باللهِ وَرَسُولِهِ، وشَهدَ أنْ لاَ إله إلاَّ الله وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُهُ، أدْعُوكَ بِدِعَايَة اللهِ، فإنى أنا رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكَافِرِينَ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إثْمُ المَجُوسِ"،

فلما قُرِىءَ عليه الكتابُ، مزَّقه، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "مزَّقَ اللهُ مُلْكَه".
وكتبَ إلى النَّجاشى: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى النَّجاشِى مَلِكِ الحَبَشَةِ، أَسْلِم أنْتَ، فإنى أحْمَد إلَيْكَ اللهَ الذى لا إله إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ، وأَشْهَدُ أنَّ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ رُوحُ اللهِ وكَلِمتُهُ ألقَاهَا إلى مَرْيمَ البَتُولِ الطَّيِّبَةِ الحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعيسى، فَخَلَقَهُ الله مِنْ رُوحِهِ ونفخه، كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيدِهِ، وإنى أدْعُوكَ إلى اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، والمُوالاَة عَلى طَاعَتِه، وأَنْ تَتَّبِعنى، وتُؤمِنَ بالَّذِى جَاءَنى، فَإنى رَسُولُ اللهِ، وإنى أدْعُوكَ وجُنُودَكَ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وقَدْ بَلَّغْتُ ونَصَحْتُ، فاقبَلُوا نَصيحَتى، وَالسَّلاَمُ عَلى مَنِ اتَّبعَ الهُدَى" ، وبعث بالكتاب مع عَمْرو بن أُميَّة الضَّمْرِى، فقال ابن إسحاق: إن عَمْراً قال له: يا أصحَمة؛ إن علىَّ القولَ وعليكَ الاستِمَاع، إنَّك كأنك فى الرِّقةِ علينا، وكأنَّا فى الثقة بك منك، لأنَّا لم نَظُنَّ بكَ خَيراً قطُّ إلا نِلناه، ولم نَخَفْكَ على شئ قطُّ إلا أمِنَّاه، وقد أخذنا الحُجَّة عليك مِن فيك، الإنجيلُ بيننا وبينك شاهدٌ لا يُرَد، وقاض لا يجُور، وفى ذلك موقع الحَزِّ وإصابة المَفْصِل، وإلا فأنتَ فى هذا النبى الأُمِّى كاليهود فى عيسى ابن مريم، وقد فرَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلَه إلى الناس، فرجاك لما لم يَرْجُهم له، وأمَّنك على ما خافهم عليه بخير سالف وأجر يُنتظر، فقال النجاشى: أشهدُ باللهِ أنَّه

النبىُّ الأُمِّى الذى ينتظِرهُ أهلُ الكتاب، وأن بِشارةَ موسى براكب الحِمَار، كبشارةِ عيسى براكب الجمل، وأنَّ العِيان ليس بأشفى مِن الخبر، ثم كتب النجاشىُّ جوابَ كتاب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلى محمد رسول اللهِ، من النجاشى أصحمة، سلامٌ عليك يا نبىَّ الله من الله ورحمةُ الله وبركاته، الله الذى لا إله إلا هُوَ، أما بعد: فقد بلغنى كِتابُك يا رسولَ الله فيما ذكرتَ مِن أمر عيسى، فوربِّ السماءِ والأرضِ، إنَّ عيسى لا يزيدُ على ما ذكرتَ ثُفْروقاً إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابه، فأشهدُ أنَّك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتُك، وبايعتُ ابنَ عمك، وأسلمتُ على يديه للهِ رب العالمين".
والثُفْروق: عِلاقة ما بين النواة والقشرة.
وتوفى النجاشىُّ سنةَ تسع، وأُخبر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموته ذلك اليوم، فخرج بالناسِ إلى المصلَّى، فصلَّى عليه، وكبَّرَ أربعاً.
قلت: وهذا وهم والله أعلم وقد خلط راويه، ولم يُميِّز بينَ النجاشىِّ الذى صلَّى عليه، وهو الذى آمنَ به وأكرمَ أصحَابه، وبينَ النجاشىِّ الذى كتب إليه يدعوه، فهما اثنانِ، وقد جاء ذلك مبَّيناً فى "صحيح مسلم" أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى النجاشى، وليس بالذى صَلَّى عليه.

فصل
وكتب إلى المقوقِس مَلكِ مصرَ والإسكندرية: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسُولِه، إلى المُقَوْقِس عظِيمِ القِبْطِ، سَلامٌ على من اتَّبَعَ الهُدى، أما بَعْدُ: فإنى أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِم تَسْلَمْ، وأَسْلِم يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإنْ تَوَلَّيْتَ، فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ القِبْط {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ، فَإن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأنَّا مُسْلِمُونَ}[ آل عمران: 64]"، وبعث به مع حاطب بن أبى بَلتعة، فلما دخل عليه، قال له: إنه كان قبلَك رجلٌ يزعم أنه الربُّ الأعلى، فأخذه الله نكالَ الآخِرَةِ والأُولى، فانتقم به، ثم انتقمَ مِنه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرُك بك، فقال: إنَّ لنا دِيناً لن ندعَه إلا لما هو خيرٌ منه، فقال حاطب: ندعُوك إلى دِين الله، وهو الإسلام الكافى به الله فَقْدَ ما سِواه، إنَّ هذا النبى دعا الناسَ، فكان أشدَّهم عليه قريشٌ، وأعداهم له اليهودُ، وأقربَهم منه النصارى، ولعَمْرى ما بِشارةُ موسى بعيسى إلا كبِشَارَةِ عيسى بمحمد، وما دعاؤُنا إيَّاك إلى القرآن إلا كدُعائك أهلَ التوارةِ إلى الإنجيلِ، وكل نبىّ أدرك قوماً فَهُمْ مِن أُمَّتِه، فالحقُّ عليهم أن يُطيعوه، وأنتَ ممن أدركه هذا النبىُّ، ولسنا ننهاك عن دينِ المسيح، ولكنَّا نأمُرك به. فقال المقوقِسُ: إنى قد نظرتُ فى أمر هذا النبىِّ، فوجدتُه لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عَن مرغوبٍ فيه، ولم أجده بالساحِرِ الضَّالِ، ولا الكَاهِنِ الكَاذِب، ووجدتُ معه آيةَ النبوةِ بإخراج الخَبءِ، والإخبار بالنَّجوى، وسأنظر، وأخذ كتابَ

النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعله فى حُقٍّ مِنْ عَاجٍ، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتبُ بالعربية، فكتبَ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لمحمد ابن عبد الله، من المقوقِس عظيم القِبْطِ، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأتُ كتابَك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أن نبياً بقى، وكنتُ أَظن أنه يخرُج بالشام، وقد أكرمتُ رسولَك، وبعثتُ إليك بجاريتين لهما مكانٌ فى القِبْطِ عظيم، وبِكسوة، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك".
ولم يزد على هذا، ولم يُسلم، والجاريتان: مارية وسيرين، والبغلةُ دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية.
فصل
وكتب إلى المُنْذِر بن سَاوى، فذكر الواقدى بإسناده، عن عِكْرمة قال: وجدتُ هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته، فنسختُه، فإذا فيه: بعثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلاءَ بن الحضرم إلى المنذِر بن سَاوى، وكتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب المنذرُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما بعد: يا رسولَ اللهِ؛ فإنى قرأتُ كتابك على أهل البحرين، فمِنهم مَن أحبَّ الإسلامَ وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم مَن كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فَأَحْدِثْ إلىَّ فى ذلك أمرك"، فكتب إليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى المُنْذِر بن سَاوى، سَلامٌ عَلَيْكَ؛ فإنِّى أحمد إليك الله الذى لا إله إلاَّ هو، وأَشْهَدُ أَنْ لا إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُه، أمَّا بَعْدُ: فإنى أُذَكِّرُكَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، فإنَّه مَنْ

يَنْصَحْ فإنَّمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِه، وإنَّه مَنْ يُطِعْ رُسُلى، ويَتَّبِعْ أَمْرَهُم، فَقَدْ أطاعَنى، ومَنْ نَصَحَ لَهُمْ، فَقَدْ نَصَحَ لى، وإنَّ رُسُلى قد أَثْنَوْا عَلَيْكَ خيراً، وإنى قَدْ شَفَعْتُكَ فى قَوْمِكَ، فاتْرُكْ لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وعَفَوْتُ عَنْ أَهْلِ الذُّنوبِ فاقْبَلْ مِنْهُم، وإنَّكَ مَهْما تَصْلُحْ، فلن نَعْزِلَكَ عن عَمَلِكَ، ومَنْ أقَامَ عَلى يَهُودِيَّةٍ أوْ مَجُوسِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الجِزْيَةُ".
فصل
وكتب إلى ملك عُمَانَ كتاباً، وبعثه مع عَمْرو بن العاص:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ بنِ عبد الله، إلى جَيْفَرٍ، وعَبْدٍ ابنى الجُلَنْدى، سَلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فإنى أَدْعُوكُما بدِعَايَةِ الإسْلام، أَسْلِما تَسْلَما، فإنِّى رسولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكَافِرِين، فإنَّكُما إنْ أقْرَرْتُمَا بالإسْلاَمِ ولَّيْتُكُمَا، وإن أبَيْتُما أنْ تُقِرَّا بالإسْلام، فإنَّ مُلْكَكُمَا زَائِلٌ عَنْكُمَا، وَخَيْلى تَحُلُّ بسَاحَتِكُمَا، وتَظْهَرُ نُبُوَّتى على مُلْكِكُمَا" ، وكتَب أُبَىُّ بن كعب، وختم الكتابَ.
قالَ عَمْرو: فخرجتُ حتى انتهيتُ إلى عُمَان، فلما قدمتها، عَمَدْتُ إلى عبد، وكان أحلمَ الرجلين وأسهلَهما خُلُقاً، فقلتُ: إنى رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليك، وإلى أخيك، فقال: أخى المقَدَّمُ علىَّ بالسِّنِّ والمُلك، وأَنا أُوصِلُك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت:

أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلَعَ ما عُبِدَ مِن دونه، وتشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. قال: يا عَمْرو؛ إنك ابنُ سيِّدِ قومك، فكيف صنع أبوك، فإنَّ لنا فيه قُدوة؟ قلتُ: مات ولم يُؤمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووَدِدْتُ أنه كان أسلم وصدَّق به، وقد كنتُ أنا على مثل رأيه حتى هدانى اللهُ للإسلام، قال: فمتى تبعتَه؟ قلتُ: قريباً، فسألنى: أين كان إسلامُك؟ قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم، قال: فكيف صنع قومُه بملكه؟ فقلت: أقروه واتَّبعوه، قال: والأساقفةُ والرهبانُ تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عَمْرو ما تقول، إنه ليس مِن خصلة فى رجل أفضحَ له مِن الكذب، قلت: ما كذبتُ، وما نستحِلُّه فى ديننا، ثم قال: ما أرى هِرقل علم بإسلام النجاشى، قلت: بلى. قال: بأى شىء علمتَ ذلك؟ قلت: كان النجاشىُّ يُخرِجُ له خَرْجاً، فلما أسلم وصدَّق بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: لا واللهِ، لو سألنى درهماً واحداً ما أعطيته، فبلغ هِرقلَ قوله، فقال له يَنَّاقُ أخوه: أتدعُ عبدك لا يُخرج لك خَرْجاً، ويدين دِيناً مُحَدَثاً؟ قال هِرقل: رجلٌ رَغِبَ فى دين فاختاره لنفسه ما أصنع به؟ واللهِ لولا الضنُّ بملكى لصنعتُ كما صنع، قال: انظر ما تقولُ يا عَمْرو، قلت: واللهِ صدقتُك. قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمرُ به، وينهى عنه؟ قلتُ: يأمر بطاعة الله عَزَّ وجَلَّ، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبِرِّ وَصِلة الرَّحِم، وينهى عن الظلم والعُدوان، وعن الزِّنَى، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسنَ هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يُتابعنى عليه، لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونُصدِّق به، ولكن أخى أضنُّ بملكه من أن يدَعَه ويصير ذَنَباً، قلت: إنه إن أسلم، ملَّكه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قومه، فأخذ الصدقة مِن غنيهم، فردَّها على فقيرهم. قال: إن هذا لخُلُق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرتُه بما فرض رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

من الصدقات فى الأموال حتى انتهيتُ إلى الإبل، قال: يا عَمْرو؛ وتُؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر، وتَرِد المياه؟ فقلت: نعم. فقال: واللهِ ما أُرى قومى فى بُعد دارهم، وكثرةِ عددهم يُطيعون بهذا، قال: فمكثتُ ببابه أياماً، وهو يصل إلى أخيه، فيُخبره كُلَّ خبرى، ثم إنه دعانى يوماً، فدخلتُ عليه، فأخذ أعوانُه بضَبُعىَّ، فقال: دعوه، فأُُرسلت، فذهبت لأجلِس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرتُ إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعتُ إليه الكتاب مختوماً، ففضَّ خاتَمه، وقرأ حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرقَّ منه، قال: ألا تُخبرنى عن قريش كيفَ صنعت؟ فقلت: تَبِعُوه إما راغبٌ فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومَن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هُدَى الله إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أعلم أحداً بقى غيرَك فى هذه الحَرجَة، وأنت إن لم تُسلِم اليومَ وتتبعه، يُوطئك الخيل، ويُبيدُ خَضْرَاءَكَ، فأسْلِمْ تَسْلَمْ، ويَسْتعمِلك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرِّجال. قال: دعنى يومى هذا، وارجع إلىَّ غداً، فرجعتُ إلى أخيه، فقال: يا عَمْرو؛ إنى لأرجو أن يُسْلِمَ إن لم يَضِنَّ بمُلكه. حتى إذا كان الغد، أتيتُ إليه، فأبى أن يأذن لى، فانصرفتُ إلى أخيه، فأخبرتُه أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه، فقال: إنى فكرتُ فيما دعوتَنى إليه، فإذا أنا أضعفُ العرب إن ملَّكتُ رجلاً ما فى يدى، وهو لا تبلغ خيلُه ههنا، وإن بلغت خيلُه ألْفَتْ قِتالاً ليس كقتال مَن لاقى. قلت: وأنا خارج غداً، فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه، فقال:ما نحنُ فيما قد ظهر عليه، وكُلُّ مَن أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلىَّ فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً، وصدَّقا النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخليا بينى وبينَ الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى

عوناً على مَن خالفنى.
فصل
وكتب النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صاحب اليمامة هَوْذَة بن على، وأرسل به مع سَليط بن عَمْرو العامرى: "بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى هَوْذَة بن علىّ، سَلامٌ عَلى من اتَّبعَ الهُدى، واعْلَمْ أنَّ دِينى سَيَظْهَرُ إلى مُنْتَهى الخُفِّ والحافِر، فأسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلْ لَكَ ما تَحتَ يَدَيْكَ"، فلمَّا قدم عليه سَليط بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختوماً، أنزله وحيَّاه، واقترأ عليه الكتاب، فردَّ رداً دونَ رد، وكتب إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أحسنَ ما تدعو إليه وأجمَله، والعربُ تهابُ مكانى، فاجعل إلىَّ بعض الأمر أتبعك". وأجاز سَلِيطاً بجائزة، وكساه أثواباً من نسج هَجَر، فَقَدِمَ بذلك كُلِّه على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره، وقرأ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابه، فقال: "لو سألنى سَيَابَةً من الأرض ما فعلتُ، بادَ وبادَ ما فى يديه". فلما انصرَفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتح، جاءه جبريلُ عليه السلام، بأن هَوْذَة قد مات، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَا إنَّ اليَمَامَةَ سَيَخْرُجُ بِهَا كَذَّابٌ يَتَنَبّأ، يُقْتَلُ بَعْدِى"، فقال قائل: يا رسول الله؛ مَن يقتُلُهُ؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنْتَ وأصحابُك" فكان كذلك.
وذكر الواقدى: أن أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى، كان عند هَوْذَة، فسأله عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: جاءنى كتابُه يدعونى إلى الإسلام،

فلم أجبه، قال الأركون: لِمَ لا تُجيبه؟ قال: ضننت بدينى وأنا ملك قومى، وإن تبعتُه لم أملك، قال: بلى واللهِ، لَئن تبعتَه ليُمَلِّكَنَّكَ، فإن الخِيرَة لك فى اتباعه، وإنه للنبى العربىُّ الذى بشَّر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل: محمد رسول الله.
فصل: فى كتابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحارث بن أبى شِمْرِ الغَسَّان
وكان بدمشق بغُوطتها، فكتب إليه كتاباً مع شجاع بن وهب مَرْجِعَه مِن الحُدَيْبِية: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى الحارث ابن أبى شِمْرٍ: سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبعَ الهُدَى، وآمَنَ باللهِ وصَدَّقَ، وإنى أدْعُوكَ إلى أن تُؤْمِنَ باللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يبقى لَكَ مُلْكُكَ" ، وقد تقدم ذلك.

بعونه تعالى ثم طبع الجزء الثالث من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الرابع وأوله فصل في الطب النبوي

فصل
الطب النبوى
وقد أتينا على جُمَلٍ من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المغازى والسير والبعوث والسرايا، والرسائل، والكتب التى كتب بها إلى الملوك ونوابهم.
ونحن نُتْبع ذلك بذكر فصول نافعة فى هَدْيه فى الطب الذى تطبَّب به، ووصفه لغيره، ونبيِّنُ ما فيه من الحِكمة التى تَعْجَزُ عقولُ أكثرِ الأطباء عن الوصول إليها، وأن نسبة طِبهم إليها كنِسبة طِب العجائز إلى طِبهم، فنقول وبالله المستعان، ومنه نستمد الحَوْل والقوة:
المرض نوعان: مرضُ القلوب، ومرضُ الأبدان. وهما مذكوران فى القرآن.
ومرض القلوب نوعان : مرض شُبهة وشك، ومرض شَهْوة وغَىٍّ، وكلاهما فى القرآن. قال تعالى فى مرض الشُّبهة: {فِى قُلُوبِهِم مََّّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}[البقرة: 10].
وقال تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً}[المدثر:31].
وقال تعالى فى حَقِّ من دُعى إلى تحكيم القرآن والسُّنَّة، فأبَى وأعرض: {وَإذَا دُعُواْ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النور: 48-50]، فهذا مرض الشُّبهات والشكوك.

وأما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ}[الأحزاب: 32]، فهذا مرض شَهْوة الزِّنَى.. والله أعلم.
وأمّا مرض الأبدان.. فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وََلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17][النور: 61]. وذكر مرض البدن فى الحج والصومِ والوضوء لسرٍّ بديع يُبيِّن لك عظمة القرآن، والاستغناءَ به لمن فهمه وعَقَله عن سواه، وذلك أن قواعد طِب الأبدان ثلاثة: حِفظُ الصحة، والحِميةُ عن المؤذى، واستفراغُ المواد الفاسدة. فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة فى هذه المواضع الثلاثة.
فقال فى آية الصوم: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: 184]، فأباح الفِطر للمريض لعذر المرض؛ وللمسافر طلباً لحفظ صِحته وقوته لئلا يُذْهِبهَا الصومُ فى السفر لاجتماع شِدَّةِ الحركة، وما يُوجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذى يخلف ما تحلَّل؛ فتخورُ القوة وتضعُف، فأباح للمسافر الفِطْرَ حفظاً لصحته وقوته عما يُضعفها.
وقال فى آية الحج: {فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك}[البقرة: 196]، فأباح للمريض، ومَن به أذَىً من رأسه، من قمل، أو حِكَّة، أو غيرهما، أن يحلِق رأسه فى الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التى أوجبت له الأذى فى رأسه باحتقانها تحتَ الشَّعر، فإذا حلق رأسه، تفتحت المسامُ، فخرجت تلك

الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يُقاس عليه كُلُّ استفراغ يؤذى انحباسُهُ.
والأشياء التى يؤذى انحباسها ومدافعتها عشرة: الدَّمُ إذا هاج، والمنىُّ إذا تبَّيغ، والبولُ، والغائطُ، والريحُ، والقىءُ، والعطاسُ، والنومُ، والجوعُ، والعطشُ. وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسُه داء من الأدواء بحسبه.
وقد نبَّه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخارُ المحتقِن فى الرأس على استفراغ ما هو أصعبُ منه؛ كما هى طريقةُ القرآن التنبيهُ بالأدنى على الأعلى.
وأما الحِمية.. فقال تعالى فى آية الوضوء: {وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء: 43][المائدة: 6]، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حِميةً له أن يُصيبَ جسدَه ما يُؤذيه، وهذا تنبيهٌ على الحِمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج، فقد أرشد سُبحانه عِباده إلى أُصول الطب، ومجامعِ قواعده، ونحن نذكرُ هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، ونبيِّنُ أنَّ هَدْيه فيه أكمل هَدْىٍ.
فأمَّا طبُّ القلوب.. فمسلَّم إلى الرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاحَ القلوب أن تكون عارِفة بربِّها، وفاطرِها، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وأن تكون مُؤثِرةً لمرضاته ومحابِّه، متجنِّبةً لمَنَاهيه ومَسَاخطه، ولا صحة لها ولا حياةَ ألبتةَ إلا بذلك، ولا سبيلَ إلى تلقِّيه إلا من جهة الرُّسل، وما يُظن من حصول صِحَّة القلب بدون اتِّباعهم، فغلط ممن يَظُنُّ ذلك، وإنما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشهوانية، وصِحَّتها وقُوَّتها، وحياةُ قلبه وصحته،

وقوته عن ذلك بمعزل، ومَن لم يميز بين هذا وهذا، فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره، فإنه منغمِسٌ فى بحار الظلمات.
فصل
وأمَّا طبُّ الأبدان.. فإنه نوعان:
نوعٌ قد فطر الله عليه الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه؛ فهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب، كطب الجوع، والعطش، والبرد، والتعب بأضدادها وما يُزيلها.
والثانى.. ما يحتاج إلى فكر وتأمل، كدفع الأمراض المتشابهة الحادثة فى المزاج، بحيثُ يخرج بها عن الاعتدال، إما إلى حرارة، أو بُرودة، أو يبوسة، أو رطوبة، أو ما يتركب من اثنين منها، وهى نوعان: إما مادية، وإما كيفية، أعنى إما أن يكون بانصِبَابِ مادة، أو بحدوث كيفية، والفرقُ بينهما أنَّ أمراضَ الكيفية تكون بعد زوال المواد التى أوجبتها، فتزولُ موادها، ويبقى أثرُها كيفية فى المزاج.
وأمراض المادة أسبابها معها تمدُّها، وإذا كان سببُ المرض معه، فالنظر فى السبب ينبغى أن يقع أولاً، ثم فى المرض ثانياً، ثم فى الدواء ثالثاً. أو الأمراض الآلية وهى التى تُخرِجُ العضو عن هيئته، إما فى شكل، أو تجويفٍ، أو مجرىً، أو خشونةٍ، أو ملاسةٍ، أو عددٍ، أو عظمٍ، أو وضعٍ، فإن هذه الأعضاء إذا تألَّفت وكان منها البدن سمى تألُّفها اتصالاً، والخروجُ عن الاعتدال فيه يسمى تفرقَ الاتصال، أو الأمراضِ العامة التى تعم المتشابهة والآلية.

والأمراضُ المتشابهة: هى التى يخرُج بها المزاجُ عن الاعتدال، وهذا الخروجُ يسمى مرضاً بعد أن يَضُرَّ بالفعل إضراراً محسوساً.
وهى على ثمانية أضرب: أربعة بسيطة، وأربعة مركَّبة، فالبسيطةُ: البارد، والحار، والرَّطب، واليابس. والمركَّبةُ: الحارّ الرَّطب، والحار اليابس، والبارد الرَّطب، والبارد اليابس، وهى إما أن تكون بانصباب مادة، أو بغير انصباب مادة، وإن لم يضر المرض بالفعل يُسمى خروجاً عن الاعتدال صحة.
وللبدن ثلاثةُ أحوال: حال طبيعية، وحال خارجة عن الطبيعية، وحال متوسطة بين الأمرين. فالأولى: بها يكون البدن صحيحاً، والثانية: بها يكون مريضاً. والحال الثالثة: هى متوسطة بين الحالتين، فإن الضد لا ينتقل إلى ضدِّه إلا بمتوسط، وسببُ خروج البدن عن طبيعته، إمَّا من داخله، لأنه مركَّب من الحار والبارد، والرطب واليابس، وإما من خارج، فلأن ما يلقاه قد يكونُ موافقاً، وقد يكون غيرَ موافق، والضررُ الذى يلحق الإنسان قد يكون من سوء المزاج بخروجه عن الاعتدال، وقد يكون مِن فساد العضو؛ وقد يكون من ضعف فى القُوَى، أو الأرواح الحاملة لها، ويرجع ذلك إلى زيادةِ ما الاعتدالُ فى عدم زيادته، أو نقصانُ ما الاعتدالُ فى عدم نقصانه، أو تفرُّقِ ما الاعتدالُ فى اتصاله، أو اتصالُ ما الاعتدالُ فى تفرُّقه، أو امتدادُ ما الاعتدالُ فى انقباضه؛ أو خروجِ ذى وضع وشكل عن وضعه وشكله بحيث يُخرجه عن اعتداله.
فالطبيب: هو الذى يُفرِّقُ ما يضرُّ بالإنسان جمعُه، أو يجمعُ فيه ما يضرُّه تفرُّقه، أو ينقُصُ منه ما يضرُّه زيادَته، أو يزيدُ فيه ما يضرُّه نقصُه، فيجلِب الصحة المفقودة، أو يحفظُها بالشكل والشبه؛ ويدفعُ العِلَّةَ الموجودة بالضد

والنقيض، ويخرجها، أو يدفعُها بما يمنع من حصولها بالحِمية، وسترى هذا كله فى هَدْى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شافياً كافياً بحَوْل الله وقُوَّته، وفضله ومعونته
فصل
فكان من هَدْيِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلُ التداوى فى نفسه، والأمرُ به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ولكن لم يكن مِن هَدْيه ولا هَدْى أصحابه استعمالُ هذه الأدوية المركَّبة التى تسمى "أقرباذين"، بل كان غالبُ أدويتهم بالمفردات، وربما أضافُوا إلى المفرد ما يعاونه، أو يَكْسِر سَوْرته، وهذا غالبُ طِبِّ الأُمم على اختلاف أجناسِها من العرب والتُّرك، وأهل البوادى قاطبةً، وإنما عُنى بالمركبات الرومُ واليونانيون، وأكثرُ طِبِّ الهند بالمفردات
وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوى بالغذاء لا يُعْدَل عنه إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يُعْدَل عنه إلى المركَّب.
قالوا: وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحِمية، لم يُحاوَلْ دفعه بالأدوية.قالوا: ولا ينبغى للطبيب أن يولعَ بسقى الأدوية، فإنَّ الدواء إذا لم يجد فى البدن داءً يُحلِّله، أو وجد داءً لا يُوافقه، أو وجد ما يُوافقه فزادت كميتهُ عليه، أو كيفيته، تشبَّث بالصحة، وعبث بها، وأربابُ التجارِب من الأطباء طِبُّهم بالمفردات غالباً، وهم أحد فِرَق الطبِّ الثلاث.
والتحقيقُ فى ذلك أن الأدوية من جنس الأغذية، فالأُمة والطائفة التى غالبُ أغذيتها المفردات، أمراضُها قليلة جداً، وطبُّها بالمفردات،

وأهلُ المدن الذين غلبتْ عليهم الأغذيةُ المركَّبة يحتاجون إلى الأدوية المركَّبة، وسببُ ذلك أنَّ أمراضَهم فى الغالب مركَّبةٌ، فالأدويةُ المركَّبة أنفعُ لها، وأمراضُ أهل البوادى والصحارى مفردة، فيكفى فى مداواتها الأدوية المفردة. فهذا برهانٌ بحسب الصناعة الطبية.
ونحن نقول: إن ههنا أمراً آخرَ، نسبةُ طِب الأطبَّاء إليه كنسبة طِبِّ الطُّرَقية والعجائز إلى طِبهم، وقد اعترف به حُذَّاقهم وأئمتُهم، فإنَّ ما عندهم من العلم بالطِّب منهم مَن يقول: هو قياس. ومنهم مَن يقول: هو تجربة. ومنهم مَن يقول: هو إلهامات، ومنامات، وحَدْسٌ صائب. ومنهم مَن يقول: أُخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية، كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذواتِ السموم تَعْمِدُ إلى السِّرَاج، فَتَلغ فى الزيت تتداوى به، وكما رؤيت الحيَّاتُ إذا خرجت مِن بطون الأرض، وقد عَشيت أبصارُها تأتى إلى ورق الرازيانج، فتُمِرُّ عيونها عليها. وكما عُهد مِن الطير الذى يحتقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذُكِرَ فى مبادئ الطب.
وأين يقع هذا وأمثالهُ من الوحى الذى يُوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم مِن الطب إلى هذا الوحى كنِسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل ههنا من الأدوية التى تَشفى من الأمراض ما لم يهتد إليها عقولُ أكابر الأطباء، ولم تصل إليها عُلومُهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتمادِه على اللهِ، والتوكلِ عليه، والالتجاء إليه، والانطراحِ والانكسارِ بين يديه، والتذلُّلِ له، والصدقةِ، والدعاءِ، والتوبةِ، والاستغفارِ، والإحسانِ إلى الخلق، وإغاثةِ الملهوف، والتفريجِ عن المكروب، فإنَّ هذه الأدوية قد جَرَّبْتها الأُممُ على اختلاف أديانها ومِللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لا يصل

إليه علمُ أعلم الأطباء، ولا تجربتُه، ولا قياسُه.
وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أُموراً كثيرةً، ورأيناها تفعلُ ما لا تفعل الأدويةُ الحسِّيَّة، بل تَصيرُ الأدوية الحسِّيَّة عندها بمنزلة الأدوية الطُّرَقية عند الأطباء، وهذا جارٍ على قانون الحِكمة الإِلَهية ليس خارجاً عنها، ولكن الأسباب متنوعة، فإن القلبَ متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبِّر الطبيعة ومُصرِّفها على ما يشاء كانت له أدويةٌ أُخرى غير الأدوية التى يُعانيها القلبُ البعيدُ منه المُعْرِضُ عنه، وقد عُلِمَ أنَّ الأرواحَ متى قويت، وقويتْ النفسُ والطبيعةُ تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف يُنكر لمن قويت طبيعتُه ونفسُه، وفرحت بقُربها مِن بارئها، وأُنسِها به، وحُبِّها له، وتنعُّمِها بذِكره، وانصرافِ قواها كُلِّها إليه، وجَمْعِها عليه، واستعانتِها به، وتوكلِها عليه، أن يكونَ ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن توجب لها هذه القوةُ دفعَ الألم بالكلية، ولا يُنكِرُ هذا إلا أجهلُ الناس، وأغلظهم حجاباً، وأكثفُهم نفساً، وأبعدُهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السببَ الذى به أزالتْ قراءةُ الفاتحة داءَ اللَّدْغَةِ عن اللَّديغ التى رُقى بها، فقام حتى كأنَّ ما به قَلَبة.
فهذان نوعان من الطب النبوى، نحن بحَوْل الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومِنا القاصرة، ومعارِفنا المتلاشية جداً، وبضاعتِنا المُزْجاة، ولكنَّا نستوهِبُ مَن بيده الخيرُ كلُّه، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهَّاب.

فصل: [فى الأحاديث التى تحث على التداوى وربط الأسباب بالمسببات]
روى مسلم فى "صحيحه": من حديث أبى الزُّبَيْر، عن جابر بن عبد الله، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لِكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، برأ بإذن اللهِ عَزَّ وجَلَّ".
وفى "الصحيحين": عن عطاءٍ، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أنزل اللهُ مِنْ داءٍ إلا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً".
وفى "مسند الإمام أحمد": من حديث زياد بن عِلاقة عن أُسامةَ ابن شَريكٍ، قال: "كنتُ عندَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاءت الأعرابُ، فقالوا: يا رسول الله؛ أَنَتَدَاوَى ؟ فقال:
"نَعَمْ يا عبادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم يضَعْ داءً إلا وَضَعَ لَهُ شِفاءً غيرَ داءٍ واحدٍ"، قالوا: ما هو ؟ قال: "الهَرَمُ".
وفى لفظٍ: " إنَّ اللهَ لم يُنْزِلْ دَاءً إلا أنزل له شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
وفى "المسند": من حديث ابن مسعود يرفعه: "إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم

يُنْزِلْ داءً إلا أنزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
وفى "المسند" و"السنن": عن أبى خِزَامةَ، قال: قلتُ: يا رسول اللهِ؛ أرأيْتَ رُقىً نَسْتَرْقِيهَا، ودواءً نتداوى به، وتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هل تَرُدُّ من قَدَرِ اللهِ شيئاً ؟ فقال: "هى من قَدَرِ الله".
فقد تضمَّنت هذه الأحاديثُ إثبات الأسباب والمسبِّبات، وإبطالَ قولِ مَن أنكرها، ويجوزُ أن يكون قوله"لكل داءٍ دواء"، على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التى لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طَوَى عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء، فإنه لا شىءَ من المخلوقات إلا له ضِدّ، وكلُّ داء له ضد من الدواء يعالَج بضدِّه، فعلَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البُرءَ بموافقة الداء للدواء، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد وجوده، فإنَّ الدواء متى جاوز درجة الداء فى الكيفية، أو زاد فى الكمية على ما ينبغى، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يَفِ بمقاومته، وكان العلاج قاصراً، ومتى لم يقع المُداوِى على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدنُ غيرَ قابل له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنعُ من تأثيره، لم يحصل البُرء لعدم المصادفة،

ومتى تمت المصادفة حصلَ البرءُ بإذن الله ولا بُدَّ، وهذا أحسنُ المحملَيْن فى الحديث.
والثانى: أن يكون مِن العام المراد به الخاصُ، لا سيما والداخل فى اللَّفظ أضعاف أضعافِ الخارج منه، وهذا يُستعمل فى كل لسان، ويكونُ المراد أنَّ الله لم يضع داءً يَقْبَلُ الدواء إلا وضع له دواء، فلا يَدخل فى هذا الأدواء التى لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى فى الرِّيح التى سلَّطها على قوم عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الأحقاف: 25] أى: كل شىء يقبلُ التدمير، ومِن شأن الرِّيح أن تدمِّره، ونظائرُه كثيرة.
ومَن تأمَّل خلْقَ الأضداد فى هذا العالَم، ومقاومةَ بعضِها لبعض، ودفْعَ بعضِها ببعض، وتسليطَ بعضِها على بعض، تبيَّن له كمالُ قدرة الرب تعالى، وحِكمتُه، وإتقانُه ما صنعه، وتفرُّدُه بالربوبية، والوحدانية، والقهر، وأنَّ كل ما سواه فله ما يُضاده ويُمانِعُه، كما أنه الغنىُّ بذاته، وكُلُّ ما سِواه محتاجٌ بذاته.
وفى الأحاديث الصحيحةِ الأمرُ بالتداوى، وأنه لا يُنَافى التوكل، كما لا يُنافيه دفْع داء الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد بِأضدادها، بل لا تتم حقيقةُ التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نَصَبها الله مقتضياتٍ لمسبَّبَاتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقَدَحُ فى نفس التوكل، كما يَقْدَحُ فى الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن مُعطِّلُها أنَّ تركها أقوى فى التوكل، فإن تركها عجزاً يُنافى التوكلَ الذى حقيقتُه اعتمادُ القلب على الله فى حصولِ ما ينفع العبد فى دينه ودنياه، ودفْعِ ما يضرُّه فى دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب؛ وإلا كان معطِّلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبدُ عجزه توكلاً، ولا توكُّلَه عجزاً.
وفيها رد على مَن أنكر التداوى، وقال: إن كان الشفاء قد قُدِّرَ،

فالتداوى لا يفيد، وإن لم يكن قد قُدِّرَ، فكذلك. وأيضاً، فإنَّ المرض حصل بقَدَر الله، وقدَرُ الله لا يُدْفَع ولا يُرد، وهذا السؤال هو الذى أورده الأعراب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما أفاضلُ الصحابة، فأعلَمُ بالله وحكمته وصفاتِه من أن يُورِدوا مِثْلَ هذا، وقد أجابهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدويةُ والرُّقَى والتُّقَى هى مِن قَدَر الله، فما خرج شىءٌ عن قَدَره، بل يُرَدُّ قَدَرُه بقَدَرِه، وهذا الرَّدُّ مِن قَدَره. فلا سبيلَ إلى الخروج عن قَدَرِه بوجه ما، وهذا كردِّ قَدَرِ الجوع، والعطش، والحرِّ، والبرد بأضدادها، وكردِّ قَدَرِ العدُوِّ بالجهاد، وكلٌ من قَدَرِ الله: الدَافِعُ، والمدفوعُ، والدَّفْعُ.
ويقال لمُوردِ هذا السؤال: هذا يُوجبُ عليك أن لا تُباشر سبباً من الأسباب التى تَجلِبُ بها منفعة، أو تَدَفعُ بها مضرَّة، لأن المنفعة والمضرَّة إن قُدِّرَتا، لم يكن بدٌ من وقوعهما، وإن لم تُقدَّر لم يكن سبيلٌ إلى وقوعهما، وفى ذلك خرابُ الدِّين والدنيا، وفسادُ العالَم، وهذا لا يقوله إلا دافعٌ للحق، معانِدٌ له، فيَذكر القَدَرَ ليدفعَ حُجةَ المُحقِّ عليه، كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا}[الأنعام: 148]، و{لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا}[النحل: 35]، فهذا قالوه دفعاً لحُجَّة الله عليهم بالرُّسُل.
وجوابُ هذا السائل أن يُقال: بقى قسمٌ ثالث لم تذكره، وهو أنَّ الله قَدَّر كذا وكذا بهذا السبب؛ فإن أتيتَ بالسَّبب حَصَلَ المسبَّبُ، وإلا فلا.
فإن قال: إن كان قَدَّر لى السَّببَ، فعلتُه، وإن لم يُقدِّره لى لم أتمكن من فعله.
قيل: فهل تقبل هذا الاحتجاجَ من عبدِك، وولدِك، وأجيرِك إذا احتَجَّ به عليك فيما أمرتَه به، ونهيتَه عنه فخالَفَك ؟، فإن قبلته، فلا تَلُمْ مَنْ عصاك، وأخذ مالك، وقَذفَ عِرْضَك، وضيَّع حقوقَك، وإن لم

تَقبلْه، فكيف يكونُ مقبولاً منك فى دفع حُقوق الله عليك.. وقد روى فى أثر إسرائيلى: "أنَّ إبراهيمَ الخليلَ قال: يا ربِّ؛ مِمَّن الدَّاء ؟ قال: مِنِّى. قال: فمِمَّنْ الدَّوَاءُ ؟ قال: منى. قال: فَمَا بَالُ الطَّبِيبِ؟ قال:رَجُلٌ أُرْسِلُ الدَّوَاءَ عَلَى يَدَيْهِ"
وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لكلِّ داءٍ دواء"، تقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ، وحثٌ على طلبِ ذلك الدواءِ والتفتيشِ عليه، فإنَّ المريض إذا استشعرتْ نفسُه أن لِدائه دواءً يُزيله، تعلَّق قلبُه بروح الرجاء، وبَردت عنده حرارة اليأس، وانفتَحَ له بابُ الرجاء، ومتى قَويتْ نفسُه انبعثتْ حرارتُه الغريزية، وكان ذلك سبباً لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية، ومتى قويتْ هذه الأرواح، قويت القُوَى التى هى حاملةٌ لها، فقهرت المرضَ ودفعتْه.وكذلك الطبيبُ إذا علم أنَّ لهذا الداءِ دواءً أمكنه طلبُه والتفتيشُ عليه. وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله، وصادف داءَ قلبِه، أبرأه بإذن الله تعالى.
فصل: في هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاحتماء من التخم، والزيادة فى الأكل على قدر الحاجة، والقانون الذى ينبغى مراعاتُه فى الأكل والشرب
فى "المسند" وغيره: عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما مَلأَ آدَمِىٌ وِعاءً شَراً مِنْ بطنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ لُقيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كان لا بُدَّ فَاعلاً،

فَثُلُتٌ لِطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرَابِه، وثُلُثٌ لِنَفَسِه".
الأمراض نوعان: أمراضٌ مادية تكون عن زيادة مادة أفرطتْ فى البدن حتى أضرَّتْ بأفعاله الطبيعية، وهى الأمراضُ الأكثريةُ، وسببها إدخالُ الطعام على البدن قبل هضم الأوَّل، والزيادةُ فى القدر الذى يَحتاج إليه البدن، وتناولُ الأغذيةِ القليلةِ النفع، البطيئةِ الهضم، وإلاكثارُ من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة، فإذا ملأ الآدمىُّ بطنه من هذه الأغذية، واعتاد ذلك، أورثته أمراضاً متنوعة، منها بطئُ الزوالِ وسريعُه، فإذا توسَّط فى الغذاء، وتناول مِنه قدرَ الحاجة، وكان معتدلاً فى كميته وكيفيته، كان انتفاعُ البدن به أكثرَ من انتفاعه بالغذاء الكثير ومراتبُ الغذاء ثلاثة: أحدها: مرتبة الحاجة. والثانية: مرتبة الكفاية. والثالثة: مرتبة الفضلةُ. فأخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه يكفيه لُقيماتٌ يُقِمْن صُلْبَه، فلا تسقط قوَّتُه، ولا تضعف معها، فإن تجاوزها، فليأكلْ فى ثُلُثِ بطنه، ويدع الثُلُث الآخر للماء، والثالثَ للنَفَس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب، فإنَّ البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النَفَس، وعرض له الكربُ والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسلِ الجوارح عن الطاعات، وتحركها فى الشهوات التى يستلزمها الشِّبَعُ، فامتلاءُ البطن من الطعام مضرٌ للقلب والبدن. هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً. وأما إذا كان فى الأحيان، فلا بأس به، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اللَّبن، حتى قال: والَّذِى

بعثكَ بالحقِّ لا أجدُ له مَسْلَكاً، وأكل الصحابةُ بحضرته مراراً حتى شَبِعوا
والشِّبَعُ المفرط يُضعف القُوَى والبدن، وإنْ أخصبَه، وإنما يَقوَى البَدَنُ بحسب ما يَقْبَلُ من الغذاء، لا بِحَسَبِ كثرته.
ولما كان فى الإنسان جزءٌ أرضىّ، وجزءٌ هوائىّ، وجزءٌ مائىّ، قسم النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طعامَه وشرابَه ونَفَسَه على الأجزاء الثلاثة فإن قيل: فأين حظ الجزء النارى ؟
قيل: هذه مسألةٌ تكلَّم فيها الأطباء، وقالوا: إنَّ فى البدن جزءاً نارياً بالفعل، وهو أحد أركانه وأسْطُقْسَاته.
ونازعهم فى ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا: ليس فى البدن جزءٌ نارى بالفعل، واستدلوا بوجوه:
أحدُها: أنَّ ذلك الجزء النارى إما أن يُدعى أنه نزل عن الأثير، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية، أو يقال: إنه تولَّد فيها وتكوَّن، والأول مستبعَد لوجهين، أحدهما: أنَّ النار بالطبع صاعدة، فلو نزلت، لكانت بقاسِرٍ من مركزها إلى هذا العالَم. الثانى: أن تلك الأجزاء النارية لا بُدَّ فى نزولها أن تعبُرَ على كُرة الزَّمهرير التى هى فى غاية البرد، ونحن نشاهد فى هذا العالَم أنَّ النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل، فتلك الأجزاء

الصغيرة عند مرورها بكُرة الزَّمهرير التى هى فى غاية البرد ونهاية العِظَم، أولى بالانطفاء.
وأما الثانى: وهو أن يقال: إنها تكوَّنت ههنا فهو أبعد وأبعد، لأن الجسم الذى صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك، قد كان قبلَ صيرورته إما أرضاً، وإما ماءً، وإما هواء لانحصار الأركان فى هذه الأربعة، وهذا الذى قد صار ناراً أولاً، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام، ومتصلاً بها، والجسم الذى لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحدٍ منها، لا يكونُ مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه فى نفسه ليس بنار، والأجسام المختلطة باردة، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم: لِمَ لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا: الكلام فى حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام فىالأول
فإن قلتم: إنَّا نرى مِن رش الماء على النَّوَرَة المطفأة تنفصل منها نار، وإذا وقع شعاعُ الشمس على البِلَّورة ظهرت النار منها، وإذا ضربنا الحجر على الحديد، ظهرت النار، وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط، وذلك يُبطل ما قررتموه فى القسم
الأول أيضاً.
قال المنكرون: نحن لا نُنْكِرُ أن تكونَ المُصاكَّة الشديدة محدثةً للنار، كما فى ضرب الحجارة على الحديد، أو تكونَ قوةُ تسخين الشمسِ محدثةً للنار، كما فى البِلَّورة، لكنَّا نستبعد ذلك جداً فى أجرام النبات

والحيوان، إذ ليس فى أجرامها من الاصطكاك ما يُوجب حدوثَ النار، ولا فيها مِن الصفاء والصِّقال ما يبلغ إلى حدِّ البِلَّورة، كيف وشعاعُ الشمس يقع على ظاهرها، فلا تتولَّد النار ألبتة، فالشُّعاع الذى يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثانى: فى أصل المسألة: أنَّ الأطباء مُجْمِعون على أن الشرابَ العتيقَ فى غاية السخونة بالطبع، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاءُ النارية مع حقارتها كيف يُعْقَل بقاؤها فى الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً، بحيث لا تنطفئ مع أنَّا نرى النار العظيمة تُطفأ بالماء القليل.
الوجه الثالث: أنه لو كان فى الحيوان والنبات جزءٌ نارىٌ بالفعل، لكان مغلوباً بالجزء المائى الذى فيه، وكان الجزءُ النارى مقهوراً به، وغلبةُ بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضى انقلابَ طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب، فكان يلزمُ بالضرورة انقلابُ تلك الأجزاء النارية القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذى هو ضد النار.
الوجه الرابع: أنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر خَلْق الإنسان فى كتابه فى مواضع متعددة، يُخبِرُ فى بعضها أنه خلقه من ماء، وفى بعضها أنه خَلَقَهُ من تراب، وفى بعضها أنه خلقه من المركَّب منهما وهو الطين، وفى بعضها أنه خَلَقَهُ من صَلصال كالفَخَّار، وهو الطينُ الذى ضربته الشمسُ والرِّيح حتى صار صَلصالاً كالفَخَّار، ولم يُخْبِر فى موضع واحد أنه خلقه من نار، بل جعل ذلك خاصيةَ إبليس.
وثبت فى "صحيح مسلم": عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خُلِقَتْ الملائكةُ من نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مَارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ

آدمُ مما وُصِفَ لكم".
وهذا صريح فى أنه خُلِقَ مما وصفه الله فى كتابه فقط، ولم يَصِفْ لنا سبحانه أنه خلقه من نار، ولا أن فى مادته شيئاً من النار
الوجه الخامس: أنَّ غاية ما يستدلون به ما يُشاهدون مِن الحرارة فى أبدان الحيوان، وهى دليل على الأجزاء النارية، وهذا لا يدل، فإن أسباب الحرارة أعمُّ من النار، فإنها تكون عن النار تارة، وعن الحركة أُخرى، وعن انعكاس الأشعة، وعن سخونة الهواء، وعن مجاورة النار، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً، وتكون عن أسباب أُخَر، فلا يلزم من الحرارة النار.
قال أصحاب النار: من المعلوم أنَّ التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضى طبخَهما وامتزاجَهما، وإلا كان كُلٌ منهما غير ممازج للآخر، ولا متحداً به، وكذلك إذا أَلقينا البذرَ فى الطين بحيث لا يصل إليه الهواءُ ولا الشمسُ فسد، فلا يخلو، إما أن يحصل فى المركَّب جسم مُنْضِج طابخ بالطبع أو لا، فإن حصل، فهو الجزء النارى، وإن لم يحصل، لم يكن المركَّبُ مسخناً بطبعه، بل إن سخن كان التسخين عرضياً، فإذا زال التسخينُ العَرَضى، لم يكن الشىء حاراً فى طبعه، ولا فى كيفيته، وكان بارداً مطلقاً، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت، لأن فيها جوهراً نارياً.
وأيضاً.. فلو لم يكن فى البدن جزءٌ مسخن لوجب أن يكون فى نهاية البرد، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد، وكانت خالية عن المعاون والمعارض، وجب انتهاءُ البرد إلى أقصى الغاية، ولو كان كذلك لما حصل

لها الإحساس بالبرد، لأن البرد الواصل إليه إذا كان فى الغاية كان مثلَه، والشىءُ لا ينفعِلُ عن مثله، وإذا لم ينفعِلْ عنه لم يُحِسَّ به، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه، وإن كان دونه فعدمُ الانفعال يكون أولى، فلو لم يكن فى البدن جزءٌ مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد، ولا تألَّم به. قالوا: وأدلتكم إنما تُبْطِلُ قولَ مَن يقول: الأجزاء النارية باقية فى هذه المركبات على حالها، وطبيعتها النارية، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول: إنَّ صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج.
قال الآخرون: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت، فالحرارةُ المنضجة الطابخة لها هى حرارةُ الشمس وسائرِ الكواكب، ثم ذلك المركَّب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التى فى المركَّبات هى بسبب خواص وقُوَى يُحدِثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان ألبتة، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك
وأما حديث إحساس البدن بالبرد، فنقول: هذا يدل على أنَّ فى البدن حرارةً وتسخيناً، ومَن يُنكر ذلك ؟ لكن ما الدليلُ على انحصار المسخن فى النار ؟ فإنه وإن كان كل نار مسخناً، فإن هذه القضيةَ لا تنعكس كليةً بل عكسُها الصادقُ: بعضُ المسخن نار.
وأما قولكم بفساد صورة النَّار النوعية، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية، والقولُ بفسادها قولٌ فاسد قد اعترف بفساده أفضلُ متأخِّرِيكم، فى كتابه المسمى ب "الشفاء"، وبرهَنَ على بقاء الأركان أجمع على طبائعها فى المركَّبات.. وبالله التوفيق.

فصول
وكان علاجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمرض ثلاثة أنواع
أحدها: بالأدوية الطبيعية.
والثانى : بالأدوية الإلهية.
والثالث : بالمركَّب من الأمرين.
ونحن نذكر الأنواع الثلاثةَ من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التى وصفها واستعملها، ثم نذكر الأدوية الإلهية، ثم المركَّبة.
وهذا إنما نُشير إليه إشارة، فإنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بُعِثَ هادياً، وداعياً إلى الله، وإلى جنَّته، ومعرِّفاً بالله، ومبيِّناً للأُمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها، ومواقِعَ سَخَطِه وناهياً لهم عنها، ومُخْبِرَهم أخبارَ الأنبياء والرُّسُل وأحوالهم مع أُممهم، وأخبار تخليق العالَم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك.
وأما طبُّ الأبدان.. فجاء من تكميل شريعته، ومقصوداً لغيره، بحيث إنما يُستعمل عند الحاجة إليه، فإذا قدر على الاستغناء عنه، كان صرْفُ الهممِ والقُوَى إلى علاج القلوب والأرواح، وحفظِ صحتها، ودَفْعِ أسقامِها، وحِمايتها مما يُفسِدُها هو المقصودُ بالقصد الأول، وإصلاحُ البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفسادُ البدن مع إصلاح القلب مَضَرَّتُه يسيرة جداً، وهى مَضَرَّةٌ زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة.. وبالله التوفيق.

ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل: فى هَدْيه فى علاج الحُمَّى
ثبت فى "الصحيحين": عن نافع، عن ابن عمرَ، أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنَّمَا الحُمَّى أو شِدَّةُ الحُمَّى مِنْ فَيحِ جَهنمَ، فَأبْرِدُوُهَا بِالْمَاءِ".
وقد أشكل هذا الحديثُ على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه منافياً لدواء الحُمَّى وعلاجِها، ونحن نُبيِّنُ بحَوْل الله وقوته وجهَه وفقهه فنقول:
خطابُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوعان: عامٌ لأهل الأرض، وخاصٌ ببعضهم، فالأول: كعامة خطابه، والثانى: كقوله: "لاَ تَسْتَقْبلُوا القِبلَةَ بغائطٍ ولاَ بَولٍ، ولاَ تَسْتَدْبِروهَا، ولكنْ شرِّقوا، أوْ غَرِّبُوا ". فهذا ليس بخطاب لأهل

المشرق والمغرب ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سَمْتِها، كالشام وغيرها. وكذلك قوله: "مَا بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قبلَةٌ".
وإذا عُرف هذا، فخطابُه فى هذا الحديث خاصٌ بأهل الحجاز، وما والاهم، إذ كان أكثرُ الحُمَّياتِ التى تَعرض لهم من نوع الحُمَّى اليومية العَرَضية الحادثةِ عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعُها الماء البارد شُرباً واغتسالاً، فإن الحُمَّى حرارةٌ غريبة تشتعل فى القلب، وتنبثُّ منه بتوسط الروح والدم فى الشرايين والعروق إلى جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية.
وهى تنقسم إلى قسمين:
عَرَضية: وهى الحادثةُ إما عن الورم، أو الحركة، أو إصابةِ حرارة الشمس، أو القَيْظ الشديد... ونحو ذلك.
ومرضية: وهى ثلاثةُ أنواع، وهى لا تكون إلا فى مادة أُولى، ثم منها يسخن جميع البدن. فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حُمَّى يوم، لأنها فى الغالب تزول فى يوم، ونهايتُها ثلاثة أيام، وإن كان مبدأُ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهى أربعة أصناف: صفراوية، وسوداوية، وبلغمية، ودموية. وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية، سميت حُمَّى دِق، وتحت هذه الأنواع أصنافٌ كثيرة.
وقد ينتفع البدن بالحُمَّى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء، وكثيراً ما يكون حُمَّى يوم وحُمَّى العفن سبباً لإنضاج موادَّ غليظة لم تكن تنضِجُ بدونها، وسبباً لتفتح سُدَدٍ لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة.

وأما الرَّمدُ الحديثُ والمتقادمُ، فإنها تُبرئ أكثَر أنواعه بُرءًا عجيباً سريعاً، وتنفع من الفالج، واللَّقْوَة، والتشنج الامتلائى، وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة.
وقال لى بعض فضلاء الأطباء: إنَّ كثيراً من الأمراض نستبشر فيها بالحُمَّى، كما يستبشر المريض بالعافية، فتكون الحُمَّى فيه أنفَع من شرب الدواء بكثير، فإنها تُنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضُرُّ بالبدن، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئةً للخروج بنضاجها، فأخرجها، فكانت سبباً للشفاء.
وإذا عُرِفَ هذا، فيجوز أن يكون مرادُ الحديثِ من أقسام الحُمَّيات العرضية، فإنها تسكن على المكان بالانغماس فى الماء البارد، وسقى الماء البارد المثلوج، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر، فإنها مجردُ كيفية حارة متعلقة بالرَّوح، فيكفى فى زوالها مجردُ وصول كيفية باردة تُسكنها، وتُخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة، أو انتظار نضج.
ويجوز أن يُراد به جميعُ أنواع الحُمَّيات، وقد اعترف فاضل الأطباء "جالينوس": بأنَّ الماء البارد ينفع فيها، قال فى المقالة العاشرة من كتاب "حيلة البرء": "ولو أنَّ رجلاً شاباً حسنَ اللَّحم، خِصَب البدن فى

وقت القَيْظ، وفى وقت منتهى الحُمَّى، وليس فى أحشائه ورم، استحمَّ بماءٍ بارد، أو سبح فيه، لانتفع بذلك". وقال: "ونحن نأمر بذلك بلا توقف".
وقال الرازىُّ فى كتابه الكبير: "إذا كانت القوة قوية، والحُمَّى حادة جداً، والنضجُ بَيِّنٌ ولا وَرَمَ فى الجوف، ولا فَتْقَ، ينفع الماء البارد شرباً، وإن كان العليل خِصَب البدن والزمان حارٌ، وكان معتاداً لاستعمال الماء البارد من خارج، فليؤذَنْ فيه".
وقوله: "الحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَم"، هو شدة لهبها، وانتشارُها، ونظيرُه قوله: "شِدَّةُ الحرِّ مِن فَيْحِ جَهنمَ"، وفيه وجهان.
أحدهما: أنَّ ذلك أَنموذَجٌ ورقيقةٌ اشتُقَتْ من جهنم ليستدلَّ بها العبادُ عليها، ويعتبروا بها، ثم إنَّ الله سبحانه قدَّر ظهورها بأسبابٍ تقتضيها، كما أنَّ الروحَ والفرح والسرور واللَّذة من نعيم الجنَّة أظهرها الله فى هذه الدار عِبرةً ودلالةً، وقدَّر ظهورَها بأسباب توجبها.
والثانى: أن يكون المراد التشبيه، فشَبَّه شدة الحُمَّى ولهبها بفَيْح جهنم وشبَّه شدة الحر به أيضاً تنبيهاً للنفوس على شدة عذاب النار، وأنَّ هذه الحرارة العظيمة مشبهةٌ بفَيْحها، وهو ما يصيب مَن قَرُب منها من حَرِّها.
وقوله: "فَابْرِدُوُها"، رُوى بوجهين: بقطع الهمزة وفتحها، رُباعىّ: من "أبْرَدَ الشىءَ": إذا صَيَّرَه بارداً، مثل "أَسْخَنَه": إذا صيَّره سخناً.
والثانى: بهمزة الوصل مضمومةً من "بَرَدَ الشىءَ يَبْرُدُه"، وهو أفصحُ

لغةً واستعمالاً، والرباعى لغةٌ رديئة عندهم، قال:
إذا وَجدْتُ لَهِيبَ الْحُبِّ فى كَبِدِى ... أقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِى بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ ... فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الأحْشَاءِ تَتَّقِدُ
وقوله: "بالماء" فيه قولان، أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح.
والثانى: أنه ماء زمزمَ، واحتج أصحابُ هذا القول بما رواه البخارىُّ فى "صحيحه"، عن أبى جَمْرَةَ نَصْرِ بن عمرانَ الضُّبَعىِّ قال: كُنْتُ أُجَالِسُ ابن عباسٍ بمكةَ، فأخَذَتْنى الْحُمَّى فقال: أبردها عنك بماءِ زمزمَ، فإنَّ رَسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الحُمَّى من فَيْحِ جَهَنَّم، فأبْردوها بالماء" أو قال: "بماءِ زَمْزَمَ ". وراوى هذا قد شك فيه، ولو جَزَم به لكان أمراً لأهل مكةَ بماء زمزمَ، إذ هو متيسر عندهم، ولغيرهم بما عندهم من الماء.
ثم اختلفَ مَن قال: إنه على عمومه، هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله ؟ على قولين. والصحيح أنه استعمال، وأظن أنَّ الذى حمل مَن قال: المرادُ الصدقةُ به أنه أشكلَ عليه استعمالُ الماء البارد فى الحُمَّى ولم يَفهمْ وجهه مع أنَّ لقوله وجهاً حسناً، وهو أنَّ الجزاءَ مِن جنس العمل، فكما أُخْمِد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد، أخمَدَ اللهُ لهيبَ الحُمَّى عنه جزاءً وِفاقاً، ولكن هذا يُؤخد مِن فِقْه الحديث وإشارته، وأما المراد به فاستعماله.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره من حديث أنَسٍ يَرفعه: "إذَا حُمَّ أَحَدُكُم، فَلْيُرَشَّ عليهِ الماءَ البارِدَ ثلاثَ ليالٍ مِنَ السَّحَرِ".

وفى "سنن ابن ماجَه" عن أبى هُريرةَ يرفعه: "الْحُمَّى كِيرٌ مِن كِيرِ جَهَنَّمَ، فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بالماءِ البَاردِ".
وفى "المسند" وغيره، من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ يرفعُه: "الْحُمَّى قطعةٌ من النَّارِ، فَأبْرِدُوهَا عَنْكُم بالماءِ البارِد "، وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَة من ماءٍ، فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِه فَاغْتَسَلَ.
وفى "السنن": من حديث أبى هريرةَ قال: ذُكِرَت الْحُمَّى عِنْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَّهَا رجلٌ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ تَسُبَّهَا فإنها تَنْفِى الذُّنُوبَ، كما تَنْفِى النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
لما كانت الحُمَّى يتبعها حِمية عن الأغذية الرديئة، وتناول الأغذيةِ والأدويةِ النافعة، وفى ذلك إعانةٌ على تنقية البدن، ونَفْى أخباثِه وفضوله، وتصفيته من مواده الرديئة ، وتفعل فيه كما تفعل النارُ فى الحديد فى نَفْىِ خَبثه، وتصفيةِ جوهره، كانت أشبهَ الأشياء بنار الكير التى تُصَفِّى جوهر الحديد، وهذا القدرُ هو المعلوم عند أطباء الأبدان.

وأما تصفيتها القلبَ من وسخه ودَرَنه، وإخراجها خبائثَه، فأمرٌ يعلمه أطباءُ القلوب، ويجدونه كما أخبرهم به نبيُّهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن مرض القلب إذا صار مأيُوساً من برئه، لم ينفع فيه هذا العلاج.
فالحُمَّى تنفع البدنَ والقلبَ، وما كان بهذه المَثابة فسَبُّه ظلم وعدوان.
وذكرتُ مرة وأنا محمومٌ قولَ بعض الشعراء يسبُّها:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ ... تبّاً لها مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها ... مَاذَا تريدُ ؟ فقُلتُ: أن لا تَرْجِعِى
فقلتُ: تبّاً له إذ سَبَّ ما نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سَبِّه. ولو قال:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ لِصَبِّها ... أَهْلاً بها مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِها ... ماذا تريدُ ؟ فقلتُ: أن لا تُقْلِعى
لكان أولى به، ولأقلعت عنه. فأقلعت عَنِّى سريعاً.
وقد روى فى أثر لا أعرف حاله:"حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ"، وفيه قولان؛ أحدهما: أنَّ الحُمَّى تدخل فى كل الأعضاء والمفاصِل، وعدتُها ثلاثمائة وستون مَفْصِلاً، فتكفِّرُ عنه بعدد كل مفصل ذنوبَ يوم.
والثانى: أنها تؤثر فى البدن تأثيراً لا يزول بالكلية إلى سنة، كما قيل فى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لمْ تُقْبَلْ لهُ صَلاةٌ أَربعينَ يوْماً": إنَّ أثر الخمر يَبقى فى جوف العبد،

وعروقه، وأعضائه أربعين يوماً.. والله أعلم. قال أبو هريرةَ مَا منْ مَرَضٍ يُصيبنى أَحَبُّ إلىَّ من الحُمَّى، لأنها تدخل فى كلِّ عضوٍ منِّى، وإنَّ الله سبحَانهُ يُعْطى كلَّ عضوٍ حظَّه مِن الأجرِ.
وقد روى الترمذىُّ فى "جامعه" من حديث رافِع بن خَدِيجٍ يرفعُه : "إذا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الحُمَّى وَإنَّ الحُمَّى قِطْعةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطفئهَا بالمَاءِ البَارِدِ، ويَسْتَقبِلْ نَهْراً جارياً، فَلْيستقبلْ جَرْيَةَ المَاءِ بعدَ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وليقلْ: بِسْمِ اللهِ، اللهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وصَدِّقْ رَسُولَك. وينغمِسُ فيهِ ثلاثَ غَمَسَاتٍ ثلاثةَ أيامٍ، فإنْ بَرِىءَ، وإلا ففِى خمسٍ، فإن لمْ يبرَأْ فى خمس، فسبع، فإن لم يبرأ فى سبع فتسع، فإنها لا تكادُ تُجاوز تسعاً بإذنِ اللهِ".
قلت: وهو ينفع فعله فى فصل الصيف فى البلاد الحارة على الشرائط التى تقدَّمت، فإنَّ الماء فى ذلك الوقت أبردُ ما يكون لبُعْدِه عن ملاقاة الشمس، ووفور القُوَى فى ذلك الوقت لما أفادها النوم، والسكون، وبرد الهواء، فتجتمع فيه قوةُ القُوَى، وقوةُ الدواء، وهو الماء البارد على حرارة الحُمَّى العَرَضية، أو الغِبِّ الخالصة، أعنى التى لا ورم معها، ولا شىء من الأعراض الرديئة والمواد الفاسدة، فيُطفئها بإذن الله، لا سيما فى أحد الأيام المذكورة فى الحديث، وهى الأيام التى يقع فيها بُحرَان الأمراضُ الحادةُ كثيراً، سيما فى البلاد المذكورة، لرِّقةِ أخلاط سكانها، وسُرعة انفعالهم عن الدواء النافع

فصل: فى هَدْيه فى علاج استطلاق البطن
فى "الصحيحين": من حديث أبى المتوكِّل، عن أبى سعيد الخُدْرِىِّ، "أنَّ رجلاً أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنَّ أخى يشتكى بطنَه وفى رواية: استطلقَ بطنُهُ فقال: "اسْقِهِ عسلاً"، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيتُه، فلم يُغنِ عنه شيئاً وفى لفْظ: فلَم يزِدْه إلا اسْتِطْلاقاً، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقولُ له: "اسْقِه عَسَلاً". فقال لهُ فى الثالثةِ أو الرابعةِ: "صَدَقَ اللهُ، وكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ".
وفى "صحيح مسلم" فى لفظ له: " إنَّ أخى عَرِبَ بطنُه"، أى فسد هضمُه، واعتلَّتْ مَعِدَتُه، والاسم: "العَرَب" بفتح الراء، و"الذَّرَب" أيضاً.
والعسل فيه منافعُ عظيمة، فإنه جلاءٌ للأوساخ التى فى العروق والأمعاء وغيرها، محلِّلٌ للرطوبات أكلاً وطِلاءً، نافعٌ للمشايخ وأصحابِ البلغم، ومَن كان مِزاجه بارداً رطباً، وهو مغّذٍّ ملين للطبيعة، حافِظ لِقُوَى المعاجين ولما استُودِع فيه، مُذْهِبٌ لكيفيات الأدوية الكريهة، منقٍّ للكبد والصدر، مُدِرٍّ للبول، موافقٌ للسعال الكائن عن البلغم، وإذا شُرِبَ حاراً بدُهن الورد، نفع من نهش الهوام، وشرب الأفيون، وإن شُرِبَ وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكَلْبِ الكَلِبِ، وأكلِ الفُطُرِ القتَّال، وإذا جُعِلَ فيه اللَّحمُ الطرىُّ، حَفِظَ طراوته ثلاثَةَ أشهر، وكذلك إن جُعِل فيه القِثَّاء، والخيارُ، والقرعُ، والباذنجان، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر، ويحفظ جثة الموتى، ويُسمى الحافظَ الأمين. وإذ لطخ به البدن المقمل

والشَّعر، قتل قَملَه وصِئْبانَه، وطوَّل الشَّعرَ، وحسَّنه، ونعَّمه، وإن اكتُحل به، جلا ظُلمة البصر، وإن استُنَّ به بيَّضَ الأسنان وصقَلها، وحَفِظَ صحتَها، وصحة اللِّثةِ، ويفتح أفواهَ العُروقِ، ويُدِرُّ الطَّمْثَ، ولعقُه على الريق يُذهب البلغم، ويَغسِلَ خَمْلَ المعدة، ويدفعُ الفضلات عنها، ويسخنها تسخيناً معتدلاً، ويفتح سُدَدَها، ويفعل ذلك بالكبد والكُلَى والمثانة، وهو أقلُّ ضرراً لسُدَد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمونُ الغائلة، قليلُ المضار، مُضِرٌ بالعرض للصفراويين، ودفعها بالخلِّ ونحوه، فيعودُ حينئذ نافعاً له جداً.
وهو غِذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلوى، وطِلاء مع الأطلية، ومُفرِّح مع المفرِّحات، فما خُلِقَ لنا شىءٌ فى معناه أفضلَ منه، ولا مثلَه، ولا قريباً منه، ولم يكن معوّلُ القدماء إلا عليه، وأكثرُ كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر ألبتة، ولا يعرفونه، فإنه حديثُ العهد حدث قريباً، وكان النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشربه بالماء على الرِّيق، وفى ذلك سِرٌ بديع فى حفظ الصحة لا يُدركه إلا الفطن الفاضل، وسنذكر ذلك إن شاء الله عِند ذكر هَدْيه فى حفظ الصحة.
وفى "سنن ابن ماجه" مرفوعاً من حديث أبى هريرة: "مَنْ لَعِقَ العَسَل ثَلاثَ غدَوَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ، لَمْ يُصِبْه عَظِيمٌ مِنَ البَلاءِ"، وفى أثر آخر: "علَيْكُم بالشِّفَاءَيْنِ: العَسَلِ والقُرآنِ "، فجمع بين الطب البَشَرى والإلهى،

وبين طب الأبدان، وطب الأرواح، وبين الدواء الأرضى والدواء السمائى.
إذا عُرِفَ هذا، فهذا الذى وصف له النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَسَل، كان استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة فى نواحى المَعِدَةَ والأمعاء، فإن العسلَ فيه جِلاء، ودفع للفضول، وكان قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها، فإن المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل القطيفة، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة، أفسدتها وأفسدت الغِذاء، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط، والعسلُ جِلاء، والعسلُ مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار.
وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع، وهو أن الدواءَ يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه، لم يُزله بالكلية، وإن جاوزه، أوهى القُوى، فأحدث ضرراً آخر، فلما أمره أن يسقيَه العسل، سقاه مقداراً لا يفى بمقاومة الداءِ، ولا يبلُغ الغرضَ، فلما أخبره، علم أنَّ الذى سقاه لا يبلُغ مقدار الحاجة، فلما تكرر تردادُه إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء، بَرَأ، بإذن الله، واعتبار مقاديرِ الأدوية، وكيفياتها، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.
وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ" ، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء فى نفسه، ولكنْ لكَذِب البطن، وكثرة المادة الفاسدة فيه، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طِبُّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كطِبِّ الأطباء، فإن طبَّ النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متيقَّنٌ قطعىٌ إلهىٌ، صادرٌ عن الوحى، ومِشْكاةِ النبوة، وكمالِ العقل. وطبُّ غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون، وتجارِب، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى

بطبِّ النبوة، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقى له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآنُ الذى هو شفاء لما فى الصدور إن لم يُتلقَّ هذا التلقى لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها، بل لا يزيدُ المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم، ومرضاً إلى مرضهم، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه، فطِب النبوةِ لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذى هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور فى الدواء، ولكن لخُبثِ الطبيعة، وفساد المحل، وعدمِ قبوله.. والله الموفق.
فصل
وقد اختلف الناس فى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} [النحل: 69]، هل الضمير فى "فيه" راجعٌ إلى الشراب، أو راجعٌ إلى القرآن ؟ على قولين؛ الصحيح: رجوعُه إلى الشراب، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأكثرين، فإنه هو المذكور، والكلامُ سيق لأجله، ولا ذكرَ للقرآن فى الآية، وهذا الحديث الصحيحُ وهو قوله: "صَدَقَ اللهُ" كالصريح فيه.. والله تعالى أعلم

فصل: في هديه في الطَّاعون، وعلاجه، والاحتراز منه
فى "الصحيحين" عن عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه، أنه سمعه يَسأَلُ أُسَامَةَ بن زيدٍ: ماذا سمِعْتَ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الطاعون؟ فقال أُسامةُ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طائفةٍ من بنى إسرائيلَ، وعَلَى مَن كان قَبْلَكم، فإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ، فَلا تَدْخُلوا عليه، وإذا وَقَعَ بأرضٍ وأنْتُم بها، فلا تَخُرُجوا منها فِرَاراً مِنْهُ".
وفى "الصحيحين" أيضاً: عن حَفْصَةَ بنت سِيرِينَ، قالت: قال أنسُ ابن مالكٍ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطَّاعُونُ شهادةٌ لكلِّ مُسْلِم".
الطاعون من حيث اللُّغة: نوعٌ من الوباء، قاله صاحب "الصحاح"، وهو عند أهل الطب: ورمٌ ردئ قتَّال يخرج معه تلهُّب شديد مؤلم جداً يتجاوز المقدار فى ذلك، ويصير ما حوله فى الأكثر أسود أو أخضر، أو أكمد، ويؤول أمره إلى التقرح سريعاً. وفى الأكثر، يحدث فى ثلاثة مواضع: فى الإِبْط، وخلف الأُذن، والأرنبة، وفى اللحوم الرخوة.

وفى أثر عن عائشة: أنها قالت للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: " غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعيرِ يَخْرُجُ فى المَرَاقِّ والإِبْط".
قال الأطباء: إذا وقع الخُرَّاجُ فى اللحوم الرخوة، والمغابن، وخلف الأُذن والأرنبة، وكان من جنس فاسد، سُمِّى طاعوناً، وسببُه دم ردئ مائل إلى العُفونة والفساد، مستحيل إلى جوهر سُمِّىٍّ، يفسِدُ العضوَ ويُغيِّر ما يليه، وربما رَشَح دَماً وصديداً، ويؤدِّى إلى القلب كيفية رديئة، فيحدث القىء والخفقان والغَشى، وهذا الاسم وإن كان يَعُمُّ كُلَّ ورم يؤدى إلى القلب كيفية رديئة حتى يصيرَ لذلك قتَّالاً، فإنه يختصُّ به الحادث فى اللَّحم الغُددى، لأنه لرداءته لا يقبلُه من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤُه ما حدث فى الإبط وخلفَ الأُذن لقربهما من الأعضاء التى هى أرأس، وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر. والذى إلى السواد، فلا يفلت منه أحدٌ.
ولما كان الطاعون يكثر فى الوباء، وفى البلاد الوبيئة، عُبِّر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض يعم.
والتحقيقُ أنَّ بين الوباء والطاعون عموماً وخصوصاً، فكلُّ طاعونٍ وباءٌ، وليس كلُّ وباءٍ طاعوناً، وكذلك الأمراضُ العامة أعمُّ من الطاعون، فإنه واحد منها، والطواعينُ خرَّاجات وقروح وأورام رديئة حادثة فى المواضع المتقدم ذكرها.
قلت: هذه القروح، والأورام، والجراحات، هى آثار الطاعون،

وليست نفسَه، ولكن الأطباء لما لم تُدرك منه إلا الأثر الظاهر، جعلوه نفسَ الطاعون.
والطاعون يُعَبَّر به عن ثلاثة أُمور:
أحدها: هذا الأثر الظاهر، وهو الذى ذكره الأطباء.
والثانى : الموت الحادث عنه، وهو المراد بالحديث الصحيح فى قوله: "الطاعونُ شَهادةٌ لكلِّ مُسلمٌ".
والثالث: السبب الفاعل لهذا الداء، وقد ورد فى الحديث الصحيح: "أَنهُ بقيةُ رِجز أُرسِلَ عَلى بَنِى إسرائيلَ"، وورد فيه: " أنهُ وَخْزُ الجنِّ" ، وجاء: "أنهُ دَعوةُ نبىّ".
وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدل عليها، والرُّسُلُ تُخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التى أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفى أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثيرَ الأرواح فى الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا مَنْ هو أجهلُ الناس بالأرواح وتأثيراتِها، وانفعالِ الأجسام وطبائعها عنها، واللهُ سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً فى أجسام بنى آدمَ عند حدوث الوباء، وفسادِ الهواء، كما يجعل لها تصرفاً عند بعضِ المواد الرديئة التى تُحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم، والمِرَّةِ السوداء، وعند هَيجان المنَىّ، فإنَّ الأرواح الشيطانية تتمكن مِن فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذِّكر،

والدعاء، والابتهال والتضرع، والصَّدَقة، وقراءة القرآن، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح المَلَكية ما يقهُر هذه الأرواح الخبيثَة، ويُبطل شرَّها ويدفع تأثيرَها. وقد جرَّبنا نحنُ وغيرُنا هذا مراراً لا يُحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزالِ هذه الأرواح الطيبة واستجلابِ قُربها تأثيراً عظيماً فى تقوية الطبيعة، ودفع المواد الرديئة، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها، ولا يكاد ينخرم، فمَن وفَّقه الله، بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التى تدفعها عنه، وهى له من أنفع الدواء، وإذا أراد الله عَزَّ وجَلَّ إنفاذَ قضائه وقَدَره، أغفل قلبَ العبد عن معرفتها وتصوُّرِها وإرادتها، فلا يشعر بها، ولا يُريدها، ليقضى الله فيه أمراً كان مفعولاً.
وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحاً وبياناً عند الكلام على التداوى بالرُّقَى، والعُوَذ النبوية، والأذكار، والدعوات، وفعل الخيرات، ونُبيّن أن نِسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوى، كنسبة طب الطرْقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذَّاقهم وأئمتهم، ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شىء انفعالاً عن الأرواح، وأن قُوَى العُوَذ، والرُّقَى، والدعوات، فوق قُوَى الأدوية، حتى إنها تُبطل قُوَى السموم القاتلة.
والمقصود: أنَّ فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام، والعِلَّة الفاعلة للطاعون، فإن فساد جوهر الهواء الموجِبُ لحدوث الوباء وفساده، يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة، لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه، كالعفونة، والنَّتَن، والسُّمِّيّة فى أى وقت كان من أوقات السنة، وإن كان أكثر حدوثه فى أواخر الصيف، وفى الخريف غالباً لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها فى فصل الصيف، وعدم تحللها فى آخره، وفى الخريف لبرد الجو، ورَدْغَة الأبخرة والفضلات التى كانت تتحلل فى زمن الصيف،

فتنحصر، فتسخن، وتعفن، فتحدث الأمراض العفنة، ولا سيما إذا صادفت البدن مستعداً، قابلاً، رهِلاً، قليل الحركة، كثيرَ المواد، فهذا لا يكاد يُفْلِت مِن العطب.
وأصحُّ الفصول فيه فصل الربيع؛ قال "بقراط": إن فى الخريف أشد ما تكون من الأمراض، وأقتل، وأما الربيعُ، فأصحُّ الأوقات كلها وأقلُّها موتاً، وقد جرت عادةُ الصيادلة، ومجهزى الموتى أنهم يستدينونَ، ويتسلِّفون فى الربيع والصيف على فصل الخريف، فهو ربيعُهم، وهم أشوقُ شىء إليه، وأفرحُ بقدومه.
وقد روى فى حديث: "إذا طَلعَ النَّجْمُ ارْتَفَعَت الْعَاهَةُ عن كلِّ بَلَدٍ". وفُسِّر بطلوع الثُّريا، وفُسِّر بطلوع النبات زمن الربيع، ومنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان} [الرحمن: 6]، فإنَّ كمال طلوعه وتمامَه يكون فى فصل الربيع، وهو الفصل الذى ترتفع فيه الآفات.

وأما الثُّريا، فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها.
قال التَّمِيمىُّ فى كتاب "مادة البقاء": أشدُّ أوقات السنة فساداً، وأعظُمها بلية على الأجساد وقتان، أحدهما: وقتُ سقوط الثُّريا للمغيب عند طلوع الفجر. والثانى: وقت طلوعها من المشرِق قبل طلوع الشمس على العالَم، بمنزلة من منازل القمر، وهو وقت تصرُّمِ فصل الربيع وانقضائه، غير أن الفسادَ الكائن عند طلوعها أقلُّ ضرراً من الفساد الكائن عند سقوطها.
وقال أبو محمد بن قتيبة: يقال: ما طلعت الثُّريا ولا نأتْ إلا بعَاهة فى النَّاس والإِبْل، وغروبُها أعْوَهُ من طلوعها.
وفى الحديث قولٌ ثالث ولعله أولى الأقوال به أنَّ المراد بالنَّجْم: الثُّريا، وبالعاهة: الآفة التى تلحق الزروع والثمار فى فصل الشتاء وصدر فصل الربيع، فحصل الأمن عليها عند طلوع الثُّريا فى الوقت المذكور، ولذلك نهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدُوَ صلاحُها. والمقصود: الكلام على هَدْيِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند وقوع الطاعون.
فصل
[نهى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الدخول إلى الأرض التى هو بها أو الخروج منها]
وقد جمع النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأُمة فى نهيه عن الدخول إلى الأرض التى هو بها، ونهيهِ عن الخروج منها بعد وقوعه كمالَ التحرز منه، فإنَّ فى الدخول فى الأرض التى هو بها تعرضاً للبلاء، وموافاةً له فى محل سلطانه، وإعانةً للإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنُّبُ الدخول إلى

أرضه من باب الحِمية التى أرشد الله سبحانه إليها، وهى حِمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية.
وأما نهيه عن الخروج من بلده، ففيه معنيان:
أحدُّهما: حمل النفوس على الثقة بالله، والتوكل عليه، والصبرِ على أقضيته، والرِّضَى بها.
والثانى: ما قاله أئمة الطب: أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يُخْرِجَ عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويُقلِّل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف مِن كل وجه إلا الرياضةَ والحمَّام، فإنهما مما يجب أن يُحذرا، لأن البدن لا يخلو غالباً مِن فضل ردىء كامن فيه، فتثيرُه الرياضة والحمَّام، ويخلطانه بالكيموس الجيد. وذلك يجلب عِلَّة عظيمة، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدَّعة، وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروجُ من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة، وهى مضرة جداً، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، فظهر المعنى الطبى من الحديث النبوى، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحِهما.
فإن قيل: ففى قول النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تخرجوا فِراراً مِنهُ"، ما يُبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذى ذكرتموه، وأنه لا يمنع الخروجَ لعارض، ولا يحبس مسافراً عن سفره ؟
قيل: لم يقل أحدٌ طبيبٌ ولا غيره إنَّ الناس يتركون حركاتِهم عند الطواعين، ويصيرون بمنزلة الجماداتِ، وإنما ينبغى فيه التقلُّل من الحركة بحسب الإمكان، والفارُّ منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفِرار منه، ودعتُه وسكونُه أنفع لقلبه وبدنه، وأقربُ

إلى توكله على الله تعالى، واستسلامه لقضائه. وأما مَن لا يستغنى عن الحركة كالصُنَّاع، والأُجراء، والمسافرين، والبُرُد، وغيرهم فلا يقال لهم: اتركوا حركاتِكم جملةً، وإن أُمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه، كحركة المسافر فارّاً منه.. والله تعالى أعلم.
وفى المنع من الدخول إلى الأرض التى قد وقع بها عدةُ حِكَم:
أحدها : تجنب الأسباب المؤذية، والبُعْد منها.
الثانى : الأخذُ بالعافية التى هى مادةُ المعاشِ والمعاد.
الثالث : أن لا يستنشِقُوا الهواءَ الذى قد عَفِنَ وفَسَدَ فيمرضون.
الرابع : أن لا يُجاوروا المرضى الذين قد مَرِضُوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم.
وفى "سنن أبى داود" مرفوعاً: "إنَّ مِن القرفِ التلفَ".
قال ابن قتيبة: القرفُ مداناة الوباء، ومداناة المرضى.
الخامس: حِميةُ النفوس عن الطِّيَرَة والعَدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطِّيرة على مَن تطيَّرَ بها.
وبالجملة ففى النهى عن الدخول فى أرضه الأمرُ بالحذر والحِمية، والنهىُ عن التعرض لأسباب التلف. وفى النهى عن الفِرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأولُ: تأديب وتعليم، والثانى: تفويض وتسليم.
وفى "الصحيح": أنَّ عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغَ لَقيه أبو عُبيدة بن الجرَّاح وأصحابه، فأخبرُوه أنَّ الوَباءَ قد وقع

بالشام، فاختلفوا، فقال لابن عباس: ادعُ لى المهاجرينَ الأوَّلينَ، قال: فدعوتُهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا، فقال له بعضُهم: خرجتَ لأَمر، فلا نرى أن تَرْجِعَ عنه. وقال آخرون: معك بقيةُ الناس، وأصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نرى أن تُقْدِمَهُم على هذا الوَبَاء، فقال عمر: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادعُ لى الأنصار، فدعوتُهم له، فاستشارهم، فسلكُوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عَنِّى، ثم قال: ادْع لى مَنْ هَهُنَا من مشيخةِ قريشٍ من مُهاجرةِ الفتح، فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، قالوا: نرى أن ترجِعَ بالناس ولا تُقْدِمَهُم على هذا الوباء، فَأَذَّنَ عمر فى الناس: إنى مُصبحٌ على ظَهْرٍ، فأَصْبِحُوا عليهِ. فقال أبو عُبيدة بن الجرَّاح: يا أميرَ المؤمنين؛ أفِرَاراً من قَدَرِ الله تعالى ؟ قال: لو غيرُك قالها يا أبا عُبيدة، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله تعالى إلى قَدَرِ الله تعالى، أرأيتَ لو كانَ لك إبلٌ فهبطتَ وَادِياً له عُدْوَتَان، إحداهما خِصبة، والأُخرى جَدْبة، ألستَ إنْ رعيتَها الخِصبة رعيتَها بَقدَرِ الله تعالى، وإن رعيتها الجدبةَ رعيتَها بقدر الله تعالى ؟. قال: فجاء عبد الرحمن بن عَوْف وكانَ متغيباً فى بعض حاجاتِهِ، فقال: إنَّ عندى فى هذا علماً، سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا كان بِأَرْضٍ وأنْتُمْ بها فلا تَخْرُجوا فِرَاراً منه، وإذا سَمِعْتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عَلَيْهِ".

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى داء الاستسقاء وعلاجه
فى "الصحيحين": من حديث أنس بن مالك، قال:
"قَدِمَ رَهْطٌ من عُرَيْنَةَ وَعُكَل على النَّبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاجْتَوَوا المدينة، فشكوا ذلك إلى النَّبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لو خرجُتم إلى إِبِل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فلما صحُّوا، عمدوا إلى الرُّعَاةِ فقتلُوهم، واستاقُوا الإبل، وحاربُوا الله ورسوله، فبعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى آثارهم، فأُخِذُوا، فَقَطَعَ أيديَهُم، وأرجُلَهُم، وسَمَلَ أعْيُنَهُم، وألقاهم فى الشمس حتى ماتوا".
والدليل على أن هذا المرض كان الاستسقاء، ما رواه مسلم فى "صحيحه" فى هذا الحديث أنهم قالوا: "إنَّا اجتوينا المدينة، فعظمت بطونُنا، وارتهشت أعضاؤنا".... وذكر تمام الحديث.
والجَوَى: داء من أدواء الجوف والاستسقاء: مرض مادى سببه مادة غريبة باردة تتخلَّل الأعضاء فتربو لها إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحى التى فيها تدبير الغِذاء والأخلاط، وأقسامُه

ثلاثة: لحمىٌّ وهو أصعبها وزقىٌّ، وطبلىٌّ.
ولما كانت الأدوية المحتاجُ إليها فى علاجه هى الأدوية الجالبة التى فيها إطلاقٌ معتدل، وإدرارٌ بحسب الحاجة وهذه الأُمور موجودةٌ فى أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشربها، فإنَّ فى لبن اللِّقَاح جلاءً وتلييناً، وإدراراً وتلطيفاً، وتفتيحاً للسدَد، إذ كان أكثرُ رعيِها الشيح، والقيصوم، والبابونج، والأقحوان، والإِذْخِر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء.
وهذا المرضُ لا يكون إلا مع آفة فى الكبد خاصة، أو مع مشاركة، وأكثرها عن السدَد فيها، ولبن اللِّقاحِ العربية نافعٌ من السدَد، لما فيه من التفتيح، والمنافع المذكورة.
قال الرازىُّ: لبن اللِّقاح يشفى أوجاعَ الكبد، وفساد المِزاج. وقال الإسرائيلى: لبن اللِّقاح أرقُّ الألبان، وأكثرُها مائيَّة وحِدَّة، وأقلُّها غِذاء. فلذلك صار أقواها على تلطيف الفضول، وإطلاقِ البطن، وتفتيح السدَد، ويدل على ذلك ملوحتُه اليسيرة التى فيه لإفراط حرارة حيوانية بالطبع، ولذلك صار أخصَّ الألبان بتطرِية الكبد، وتفتيح سُددها، وتحليلِ صلابة الطحال إذا كان حديثاً، والنفع من الاستسقاء خاصة إذا استُعمل لحرارته التى يخرج بها من الضَّرْع مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد فى ملوحته، وتقطيعه الفضولَ، وإطلاقهِ البطن فإن تعذَّر انحدارُه وإطلاقُه البطن، وجب أن يُطلق بدواء مسهل.
قال صاحب القانون: ولا يُلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة اللَّبن

مضادة لِعلاج الاستسقاء. قال: واعلم أنَّ لبن النُّوق دواءٌ نافع لما فيه من الجِلاء برفق، وما فيه من خاصية، وأنَّ هذا اللَّبن شديد المنفعة، فلو أنَّ إنساناً أقام عليه بدل الماء والطعام شُفِىَ به، وقد جُرِّبَ ذلك فى قوم دُفِعوا إلى بلاد العرب، فقادتهم الضرورةُ إلى ذلك، فعُوفوا. وأنفعُ الأبوال: بَوْل الجمل الأعرابى، وهو النجيب.. انتهى.
وفى القصة: دليلٌ على التداوى والتطبُّب، وعلى طهارة بول مأكول اللَّحم، فإن التداوى بالمحرَّمات غير جائز، ولم يُؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابُهم من أبوالها للصلاة، وتأخيرُ البيان لا يجوزُ عن وقت الحاجة.
وعلى مقاتلة الجانى بمثل ما فعل، فإن هؤلاء قتلوا الراعىَ، وسملُوا عينيه، ثبت ذلك فى "صحيح مسلم".
وعلى قتل الجماعة، وأخذِ أطرافهم بالواحد.
وعلى أنه إذا اجتمع فى حق الجانى حدٌ وقِصاصٌ استوفيا معاً، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع أيديَهم وأرجُلَهم حداً لله على حِرابهم، وقَتَلَهُم لقتلهم الراعى.
وعلى أن المحارب إذا أخذ المال، وَقَتَل، قُطِعت يده ورجله فى مقام واحد وقُتِل.
وعلى أنَّ الجنايات إذا تعددت، تغلَّظت عقوباتُها، فإنَّ هؤلاء ارتدُّوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس، ومثَّلُوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة.

وعلى أنَّ حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أنَّ كُلَّ واحد منهم لم يُباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.
وعلى أن قتل الغِيلةِ يُوجب قتل القاتل حداً، فلا يُسقطه العفو، ولا تُعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهبُ أهل المدينة، وأحد الوجهين فى مذهب أحمد، اختاره شيخنا، وأفتى به.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الجُرْح
فى "الصحيحين" عن أبى حازم، أنه سمع سَهْلَ بن سعدٍ يسألُ عما دُووىَ به جُرْحُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ. فقال: "جُرِحَ وجهُه، وكُسِرَت رَبَاعيتهُ، وهُشِمَت البَيْضةُ على رأسه، وكانت فاطمةُ بنتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغسِلُ الدمَ، وكان علىُّ بن أبى طالب يسكُب عليها بالْمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة الدمَ لا يزيد إلا كَثرةً، أخذت قطعةَ حصيرٍ، فأحرقتْها حتى إذا صارت رَماداً ألصقتهُ بالجُرحِ فاستمسك الدمُ، برمَادِ الحصيرِ المعمول من البَرْدِىّ "، وله فِعلٌ قوىٌ فى حبس الدم، لأن فيه تجفيفاً قوياً، وقِلَّةَ لذَع، فإنَّ الأدوية القوية التجفيف إذا كان فيها لذعٌ هيَّجت الدمَ وجلبتْه، وهذا الرَّمادُ إذا نُفِخَ وحده، أو مع الخل فى أنف الراعِفِ قطعَ رُعافُه.

وقال صاحب القانون: البَرْدِىُّ ينفع من النزف، ويمنعه. ويُذَرُّ على الجراحات الطرية، فَيَدْمُلُها، والقرطاسُ المصرى كان قديماً يُعمل منه، ومزاجُه بارديابس، ورماده نافع من أَكلَةِ الفم، ويحبسُ نَفَثَ الدمِ، ويمنع القروح الخبيثة أن تسعى.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بشُرب العسل، والحجامة، والكىّ
فى "صحيحِ البخارى": عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "الشِّفَاءُ فى ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنا أنْهى أُمَّتى عن الْكَىِّ".
قال أبو عبد الله المازَرِى: الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراجُ الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثةِ الباقية، فشفاؤها بالإِسهال الذى يَليق بكل خِلط منها، وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَبَّهَ بالعسل على المسهلات، وبالحِجامة على الفَصْد، وقد قال بعض الناس: إنَّ الفصدَ يدخل فى قوله: "شَرْطهِ مِحْجَمٍ" ؛ فإذا أعْيَا الدواءُ، فآخِرُ الطبِّ الْكَىٌّ. فذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأدوية، لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقُوى الأدوية، وحيث لا ينفعُ الدواءُ المشروب. وقوله: "وأنا أنْهى أُمَّتى عن الكَىِّ"، وفى الحديث الآخر: "وما أُحبُّ أن أَكْتَوِى". إشارةٌ إلى أن يؤخَّرَ العلاجَ به حتى تَدفَع الضرورةُ إليه،

ولا يعجل التداوى به لما فيه من استعجال الألم الشديد فى دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ من ألم الكَىّ... انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباءِ: الأمراضُ المِزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها، إما حارةٌ، أو باردةٌ، أو رَطبةٌ، أو يابسةٌ، أو ما تركَّب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارةُ والبرودةُ؛ وكيفيتان منفعلتان: وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحابُ كيفية منفعِلَة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة فى البدن، وسائر المركَّبات كيفيتان: فاعلةٌ ومنفعلةٌ.
فحصل مِن ذلك أنَّ أصل الأمراض المِزاجية هى التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التى هى الحرارةُ والبرودةُ، فجاء كلام النبوة فى أصل معالجة الأمراض التى هى الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حاراً، عالجناه بإخراج الدم، بالفَصْد كان أو بالِحجامة، لأن فى ذلك استفراغاً للمادة، وتبريداً للمِزاج. وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين، وذلك موجود فى العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسلُ أيضاً يفعل فى ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجِلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمْنٍ من نكاية المسهلات القوية.
وأما الكَىُّ: فلأنَّ كلَّ واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حاداً فيكون سريعَ الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يُحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مُزْمِناً، وأفضلُ علاجه بعد الاستفراغ الكىُّ فى الأعضاء التى يجوز فيها الكَىّ. لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت فى العضو، وأفسدتْ

مِزاجَه، وأحالتْ جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل فى ذلك العضو، فيستخرج بالكىِّ تلك المادةُ من ذلك المكان الذى هو فيه بإفناء الجزء النارى الموجود بالكىِّ لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخْذَ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجةَ الأمراضِ الساذَجةِ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ شدةَ الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، فأبرِدُوهَا بالماء "
فصل
وأما الحِجَامةُ، ففى "سنن ابن ماجه" من حديث جُبَارَةَ بن المُغَلِّس وهو ضعيفٌ عن كثير بن سَليم، قال: سَمعتُ أَنَسَ بن مالكٍ يقولُ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما مَرَرْتُ ليلةَ أُسْرِىَ بى بملإٍ إلا قالُوا: يا محمدُ؛ مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ".
وروى الترمذى فى "جامعه" من حديث ابن عباس هذا الحديث، وقال فيه: "عليكَ بالحِجَامَةِ يا مُحَمَّدُ".
وفى "الصحيحين" من حديث طَاووس، عن ابن عباس، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " احتجَمَ وأعْطى الحَجَّامَ أجْرَه".

وفى "الصحيحين" أيضاً، عن حُمَيدٍ الطويل، عن أنس، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجمَهُ أبُو طَيْبَةَ، فأمَرَ لهُ بصَاعينِ مِن طعامٍ، وكلَّمَ مواليهُ، فخفَّفُوا عنهُ مِن ضريبتِهِ، وقال: "خَيْرُ مَا تَدَاويْتمْ بِهِ الْحِجَامَةَ".
وفى "جامع الترمذىّ" عن عبَّاد بن منصور، قال: سمِعتُ عِكْرمَةَ يقولُ: "كانَ لابن عباسٍ غِلمةٌ ثلاثةٌ حَجَّامُون، فكانَ اثنَانِ يُغلانِ عليه، وَعَلَى أهلِهِ، وواحدٌ لحجمِهِ، وحجمِ أهلِهِ. قال: وقال ابنُ عباسٍ: قال نبىُّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَ العبدُ الحَجَّامُ يَذْهَبُ بالدَّمِ، وَيُخِفُّ الصُّلْبَ، ويَجْلُو البَصَرَ ". وقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيثُ عُرِجَ بِهِ، ما مرَّ عَلَى مَلأٍ مِن الملائكةِ إلاَّ قالُوا : "عليكَ بالحِجَامَةِ". وقالَ:
"إنَّ خيرَ مَا تحْتَجِمُونَ فيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ، ويَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشرينَ"، وقال: "إنَّ خَيْرَ ما تَدَاويْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامَةُ والمَشِىُّ، وإنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُدَّ، فقالَ: "مَن لَدَّنِى" ؟ فَكُلُّهُمْ أمسكُوا. فقال: "لا يبقَى أحَدٌ فى البَيْتِ إلا لُدَّ، إلاَّ العباسَ ". قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجَه.
فصل
وأما منافعُ الحِجَامَة: فإنها تُنَقِّى سطح البدن أكثرَ من الفَصْد، والفصدُ لأعماق البدن أفضلُ، والحِجَامَةُ تستخْرِجُ الدَّمَ من نواحى الجلد

قلتُ: والتحقيقُ فى أمرها وأمْرِ الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمانِ، والمكانِ، والأسنانِ، والأمزجةِ، فالبلادُ الحارةُ، والأزمنةُ الحارةُ، والأمزجة الحارة التى دَمُ أصحابها فى غاية النُّضج الحجامةُ فيها أنفعُ من الفصد بكثير، فإنَّ الدَّمَ ينضج ويَرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرِجُ الحِجَامَةِ ما لا يُخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفعَ للصبيان من الفصد، ولِمَنْ لا يَقْوَى على الفَصد.
وقد نص الأطباء على أنَّ البلاد الحارةَ الحجامةُ فيها أنفعُ وأفضلُ من الفصد، وتُستحب فى وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، فى الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم فى أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاج وتَبَيَّغَ، وفى آخره يكون قد سكن، وأما فى وسطه وبُعَيْدَه، فيكون فى نهاية التَّزَيُّدِ.
قال صاحب القانون: ويُؤمر باستعمال الحِجَامة لا فى أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحرَّكت وهاجت، ولا فى آخره لأنها تكون قد نقصَت، بل فى وَسَطِ الشهر حين تكون الأخلاط هائجةً بالغةً فى تزايدها لتزيد النور فى جُرم القمر. وقد رُوِى عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "خَيْرُ ما تداويتم به الحِجَامَة والفَصْدُ ". وفى حديث: "خَيْرُ الدواءِ الحِجَامَةُ
والفَصْد".. انتهى.

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "خَير ما تداويتم به الحِجَامَة " إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارةِ، لأن دِماءَهم رقيقةٌ، وهى أميَلُ إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها فى نواحى الجلد، ولأن مسامَّ أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخِلةٌ، ففى الفصد لهم خطرٌ، والحِجامة تفرُّقٌ اتصالى إرادى يتبعه استفراغٌ كُلِّىٌ من العروق، وخاصةً العروقَ التى لا تُفصد كثيراً، ولِفصد كُلِّ واحد منها نفعٌ خاص، ففصدُ الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنةِ فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشَّوْصَة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الوَرِك.
وفصد الأكحل: ينفع من الامتلاء العارض فى جميع البدن إذا كان دمويّاً، وكذلك إذا كان الدم قد فسد فى جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة فى الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الوَدْجيْنِ: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبُهْر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المَنْكِبِ والحلق.
والحجامة على الأخدعين: تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان

حدوث ذلك عن كثرة الدَّم أو فساده، أو عنهما جميعاً.
قال أنس رضى الله تعالى عنه: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتجمُ فى الأخْدَعَيْن والكَاهِلِ".
وفى "الصحيحين" عنه: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتجم ثلاثاً: واحدةً علىكاهله، واثْنتين على الأخْدَعَيْن" وفى "الصحيح" عنه: "أنه احتجم وهو محرمٌ فى رأسه لِصداع كان به".
وفى "سنن ابن ماجه" عن علىّ: "نزل جبريلُ على النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجامة الأخْدَعَيْنِ والكَاهِلِ".
وفى "سنن أبى داود" من حديث جابر: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم فى وَركه من وثءٍ كان به".

فصل
واختلف الأطباءُ فى الحِجَامَةِ على نُقرةِ القفا، وهى: القَمَحْدُوَةُ.
وذكر أبو نعيم فى كتاب "الطب النبوىّ" حديثاً مرفوعاً: "عَلَيْكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمحْدُوَةِ، فإنها تشفى من خمسة أَدواءٍ"، ذكر منها الجُذَامَ.
وفى حديث آخر : "عليكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمْحْدُوَةِ، فإنها شفاءٌ من اثْنَيْنِ وسَبْعينَ داءً".
فطائفةٌ منهم استحسنته وقالت: إنها تنفعُ من جَحْظِ العَيْن، والنُّتُوءِ العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثِقل الحاجبين والجَفن، وتنفع من جَرَبه.
وروى أنَّ أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم فى جانبى قفاه، ولم يحتجم فى النُّقرة.
وممن كرهها صاحب "القانون"، وقال: إنها تُورث النِّسيان حقاً، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ مؤخَّر الدماغ موضع الحفظ، والحِجَامَة تُذهبه.. انتهى كلامه.
وردَّ عليه آخرون، وقالوا: الحديثُ لا يَثبُت، وإن ثبت فالحِجَامَةِ إنما تُضعف مؤخَّرَ الدماغ إذا استُعمِلَتْ لغير ضرورة، فأما إذا استُعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طباً وشرعاً، فقد ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه احتَجَمَ فى عدةِ أماكنَ مِن قفاه بحسب ما اقتضاه الحالُ فى ذلك، واحتَجَمَ فى غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجتُه.

فصل
والحِجَامَةُ تحت الذقن تنفعُ من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استُعْمِلَت فى وقتها؛ وتُنقِّى الرأس والفَكَّيْن.
والحِجَامَةُ على ظهر القدم تَنوبُ عن فَصْدِ الصَّافِنِ؛ وهو عِرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفَخِذين والساقين، وانقطاعِ الطَّمْثِ، والحِكَّةِ العارِضة فى الأُنْثَيَيْنِ.
والحِجَامةُ فى أسفل الصدر نافعةٌ من دماميل الفخذِ، وجَرَبِه، وبُثُورِه، ومن النِّقْرِس، والبواسيرِ والفِيل وحِكَّةِ الظهر.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أوقات الحِجَامة
روى الترمذى فى "جامعه" من حديث ابن عباس يرفعه: "إنَّ خَيْرَ ما تَحتَجِمُون فيه يَوْمُ سابعَ عشَرَةَ، أو تاسِعَ عشرةَ، ويومُ إحْدَى وعِشْرِينَ".
وفيه عن أنس: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ فى الأخدَعَين والكاهل، وكان يحتجم لِسَبْعَةَ عَشَرَ، وتِسْعَةَ عَشَرَ، وفى إحْدَى وعِشرِينَ".
وفى "سنن ابن ماجه" عن أنس مرفوعاً: "مَنْ أراد الحِجَامة فَلْيَتَحَرَّ سَبْعَةَ عَشَرَ، أو تِسْعَةَ عَشَرَ، أو إحْدَى وعِشرِينَ، لا يَتَبَيَّغ بأحَدِكُم

الدَّمُ، فيقتلَه".
وفى "سنن أبى داود" مِن حديث أبى هريرة مرفوعاً: "مَن احْتَجَمَ لِسَبْع عَشْرَةَ، أو تِسْعَ عَشْرَة، أو إحْدَى وعِشْرِينَ، كانَتْ شِفاءً من كلِّ داءٍ"، وهذا معناه من كل داءٍ سببه غلبة الدَّم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أنَّ الحِجَامَة فى النصف الثانى، وما يليه من الرُّبع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره، وإذا استُعْمِلَتْ عند الحاجة إليها نفعت أى وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخَلال: أخبرنى عصمةُ بن عصام، قال: حدَّثنا حَنبل، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجِمُ أىَّ وقت هاج به الدَّم، وأىَّ ساعة كانت.
وقال صاحب "القانون": أوقاتُها فى النهار: الساعة الثانية أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمَّام إلا فيمن دَمُه غليظ، فيجب أن يستحِمَّ، ثم يستجم ساعة، ثم يحتجم.. انتهى.
وتُكره عندهم الحِجَامَة على الشبع، فإنها ربما أورثت سُدَداً وأمراضاً رديئة، ولا سيما إذا كان الغذاء رديئاً غليظاً. وفى أثر: "الحجامةُ على الرِّيق دواء، وعلى الشبع داء، وفى سبعة عشر من الشهر شفاء".
واختيار هذه الأوقات للحِجَامة، فيما إذا كانت على سبيل الاحتياط والتحرز من الأذى، وحفظاً للصحة. وأما فى مُداواة الأمراض، فحيثما

وُجد الاحتياجُ إليها وجب استعمالها.
وفى قوله: "لا يَتَبَيَّغْ بأحدِكم الدَّمُ فيقتلَهُ"، دلالة على ذلك، يعنى لئلا يَتَبَيَّغ، فحذف حرف الجر مع "أَن"، ثم حُذفت
"أَن". و"التَّبَيُّغُ": الهَيْجُ، وهو مقلوب البغى، وهو بمعناه، فإنه بغى الدم وهيجانه. وقد تقدَّم أنَّ الإمام أحمد كان يحتجم أىَّ وقتٍ احتاج من الشهر.
فصل
وأما اختيارُ أيام الأسبوع للحِجَامة، فقال الخَلاَّل فى "جامعه": أخبرنا حرب بن إسماعيل، قال: قلت لأحمد: تُكره الحِجَامة فى شىء من الأيام ؟ قال: قد جاء فى الأربعاء والسبت.
وفيه: عن الحسين بن حسَّان، أنه سأل أبا عبد الله عن الحِجَامة: أىَّ وقت تُكره ؟ فقال: فى يوم السبت، ويوم الأربعاء؛ ويقولون: يوم الجمعة.
وروى الخَلال، عن أبى سلمةَ وأبى سعيد المقبُرى، عن أبى هريرة مرفوعاً: "مَن احْتَجَمَ يومَ الأربِعَاء أو يومَ السَّبْتِ، فأصابَهُ بياضٌ أو بَرَصٌ، فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ".
وقال الخَلال: أخبرنا محمد بن على بن جعفر، أنَّ يعقوب بن بختان، حدَّثهم، قال: "سُئِلَ أحمد عن النَّورَةِ والحِجَامةِ يوم السبت ويوم الأربعاء ؟ فكرهها. وقال: بلغنى عن رجل أنه تَنَوَّرَ، واحتجم يعنى يوم الأربعاء فأصابه البَرَصُ. فقلت له: كأنه تهاوَنَ بالحديث ؟ قال: نعم".
وفى كتاب "الأفراد" للدَّارَقُطْنىِّ، من حديث نافع قال: قال لى

عبد الله ابن عمر: "تَبَيَّغَ بى الدم، فابْغِ لى حجَّاماً؛ ولا يكن صبيّاً ولا شيخاً كبيراً، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "الحِجَامَةِ تزِيدُ الحَافِظَ حِفْظاً، والعاقِلَ عقلاً، فاحْتَجِمُوا على اسم الله تعالى، ولا تحْتَجِمُوا الخَمِيسَ، والجُمُعَةَ، والسَّبْتَ، والأحَدَ، واحْتَجِمُوا الاثْنَيْن، وما كان من جُذامٍ ولا بَرَصٍ، إلا نزلَ يوم الأربعاء". قال الدَّارَقُطْنى: تَفَرَّدَ به زيادُ بن يحيى، وقد رواه أَيوب عن نَافع، وقال فيه: "واحْتَجِمُوا يومَ الاثْنَيْن والثُّلاثَاء، ولا تَحْتَجِمُوا يوم الأربعاء".
وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى بكرةَ، أنه كان يكره الحِجَامَة يَوْمَ الثُّلاثَاء، وقال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "يومُ الثُّلاثَاء يوم الدَّمِ وفيه ساعةٌ لا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ".
فصل
وفى ضمن هذه الأحاديث المتقدمَةِ استحبابُ التداوى، واستحبابُ الحِجَامة، وأنها تكون فى الموضع الذى يقتضيه الحالُ؛ وجوازُ احتجامِ الْمُحْرِم: وإنْ آل إلى قطع شىء من الشَّعر، فإن ذلك جائز. وفى وجوب الفديةِ عليه نظر، ولا يَقوَى الوجوبُ، وجوازُ احتجامِ الصائم، فإنَّ فى "صحيح البخارىِّ" أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "احْتَجَمَ وهو صائم"، ولكن:

هل يُفطِرُ بذلك، أم لا ؟ مسألة أُخرى، الصوابُ: الفِطرُ بالحِجامة، لصحته عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير معارضٍ، وأصحُّ ما يعارَضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم، ولكنْ لا يَدلُّ على عدم الفِطر إلا بعد أربعة أُمور. أحدها: أنَّ الصوم كان فرضاً. الثانى: أنه كان مقيماً. الثالث: أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة. الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخرٌ عن قوله: "أفطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ".
فإذا ثبتَتْ هذه المقدِّمات الأربعُ، أمكن الاستدلالُ بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بقاء الصوم مع الحِجَامة، وإلا فما المانعُ أن يكونَ الصومُ نفلاً يجوز الخروجُ منه بالحِجَامة وغيرها، أو مِن رمضان لكنه فى السَّفر، أو مِن رمضان فى الحَضَر، لكن دعت الحاجةُ إليها كما تدعو حاجة مَن بِهِ مرضٌ إلى الفِطر، أو يكونَ فرضاً من رمضانَ فى الحَضَر من غير حاجة إليها، لكنه مُبقَّى على الأصل. وقوله: "أَفْطَر الحاجمُ والمحجومُ"، ناقل ومتأخِّر. فيتعيَّن المصيرُ إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذه المقدمات الأربع؛ فكيف بإثباتها كلها.
وفيها: دليلٌ على استئجار الطبيبِ وغيره مِن غير عقد إجارة، بل يُعطيه

أُجرة المِثل، أو ما يُرضيه.
وفيها: دليلٌ على جواز التكسُّبِ بصناعة الحِجَامة، وإن كان لا يَطيب للحُرِّ أكلُ أُجرتِهِ من غير تحريم عليه، فإنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه أجرَه، ولم يَمْنَعه من أكله، وتسميتُهُ إياه خبيثاً كَتسميته للثوم والبصل خبيثين، ولم يلزم مِن ذلك تحريمُهما.
وفيها: دليلٌ على جواز ضرب الرجلُ الخراجَ على عبده كُلَّ يومٍ شيئاً معلوماً بقدر طاقته، وأنَّ للعبد أن يتصرَّف فيما زاد على خراجه، ولو مُنِع من التصرف، لكان كسْبُه كلُّه خراجاً ولم يكن لتقديره فائدة، بل ما زاد على خراجه، فهو تمليكٌ من سيده له يتصرَّف فيه كما أراد.. والله أعلم.
فصل: في هَديهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَطع العُرُوق والكي
ثبت فى "الصحيح" من حديث جابر بن عبد الله، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَثَ إلى أُبَىِّ بن كعب طَبيباً، فقَطَعَ له عِرْقاً وكَواه عليه.
ولما رُمِى سعدُ بن معاذٍ فى أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية. و"الحَسْمُ" هو: الكَىُّ.
وفى طريق آخر: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى سعدَ بن مُعاذٍ فى أكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ، ثم حسمَهُ سعد بن مُعاذٍ أو غيرُه من أصحابه.

وفى لفظ آخر: أنّ رجلاً من الأنصار رُمِى فى أكْحَلِه بِمِشْقَصٍ، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به فكُوِىَ.
وقال أبو عُبيدٍ: وقد أُتِىَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجلٍ نُعِتَ له الكَىُّ، فقال: "اكْوُوهُ وارْضِفُوهُ ". قال أبو عُبيدةَ: الرَّضْفُ: الحجارة تُسخَّنُ، ثم يُكمدُ بها.
وقال الفضل بن دُكَين: حدَّثنا سُفيانُ، عن أبى الزُّبير، عن جابرٍ: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَواهُ فى أكْحَلِه.
وفى "صحيح البخارى" من حديث أنس، أنه كُوِىَ من ذاتِ الجَنْبِ والنَّبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَىٌ.
وفى الترمذى، عن أنسٍ، أنَّ النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"كَوَى أسْعَدَ بن زُرَارَةَ من الشَّوْكَةِ".
وقد تقدَّم الحديث المتفَقُ عليه وفيه: "ومَا أُحِبُّ أن
أَكْتوِى"، وفى لفظ آخرَ: "وأنا أنْهَى أُمَّتِى عن الْكَىِّ".
وفى "جامع الترمذى" وغيره عن عِمرانَ بن حصينٍ، أنَّ النَّبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن الكَىِّ قال: فابْتُلِينَا فاكْتويْنا فما أفلحْنا، ولا أنجحنا. وفى لفظ:

نُهِينا عن الكَىِّ وقال: فما أفْلَحْنَ ولا أنْجَحْنَ .
قال الخطابىُّ: إنما كَوى سعداً ليَرْقَأَ الدمُ من جُرحه، وخاف عليه أنْ يَنْزِفَ فيَهْلِكَ. والكىُّ مستعملٌ فى هذا الباب، كما يُكْوَى مَن تُقطع يدُه أو رِجلُه.
وأما النهىُ عن الكىِّ، فهو أن يَكتوىَ طلباً للشفاء، وكانوا يعتقدون أنه متى لم يَكتو، هَلَك، فنهاهم عنه لأجل هذه النيَّةِ.
وقيل: إنما نَهى عنه عِمران بن حُصَيْنٍ خاصةً، لأنه كان به ناصُورٌ، وكان موضعه خطِراً، فنهاه عن كيِّه، فيُشْبِهُ أن يكونَ النهىُ منصرفاً إلى الموضع المخوف منه.. والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: الكىُّ جنسانِ: كىُّ الصحيح لئلا يَعتلَّ، فهذا الذى قيل فيه: "لمْ يتوكلْ مَن اكتوَى"، لأنه يُريد أن يَدفعَ القَدَرَ عن نفسه.
والثانى: كىُّ الجرْح إذا نَغِلَ، والعُضوِ إذا قُطعَ، ففى هذا الشفاءُ.
وأما إذا كان الكىُّ للتداوى الذى يجوزُ أن ينجَع، ويجوز أن لا ينجع، فإنه إلى الكراهة أقربُ.. انتهى.
وثبت فى "الصحيح" فى حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنَّةَ بغير حساب أنهم "الذينَ لا يَسْتَرقُونَ، ولا يكتوُونَ، ولا يتطيَّرُونَ، وعَلَى ربهِمْ يتوكَّلُونَ".
فقد تضمنتْ أحاديثُ الكىِّ أربعةَ أنواع، أحدُها: فعلُه، والثانى:

عدمُ محبته له، والثالث: الثناء على مَن تركه، والرابع: النهى عنه، ولا تَعَارُض بينها بحمدِ الله تعالى، فإنَّ فِعلَه يدلُّ على جوازه، وعدمَ محبتِه له لا يدلُّ على المنع منه. وأما الثناءُ على تاركِه، فيدلُّ على أنَّ تَرْكَه أولى وأفضلُ. وأما النهىُ عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذى لا يُحتاجُ إليه، بل يفعل خوفاً من حدوث الداء.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الصَّرْع
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث عطاء بن أبى رباح، قال: قال ابنُ عباسٍ: ألاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قلتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَت النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَتْ: إنِّى أُصْرَعُ، وَإنِّى أَتَكَشَّفُ؛ فَادْعُ الله لى، فقَالَ: "إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجنَّةُ؛ وإنْ شِئْتِ دعوتُ اللهَ لكِ أن يُعافِيَكِ "، فقالت: أصبرُ. قالتْ: فإنى أتكشَّفُ، فَادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها.
قلت: الصَّرع صرعان: صَرْعٌ من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصَرْعٌ من الأخلاطِ الرديئة. والثانى: هو الذى يتكلم فيه الأطباء فى سببه وعِلاجه.
وأما صَرْعُ الأرواح، فأئْمتُهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأنَّ علاجه بمقابلةُ الأرواحِ الشريفةِ الخيِّرةِ العُلْويَّة لتلك الأرواح

الشِّريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارضُ أفعالَها وتُبطلها، وقد نص على ذلك "بقراط" فى بعض كتبه، فذكر بعضَ عِلاج الصَّرْعِ، وقال: هذا إنما ينفع من الصَّرْع الذى سبَبُه الأخلاط والمادة. وأما الصَّرْع الذى يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلةُ الأطباء وَسقَطُهم وسفلَتُهم، ومَن يعتقِدُ بالزندقة فضيلة، فأُولئك يُنكِرون صَرْعَ الأرواح، ولا يُقرون بأنها تُؤثر فى بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهلُ، وإلا فليس فى الصناعة الطبية ما يَدفع ذلك، والحِسُّ والوجودُ شاهدٌ به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط، هو صادق فى بعض أقسامه لا فى كلِّها.
وقدماءُ الأطباء كانوا يُسمون هذا الصَّرْعَ: المرضَ الإلهى، وقالوا: إنه من الأرواح.
وأما "جالينوس" وغيرُه، فتأوَّلُوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سمُّوه بالمرض الإلهى لكون هذه العِلَّة تَحدُث فى الرأس، فَتضُرُّ بالجزء الإلهى الطاهر الذى مسكنُه الدماغُ.
وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامِها، وتأثيراتها، وجاءت زنادقةُ الأطباء فلم يُثبتوا إلا صَرْع الأخلاطِ وحده.
ومَن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتِها يضحَكُ من جهل هؤلاء وضعف عقولهم
وعِلاجُ هذا النوع يكون بأمرين: أمْرٍ من جهة المصروع، وأمْرٍ من جهة المعالِج، فالذى من جهة المصروع يكون بقوةِ نفسه، وصِدْقِ توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوُّذِ الصحيح الذى قد تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، فإنَّ هذا نوعُ محاربةِ، والمحَارب لا يتمُّ له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً فى نفسه جيداً،

وأن يكون الساعدُ قوياً، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغن السلاح كثيرَ طائلٍ، فكيف إذا عُدِمَ الأمران جميعاً: يكونُ القلب خراباً من التوحيد، والتوكل، والتقوى، والتوجه، ولا سلاحَ له.
والثانى: من جهة المعالِج، بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً، حتى إنَّ من المعالجينَ مَن يكتفى بقوله: "اخرُجْ منه"، أو بقول: "بِسْمِ الله"، أو بقول: "لا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله"، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أنا رَسُولُ اللهِ".
وشاهدتُ شيخنَا يُرسِلُ إلى المصروع مَن يخاطبُ الروحَ التى فيه، ويقول: قال لكِ الشيخُ: اخرُجى، فإنَّ هذا لا يَحِلُّ لكِ، فيُفِيقُ المصروعُ، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروحُ مارِدةً فيُخرجُها بالضرب، فيُفيق المصروعُ ولا يُحِس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرُنا منه ذلك مراراً.
وكان كثيراً ما يَقرأ فى أُذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115].
وحدَّثنى أنه قرأها مرة فى أُذن المصروع، فقالت الروح: نعمْ، ومد بها صوته. قال: فأخذتُ له عصا، وضربتُه بها فى عروق عنقه حتى كَلَّتْ يدَاىَ من الضرب، ولم يَشُكَّ الحاضرون أنه يموتُ لذلك الضرب. ففى أثناء الضرب قالت: أَنا أُحِبُّه، فقلتُ لها: هو لا يحبك. قالتْ: أنَا أُريد أنْ أحُجَّ به. فقلتُ لها: هو لا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فقالتْ: أنا أدَعُه

كَرامةً لكَ، قال: قلتُ: لا ولكنْ طاعةً للهِ ولرسولِه، قالتْ: فأنا أخرُجُ منه، قال: فقَعَد المصروعُ يَلتفتُ يميناً وشمالاً، وقال: ما جاء بى إلى حضرة الشيخ ؟ قالوا له: وهذا الضربُ كُلُّه ؟ فقال: وعلى أى شىء يَضرِبُنى الشيخ ولم أُذْنِبْ، ولم يَشعُرْ بأنه وقع به الضربُ ألبتة.
وكان يعالِجُ بآية الكرسىِّ، وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومَن يعالجه بها وبقراءة المعوِّذتين.
وبالجملة.. فهذا النوعُ من الصَّرْع، وعلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظ من العلم والعقل والمعرفة، وأكثرُ تسلطِ الأرواح الخبيثةِ على أهلهِ تكون من جهة قِلَّةِ دينِهم، وخرابِ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذِّكرِ، والتعاويذِ، والتحصُّناتِ النبوية والإِيمانيَّة، فَتَلْقَى الروحُ الخبيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاح معه، وربما كان عُرياناً فيُؤثر فيه هذا.
ولو كُشِفَ الغِطاء، لرأيتَ أكثرَ النفوسِ البَشَريةِ صَرْعَى هذه الأرواحِ الخبيثةِ، وهى فى أسرِها وقبضتِها تسوقُها حيثُ شاءتْ، ولا يُمكنُها الامتناعُ عنها ولا مخالفتها، وبها الصَّرْعُ الأعظمُ الذى لا يُفيقُ صاحبُه إلا عند المفارقةِ والمعاينةِ، فهناك يتَحقَّقُ أنه كان هو المصروعَ حقيقةً، وبالله المستعان.
وعلاجُ هذا الصَّرْع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءتْ به الرُّسُل، وأن تكون الجنَّةُ والنارُ نُصبَ عينيه وقِبلَة قَلْبِه، ويستحضر أهلَ الدنيا، وحلول المَثُولاتِ والآفات بهم، ووقوعَها خلال ديارهم كمواقع القَطْر، وهُم صَرعَى لا يُفيقون، وما أشدَّ داءَ هذا الصَّرْعِ، ولكن لما عَمَّتِ البليَّةُ به بحيثُ لا يرى إلا مصروعاً، لم يَصرْ مستغرَباً ولا مستنكراً، بل صار لكثرة المصروعين عَيْنَ المستنكَرِ المستغرَبِ خلافه.
فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أفاقَ من هذه الصَّرْعة، ونظر إلى أبناء الدنيا

مصروعين حولَه يميناً وشمالاً على اختلافِ طبقاتهم، فمنهم مَن أطبَقَ به الجنونُ، ومنهم مَن يُفيق أحياناً قليلةً، ويعودُ إلى جنونه، ومنهم مَن يُفيق مرةً، ويُجَنُّ أُخرى، فإذا أفاق عَمِل عَمَل أهلِ الإفاقةِ والعقل، ثم يُعَاوِدُه الصَّرْعُ فيقعُ فى التخبط.
فصل
وأما صَرْعُ الأخلاط، فهو عِلَّةٌ تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركةِ والانتصابِ منعاً غير تام، وسببُه خلطٌ غليظ لزج يسدُّ منافذ بطون الدماغ سدة غيرَ تامة، فيمتنعُ نفوذُ الحس والحركة فيه وفى الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكُلية، وقد تكون لأسباب أُخَر كريح غليظ يحتبسُ فى منافذ الروح، أو بُخارٍ ردىء يرتفعُ إليه من بعض الأعضاء، أو كيفيةٍ لاذعة، فينقبِضُ الدماغُ لدفع المؤذى، فيتبعُه تشنُّجٌ فى جميع الأعضاء، ولا يُمكن أن يبقى الإنسان معه منتصباً، بل يسقُطُ، ويظهرُ فى فيه الزَّبَدُ غالباً.
وهذه العِلَّةُ تُعَدُّ من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تُعَدُّ من جملة الأمراض المُزْمنةِ باعتبار طول مُكثِها، وعُسْرِ بُرئها، لا سيما إن تجاوز فى السن خمساً وعشرين سنة، وهذه العِلَّة فى دماغه، وخاصةً فى جوهره، فإنَّ صرْعَ هؤلاء يكون لازماً. قال "أبقراط": إنَّ الصَّرْعَ يَبقَى فى هؤلاء حتى يموتوا.
إذا عُرِف هذا، فهذه المرأة التى جاء الحديث أنها كانت تُصرَعُ وتتكشَّفُ، يجوز أن يكون صَرْْعُها من هذا النوع، فوعدها النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنَّة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تتكشَّف، وخيَّرها بين الصبر والجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء مِن غير ضمان، فاختارت الصبرَ والجنَّةَ.

وفى ذلك دليلٌ على جواز ترك المعالجةِ والتداوى، وأنَّ علاجَ الأرواح بالدعواتِ والتوجُّهِ إلى الله يفعلُ ما لا ينالُه علاجُ الأطباء، وأنَّ تأثيرَه وفعلَه، وتأثُّرَ الطبيعةِ عنه وانفعالها أعظمُ من تأثيرِ الأدويةِ البدنيةِ، وانفعالِ الطبيعة عنها، وقد جرَّبنا هذا مراراً نحن وغيرُنا، وعقلاءُ الأطباء معترفون بأنَّ لفعل القُوَى النفسيةِ، وانفعالاتِها فى شفاء الأمراض عجائبَ، وما على الصناعة الطبِّيةِ أضرُّ من زنادقة القوم، وسِفْلتِهم، وجُهالهم.
والظاهر: أنَّ صَرْع هذه المرأة كان من هذا النوع، ويجوزُ أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنَّة، وبين الدعاء لها بالشفاء، فاختارت الصبرَ والسَّترَ.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج عِرْق النَّسَا
روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث محمد بن سِيرين، عن أنس بن مالك، قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "دواءُ عِرْقِ النَّسَا ألْيَةُ شاةٍ أعْرَابِيَّةٍ تُذَابُ، ثمَّ تُجزَّأُ ثلاثةَ أجزاءٍ، ثُمَّ يُشْرَبُ على الرِّيقِ فى كلِّ يومٍ جُزْءٌ ".
عِرْقُ النَّسَاء: وجعٌ يبتدىءُ مِن مَفْصِل الوَرِك، وينزل مِن خلفٍ على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدتُه، زاد نزولُه، وتُهزَلُ

معه الرجلُ والفَخِذُ، وهذا الحديثُ فيه معنى لُّغوى، ومعنى طبى.
فأما المعنى اللُّغوى: فدليلٌ على جواز تسمية هذا المرض بِعرْقِ النَّسَا خلافاً لمن منع هذه التسمية، وقال: النَّسَا هو العِرْقُ نفسه، فيكونُ من باب إضافة الشىء إلى نفسه، وهو ممتنعٌ.
وجواب هذا القائل من وجهين؛ أحدهما: أنَّ العِرْق أعمُّ من النَّسَا، فهو من باب إضافة العام إلى الخاص نحو: كُل الدراهم أو بعضها.
الثانى: أنَّ النَّسَا هو المرضُ الحالُّ بالعِرْق؛ والإضافة فيه من باب إضافة الشىء إلى محلِّهِ وموضعه. قيل: وسمى بذلك لأن ألمه يُنسِى ما سواه، وهذا العِرْقُ ممتد من مفْصل الورك، وينتهى إلى آخر القدم وراءَ الكعب من الجانب الوحشى فيما بين عظم الساق والوتر.
وأما المعنى الطبى: فقد تقدَّم أنَّ كلام رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوعان؛ أحدهما: عامٌ بحسب الأزمان، والأماكن، والأشخاص، والأحوال.
والثانى: خاصٌ بحسب هذه الأُمور أو بعضها، وهذا من هذا القِسم، فإنَّ هذا خطابٌ للعرب، وأهل الحجاز، ومَن جاوَرَهم، ولا سيما أعراب البوادى، فإنَّ هذا العِلاجَ من أنفع العلاج لهم، فإنَّ هذا المرض يَحدث من يُبْس، وقد يحدث من مادة غليظة لَزِجَة، فعلاجُها بالإسهال و"الألْيَةُ" فيها الخاصيَّتان: الإنضاج، والتليين، ففيها الإنضاج، والإخراج. وهذا المرضُ يَحتاج عِلاجُه إلى هذين الأمرين.
وفى تعيينِ الشاةِ الأعرابيةِ لقِلةُ فضولِها، وصِغرُ مقدارِها، ولُطف جوهرها، وخاصيَّةُ مرعاها لأنها ترعى أعشابَ البَرِّ الحارةَ، كالشِّيحِ، والقَيْصُوم، ونحوهما، وهذه النباتاتُ إذا تغذَّى بها الحيوانُ، صار فى لحمه من طبعِها بعد أن يُلَطِّفَها تغذيةً بها، ويُكسبَها مزاجاً ألطَفَ منها، ولا سيما الألية، وظهورُ فعل

هذه النباتاتِ فى اللَّبن أقوى منه فى اللَّحم، ولكنَّ الخاصيةَ التى فى الألية من الإنضاج والتَّلْيِين لا تُوجد فى اللَّبن. وهذا كما تقدَّم أنَّ أدويةَ غالب الأُمم والبوادى هى بالأدوية المفردة، وعليه أطباءُ الهند.
وأما الروم واليونانُ، فيَعتَنُون بالمركَّبة، وهم متفِقون كُلُّهم على أنَّ مِن مهارة الطبيب أن يداوى بالغِذاء، فإن عجز فبالمُفرد، فإن عجز، فبما كان أقلَّ تركيباً.
وقد تقدَّم أنَّ غالب عاداتِ العرب وأهل البوادى الأمراضُ البسيطةُ، فالأدوية البسيطة تُنَاسبها، وهذا لبساطةِ أغذيتهم فى الغالب. وأما الأمراضُ المركَّبة، فغالباً ما تحدثُ عن تركيب الأغذية وتنوعها واختلافِها، فاختيرت لها الأدوية المركَّبة.. والله تعالى أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يُمشيه ويُلينه
روى الترمذىُّ فى "جامعه" وابن ماجه فى "سننه" من حديث أسماء بنت عُمَيْسٍ، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بماذا كُنتِ تَسْتَمْشِينَ" ؟ قالت: بالشُّبْرُم، قال:
"حَارٌ جَارٌ". قالت: ثم استمشيْتُ بالسَّنا،

فقال: "لو كان شىءٌ يَشْفِى من الموتِ لكانَ السَّنا".
وفى "سنن ابن ماجه" عن إبراهيم بن أبى عَبلة، قال: سمعتُ عبد الله ابن أُم حرام، وكان قد صلَّى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القِبْلتين يقول: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "عليكم بالسَّنا والسَّنُوت، فإنَّ فيهما شفاءً مِنْ كلِّ داءٍ إلا السَّامَ" ، قيل: يا رسول الله؛ وما السَّامُ ؟ قال:
"الموتُ".
قوله: "بماذا كنتِ تستمشين" ؟ أى: تلينين الطبع حتى يمشى، ولا يصير بمنزلة الواقف، فيؤذى باحتباس النَّجْوِ. ولهذا سمى الدواءُ المسهل مَشِيّاً على وزن فعيل. وقيل: لأن المسهول يكثر المشى والاختلاف للحاجة.
وقد روى: "بماذا تستشفين" ؟ فقالت: بالشُّبْرُم، وهو من جملة الأدوية اليتوعية، وهو: قِشر عِرْق شجرة، وهو حارٌ يابس فى الدرجة الرابعة، وأجودُه المائل إلى الحُمْرة، الخفيفُ الرقيقُ الذى يُشبه الجلد الملفوف، وبالجملة فهو من الأدوية التى أوصى الأطباءُ بترك استعمالها لخطرها، وفرطِ إسهالها.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَارٌ جَارٌ" ويُروى: "حَارٌ يَارٌ" قال أبو عُبَيد: وأكثر كلامهم بالياء. قلت: وفيه قولان، أحدهما: أنَّ الحارَّ الجارَّ بالجيم: الشديدُ الإسهال؛ فوصفه بالحرارة، وشدةِ الإسهال وكذلك هو.

قاله أبو حنيفةَ الدِّينوَرِىُّ.
والثانى وهو الصواب: أنَّ هذا من الإتباع الذى يُقصد به تأكيد الأول، ويكون بين التأكيد اللَّفظى والمعنوى، ولهذا يُراعون فيه إتباعه فى أكثر حروفه، كقولهم: حَسَنٌ بَسَنٌ، أى: كامل الحُسْن. وقولهم: حَسَنٌ قَسَنٌ بالقاف. ومنه: شَيْطانٌ لَيْطانٌ، وحارٌ جارٌ، مع أنَّ فى الجار معنى آخر، وهو الذى يجر الشىء الذى يُصيبه من شدة حرارته وجذْبِه له، كأنه ينزعه ويسلخهُ. و"يار" إما لغة فى "جار" كقولهم: صِهرى وصِهريج، والصهارى والصهاريج، وإما إتباع مستقل.
وأما "السَّنا"، ففيه لغتان: المد والقصر، وهو نبت حِجازى أفضلُه المكىّ، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريبٌ من الاعتدال، حارٌ يابس فى الدرجة الأولى، يُسْهِلُ الصفراءَ والسوداءَ، ويقوِّى جِرْمَ القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه، وخاصيته النفعُ من الوسواس السوداوى، ومن الشِّقاق العارض فى البدن، ويفتح العَضَل وينفع من انتشار الشعر، ومن القُمَّل والصُّداعَ العتيق، والجرب، والبثور، والحِكَّة، والصَّرْع، وشرب مائه مطبوخاً أصلحُ مِن شربه مدقوقاً، ومقدارُ الشربة منه ثلاثة دراهمَ، ومن مائه: خمسة دراهم. وإن طُبِخَ معه شىء من زهر البنفسج والزبيب الأحمر المنزوع العَجَم، كان أصلحَ.
قال الرازىُّ: السَّناء والشاهترج يُسْهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحِكَّة. والشَّربةُ مِن كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما "السَّنوتُ" ففيه ثمانية أقوال:
أحدها: أنه العسل. والثانى: أنه

رُبُّ عُكة السمن يخرجُ خططاً سوداء على السمن.حكاهما عَمْرو بن بكر السَّكْسَكِىُّ.
الثالث: أنه حَبٌ يُشبه الكمون وليس به، قاله ابن الأعرابى.
الرابع: أنه الكَّمون الكرمانىّ.
الخامس: أنه الرازيانج.حكاهما أبو حنيفةَ الدِّينَوَرِىُّ عن بعض الأعراب.
السادس: أنه الشِّبتُّ.
السابع: أنه التمر. حكاهما أبو بكر بن السُّنِّى الحافظ.
الثامن: أنه العَسل الذى يكون فى زِقاق السمن، حكاه عبد اللَّطيف البغدادى.
قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب؛ أى: يخلط السَّناء مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن، ثم يُلعق فيكون أصلحَ من استعماله مفرداً لما فى العسل والسمن من إصلاح السَّنا، وإعانته له على الإسهال.. والله أعلم.
وقد روى الترمذىُّ وغيره من حديث ابن عباس يرفعه: "إنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيتُم به السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامةُ والمَشِىُّ".
والمَشِىُّ: هو الذى يمشى الطبعَ وَيُليِّنُه ويُسَهِّلُ خُروجَ الخارِج.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج حِكَّة الجسم وما يولد القَمْل
فى "الصحيحين" من حديث قَتادةَ، عن أنس بن مالك قال: "رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الرَّحمن بن عَوْفٍ، والزُّبَيْر بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما فى لُبْسِ الحريرِ لِحكَّةٍ كانت بهما".
وفى رواية: "أنَّ عبدَ الرَّحمن بن عَوْف، والزُّبَير بن العوَّام رضى الله تعالى عنهما، شكَوْا القَمْلَ إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فى غَزاةٍ لهما، فَرَخَّص لهما فى

قُمُصِ الحرير، ورأيتُه عليهما".
هذا الحديثُ يتعلق به أمران؛ أحدُهما: فِقْهى، والآخر: طِبى.
فأما الفقهى: فالذى استقرت عليه سُنَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إباحةُ الحرير للنساء مطلقاً، وتحريمه على الرجال إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ راجحةٍ، فالحاجة إمَّا من شِدَّة البرد، ولا يَجِدُ غيرَه، أو لا يجدُ سُترةً سواه. ومنها: لباسه للجرب، والمرض، والحِكةِ، وكثرة القَمْل كما دلّ عليه حديث أنس هذا الصحيح.
والجواز: أصح الروايتين عن الإمام أحمدَ، وأصحُ قولى الشافعى، إذ الأصلُ عدمُ التخصيص، والرخصةُ إذا ثبتت فى حقِّ بعض الأُمة لمعنى تعدَّتْ إلى كُلِّ مَن وُجِدَ فيه ذلك المعنى، إذ الحكمُ يَعُم بعُمُوم سببه.
ومَن منع منه، قال: أحاديثُ التَّحريم عامةٌ، وأحاديثُ الرُّخصةِ يُحتمل اختصاصُها بعبد الرَّحمن بن عَوف والزُّبَيْر، ويُحتمل تَعديها إلى غيرهما. وإذا احتُمِلَ الأمران، كان الأخذ بالعموم أولى، ولهذا قال بعض الرواة فى هذا الحديث: فلا أدرى أبَلغتِ الرُّخصةُ مَنْ بعدهما، أم لا ؟
والصحيح: عمومُ الرُّخصة، فإنه عُرْف خطاب الشرع فى ذلك ما لم يُصرِّحْ بالتخصيص، وعدم إلحاق غير مَن رخَّص له أوَّلا به، كقوله لأبى بُرْدة فى تضحيته بالجذعة من المَعْز:
"تجزيكَ ولن تَجْزىَ عن أحدٍ بَعْدَك"، وكقوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نكاح مَن وهبتْ نفسَها له: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب: 50].

وتحريمُ الحرير: إنما كان سداً للذرِيعة، ولهذا أُبيح للنساء، وللحاجة، والمصلحةِ الراجحة، وهذه قاعدةُ ما حُرِّم لسد الذرائع، فإنه يُباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حَرُمَ النظر سداً لذريعة الفعل، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجةُ والمصلحةُ الراجحة، وكما حَرُمَ التنفلُ بالصلاة فى أوقات النهى سداً لذريعة المشابهة الصوريةِ بعُبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حَرُمَ رِبا الفضلِ سداً لذريعةِ رِبا النَّسيئة، وأُبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العَرَايا، وقد أشبَعْنا الكلام فيما يَحِلُّ ويَحْرُمُ من لباس الحرير فى كتاب: "التَّحْبِير لِمَا يَحلُّ وَيَحْرُمُ من لِباس الحَريرِ".
فصل
وأما الأمر الطبىُّ: فهو أنَّ الحرير من الأدوية المتخَذةِ من الحيوان، ولذلك يُعَد فى الأدوية الحيوانية، لأن مخرجَه من الحيوان، وهو كثيرُ المنافع، جليلُ الموقع، ومِن خاصيَّتِه تقويةُ القلب، وتَفريحُه، والنفع من كثير من أمراضه، ومِن غلبة المِرَّةِ السوداء، والأدواءِ الحادثة عنها، وهو مُقوٍ للبصر إذا اكتُحِلَ به، والخامُ منه وهو المستعمَلُ فى صناعة الطب حار يابس فى الدرجة الأولى. وقيل: حار رطب فيها. وقيل: معتدل. وإذا اتُّخِذَ منه ملبوسٌ كان معتدل الحرارة فى مزاجه، مسخِّناً للبدن، وربما برد البدن بتسمينه إياه.
قال الرازىّ: الإبْرَيْسَمُ أسخنُ من الكَتَّان، وأبردُ من القطن، يُربى

اللحمَ، وكلُّ لباس خشن، فإنه يُهزِلُ، ويصلب البَشْرة وبالعكس.
قلتُ: والملابسُ ثلاثة أقسام: قسمٌ يُسخن البدن ويُدفئه، وقسمٌ يُدفئه ولا يُسخنه، وقسمٌ لا يُسخنه ولا يدُفئُه، وليس هناك ما يُسخنه ولا يُدفئه، إذ ما يُسخنه فهو أولى بتدفئته، فملابسُ الأوبار والأصواف تُسخن وتُدفىء، وملابسُ الكَتَّان والحرير والقطن تُدفىءُ ولا تُسخن. فثياب الكَتَّان باردة يابسة، وثيابُ الصوف حارة يابسة، وثيابُ القطنِ معتدلةُ الحرارة، وثيابُ الحرير ألينُ من القطن وأقل حرارةً منه.
قال صاحب "المنهاج": "ولُبْسه لا يُسخن كالقُطن، بل هو معتدل، وكُلُّ لباس أملسَ صقيلٍ، فإنه أقلُّ إسخاناً للبدن، وأقلُّ عوناً فى تحلل ما يتحلل منه، وأحْرَى أن يُلبسَ فى الصيف، وفى البلاد الحارة"
ولمّا كانت ثيابُ الحرير كذلك، وليس فيها شىء من اليُبْس والخشونة الكائنين فى غيرها، صارت نافعة من الحِكَّة، إذ الحِكَّة لا تكونُ إلا عن حرارة ويبسٍ وخشونةٍ، فلذلك رخَّص رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزُّبَيْر وعبدِ الرَّحمن فى لباس الحرير لمداواةِ الحِكَّةِ، وثيابُ الحرير أبعدُ عن تولُّدِ القمل فيها، إذ كان مِزَاجُها مخالفاً لِمزاج ما يتولَّدُ منه القمل.
وأما القسمُ الذى لا يُدفىء ولا يُسخن، فالمتخَذ من الحديدِ، والرصاص، والخشب، والتُّراب... ونحوها، فإن قيل: فإذا كان لباسُ الحرير أعدلَ اللباس وأوفَقَه للبدن، فلماذا حرَّمتْه الشريعة الكاملةُ الفاضلةُ التى أباحت الطيباتِ، وحرَّمت الخبائث؟
قيل: هذا السؤال يجيبُ عنه كلُّ طائفةٍ من طوائف المسلمين بجوابٍ، فمُنْكِرُو الحِكَم والتَّعليلِ لمَّا رُفعِت قاعدةُ التعليلِ من أصلها لم يحتاجوا إلى جواب عن هذا السؤال.

ومُثْبِتُو التعليلِ والحِكَم وهم الأكثرون منهم مَن يُجيبُ عن هذا بأن الشريعةَ حرَّمته لتَصبِرَ النفوسُ عنه، وتَترُكَه لله، فتُثاب على ذلك لا سيما ولها عوضٌ عنه بغيره.
ومنهم مَن يُجيبُ عنه بأن خُلِقَ فى الأصل للنساء، كالحلية بالذهب، فَحَرُمَ على الرجالِ لما فيه من مَفسدةِ تَشَبُّه الرجالِ بالنساء.
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثُه من الفَخْر والخُيَلاء والعُجْب.
ومنهم مَن قال: حَرُمَ لما يُورثه بملامسته للبدن من الأُنوثةِ والتَّخَنُّثِ، وضدِّ الشَّهامة والرجولةِ، فإن لُبْسه يُكسبُ القلبَ صفة من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجدُ مَن يَلبَسُه فى الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنُّثِ والتأنُّثِ، والرَّخَاوةِ ما لا يَخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرِهم فحوليةِ ورُجولية، فلا بد أن يَنْقُصَه لُبْسُ الحرير منها، وإن لم يُذهبْهَا، وَمَن غَلُظتْ طِباعُه وكَثُفَتْ عن فهم هذا، فليُسَلِّم للشارع الحكيم، ولهذا كان أصح القولين: أنه يَحرم على الولى أن يُلبسه الصبىَّ لما يَنشأ عليه من صفات أهل التأنيث.
وقد روى النسائىُّ من حديث أبى موسى الأشعرىِّ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنَّ اللهَ أحلَّ لإِناثِ أُمَّتِى الحريرَ والذَّهبَ، وحَرَّمَه عَلى ذُكُورِها".
وفى لفظٍ: "حُرِّمَ لِباسُ الحَريرِ والذَّهَبِ عَلى ذُكورِ أُمَّتى، وأُحِلَّ لإِناثِهِم".
وفى "صحيح البخارى" عن حُذَيفة، قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لُبْس

الحرير والدِّيباجِ، وأن يُجلَسَ عليه"، وقال: "هُو لهم فى الدُّنيا، ولكم فى الآخِرَة ".
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج ذاتِ الجنب
روى الترمذى فى "جامعه" من حديث زيد بن أرقمَ، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "تَدَاوَوْا مِنْ ذاتِ الجَنْبِ بالقُسْطِ البَحْرى والزَّيْتِ".
وذاتُ الجنب عند الأطباء نوعان: حقيقى وغيرُ حقيقى. فالحقيقى: ورمٌ حار يَعْرِضُ فى نواحى الجَنب فى الغشاء المستبطن للأضلاع. وغير الحقيقى: ألم يُشبهه يَعْرِضُ فى نواحى الجنبِ عن رياح غليظة مؤذيةٍ تحتقِن بين الصِّفاقات، فتُحْدِث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقى، إلا أن الوجعَ فى هذا القسم ممدودٌ، وفى الحقيقى ناخسٌ.
قال صاحبُ "القانون": قد يعرِضُ فى الجنبِ، والصَّفاقات، والعَضَل التى فى الصدر، والأضلاع، ونواحيها أورامٌ مؤذية جداً موجِعةٌ، تسمى شَوْصةً وَبِرساماً، وذاتَ الجنب. وقد تكون أيضاً أوجاعاً فى هذه الأعضاء ليست من ورم، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العِلَّة، ولا تكون منها.
قال: واعلم أنَّ كُلَّ وجع فى الجنب قد يُسمى ذاتَ الجنب اشتقاقاً من مكان الألم، لأن معنى ذات الجنب: صاحبةُ الجنب، والغرضُ به ههنا

وَجَعُ الجنب، فإذا عَرَضَ فى الجنب ألمٌ عن أى سبب كانَ نُسِبَ إليه، وعليه حُمِلَ كلام "بقراط" فى قوله: إنَّ أصحابَ ذات الجنبِ ينتفعون بالحَمَّام. قيل: المراد به كلُّ مَن به وجعُ جنب، أو وجعُ رِئة من سوء مِزاج، أو من أخلاط غليظة، أو لذاعة من غير ورم ولا حُمَّى.
قال بعضُ الأطباء: وأما معنى ذات الجنب فى لغة اليونان، فهو ورمُ الجَنب الحار، وكذلك ورمُ كل واحد من الأعضاء الباطنة، وإنما سمى ذاتَ الجنب ورمُ ذلك العضو إذا كان ورماً حاراً فقط.
ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقى خمسةُ أعراض، وهى: الحُمَّى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النَّفَس، والنبضُ المنشارى.
والعلاج الموجود فى الحديث، ليس هو لهذا القسم، لكن للقسم الثانى الكائن عن الريح الغليظة، فإنَّ القُسْطَ البحرى وهو العود الهندى على ما جاء مفسَّراً فى أحاديث أُخَر صِنفٌ من القُسْط إذا دُقَّ دقاً ناعماً، وخُلِط بالزيت المسخن، ودُلِكَ به مكانُ الريح المذكور، أو لُعِق، كان دواءً موافقاً لذلك، نافعاً له، محلِّلاً لمادته، مُذْهِباً لها، مقوياً للأعضاء الباطنة، مفتحاً للسُّدد، والعودُ المذكور فى منافعه كذلك.
قال المسيحىُّ: العود: حار يابس، قابض يحبسُ البطن، ويُقوى الأعضاء الباطنة، ويطرُد الريح، ويفتح السُّدد، نافعٌ من ذات الجنب، ويُذهب فضلَ الرطوبة، والعُود المذكور جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع القُسْط مِن ذات الجنب الحقيقيةِ أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية،

لا سيما فى وقت انحطاط العِلَّة.. والله أعلم.
وذاتُ الجنب: من الأمراض الخطرة، وفى الحديث الصحيح: عن أُم سلمةَ، أنها قالت: بدأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمرضِه فى بيت ميمُونةَ، وكان كلَّما خَفَّ عليه، خرجَ وصلَّى بالناس، وكان كلَّما وَجَد ثِقَلاً، قال: "مُرُوا أبا بكرٍ فليُصَلِّ بالناس"، واشتد شكواه حتى غُمِرَ عليه مِن شدةِ الوجع، فاجتمع عنده نساؤه، وعمُّه العباس، وأُمُّ الفضل بنت الحارث، وأسماءُ بنت عُمَيْس، فتشاوروا فى لدِّهِ، فَلدُّوه وهو مغمورٌ، فلما أفاق قال: "مَن فعل بى هذا ؟ هذا من عمل نساءٍ جِئْنَ من ههُنا"، وأشار بيده إلى أرضِ الحبشةِ، وكانت أُمُّ سلمةَ وأسماءُ لَدَّتاهُ، فقالوا: يا رسولَ الله؛ خشِينَا أن يكون بكَ ذاتُ الجنب. قال: "فَبِمَ لَدَدْتُمُونى" ؟ قالوا: بالعُودِ الهندىِّ، وشىءٍ من وَرْسٍ وقَطِرَاتٍ من زيت. فقال: "ما كان اللهُ لِيَقْذِفَنِى بذلك الدَّاءِ"، ثم قال: "عَزَمْتُ عليكم أنْ لا يَبْقى فى البيتِ أحدٌ إلا لُدَّ إلا عَمِّىَ العَبَّاس".

وفى "الصحيحين" عن عائشةَ رضى الله تعالى عنها قالت: لَدْدنَا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار أن لا تَلُدُّونِى، فقلنا: كراهِيةُ المريض للدواءِ، فلما أفاق قال: "ألم أنْهَكُمْ أن تَلُدُّونِى، لا يَبْقَى منكم أحدٌ إلا لُدَّ غَيْرَ عَمِّى العباس، فإنَّه لَمْ يَشْهَدْكُم".
قال أبو عبيد عن الأصمعىِّ: اللَّدُودُ: ما يُسقى الإنسان فى أحد شِقَّى الفم، أُخِذ من لَدِيدَى الوادى، وهما جانباه. وأما الوَجُورُ: فهو فى وسط الفم.
قلت: واللَّدود بالفتح: هو الدواءُ الذى يُلَدَّ به. والسَّعوطُ: ما أُدخل من أنفه.
وفى هذا الحديث من الفقه معاقبةُ الجانى بمثل ما فعل سواء، إذا لم يكن فِعلُه محرماً لحق الله، وهذا هو الصوابُ المقطوع به لبضعةَ عشر دليلاً قد ذكرناها فى موضع آخر، وهو منصوص أحمد، وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين، وترجمة المسألة بالقِصاص فى اللَّطمة والضربة، وفيها عدةُ أحاديث لا مُعارِضَ لها ألبتة، فيتعين القولُ بها.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الصُّدَاع والشقيقة
روى ابن ماجه فى "سننه" حديثاً فى صحته نظر: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان

إذا صُدِع، غَلَّفَ رأسَه بالحنَّاءِ، ويقول: "إنَّهُ نافعٌ بإذنِ الله من الصُّداعِ".
والصُّدَاع: ألم فى بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه فى أحد شِقَّى الرأس لازماً يُسمَّى شقيقةً؛ وإن كان شاملاً لجميعه لازماً، يسمى بَيضْةً وخُودَةً تشبيهاً بِبَيْضَة السلاح التى تشتمل على الرأس كلِّه، وربما كان فى مؤخَّر الرأس أو فى مقدمه.
وأنواعه كثيرة، وأسبابه مختلفة. وحقيقة الصُّداع: سخونةُ الرأس، واحتماؤه لما دار فيه مِن البخار يطلُب النفوذ من الرأس، فلا يجد منفذاً، فيصدَعُه كما يصدع الوَعىُ إذا حمى ما فيه وطلب النفوذ، فكل شىء رطب إذا حمى، طلب مكاناً أوسع من مكانه الذى كان فيه، فإذا عرض هذا البخار فى الرأس كله بحيث لا يمكنه التَّفَشِّى والتحلل، وجال فِى الرأس، سمى: السَّدرَ.
والصُّداع يكون عن أسباب عديدة:
أحدها: من غلبة واحد من الطبائع الأربعة.
والخامس: يكون من قروح تكون فى المعدة، فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة.

والسادس: من ريح غليظة تكون فى المعدة، فتصعَدُ إلى الرأس فتصدعه.
والسابع: يكون من ورم فى عروق المعدة، فيألمُ الرأسُ بألم المعدة للاتصال الذى بينهما.
والثامن: صُداع يحصل من امتلاء المعدة من الطعام، ثم ينحدر ويبقى بعضُه نيئاً، فيصدَع الرأس ويثقله.
والتاسع: يعرض بعد الجِمَاع لتخلخل الجسم، فيصل إليه مِن حر الهواء أكثرُ من قدر.
والعاشر: صداع يحصُل بعد القىء والاستفراغ، إما لغلبة اليبس، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه.
والحادى عشر: صُداع يعرِضُ عن شدة الحر وسخونة الهواء.
والثانى عشر: ما يَعْرِضُ من شدة البرد، وتكاثفِ الأبخرة فى الرأس وعدم تحَلُّلها.
والثالث عشر: ما يحدُث مِن السهر وعدم النوم.
والرابع عشر: ما يحدُث مِن ضغط الرأس وحمل الشىء الثقيل عليه.
والخامس عشر: ما يحدُث مِن كثرة الكلام، فتضعف قوةُ الدماغ لأجله.
والسادس عشر: ما يحدُث مِن كثرة الحركة والرياضة المفرطة.
والسابع عشر: ما يحدُث من الأعراض النفسانية، كالهموم، والغموم، والأحزان، والوساوس، والأفكار الرديئة.
والثامن عشر: ما يحدُث من شدة الجوع، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه.

والتاسع عشر: ما يحدُث عن ورم فى صِفاق الدماغ، ويجد صاحبُه كأنه يُضْرَب بالمطارق على رأسه.
والعشرون: ما يحدُث بسبب الحُمَّى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم.. والله أعلم.
فصل
وسبب صُداع الشقيقة مادة فى شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها، أو مرتقية إليها، فيقبلُها الجانب الأضعف من جانبيه، وتلك المادةُ إما بُخارية، وإما أخلاط حارة أو باردة، وعلامتُها الخاصة بها ضرَبان الشرايين، وخاصة فى الدموى. وإذا ضُبِطت بالعصائب، ومُنِعت من الضَّربَان، سكن الوجع.
وقد ذكر أبو نعيم فى كتاب "الطب النبوى" له: أنَّ هذا النوع كان يُصيب النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيمكث اليوم واليومين، ولا يخرج.
وفيه: عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عَصَبَ رأسه بعِصَابةٍ.
وفى "الصحيح": أنه قال فى مرض موته: "وَارَأْسَاهُ". وكان يُعصِّبُ رأسه فى مرضه، وعَصْبُ الرأس ينفع فى وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.

فصل
وعِلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه، فمنه ما علاجُه بالاستفراغ، ومنه ما علاجُه بتناول الغذاء، ومنه ما عِلاجُه بالسُّكون والدَّعة، ومنه ما عِلاجُه بالضِّمادات، ومنه ما علاجُه بالتبريد، ومنه ما علاجُه بالتسخين، ومنه ما عِلاجُه بأن يجتنب سماعَ الأصواتِ والحركات.
إذا عُرِفَ هذا، فعِلاجُ الصُّداع فى هذا الحديث بالحِنَّاء، هو جزئى لا كُلِّى، وهو علاج نوع من أنواعِه، فإن الصُّداع إذا كان من حرارة ملهبة، ولم يكن من مادةٍ يجب استفراغها، نفع فيه الحِنَّاء نفعاً ظاهراً، وإذا دُقَّ وضُمِّدَتْ به الجبهةُ مع الخل، سكن الصُّداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضُمِّدَ به، سكنت أوجاعُه، وهذا لا يختصُّ بوجع الرأس، بل يعُمُّ الأعضاءَ، وفيه قبض تُشَدُّ به الأعضاء، وإذا ضُمِّدَ به موضعُ الورم الحار والملتهب، سكَّنه.
وقد روى البخارى فى "تاريخه"، وأبو داود فى "السنن" أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شَكا إليه أحدٌ وجَعاً فى رأسِهِ إلا قال له: "احْتَجِمْ"، ولا شَكى إليه وجَعاً فى رجلَيْه إلا قال له: "اخْتَضِبْ بالحِنَّاء".
وفى الترمذى: عن سَلْمَى أُمِّ رافعٍ خادمِة النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالتْ: كان لا يُصيبُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرحةٌ ولا شَوْكةٌ، إلا وَضَع عليها الحِنَّاءَ

فصل
والحِنَّاءُ باردٌ فى الأُولى، يابسٌ فى الثانية، وقوةُ شجر الحِنَّاء وأغصانها مُركَّبةٌ من قوة محللة اكتسبتْها من جوهر فيها مائى، حار باعتدال، ومِن قوة قابضة اكتسبتْها من جوهر فيها أرضى بارد.
ومن منافعه أنه محلِّلٌ نافع من حرق النار، وفيه قوةٌ موافقة للعصب إذا ضُمِّدَ به، وينفع إذا مُضِغ من قُروح الفم والسُّلاق العارض فيه. ويبرىءُ القُلاع الحادث فى أفواه الصبيان، والضِّماد به ينفعُ مِن الأورام الحارة الملهبة، ويفعَلُ فى الجراحات فِعل دم الأخوَين، وإذا خُلِطَ نَوْرُه مع الشمع المصفَّى، ودُهن الورد، ينفع من أوجاع الجنب.
ومن خواصه أنه إذا بدأ الجُدرِىُّ يخرج بصبى، فخُضِبَت أسافل رجليهِ بحنَّاءٍ، فإنه يُؤمَنُ على عينيه أن يخرُج فيها شىء منه، وهذا صحيح مُجرَّب لا شك فيه. وإذا جُعِل نَوْرُه بين طى ثياب الصوف طيَّبها، ومنع السوس عنها، وإذا نُقِعَ ورقُه فى ماءٍ عذب يغمُره، ثم عُصِرَ وشُرِبَ من صفوه أربعين يوماً كلَّ يوم عشرون درهماً مع عشرة دراهم سكر، ويُغذَّى عليه بلحم الضأن الصغير، فإنه ينفع من ابتداء الجُذام بخاصيةٍ فيه عجيبة.
وحُكى أنَّ رجلاً تشقَّقَتْ أظافيرُ أصابِع يده، وأنه بذل لمن يُبرئه مالاً، فلم يجد، فوصفت له امرأة، أن يشرب عشرة أيام حِناء، فلم

يُقْدِم عليه، ثم نقعه بماء وشربه، فبرأ ورجعت أظافيرُه إلى حسنها.
والحِنَّاء إذا أُلزِمَتْ به الأظفار معجوناً حسَّنها ونفعها، وإذا عُجِنَ بالسمن وضُمِّدَ به بقايا الأورام الحارة التى تَرْشَحُ ماءً أصفر نفعها، ونفع من الجرَب المتقرِّح المزمن منفعة بليغة، وهو يُنْبت الشعرَ ويقويه، ويُحَسِّنه، ويُقوِّى الرأس، وينفع من النَّفَّاطات، والبُثور العارضة فى الساقين والرِّجْلين، وسائر البدن.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب، وأنهم لا يُكرَهون على تناولهما
روى الترمذى فى "جامعه"، وابنُ ماجه، عن عقبة بن عامر الجُهَنِى، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُكْرِهوا مَرضاكُم عَلَى الطَّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُطْعِمُهُم ويَسْقِيهمْ".
قال بعضُ فضلاء الأطباء: ما أغزرَ فوائدَ هذه الكلمة النبوية المشتملة على حِكم إلهية، لا سِيَّما للأطباء، ولمن يُعالِج المرضى، وذلك أنَّ المريضَ إذا عاف الطعامَ أو الشراب، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض،

أو لسقوط شهوته، أو نُقْصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها، وكيفما كان، فلا يجوز حينئذ إعطاءُ الغِذاء فى هذه الحالة.
واعلم أنَّ الجوعَ إنما هو طلبُ الأعضاء للغذاء لتُخلِفَ الطبيعة به عليها عِوضَ ما يتحلل منها، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهىَ الجذبُ إلى المعدة، فيُحِسُّ الإنسان بالجوع، فيطلبُ الغِذاء، وإذا وُجِدَ المرض، اشتغلت الطبيعةُ بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء، أو الشراب، فإذا أُكْرِهَ المريضُ على استعمال شىء من ذلك، تعطلَّتْ به الطبيعة عن فعلها، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه، فيكون ذلك سبباً لضرر المريض، ولا سِيَّما فى أوقات البُحْران، أو ضعفِ الحار الغريزى أو خمودِه، فيكون ذلك زيادةً فى البلية، وتعجيل النازلة المتوقَّعةَ. ولا ينبغى أن يُستعمل فى هذا الوقتِ والحال إلا ما يحفظُ عليه قوَّته ويُقويها مِن غير استعمال مزعج للطبيعة ألبتة، وذلك يكونُ بما لَطُفَ قِوامه من الأشربة والأغذية، واعتدلَ مِزاجه كشراب اللَّينوفر، والتفاح، والورد الطَّرِى، وما أشبه ذلك، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط، وإنعاش قواه بالأراييح العَطِرَة الموافقة، والأخبار السارة، فإنَّ الطبيبَ خادمُ الطبيعة، ومعينها لا معيقها.
واعلم أنَّ الدم الجيد هو المُغَذِّى للبدن، وأنَّ البلغم دم فج قد نضج بعضَ النضج، فإذا كان بعض المرضى فى بدنه بلغم كثير، وعُدِم

الغذاءُ، عطفت الطبيعةُ عليه، وطبخته، وأنضجته، وصيَّرته دماً، وغَذَّت به الأعضاء، واكتفت به عما سواه، والطبيعةُ هى القوة التى وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته، وحراسته مدة حياته.
واعلم أنه قد يُحتاج فى النَّدرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب، وذلك فى الأمراض التى يكون معها اختلاطُ العقل، وعلى هذا فيكونُ الحديثُ من العامِّ المخصوص، أو من المُطْلَقِ الذى قد دلَّ على تقييده دليلٌ، ومعنى الحديث: أنَّ المريضَ قد يعيش بلا غذاء أياماً لا يعيش الصحيحُ فى مثلها.
وفى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإنَّ الله يُطعِمُهم ويَسْقِيهِم" معنى لطيفٌ زائد على ما ذكره الأطباءُ لا يعرفُه إلا مَن له عناية بأحكام القُلوب والأرواح، وتأثيرها فى طبيعة البَدن، وانفعالِ الطبيعة عنها، كما تنفعل هى كثيراً عن الطبيعة، ونحن نُشير إليه إشارةً، فنقول: النَّفْسُ إذا حصل لها ما يشغَلُها مِن محبوبٍ أو مكروهٍ أو مَخُوف، اشتغلَتْ به عن طلب الغِذاء والشراب، فلا تُحِسُّ بجوع ولا عطش، بل ولا حر ولا برد، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم، فلا تُحِسُّ به، وما من أحد إلا وقد وجدَ فى نفسه ذلك أو شيئاً منه، وإذا اشتغلتْ النفس بما دهمها، وورد عليها، لم تُحِسَّ بألم الجوع، فإن كان الوارد مفرِّحاً قوىَّ التفريح، قام لها مَقامَ الغِذاء، فشبعتْ به، وانتعشتْ قُواها، وتضاعفَت، وجرت الدمويةُ فى الجسد حتى تظهر فى سطحه، فيُشرِقُ وجهه، وتظهر دمويتهُ، فإنَّ الفرح يُوجبُ انبساطَ دم القلب، فينبعثُ فى العروق، فتمتلئُ به، فلا تطلبُ الأعضاءُ حَظَّها من الغذاءِ المعتاد لاشتغالها بما هو أحبُّ إليها، وإلى الطبيعة منه، والطبيعةُ إذا ظَفِرَتْ بما تُحبُّ، آثرتْه على ما هو دونه.

وإن كان الواردُ مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً، اشتغلتْ بمحاربتِه ومُقاومتِه ومُدافعته عن طلب الغذاء، فهى فى حال حربها فى شغل عن طلب الطعام والشراب. فإن ظفرتْ فى هذا الحرب، انتعشت قواها، وأخلَفت عليها نظيرَ ما فاتها من قوة الطعام والشراب، وإن كانت مغلوبةً مقهورة، انحطَّتْ قواها بحسب ما حصل لها من ذلك، وإن كانت الحربُ بينها وبين هذا العدوِّ سِجالاً، فالقوةُ تظهرُ تارةً وتختفى أُخرى، وبالجملة فالحربُ بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين، والنصرُ للغالبِ، والمغلوب إما قتيل، وإما جريح، وإما أسير.
فالمريض: له مَددٌ مِنَ الله تعالى يُغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم، وهذا المَددُ بحسب ضعفِه وانكسارِه وانطِراحِه بين يدى ربه عَزَّ وجَلَّ، فيحصُل له من ذلك ما يُوجب له قُرباً من ربه، فإنَّ العبدَ أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ، ورحمةُ ربه عندئذٍ قريبة منه، فإن كان ولياً له، حصل له من الأغذية القلبية ما تَقْوى به قُوَى طبيعته، وتَنتعشُ به قواه أعظمَ مِن قوتها، وانتعاشها بالأغذية البدنية، وكلما قَوى إيمانُه وحُبُّه لربه، وأُنسُه به، وفرحُه به، وقَوى يقينه بربه، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجَدَ فى نفسه من هذه القوة ما لا يُعَبَّرُ عنه، ولا يُدركُه وصف طبيب، ولا يَنالُه علمه.
ومَن غَلُظ طبعُه، وكَثُفتْ نفسُه عن فهم هذا والتصديق به، فلينظرْ حالَ كثير من عُشَّاقِ الصور الذين قد امتلأتْ قلوبُهم بحُب ما يعشَقوُنه من صُورةٍ، أو جاهٍ، أو مال، أو علم، وقد شاهد الناسُ من هذا عجائبَ فى أنفسهم وفى غيرهم.
وقد ثبت فى "الصحيح": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه كان يُواصلُ فى الصِّيام

الأيامَ ذواتِ العددِ، وينهَى أصحابه عن الوِصال ويقول: "لستُ كَهَيْئَتِكُمْ إنى أَظَلُّ يُطعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى".
ومعلومٌ أنَّ هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذى يأكله الإنسانُ بفمه، وإلا لم يكن مواصلاً، ولم يتحقق الفرق، بل لم يكن صائماً، فإنه قال: "أَظَلُّ يُطْعِمُنى رَبِّى ويَسْقِينى".
وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم فى نفس الوِصال، وأنه يَقدِرُ منه على ما لا يقدِرُون عليه، فلو كان يأكلُ ويشرب بفمه، لم يَقُلْ: "لَسْتُ كَهَيْئَتِكُم"، وإنما فَهِمَ هذا من الحديث مَنْ قَلَّ نصيبُه من غذاء الأرواح والقلوب، وتأثيرِهِ فى القوة وإنعاشِها، واغتذائها به فوقَ تأثير الغِذاء الجسمانىِّ.. والله الموفق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج العُذْرة وفى العلاج بالسَّعوط
ثبت عنه فى "الصحيحين" أنه قال: "خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُم به الحِجَامةُ، والقُسْطُ البَحْرِىُّ، ولا تُعَذِّبُوا صِبْيانَكُمْ بالغَمْزِ من العُذْرَةِ".
وفى "السنن" و"المسند" عنه من حديث جابر بن عبد الله قال: دَخَلَ

رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة، وعِندَها صَبِىٌ يَسِيلُ مَنخراهُ دماً، فقال: "ما هذا" ؟ فقالوا: به العُذرةُ، أو وَجعٌ فى رأسه، فقال : "وَيلكُنَّ، لا تَقْتُلنَ أَوْلادَكُنَّ، أيُّما امرأةٍ أصابَ وَلَدَها عُذْرَةٌ أو وَجَعٌ فى رأسِه، فَلْتَأخُذْ قُسْطاً هِنْدِيَّاً فَلْتَحُكَّه بماءٍ، ثم تُسْعِطْهُ إيَّاهُ" فأمَرتْ عائشةُ رضى الله عنها فصُنِعَ ذلك بالصبىِّ، فبَرَأَ.
قال أبو عُبيدٍ عن أبى عُبيدَةَ: العُذْرَةُ: تهيُّجٌ فى الحَلْق من الدم، فإذا عُولج منه، قيل: قد عُذِرَ به، فهو معذورٌ.. انتهى.
وقيل: العُذْرَةُ: قرحة تخرج فيما بين الأذُن والحلق، وتَعرض للصبيان غالباً.
وأما نفعُ السَّعوط منها بالقُسْط المحكوك، فلأن العُذْرَةُ مادتُها دم يغلب عليه البلغمُ، لكن تولده فى أبدان الصبيان أكثر، وفى القُسْط تجفيفٌ يَشُدُّ اللهاةَ ويرفعها إلى مكانها، وقد يكون نفعُه فى هذا الداء بالخاصية، وقد ينفع فى الأدواء الحارة، والأدوية الحارة بالذات تارة، وبالعرض أُخرى. وقد ذكر صاحب "القانون" فى معالجة سُقوط اللهَاة: القُسطَ مع الشَّب اليمانىِّ، وبذر المرو.
والقُسْطُ البحرىُّ المذكور فى الحديث: هو العود الهندى، وهو الأبيض منه، وهو حلو، وفيه منافعُ عديدة. وكانوا يُعالجون أولادَهم بغَمز اللهاة، وبالعِلاَق، وهو: شىء يُعلِّقونه على الصبيان، فنهاهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفعُ للأطفال، وأسهلُ عليهم.
والسَّعوطُ: ما يُصَبُّ فى الأنف، وقد يكون بأدوية مفردة ومُركَّبة تُدَق وتُنخل وتُعجن وتُجفف، ثم تُحَلُّ عند الحاجة، ويُسعط بها فى

أنف الإنسان، وهو مستلقٍ على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعُهما لتنخفض رأسُه، فيتمكن السَّعوطُ من الوصول إلى دماغه، ويُستخرج ما فيه من الداء بالعطاس، وقد مدح النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التداوىَ بالسَّعوط فيما يُحتاج إليه فيه.
وذكر أبو داودَ فى "سننه": "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعطَ".
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج المفؤود
روى أبو داود فى "سننه" من حديث مُجاهدٍ، عن سعد، قال: "مَرضتُ مرضاً، فأتَانِى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودنى، فَوَضَعَ يَدَه بين ثَديَىَّ حَتَّى وَجَدتُ بَرْدَها على فؤادى، وقال لى: إنَّكَ رجُلٌ مَفْؤُودٌ فأْتِ الحارَثَ بن كَلَدَةَ من ثَقِيفٍ، فإنَّه رجلٌ يتطبَّبُ، فلْيأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ من عَجْوَةِ المدينةِ، فلْيَجأْهُنَّ بِنَواهُنَّ، ثم لِيَلُدَّكَ بِهِنَّ".
المفؤود: الذى أُصيب فؤادُه، فهو يشتكيه، كالمبطون الذى يشتكى بطنه.
واللَّدُود: ما يُسقاه الإنسانُ من أحد جانبى الفم.
وفى التَّمْر خاصيَّةٌ عجيبةٌ لهذا الداء، ولا سِيَّما تمرَ المدينة، ولا سِيَّما العجوة منه، وفى كونها سبعاً خاصيةٌ أُخرى، تُدرَك بالوحى، وفى "الصحيحين": من

حديث عامر بن سعد بن أبى وَقَّاصٍ، عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ تَصَبَّحَ بسبعِ تَمَرَاتٍ من تَمْرِ العَالِيَة لم يَضُرَّهُ ذلك اليومَ سَمٌ ولا سِحْرٌ".
وفى لفظ: "مَن أكل سَبْعَ تمراتٍ ممَّا بَيْن لاَبَتَيْها حينَ يُصبحُ، لم يَضُرَّهُ سَمٌ حتى يُمْسِى".
والتَّمْرُ حارٌ فى الثانية، يابس فى الأُولى. وقيل: رطبٌ فيها. وقيل: معتدل، وهو غذاءٌ فاضلٌ حافظٌ للصحة لا سِيَّما لمن اعتاد الغِذَاءَ به، كأهل المدينة وغيرهم، وهو من أفضل الأغذية فى البلاد الباردةِ والحارةِ التى حرارتُها فى الدرجة الثانية، وهو لهم أنفعُ منه لأهل البلاد البارِدةِ، لبرودةِ بواطن سكانها، وحرارةِ بواطن سكان البلاد الباردة، ولذلك يُكثِرُ أهلُ الحجاز واليمن والطائف، وما يليهم مِن البلاد المشابهةِ لها من الأغذية الحارة ما لا يتَأتَّى لغيرهم، كالتَّمْر والعسل، وشاهدناهم يَضَعُون فى أطعمتهم من الفُلْفُل والزَّنْجبيل، فوقَ ما يضعه غيرُهم نحوَ عشرة أضعاف أو أكثر، ويأكلون الزَّنْجبيل كما يأكل غيرُهم الحَلْوى، ولقد شاهدتُ من يَتَنَقَّل به منهم كما يتنقل بالنُّقْلِ، ويوافقهم ذلك ولا يضرُّهم لبرودةِ أجوافهم، وخروج الحرارة إلى ظاهر الجسد، كما تُشاهَدُ مياهُ الآبار تبرُدُ من الصيف، وتسخن فى الشتاء، وكذلك تُنضج المعدة من الأغذية الغليظة فى الشتاء ما لا تُنضجه فى الصيف.
وأما أهل المدينة، فالتَّمْر لهم يكاد أن يكونَ بمنزلة الحِنطة لغيرهم،

وهو قوتُهم ومادتُهم، وتمرُ العاليةِ مِن أجود أصناف تمرهم، فإنه متينُ الجسم، لذيذُ الطعم، صادق الحلاوة، والتَّمْر يدخل فى الأغذية والأدوية والفاكهة، وهو يُوافق أكثر الأبدان، مقوٍّ للحار الغريزى، ولا يتولَّد عنه من الفَضلات الرديئة ما يتولَّد عن غيره من الأغذية والفاكهة، بل يمنع لمن اعتاده مِن تعفن الأخلاط وفسادِها.
وهذا الحديثُ من الخطاب الذى أُريد به الخاصُّ، كأهلِ المدينة ومَن جاوَرَهم، ولا ريبَ أنَّ للأمكنة اختصاصاً ينفع كثير من الأدوية فى ذلك المكان دونَ غيره، فيكون الدواء الذى قد ينبت فى هذا المكان نافعاً من الداء، ولا يوجد فيه ذلك النفعُ إذا نبت فى مكان غيره لتأثير نفس التُّربة أو الهواء، أو هما جميعاً، فإنَّ للأرض خواص وطبائع يُقارب اختلافُها اختلافَ طبائع الإنسان، وكثيرٌ من النبات يكون فى بعض البلاد غذاءً مأكولاً، وفى بعضها سُمّاً قاتلاً، ورُبَّ أدويةٍ لقوم أغذية لآخرين، وأدوية لقوم من أمراض هى أدويةٌ لآخرينَ فى أمراض سواها؛ وأدوية لأهل بلدٍ لا تُناسب غيرهم، ولا تنفعهم.
وأمَّا خاصية السَّبْعِ، فإنها قد وقعت قدْراً وشرعاً، فخلق الله عَزَّ وَجَلَّ السَّمواتِ سبعاً، والأرضَينَ سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه فى سبعة أطوار، وشرع الله سبحانه لعباده الطواف سبعاً، والسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ورمىَ الجمارِ سبعاً سبعاً، وتكبيراتِ العيدين سبعاً فى الأولى. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مُرُوهم بالصَّلاةِ لسَبْعٍ"، "وَإِذَا صَارَ

للغُلامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيِّرَ بين أبويه " فى رواية.
وفى رواية أخرى: "أبُوه أحقُّ به من أُمِّهِ"، وفى ثالثة: "أُمُّهُ أحَقُّ به" وأمر النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مرضه أن يُصَبَّ عليه من سبعِ قِرَبٍ، وسَخَّر الله الريحَ على قوم عادٍ سبع ليال، وَدَعَا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعينَه اللهُ على قومه بسبعٍ كسبعِ يوسف، ومَثَّلَ اللهُ سبحانه ما يُضاعِفُ به صَدَقَةَ المتصدِّقِ بِحَبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل فى كلِّ سُنبلة مائة حَبَّةٍ، وَالسَّنابل التى رآها صاحبُ يوسفَ سبعاً، والسنين التى زرعوها دأْباً سبعاً، وتُضاعَفُ الصدقة إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، ويدخل الجنََّة من هذه الأُمَّة بغير حساب سبعون ألفاً.
فلا ريب أنَّ لهذا العدد خاصيَّة ليست لغيره، والسبعة جمعت معانىَ

العدد كله وخواصه، فإن العددَ شَفْعٌ ووَتْرٌ. والشَفْع: أول وثان. والوَتْر: كذلك، فهذه أربع مراتب: شفع أول، وثان. ووتر أول، وثان، ولا تجتمع هذه المراتبُ فى أقلِّ مِن سبعة، وهى عدد كامل جامع لمراتب العدد الأربعة، أعنى الشَفْع والوَتْر، والأوائل والثوانى، ونعنى بالوَتْر الأول، الثلاثة، وبالثانى الخمسة؛ وبالشَفْع الأول الاثنين، وبالثانى الأربعة، وللأطباء اعتناءٌ عظيم بالسبعة، ولا سِيَّما فى البحارين. وقد قال "بقراط": كل شىء فى هذا العالَم فهو مقدَّر على سبعة أجزاء، والنجوم سبعة، والأيام سبعة، وأسنان الناس سبعة، أولها طفل إلى سبع، ثم صبى إلى أربع عشرة، ثم مُراهِقٌ، ثم شابٌ، ثم كهلٌ، ثم شيخٌ، ثم هَرِمٌ إلى منتهى العمر، والله تعالى أعلم بحكمته وشرعه، وقدره فى تخصيص هذا العدد، هل هو لهذا المعنى أو لغيره ؟
ونفع هذا العدد مِن هذا التَّمْر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السُّم والسِّحر، بحيث تمنع إصابته، من الخواصِّ التى لو قالها "بقراط" و"جالينوس" وغيرهما من الأطباء، لتلقَّاها عنهم الأطباءُ بالقبول والإذعان والانقياد، مع أنَّ القائل إنما معه الحَدْسُ والتخمين والظنُّ، فمَن كلامُه كلُّه يقينٌ، وقطعٌ وبرهانٌ ووحىٌ، أولى أن تُتلقى أقوالُه بالقبول والتسليم، وترك الاعتراض. وأدوية السُّموم تارة تكون بالكيفية، وتارة تكون بالخاصية كخواص كثير من الأحجار والجواهر واليواقيت.. والله أعلم.
فصل
ويجوز نفعُ التَّمْر المذكور فى بعض السموم، فيكونُ الحديثُ مِن العام المخصوص، ويجوز نفعُه لخاصية تلك البلد، وتلك التُّرْبة الخاصة

من كل سُمٍّ، ولكن ههنا أمر لا بد من بيانه، وهو أنَّ مِن شرط انتفاع العليل بالدواء قبولَه، واعتقاد النفعُ به؛ فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العِلَّة، حتى إنَّ كثيراً من المعالجات ينفع بالاعتقاد، وحُسْن القبول، وكمال التلقِّى، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب، وهذا لأ ن الطبيعة يشتد قبولُها له، وتفرحُ النفس به، فتنتعشُ القُوَّة، ويقوى سلطانُ الطبيعة، وينبعثُ الحار الغريزى، فيُساعد على دفع المؤذى، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعاً لتلك العِلَّة، فيقطعُ عملَه سوءُ اعتقاد العليل فيه، وعدمُ أخذ الطبيعة له بالقبول، فلا يجدى عليها شيئاً. واعتبرْ هذا بأعظم الأدوية والأشفية، وأنفعِها للقلوب والأبدان، والمعاش والمعاد، والدنيا والآخرة، وهو القرآن الذى هو شفاءٌ مِن كل داء، كيف لا ينفع القلوب التى لا تعتقد فيه الشفاء والنفع، بل لا يزيدها إلا مرضاً إلى مرضها، وليس لِشفاء القلوب دواءٌ قَطُّ أنفعَ مِن القرآن، فإنه شفاؤها التام الكامل الذى لا يُغادر فيها سقماً إلا أبرأه، ويحفظ عليها صحتها المطلقة، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذٍ ومُضرٍ، ومع هذا فإعراضُ أكثرِ القلوب عنه، وعدم اعتقادها الجازم الذى لا ريب فيه أنه كذلك، وعدمُ استعماله، والعدول عنه إلى الأدوية التى ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به، وغلبت العوائدُ، واشتد الإعراض، وتمكنت العللُ والأدواءُ المزمنة من القلوب، وتربَّى المرضى والأطباء على علاج بنى جنسهم وما وضعه لهم شيوخُهم، ومَنْ يُعظمونه ويُحسنون به ظنونهم، فعظم المصابُ، واستحكم الداءُ، وتركَّبت أمراضٌ وعللٌ أعيَا عليهم عِلاجُها، وكلمَّا عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقَمَ أمرها، وقويت، ولسانُ الحال يُنادى عليهم:
ومِنَ العَجائِبِ والعَجائِبُ جَمَّةٌ ... قُرْبُ الشِّفَاءِ وما إليهِ وصولُ
كَالْعِيسِ فى الْبيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّما ... والماءُ فوق ظُهُورِهَا مَحْمولُ

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى دفع ضرر الأغذية والفاكهة وإصلاحها بما يدفع ضررها، ويُقوِّى نفعَها
ثبت فى "الصحيحين" من حديث عبد الله بن جعفر، قال: "رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل الرُّطَبَ بالقِثَّاء".
والرُّطب: حارٌ رَطْبٌ فى الثانية، يُقَوِّى المَعِدَة الباردة، ويُوافقها، ويزيد فى الباه، ولكنه سريعُ التعفُّن، معطِّش مُعَكِّر للدم، مُصَدِّع مُوَلِّد للسُّدد، ووجع المثانة، ومُضِرٌ بالأسنان، والقثاء بارد رطب فى الثانية، مسكن للعطش، منعِش للقُوَى بشمه لما فيه من العطرية، مُطفىءُ لحرارة المَعِدَة الملتهبة، وإذا جُفِّف بزره، ودُقَّ واستُحْلِبَ بالماء، وشُرِب، سكَّن العطش، وأدرَّ البول، ونفع من وجع المثانة. وإذا دُقَّ ونُخِل، ودُلك به الأسنان، جلاها، وإذا دُقَّ ورقُه وعُمِل منه ضماد مع المَيْبَخْتَج، نفع من عضة الكلب الكَلِب.
وبالجملة: فهذا حار، وهذا بارد، وفى كل منهما صلاحُ الآخر، وإزالة لأكثر ضرره، ومقاومة كل كيفية بضدها، ودفع سَوْرتِها بالأُخرى، وهذا أصل العِلاج كله، وهو أصل فى حفظ الصحة، بل علم الطب كله يُستفاد من هذا. وفى استعمال ذلك وأمثالِهِ فى الأغذية والأدوية إصلاحٌ لها وتعديلٌ، ودفعٌ لما فيها من الكيفيات المُضِرَّة لما يُقابلها، وفى ذلك

عَوْنٌ على صحة البدن، وقُوَّته وخِصبِه، قالت عائشة رضى الله عنها: سَمَّنونى بكلِّ شىء، فلم أسَمْن، فسَمَّنونى بالقِثَّاء والرُّطَب، فسمنت.
وبالجملة: فدفعُ ضررِ البارد بالحار، والحار بالبارد، والرَّطبِ باليابس، واليابس بالرَّطب، وتعديلُ أحدِهما بالآخر من أبلغ أنواع العلاجات، وحفظ الصحة. ونظيرُ هذا ما تقدَّم من أمره بالسَّنا والسَّنُوت، وهو العسل الذى فيه شىء من السمن يصلحُ به السَّنَا، ويُعدله، فصلوات الله وسلامه على مَن بُعث بعمارة القلوب والأبدان، وبمصالح الدنيا والآخرة.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الحِمية
الدواء كله شيئان: حِميةٌ وحفظ صحة. فإذا وقع التخليطُ، احتِيجَ إلى الاستفراغ الموافق، وكذلك مدارُ الطب كله على هذه القواعد الثلاثة.
والحِمية حِميتان: حِمية عمَّا يجلِبُ المرض، وحِمية عما يزيده، فيقف على حاله، فالأولى: حِمية الأصحاءِ. والثانية: حِمية المرضى. فإنَّ المريض إذا احتمى، وقف مرضُه عن التزايد، وأخذت القُوَى فى دفعه. والأصل فى الحِمية قوله تعالى: {وَإن كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة:6 ]، فَحَمَى المريضَ من استعمال الماء، لأنه يضرُّه.
وفى "سنن ابن ماجه" وغيره، عن أُمِّ المنذِر بنت قيس الأنصارية، قالت: دَخَلَ علىَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه علىّ، وعلىٌ ناقِهٌ من مرض، ولنا دوالى مُعلَّقة، فقام رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل منها، وقام علىٌّ يأكل منها، فطفِقَ رسولُ

الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلىٍّ: "إنك ناقِةٌ " حَتَّى كفَّ. قالت: وصنعت شعيراً وسِلْقاً، فجئت به، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلىٍّ: "مِنْ هذا أَصِبْ، فإنه أنفعُ لَكَ"، وفى لفظ فقال: "مِنْ هذا فَأصِبْ، فإنه أوفَقُ لَكَ".
وفى "سنن ابن ماجه" أيضاً عن صُهَيْبٍ، قال: قدمِتُ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين يديه خبزٌ وتمرٌ، فقال: "ادْنُ فَكُلْ"، فأخذتُ تمراً فأكلتُ، فقال: "أتأكُلُ تمراً وبِكَ رَمَدٌ" ؟ فقلت: يا رسول الله؛ أمضُغُ مِنَ الناحية الأخرى، فتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفى حديث محفوظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبداً، حماه مِنَ الدُّنيا، كما يَحْمِى أحَدُكُم مريضَه عَنِ الطَّعَامِ والشَّرابِ".
وفى لفظ: "إنَّ اللهَ يَحْمِى عَبْدَه المؤمِنَ مِنَ الدُّنيا".
وأما الحديثُ الدائرُ على ألسنةِ كثير من الناس: "الحِميةُ رأسُ الدواءِ، والمَعِدَةُ بيتُ الداءِ، وعوِّدُوا كلَّ جسم ما اعتاد" فهذا الحديث إنما هو من كلام الحارث ابن كلَدَةَ طبيب العرب، ولا يصحُّ رفعُه إلى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله غيرُ واحد من أئمة الحديث. ويُذكر عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنَّ المَعِدَةَ حوضُ البدن، والعُروق إليها واردةٌ، فإذا صحَّت المَعِدَةُ صدرت العروقُ بالصحة، وإذا سَقِمَتِ المَعِدَةُ، صدرت العروقُ بالسقم".

وقال الحارث: رأسُ الطِّبِّ الحِمية، والحِمية عندهم للصحيح فى المضرة بمنزلة التخليط للمريض والنَّاقِه، وأنفعُ ما تكون الحِمية للنَّاقهِ من المرض، فإنَّ طبيعته لم ترجع بعدُ إلى قُوَّتها، والقوة الهاضمة ضعيفة، والطبيعة قابلة، والأعضاء مستعدة، فتخليطُه يُوجب انتكاسَها، وهو أصعب من ابتداءِ مرضه.
واعلم أنَّ فى منع النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلىٍّ من الأكل من الدَّوالى، وهو ناقِهٌ أحسنَ التدبير، فإنَّ الدَّوالىَ أَقْنَاءٌ من الرُّطَبُ تعُلَّقُ فى البيت للأكل بمنزلة عناقيدِ العِنَب، والفاكهةُ تضرُّ بالناقِه من المرض لسُرعة استحالتها، وضعف الطبيعة عن دفعها، فإنها لم تتمكن بعد من قُوَّتها، وهى مشغولةٌ بدفع آثار العِلَّة، وإزالتها مِن البدن.
وفى الرُّطَبِ خاصةً نوع ثقلٍ على المَعِدَة، فتشتغل بمعالجتِه وإصلاحه عما هى بصدده من إزالة بقية المرض وآثاره، فإما أن تقف تلك البقية، وإما أن تتزايدَ، فلمَّا وُضع بين يديه السِّلْقُ والشعيرُ، أمره أن يُصيب منه، فإنه من أنفع الأغذية للناقِه، فإنَّ فى ماء الشعير من التبريد والتغذية، والتلطيفِ والتليين، وتقويةِ الطبيعة ما هو أصلَح للناقِه، ولا سِيَّما إذا طُبِخَ بأُصول السَّلق، فهذا مِن أوفق الغذاء لمن فى مَعِدَتِهِ ضعفٌ، ولا يتولَّد عنه من الأخلاط ما يُخاف منه.
وقال زيدُ بن أسلم: حَمَى عُمَرُ رضى الله عنه مريضاً له، حتى إنه من شدة ما حماه كان يَمَصُّ النَّوَى.
وبالجملة: فالحِمية من أنفع الأدوية قبل الداء، فتمنع حصولَه، وإذا حصل، فتمنع تزايدَه وانتشارَه.

فصل
ومما ينبغى أن يُعلم أنَّ كثيراً مما يُحمى عنه العليلُ والناقِه والصحيحُ، إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشىءَ اليسيرَ الذى لا تَعْجِزُ الطبيعةُ عن هضمه، لم يضرَّه تناوُله، بل ربما انتفع به، فإنَّ الطبيعة والمَعِدَة تتلقيانه بالقبول والمحبَّة، فيُصلحان ما يُخشى مِن ضرره، وقد يكون أنفعَ مِن تناول ما تكرهه الطبيعةُ، وتدفعهُ من الدواء، ولهذا أقرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُهَيْباً وهو أرمدُ على تناولِ التَّمَرَاتِ اليسيرة، وعلم أنها لا تَضُرُّه.
ومن هذا ما يُروى عن علىٍّ أنه دخل عَلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أرمَدُ، وبَيْنَ يَدَىْ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمرٌ يأكلُه، فقال: "يا علىُّ؛ تشتهِيهِ" ؟ وَرَمَى إليه بتمرة، ثم بأُخرى حَتَّى رَمَى إليه سَبْعاً، ثم قال: "حَسْبُكَ يا علىٌ".
ومن هذا ما رواه ابن ماجه فى "سننهِ" من حديث عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عادَ رَجُلاً، فقال له: "ما تَشتَهِى" ؟ فقال: أشتَهِى خُبْزَ بُرٍّ وفى لفظٍ: أشتَهِى كَعْكَاً فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن كانَ عندَهُ خُبزُ بُرٍّ، فَليبعَثْ إلى أخيه"، ثم قال: "إذا اشتَهَى مريضُ أحدِكَم شيئاً، فَلْيُطْعِمْهُ".
ففى هذا الحديث سرٌ طبىٌ لطيف، فإنَّ المريضَ إذا تناول ما يشتهيه عن جُوع صادق طبيعى، وكان فيه ضررٌ ما، كان أنفعَ وأقلَّ ضرراً مما لا يشتهيه، وإن كان نافعاً فى نفسه، فإنَّ صِدْق شهوتِهِ، ومحَبَة الطبيعة يدفع ضررَه، وبُغض الطبيعة وكراهتها للنافع، قد يَجْلِبُ لها منه ضرراً.
وبالجملة: فاللذيذُ المشتَهَى تُقبِلُ الطبيعةُ عليه بعناية، فتهضِمُه على أحمَدِ الوجوه، سِيَّما عند انبعاثِ النفس إليه بصدْقِ الشهوة، وصحةِ القوة.. والله أعلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الرَّمدِ بالسكون، والدَّعةِ، وترْكِ الحركةِ، والحِميةِ مما يَهيج الرَّمد
وقد تقدَّم أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى صُهَيْباً من التَّمْر، وأنكر عليه أكْلَه، وهو أرمدُ، وَحَمَى علياً من الرُّطَبِ لمَّا أصابه الرَّمدُ.
وذكر أبو نُعَيْم فى كتاب "الطب النبوى": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كان إذا رَمِدَتْ عينُ امرأةٍ من نسائه لم يأتِهَا حَتَّى تَبرَأَ عينُها".
الرَّمدُ: ورمٌ حار يَعرِضُ فى الطبقة الملتحمة من العَيْن، وهو بياضُها الظاهر، وسببُه انصبابُ أحد الأخلاط الأربعة، أو ريحٌ حارة تكثُر كميتها فى الرأس والبدن، فينبعِثُ منها قِسطٌ إلى جَوْهر العَيْن، أو ضربةٌ تُصيب العَيْن، فتُرسل الطبيعةُ إليها مِن الدَّم والروح مقداراً كثيراً، تَرُومُ بذلك شفاءَها مما عَرَضَ لها، ولأجل ذلك يَرِمُ العضو المضروب، والقياسُ يوجب ضده.
واعلم أنه كما يرتفعُ من الأرض إلى الجو بُخاران، أحدهما: حار يابس، والأخرُ: حارٌ رَطب، فينعقدان سحاباً متراكماً، ويمنعان أبصارَنا مِن إدراك السماء، فكذلك يرتفعُ من قعر المَعِدَة إلى منتهاها مِثلُ ذلك، فيمنعانِ النظرَ، ويتولَّد عنهما عِلَلٌ شَتَّى، فإن قويت الطبيعةُ على ذلك ودفعته إلى الخياشيم، أحدث الزُّكامَ، وإن دفعته إلى اللهاة والمَنْخِرَين، أحدث الخُناقَ، وإن دفعتْه إلى الجَنْبِ، أحدث الشَّوْصةَ، وإن دفعتْه إلى الصدر، أحدث النَّزلةَ، وإن انحدر إلى القلب، أحدث الخَبْطَةَ، وإن دفعته

إلى العَيْن، أحدث رمداً، وإن انحدر إلى الجوف، أحدث السَّيَلانَ، وإن دفعته إلى منازل الدِّماغ، أحدث النِّسيانَ، وإن ترطبت أوعيةُ الدماغ منه وامتلأت به عروقُه، أحدث النومَ الشديد، ولذلك كان النوم رَطباً، والسهرُ يابساً. وإن طلب البخارُ النفوذَ من الرأس، فلم يقدِِرْ عليه، أعقبه الصُّداع والسهر، وإن مال البخار إلى أحد شِقَّى الرأس، أعقبه الشقيقة، وإن ملك قِمَّةَ الرأس ووسَطَ الهامة، أعقبه داءُ البَيْضة، وإن برد منه حِجابُ الدماغ أو سخن أو ترطَّب وهاجتْ منه أرياحٌ، أحدث العُطاسَ، وإن أهاج الرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزى، أحدث الإغماءَ والسُّكاتَ، وإن أهاج المِرَّةَ السوداءَ حتى أظلم هواءُ الدماغ، أحدث الوسواس، وإن فاض ذلك إلى مجارى العَصَب، أحدث الصَّرْع الطبيعىَّ، وإن ترطبت مجامعُ عصب الرأس وفاض ذلك فى مجاريه، أعقبه الفالِج، وإن كان البُخار من مِرَّةٍ صفراءَ ملتهبة محمية للدماغ، أحدث البِرْسامَ، فإن شَرَكه الصدرُ فى ذلك، كان سرساماً، فافهم هذا الفصلَ.
والمقصودُ: أنَّ أخلاط البدن والرأس تكون متحركة هائجة فى حالِ الرَّمَد، والجِماعُ مما يَزيد حركتَها وثَوَرانَها، فإنَّه حركةٌ كلية للبدن والروح والطبيعة. فأمَّا البدن، فيسخُنُ بالحركة لا محالة، والنفس تشتدُّ حركتها طلباً للذة واستكمالها، والروحُ تتحرك تبعاً لحركة النفس والبدن، فإنَّ أول تعلق الروح من البدن بالقلب، ومنه ينشأ الروحُ، وتَنبثُّ فى الأعضاء. وأما حركةُ الطبيعة، فلأجل أن تُرسِلَ ما يجب إرسالُه مِن المَنِىِّ على المقدار الذى يجبُ إرسالُه.

وبالجملة: فالجِماعُ حركة كلية عامة يتحرَّك فيها البدن وقُواه، وطبيعته وأخلاطه، والروحُ والنفس، فكلُ حركة فهى مثيرة للأخلاط مرققةٌ لها تُوجب دفعَها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة، والعَيْنُ فى حال رمدها أضعفُ ما تكون، فأضرُّ ما عليها حركةُ الجِمَاع.
قال "بقراط" فى كتاب "الفصول": وقد يَدُلُّ ركوبُ السفُن أنَّ الحركة تُثَوِّرُ الأبدان. هذا مع أنَّ فى الرَّمد منافعَ كثيرة، منها ما يستدعيه مِن الحِمية والاستفراغ، وتنقيةِ الرأس والبدن من فضلاتهما وعُفوناتهما، والكفِّ عما يُؤذى النفس والبدن من الغضب، والهم والحزن، والحركاتِ العنيفة، والأعمال الشاقة. وفى أثر سَلَفىٍّ: لا تَكرهوا الرَّمدَ، فإنه يقطع عروق العَمَى.
ومن أسباب علاجه ملازمةُ السكون والراحة، وتركُ مس العَيْن والاشتغال بها، فإنَّ أضداد ذلك يُوجب انصبابَ المواد إليها. وقد قال بعضُ السَّلَف: مَثلُ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ مَثَلُ العَيْن، ودَوَاءُ العَيْنِ تَرْكُ مَسِّها. وقد رُوى فى حديث مرفوع، الله أعلم به: "علاجُ الرَّمد تَقطيرُ الماءِ الباردِ فى العَيْن" وهو من أنفع الأدوية للرَّمد الحار، فإنَّ الماء دواء بارد يُستعان به على إطفاء حرارةِ الرَّمد إذا كان حاراً، ولهذا قال عبدُ الله بن مسعود رضى الله عنه، لامرأتِه زينبَ وقد اشتَكتْ عينُها: لو فَعلتِ كما فَعَلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خيراً لكِ وأجدَرَ أن تُشْفى، تَنْضَحِينَ فى عينِكِ الماءَ، ثم تقولينَ: "أَذهِبْ البأْسَ ربَّ النَّاس، واشْفِ أنتَ الشَّافِى، لا شِفاءَ إلا شِفَاؤك، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَماً". وهذا مما تقدَّم مراراً أنه خاصٌ ببعض البلاد، وبعضِ أوجاع العَيْن، فلا يُجعل كلامُ النبوَّة الجزئىُّ الخاص كُلياً عاماً، ولا الكُلىُّ العام

جزئياً خاصاً، فيقعَ من الخطإ، وخلاف الصواب ما يقعُ.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الخَدَران الكُلِّى الذى يَجْمُدُ معه البدنُ
ذكر أبو عُبَيْدٍ فى "غريب الحديث" من حديث أبى عثمانَ النَّهْدِىِّ: أنَّ قوماً مرُّوا بشجرةٍ فأكلُوا منها، فكأنما مرَّتْ بهم ريحٌ، فأجمدتْهُم، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَرِّسُوا الماءَ فى الشِّنَانِ، وصُبُّوا عليهم فيما بين الأذانَيْن "، ثم قال أبو عُبَيْد: "قَرِّسُوا": يعنى بَرِّدوا. وقولُ الناس: قد قَرَسَ البردُ، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد. والشِّنان: الأسقِيةُ والقِرَبُ الخُلقانُ: يُقال للسِّقاء: شَنٌ، وللقِربة: شَنَّة. وإنما ذكر الشِّنانَ دون الجُدُدِ لأنها أشدُّ تبريداً للماء. وقوله: "بين الأذَانَين"، يعنى: أذانَ الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذاناً.. انتهى كلامه.
قال بعضُ الأطباء: وهذا العلاجُ مِن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفضلِ علاج هذا الداء إذا كان وقوعُه بالحجاز، وهى بلاد حارة يابسةٌ، والحارُ الغريزىُّ ضَعيف فى بواطن سكانها، وصبُّ الماء البارد عليهم فى الوقت المذكور وهو أبردُ أوقاتِ اليوم يوجبُ جَمْعَ الحار الغريزى المنتشر فى البدن الحامل لجميع قُواه، فيقوى القوة الدافعة، ويجتمعُ من أقطار البدن إلى باطنه الذى هو محلُّ ذاك الداء، ويستظهر بباقى القُوَى على دفع المرض المذكور، فيدفعه بإذن الله عَزَّ وجَلَّ،
ولو أن "بقراط" أو "جالينوس" أو غيرَهما، وصف هذا الدواء لهذا الداء، لخَضَعَتْ له الأطباءُ، وعَجِبُوا من كمال معرفته.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى إصلاح الطعام الذى يقع فيه الذُّباب وإرشاده إلى دفع مَضَرَّات السموم بأضدادها
فى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا وقَعَ الُّذَبابُ فى إناءِ أحَدِكُم، فامْقُلُوه، فإنَّ فى أحد جنَاحيهِ داءً، وفى الآخرِ شِفَاءً".
وفى "سنن ابن ماجه" عنِ أبى سعيد الخُدْرىِّ، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أحَدُ جَناحَى الذُّبابِ سَمٌ، والآخَرُ شِفَاءٌ، فإذا وَقَعَ فى الطَّعَام، فامْقُلُوه، فإنه يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ".
هذا الحديث فيه أمران: أمرٌ فقهىٌ، وأمرٌ طِبِّىٌ
فأما الفقهى.. فهو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًا على أنَّ الذُّباب إذا مات فى ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف فى السَّلَف مخالفٌ فى ذلك. ووَجهُ الاستدلال به أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بمَقْلِهِ، وهو غمسُه فى الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان الطعامُ حاراً. فلو كان يُنجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت، وأشباهِ ذلك. إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفى لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن فى الحيوان بموته، وكان ذلك

مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاءِ عِلَّّته.
ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ: إذا كان هذا ثابتاً فى الحيوان الكامل مع ما فيه من الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته فى العظم الذى هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا فى غاية القوة، فالمصيرُ إليه أولى.
وأول مَن حُفظ عنه فى الإسلام أنه تكلَّم بهذه اللَّفظة، فقال: ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخَعىُّ وعنه تلقاها الفقهاءُ والنفس فى اللُّغة: يُعَبَّر بها عن الدم، ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت، ونُفِست بضمها إذا ولدت.
وأما المعنى الطبىُّ، فقال أبو عُبَيْد: معنى "امْقُلُوه": اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداءُ، يقال للرجلين: هما يَتمَاقلان، إذا تغاطَّا فى الماء.
واعلم أنَّ فى الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّيَّةً يدل عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهى بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه فى جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه فى الماء والطعام، فيقابل المادةَ السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها. وهذا طِبٌ لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق، وأنه مُؤَيَّد بوحى إلهى خارج عن القُوَى البَشَرية.
وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزُّنبور والعقرب إذا دُلِكَ موضعه بالذُّباب نفع منه نفعاً بيِّناً، وسكَّنه، وما ذاك إلا للمادة التى فيه

من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورمُ الذى يخرج فى شعر العَيْن المسمَّى شَعْرَة بعد قطع رؤوس الذُّباب، أبرأه.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج البَثْرَة
ذكر ابن السُّنى فى كتابه عن بعض أزواج النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: دخل علىَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد خرج فى أصبعى بَثْرَةٌ، فقال: "عِنْدَكِ ذَرِيرةٌ" ؟ قلت: نعم.
قال: "ضَعيها عليها"، وقُولى: "اللهُمَّ مُصَغِّرَ الكَبِيرِ، ومُكبِّرَ الصَغِيرِ، صَغِّرْ مَا بِى ".
الذَّرِيرةُ: دواء هندى يُتخذ من قَصب الذَّريرة، وهى حارة يابسة تنفعُ مِن أورام المَعِدَة والكَبِدِ والاستسقاء، وتُقوِّى القلب لطيبها،
وفى "الصحيحين" عن عائشة أنها قالت: طيَّبْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَدِى بذَرِيرةٍ فى حَجَّةِ الوَداع للحِلِّ والإحْرَامِ.
والبَثْرَة: خُراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترقُّ

مكاناً من الجسد تخرج منه، فهى محتاجة إلى ما يُنضجها ويُخرجها، والذَّريرةُ أحدُ ما يفعل بها ذلك، فإنَّ فيها إنضاجاً وإخراجاً مع طِيب رائحتها، مع أنَّ فيها تبريداً للنارية التى فى تلك المادة، ولذلك قال صاحب "القانون": إنه لا أفضل لحرق النار من الذَّرِيرة بدُهنِ الوردِ والخل.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الأورام والخُرَاجات التى تبرأ بالبَطِّ والبَزْلِ
يُذكر عن علىٍّ أنه قال: دخلتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجل يعودُه بظهره ورمٌ، فقالوا: يا رسول الله؛ بهذه مِدَّةٌ. قال: "بُطُّوا عنه"، قال علىُّ: فما بَرِحتُ حتى بُطَّتْ، والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدٌ.
ويُذكر عن أبى هريرة: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر طبيباً أن يَبُطَّ بطن رجل أجْوَى البطن، فقيل: يا رسول الله؛ هل ينفع الطّبُّ؟
قال: "الذى أنْزَلَ الداء، أنزل الشِّفَاء، فِيمَا شاء".
الورم: مادة فى حجم العضو لفضل مادة غيرِ طبيعية تنصبُّ إليه، ويُوجد فى أجناس الأمراض كُلِّها، والموادُ التى تكون عنها من الأخلاط الأربعة، والمائية، والريح، وإذا اجتمع الورمُ سُمى خُرَاجاً، وكلُّ ورم حار يؤول أمره إلى أحد ثلاثة أشياء: إما تحلل، وإما جمع مِدَّة، وإما استحالةٍ إلى الصَّلابة. فإن كانت القوة قوية، استولت على مادة الورم وحلَّلته، وهى أصلحُ الحالات التى يؤول حالُ الورم إليها، وإن كانت دون ذلك، أنضجت المادة، وأحالتها مِدَّةً بيضاءَ، وفتحت لها مكاناً

أسالتها منه. وإن نقصَت عن ذلك أحالت المادة مِدَّةً غير مستحكمة النُّضج، وعجزت عن فتح مكان فى العضو تدفعُها منه، فيُخاف على العضو الفساد بطُول لبثها فيه، فيحتاجُ حينئذ إلى إعانة الطبيب بالبَطِّ، أو غيره لإخراج تلك المادة الرديئة المفسدة للعضو.
وفى البَطِّ فائدتان؛ إحداهما: إخراج المادة الرديئة المفسدة.
والثانية: منع اجتماع مادة أُخرى إليها تقوِّيها.
وأما قوله فى الحديث الثانى: "إنه أمر طبيباً أن يَبُطَّ بطن رجل أجْوَى البطن"، فالجَوى يُقال على معانٍ منها: الماءُ المُنْتِنُ الذى يكون فى البطن يحدُث عنه الاستسقاءُ.
وقد اختلف الأطباء فى بزله لخروج هذه المادة، فمنعته طائفةٌ منهم لخطرِه، وبُعدِ السلامة معه، وجوَّزته طائفةٌ أُخرى، وقالت: لا علاج له سواه، وهذا عندهم إنما هو فى الاستسقاء الزِّقىِّ. فإنه كما تقدم ثلاثة أنواع: طَبْلىّ: وهو الذى ينتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضُربت عليه سُمع له صوتٌ كصوت الطَّبل، ولحمىّ: وهو الذى يربُو معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشُو مع الدم فى الأعضاء، وهو أصعبُ من الأول، وزِقِّىّ: وهو الذى يجتمع معه فى البطن الأسفل مادةٌ رديئة يُسمع لها عند الحركة خَضخضةٌ كخضخضةِ الماء فى الزِّق، وهو أردأ أنواعه عند الأكثرين من الأطباء. وقالت طائفة: أردأ أنواعه "اللَّحْمىُّ" لعموم الآفة به.
ومن جملة علاج الزِّقى إخراج ذلك بالبَزْل، ويكون ذلك بمنزلة فصد

العروق لإخراج الدم الفاسد، لكنه خطِرٌ كما تقدَّم، وإن ثبت هذا الحديث، فهو دليلٌ على جواز بزله.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج المرضى بتطييب نفوسهم وتقوية قلوبهم
روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث أبى سعيد الخُدرىّ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا دَخَلْتُم على المَرِيضِ، فَنَفِّسوا لَهُ فى الأجَلِ، فإنَّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ شيئاً، وَهُوَ يُطَيِّبُ نَفْسَ المريضِ".
وفى هذا الحديث نوعٌ شريفٌ جداً من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يُطيِّبُ نفسَ العليل من الكلام الذى تقوى به الطبيعة، وتنتعشُ به القُوَّة، وينبعِثُ به الحارُّ الغريزى، فيتساعدُ على دفع العِلَّة أو تخفيفها الذى هو غايةُ تأثير الطبيب.
وتفريح نفس المريض، وتطييبُ قلبه، وإدخالُ ما يسُرُّه عليه، له تأثيرٌ عجيب فى شفاء عِلَّته وخِفَّتها، فإنَّ الأرواح والقُوَى تقوى بذلك، فتُسَاعِدُ الطبيعة على دفع المؤذى، وقد شاهد الناس سكثيراً من المرضى تنتعِشُ قواه بعيادة مَن يُحبونه، ويُعظِّمونه، ورؤيتهم لهم، ولُطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم، وهذا أحدُ فوائد عيادة المرضى التى تتعلق بهم، فإنَّ فيها أربعة أنواع من الفوائد: نوعٌ يرجع إلى المريض، ونوعٌ يعود على العائد، ونوعٌ يعود على أهل المريض، ونوعٌ يعود على العامة.

وقد تقدَّم فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجده ويسأله عما يشتهيه، ويضع يده على جَبْهته، وربما وضعها بين ثديَيْه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه فى عِلَّته، وربما توضَّأ وصَبَّ على المريضِ من وَضوئه، وربما كان يقولُ للمريض: "لا بَأْس، طَهُورٌ إنْ شَاءَ الله"، وهذا من كمال اللُّطف، وحُسن العلاج والتدبير.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الأبدان بما اعتادته من الأدوية والأغذية، دون ما لم تَعْتَدْه
هذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العِلاج، وأنفعُ شىء فيه، وإذا أخطأه الطبيبُ، أضرَّ المريضَ من حيثُ يظن أنه ينفعه، ولا يَعْدِلُ عنه إلى ما يجدهُ من الأدوية فى كُتب الطب إلا طبيب جاهل، فإن ملاءمةَ الأدوية والأغذية للأبدان بحسب استعدادها وقبولها، وهؤلاء أهل البوادى والأكارُون وغيرُهم لا ينجَعُ فيهم شراب اللينوفر والوردِ الطَرِّى ولا المغلى، ولا يُؤثر فى طباعهم شيئاً، بل عامةُ أدوية أهلِ الحَضَر وأهل الرَّفاهيةَ لا تجدى عليهم، والتجربة شاهدة بذلك،ومَن تأمل ما ذكرناه من العلاج النبوىِّ، رآه كُلَّه موافقاً لعادةِ العليل وأرضه، وما نشأ عليه. فهذا أصلٌ عظيمٌ من أُصول العلاج يجب الاعتناءُ به، وقد صرَّح به أفاضلُ أهل الطب حتى قال طبيبُ العرب بل أطَبُّهم الحارثُ ابن كَلَدَةَ، وكان فيهم كأبقراط فى قومه: الحِميةُ رأس الدواء، والمَعِدةُ بيتُ الداء؛ وعوِّدُوا كُلَّ بدنٍ ما اعْتَاد. وفى لفظ

عنه: الأزْمُ دَوَاءٌ، والأزم: الإمساكُ عن الأكل يَعنى به الجوع، وهو من أكبر الأدوية فى شفاء الأمراض الامتلائية كلِّها بحيثُ إنه أفضلُ فى عِلاجها من المستفرغات إذا لم يُخَفْ من كثرة الامتلاء، وهَيَجانِ الأخلاط، وحِدَّتها وغليانها.
وقوله: "المَعِدَةُ بيتُ الداء". المَعِدَةُ: عضو عصبىٌ مجوَّفٌ كالقَرْعَةِ فى شكلها، مُركَّبٌ من ثلاث طبقات، مؤلَّفةٍ من شظايا دقيقةٍ عصبية تُسمى اللِّيفَ، ويُحيط بها لحم، وليفُ إحدى الطبقات بالطول، والأُخرى بالعَرْض، والثالثةِ بالوَرْب، وفمُ المَعِدَة أكثر عصباً، وقعرُها أكثر لحماً، فى باطنها خَمْل، وهى محصورة فى وسط البطن، وأميَلُ إلى الجانب الأيمن قليلاً، خُلِقَتْ على هذه الصفة لحكمةٍ لطيفة من الخالق الحكيم سبحانه، وهى بيتُ الداء، وكانت مَحَلاً للهضم الأول، وفيها يَنضَجُ الغذاء وينحدِرُ منها بعد ذلك إلى الكَبِد والأمعاء، ويتخلَّف منه فيها فضلاتٌ قد عجزت القوةُ الهاضمة عن تمام هضمها، إما لكثرةِ الغذاء، أو لرداءته، أو لسوءِ ترتيبٍ فى استعماله، أو لمجموع ذلك، وهذه الأشياء بعضُها مما لا يتخلَّص الإنسان منه غالباً، فتكونُ المَعِدَة بيت الداء لذلك، وكأنه يُشير بذلك إلى الحثِّ على تقليل الغذاء، ومنْعِ النفس مِن اتِّباع الشهوات، والتحرُّزِ عن الفضلات.
وأما العادةُ.. فلأنها كالطبيعة للإنسان؛ ولذلك يُقال: "العادةُ طبعٌ ثانٍ"، وهى قوةٌ عظيمة فى البدن، حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات، كان مختلِف النسبة إليها. وإن كانت تلك الأبدانُ متفقةً فى الوجوه الأُخرى مثالُ ذلك أبدانٌ ثلاثة حارةُ المزاج فى سن الشباب، أحدُها: عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الحارة، والثانى: عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء الباردة. والثالث: عُوِّدَ تناوُلَ الأشياء المتوسطة، فإن الأول متى تناول

عسلاً لم يضر به. والثانى: متى تناوله، أضرَّ به. والثالث: يضرُّ به قليلاً. فالعادةُ ركنٌ عظيم فى حفظ الصحة، ومعالجةِ الأمراض، ولذلك جاء العلاجُ النبوىُّ بإجراء كل بدن على عادته فى استعمال الأغذية والأدوية وغيرِ ذلك.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تغذية المريض بألطفِ ما اعتاده من الأغذية
فى "الصحيحين" من حديثِ عُرْوةَ، عن عائشةَ: أنها كانتْ إذا ماتَ الميتُ من أهلِها، واجتمع لذلك النساءُ، ثم تفرَّقْنَ إلى أهلهن، أمرتْ ببُرْمَةٍ من تَلْبينةٍ فطُبِخَتْ، وصنعت ثريداً، ثم صبَّت التلبينةُ عليه، ثم قالت: كُلوا منها، فإنى سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "التَّلْبِينَةُ مَجمَّةٌ لفؤادِ المريضِ تَذهبُ ببعضِ ".
وفى "السنن" من حديث عائشة أيضاً، قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عليكُمْ بالبَغيضِ النَّافع التَّلْبِينِ"، قالت: وكان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اشتكَى أحدٌ من أهله لم تَزلْ البُرْمةُ على النارِ حتى ينتهىَ أحدُ طرَفَيْهِ. يَعنى يَبْرَأ أو يموت.
وعنها: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قيل له: إنَّ فلانَا وَجِعٌ لا يطْعَمُ الطَّعَامَ، قال: "عَلَيْكُم بالتَّلْبِينَةِ فحُسُّوه إيَّاها"، ويقول: "والذى نفْسى

بيدِه إنَّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أحدِكُم كما تَغسِلُ إحداكُنَّ وجهَها مِنَ الوَسَخ".
التَّلْبين: هو الحِسَاءُ الرقيقُ الذى هو فى قِوَام اللَّبن، ومنه اشتُق اسمُه، قال الهَرَوىُّ: سميت تَلبينةً لشبهها باللَّبن لبياضِها ورقتِها، وهذا الغِذَاءُ هو النافع للعليل، وهو الرقيقُ النضيج لا الغليظ النِّىءُ، وإذا شئتَ أن تعرِفَ فضل التَّلْبينَةِ، فاعرفْ فضل ماء الشعير، بل هى ماءُ الشعير لهم، فإنها حِساء متَّخذ من دقيق الشعير بنُخالته، والفرق بينها وبين ماء الشعير أنه يُطبخ صِحاحاً، والتَّلبينَة تُطبخ منه مطحوناً، وهى أنفع منه لخروج خاصيَّةِ الشعير بالطحن، وقد تقدَّم أنَّ للعاداتِ تأثيراً فى الانتفاع بالأدوية والأغذية، وكانت عادةُ القوم أن يتخذوا ماء الشعير منه مطحوناً لا صِحاحاً، وهو أكثرُ تغذيةً، وأقوى فعلاً، وأعظمُ جلاءً، وإنما اتخذه أطباءُ المدن منه صِحَاحاً ليكونَ أرقَّ وألطفَ، فلا يَثقُل على طبيعة المريض، وهذا بحسب طبائع أهل المدن ورَخاوتِها، وثِقلِ ماءِ الشعير المطحون عليها. والمقصودُ: أنَّ ماء الشعير مطبوخاً صِحاحاً يَنفُذُ سريعاً، ويَجلُو جَلاءً ظاهراً، ويُغذى غِذاءً لطيفاً. وإذا شُرِب حاراً كان جلاؤه أقوى، ونفوذُه أسرَع، وإنْماؤه للحرارة الغريزية أكثرَ، وتلميسُه لسطوح المَعِدَة أوفق.
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها: " مجمةٌ لفؤاد المريض" ، يُروى بوجهين؛ بفتح الميم والجيم، وبضم الميم، وكسر الجيم. والأول: أشهر. ومعناه: أنها مُريحةٌ له، أى:
تُريحهُ وتسكِّنُه من "الإِجْمام" وهو الراحة. وقولُه: "تُذهب ببعض الحُزْن"، هذا والله أعلم لأن الغم والحزن يُبَرِّدان المزاجَ، ويُضعفان الحرارةَ الغريزية لميلِ الروح الحامل لها إلى جهة القلب الذى هو

منشؤها، وهذا الحساءُ يُقوِّى الحرارة الغريزية بزيادته فى مادتها، فتزيلُ أكثرَ ما عرض له من الغم والحزن.
وقد يُقال وهو أقربُ: إنها تَذهبُ ببعض الحُزن بخاصيَّةٍ فيها من جنس خواصِّ الأغذية المفرِحَة، فإنَّ من الأغذية ما يُفرِح بالخاصية.. والله أعلم.
وقد يُقال: إنَّ قُوى الحزين تَضعُفُ باستيلاء اليُبْس على أعضائه، وعلى مَعِدته خاصةً لتقليل الغذاء، وهذا الحِسَاء يرطبها، ويقويها، ويغذِّيها، ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض، لكن المريضَ كثيراً ما يجتمع فى مَعِدَته خَلْطٌ مرارى، أو بَلْغَمِى، أو صَديدى، وهذا الحِسَاءُ يَجلُو ذلك عن المَعِدَة ويَسْرُوه، ويَحْدُره، ويُميعُه، ويُعدِّل كيفيتَه، ويَكسِرُ سَوْرَته، فيُريحها ولا سِيَّما لِمَن عادتُه الاغتذاءُ بخبز الشعير، وهى عادة أهل المدينة إذ ذاك، وكان هو غالبَ قُوتِهم، وكانت الحِنطةُ عزيزة عندهم.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج السُّمِّ الذى أصابه بخَيْبَر من اليهود
ذكر عبد الرزَّاق، عن معمر، عن الزُّهْرىِّ، عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك: أنَّ امرأةً يهوديةً أهدَتْ إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَر، فقال: "ما هذه" ؟ قالتْ: هَديَّةٌ، وحَذِرَتْ أن تقولَ: مِنَ الصَّدَقة، فلا يأكلُ منها، فأكل النبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكل الصحابةُ، ثُم قال: "أمسِكُوا"، ثم قال للمرأة: "هل سَمَمْتِ هذه الشَّاة" ؟ قالتْ: مَن أخبَرَك بهذا ؟ قال: "هذا العظمُ لساقها"، وهو فى يده، قالتْ: نعمْ. قال: "لِمَ" ؟

قالتْ: أردتُ إن كنتَ كاذباً أن يَستريحَ منك النَّاسُ، وإن كنتَ نبيّاً لم يَضرَّك، قال: فاحتَجَم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثةً على الكاهِلِ، وأمَرَ أصحابَه أن يَحتجِمُوا؛ فاحتَجَموا، فمات بعضُهم.
وفى طريق أُخرى: "واحتَجَمَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كاهِلِه مِنْ أجْل الذى أكَلَ من الشَّاة، حَجَمَه أبو هِندٍ بالقَرْنِ والشَّفْرة، وهو مولىً لبنى بَيَاضَةَ من الأنصار، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى كان وجعُه الذى تُوفى فيه، فقال: "ما زِلْتُ أجِدُ من الأُكْلَةِ التى أكَلْتُ مِن الشَّاةِ يومَ خَيْبَرَ حتى كان هذا أوانَ انْقِطَاعِ الأَبْهَرِ مِنِّى" ، فتُوفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً، قاله موسى بن عُقبةَ.

معالجةُ السُّمِّ تكونُ بالاستفراغات، وبالأدوية التى تُعارض فعل السُّم وتُبطله، إما بكيفياتها، وإما بخواصها. فمَن عَدِمَ الدواءَ، فليبادر إلى الاستفراغ الكُلِّى وأنفعُه الحجامةُ، ولا سيما إذا كان البلد حاراً، والزمانُ حاراً، فإن القوة السُّمِيَّةَ تَسرى إلى الدم، فتَنبعِثُ فى العروق والمجارى حتى تصِلَ إلى القلب، فيكون الهلاكُ، فالدمُ هو المنفذ الموصل للسُّم إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسمُومُ وأخرج الدم، خرجتْ معه تلك الكيفيةُ السُّمِيَّة التى خالطتْه، فإن كان استفراغاً تاماً لم يَضرَّه السُّم، بل إما أن يَذهبَ، وإما أن يَضعفَ فتقوى عليه الطبيعة، فتُبطل فعلَه أو تُضعفه.
ولما احتجم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احتجمَ فى الكاهل، وهو أقربُ المواضع التى يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت المادةُ السُّمِيَّة مع الدم لا خُروجاً كُليّاً، بل بَقِىَ أثرُها مع ضعفه لما يُريد الله سبحانه من تكميلِ مراتبِ الفضل كُلِّها له، فلما أراد الله إكرامَه بالشهادة، ظهر تأثيرُ ذلك الأثر الكامِن من السُّم ليَقضىَ اللهُ أمراً كان مفعولاً، وظهر سِرُّ قوله تعالى لأعدائه من اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}[ البفرة: 87]، فجاء بلفظ "كَذَّبتم" بالماضى الذى قد وقع منه، وتحقق، وجاء بلفظ: "تَقتلُون" بالمستقبل الذى يتوقَّعونه ويَنتظرونه.. والله أعلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج السِّحر الذى سحرته اليهودُ به
قد أنكر هذا طائفةٌ من الناس، وقالوا: لا يجوزُ هذا عليه، وظنوه نقصاً وعيباً، وليس الأمرُ كما زَعَموا، بل هو من جنس ما كان يَعتَريه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسقام والأوجاع، وهو مرض من الأمراض، وإصابتُه به كإصابته بالسُّمِّ لا فرقَ بينهما.وقد ثبت فى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت: "سُحِرَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إنْ كان لَيُخَيَّلُ إليه أنه يأتى نِساءه، ولم يَأتِهِنَّ"، وذلك أشدُّ ما يكون مِن السِّحر.
قال القاضى عِيَاض: والسِّحر مرضٌ من الأمراض، وعارضٌ من العلل يجوز عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنواع الأمراض ممَّا لا يُنكَرُ، ولا يَقدَحُ فى نُبوته، وأمَّا كونُه يُخيَّل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلةً فى شىء من صدقه، لقيام الدليل والإجماعِ على عصمته من هذا، وإنَّما هذا فيما يجوز طُرُوُّه عليه فى أمر دنياه التى لم يُبعث لسببها، ولا فُضِّل مِن أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البَشَر، فغيرُ بعيد أنه يُخيَّلَ إليه من أُمورها ما لا حقيقةَ له، ثم يَنجلى عنه كما كان.
والمقصود: ذِكرُ هَدْيِه فى علاج هذا المرض، وقد رُوى عنه فيه نوعان:
أحدهما وهو أبلغُهما: استخراجُه وإبطاله، كما صحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سأل ربَّه سبحانه فى ذلك؛ فدُلَّ عليه، فاستَخْرَجه من بئر، فكان فى

مِشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَر، فلمَّا استَخْرَجه، ذهب ما به، حتى كأنَّما أُنْشِطَ من عِقال، فهذا من أبلغ ما يُعالَجُ به المَطْبُوبُ، وهذا بمنزلة إزالةِ المادة الخبيثة وقلْعِها مِن الجسد بالاستفراغ.
والنوع الثانى: الاستفراغُ فى المحل الذى يَصِلُ إليه أذى السِّحر، فإنَّ للسِّحر تأثيراً فى الطبيعة، وهَيَجانِ أخلاطها، وتشويشِ مِزاجها، فإذا ظهر أثرُهُ فى عضو، وأمكن استفراغُ المادة الرديئة من ذلك العضو، نَفَع جداً.
وقد ذكر أبو عُبيدٍ فى كتاب "غريب الحديث" له بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبى لَيْلَى، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجمَ على رأسه بقَرْنٍ حين طُبَّ، قال أبو عُبيد: معنى طُبَّ: أى: سُحِرَ.
وقد أشكَل هذا على مَن قَلَّ علمُه، وقال: ما للحجامة والسِّحرِ ؟ وما الرابطةُ بين هذا الداء وهذا الدواء ؟ ولو وَجد هذا القائلُ "أبقراطَ"، أو "ابنَ سينا" أو غيرَهما قد نَصَّ على هذا العلاجِ، لَتَلقَّاه بالقبولِ والتسليم، وقال: قد نَصَّ عليه مَن لا يُشَكُّ فى معرفته وفضله.
فاعلم أنَّ مادة السِّحر الذى أُصيب به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهت إلى رأسه إلى إحدى قُواه التى فيه بحيث كان يُخيَّل إليه أنه يفعل الشىءَ ولم يفعله، وهذا تصرُّف من الساحر فى الطبيعة والمادة الدموية بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه، فغيَّرت مِزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسِّحر: هو مركَّب من تأثيرات الأرواح الخبيثة، وانفعال القُوَى

الطبيعية عنها وهو سحر التمريحات وهو أشدَّ ما يكون من السِّحر، ولا سيَّما فى الموضع الذى انتهى السِّحرُ إليه، واستعمالُ الحجامةِ على ذلك المكان الذى تضررت أفعالُه بالسِّحر من أنفع المعالجة إذا استُعْمِلتْ على القانون الذى ينبغى.
قال "أبقراط": الأشياءُ التى ينبغى أن تُسْتَفْرَغَ يجب أَن تُستفرغ من المواضع التى هى إليها أميلُ بالأشياء التى تصلُح لاستفراغها.
وقالت طائفة من الناس: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُصيب بهذا الداءِ، وكان يُخيَّل إليه أنه فعل الشىء ولم يفعله،ظَنَّ أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدَّم منه، فأزالت مِزاجه عن الحالة الطبيعية له، وكان استعمالُ الحجامة إذ ذاك مِن أبلغ الأدوية، وأنفع المعالجة، فاحتجم، وكان ذلك قبل أن يُوحى إليه أنَّ ذلك من السِّحر، فلما جاءه الوحىُ من الله تعالى، وأخبره أنه قد سُحِرَ، عدل إلى العلاج الحقيقىِّ وهو استخراجُ السِّحر وإبطالُه، فسأل الله سبحانه، فدلَّه على مكانه، فاستخرجه، فقام كأنما أُنْشِطَ من عِقال، وكان غايةُ هذا السِّحر فيه إنما هو فى جسده، وظاهِر جوارحه، لا على عقلِه وقلبِه، ولذلك لم يكن يعتقدُ صحة ما يُخيَّل إليه من إتيان النساء، بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له، ومثلُ هذا قد يَحدُثُ من بعض الأمراض.. والله أعلم.
فصل
ومن أنفع علاجات السِّحر الأدوية الإلهية، بل هى أدويتُه النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السُّفْلية، ودفعُ تأثيرها يكون بما يُعارِضُها ويُقاومها من الأذكار، والآيات، والدعواتِ التى تُبْطِلُ فعلها

وتأثيرها، وكلما كانت أقوى وأشدّ، كانت أبلغَ فى النُّشْرةِ، وذلك بمنزلة التقاءِ جيشين مع كلِّ واحدٍ منهما عُدَّتُه وسلاحُه، فأيُّهما غلب الآخر، قهره، وكان الحكم له، فالقلبُ إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات وردٌ لا يُخِلُّ به يُطابق فيه قلبه لسانه، كان هذا مِن أعظم الأسباب التى تمنع إصابة السِّحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يُصيبه.
وعند السَّحَرَة: أنَّ سِحرَهم إنما يَتِمُّ تأثيره فى القلوب الضعيفة المنفعِلة، والنفوس الشهوانية التى هى معلَّقةٌ بالسُّفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثِّر فى النساءِ، والصبيان، والجُهَّال، وأهل البوادى، ومَن ضَعُف حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية والدعوات والتعوُّذات النبوية.
وبالجملة.. فسلطانُ تأثيرِه فى القُلوب الضعيفة المنفعلة التى يكون ميلُها إلى السُّفليات، قالوا: والمسحورُ هو الذى يُعين على نفسه، فإنَّا نجد قلبه متعلقاً بشىء كثير الالتفات إليه، فيتسلَّط على قلبه بما فيه مِن الميل والالتفات، والأرواح الخبيثة إنما تتسلَّطُ على أرواح تلقاها مستعِدَّة لتسلُّطِها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة، وبفراغِها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّة التى تُحاربها بها، فتجدها فارغة لا عُدَّة معها، وفيها مَيلٌ إلى ما يُناسبها؛ فتتسلَّط عليها، ويتمَكَّن تأثيرُها فيها بالسِّحر وغيره.. والله أعلم.

فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الاستفراغ بالقىء
روى الترمذىُّ فى "جامعه" عن مَعدان بن أبى طلحةَ، عن أبى الدرداء: أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاءَ، فتوضَّأ فلقيتُ ثَوْبان فى مسجد دِمَشق، فذكرتُ له ذلك، فقال: صَدَقَ، أنا صَبَبْتُ له وَضُوءَه. قال الترمذى: وهذا أصح شىء فى الباب.
القىءُ: أحد الاستفراغات الخمسة التى هى أُصول الاستفراغ، وهى: الإسهال، والقىء، وإخراج الدم، وخروج الأبخرة والعَرق. وقد جاءت بها السُّنَّة.
فأما الإسهال.. فقد مرَّ فى حديث: "خيرُ ما تداويتم به المَشِىُّ" وفى حديث "السَّنا". وأما إخراج الدم.. فقد تقدَّم فى أحاديث الحِجامة.
وأما استفراغ الأبخرة.. فنذكره عقيبَ هذا الفصل إن شاء الله.
وأما الاستفراغ بالعَرق.. فلا يكون غالباً بالقصد، بل بدفع الطَّبيعة له إلى ظاهر الجسد، فيُصادف المسامَّ مفتَّحةً، فيخرج منها.
والقىءُ استفراغٌ من أعلا المَعِدَة، والحُقنة من أسفلها، والدواءُ من أعلاها وأسفلها.
والقىءُ نوعان: نوعٌ بالغَلَبة والهَيجان، ونوعٌ بالاستدعاء

والطلب.
فأما الأول: فلا يَسُوغُ حبسُه ودفعه إلا إذا أفرط وخِيف منه التلفُ، فيُقطع بالأشياء التى تُمسكه. وأما الثانى: فأنفعُه عند الحاجة إذا رُوعى زمانُه وشروطه التى تُذكر.
وأسباب القىء عشرة..
أحدها: غلبة المِرَّة الصفراء، وطُفوُّها على رأس المعدة، فتطلب الصعودَ.
الثانى: من غلبة بلغم لَزِجٍ قد تحرَّك فى المَعِدَة، واحتاج إلى الخروج.
الثالث: أن يكون مِن ضعف المَعِدَة فى ذاتها، فلا تَهْضم الطعام، فتقذفه إلى جهة فوق
الرابع: أن يُخالطها خلط ردىء ينصبُّ إليها، فيسىء هضمَها، ويُضعف فعلها
الخامس: أن يكون من زيادة المأكول أو المشروب على القدر الذى تحتمله المَعِدَة، فتعجز عن إمساكه، فتطلب دفعه وقذفه.
السادس: أن يكون مِن عدم موافقة المأكول والمشروب لها، وكراهِتها له، فتطلب دفعه وقذفه.
السابع: أن يحصُل فيها ما يُثوِّر الطعامَ بكيفيته وطبيعته، فتقذف به.
الثامن: القَرَف، وهو مُوجِب غثَيانِ النفس وتَهَوُّعِها.
التاسع: من الأعراض النفسانية، كالهمِّ الشديد، والغم، والحزن، وغلبة اشتغال الطبيعة والقُوَى الطبيعية به، واهتمامها بوروده عن تدبير البدن، وإصلاح الغِذاء، وإنضاجه، وهضمه، فتقذِفُه المَعِدَة، وقد يكون لأجل تحرُّك الأخلاط عند تخبُّط النفس، فإن كل واحد من النفس والبدن

ينفعل عن صاحبه، ويؤثر فى كيفيته.
العاشر: نقل الطبيعة بأن يرى مَن يتقيأ، فيغلبه هو القىء من غير استدعاء، فإن الطبيعة نَقَّالة.
وأخبرنى بعض حُذَّاق الأطباء، قال: كان لى ابن أُخت حَذِق فى الكحْل، فجلس كحَّالاً. فكان إذا فتح عينَ الرجل، ورأى الرَّمد وكحَّله، رَمِد هو، وتكرر ذلك منه، فترك الجلوسَ. قلتُ له: فما سببُ ذلك ؟ قال: نقلُ الطبيعة، فإنها نَقَّالة، قال: وأعرِفُ آخرَ، كان رأى خُراجاً فى موضع من جسم رجل يحكُّه، فحك هو ذلك الموضع، فخرجت فيه خُراجة.
قلتُ: وكلُّ هذا لا بد فيه من استعداد الطبيعة، وتكون المادة ساكنةً فيها غير متحركة، فتتحرك لسبب من هذه الأسباب، فهذه أسبابٌ لتحرك المادة لا أنها هى الموجبة لهذا العارض.
فصل
ولما كانت الأخلاط فى البلاد الحارة، والأزمنة الحارة تَرِقُّ وتنجذب إلى فوق، كان القىء فيها أنفع. ولما كانت فى الأزمنة الباردة والبلاد الباردة تغلُظ، ويصعب جذبها إلى فوق، كان استفراغُها بالإسهال أنفع.
وإزالة الأخلاط ودفعها تكون بالجذب والاستفراغ، والجذبُ يكون من أبعد الطُرُق، والاستفراغُ مِن أقربها، والفرق بينهما أنَّ المادة إذا كانت عاملة فى الانصباب أو الترقى لم تستقر بعد، فهى محتاجة إلى الجذب، فإن كانت متصاعدة جذبَتْ من أسفل، وإن كانت منصَبَّة جذبَتْ مِن فوق، وأما إذا استقرت فى موضعها، استُفرغت مِن أقرب الطرق إليها،

فمتى أضرَّت المادة بالأعضاء العليا، اجتُذبت من أسفل، ومتى أضرَّت بالأعضاء السفلى، اجتُذبت من فوق، ومتى استقرت، استُفرغت من أقرب مكان إليها، ولهذا احتجم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كاهِله تارة، وفى رأسه أُخرى، وعلى ظهر قدمه تارة، فكان يستفرِغُ مادة الدم المؤذى من أقرب مكان إليه.. والله أعلم.
فصل
والقىءُ يُنقِّى المَعِدَة ويُقوِّيها، ويُحِدُّ البصر، ويزيل ثقل الرأس، وينفع قروح الكُلَى، والمثانة، والأمراض المزمنة: كالجذام، والاستسقاء، والفالِج، والرَّعشة، وينفع اليَرَقان.
وينبغى أن يستعمله الصحيح فى الشهر مرتين متواليتين من غير حفظ دور، ليتداركَ الثانى ما قصر عنه الأول، وينقى الفضلاتِ التى انصبَّت بسببه، والإكثارُ منه يَضر المَعِدَة، ويجعلها قابلة للفضول، ويضر بالأسنان والبصر والسمع، وربما صَدَعَ عَرَقاً، ويجب أن يجتنبه مَن به ورمٌ فى الحلق، أو ضعفٌ فى الصدر، أو دقيقُ الرقبة، أو مستعدٌ لنَفْث الدم، أو عَسِرُ الإجابة له.
وأمَّا ما يفعله كثير ممن يسىء التدبير، وهو أن يمتلئ من الطعام، ثم يَقذِفَه، ففيه آفاتٌ عديدة؛ منها: أنه يُعَجِّلُ الهَرَم، ويُوقع فى أمراض رديئة، ويَجعل القىءَ له عادة. والقىءُ مع اليُبوسة، وضعفِ الأحشاء، وهُزالِ المَرَاقِّ، أو ضعفِ المُستقىء خطرٌ.

وأحمَدُ أوقاتِه الصيفُ والربيع دون الشتاء والخريف، وينبغى عند القىء أن يَعْصِبَ العينين، ويقمط البطن، ويغسِلَ الوجه بماء بارد عند الفراغ؛ وأن يشرب عقيبه شراب التفاح مع يسير من مُصْطَكَى، وماءُ الورد ينفعه نفعاً بيِّناً.
والقىء يستفرغ من أعلى المعدة، ويجذب من أسفل، والإسهال بالعكس، قال "أبقراط": وينبغى أن يكون الاستفراغ فى الصيف من فوق أكثرَ من الاستفراغ بالدواء، وفى الشتاء من أسفل.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الإرشاد إلى معالجة أحْذَق الطَّبِيبَيْن
ذكر مالك فى "موطئه": عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلاً فى زمان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم. وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لهما: "أَيُّكما أطَبُّ"؟ فقال: أوَ فى الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله ؟ فقال: "أنزلَ الدواءَ الذى أنزلَ الداء".
ففى هذا الحديث أنه ينبغى الاستعانةُ فى كل عِلم وصِناعة بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ.
وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه.

وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر فى البرِّ والبحر إنَّما سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ، فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ.
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل الدواءَ الذى أنزلَ الداءَ"، قد جاء مثلُه عنه فى أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال: "دخلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مريض يَعودُه، فقال: "أرسِلُوا إلى طَبيبٍ "، فقال قائلٌ: وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ الله ؟
قال: "نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ أنزَلَ له دَواءً".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه: "ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء"، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه.
واختُلِفَ فى معنى "أنزل الداءَ والدواء"، فقالت طائفةٌ: إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشىء، فإن النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال : "عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه ".
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما: خَلْقُهما ووضْعُهما فى الأرض، كما فى الحديث الآخر: "إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً"، وهذا وإن كان أقربَ مِن الذى قبله، فلَفْظةُ "الإنزال" أخصُّ من لفظة "الخلق" و"الوضع"، فلا ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب.
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع

الإنسانىِّ من حين سقوطِه فى رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله. وقالت طائفةٌ: إنَّ عامة الأدواء والأَدوية هى بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذى تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ، والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخلٌ فى اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر:
عَلفْتُها تِبْناً وَمَاءً بارداً ... حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وقول الآخر:
وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر:
إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ... وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ وَالْعُيُونا
وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه.. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته، فإنه كما

ابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعاً وقدْراً مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشىء إلا أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلاء، ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم فى العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه.. وبالله المستعان.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تضمين مَن طبَّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطِّب
روى أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول ُالله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ".
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور: أمرٌ لُغوى، وأمرٌ فِقهى، وأمرٌ طبى.
فالطِّب بكسر الطاء فى لغة العرب، يقال على معانٍ. منها الإصلاح. يقال: طببتُه: إذا أصلحته. ويقال: له طِبٌ بالأمور. أى: لُطفٌ وسياسة. قال الشاعر:
وإذ تغير من تميم أمرها كنت الطبيب لها برأي ثاقب

ومنها: الحِذق. قال الجوهرىُّ: كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال أبو عبيد: أصل الطِّب: الحِذْق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب: إذا كان كذلك، وإن كان فى غير علاج المريض. وقال غيرُه: رجل طبيبٌ؛ أى: حاذقٌ، سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته. قال علقمة:
فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَاءِ فَإنَّنى ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُه ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال عنترةُ:
إنْ تُغْدِفِى دُونى الْقِنَاعَ فَإنَّنِى ... طَبٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
ى: إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذى قد لبس لأَمةَ حربه.
ومنها: العادة، يقال: ليس ذلك بطِبِّى، أى: عادتى، قال فَرْوةُ بن مُسَيكٍ:

فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن ... منَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وقال أحمد بن الحسين المتنبى:
وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى ... بَغِيضٌ إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
ومنها: السِّحر؛ يقال: رجل مطبوب، أى: مسحور، وفى "الصحيح" من حديث عائشة لمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند رجليه، فقال أحدهما: ما بالُ الرَّجُلِ ؟ قال الآخر: مَطْبُوبٌ. قال: مَن طَبَّه ؟ قال: فلان اليهودىُّ.
قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحور: مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا: سليمٌ تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التى لا ماء فيها، فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك. ويقال الطِّبُّ لنفس الداء. قال ابْنُ أبى الأسلت:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى ... أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ
وأما قول الحماسى:
فإن كُنْتَ مَطْبُوباً فَلا زِلْتَ هَكَذَا ... وإن كُنْتَ مَسْحُوراً فلا بَرِئَ السِّحْرُ

فإنه أراد بالمطبوب الذى قد سُحِر، وأراد بالمسحور: العليل بالمرض.
قال الجوهرى: ويقال للعليل: مسحور. وأنشد البيت. ومعناه: إن كان هذا الذى قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله، سواء أكان سحراً أو مرضاً.
والطبُّ: مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ: هو العالِم بالأُمور، وكذلك الطبيبُ يقال له: طَب أيضاً. والطِّبُّ: بكسر الطاء: فِعْلُ الطبيب، والطُّبُّ بضم الطاء: اسم موضع. قاله ابن السِّيد، وأنشد:
فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ ... بِجَائِزَةِ الماءِ التى طَابَ طينُهَا
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَطَبَّبَ" ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر:
وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق