الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

مجلد 9.و10.المحلي لابن حزم

 


كتاب/مجلد 9. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- " أَنَّهُ نَهَى، عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ وَالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ".
قال أبو محمد : تَحْدِيدُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ يَقْضِي عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ؛ لأََنَّهُ إنْ كَانَ فِي النَّخْلَتَيْنِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّخَلاَتِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ ذَلِكَ فِيهَا؛ لأََنَّ تَحْدِيدَ الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ زِيَادَةُ حُكْمٍ، وَزِيَادَةُ حَدٍّ، وَزِيَادَةُ بَيَانٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/465)


من ابتاع كذلك رطبا للأكل ثم مات فورثته عنه أو مرض أو استغنى عن أكلها فقد ملك الرطب
...
1474 – مَسْأَلَةٌ- فَمَنْ ابْتَاعَ كَذَلِكَ رُطَبًا لِلأَكْلِ ثُمَّ مَاتَ فَوُرِثَتْ عَنْهُ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ اسْتَغْنَى، عَنْ أَكْلِهَا إِلاَّ أَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَكْلَهَا بِلاَ شَكٍّ، فَقَدْ مَلَكَ الرُّطَبَ مِلْكًا صَحِيحًا،
وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/465)


لا يحوز حكم العرايا المذكور في شيء من الثمار غير ثمار النخل ولا يجوز بيع شيء من الثمار سواء ثمر النخل بخرصها أصلا
...
1475 – مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَجُوزُ حُكْمُ الْعَرَايَا الْمَذْكُورُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ غَيْرَ ثِمَارِ النَّخْلِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ سِوَى ثَمَرِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا أَصْلاً، لاَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، وَلاَ مَجْمُوعَةٍ فِي الأَرْضِ أَصْلاً. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً، لاَ مَجْمُوعًا، وَلاَ فِي عُودِهِ، وَلاَ بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ: أَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ ثَمَرِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ كَيْلاً. وَعَنْ كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى، عَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلاً ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَتْ نَخْلاً بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ ".

(8/465)


إن كان ثمر ماعدا ثمر النخل جاز أن يباع بيابس ورطب من صنفه وغير صنفه بأكثر منه وبأقل وأن يسلم في جنسه وغير جنسه ما لم يكن يخرصه
...
1476- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ثَمَرُ مَا عَدَا ثَمَرِ النَّخْلِ جَازَ أَنْ يُبَاعَ بِيَابِسٍ وَرُطَبٍ مِنْ صِنْفِهِ، وَمِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ وَمِثْلِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ فِي جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ مَا لَمْ يَكُنْ بِخَرْصِهِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَمَا لَمْ يَكُنْ زَبِيبًا كَيْلاً بِعِنَبٍ؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. فإن قيل: قَدْ نَهَى، عَنِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام سَأَلَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَنَهَى، عَنْ بَيْعِهِ بِالتَّمْرِ قلنا: أَمَّا أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ، فَإِنَّ مَالِكًا،

(8/465)


اعتراض وارد على المصنف فيما ذهب إليه والجواب عن ذلك
...
1477 – مَسْأَلَةٌ- فإن قال قائل: فَأَنْتُمْ الْمُنْتَمُونَ إلَى الأَخْذِ بِمَا صَحَّ مِنْ الآثَارِ
وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ ". وَرَوَيْتُمُوهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: نَعَمْ؛ لأََنَّ الثِّمَارَ كُلَّهَا إذَا يَبِسَتْ حُدَّتْ أَوْ لَمْ تُجَدَّ فَهِيَ ثِمَارٌ قَدْ طَابَتْ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَمَرَ بِبَيْعِ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ بِغَيْرِ صِنْفِهِ كَيْفَ شِئْنَا. فَصَحَّ النَّصُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ التَّمْرِ بِمَا شِئْنَا مِمَّا يَحِلُّ بَيْعُهُ، فَكَانَ مَا فِي هَذَا مُضَافًا إلَى مَا فِي خَبَرِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ: لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ إذَا طَابَ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَبِمَا شِئْتُمْ، حَاشَا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الثِّمَارِ بَعْدَ طِيبِهَا حُكْمُهَا فِيمَا يُبَاعُ مِمَّا يَجُوزُ حُكْمُ التَّمْرِ، وَهَذَا برهان صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/467)


لا يكون الربا إلا في بيع أو قرض أو سلم ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك
...
1478- مَسْأَلَةٌ- الرِّبَا: وَالرِّبَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي بَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ سَلَمٍ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؛
لأََنَّهُ لَمْ تَأْتِ النُّصُوصُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَلاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا فُصِّلَ تَحْرِيمُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .

(8/467)


الربا لا يجوز في البيع أو السلم إلا في ستة أشياء فقط وبيانها مفصلة
...
1479 – مَسْأَلَةٌ- وَالرِّبَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ إِلاَّ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ فَقَطْ:
فِي التَّمْرِ، وَالْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَهُوَ فِي الْقَرْضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلاَ يَحِلُّ إقْرَاضُ شَيْءٍ لِيُرَدَّ إلَيْك أَقَلَّ، وَلاَ أَكْثَرَ، وَلاَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ أَصْلاً، لَكِنْ مِثْلُ مَا أَقْرَضْت

(8/467)


بيان خطأ من يقول في علة الربا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلى القوت وهو البروداون القوت وهو الملح ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما
...
1480 – مَسْأَلَةٌ- قال أبو محمد: وَهَهُنَا أَشْيَاءُ ذَكَرَهَا الْقَائِلُونَ بِتَعْلِيلِ حَدِيثِ الرِّبَا كُلُّهُمْ،
وَهِيَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ، حَتَّى خَلَصَ إلَى الْمِلْحِ ". قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ حَكِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، فَبَطَلَ تَقْدِيرُهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْنَافًا لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ مِنْ الرُّوَاةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ فِيهِ: " حَتَّى خَصَّ الْمِلْحَ " فَلاَحَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ تِلْكَ الأَصْنَافِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يَذْكُرَ عليه السلام شَرَائِعَ مُفْتَرَضَةً فَيَسْقُطُ ذِكْرُهَا، عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلِهِمْ، عَنْ آخِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، هَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . وَقَوْله تَعَالَى {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وَلَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ الدِّينُ لَمْ يَكْمُلْ، وَالشَّرِيعَةُ

(8/486)


فَاسِدَةً، قَدْ ضَاعَتْ مِنْهَا عَنَّا أَشْيَاءُ، وَلَكُنَّا مُكَلَّفِينَ مَا لاَ نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَأْمُورِينَ بِمَا لاَ نَدْرِيهِ أَبَدًا، وَهَذِهِ ضَلاَلاَتٌ نَاهِيك بِهَا، وَبَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جُبَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبُ بِالزَّبِيبِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالسَّمْنُ بِالسَّمْنِ، وَالزَّيْتُ بِالزَّيْتِ، وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمْ ".
قال أبو محمد: وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ لاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إِلاَّ عَلَى بَيَانِ فَضِيحَتِهِ؛ لأََنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجُبَيْرَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَإِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْفَرْوِيُّ مَتْرُوكٌ وَيَزِيدَ بْنَ عِيَاضٍ، هُوَ ابْنُ جعدبة مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَوَضْعِ الأَحَادِيثِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي إيجَابِ عِلَّةٍ أَصْلاً، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ ذِكْرِ الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالزَّبِيبِ، فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ الدِّرْهَمَ بِأَوْزَنَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ وَلَكَانَ الْحَنَفِيُّونَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ بِسِتِّ تَمَرَاتٍ، وَعَشْرَ حَبَّاتِ بُرٍّ بِثَلاَثِينَ حَبَّةِ بُرٍّ وَكَذَلِكَ فِي الشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْمِلْحِ، وَلاَ يَحِلُّ تَحْرِيمُ حَلاَلٍ خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَيَسْتَعْجِلُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الْمَعْصِيَةَ، وَالْوُقُوعُ فِي الْبَاطِلِ خَوْفَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَرِهَ مُدَّيْ ذُرَةٍ بِمُدِّ حِنْطَةٍ نَسِيئَةً إبْرَاهِيمُ مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ وَهَذَا كَرَاهِيَةٌ لاَ تَحْرِيمٌ، وَلاَ يُدْرَى هَلْ كَرِهَ الْكَيْلَ أَوْ الطَّعَامَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ قَوْلٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ، عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَيَّنَّا خِلاَفَهُمْ لَهَا، وَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالٍ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وأعجب شَيْءٍ مُجَاهَرَةُ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ بِدَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِ الرِّبَا فِيمَا عَدَا الأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَهَذَا كَذِبٌ مَفْضُوحٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَاَللَّهِ مَا صَحَّ الإِجْمَاعُ فِي الأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَكَيْفَ فِي غَيْرِهَا. أَوْ لَيْسَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولاَنِ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَعَلَيْهِ كَانَ عَطَاءٌ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفُقَهَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَالْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُسَلِّمَ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ، وَمَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ، إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا، وَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ قَوْلِ هَؤُلاَءِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ

(8/487)


عُبَيْدِ اللَّهِ إبَاحَةُ بَيْعِ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، يُقْبَضُ أَحَدُهُمَا وَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ الآخَرِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، وَلاَ يُقَدِّرُونَ فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الأَصْنَافِ فِي الرِّبَا عَلَى كَلِمَةٍ، إِلاَّ، عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخْتَلِفِينَ، كُلُّهُمْ مُخَالِفٌ لأََقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لَيْسَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ رِوَايَةٌ تُوَافِقُ أَقْوَالَ هَؤُلاَءِ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ. وَعَنْ نَحْوِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ مُخْتَلِفِينَ أَيْضًا كَذَلِكَ مُخَالِفِينَ لأََقْوَالِهِمْ إِلاَّ إبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ وَافَقَ قَوْلَهُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَيْضًا: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا، عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَوَاهِيَةٌ لاَ تَصِحُّ، فَمَنْ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا إِلاَّ مِنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ عَقْلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَوَجَدْنَا لِبِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ قَوْلاً غَرِيبًا، وَهُوَ أَنَّ تَسْلِيمَ كُلِّ جِنْسٍ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ جَائِزٌ كَالذَّهَبِ فِي الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ، وَالْقَمْحِ فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فِي الْمِلْحِ، وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الرِّبَا لاَ يَقَعُ إِلاَّ فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَعَمَّ كُلَّ جِنْسٍ فِي الْعَالَمِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصَاتِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ خَصَّ الْمَنْصُوصَاتِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ وَجْهَ لِلأَشْتِغَالِ بِهِ.

(8/488)


اختلاف الفقهاء في علة الربا وبيان فساد قياسهم في هذا الباب
...
1481- مَسْأَلَةٌ- قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ نَذْكُرَ الْبُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا
بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَك ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِك وَرِقَك فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلًّا، وَاَللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَةُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ

(8/488)


الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، كَيْلاً بِكَيْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَلاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ ".
قال أبو محمد: عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنْصَارِيٌّ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، وَأَبُو الْخَلِيلِ هُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثِقَةٌ، وَمُسْلِمٌ الْمَكِّيُّ هُوَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْخَيَّاطُ مَوْلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه ثِقَةٌ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ صِحَاحٍ فَلاَ رِبَا إِلاَّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَحَلاَلٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/489)


لا يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثل بمثل كيل بكيل يدا بيد وكذلك الشعير ولا التمر إلا كذلك ولا الملح أيضا إلا كذلك
...
1483 مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ قَمْحٌ بِقَمْحٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ كَيْلاً بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ.وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ شَعِيرٌ بِشَعِيرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ تَمْرٌ بِتَمْرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ مِلْحٌ بِمِلْحٍ إِلاَّ كَذَلِكَ، وَسَوَاءٌ مَعْدِنِيَّةٌ أَوْ مَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ مِنْ الْمَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَهِيَ كُلُّهَا قَمْحٌ الأَعْلَى، وَالأَدْنَى، وَالْوَسَطُ: سَوَاءٌ فِيمَا قلنا، وَكَذَلِكَ أَقْسَامُ الشَّعِيرِ. وَكَذَلِكَ أَقْسَامُ التَّمْرِ فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ رِبًا حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، سَوَاءٌ تَأَخَّرَ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِيمَا وَصَفْنَا. وَلاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ نَوْعِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلاَ وَزْنًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا بِجُزَافٍ، وَلاَ جُزَافًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا بِوَزْنٍ، لأََنَّ كُلَّ هَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا، وَمَفْهُومُهُ وَمَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: جَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ التَّقَابُضُ، عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَامَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إنَّ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارَ بِالدِّينَارِ، عَيْنٌ بِعَيْنٍ، سَوَاءً سَوَاءً، مِثْلاً بِمِثْلٍ فَهَذَا عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُجِيزُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَيَرَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: فَخَالَفُوهُ.

(8/489)


جائز كل صنف مما ذكر بأصناف الآخر منها متفاضلا ومتماثلا وجزافا وزنا وكيلا كيف شئنا إذا كان يدا بيد
...
1484- مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها , متفاضلا ومتماثلا وجزافا , وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد.
ولا يجوز في ذلك التأخير

(8/489)


يجوز بيع الذهب بالفضة سواء في ذلك الدراهم أو الدنانير أو بالحلي والنقار والدراهم بحلي الذهب وسبائكه
...
1485 – مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِالْحُلِيِّ، أَوْ بِالنِّقَارِ، وَبِالدَّرَاهِمِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ، وَتِبْرِهِ، وَالْحُلِيُّ مِنْ الْفِضَّةِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ،
وَسَبَائِكُ الذَّهَبِ وَتِبْرُهُ بِنِقَارِ الْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ بُدَّ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَلاَ بُدَّ، مُتَفَاضِلَيْنِ وَمُتَمَاثِلَيْنِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَجُزَافًا بِجُزَافٍ، وَوَزْنًا بِجُزَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ لاَ تَحَاشٍ شَيْئًا، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ فِي بَيْعٍ، وَلاَ فِي سَلَمٍ. وَيُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءٌ كَانَ دَنَانِيرَ، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَبَائِكَ، أَوْ تِبْرًا، وَزْنًا بِوَزْنٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَحِلُّ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً، وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَتُبَاعُ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ نِقَارًا، وَزْنًا بِوَزْنٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً، وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَلاَ تَجُوزُ بُرَادَةُ أَحَدِهِمَا مِثْلُهَا مِنْ نَوْعِهَا كَيْلاً أَصْلاً، لَكِنْ بِوَزْنٍ، وَلاَ بُدَّ، وَلاَ نُبَالِي كَانَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ الآخَرِ بِطَبْعِهِ أَوْ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ فِي الْفِضَّتَيْنِ؛ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرْنَا، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَإِلَّا بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا: أَجَازُوا فِيهِمَا التَّفَاضُلَ يَدًا بِيَدٍ وَإِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيَّ: أَجَازَا بَيْعَ كُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَجَازَا تَأْخِيرَ الْقَبْضِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عُمَرَ قَبْلُ هَذَا بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ وَإِلَّا أَنَّ مَالِكًا لاَ يُجِيزُ الْجُزَافَ فِي الدَّنَانِيرِ، وَلاَ فِي الدَّرَاهِمِ، بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيُجِيزُهُ فِي الْمَصُوغِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْمَصُوغِ مِنْ الآخَرِ، وَيُجِيزُ إعْطَاءَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ وَزْنٍ مِنْهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمُكَارَمَةِ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلاَ حُجَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، بَلْ هُوَ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ أَمْرِهِ عليه السلام أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ [فَجَاءَنِي فَأَخْبَرَنِي] فَقُلْتُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ فَقَالَ: قَدْ وَاَللَّهِ بِعْتُهُ فِي السُّوقِ وَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَسَأَلْتُ فَقَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا ثُمَّ قَالَ لِي: ائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا سُفْيَانُ- هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- عَنْ عَمْرٍو- -هُوَ ابْنُ دِينَارٍ- عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:

(8/493)


أَخْبَرَنِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ -هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ-، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، لاَ رِبَا فِي يَدٍ بِيَدٍ، وَالْمَاءِ مِنْ الْمَاءِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ الصِّرْفِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنْ وَجَدْتَ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ نَقْدًا فَخُذْهُ.
قال أبو محمد : حَدِيثُ عُبَادَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، فِي أَنَّ الأَصْنَافَ السِّتَّةَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِصِنْفِهِ: رِبًا إنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى وَزْنِ الآخَرِ: هُوَ زَائِدٌ حُكْمًا عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَالْبَرَاءِ، وَزَيْدٍ وَالزِّيَادَةُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/494)


1486- مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالذَّهَبِ، أَوْ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً
وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِالأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا؛ لأََنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِبَاحَةِ كُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/494)


يجوز القرض في الأصناف المذكورة وفي كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد وبيانه
...
1487-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الْقَرْضُ فَجَائِزٌ فِي الأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرِهَا، وَفِي كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، وَيَحِلُّ إخْرَاجُهُ، عَنِ الْمِلْكِ،
وَلاَ يَدْخُلُ الرِّبَا فِيهِ، إِلاَّ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَدْنَى مِمَّا أَقْرَضَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، كَمَا أَوْرَدْنَا بِأَنَّهُ رِبًا وَهُوَ فِيمَا عَدَاهَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَيَجُوزُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَمُؤَخَّرًا بِغَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ، لَكِنْ حَالٌّ فِي الذِّمَّةِ مَتَى طَلَبَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ. وقال مالك: لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْتَفِعُ فِيهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِمَا اسْتَقْرَضَ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ حَدٌّ فَاسِدٌ؛ لأََنَّ الأَنْتِفَاعَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي سَاعَةٍ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} وَالْقَرْضُ أَمَانَةٌ فَفُرِضَ أَدَاؤُهَا إلَى صَاحِبِهَا مَتَى طَلَبَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/494)


حكم ما إذا اختلط الذهب بالفضة ومزج به أو أضيف إليه
...
1488- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ مَعَ الذَّهَبِ شَيْءٌ غَيْرَهُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا: مَمْزُوجٌ بِهِ، أَوْ مُضَافٌ فِيهِ، أَوْ مَجْمُوعٌ إلَيْهِ فِي دَنَانِيرَ، أَوْ فِي غَيْرِهَا:
لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ مَعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِذَهَبٍ أَصْلاً، لاَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، وَلاَ بِأَقَلَّ، وَلاَ بِمِثْلِهِ، إِلاَّ حَتَّى يَخْلُصُ الذَّهَبُ وَحْدَهُ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْفِضَّةِ شَيْءٌ غَيْرُهَا: كَصُفْرٍ، أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ غَيْرُهُمَا، مَمْزُوجٌ بِهَا، أَوْ مُلْصَقٌ مَعَهَا، أَوْ مَجْمُوعٌ إلَيْهَا: لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهَا مَعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِفِضَّةٍ أَصْلاً دَرَاهِمَ

(8/494)


حكم ما إذا كان الذهب وشيء آخر معه غير الفضة أو مركبا فيه
...
1489 مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ذَهَبٌ وَشَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْفِضَّةِ مَعَهُ أَوْ مُرَكَّبًا فِيهِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا هُوَ مَعَ مَا هُوَ مَعَهُ وَدُونَهُ بِالدَّرَاهِمِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً.
وَكَذَلِكَ الْفِضَّةُ مَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الذَّهَبِ أَوْ مُرَكَّبًا فِيهَا، أَوْ هِيَ فِيهِ: جَازَ بَيْعُهَا مَعَ مَا هِيَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ بِالدَّنَانِيرِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْقَمْحُ مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَ الآخَرِ

(8/500)


أَوْ دُونَهُ بِشَعِيرٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ وَمَا مَعَهُ أَوْ دُونَهُ بِقَمْحٍ نَقْدًا، لاَ نَسِيئَةً وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مَعَهُ شَعِيرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ بِقَمْحٍ نَقْدًا، لاَ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ مَعَهُ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ نَقْدًا، لاَ بِنَسِيئَةٍ
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ " فَسَقَطَتْ الْمُوَازَنَةُ، وَالْمُكَايَلَةُ، وَالْمُمَاثَلَةُ، وَبَقِيَ النَّقْدُ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَى مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ دِيبَاجَةً مُلْحَمَةً بِذَهَبٍ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ بِنِسَاءٍ فَأَحْرَقَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَجَازَ رَبِيعَةُ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِذَهَبٍ إلَى أَجَلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ: وَالْحَنَفِيُّونَ فَخَالَفُوا عَمَلَ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(8/501)


إذا تبايع اثنان دراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها بدراهم مغشوشة كذلك فهو جائز إذا تعاقدا البيع على أن الصفر الذي في هذه بالفضة التي في تلك والفضة أيضا كذلك
...
1490-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الْمَنْقُوشَةُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَغْشُوشَةُ فَإِنَّهُ إنْ تَبَايَعَ اثْنَانِ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً قَدْ ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا بِدَرَاهِمَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا: فَهُوَ جَائِزٌ إذَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ، عَلَى أَنَّ الصُّفْرَ الَّذِي فِي هَذِهِ بِالْفِضَّةِ الَّتِي فِي تِلْكَ، وَالْفِضَّةَ الَّتِي فِي هَذِهِ بِالصُّفْرِ الَّذِي فِي تِلْكَ: فَهَذَا جَائِزٌ حَلاَلٌ،
سَوَاءٌ تَبَايَعَا ذَلِكَ مُتَفَاضِلاً، أَوْ مُتَمَاثِلاً، أَوْ جُزَافًا بِمَعْلُومٍ، أَوْ جُزَافًا بِجُزَافٍ، لأََنَّ الصُّفْرَ بِالْفِضَّةِ حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَنَانِيرَ مَغْشُوشَةً بِدَنَانِيرَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ ظَهَرَ الْغِشُّ فِي كِلَيْهِمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ تَبَايَعَا ذَهَبَ هَذِهِ بِفِضَّةِ تِلْكَ وَذَهَبَ تِلْكَ بِفِضَّةِ هَذِهِ: فَهَذَا أَيْضًا حَلاَلٌ مُتَمَاثِلاً، وَمُتَفَاضِلاً، وَجُزَافًا نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ لأََنَّهُ ذَهَبٌ بِفِضَّةٍ، فَالتَّفَاضُلُ جَائِزٌ، وَالتَّنَاقُدُ فَرْضٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/501)


يجوز بيع القمح بدقيق القمح وسويق القمح بخبز القمح ودقيقه بدقيقه وسويقه متفاضلا كل ذلك ومتماثلا وجزافا
...
1491- مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ وَسَوِيقِ الْقَمْحِ وَبِخُبْزِ الْقَمْحِ وَدَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَبِسَوِيقِهِ وَخُبْزِهِ، وَسَوِيقِهِ بِسَوِيقِهِ وَبِخُبْزِهِ،
وَخُبْزِ الْقَمْحِ بِخُبْزِ الْقَمْحِ، مُتَفَاضِلاً كُلُّ ذَلِكَ، وَمُتَمَاثِلاً، وَجُزَافًا وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَبِالْعَصِيرِ، وَبِخَلِّ الْعِنَبِ بِالْخَلِّ، يَدًا بِيَدٍ وَأَنْ يُسَلَّمَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا بَعْضُهُ فِي بَعْضِ. وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الشَّعِيرِ بِالْقَمْحِ وَبِالشَّعِيرِ وَبِدَقِيقِ الشَّعِيرِ وَبِخُبْزِهِ، وَالتِّينِ بِالتِّينِ، وَالزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ، وَالأُُرْزِ بِالأُُرْزِ، كَيْفَ شِئْت مُتَفَاضِلاً، وَمُتَمَاثِلاً وَيُسَلَّمُ

(8/501)


من كان له عند آخر دنانير أو دراهم أو قمح أو شعير أوملح أو غير ذلك مما لا يقع فيه الربا فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا من غير ماله عنده أصلا
...
1492- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ، أَوْ دَرَاهِمُ، أَوْ قَمْحٌ، أَوْ شَعِيرٌ، أَوْ مِلْحٌ، أَوْ تَمْرٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا لاَ يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا إمَّا مِنْ بَيْعٍ، إمَّا مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُ حَالًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَالٍّ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ عِنْدَهُ أَصْلاً.
فَإِنْ أَخَذَ دَنَانِيرَ، عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ دَنَانِيرَ، أَوْ شَعِيرًا، عَنْ بُرٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ عَرَضٍ، أَوْ نَوْعًا، عَنْ نَوْعٍ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا: فَهُوَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا رِبًا مَحْضٌ، وَفِيمَا لاَ يَقَعُ فِي الرِّبَا حَرَامٌ بَحْتٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَفْسُوخٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الأَنْتِصَافِ أَلْبَتَّةَ فَيَأْخُذُ مَا أَمْكَنَهُ، مِمَّا يَحِلُّ مِلْكُهُ، لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلاَ مَزِيدَ، فَهَذَا حَلاَلٌ لَهُ.
برهان ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ، وَالْبُرَّ، وَالتَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ، وَالْمِلْحَ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: " فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ " وَالْعَمَلُ الَّذِي وَصَفْنَا لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ، بَلْ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَعْدِنِهِ بَعْدُ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه السلام. وَأَيْضًا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ " وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْحَوْضِيُّ أَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا الْمِنْهَالِ قَالَ: سَأَلْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، عَنِ الصَّرْفِ فَكِلاَهُمَا يَقُولُ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا ".
وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابُنَا، إلَى جَوَازِ أَخْذِ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِق، وَالْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ: بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبِيعُ الإِبِلَ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا ".

(8/503)


قال أبو محمد: وَهَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةٌ فِيهِ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ: حَدَّثَك فُلاَنٌ، عَنْ فُلاَنٍ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فِيمَ سُئِلَ عَنْهُ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِهَذَا السَّنَدِ بِبَيَانِ غَيْرِ مَا ذَكَرُوا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ أَوْ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إذَا بَايَعْت صَاحِبَكَ فَلاَ تُفَارِقْهُ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَهُمْ كَمَا يُرِيدُونَ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ؛ لأََنَّ فِيهِ اشْتِرَاطَ أَخْذِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَهُمْ يُجِيزُونَ أَخْذَهَا بِغَيْرِ سِعْرِ يَوْمِهَا، فَقَدْ اطَّرَحُوا مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَمِمَّا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ هَهُنَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغَرَرِ؛ لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ لاَ يَدْرِي أَخُلِقَ بَعْدُ أَمْ لَمْ يُخْلَقْ، وَلاَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ بِمِثْلِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَالسَّلْمُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إلَى أَجَلٍ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ، فَمِنْ أَيْنَ أَجَازُوهُ فِي الْقَرْضِ وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِهِ بَيْنَ الْقَرْضِ فِي الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ: بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ، قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لِي: إذَا خَرَجَ خَازِنُنَا أَعْطَيْنَاك، فَلَمَّا خَرَجَ بَعَثَهُ مَعِي إلَى السُّوقِ وَقَالَ: إذَا قَامَتْ عَلَى ثَمَنٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِقِيمَتِهَا أَخَذَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَعَرَضَ عَلَيَّ دَنَانِيرَ فَقُلْت: لاَ آخُذُهَا حَتَّى أَسْأَلَ عُمَرَ فَسَأَلْته فَقَالَ: ائْتِ بِهَا الصَّيَارِفَةَ فَأَعْرِضْهَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى سِعْرٍ، فَإِنْ شِئْت فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ مِثْلَ دَرَاهِمِك وَصَحَّتْ إبَاحَةُ ذَلِكَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُ، وطَاوُوس وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآخَرُ نَاجِزٌ هَذَا صَحِيحٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ، وَالْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ

(8/504)


عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ كِدَامٍ قَالَ: حَلَفَ لِي مَعْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ أَبِيهِ بِخَطِّهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ دَرَاهِمَ مَكَانَ دَنَانِيرَ أَوْ دَنَانِيرَ مَكَانَ دَرَاهِمَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمِنْهَالِ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ: نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَبَاهُ أَنْ نَبِيعَ الدَّيْنَ بِالْعَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاعَتْ جَارِيَةً لَهَا إمَّا بِذَهَبٍ وَأَمَّا بِفِضَّةٍ فَعُرِضَ عَلَيْهَا النَّوْعُ الآخَرُ فَسُئِلَ عُمَرُ فَقَالَ: لِتَأْخُذْ النَّوْعَ الَّذِي بَاعَتْ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ بَاعَ طَعَامًا بِدَرَاهِمَ، أَيَأْخُذُ بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا فَقَالَ: لاَ، حَتَّى تَقْبِضَ دَرَاهِمَك وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ أَقْرَضَ دَرَاهِمَ أَيَأْخُذُ بِثَمَنِهَا طَعَامًا فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ اقْتِضَاءَ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، وَ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لاَ تَأْخُذْ الذَّهَبَ مِنْ الْوَرِقِ يَكُونُ لَك عَلَى الرَّجُلِ، وَلاَ تَأْخُذَنَّ الْوَرِقَ مِنْ الذَّهَبِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَك عِنْدَ آخَرَ قَرْضٌ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ بُرْدٍ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَاقَةً بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَجَاءَ يَلْتَمِسُ حَقَّهُ فَقُلْت: عِنْدِي دَرَاهِمُ لَيْسَ عِنْدِي دَنَانِيرُ فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: خُذْ مِنْهُ دَنَانِيرَ عَيْنًا، فَإِنْ أَبَى فَمَوْعِدُهُ اللَّهُ، دَعْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: بِعْت جَزُورًا بِدَرَاهِمَ إلَى الْحَصَادِ، فَلَمَّا حَلَّ قَضَوْنِي

(8/505)


حِنْطَةً، وَشَعِيرًا، وَسَلْتًا، فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: لاَ يَصْلُحُ، لاَ تَأْخُذْ إِلاَّ الدَّرَاهِمَ. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقُرْآنَ فِي تَحْرِيمِهِ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِخَبَرٍ سَاقِطٍ مُضْطَرِبٍ وَقَوْلُنَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْتِصَافِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْمَمْنُوعُ حَقُّهُ أَنْ يَنْتَصِفَ بِهِ، أَوْ بِأَنْ يُوَكِّلَ غَرِيمَهُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَهُ، وَبِأَنْ يَبْتَاعَ لَهُ مَا يُرِيدُ: فَهَذَا جَائِزٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/506)


استدراك مناقصات لأخصام ماذهب إليه المصنف في مسألة الربا وبيانها مفصلة
...
1493- مَسْأَلَةٌ- وَاسْتَدْرَكْنَا مُنَاقَضَاتٍ لَهُمْ يُعَارِضُونَ بِهَا
أَنْ شَنَّعُوا عَلَيْنَا بِبَيْعِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَدَقِيقِ غَيْره مُتَفَاضِلاً، وَتَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ، وَكَذَلِكَ دَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ، وَبِالْخُبْزِ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَبِالزَّيْتِ، وَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ، وَبِالْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَكُلِّ شَيْءٍ، مَا عَدَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ السُّنَّةِ. وَلاَ شُنْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؛ لأََنَّنَا لَمْ نَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ حَرَّمْنَا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَإِنَّمَا الشَّنِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ مِنْ الْقَمْحِ بِالْقَمْحِ كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، قَالَ: وَلاَ يَجُوزُ دَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ كَيْلاً بِكَيْلٍ، لَكِنْ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ فَإِنْ كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ نَوْعًا وَاحِدًا مَعَ الْقَمْحِ فَمَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ دَقِيقَ قَمْحٍ بِدَقِيقِ قَمْحٍ إِلاَّ كَيْلاً بِكَيْلٍ كَمَا يَبِيعُ الدَّقِيقَ بِالْقَمْحِ؛ لأََنَّهُمَا قَمْحٌ مَعًا وَإِنْ كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ صِنْفًا غَيْرَ الْقَمْحِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُجِيزَهُ بِالْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً، وَأَجَازَ الْقَمْحَ بِسَوِيقِ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ دَقِيقِ قَمْحٍ وَبَيْنَ سَوِيقِ قَمْحٍ بِقَمْحٍ؟ وأعجب مِنْ هَذَا احْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ السَّوِيقَ دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ .فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ؟ نَعَمْ، وَالدَّقِيقُ أَيْضًا دَخَلَتْهُ، صَنْعَةٌ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا أَيْضًا: إنَّمَا يُرَاعَى تَقَارُبُ الْمَنَافِعِ؟ .فَقُلْنَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَكُمْ أَنْ تُرَاعُوا تَقَارُبَ الْمَنَافِعِ وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى بِلاَ برهان؟ وَقَوْلٌ لَمْ تُسْبَقُوا إلَيْهِ، وَتَعْلِيلٌ فَاسِدٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَنَافِعَ فِي جَمِيعِ الْمَأْكُولاَتِ وَاحِدَةٌ لَسْنَا نَقُولُ: مُتَقَارِبَةً، بَلْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ طَرْدُ الْجُوعِ، أَوْ التَّأَدُّمِ، أَوْ التَّفَكُّهُ، أَوْ التَّدَاوِي، وَلاَ مَزِيدَ. وَمَنَعُوا مِنْ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَأَجَازُوا الْحِنْطَةَ الْمَقْلِيَّةَ بِالْيَابِسَةِ وَكِلْتَاهُمَا مُخْتَلِفَةٌ مَعَ الأُُخْرَى. وَمَنَعُوا مِنْ الدَّقِيقِ بِالْعَجِينِ وَقَدْ دَخَلَتْ الْعَجِينَ صَنْعَةٌ. وَأَبَاحُوا الْقَمْحَ بِالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً

(8/506)


وَمَنَعُوا مِنْ اللَّبَنِ بِالسَّمْنِ جُمْلَةً نَعَمْ، وَمَنَعُوا مِنْ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ وَهَلْ الْجُبْنُ مِنْ اللَّبَن إِلاَّ كَالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ لَبَنِ شَاةٍ بِشَاةٍ لَبُونٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ لَبَنَ الآنَ فِي ضَرْعِهَا؛ لأََنَّهُ قَدْ اُسْتُنْفِذَ بِالْحَلْبِ. وَأَجَازُوا بَيْعَ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ إذَا كَانَتْ لاَ تَمْرَ فِيهَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ ضَرْعِ الشَّاةِ، وَأَنَّ السَّمْنَ يُعْمَلُ مِنْ اللَّبَنِ .فَقُلْنَا: وَالتَّمْرُ يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ، وَالْخُبْزُ يُعْمَلُ مِنْ الْقَمْحِ. وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالْعَصِيرِ، وَأَجَازُوهُ بِالْخَلِّ وَهَذِهِ عَجَائِبُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، لَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لاَ تَسَعُ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَهُوَ كُلُّهُ كَمَا ذَكَرْنَا لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ أَبَاحُوا الرِّبَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ جِهَارًا فَأَحَلُّوا بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ كَتَّانٍ أَسْوَدَ أَخَرْشَ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِقُلْفَةِ الْمَرَاكِبِ بِرِطْلِ كَتَّانٍ أَبْيَضَ مِصْرِيٍّ أَمْلَسَ كَالْحَرِيرِ وَكَذَلِكَ حَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ قُطْنٍ طَيِّبٍ غَزْلِيٍّ بِرِطْلِ قُطْنٍ خَشِنٍ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْحَشْوِ، وَقَالُوا: الْقُطْنُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَالْكَتَّانُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الثِّيَابُ الْمَعْمُولَةُ مِنْ الْقُطْنِ فَأَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ فَأَجَازُوا بَيْعَ ثَوْبِ قُطْنٍ مَرْوِيٍّ خُرَاسَانِيٍّ بِثَوْبَيْ قُطْنٍ مَرْوِيٍّ بَغْدَادِيٍّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً قَالُوا: وَأَمَّا غَزْلُ الْقُطْنِ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَصِنْفٌ وَاحِدٌ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَلاَ النَّسِيئَةُ. قَالُوا: شَحْمُ بَطْنِ الْكَبْشِ صِنْفٌ، وَشَحْمُ ظَهْرِهِ وَشَحْمُ سَائِرِ جَسَدِهِ صِنْفٌ آخَرُ، فَأَجَازُوا بَيْعَ رِطْلَيْنِ مِنْ شَحْمِ بَطْنِهِ بِرِطْلٍ مِنْ شَحْمِ ظَهْرِهِ نَقْدًا. قَالُوا: وَأَلْيَةُ الشَّاةِ صِنْفٌ، وَسَائِرُ لَحْمِهَا صِنْفٌ آخَرُ، فَجَائِزٌ بَيْعُ رِطْلٍ مِنْ أَلْيَتِهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَائِرِ لَحْمِهَا. قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ رِطْلٍ مِنْ لَحْمِ كَبْشٍ إِلاَّ بِرِطْلٍ مِنْ لَحْمِهِ، وَلاَ مَزِيدَ، وَزْنًا بِوَزْنٍ نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ وَأَجَازُوهُ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الثَّوْرِ نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ. وَأَمَّا لَحْمُ الإِوَزِّ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ، فَيَجُوزُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِطْلٌ بِرِطْلَيْنِ مِنْ نَوْعِهِ فَأَجَازُوا رِطْلَ لَحْمِ دَجَاجٍ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ دَجَاجٍ نَقْدًا أَوْ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الإِوَزِّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً. وَقَالُوا: النَّسِيئَةُ فِي كُلِّ مَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا مِنْ التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، إنَّمَا هِيَ مَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الأَجَلُ فِي حِينِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ قَبْضُهُ إلَى أَنْ تَفَرَّقَا وَلَمْ يَكُنْ اُشْتُرِطَ فِيهِ التَّأْخِيرُ، فَلاَ يَضُرُّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، إِلاَّ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَقَطْ، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِيهِمَا رَبَا اُشْتُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إجَازَتُهُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ، وَمَنْعُهُ مِنْ الدَّقِيقِ أَوْ السَّوِيقِ بِالْقَمْحِ جُمْلَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ أَصْلاً، فَلَوْ عَكَسَ قَوْلَهُ لاََصَابَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا وَسَاوِسُ، وَسَخَافَاتٌ، وَمُنَاقَضَاتٌ

(8/507)


لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَأَقْوَالٌ لاَ تُحْفَظُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ رِطْلِ سَقَمُونْيَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَقَمُونْيَا؛ لأََنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَأْكُولاَتِ، وَأَبَاحُوا وَزْنَ دِرْهَمِ زَعْفَرَانً بِوَزْنِ دِرْهَمَيْنِ مِنْهُ نَقْدًا وَنَسِيئَةً؛ لأََنَّهُ لاَ يُؤْكَلُ عِنْدَهُمْ. وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ عَسَلٍ مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ بِعَسَلٍ مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ أَصْلاً، إِلاَّ حَتَّى يُصَفَّى كِلاَهُمَا وَأَجَازُوا بَيْعَ الْجَوْزِ بِقِشْرِهِ بِالْجَوْزِ بِقِشْرِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إخْرَاجَ الْعَسَلِ مِنْ شَمْعِهِ صَلاَحٌ لَهُ، وَإِخْرَاجَ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ مِنْ قِشْرِهِ، وَنَزْعَ النَّوَى مِنْ التَّمْرِ فَسَادٌ لَهُ. .فَقُلْنَا: كَلًّا، مَا الصَّلاَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ إِلاَّ كَالْفَسَادِ فِيمَا وَصَفْتُمْ، وَمَا فِي ذَلِكَ صَلاَحٌ، وَلاَ فِي هَذَا فَسَادٌ، وَلَوْ كَانَ فَسَادًا لَمَا حَلَّ أَصْلاً؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَهَذِهِ أَيْضًا مُنَاقَضَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَقْوَالٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَيْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ يَدًا بِيَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ، أَوْ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ.
قال أبو محمد: وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا اللُّغَةُ، وَالشَّرِيعَةُ، وَالْحِسُّ، فَهُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ لَيْسَ قَمْحًا، وَلاَ شَعِيرًا، لاَ فِي اسْمِهِ، وَلاَ فِي صِفَتِهِ، وَلاَ فِي طَبِيعَتِهِ. فَهَذِهِ الدَّوَابُّ تُطْعَمُ الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ فَلاَ يَضُرُّهَا بَلْ يَنْفَعُهَا، وَتُطْعَمُ الْقَمْحَ فَيُهْلِكُهَا، وَالدَّبْسُ لَيْسَ تَمْرًا، لاَ فِي لُغَةٍ، وَلاَ فِي شَرِيعَةٍ، وَلاَ فِي مُشَاهَدَةٍ. وَلاَ فِي اسْمِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ. وَالْمَاءُ لَيْسَ مِلْحًا؛ لأََنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ بِالْمِلْحِ. وَلَيْسَ تَوْلِيدُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بِمُوجِبِ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ هُوَ الَّذِي عَنْهُ تُوُلِّدَ، فَنَحْنُ خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ، وَنُطْفَةٍ، وَمَاءٍ، وَلَسْنَا نُطْفَةً، وَلاَ تُرَابًا، وَلاَ مَاءً. وَالْخَمْرُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَصِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ وَالْعَصِيرُ حَلاَلٌ. وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ، عَنِ الدَّمِ وَاللَّبَنُ حَلاَلٌ وَالدَّمُ حَرَامٌ. وَالْعَذِرَةُ تَسْتَحِيلُ تُرَابًا حَلاَلاً طَيِّبًا. وَالدَّجَاجَةُ تَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ فَيَصِيرَانِ فِيهَا لَحْمًا حَلاَلاً طَيِّبًا. وَالْخَلُّ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ حَلاَلٌ وَهِيَ حَرَامٌ. وَأَمَّا حُلِيُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهُمَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ بِاسْمَيْهِمَا وَصِفَاتِهِمَا وَطَبِيعَتِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَفِي الشَّرِيعَةِ وَاحِدٌ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .

(8/508)


من باع ذهبا بذهب بيعا حلالا أو فضة بفضة كذلك مسكوكا بمثله كان أو مصوغين أو مصوغا بمسكوك أو تبرا أو نقار فوجد أحدهما بما اشترى من ذلك عيبا قبل أن يفترقا بأبدانهما فهو بالخيار
...
1494-مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ بَيْعًا حَلاَلاً، أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ كَذَلِكَ، أَوْ فِضَّةً بِذَهَبٍ كَذَلِكَ، مَسْكُوكًا بِمِثْلِهِ أَوْ مَصُوغَيْنِ، أَوْ مَصُوغًا بِمَسْكُوكٍ،
أَوْ تِبْرًا أَوْ نَقَّارًا، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا بِمَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَبْدَلَ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ بَعْدُ، فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِبَيْعٍ، عَنْ تَرَاضٍ أَوْ تَارِكٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/508)


إن وجد العيب بعد التفرق أو بعد التخيير فيفصل فيه
...
1495- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ وَجَدَ الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَاخْتَارَ الْمُخَيَّرُ إتْمَامَ الْبَيْعِ
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ خَلْطٍ وَجَدَهُ مِنْ غَيْرِ مَا اشْتَرَى، لَكِنْ كَفِضَّةٍ أَوْ صُفْرٍ فِي ذَهَبٍ، أَوْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي فِضَّةٍ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ، مَرْدُودَةٌ، كَثُرَتْ أَمْ قَلَّتْ، قَلَّ ذَلِكَ الْخَلْطُ أَمْ كَثُرَ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى، وَلاَ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ الصَّفْقَةَ، فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَرَاضَى بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَلاَ يَجُوزُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا إِلاَّ صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ، وَلاَ خِيَارَ فِي إمْضَائِهَا؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/509)


1496- مَسْأَلَةٌ- وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضُ مَا اشْتَرَى أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، أَوْ لَوْ تَأَخَّرَ قَبْضُ شَيْءٍ مِمَّا تَبَايَعَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لأََنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ صَحِيحًا وَمَا لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ فَاسِدٌ،
وَكُلُّ عَقْدٍ اخْتَلَطَ الْحَرَامُ فِيهِ بِالْحَلاَلِ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ صِحَّةُ الْحَلاَلِ مِنْهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْحَرَامِ، وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ، فَلاَ صِحَّةَ لَهُ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ وَحْدَهُ. دُونَ غَيْرِهِ.

(8/509)


إن كان العيب في نفس ما اشترى ككسر أو كان الذهب ناقص القيمة بطبعه والفضة كذلك فيفصل فيه
...
1497- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي نَفْسِ مَا اشْتَرَى كَكَسْرٍ، أَوْ كَانَ الذَّهَبُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ بِطَبْعِهِ، وَالْفِضَّةُ كَذَلِكَ، كَالذَّهَبِ الأَشْقَرِ وَالأَخْضَرِ بِطَبْعِهِ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ السَّلاَمَةَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ؛
لأََنَّهُ وَجَدَ غَيْرَ مَا اشْتَرَى، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَالُ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ بَيْعًا. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِ الصَّفْقَةِ كَمَا هِيَ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا فَسْخُهَا كُلِّهَا، وَلاَ بُدَّ؛ لأََنَّهُ اشْتَرَى الْعَيْنَ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ ثُمَّ وَجَدَ غَبْنًا، وَالْغَبْنُ إذَا رَضِيَهُ الْبَائِعُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ جَائِزٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَيْعَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ عَلَى جَمِيعِهَا، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا.
قال أبو محمد : وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْخَلْفُ وَالسَّلَفُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ بْنِ الأَشْعَثِ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يَشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَيَشْتَرِطُ إنْ كَانَ فِيهَا زَائِفٌ أَنْ يَرُدَّهُ أَنَّهُ كَرِهَ الشَّرْطَ، وَقَالَ: ذَلِكَ لَهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: ظَاهِرُ هَذَا رَدُّ الْبَيْعِ؛ لأََنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَدَّ الزَّائِفِ وَحْدَهُ لَذَكَرَ بُطْلاَنَ مَا قَابَلَهُ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ فِي سَائِرِ الصَّفْقَةِ، أَوْ لَذَكَرَ الأَسْتِدْلاَلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ كُلَّهُ شَيْئًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى قَالَ: زَعَمَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَأَخْطَئُوا فِيهَا بِدِرْهَمٍ سَتُّوقٍ فَكَرِهَ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْحَاضِرِينَ

(8/509)


من الحلال المحض بيع مدين من تمر أحدهما جيد غاية والآخر ردئ غاية بمدين من تمر أجود منهما أو أدنى إلخ
...
1498- مَسْأَلَةٌ- وَمِنْ الْحَلاَلِ الْمَحْضِ بَيْعُ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ غَايَةً، وَالآخَرُ رَدِيءٌ غَايَةً: بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَجْوَدَ مِنْهُمَا، أَوْ أَدْنَى مِنْهُمَا، أَوْ دُونَ الْجَيِّدِ مِنْهُمَا، وَفَوْقَ الرَّدِيءِ مِنْهُمَا، أَوْ مِثْلَ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَعْضُهُمَا جَيِّدٌ وَالْبَعْضُ رَدِيءٌ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، وَفِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، وَقَمْحٍ بِقَمْحٍ، وَفِي شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَفِي مِلْحٍ بِمِلْحٍ، وَلاَ فَرْقَ، لأَِبَاحَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كُلِّ صِنْفٍ مِمَّا ذَكَرْنَا بِصِنْفِهِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فِي الْمُكَايَلَةِ، فِي الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَالْمُوَازَنَةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا الْقَعْنَبِيُّ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَدَّثَاهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ " فَأَبَاحَ عليه السلام نَصًّا: بَيْعَ الْجَنِيبِ مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُتَخَيَّرُ كُلُّهُ بِالْجَمْعِ مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ جَيِّدًا وَرَدِيئًا وَوَسَطًا. مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ رَدِيءٌ بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ مُتَوَسِّطَيْنِ أَدْنَى مِنْ الْجَيِّدِ وَأَجْوَدَ مِنْ الرَّدِيءِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ.
قال أبو محمد : لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا؛ لأََنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي جَوَازِ صَاعٍ بِصَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِصَاعِ تَمْرٍ جَيِّدٍ وَلَيْسَ مِثْلَهُ فَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْكَيْلِ أَوْ فِي الْوَزْنِ فَقَطْ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ فِيهَا: بِيعُوا الْجَمْعَ وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ الْجَنِيبِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لأََنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا زَائِدٌ

(8/511)


عَلَى تِلْكَ الأَخْبَارِ حُكْمًا، وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ زِيَادَةِ الْعَدْلِ. وَعُمْدَةُ حُجَّتِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا رَضِيَ الْبَائِعُ هَهُنَا لِلْمُدَّيْنِ: اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ رَدِيءٌ، بِأَنْ يُعْطِيَ الْجَيِّدَ أَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ، وَأَنْ يُعْطِيَ الأَرْدَأَ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ: فَحَصَلَ التَّفَاضُلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَحَتَّى لَوْ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لأَِرَادَتِهِ، فَحَصَلُوا عَلَى التَّكَهُّنِ، وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي الدِّينِ الْكَلاَمُ وَالْعَمَلُ، فَإِذَا جَاءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام فَمَا نُبَالِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " لَمْ أُبْعَثْ لأََشُقَّ، عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ " فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ عليه السلام: " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ". قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ مَنْ لَكُمْ بِأَنَّ هَذَيْنِ نَوَيَا مَا ذَكَرْتُمْ، وَهَذَا مِنْكُمْ ظَنُّ سُوءٍ بِمُسْلِمٍ لَمْ يُخْبِرْكُمْ بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُفْسِدُوا صَفْقَةَ مُسْلِمٍ بِتَوَهُّمِكُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَاطِلَ، وَهُوَ لَمْ يُخْبِرْكُمْ ذَلِكَ فَقَطْ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ ظَهَرَ مِنْ فِعْلِهِ إِلاَّ الْحَلاَلُ الْمُطْلَقُ. وَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَشْتَرِي تَمْرًا أَوْ تِينًا أَوْ عِنَبًا أَنْ تَفْسَخُوا صَفْقَتَهُ وَتَقُولُوا لَهُ: إنَّمَا تَنْوِي فِيهِ عَمَلَ الْخَمْرِ مِنْهُ، وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا أَنْ تَفْسَخُوهُ وَتَقُولُوا: إنَّمَا تُرِيدُ تَلْبَسُهُ فِي الْمَعَاصِي. وَمَنْ اشْتَرَى سَيْفًا أَنْ تَفْسَخُوا وَتَقُولُوا: إنَّمَا تُرِيدُ بِهِ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا هَوَسٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَبَيْنَ مَا أَفْسَدْتُمْ بِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَأْتِي بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ الْجِيَادِ، وَبِالنُّفَايَةِ: يَأْخُذُ بِوَزْنِهَا غَلَّةً. قَالَ عَلِيٌّ: السُّودُ أَجْوَدُ مِنْ الْغَلَّةِ، وَالنُّفَايَةُ أَدْنَى مِنْ الْغَلَّةِ وَهَذَا نَفْسُ مَسْأَلَتِنَا.

(8/512)


من صارف آخر دنانير بدراهم فعجز عن تمام مراده فاستقرض من مصارفه أو غيره ما أتم به الصرف فحسن
...
1499- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ صَارَفَ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِم فَعَجَزَ، عَنْ تَمَامِ مُرَادِهِ فَاسْتَقْرَضَ مِنْ مَصَارِفِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَا أَتَمَّ بِهِ صَرْفَهُ فَحَسَنٌ،
مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ فِي الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.

(8/512)


من باع من آخر دنانير بدراهم فلما تم البيع بينهما اشترى منه أمن غيره بتلك الدراهم دنانير تلك أو غيرها أقل أو أكثر فكل ذلك حلا مالم يكن عن شرط
...
1500 – مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فَلَمَّا تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ اشْتَرَى مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ تِلْكَ، أَوْ غَيْرِهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ؛
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَعَمَلٌ مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ فَحَرَامٌ؛ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا قَوْمٌ وَقَالُوا: إنَّهُ بَاعَ مِنْهُ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ مُتَفَاضِلَةً فَقُلْنَا: هَذَا كَذِبٌ، وَمَا فَعَلَ قَطُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونَا: هَلْ لَهُ أَنْ يُصَارِفَهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ وَتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ .فَقُلْنَا لَهُمْ: فَأَجَزْتُمْ التَّفَاضُلَ وَالنَّسِيئَةَ مَعًا

(8/512)


التواعد في بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز
...
1501- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّوَاعُدُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ، وَفِي بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَفِي سَائِرِ الأَصْنَافِ الأَرْبَعَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَائِزٌ تَبَايَعَا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَتَبَايَعَا؛
لأََنَّ التَّوَاعُدَ لَيْسَ بَيْعًا. وَكَذَلِكَ الْمُسَاوَمَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ تَبَايَعَا أَوْ لَمْ يَتَبَايَعَا لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا فَقَدْ فُصِّلَ بِاسْمِهِ، قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَكُلُّ مَا لَمْ يُفَصَّلُ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، إذْ لَيْسَ فِي الدِّينِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ، فَالْفَرْضُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحَرَامُ مُفَصَّلٌ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ فَلَيْسَ فَرْضًا، وَلاَ حَرَامًا فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ: حَلاَلٌ إذْ لَيْسَ هُنَالِكَ قِسْمٌ رَابِعٌ

(8/513)


وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.

(8/514)


لا يحل بدل دراهم بأوزان منها لا بالمعروف ولا بغيره
...
1502– مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ بَدَلُ دَرَاهِمَ بِأَوْزَنَ مِنْهَا لاَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ لاَ الْمَعْرُوفُ،
لأََنَّهُ خِلاَفُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا آنِفًا، عَنْ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم .وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ مُوَافِقًا قَبْلَهُ مِمَّنْ رَأَى الرِّبَا فِي النَّقْدِ.

(8/514)


1503- مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ آنِيَةٍ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ إِلاَّ بَعْدَ كَسْرِهَا
لِصِحَّةِ نَهْيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "كِتَابِ الطَّهَارَةِ" فَلاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَإِذْ لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا؛ لأََنَّهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/514)


يجوز أن يبتاع المرء نصف درهم بعينه أونصف درهم بأعيانها أو نصف دينار كذلك
...
1504- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَبْتَاعَ الْمَرْءُ نِصْفَ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ نِصْفَ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ نِصْفَ دِينَارٍ كَذَلِكَ، أَوْ نِصْفَ دَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا مُشَاعًا:
يَبْتَاعُ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، وَالذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَيَتَّفِقَانِ عَلَى إقْرَارِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ. وَلاَ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَصْلاً، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَصْلاً، لأََنَّهُ يَصِيرُ عَيْنًا بِغَيْرِ عَيْنٍ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَمَّا الذَّهَبُ بِالْفِضَّةِ مُشَاعًا، فَلَمْ يَأْتِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ نَصٌّ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.

(8/514)


1505- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعٌ بِدِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا؛ فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ؛
لأََنَّهُ إخْرَاجٌ لَقِيمَةِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدِّينَارِ، فَصَارَ اسْتِثْنَاءً مَجْهُولاً، إذْ بَاعَ بِدِينَارٍ إِلاَّ قِيمَةَ دِرْهَمٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الدِّرْهَمِ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا، لأََنَّهُمَا شَرَطَا إخْرَاجَ الدِّرْهَمِ بِعَيْنِهِ مِنْ الدِّينَارِ، وَهَذَا مُحَالٌ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ بَعْضٌ لِلدِّينَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَجَازَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/514)


الربا في كل ما ذكر قبل بين العبد وسيده كما هو بين الأجنبيين وبين المسلم والذمي وبين المسلم والحربي وبين الذميين كما هو بين المسلمين ولا فرق
...
1506- مَسْأَلَةٌ: وَالرِّبَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ كَمَا هُوَ بَيْنَ الأَجْنَبِيَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَبَيْنَ الذِّمِّيَّيْنِ كَمَا هُوَ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبِيعُ مِنْ غِلْمَانِهِ النَّخْلَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَمَا عَلِمْت نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ رِبًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنَّمَا قَالَهُ هَؤُلاَءِ عَلَى أَصْلِهِمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ إفْسَادُنَا لَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى الْعَبْدَ يَمْلِكُ، وَهَذَا جَابِرٌ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ

(8/514)


1507 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَانَا أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ مُتَفَاضِلاً، وَمُتَمَاثِلاً. وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ اللَّحْمِ فِي اللَّحْمِ كَذَلِكَ.
وَتَسْلِيمُ الْحَيَوَانِ فِي اللَّحْمِ، كَلَحْمِ كَبْشٍ بِلَحْمِ كَبْشٍ مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً، يَدًا بِيَدٍ، وَإِلَى أَجَلٍ وَكَذَلِكَ بِاللَّحْمِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ أَيْضًا وَكَتَسْلِيمِ كَبْشٍ فِي أَرْطَالِ لَحْمِ كَبْشٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلاَلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا كُلُّهُ بَيْعٌ لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ. وَأَمَّا اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ فَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ عَنْهُ أَصْلاً، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ سَقِيمٌ مِنْ أَثَرٍ. وَأَمَّا اللَّحْمُ بِالْحَيَوَانِ فَجَاءَ فِيهِ

(8/515)


أَثَرٌ لاَ يَصِحُّ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ عَلَى فِرَقٍ: فَطَائِفَةٌ مَنَعَتْ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ جُمْلَةً، أَيَّ لَحْمٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، بِأَيِّ حَيَوَانٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، حَتَّى مَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ بِاللَّحْمِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنْ يُجْمَعَ لُحُومُ الْحَيَوَانِ كُلِّهَا طَائِرَةً وَوَحْشِيَّةً، وَالأَنْعَامِ، كُلِّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ لَحْمَ كُلِّ نَوْعٍ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ لَحْمٌ بِلَحْمٍ أَصْلاً حَتَّى يَتَنَاهَى جَفَافُهُ وَيَبَسُهُ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ غَنَمٍ بِقَدِيدِ إبِلٍ، أَوْ بِقَدِيدِ دَجَاجٍ، أَوْ إوَزٍّ أَوْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ غَنَمٍ بِقَدِيدِ غَنَمٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ بِقَدِيدِ الْبَقَرِ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ. وقال أبو حنيفة: جَائِزٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَائِزٌ بَيْعُ لَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةً، إذَا كَانَ اللَّحْمُ أَكْثَرَ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ الْحَيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ بَيْعَ شَاةٍ بِبَقَرَةٍ حَيَّةً كَيْفَ شَاءُوا. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ بَيْعَ لَحْمِ شَاةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ مُتَمَاثِلاً نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ كُلِّ صِنْفٍ بِلَحْمٍ مِنْ صِنْفِهِ وَأَبَاحُوا التَّفَاضُلَ يَدًا بِيَدٍ فِي كُلِّ لَحْمٍ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ، وَالْبَقَرُ عِنْدَهُمْ صِنْفٌ، وَالْغَنَمُ صِنْفٌ آخَرُ، وَالإِبِلُ صِنْفٌ ثَالِثٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ فِي صِنْفِهِ، إِلاَّ الْحِيتَانُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا عِنْدَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَإِلَّا لُحُومُ الطَّيْرِ، فَرَأَوْا بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، لاَ نَسِيئَةً، كَلَحْمِ دَجَاجٍ بِلَحْمِ دَجَاجٍ، أَوْ بِلَحْمِ صَيْدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَرَأَى شَحْمَ الْبَطْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ صِنْفًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَغَيْرِ شَحْمِ ظَهْرِهِ. وَرَأَى الأَلْيَةَ صِنْفًا آخَرَ غَيْرَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ. وَهَذِهِ وَسَاوِسُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، وَأَقْوَالٌ لاَ تُعْقَلُ، وَلاَ تُعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وقال مالك: ذَوَاتُ الأَرْبَعِ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ: الْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، وَالإِبِلُ، وَالأَرَانِبُ، وَالأَيَايِلُ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ، وَكُلُّ ذِي أَرْبَعٍ، فَلاَ يَحِلُّ لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَحْمِ أَرْنَبٍ حَيٍّ بِلَحْمِ جَمَلٍ أَصْلاً، وَلاَ لَحْمِ جَمَلٍ بِلَحْمِ كَبْشٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ. وَرَأَى الطَّيْرَ كُلَّهُ صِنْفًا وَاحِدًا: الدَّجَاجُ، وَالْحَمَامُ، وَالنَّعَامُ، وَالإِوَزُّ، وَالْحَجَلُ، وَالْقَطَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ فَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَأَجَازَ فِي لَحْمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ: التَّمَاثُلَ يَدًا بِيَدٍ، وَمَنَعَ مِنْ التَّفَاضُلِ، فَلَمْ يُجِزْ التَّفَاضُلَ فِي لَحْمِ دَجَاجٍ بِلَحْمِ حُبَارَى وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا. وَرَأَى الْحِيتَانَ كُلَّهَا صِنْفًا وَاحِدًا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَرَأَى الْجَرَادَ صِنْفًا رَابِعًا عَلَى حِيَالِهِ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُ صَيْدٌ مِنْ الطَّيْرِ يُجْزِيهِ الْمُحَرَّمَ. وَحَرَّمَ الْقَدِيدَ النِّيءَ بِاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ، وَحَرَّمَهُمَا جَمِيعًا بِاللَّحْمِ النِّيءِ

(8/516)


الطَّرِيِّ، وَأَجَازَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَصْنَافِ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ مِنْ صِنْفِهَا مُتَفَاضِلَةٍ وَمُتَمَاثِلَةٍ يَدًا بِيَدٍ، وَأَجَازَ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ بِعَسَلٍ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِلَبَنٍ مُتَمَاثِلاً وَمَنَعَ فِيهِ مِنْ التَّفَاضُلِ. وَأَجَازَ شَاةً مَذْبُوحَةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ عَلَى التَّحَرِّي وَهَذَا ضِدُّ أَصْلِهِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ وَلَوْ تَقَصَّيْنَا تَطْوِيلَهُمْ هَهُنَا وَتَنَاقُضَهُ، لَطَالَ جِدًّا وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ.
قال أبو محمد : وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ ". وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبْتَاعَ الْحَيُّ بِالْمَيِّتِ " قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلاَ يَصْلُحُ بِشَاةٍ حَيَّةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْ لَحْمِ بَعِيرٍ بِشَاةٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاَ يَصْلُحُ هَذَا. وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنْ لاَ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَذْبُوحٍ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَعِيرٍ بِغَنَمٍ مَعْدُودَةٍ إنْ كَانَ يُرِيدُ الْبَعِيرَ لِيَنْحَرَهُ. وَقَالَ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: أَدْرَكْت النَّاسَ يَنْهَوْنَ، عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَيَكْتُبُونَهُ فِي عُهُودِ الْعُمَّالِ فِي زَمَنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَرَخَّصُونَ فِيهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ فَمُرْسَلٌ لَمْ يُسْنَدْ قَطُّ، وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْمُرْسَلَ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ هَهُنَا بِالْمُرْسَلِ. ثُمَّ عَجَبٌ آخَرُ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا الْمُرْسَلَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَرَاسِيلِ أَقْوَى مِنْهُ يُعَظِّمُونَ هَذَا وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ الْمَالِكِيُّونَ: فَعَجَبٌ ثَالِثٌ؛ لأََنَّهُمْ احْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَوْهَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ؛ لأََنَّهُمْ أَبَاحُوا لَحْمَ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ، وَهَذَا خِلاَفُ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ خَالَفَ مَالِكٌ أَيْضًا هَهُنَا مَا رُوِيَ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعَمَلِ الْوُلاَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا يُعَظِّمُهُ جِدًّا إذَا وَافَقَ رَأْيَهُمْ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى إبْرَاهِيمَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَمَرَ أَنْ لاَ تُؤْخَذَ رِوَايَتُهُ فَمَالِكٌ، ثُمَّ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ فَمَالِكٌ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا رَوَى الثِّقَاتُ خَبَرًا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ تَحَيَّلُوا بِالأَبَاطِيلِ فِي رَدِّهِ، وَإِذَا رَوَى مَنْ يَشْهَدُونَ

(8/517)


عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ مَا يُوَافِقُهُمْ احْتَجُّوا بِهِ، فَأَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّونَ: مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حُجَّةٌ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ قلنا لَهُمْ: السَّاعَةُ صَارَتْ حُجَّةً فَدُونَكُمْ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاعَ الْحَيَوَانُ بِالْمَفَاطِيمِ مِنْ الْغَنَمِ فَقُولُوا بِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَلاَعَبْتُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي هَذِهِ آثَارٌ أَيْضًا بِزِيَادَةٍ، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ طَلْقٍ: أَنَّ رَجُلاً نَحَرَ جَزُورًا فَجَعَلَ يَبِيعُ الْعُضْوَ بِالشَّاةِ، وَبِالْقَلُوصِ، إلَى أَجَلٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى عُضْوًا مِنْ جَزُورٍ قَدْ نُحِرَتْ بِرِجْلِ عِنَاقٍ وَشُرِطَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُرْضِعَهَا حَتَّى تُفْطَمَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَصْلُحُ.
قال أبو محمد: هَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ اللَّحْمُ بِالشَّاةِ. فإن قيل: هَذَا، عَنْ رَجُلٍ قلنا: وَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى وَلَيْسَ بِأَوْثَقَ مِمَّنْ سَكَتَ عَنْهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: لاَ بَأْسَ بِالشَّاةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ.

(8/518)


من ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل بيعه حاش القمح فلا يحل له أن يبيعه حتى يقبضه وتفسير القبض
...
1508- مسألة: ومن ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل بيعه, حاش القمح, فلا يحل له أن يبيعه حتى يقبضه, وقبضه له: هو أن يطلق يده عليه بأن لا يحال بينه وبينه, فإن لم يحل بينه وبينه مدة ما قلت أم كثرت ثم حيل بينه وبينه بغصب أو غيره: حل له بيعه;
لأنه قد قبضه, وله أن يهبه , وأن يؤاجر به, وأن يصدقه , وأن يقرضه , وأن يسلمه, وأن يتصدق به قبل أن يقبضه, وقبل أن تطلق يده عليه. فإن ملك شيئا ما أي شيء كان مما يحل بيعه بغير البيع , لكن بميراث أو هبة, أو قرض, أو صداق, أو صدقة, أو سلم, أو أرش , أو غير ذلك: جاز له بيعه قبل أن يقبضه, وأن يتصرف فيه بالإصداق, والهبة , والصدقة, حاش القمح. وأما القمح: فإنه بأي وجه ملكه من: بيع , أو هبة , أو صدقة, أو صداق, أو إجارة, أو أرش, أو سلم أو قرض, أو غير ذلك: فلا يحل له بيعه حتى يقبضه, كما ذكرنا بأن لا يحال بينه وبينه. فإن كان اشترى القمح خاصة جزافا, فلا يحل له بيعه حتى يقبضه كما ذكرنا , وحتى ينقله ولا بد عن موضعه الذي هو فيه إلى مكان آخر قريب ملاصق أو بعيد. فإن كان اشترى القمح خاصة بكيل لم يحل له أن يبيعه حتى يكتاله, فإذا اكتاله حل له بيعه وإن لم ينقله عن موضعه. ولا يحل له تصديق البائع في كيله وحتى لو اكتاله البائع لنفسه بحضرته وهو يراه ويشاهده ولا بد من

(8/518)


أن يكتاله المشتري لنفسه , وجائز له في كل ما ذكرنا أن يهبه , وأن يصدقه , وأن يؤاجر به , وأن يصالح , وأن يتصدق به , وأن يقرضه قبل , أن يكتاله , وقبل أن ينقله جزافا اشتراه أو بكيل وليست هذه الأحكام في غير القمح أصلا . برهان ذلك : ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ أنا أحمد بن زهير بن حرب نا أبي أنا حيان بن هلال أنا همام بن يحيى بن أبي كثير : أن يعلى بن حكيم حدثه : أن يوسف بن ماهك حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه أنه قال: يا رسول الله , إني رجل أشتري هذه البيوع , فما يحل لي منها مما يحرم علي ؟ قال: " يا ابن أخي إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ". فهذا عموم لكل بيع , ولكل ابتياع , وتخصيص لهما مما ليسا بيعا ولا ابتياعا , وجواب منه عليه السلام إذ سئل عما يحل مما يحرم. فإن قيل: فإن هذا الخبر مضطرب. لأنكم رويتموه من طريق خالد بن الحارث الهجيمي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير , قال : حدثني رجل من إخواننا حدثني يوسف بن ماهك : أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه نذكر هذا الخبر وعبد الله بن عصمة متروك؟ قلنا: نعم , إلا أن همام بن يحيى رواه كما أوردنا قبل عن يحيى بن أبي كثير فسمى ذلك الرجل من الذي لم يسمه هشام , وذكر أنه يعلى بن حكيم ويعلى ثقة وذكر فيه : أن يوسف سمعه من حكيم بن حزام وهذا صحيح فإذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه أيضا من غير حكيم عن حكيم , فصار حديث خالد بن الحارث لغوا كان أو لم يكن بمنزلة واحدة . فإن قيل : فقد رويت من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ". ومن طريق سفيان بن عيينة أنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام , قال ابن عباس برأيه : ولا أحسب كل شيء إلا مثله ؟ قلنا : نعم , هذان صحيحان : إلا أنهما بعض ما في حديث حكيم بن حزام فحديث حكيم بن حزام دخل فيه : الطعام وغير الطعام , فهو أعم , فلا يجوز تركه ; لأنه فيه حكما ليس في خبر ابن عباس , وابن عمر . فإن قيل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رويتم من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب أنا هشيم أنا أبو بشر هو ابن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قلت: يا رسول الله يسألني المرء البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاع له من السوق ؟ فقال عليه السلام: " لا تبتع ما ليس عندك ". قلنا : نعم , وبه نقول هو بين كما تسمع , إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملك كما في الخبر نصا , وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده

(8/519)


ولو أنه بالهند يقول: عندي ضيعة سرية, وعندي فرس فارة وسواء عندنا كان مغصوبا أو لم يكن, وهو عند صاحبه, أي في ملكه وله. فإن قيل: فإنكم رويتم من طريق أبي داود أنا زهير بن حرب أنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب السختياني حدثني عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك " قلنا: نعم, هذا صحيح, وبه نأخذ, ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثا مسندا إلا هذا وحده , وآخر في الهبات رواه عن طاوس عن ابن عباس, وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من الرجوع في الهبات إلا الوالد فيما أعطى ولده وليس في هذا الخبر إلا الذي في حديث حكيم بن حزام من النهي عن بيع ما ليس لك فقط وبالله تعالى التوفيق.
وممن قال بقولنا في هذا: ابن عباس كما أوردناه . وكما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا تبع بيعا حتى تقبضه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال عبد الرحمن بن عوف والزبير لعمر: إنه تزيف علينا أوراق فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب؟ قال: فلا تفعلوا, ولكن انطلق إلى البقيع فبع ورقك بثوب أو عرض , فإذا قبضت وكان لك فبعه وذكر الخبر. فهذا عمر يقول بذلك, ويبين أن القبض هو الذي يكون الشيء للمرء وقولنا في هذا كقول الحسن , وابن شبرمة وذهب قوم إلى أن هذا الحكم إنما هو في الطعام فقط يعني أن لا يباع قبل أن يقبض وذهب آخرون إلى أنه فيما يكال أو يوزن فقط: كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان أنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عثمان بن عفان: لا بأس إذا اشترى الرجل البيع أن يبيعه قبل أن يقبضه ما خلا الكيل والوزن. ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يبتاع الرجل بيعا لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقبضه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: لا بأس بأن يشتري شيئا لا يكال ولا يوزن بنقد ثم يبيعه قبل أن يقبضه وهو قول الحكم وإبراهيم, وحماد بن أبي سليمان وذكره النخعي عمن لقي. وقال عطاء: جائز بيع كل شيء قبل أن يقبض. وقال أبو حنيفة: كل ما ملك بعقد ينتقض العقد بهلاكه, فلا يجوز بيعه قبل قبضه: كالبيع , والإجارة, إلا العقار: فجائز بيعه قبل قبضه. قال: وكل ما ملك بعقد لا ينتقض العقد بهلاكه: فجائز بيعه قبل قبضه كالصداق, والجعل, والخلع, ونحوه وهذا قول لا نعلمه

(8/520)


عن أحد قبله. وقال مالك : كل ما يؤكل والماء: فلا يحل بيعه قبل أن يقبض وما عدا هذين فجائز بيعه قبل أن يقبض وقال مرة أخرى: كل ما يؤكل فقط , وأما الماء: فبيعه جائز قبل قبضه وجعل في كلا قوليه: زريعة الفجل الأبيض, وزريعة الجزر, وزريعة السلق: لا يباع شيء منها قبل القبض؟ فقلنا: هذا لا يأكله أحد أصلا, وهذا الذي أنكرتم على الشافعي في إدخاله السقمونيا فيما يؤكل؟ فقالوا: إنه يخرج منها ما يؤكل؟ فقلنا: والشجر يخرج منها ما يؤكل فامنعوا من بيعها قبل القبض, فانقطعوا وما نعلم قولهم هذا كله كما هو عن أحد قبلهم. وخالف الحنفيون, والمالكيون ههنا كل قول روي عن الصحابة رضي الله عنهم وأما الشافعي: فلم يجز بيع ما ملك ببيع, أو نكاح أو خلع, قبل القبض أصلا وهذا قول فاسد بلا دليل. فإن قالوا: قسنا النكاح والخلع على البيع؟ قلنا: القياس كله باطل, ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل, لأن النكاح يجوز بلا مهر يذكر أصلا, ولا يجوز البيع بلا ثمن يذكر, والنكاح لم يملك بصداق رقبة شيء أصلا, والخلع كذلك, بخلاف البيع فظهر فساد هذا القول وبالله تعالى التوفيق. أما حكم القمح: فالذي ذكرنا قبل هذا في الكلام المتصل بهذا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام, فهذا تخصيص للطعام في البيع خاصة وعموم له بأي وجه ملك. فإن قيل: من أين خصصتم القمح بذلك دون سائر الطعام؟ قلنا: لأن اسم الطعام في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلق هذا إلا على القمح وحده, وإنما يطلق على غيره بإضافة. وقد قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فأراد عز وجل الذبائح لا ما يأكلون فإنهم يأكلون الميتة , والدم , والخنزير , ولم يحل لنا شيء من ذلك قط. وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فذكر تعالى الطعم في الماء بإضافة , ولا يسمى الماء طعاما. وقال لقيط بن معمر الإيادي جاهلي فصيح في شعر له مشهور:
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم يكاد جواه يحطم الضلعا
فأضاف الطعم إلى النوم والنوم ليس طعاما بلا شك. وقد ذكرنا قول عبد الله بن معمر وكان طعامنا يومئذ الشعير, فذكر الطعام في الشعير في إضافة لا بإطلاق. وقد ذكرنا من طريق أبي سعيد الخدري قوله: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر: صاعا من طعام, صاعا من شعير, صاعا من تمر, صاعا من أقط فلم يطلق الطعام إلا على القمح وحده. لا على الشعير ولا غيره. وروينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا يزيد

(8/521)


بن إبراهيم أنا محمد بن سيرين قال: عرض علي عبد الله بن عتبة بن مسعود زيتا له؟ فقلت له: إن أصحاب الزيت قلما يستوفون حتى يبيعون, فقال: إنما سمي الطعام أي إنما أمر بالبيع بعد الاستيفاء في الطعام فلم ير الزيت طعاما. وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عتبة بن مسعود: حجتان في اللغة قاطعتان; لا سيما وعبد الله هذلي قبيلة مجاورة للحرم فلغتهم لغة قريش. وممن قال بقولنا: إن الطعام بإطلاق إنما هو القمح وحده: أبو ثور وأما القمح يشترى جزافا فلا يحل بيعه حتى يقبض وينقل عن موضعه: فلما رويناه من طريق البخاري أنا إسحاق هو ابن راهويه أنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم. ورويناه من طريق مسلم أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا أبي أنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " قال وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمرعن ابن عمر: أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه .
قال أبو محمد : ولا يمكن أن يكون غيره عليه السلام يضرب المسلمين بالمدينة على شريعة يؤمرون بها في الأسواق بغير علمه أصلا فصح أنه جرم كبير لا يرخص فيه. فإن قيل: إن في بعض ما رويتم "حتى يؤووه إلى رحالهم" ؟ قلنا : نعم , وكل مكان رحله إليه فهو رحل له إذا كان مباحا له أن يرحله إليه. فإن قيل: فقد رويتم هذا الحديث عن مالك عن نافع عن ابن عمر فلم يذكر فيه الجزاف؟ قلنا: عبيد الله بن عمر إن لم يكن فوق مالك, وإلا فليس هو دونه أصلا وقد رواه عن نافع فذكر فيه الجزاف. ورواه الزهري عن سالم كما أوردنا فذكر فيه الجزاف وهو خبر واحد بلا شك. وجمهور الرواة عن مالك لهذا الحديث في الموطأ وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف, كما ذكره عبيد الله عن نافع, والزهري عن سالم, وإنما أسقط ذكر الجزاف: القعنبي, ويحيى, فقط فصح أنهما وهما فيه بلا شك; لأنه يتعين خبر واحد وبالله تعالى التوفيق. وإنما كان يصح الأخذ برواية القعنبي, ويحيى, لو أمكن أن يكونا خبرين اثنين عن موطئين مختلفين وقولنا ههنا هو قول الشافعي وأبي سليمان, ولم يقل به مالك, ولا نعلم لمقلده ولا له حجة أصلا وبالله تعالى التوفيق.

(8/522)


وأما القمح يبتاعه المرء بكيل فلا يحل له بيعه حتى يكتاله لنفسه, ثم يكتاله الذي يبيع منه ولا بد سواء حضرا كلاهما كيله قبل ذلك أو لم يحضرا, فلما رويناه من طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أنا محمد بن عبد الرحيم أنا مسلم هو ابن إبراهيم أنا مخلد بن الحسين الأزدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان , فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان ". ورويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا شريك عن ابن أبي ليلى عن محمد بن بيان عن ابن عمر أنه سئل عمن اشترى الطعام وقد شهد كيله؟ قال: لا, حتى يجري فيه الصاعان. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا محمد بن فضيل عن مطرف هو ابن طريف قلت للشعبي: أكون شاهد الطعام وهو يكال فأشتريه, آخذه بكيله؟ فقال: مع كل صفقة كيلة ومن طريق ابن أبي شيبة أنا مروان عن زياد مولى آل سعد قلت لسعيد بن المسيب: رجل ابتاع طعاما فاكتاله, أيصلح لي أن اشتريه بكيل الرجل؟ قال: لا, حتى يكال بين يديك وصح عنه أنه قال فيه: هذا ربا. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا زيد بن الحباب عن سوادة بن حيان سمعت محمد بن سيرين سئل عن رجلين اشترى أحدهما طعاما والآخر معه؟ فقال: قد شهدت البيع والقبض؟ فقا : خذ مني ربحا وأعطنيه فقال: لا, حتى يجري فيه الصاعان, فتكون لك زيادته وعليك نقصانه. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن عمر أبي حفص قال: سمعت الحسن البصري وسئل عمن اشترى طعاما ما وهو ينظر إلى كيله؟ قال: لا , حتى يكيله. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: في السنة التي مضت: إن من ابتاع طعاما أو ودكا كيلا أن يكتاله قبل أن يبيعه, فإذا باعه اكتيل منه أيضا إذا باعه كيلا وهو قول عطاء بن أبي رباح , وأبي حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , وأبي سليمان . وقال مالك: إذا بيع بالنقد فلا بأس بأن يصدق البائع في كيله ولا يكتاله ويكره ذلك في الدين وهذا قول لا نعلمه عن أحد قبله, وخالف فيه صاحبا لا يعرف له مخالف منهم , وخالف فيه جمهور العلماء, وما نعلم لقوله حجة أصلا, لا من نص قرآن, ولا سنة, ولا رواية سقيمة, ولا قياس, ولا رأي له وجه. فإن قيل: فقد رويتم من طريق أبي داود عن محمد بن عوف الطائي أنا أحمد بن خالد الوهبي أنا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل أعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يدي, فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؟ فإن رسول الله

(8/523)


صلى الله عليه وسلم: " نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى تحوزها التجار إلى رحالهم " قلنا: هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول وبالله لو صح عندنا لسارعنا إلى الأخذ به نحمد الله على ما يسرنا له من ذلك كثيرا. وكل ما ذكرنا في هذه المسائل فمن فعل خلاف ذلك فسخ أبدا , فإن كان قد بلغه الخبر ضرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن عمر قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".

(8/524)


المجلد التاسع
كتاب البيوع
الشركة والاقالة والتولية كلها بيوع مبتدأة لا يجوز في شيء منها
...
1508 - مَسْأَلَةٌ: وَالشَّرِكَةُ، وَالإِقَالَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ: كُلُّهَا بُيُوعٌ مُبْتَدَأَةٌ لاَ يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ لاَ تَحَاشَ، شَيْئًا
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِنَا فِي الشَّرِكَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ. وَقَالُوا: "الإِقَالَةُ فَسْخُ بَيْعٍ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا" وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: "كُلُّ مَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الأَكْتِيَالِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ فِيهِ بِالشَّرِكَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَبْلَ الأَكْتِيَالِ".
وَرُوِيَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حَدِيثًا مُسْتَفَاضًا فِي الْمَدِينَةِ: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يَقْبَلَهُ".
وقال مالك: "إنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ، وَالإِقَالَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي قَبْلَ الْقَبْضِ".
قال أبو محمد: "وَمَا نَعْلَمُ رُوِيَ هَذَا إِلاَّ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَعَنْ طَاوُوس فَقَطْ وَقَوْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْ جَاءَ عَنْهُ خِلاَفُهَ".
قَالَ عَلِيٌّ: "أَمَّا خَبَرُ رَبِيعَةَ فَمُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ، وَلَوْ اسْتَنَدَ لَسَارَعْنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ اسْتِفَاضَتُهُ، عَنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَوْلَى بِأَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْ رَبِيعَةَ، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، وَالزُّهْرِيُّ مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
وبه إلى مَعْمَرٍ"، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "لاَ تَوْلِيَةَ حَتَّى يُقْبَضَ وَيُكَالَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ قَالَ: "سَأَلْت الْحَسَنَ، عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيُوَلِّيهِ الرَّجُلَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الشَّعْشَاعِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَبِرَأْيِك تَقُولُهُ قَالَ: لاَ أَقُولُهُ بِرَأْيِي، وَلَكِنَّا أَخَذْنَاهُ، عَنْ سَلَفِنَا، وَأَصْحَابِنَا".
قَالَ عَلِيٌّ: "سَلَفُ الْحَسَنِ هُمْ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،، أَدْرَكَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ صَاحِبٍ وَأَكْثَرَ، وَغَزَا مَعَ مِئِينَ مِنْهُمْ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ، فَلَوْ أَقْدَمَ امْرُؤٌ عَلَى دَعْوَى الإِجْمَاعِ

(9/2)


هَهُنَا لَكَانَ أَصَحَّ مِنْ الإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ بِلاَ شَكٍّ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ زَكَرِيَّا: ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ فِطْرٌ: "عَنِ الْحَكَمِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ عَلَى أَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ قَالَ سُفْيَانُ: وَنَحْنُ نَقُولُ: "وَالشَّرِكَةُ بَيْعٌ، وَلاَ يُشْرِكُ حَتَّى يَقْبِضَ فَهَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَرَى".
قال أبو محمد: "الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، إنَّمَا هُوَ نَقْلُ مِلْكِ الْمَرْءِ عَيْنًا مَا صَحَّ مِلْكُهُ لَهَا، أَوْ بَعْضَ عَيْنٍ مَا صَحَّ مِلْكُهُ لَهَا إلَى مِلْكٍ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ نَفْسُهُ، لَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ لِلْبَيْعِ، وَلاَ يَكُونُ بَيْعٌ أَصْلاً إِلاَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَصَحَّ أَنَّهُمَا بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا هَهُنَا فَقَطْ وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِلاَ برهان وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ وَنَقَضُوا هَهُنَا أَصْلَهُمْ، فَتَرَكُوا مُرْسَلَ رَبِيعَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمَا نَعْلَمُ الْمَالِكِيِّينَ احْتَجُّوا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، وَالإِقَالَةُ مَعْرُوفٌ.
فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَالْبَيْعُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ، وَمَا عَهِدَنَا الْمَعْرُوفَ تُبَاحُ فِيهِ مُحَرَّمَاتٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ مُنْكَرًا لاَ مَعْرُوفًا. وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الإِقَالَةِ إثْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ".

(9/3)


الدليل على مشروعية الاقاله ومذاهب العلماء في ذلك
...
1509 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِقَالَةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَضُّ عَلَيْهَا:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ" وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا، إنَّمَا هِيَ فَسْخُ بَيْعٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "هِيَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخُ بَيْعٍ.وَرُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا بَيْعٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَسْخُ بَيْعٍ: فأما تَقْسِيمُ أَبِي يُوسُفَ فَدَعْوَى بِلاَ برهان، وَتَقْسِيمٌ بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ" وَأَمَّا مَنْ قَالَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا"، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا بِاسْمِ الإِقَالَةِ، وَاتَّبَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُسَمِّهَا عليه السلام بَيْعًا، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ لاَ تُؤْخَذُ إِلاَّ عَنْهُ عليه السلام، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى بَيْعًا، لأََنَّهُ عليه السلام لَمْ يُسَمِّهَا هَذَا الأَسْمَ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لاَ يَجُوزُ.فَصَحَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَيْعًا، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: "احْتِجَاجُهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَوْلُهُمْ حَقٌّ، إِلاَّ أَنَّنَا لاَ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ عليه السلام سَمَّى إقَالَةً: "فِعْلَ مَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ بَيْعًا ثُمَّ اسْتَقَالَهُ فِيهِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا ابْتَاعَ مِنْهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ بَيْعًا، وَلاَ يَجِدُونَ هَذَا أَبَدًا، لاَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ".

(9/3)


وَلاَ سَقِيمَةٍ وهذا الخبر الْمُرْسَلُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ مِنْهُ بِأَنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ لَفَعَلْنَا لأََنَّهُ فِيهِ النَّهْيُ، عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِلاَّ مَنْ أَشْرَكَ، أَوْ وَلَّى، أَوْ أَقَالَ فَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهَا بُيُوعٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ.وَأَمَّا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا فِيهِ الْحَضُّ عَلَى الإِقَالَةِ فَقَطْ، وَالإِقَالَةُ تَكُونُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، لَكِنْ فِي الْهِبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلاَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الإِقَالَةَ لاَ تُسَمَّى بَيْعًا وَلاَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ فَبَطَلَ مَا صَدَّرُوا بِهِ مِنْ هَذَا الأَحْتِجَاجِ الصَّحِيحِ أَصْلَهُ الْمَوْضُوعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَاطِلٌ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الدَّعْوَى عَلَى الأُُمَّةِ، وَمَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ قَطُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ، فَكَيْفَ عَلَى الإِقَالَةِ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ وطَاوُوس، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ أَخْذِ بَعْضِ السَّلَمِ، وَالإِقَالَةِ فِي بَعْضِهِ، فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ ؟فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ تُقِرُّوا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ أَوَّلَهُمْ، عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ؟ أَمْ تُقِرُّوا جَمِيعَ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْ أَقْصَى خُرَاسَانَ إلَى الأَنْدَلُسِ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَمَا يَخْتَلِفُ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ مِنْ الْجِنِّ قَوْمًا صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ، فَلأَُولَئِكَ الْجِنِّ مِنْ الْحَقِّ وَوُجُوبِ التَّعْظِيمِ مِنَّا، وَمِنْ مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ، وَالدِّينِ، مَا لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم, هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَنْ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَحِمَ اللَّهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَلَقَدْ صَدَقَ إذْ يَقُولُ: "مَنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، مَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا لَكِنْ لِيَقُلْ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا هَذِهِ أَخْبَارُ الْمَرِيسِيِّ، وَالأَصَمِّ".
قال أبو محمد: "لاَ تَحِلُّ دَعْوَى الإِجْمَاعِ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَرَفُوهُ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْهُمْ وَأَقَرُّوا بِهِ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مَنْ خَالَفَهُ كَافِرًا خَارِجًا، عَنِ الإِسْلاَمِ، كَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَالإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَجُمْلَةِ الزَّكَاةِ، وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ، وَمِنْ الْجَنَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّمِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ فَقَطْ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لَكَانَ بَيْعًا مُسْتَثْنًى بِالإِجْمَاعِ مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ".رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو

(9/4)


بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ إلَى أَجَلٍ فَسَمِّي فَجَاءَ ذَلِكَ الأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَفْت فِيهِ: فَخُذْ عَرَضًا بِأَنْقَصَ، وَلاَ تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ وَلَمْ يُفْتِ بِالإِقَالَةِ".
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ تَجُوزُ الإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ، لأََنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَبَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعٌ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَيَّمَا فِي الْعَالَمِ هُوَ وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِجَوَازِهِ نَصٌّ فَيَسْتَثْنِيهِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا أَسَلَفَ فِيهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُوجَدَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِصَاصًا وَمُعَاقَبَةً مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَتَرَاضَيَا بِهِ: قِيمَةَ مَا وَجَبَ لَهُ عِنْدَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وَحَرِيمَةُ الْمَالِ حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الإِحْسَانَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يَأْخُذَ بَعْضَ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا شَاءَ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُفْلِسِ إذْ قَالَ: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ " فِي التَّفْلِيسِ " وَفِي " الْجَوَائِحِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا".
قال أبو محمد: "فَإِذَا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ فَلِنَقُلْ عَلَى تَصْحِيحِ قَوْلِنَا بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى، فَنَقُولُ وَبِهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ: إنَّ الإِقَالَةَ لَوْ كَانَتْ فَسْخُ بَيْعٍ لَمَا جَازَتْ إِلاَّ بِرَدِّ عَيْنِ الثَّمَنِ نَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ، وَلاَ بُدَّ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ: "كُنَّا نَخْتَلِفُ إلَى السَّوَادِ فِي الطَّعَامِ وَهُوَ أَكْدَاسٌ قَدْ حُصِدَ فَنَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ الْكُرَّ بِكَذَا وَكَذَا، وَنَنْقُدُ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ الْعُمَّالُ فِي الدِّرَاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفِي لَنَا بِمَا سُمِّيَ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَقَصَ طَعَامُهُ فَيَطْلُبُ إلَيْنَا أَنْ نَرْتَجِعَ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ رُءُوسُ أَمْوَالِنَا"، فَسَأَلْت الْحَسَنَ، عَنْ ذَلِكَ؟ فَكَرِهَهُ إِلاَّ أَنْ يُسْتَوْفَى مَا سُمِّيَ لَنَا، أَوْ نَرْتَجِعَ أَمْوَالَنَا كُلَّهَا، وَسَأَلْت ابْنَ سِيرِينَ؟ فَقَالَ: "إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُك بِأَعْيَانِهَا فَلاَ بَأْسَ"، وَسَأَلْت عَطَاءً فَقَالَ: "مَا أَرَاك إِلاَّ قَدْ رَفَقْت وَأَحْسَنْت إلَيْهِ".
قال أبو محمد: "هَذِهِ صِفَةُ الْفَسْخِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَقُولُ: إنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ صَحِيحٌ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ كَانَ أَوْ هُوَ كَائِنٌ فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ بِالْيَقِينِ لاَ بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ، فَلاَ يَحِلُّ فَسْخُ عَقْدٍ صَحَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ، وَلاَ نَصَّ فِي جَوَازِ فَسْخِهِ مُطَارَفَةً بِتَرَاضِيهِمَا، إِلاَّ فِيمَا جَاءَ نَصٌّ بِفَسْخِهِ، كَالشُّفْعَةِ، وَمَا فِيهِ الْخِيَارُ بِالنَّصِّ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَالِك، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْ أَجَازَ الْفَسْخَ نَصٌّ أَصْلاً فَقَدْ صَحَّ: أَنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ بِتَرَاضِيهِمَا، يَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ، وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ فِي الْبُيُوعِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الإِقَالَةَ فَسْخُ بَيْعٍ لَزِمَهُ أَنْ

(9/5)


لاَ يُجِيزَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، لأََنَّ الزِّيَادَةَ إذْ لَمْ تَكُنْ بَيْعًا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.وَأَمَّا مَنْ رَآهَا بَيْعًا فَإِنَّهُ يُجِيزُهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعِ أَوَّلاً، وَبِأَقَلَّ، وَبِغَيْرِ مَا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَحَالًّا وَفِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى أَجَلٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الأَجَلُ"، وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/6)


1510 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ دَيْنٍ يَكُونُ لأَِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ، لاَ بِنَقْدٍ، وَلاَ بِدَيْنٍ، لاَ بِعَيْنٍ وَلاَ بِعَرَضٍ، كَانَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ مُقِرًّا بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْحَلاَلَ: أَنْ يَبْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّنْ شَاءَ مَا شَاءَ، مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ، ثُمَّ يُحِيلُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ الدَّيْنُ، فَهَذَا حَسَنٌ.
برهان ذَلِكَ أَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولٌ، وَمَا لاَ يَدْرِي عَيْنَهُ، وَهَذَا هُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ َهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: "سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَمَّنْ اشْتَرَى صَكًّا فِيهِ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ بِثَوْبٍ قَالَ: لاَ يَصْلُحُ، قَالَ وَكِيعٌ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُوَ غَرَرٌ. وقال مالك: إنْ كَانَ مُقِرًّا بِمَا عَلَيْهِ جَازَ بَيْعُهُ بِعَرَضٍ نَقْدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لأََنَّهُ شِرَاءُ خُصُومَةٍ".
قال علي: "وهذا لاَ شَيْءَ، لأََنَّهُ وَإِنْ أَقَرَّ الْيَوْمَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُنْكِرَ غَدًا، فَيَرْجِعُ الأَمْرُ إلَى الْبَيِّنَةِ بِإِقْرَارِهِ، فَيَحْصُلُ عَلَى شِرَاءِ خُصُومَةٍ، وَلاَ فَرْقَ.وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لَهُ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الأَسْلَمِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلٍ فَيَبِيعُهُ فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِهِ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى فِي مُكَاتَبٍ اشْتَرَى مَا عَلَيْهِ بِعَرَضٍ فَجَعَلَ الْمُكَاتَبَ أَوْلَى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَوْلَى إذَا أَدَّى مِثْلَ الَّذِي أَدَّى صَاحِبُهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَمَّنْ لَهُ دَيْنٌ فَابْتَاعَ بِهِ غُلاَمًا قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ".
قال أبو محمد: "حَدِيثَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُرْسَلاَنِ: أَحَدُهُمَا: عَنِ الأَسْلَمِيِّ وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ. وَالآخَرُ أَيْضًا: عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ. وَلاَ حُجَّةَ لِلْمَالِكِيِّينَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، وَلاَ فِي خَبَرِ جَابِرٍ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ بِإِقْرَارٍ دُونَ بَيِّنَةٍ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".

(9/6)


1511 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لاَ فِي سَاقِيَةٍ، وَلاَ مِنْ نَهْرٍ

(9/6)


1512 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْخَمْرِ، لاَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ، وَلاَ بَيْعُ الْخَنَازِيرِ كَذَلِكَ، وَلاَ شُعُورِهَا، وَلاَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ بَيْعُ صَلِيبٍ، وَلاَ صَنَمٍ، وَلاَ مَيْتَةٍ، وَلاَ دَمٍ إِلاَّ الْمِسْكَ وَحْدَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ بَيْعُهُ وَمِلْكُهُ، فَمَنْ بَاعَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي ذَكَرْنَا شَيْئًا فُسِخَ أَبَدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ [، عَنِ الأَعْمَشِ ]، عَنْ مُسْلِمٍ هُوَ أَبُو الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ" .وبه إلى مُسْلِمٍ: أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شَحْمَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ: لاَ، هُوَ حَرَامٌ، قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
قال أبو محمد: "مَوَّهَ قَوْمٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ فِيهِ لِلْقِيَاسِ أَثَرٌ، لَكِنْ فِيهِ: أَنَّ الأَوَامِرَ عَلَى الْعُمُومِ، لأََنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الشُّحُومَ عَلَى الْيَهُودِ فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَهَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، إذْ خَصُّوا التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ عَلَى عُمُومِهِ. فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّهُ مَتَى حُرِّمَ شَيْءٌ فَحَرَامٌ مِلْكُهُ، وَبَيْعُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، وَأَكْلُهُ عَلَى عُمُومِ تَحْرِيمِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِنْزِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، فَحَرَّمَ مِلْكَ كُلِّ ذَلِكَ، وَشُرْبَهُ، وَالأَنْتِفَاعَ بِهِ، وَبَيْعَهُ. وَقَدْ أَوْجَبَ

(9/8)


للَّهُ تَعَالَى دِينَ الإِسْلاَمِ عَلَى كُلِّ إنْسٍ وَجِنٍّ.وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس: بِحُكْمِ الإِسْلاَمِ، أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَمَنْ أَجَازَ لَهُمْ بَيْعَ الْخَمْرِ ظَاهِرًا وَشِرَاءَهَا كَذَلِكَ، وَتَمَلُّكَهَا عَلاَنِيَةً، وَتَمَلُّكَ الْخَنَازِيرِ كَذَلِكَ، لأََنَّهُمْ مِنْ دِينِهِمْ بِزَعْمِهِ، وَصَدَّقَهُمْ فِي ذَلِكَ: لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا شَرَائِعَهُمْ فِي بَيْعِ مَنْ زَنَى مِنْ النَّصَارَى الأَحْرَارِ، وَخِصَاءِ الْقِسِّيسِ إذَا زَنَى، وَقَتْلِ مَنْ يَرَوْنَ قَتْلَهُ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ.وقال أبو حنيفة: "إذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ خَمْرًا: جَازَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ شُنْعِهِ الَّتِي نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهَا.وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّطَيُّبُ بِالْمِسْكِ وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الطِّيبِ وَأَيْضًا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الدَّمِ وَصِفَاتِهِ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ دَمًا، وَالأَحْكَامُ إنَّمَا هِيَ عَلَى الأَسْمَاءِ، وَالأَسْمَاءُ إنَّمَا هِيَ عَلَى الصِّفَاتِ، وَالْحُدُودِ".
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَا عُمَرُ الْمُكْتِبُ أَنَا حِزَامٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ زَكَا أَوْ زَكَّارٍ قَالَ: "نَظَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى زُرَارَةَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ قَالُوا: قَرْيَةٌ تُدْعَى زُرَارَةَ يُلْحَمُ فِيهَا، وَيُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ قَالَ: أَيْنَ الطَّرِيقُ إلَيْهَا قَالُوا: بَابُ الْجِسْرِ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَأْخُذُ لَك سَفِينَةً قَالَ: لاَ، تِلْكَ شَجَرَةٌ، وَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِي الشَّجَرَةِ، انْطَلِقُوا بِنَا إلَى بَابِ الْجِسْرِ، فَقَامَ يَمْشِي حَتَّى أَتَاهَا، فَقَالَ عَلَيَّ بِالنِّيرَانِ أَضْرِمُوهَا فِيهَا، فَاحْتَرَقَتْ".وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: "بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ، فَكَتَبَ: أَنْ اكْسِرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدَرْتُمْ لَهُ عَلَيْهِ، وَسَيِّرُوا كُلَّ مَاشِيَةٍ لَهُ، وَلاَ يُؤْوِيَنَّ أَحَدٌ لَهُ شَيْئًا. فَهَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِيمَنْ بَاعَ الْخَمْرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَخَالَفُوهُمَا".

(9/9)


ولا يحل بيع كلب أصلا لاكلب صيد ولا كلب ماشية
...
1513 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلاً، لاَ كَلْبَ صَيْدٍ، وَلاَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلاَ غَيْرَهُمَا فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيه إيَّاهُ فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ، وَهُوَ حَلاَلٌ لِلْمُشْتَرِي حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ يَنْتَزِعُ مِنْهُ الثَّمَنَ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، كَالرِّشْوَةِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَفِدَاءِ الأَسِيرِ، وَمُصَانَعَةِ الظَّالِمِ، وَلاَ فَرْقَ.، وَلاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ كَلْبٍ أَصْلاً، إِلاَّ لِمَاشِيَةٍ، أَوْ لِصَيْدٍ، أَوْ لِزَرْعٍ، أَوْ لِحَائِطٍ وَاسْمُ الْحَائِطِ يَقَعُ عَلَى الْبُسْتَانِ وَجِدَارِ الدَّارِ فَقَطْ. وَلاَ يَحِلُّ أَيْضًا: قَتْلُ الْكِلاَبِ، فَمَنْ قَتَلَهَا ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِمَا يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنْهُ، إِلاَّ الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، أَوْ الأَسْوَدَ

(9/9)


ذَا النُّقْطَتَيْنِ أَيْنَمَا كَانَتْ النُّقْطَتَانِ مِنْهُ فَإِنْ عَظُمَتَا حَتَّى لاَ تُسَمَّيَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نُقْطَتَيْنِ، لَكِنْ تُسَمَّى لَمْعَتَيْنِ: لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، فَلاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ أَصْلاً لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَقَتْلُهُ وَاجِبٌ حَيْثُ وُجِدَ.
برهان ذَلِك مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ" فَهَذَانِ صَاحِبَانِ فِي نَسَقٍ.وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ فَهَذَا نَقْلٌ تَوَاتَرَ لاَ يَسَعُ تَرْكُهُ، وَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَرْبَعٌ مِنْ السُّحْتِ، ضِرَابُ الْفَحْلِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ". وَرُوِّينَاهُ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَبْتَرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "أَخْبَثُ الْكَسْبِ كَسْبُ الزَّمَّارَةِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ. الزَّمَارَةُ" الزَّانِيَةُ، سَمِعْت أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: "مَا أُبَالِي ثَمَنَ كَلْبٍ أَكَلْتُ، أَوْ ثَمَنَ خِنْزِيرٍ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْت الْحَكَمَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَكْرَهَانِ ثَمَنَ الْكَلْبِ، وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ السُّنَنَ فِي ذَلِكَ: "وَأَبَاحُوا بَيْعَ الْكِلاَبِ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهَا". وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: "أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، " عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ" وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،

(9/10)


عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ سُحْتٌ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ" وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ هُنَّ سُحْتٌ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ اعَقُورِ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الشِّمْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ" .
قال أبو محمد: "أَمَّا حَدِيثَا ابْنِ وَهْبٍ هَذَانِ فَأَسْقَطُ مِنْ أَنْ يُشْتَغَلَ بِهِمَا إِلاَّ جَاهِلٌ بِالْحَدِيثِ، أَوْ مُكَابِرٌ يَعْلَمُ الْحَقَّ فَيُولِيَهُ ظَهْرَهُ، لأََنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالأَطِّرَاحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَالآخَرَ مُنْقَطِعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا إِلاَّ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فَقَطْ وَهَذَا حَقٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ مَا سِوَاهُ مِنْ الْكِلاَبِ وَجَاءَتْ الآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا بِزِيَادَةٍ عَلَى هَذَيْنِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا".
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ لأََنَّ فِيهِ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ، وَالْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ جِدًّا قَدْ شَهِدَ مَالِكٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِالْكَذِبِ، وَجَرَحَهُ أَحْمَدُ وَأَمَّا الْمُثَنَّى فَجَرَّحَهُ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ، وَتَرَكَهُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ اسْتِثْنَاءَ كَلْبِ الصَّيْدِ فَقَطْ، وَهُمْ يُبِيحُونَ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِنْ ثَمَنِ كَلْبِ الزَّرْعِ، وَكَلْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَائِرِ الْكِلاَبِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: "إنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ دَفَعَ إلَيَّ كِتَابَيْنِ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: لَوْ سَأَلْته أَسْمَعُ هَذَا كُلَّهُ مِنْ جَابِرٍ فَرَجَعْت إلَيْهِ فَقُلْت: هَذَا كُلُّهُ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ فَقَالَ: مِنْهُ مَا سَمِعْته، وَمِنْهُ مَا حَدَّثْت عَنْهُ، فَقُلْت لَهُ: أَعْلِمْ لِي عَلَى مَا سَمِعْتَ فَأَعْلَمَ لِي عَلَى هَذَا الَّذِي عِنْدِي".
قال أبو محمد: "فَكُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ، أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ جَابِرٌ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ اللَّيْثُ عَنْهُ"،عَنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ بِإِقْرَارِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ، وَلاَ هُوَ مِمَّا عِنْدَ اللَّيْثِ فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ، فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ شَيْءٍ مِنْ الْكِلاَبِ غَيْرَ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَالنَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ سَائِرِهَا وَهُمْ يُبِيحُونَ أَثْمَانَ سَائِرِ الْكِلاَبِ الْمُتَّخَذَةِ لِغَيْرِ الصَّيْدِ: فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ.وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: "كَانَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا حِينَ الأَمْرِ بِقَتْلِهَا، فَلَمَّا حُرِّمَ قَتْلُهَا وَأُبِيحَ اتِّخَاذُ بَعْضِهَا انْتَسَخَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ مَا أُبِيحَ اتِّخَاذُهُ مِنْهَا".

(9/11)


قال أبو محمد: "هَذَا كَذِبٌ بَحْتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ عليه السلام، لأََنَّهُ إخْبَارٌ بِالْبَاطِلِ، وَبِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصٌّ، وَدَعْوَى بِلاَ برهان، وَلَيْسَ نَسْخُ شَيْءٍ بِمُوجِبِ نَسْخِ شَيْءٍ آخَرَ، وَلَيْسَ إبَاحَةُ اتِّخَاذِ شَيْءٍ بِمُبِيحٍ لِبَيْعِهِ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ الْقَوْمُ الْمُبِيحُونَ اتِّخَاذَ دُودِ الْقَزِّ، وَنَحْلِ الْعَسَلِ، وَلاَ يُحِلُّونَ ثَمَنَهُمَا إضْلاَلاً وَخِلاَفًا لِلْحَقِّ، وَاِتِّخَاذُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ حِلٌّ، وَلاَ يَحِلُّ بِيَعُهُنَّ: فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الأَحْتِجَاجِ". وَقَالُوا: "حُرِّمَ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، فَلَمَّا نُسِخَ تَحْرِيمُ كَسْبِ الْحَجَّامِ نُسِخَ تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْكَلْبِ".
قال أبو محمد: "وَهَذَا كَذِبٌ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، وَكَلاَمٌ فَاسِدٌ، وَدَعْوَى بِلاَ برهان. وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يُنْسَخَ أَيْضًا تَحْرِيمُ مَهْرِ الزَّانِيَةِ، لأََنَّهُ ذُكِرَ مَعَهُمَا، ثُمَّ مَنْ لَهُمْ بِنَسْخِ تَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. فَوَضَحَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَصَاحِبَيْنِ لاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا"، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ ذَكَرُوا قَضَاءَ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِقِيمَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ قلنا: " لَيْسَ هَذَا خِلاَفًا، لأََنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا، وَلاَ ثَمَنًا، إنَّمَا هُوَ قِصَاصُ مَالٍ، عَنْ فَسَادِ مَالٍ فَقَطْ، وَلاَ ثَمَنَ لِمَيِّتٍ أَصْلاً".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا ثَمَنَ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، وَكَرِهَا ثَمَنَ الْهِرِّ وَأَبُو الْمُهَزِّمِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ خَالَفُوهُمَا فِي ثَمَنِ الْهِرِّ كَمَا تَرَى. وَقَدْ رُوِّينَا إبَاحَةَ ثَمَنِ الْكَلْبِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إبَاحَةَ ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَمَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَتَحِلُّ هِبَتُهُ فَإِمْسَاكُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُ فَضْلٌ، عَنْ حَاجَتِهِ ذَلِكَ: الْفَضْلُ عَمَّنْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ ظُلْمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمْهُ، وَلاَ يُسْلِمْهُ" وَالظُّلْمُ وَاجِبٌ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ أَنَّ الْكِلاَبَ أُمَّةٌ مِنْ الأُُمَمِ لاََمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ

(9/12)


حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلاَ مَاشِيَةٍ وَلاَ أَرْضٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ" وَتَدْخُلُ الدَّارُ فِي جُمْلَةِ الأَرْضِ، لأََنَّهَا أَرْضٌ. فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ فِيهَا نَصُّ مَاقلنا. وَقَدْ رُوِّينَا،عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الصَّيْدِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/13)


1514 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْهِرِّ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ لأََذَى الْفَأْرِ فَوَاجِبٌ وَعَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْهَا فَضْلٌ ، عَنْ حَاجَتِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهَا مَا يَدْفَعُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الضَّرَرَ: كَمَا
قلنا فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْكَلْبِ، وَلاَ فَرْقَ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ؟ فَقَالَ: زَجَرَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: "الزَّجْرُ أَشَدُّ النَّهْيِ".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَ ثَمَنَ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ. فَهَذِهِ فُتْيَا جَابِرٍ لِمَا رُوِيَ، وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنَّ يُسْتَمْتَعَ بِمُسُوكِ السَّنَانِيرِ، وَأَثْمَانِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا بَيْعَ الْهِرِّ، وَثَمَنَهُ، وَأَكْلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا. وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ، وَلاَ وَرَعَ يَزْجُرُهُ، عَنِ الْكَذِبِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ: رَوَيَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إبَاحَةَ ثَمَنِ الْهِرِّ.
قال أبو محمد: "وَهَذَا لاَ نَعْلَمُهُ أَصْلاً مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ تُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَأَمَّا صَحِيحَةٍ فَنَقْطَعُ بِكَذِبِ مَنْ ادَّعَى ذَلِكَ جُمْلَةً.وَأَمَّا الْوَضْعُ فِي الْحَدِيثِ فَبَاقٍ مَا دَامَ إبْلِيسُ وَأَتْبَاعُهُ فِي الأَرْضِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَعْهُودِ الأَصْلِ بِلاَ شَكٍّ وَلاَ مِرْيَةَ فِي أَنَّ حِينَ زَجْرِهِ عليه السلام، عَنْ ثَمَنِهِ بَطَلَتْ الإِبَاحَةُ السَّالِفَةُ، وَنُسِخَتْ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى وَأَفِكَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَعُودَ مَا نَسَخَ، ثُمَّ لاَ يَأْتِي بَيَانٌ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا نَسَخَ وَفِيمَا بَقِيَ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ. هَيْهَاتَ دِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَحْرَزُ. وَقَالَ الْمُبِيحُونَ لَهُ: لَمَّا صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ دُخُولِ الْهِرِّ، وَالْكَلْبِ الْمُبَاحِ اتِّخَاذُهُ فِي

(9/13)


الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْمِلْكِ: جَازَ بَيْعُهُمَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا جَاهَرُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِخِلاَفِ أُصُولِهِمْ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعْوَى بِلاَ
برهان ثُمَّ إنَّهُمْ يُجِيزُونَ دُخُولَ النَّحْلِ. وَدُودِ الْحَرِيرِ فِي الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يُجِيزُونَ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَغَيْرِهَا، وَيُدْخِلُونَهُ فِي الْمِيرَاثِ وَلاَ يُجِيزُونَ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَظَهَرَ تَخَاذُلُهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/14)


ولا يحل البيع على ان تربحني للديناردرهما
...
1515 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي لِلدِّينَارِ دِرْهَمًا، وَلاَ عَلَى أَنِّي أَرْبَحُ مَعَك فِيهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا فَلَوْ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ دُونَ هَذَا الشَّرْطِ، لَكِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ بِكَذَا وَكَذَا، وَأَنَّهُ لاَ يَرْبَحُ مَعَهُ فِيهَا إِلاَّ كَذَا وَكَذَا فَقَدْ وَقَعَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ كَذَبَ فِيمَا قَالَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ شَيْئًا، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ أَصْلاً، إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ فِيهِ أَوْ غَبْنٍ ظَاهِرٍ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَالْكَاذِبُ آثِمٌ فِي كَذِبِهِ فَقَطْ.
برهان ذَلِكَ: أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي كَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْعَقْدُ بِهِ بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، لأََنَّهُمَا إنَّمَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ عَلَى أَنَّهُ يَرْبَحُ مَعَهُ لِلدِّينَارِ دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ شِرَاؤُهُ دِينَارًا غَيْرَ رُبُعٍ كَانَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ، وَالرِّبْحُ دِرْهَمًا غَيْرَ رُبُعِ دِرْهَمٍ فَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ لاَ يَدْرِي مِقْدَارَهُ. فَإِذَا سَلِمَ الْبَيْعُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ وَقَعَ صَحِيحًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكِذْبَةُ الْبَائِعِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَعْقُودًا عَلَيْهَا الْبَيْعُ، لَكِنْ كَزِنَاهُ لَوْ زَنَى، أَوْ شُرْبِهِ لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ " ده دوازده " مَعْنَاهُ أُرْبِحُك لِلْعَشَرَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ رِبًا وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالاَ جَمِيعًا: أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْعُ " ده دوازده " رِبًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ حَرَامٌ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَكَرِهَهُ مَسْرُوقٌ وَقَالَ: بَلْ أَشْتَرِيهِ بِكَذَا أَوْ أَبِيعُهُ بِكَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَجَازَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَأَجَازَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ " ده دوازده " وَتُحْسَبُ النَّفَقَةُ عَلَى الثِّيَابِ. وَلِمَنْ أَجَازَهُ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ فِيمَنْ ابْتَاعَ نَسِيئَةً، وَبَاعَ نَقْدًا، وَفِيمَنْ اشْتَرَى فِي نَفَاقٍ، وَبَاعَ فِي كَسَادٍ، وَمَا يُحْسَبُ كِرَاءِ الشَّدِّ وَالطَّيِّ، وَالصَّبَّاغِ، وَالْقَصَّارَةِ، وَمَا أُطْعِمَ الْحُرْفَا، وَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ، وَإِذَا ادَّعَى غَلَطًا، وَإِذَا انْكَشَفَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَكُلُّهُ رَأْيٌ فَاسِدٌ. لَكِنْ نَقُولُ: مَنْ اُمْتُحِنَ بِالتِّجَارَةِ فِي بَلَدٍ لاَ ابْتِيَاعَ فِيهِ

(9/14)


إِلاَّ هَكَذَا فَلْيَقُلْ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَبِحَسَبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُ: ابْتَعْته بِكَذَا، وَلاَ يَحْسِبُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً، ثُمَّ يَقُولُ: لَكِنِّي لاَ أَبِيعُهُ عَلَى شِرَائِي، تُرِيدُ أَخْذَهُ مِنِّي بَيْعًا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَ دَاخِلَةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ بِقَوْمٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَوْبٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِكَمْ ابْتَعْتَهُ فَأَجَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: كَذَبْتَ وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا بِدُونِ مَا كَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِالْفَضْلِ" وَهُمْ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَرُدَّ بَيْعَهُ، وَلاَ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ.

(9/15)


1516 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى الرَّقْمِ، وَلاَ أَنْ يُغْرِ أَحَدًا بِمَا يُرَقِّمُ عَلَى سِلْعَتِهِ، لَكِنْ يُسَوِّمُ وَيُبَيِّنُ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَطْلُبُ عَلَى قِيمَةِ مَا يَبِيعُ، وَيَقُولُ: إنْ طَابَتْ نَفْسُك بِهَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ .

(9/15)


1517 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، مِثْلُ: أَبِيعُك سِلْعَتِي بِدِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي بِالدِّينَارَيْنِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. أَوْ كَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَنَانِيرَ كُلَّ دِينَارٍ بِعَدَدٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمِثْلُ: أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارَيْنِ نَقْدًا أَوْ بِثَلاَثَةٍ نَسِيئَةً. وَمِثْلِ أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي سِلْعَتَك هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ" . وَرُوِّينَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لِلْمَالِكِيِّينَ حُجَّةً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْبَيْعَةُ الأُُولَى لَغْوٌ فَهَذَا الأَحْتِجَاجُ أَفْسَدُ مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي احْتَجُّوا لَهُ بِهِ، وَأَفْقَرُ إلَى حُجَّةٍ، لأََنَّهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، عَلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِعَظَائِمَ طَرْدًا مِنْهُمْ لِهَذَا الأَصْلِ الْفَاسِدِ: فَأَجَازُوا بَيْعَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِخِنْزِيرٍ، أَوْ بِقِسْطِ خَمْرٍ، عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالْخِنْزِيرِ، أَوْ الْخَمْرِ: دِينَارَيْنِ وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ تَمْلاَُ الْفَمَ، وَيَكْفِي ذِكْرُهَا، عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَمَا الدَّيَّانَةُ كُلُّهَا إِلاَّ بِأَسْمَائِهَا وَأَعْمَالِهَا، لاَ بِأَحَدِ الأَمْرَيْنِ دُونَ الآخَرِ. وَنَحْنُ نَجِدُ الْمُسْتَقْرِضَ يَقُولُ: أَقْرِضْنِي دِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ أَرُدَّ لَك دِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ لَكَانَ قَوْلاً حَسَنًا، وَعَمَلاً صَحِيحًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ يَعْنِي دِينَارَيْنِ بِدِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ لَكَانَ قَوْلاً خَبِيثًا، وَعَمَلاً فَاسِدًا، حَرَامًا، وَالْعَمَلُ وَاحِدٌ وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ وَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ اللَّفْظُ. وَلَوْ قَالَ امْرُؤٌ لأَخَرَ: أَبِحْنِي وَطْءَ ابْنَتِك بِدِينَارٍ مَا شِئْت فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ لَكَانَ قَوْلاً حَرَامًا: وَزِنًا مُجَرَّدًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ: زَوِّجْنِيهَا بِدِينَارٍ، لَكَانَ قَوْلاً صَحِيحًا، وَعَمَلاً صَحِيحًا، وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْعَمَلُ

(9/15)


1518 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ صَفْقَةٍ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلاَلاً فَهِيَ بَاطِلٌ كُلُّهَا، لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ مَغْصُوبًا، أَوْ لاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ، أَوْ عَقْدًا فَاسِدًا وَسَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ الصَّفْقَةِ، أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوْ أَدْنَاهَا، أَوْ أَعْلاَهَا، أَوْ أَوْسَطَهَاوقال مالك: إنْ كَانَ ذَلِكَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ بَطَلَتْ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا بَطَلَ الْحَرَامُ، وَصَحَّ الْحَلاَلُ.
قال علي: "وهذا قَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ. وَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ وَجْهَ الصَّفْقَةِ هُوَ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ".فَقُلْنَا لَهُمْ: فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ وَمَا هُوَ إِلاَّ قَوْلُكُمْ احْتَجَجْتُمْ لَهُ بِقَوْلِكُمْ، فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَصِحُّ الْحَلاَلُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَيَبْطُلُ الْحَرَامُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
قال أبو محمد: "فَوَجَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ يُبْطِلُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذَانِ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِبَعْضِ الصَّفْقَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا تَرَاضَيَا بِجَمِيعِهَا، فَمَنْ أَلْزَمَهُمَا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ أَلْزَمَهُمَا

(9/16)


مَا لَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ حِينَ الْعَقْدِ، فَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا الآنَ بِذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْهُمَا، وَلَكِنْ بِعَقْدٍ مُجَرَّدٍ بِرِضَاهُمَا مَعًا، لأََنَّ الْعَقْدَ الأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ هَكَذَا.وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ تِلْكَ الصَّفْقَةِ لَمْ يَتَعَاقَدَا صِحَّتَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْبَاطِلِ الَّذِي لاَ صِحَّةَ لَهُ، وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَلاَ صِحَّةَ لَهُ أَبَدًا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/17)


1519 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْحُرِّ . برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: "وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ، نُورِدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مَا يَسَّرَ لأَِيرَادِهِ، لِيَعْلَمَ مُدَّعِي الإِجْمَاعِ فِيمَا هُوَ أَخْفَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ" رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى وَقَالَ مُعَاذٌ: نَا أَبِي ثُمَّ اتَّفَقَ هِشَامٌ، وَهَمَّامٌ، كِلاَهُمَا: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً بَاعَ نَفْسَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ كَمَا أَقَرَّ نَفْسَهُ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا لَفْظُ هَمَّامٍ وَأَمَّا لَفْظُ هِشَامٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ لِرَجُلٍ حَتَّى بَاعَهُ، وَاتَّفَقَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ فِي كِلاَ اللَّفْظَيْنِ، وَلاَ بُدَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ عَبْدٌ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ سَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً حُرًّا فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: هُوَ رَهْنٌ بِمَا جَعَلَ فِيهِ حَتَّى يَفْتَكَّ نَفْسَهُ. وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا فِي دَيْنٍ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ قَوْلَةٌ غَرِيبَةٌ لاَ يَعْرِفُهَا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْحَدِيثِ وَالآثَارِ.
قال علي: "هذا قَضَاءُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَلاَ يَعْتَرِضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مُعْتَرِضٌ، فَإِنْ شَنَّعُوا هَذَا قلنا: يَا هَؤُلاَءِ لاَ عَلَيْكُمْ، وَاَللَّهِ لَقَدْ قُلْتُمْ بِأَشْنَعَ مِنْ هَذَا وَأَشَدَّ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا". أَلَيْسَ الْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: إنْ ارْتَدَّ الْحَسَنِيُّ، أَوْ الْحُسَيْنِيُّ، أَوْ الْعَبَّاسِيُّ أَوْ الْمَنَافِيُّ، أَوْ الْقُرَشِيُّ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحَرْبِ فَإِنْ وُلِدَ وَلَدُهُ يُسْتَرَقُّونَ، وَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا وَأَنَّ الْقُرَشِيَّةَ إنْ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ سُبِيَتْ وَأُرِقَّتْ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُبَاحُ

(9/17)


وَيُسْتَحَلُّ فَرْجُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ تُرِكَتْ عَلَى كُفْرِهَا، وَجَازَ أَنْ يَسْتَرِقَّهَا الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ أَوَ لَيْسَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَ مَالِكٍ يَقُولُ: "إنْ تَذَمَّمَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَفِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ، وَمُسْلِمَاتٌ أَحْرَارٌ، وَحَرَائِرُ، فَإِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَبِيدًا لَهُمْ وَأَمَّا يَتَمَلَّكُونَهُمْ وَيَتَبَايَعُونَهُمْ فَأُفٍّ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَتُفٍّ"، فَأَيُّهُمَا أَشْنَعُ مِمَّا لَمْ يُقَلِّدُوا فِيهِ عُمَرَ، وَعَلِيًّا رضي الله عنهما؟.
قال أبو محمد: "كُلُّ مَنْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقٍ، أَوْ بِأَنْ كَانَ ابْنَ حُرٍّ مِنْ أَمَةٍ لَهُ، أَوْ بِأَنْ حَمَلَتْ بِهِ حُرَّةٌ، أَوْ بِأَنْ أُعْتِقَتْ أَمَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ الْمُعْتِقُ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ، فَلاَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ، وَلاَ عَمَّنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ مِنْ الْوِلاَدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَبَدًا، لاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ، وَلاَ بِأَنْ تَرْتَدَّ، وَلاَ بِأَنْ يُسْبَى، وَلاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ وَإِنْ بَعُدَ، أَوْ جَدَّتُهُ وَإِنْ بَعُدَتْ، وَلاَ بِلَحَاقِ بِأَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ أَحَدِ أَجْدَادِهِ، أَوْ جَدَّاتِهِ أَوْ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا: وَلاَ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ، وَلاَ بِدَيْنٍ، وَلاَ بِبَيْعِهِ نَفْسِهِ، وَلاَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَبَدًا لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ أَثَرٌ بِأَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/18)


ولا يحل بيع أمة من سيدها
...
1520 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ أَمَةٍ حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، لِمَا حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا" وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحُ السَّنَدِ وَالْحُجَّةُ بِهِ قَائِمَةٌ.
فإن قيل: "الثَّابِتُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وهذا الخبر مِنْ رِوَايَتِهِ، فَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ مَا رُوِيَ إِلاَّ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُ، وَلِمَا هُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ" قلنا: لَسْنَا نُعَارَضُ مَعْشَرَ الظَّاهِرِيِّينَ بِهَذَا الْغُثَاءِ مِنْ الْقَوْلِ، وَلاَ يَعْتَرِضُ بِهَذَا عَلَيْنَا إِلاَّ ضِعَافُ الْعَقْلِ، لأََنَّ الْحُجَّةَ عِنْدَنَا فِي الرِّوَايَةِ، لاَ فِي الرَّأْيِ، يُعَارِضُ بِهَذَا مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ إذَا عُورِضَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهَا مِنْ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، الَّذِينَ لاَ يُبَالُونَ بِالتَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ، مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا، وَاَلَّذِينَ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ يَدَّعُوا هَهُنَا الإِجْمَاعَ ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ يَجْعَلُوا: ابْنَ مَسْعُودٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، مُخَالِفِينَ لِلإِجْمَاعِ فَهَذِهِ صِفَةُ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ، وَهَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ بِالإِجْمَاعِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: "إذَا وَقَعَ مَنِيُّ السَّيِّدِ فِي فَرْجِ أَمَتِهِ فَأَمْرُهَا مُتَرَقَّبٌ، فَإِنْ بَقِيَ حَتَّى يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَلَدٌ فَهِيَ حَرَامٌ بَيْعُهَا مِنْ حِينِ سُقُوطِ الْمَنِيِّ فِي فَرْجِهَا وَيُفْسَخُ بَيْعُهَا إنْ بِيعَتْ

(9/18)


وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهَا قَطُّ. وبرهان صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْمَنْعُ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَكَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً، لَوْ كَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً لَحَلَّ فَرْجُهَا لِمُشْتَرِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَنِيُّ وَلَدًا وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ الْمَذْكُورِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَيِّتِ إثْرَ كَوْنِ مَنِيِّهِ فِي فَرْجِ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ مُتَرَقِّبٌ أَيْضًا، فَإِنْ وُلِدَ حَيًّا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ مِيرَاثُهُ بِمَوْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ قَطُّ مِيرَاثٌ، إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا لَمَا حَدَثَ لَهُ حَقٌّ فِي مِيرَاثٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/19)


1521 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْهَوَاءِ أَصْلاً، كَمَنْ بَاعَ مَا عَلَى سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا، لأََنَّ الْهَوَاءَ لاَ يَسْتَقِرُّ فَيُضْبَطُ بِمِلْكٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَوِّجٌ يَمْضِي مِنْهُ شَيْءٌ وَيَأْتِي آخَرُ أَبَدًا، فَكَانَ يَكُونُ بَيْعُهُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لأََنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِهِ، فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَبَيْعُ مَجْهُولٍ. فإن قيل: إنَّمَا بِيعَ الْمَكَانُ لاَ الْهَوَاءُ
قلنا: لَيْسَ هُنَاكَ مَكَانٌ أَصْلاً غَيْرَ الْهَوَاءِ، فَلَوْ كَانَ مَا قُلْتُمْ لَكَانَ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا أَصْلاً، لأََنَّهُ عَدَمٌ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ حَقًّا. فإن قيل: إنَّمَا بَاعَ سَطْحَ سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ وَهُوَ أَيْضًا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ شَرَطَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ شَيْئًا مِنْ سَقْفِهِ، وَلاَ مِنْ رُءُوسِ جُدْرَانِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْقِسْمَةِ " وَأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ شَيْئًا وَيَمْلِكُ غَيْرُهُ الْعُلُوَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَمَنْ بَاعَ سَقْفَهُ فَقَطْ فَحَلاَلٌ، وَيُؤْخَذُ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ مَا اشْتَرَى، عَنْ مَكَان مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/19)


ولا يجوز بيع من لا يعقل لسكر أو لجنون
...
1522 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ لِسُكْرٍ، أَوْ جُنُونٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . فَشَهِدَ عَزّ وَجَلَّ بِأَنَّ السَّكْرَانَ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَالْبَيْعُ قَوْلٌ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ: مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَوْلِ مِمَّنْ بِهِ آفَةٌ مِنْ الْخَرَسِ أَوْ بِفَمِهِ آفَةٌ، فَمَنْ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَمْ يَبِعْ شَيْئًا، وَلاَ ابْتَاعَ شَيْئًا وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: هُوَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ وَأَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.فَقُلْنَا نَعَمْ، وَحَقُّهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ إلْزَامِهِ حُكْمًا زَائِدًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ، وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي سَكْرَانَ عَرْبَدَ فَوَقَعَ فَانْكَسَرَتْ سَاقُهُ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي الصَّلاَةِ قَاعِدًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ فَرْقَ. وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ إذَا جُرِحَ جِرَاحَاتٍ

(9/19)


1523- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، إِلاَّ فِيمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ ضَرُورَةً، كَطَعَامٍ لأََكْلِهِ وَثَوْبٍ يَطْرُدُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْبَرْدَ وَالْحَرَّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى إذَا أَغْفَلَهُ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ وَضَيَّعُوهُ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا، فَإِذَا ضَيَّعَهُ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ فَاشْتَرَى مَا ذَكَرْنَا بِحَقِّهِ، فَقَدْ وَافَقَ الْوَاجِبَ، وَعَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ إمْضَاؤُهُ، فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ رَدُّ الْحَقِّ وَتَكُونُ مُبَايَعَتُهُ حِينَئِذٍ إنْ كَانَ جَائِزَ الأَمْرِ هُوَ الَّذِي عَقَدَ ذَلِكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ أَيْضًا غَيْرَ جَائِزِ الأَمْرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا عَمَلٌ وَافَقَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فَلاَ يَجُوزُ رَدُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِ ذَلِكَ الآخَرِ، وَابْتِيَاعُهُ لَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ جَائِزٌ، لأََنَّ يَدَهُ وَعَقْدَهُ إنَّمَا هُمَا يَدُ الآمِرِ وَعَقْدُهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/20)


1524 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلاَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ هَذِهِ الأَرْضِ، أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَكَذَلِكَ ثُلُثُهَا أَوْ رُبُعُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَوْ عُلِمَ مُنْتَهَى كُلِّ ذَلِكَ جَازَ، لأََنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لاَ يَجُوزُ، لأََنَّ التَّرَاضِيَ لاَ يَقَعُ عَلَى مَجْهُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/20)


ولا يجوز بيع دار أو بيت أو أرض لا طريق لها
...
1525 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ أَوْ بَيْتٍ أَوْ أَرْضٍ لاَ طَرِيقَ إلَيْهَا لأََنَّهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ طَرِيقًا لَمْ يَبِعْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَّصِلاً بِمَالِ الْمُشْتَرِي جَازَ ذَلِكَ الْبَيْعُ، لأََنَّهُ يَصِلُ إلَى مَا اشْتَرَى فَلاَ تَضْيِيعَ، فَلَوْ اُسْتُحِقَّ مَالُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ هَذَا الشِّرَاءُ، لأََنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا إذَا كَانَ لاَ طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.

(9/20)


1526 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ جُمْلَةٍ مَجْهُولَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ رَطْلٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ أَصْلٍ مِنْهَا، أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِكَذَا وَكَذَا وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْمَقَادِيرِ وَالأَعْدَادِ، فَإِنْ عَلِمَا جَمِيعًا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَدَدِ، أَوْ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ، وَعَلِمَا قَدْرَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ: جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ بِيعَتْ الْجُمْلَةُ

(9/20)


ولا يحلا بيع الولاء لا هبته
...
1527 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْوَلاَءِ، وَلاَ هِبَتُهُ : لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كُلِّهِمْ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ" . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الأُُمَّةُ فِي هَذَا، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فِي الْعِتْقِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(9/21)


1528 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَرَاضٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، إِلاَّ بَيْعًا أَوْجَبَهُ النَّصُّ، كَالْبَيْعِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ مُمْتَنِعٌ مِنْ الإِنْصَافِ، لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْصَافِ ذِي الْحَقِّ قِبَلَهُ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ. وَبِمَنْعِهِ مِنْ الْمَطْلِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ

(9/21)


1529 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إلَى الْبَيْعِ، كَمَنْ جَاعَ وَخَشِيَ الْمَوْتَ فَبَاعَ فِيمَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، وَكَمَنْ لَزِمَهُ فِدَاءُ نَفْسِهِ أَوْ حَمِيمِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَمَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ عَلَى غُرْمِ مَالِهِ بِالضَّغْطِ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الْبَيْعِ، لَكِنْ أَلْزَمَهُ الْمَالَ فَقَطْ، فَبَاعَ فِي أَدَاءِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ، أَوْ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ: ، {تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} يَنْهَدُ الأَشْرَارُ، وَيُسْتَذَلُّ الأَخْيَارُ، وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعَمَ" به إلى هُشَيْمٍ، عَنْ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ" , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} َيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلاَ إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخُونُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَلاَ تَزِدْهُ هَلاَكًا إلَى هَلاَكِهِ.
قال أبو محمد: لَوْ اسْتَنَدَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ لَقُلْنَا بِهِمَا مُسَارِعِينَ، لَكِنَّهُمَا مُرْسَلاَنِ، وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالْمُرْسَلِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَيَقُولُ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولَ: "ِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ شَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ", وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَمْكَنُ وَأَوْضَحُ، ثُمَّ هِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مُضْطَرِبُونَ.
قال أبو محمد: "َإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ فَلْنَطْلُبْ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِهِمَا: فَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ يَبْتَاعُ قُوتَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ لِلأَكْلِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى ابْتِيَاعِهِ بِلاَ شَكٍّ", فَلَوْ بَطَلَ ابْتِيَاعُ هَذَا الْمُضْطَرِّ لَبَطَلَ بَيْعُ كُلِّ مَنْ لاَ يُصِيبُ الْقُوتَ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَبِضَرُورَةِ النَّقْلِ مِنْ الْكَوَافِّ وَقَدْ ابْتَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْوُعًا مِنْ شَعِيرٍ لِقُوتِ أَهْلِهِ، وَمَاتَ عليه السلام وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي ثَمَنِهَا فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ إلَى قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ، وَبَيْعَهُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ الْقُوتَ

(9/22)


بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، فَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ تَرَاضٍ لَمْ يُجْبِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ بَاعَ فِي إنْقَاذِ نَفْسِهِ، أَوْ حَمِيمِهِ، مِنْ يَدِ كَافِرٍ أَوْ ظُلْمِ ظَالِمٍ: فَوَجَدْنَا الْكَافِرَ وَالظَّالِمَ لَمْ يُكْرِهَا فَادِيَ الأَسِيرِ، وَلاَ الأَسِيرَ، وَلاَ الْمَضْغُوطَ عَلَى بَيْعِ مَا بَاعُوا فِي اسْتِنْقَاذِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مَنْ يَسْعَوْنَ لأَسْتِنْقَاذِهِ وَإِنَّمَا أَكْرَهُوهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَتَوْهُمَا بِمَالٍ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ مَا أَلْزَمُوهُمَا الْبَيْعَ فَصَحَّ أَنَّهُ بَيْعُ تَرَاضٍ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ طُلِبَ بِبَاطِلٍ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ لاَ أَنْ يُعْطِيَ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ لاَزِمٌ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ كَمَا كَانَ يَقْضِي لَهُ بِهِ مَتَى قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ، مَتَى أَمْكَنَهُ أَوْ مَتَى وَجَدَهُ فِي مَغْنَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ، مِنْ يَدِ مَنْ وَجَدَهُ فِي يَدِهِ، مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مِنْ يَدِ ذَلِكَ الْكَافِرِ، لَوْ تَذَمَّمَ، أَوْ أَسْلَمَ أَبَدًا هَذَا إذَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمَالَ بِعَيْنِهِ، لأََنَّهُ مَالُهُ كَمَا كَانَ، وَلاَ يُطْلَبُ الْكَافِرُ بِغَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ، لأََنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ تَذَمَّمَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا سَلَفَ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ قَتْلٍ.وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الظَّالِمُ فَيَتْبَعُهُ بِهِ أَبَدًا، أَوْ بِمِثْلِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ خَارِجِيًّا أَوْ مُحَارِبًا، أَوْ بَاغِيًا، أَوْ سُلْطَانًا، أَوْ مُتَغَلِّبًا، لأََنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

(9/23)


1530 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَنْفَعَةٍ، إمَّا لأََكْلٍ، وَأَمَّا لِرُكُوبٍ، وَأَمَّا لِصَيْدٍ وَأَمَّا لِدَوَاءٍ . فَإِنْ كَانَ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ، وَلاَ مِلْكُهُ، لأََنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ مِنْ الْمُبْتَاعِ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، أَوْ لِغَيْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ، لأََنَّهُ بَيْعٌ، عَنْ تَرَاضٍ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَلَيْسَ إضَاعَةَ مَالٍ، وَلاَ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/23)


1531 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مُسَمًّى، كَمَنْ بَاعَ بِمَا يَبْلُغُ فِي السُّوقِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، أَوْ بِالْقِيمَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لأََنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ التَّرَاضِي، وَلاَ يَكُونُ التَّرَاضِي إِلاَّ بِمَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ يَرْضَى، لأََنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ ثَمَنًا مَا فَإِنْ بَلَغَ أَكْثَرَ لَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ بَلَغَ أَقَلَّ لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ بَاعَ بِالرِّبْحِ، أَوْ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ بِلاَ ثَمَنٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ بَاعَ بِالْمَيْتَةِ، أَوْ بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَلاَ يَجُوزُ عِتْقُهُ لَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ بَائِعِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ يُسَمِّيَاهُ، أَوْ بَاعَهُ بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ بَائِعِهِ فَأَعْتَقَهُ: جَازَ عِتْقُهُ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا فِي الْجُنُونِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ

(9/23)


1532 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ النَّرْدِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فَمِلْكُهَا حَرَامٌ، وَبَيْعُهَا حَرَامٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا سُكَّانًا فِيهَا أَنَّ عِنْدَهُمْ نَرْدًا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجُوهَا لاَُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ.

(9/24)


ولا يحل أن يبيع اثنان سلعتين متميزيتن
...
1533 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ اثْنَانِ سِلْعَتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ لَهُمَا لَيْسَا فِيهِمَا شَرِيكَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لأََنَّ هَذَا بَيْعٌ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يَدْرِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقَعُ لِسِلْعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا بَيْعُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ الشُّرَكَاءِ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرَ أَوْ ابْتِيَاعُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ شَرِيكَيْنِ: فَحَلاَلٌ، لأََنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْلُومَةُ الثَّمَنِ، مَحْدُودَتُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/24)


1534 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ تَجْرِي فِيهِ سِكَكٌ كَثِيرَةٌ شَتَّى، فَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنْ أَيِّ سِكَّةٍ يَكُونُ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا ذَلِكَ: فَهُوَ بَيْعٌ مَفْسُوخٌ، مَرْدُودٌ، لأََنَّهُ وَقَعَ، عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ غَرَرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/24)


1535 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلاَ خِدْمَةُ الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَجَازَ مَالِكٌ كِلاَ الأَمْرَيْنِ: أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَمِنْ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَمِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَأَجَازَ بَيْعَهُمَا جُمْلَةً: الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، لأََنَّ كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا تَجِبُ بِالنُّجُومِ، وَلاَ تَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَنْ بَاعَهَا فَقَدْ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ بَعْدُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَجِبُ لَهُ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَلَيْسَتْ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَلاَ يَدْرِي الْبَائِعُ أَيَّ شَيْءٍ بَاعَ مِنْ نَوْعِ مَا بَاعَ، وَلاَ يَدْرِي الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَى فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَمَجْهُولُ الْعَيْنِ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. فإن قيل: فَقَدْ رُوِيَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهَا قلنا: وَكَمْ قِصَّةٍ رُوِيَتْ، عَنْ جَابِرٍ خَالَفْتُمُوهَا: مِنْهَا: قَوْلُهُ الَّذِي قَدْ أَوْرَدْنَا أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ اُشْتُرِيَ كَائِنًا مَا كَانَ إِلاَّ حَتَّى يُقْبَضَ وَقَوْلُهُ: الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ، وَقَوْلُهُ: لاَ يُحْرِمُ أَحَدٌ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِالْحَجِّ وَقَوْلُهُ: لاَ يَجُوزُ ثَمَنُ الْهِرِّ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي ذَلِكَ، فَالآنَ صَارَ حُجَّةً وَهُنَالِكَ لاَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

(9/24)


1536 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّمْنِ الْمَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَفِي " كِتَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَإِنْ كَانَ جَامِدًا أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيْتَةٌ غَيْرُ الْفَأْرِ أَوْ نَجَاسَةٌ فَلَمْ تُغَيِّرْ لَوْنَهُ، وَلاَ طَعْمَهُ، وَلاَ رِيحَهُ، أَوْ وَقَعَ الْفَأْرُ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ، أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ، أَوْ أَيُّ مَيْتَةٍ كَانَتْ فِي مَائِعٍ غَيْرِ السَّمْنِ، فَلَمْ تُغَيِّرْ طَعْمًا، وَلاَ لَوْنًا، وَلاَ رِيحًا فَبَيْعُهُ حَلاَلٌ، وَأَكْلُهُ حَلاَلٌ، لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وماكَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ: جَازَ بَيْعُهُ أَيْضًا، كَمَا يُبَاعُ الثَّوْبُ النَّجِسُ. وَقَد قلنا: إنَّ الطَّاهِرَ لاَ يُنَجَّسُ بِمُلاَقَاتِهِ النَّجِسَ وَلَوْ أَمْكَنَنَا أَنْ نَفْصِلَهُ مِنْ الْحَرَامِ لَحَلَّ أَكْلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الأَنْتِفَاعِ بِهِ فِي غَيْرِ الأَكْلِ نَصٌّ فَهُوَ مُبَاحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، يَعْنِي مَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ الَّتِي حَلَّتْهَا النَّجَاسَاتُ، لأََنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ لاَ النَّجَاسَةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/25)


1537 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الصُّوَرِ إِلاَّ لِلَعِبِ الصَّبَايَا فَقَطْ، فَإِنَّ اتِّخَاذَهَا لَهُنَّ حَلاَلٌ حَسَنٌ وَمَا جَازَ مِلْكُهُ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ أَنْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلاَ صُورَةٌ" .وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ قَالَ: فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ بِنَزْعِ نَمَطٍ كَانَ تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ سَهْلٌ: لِمَ نَزَعْتَهُ؟ قَالَ: لأََنَّ فِيهِ

(9/25)


1538 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ مُذْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَى مِقْدَارِ تَمَامِ الْخُطْبَتَيْنِ وَالصَّلاَةِ، لاَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ، وَلاَ لِمَرِيضٍ، وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَإِلَى أَنْ تَتِمَّ صَلاَتُهُمْ لِلْجُمُعَةِ، وَكُلُّ بَيْعٍ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مَفْسُوخٌ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَمَّا النِّكَاحُ، وَالسَّلَمُ وَالإِجَارَةُ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ فَجَائِزَةٌ كُلُّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُجِزْهَا مَالِكٌ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فَهُمَا أَمْرَانِ مُفْتَرَضَانِ السَّعْيُ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكُ الْبَيْعِ فَإِذَا سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ كَالْمَرِيضِ، وَالْخَائِفِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَعْذُورِ، لَمْ يَسْقُطْ الآخَرُ، إذْ لَمْ يُوجِبْ سُقُوطَهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَجَبَ إلْزَامُ الْكُفَّارِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَأَمَّا إدْخَالُ مَالِكٍ النِّكَاحَ، وَالإِجَارَةَ فِي ذَلِكَ، فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى، عَنِ الْبَيْعِ، وَلَوْ أَرَادَ النَّهْيَ عَنِ النِّكَاحِ، وَالإِجَارَةِ لَمَا عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ، وَلاَ كَتَمْنَا

(9/26)


مَا أَلْزَمَنَا وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ. وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً، لأََنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ عَلَى نَظِيرِهِ، وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ النِّكَاحِ، لأََنَّهُ يَجُوزُ بِلاَ ذِكْرِ مَهْرٍ. وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ، وَالْمُتَنَاكِحَانِ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ نَقْلُ مِلْكٍ، وَالْبَيْعُ نَقْلُ مِلْكٍ وَأَمَّا الإِجَارَةُ فَإِنَّمَا هِيَ مُعَاوَضَةٌ فِي مَنَافِعَ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْحُرُّ نَفْسَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ، فَلاَ شَبَهَ بَيْنَ الإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ. فَإِنْ عَلَّلَ النَّهْيَ، عَنِ الْبَيْعِ بِمَا يُشَاغِلُ، عَنِ السَّعْيِ: صَارَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَ مِنْ الْبَيْعِ مَا لاَ تَشَاغَلَ مِنْهُ، عَنِ السَّعْيِ، وَلاَ قِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلاَّ عَلَى عِلَّةٍ، فَإِنْ لَمْ يُعَلِّلْ بَطَلَ الْقِيَاسُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا الْقَوْلِ وَأَمَّا إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ: "الْبَيْعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَخِلاَفٌ لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى"، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: "إنَّمَا نَهَى، عَنِ التَّشَاغُلِ، عَنِ السَّعْيِ إلَى الصَّلاَةِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأً بَاعَ فِي الصَّلاَةِ لَصَحَّ الْبَيْعُ".
قال أبو محمد: "وَهَذَانِ فَاسِدَانِ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ التَّشَاغُلَ، عَنِ السَّعْيِ فَقَطْ، فَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا، لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مَا قَالُوا لَمَا نَهَانَا"، عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَلاَ عَجَزَ، عَنْ بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَهُنَا ضَرُورَةٌ تُوجِبُ فَهْمَ هَذَا، وَلاَ نَصٌّ، فَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ برهان.وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ بَاعَ فِي الصَّلاَةِ لَجَازَ الْبَيْعُ: فَتَمْوِيهٌ بَارِدٌ، لأََنَّ الْمُصَلِّيَ بِأَوَّلِ أَخْذِهِ فِي الْكَلاَمِ فِي الْمُسَاوَمَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ فَصَارَ غَيْرَ مُصَلٍّ فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ جُمْلَة فَإِنْ قَالُوا: "هَذَا نَدْبٌ قلنا: مَا دَلِيلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ"، وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى افْعَلْ، فَيَقُولُونَ: "مَعْنَاهُ لاَ تَفْعَلْ إنْ شِئْت أَمْ كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لاَ تَفْعَلْ"، فَيَقُولُونَ: "مَعْنَاهُ: افْعَلْ إنْ شِئْت وَهَذَا إبْطَالُ الْحَقَائِقِ، وَنَفْسُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ،عَنْ مَوَاضِعِهِ" فَإِنْ قَالُوا: "قَدْ وَجَدْنَا أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ مَعْنَاهَا": النَّدْبُ قلنا: نَعَمْ بِنَصٍّ آخَرَ بَيَّنَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا آيَاتٍ مَنْسُوخَاتٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَلَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ حَمْلُ آيَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ عَلَى أَنَّهَا نَدْبٌ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ مَا شَاءَ بِلاَ دَلِيلٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَصْلُحُ الْبَيْعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يُنَادَى لِلصَّلاَةِ، فَإِذَا قُضِيَتْ فَاشْتَرِ وَبِعْ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ

(9/27)


حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ فَسَخَ بَيْعًا وَقَعَ بَيْنَ نِسَاءٍ وَبَيْنَ عَطَّارٍ بَعْدَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ.

(9/28)


1539- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مِقْدَارَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ بَعْدُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّلاَةِ، عَارِفٌ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ: بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، مَأْمُورٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ: جَازَ كُلُّ مَا عَمِلَ فِيهِ، لأََنَّ وَقْتَ الصَّلاَةِ لِلنَّاسِي مُمْتَدٌّ أَبَدًا.وَأَمَّا مَنْ سَهَا فَسَلَّمَ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَتِهِ فَمَا أَنْفَذَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَرْدُودٌ كُلُّهُ، لأََنَّهُ قَدْ عَرَفَ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ، لَكِنْ عُفِيَ لَهُ، عَنِ النِّسْيَانِ، فَهُوَ إنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ بَاعَ وَلَمْ يَبِعْ لأََنَّهُ غَيَّرَ الْبَيْعَ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، فَإِذًا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/28)


ولا يحل أن يجبر أحدا على أن يبيع مع شريكه لا ما ينقسم ولا مالا ينقسم
...
1540 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ لاَ مَا يَنْقَسِمُ، وَلاَ مَا لاَ يَنْقَسِمُ، وَلاَ عَلَى أَنْ يُقَاوِمَهُ فَيَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ، لَكِنْ مَا شَاءَ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ: فَلَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ، فَإِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُهُ: فُسِخَ حُكْمُهُ أَبَدًا وَحُكِمَ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِ حَقِّهِ فَلَمْ يَرْضَ فَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَالشُّفْعَةِ، وَعَلَى الْغَائِبِ، وَعَلَى الصَّغِيرِ، وَعَلَى الظَّالِمِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ بِخَبَرٍ رُوِيَ فِيهِ "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ، إنَّمَا جَاءَ مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ أَعْظَمَ الضِّرَارِ وَالضَّرَرِ هُوَ الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ إجْبَارِهِمْ إنْسَانًا عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَبِغَيْرِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَنْ يُرَاعَى رِضَا أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِإِسْخَاطِ شَرِيكِهِ فِي مَالِهِ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ الصُّرَاحُ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُجَابَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إلَى قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يَبِيعَ شَرِيكِي مَعِي لأََسْتَجْزِلَ الثَّمَنَ فِي حِصَّتِي، وَبَيْنَ أَنْ يُجَابَ الآخَرُ إلَى قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يُمْنَعَ شَرِيكِي مَعَ بَيْعِ حِصَّتِهِ، لأََنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيَّ فِي حِصَّتِي، وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُمَكَّنٌ مِنْ حِصَّتِهِ، مَنْ شَاءَ بَاعَ حِصَّتَهُ وَمَنْ شَاءَ أَمْسَكَ حِصَّتَهُ. وَقَدْ مَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ

(9/28)


ولا يجوز بيع ما غنمه المسلم من دار الحرب
...
1541 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لأََهْلِ الذِّمَّةِ لاَ مِنْ رَقِيقٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ ".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ: أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِآنِيَةٍ مُخَوَّصَةٍ بِالذَّهَبِ مِنْ آنِيَةِ الْعَجَمِ فَأَرَادَ أَنْ يَكْسِرَهَا وَيُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ الدَّهَاقِينَ: إنْ كَسَرْت هَذِهِ كَسَرْت ثَمَنَهَا، وَنَحْنُ نُغْلِي لَك بِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَمْ أَكُنْ لأََرُدَّ لَكُمْ مِلْكًا نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْكُمْ، فَكَسَرَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ.
قال أبو محمد: هَذَا مِنْ الصَّغَارِ، وَكُلُّ صَغَارٍ فَوَاجِبٌ حَمْلُهُ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الرَّقِيقُ: فَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ إلَى الإِسْلاَمِ وَاجِبٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَمِنْ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الإِسْلاَمِ كَوْنُ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَةِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ، وَمِنْ الأَسْبَابِ الْمُبْعِدَةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ كَوْنُهُمَا عِنْدَ كَافِرٍ يُقَوِّي بَصَائِرَهُمَا فِي الْكُفْرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/29)


ولا يحل بيع ممن يوقن أنه يعصى الله
...
1542- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ بِهِ أَوْ فِيهِ، وَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا. كَبَيْعِ كُلِّ شَيْءٍ يُنْبَذُ أَوْ يُعْصَرُ مِمَّنْ يُوقَنُ بِهَا أَنَّهُ يَعْمَلُهُ خَمْرًا. وَكَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يُدَلِّسُ بِهَا. وَكَبَيْعِ الْغِلْمَانِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِمْ أَوْ يُخْصِيهِمْ. وَكَبَيْعِ الْمَمْلُوكِ

(9/29)


ومن باع شيئا جزافا يعلم كيله أو وزنه
...
1543 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا جُزَافًا كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ عَدَدُهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ، عَنْ هَذَا الْبَيْعِ نَهْيٌ فِي نَصٍّ أَصْلاً، وَلاَ فِيهِ غِشٌّ، وَلاَ خَدِيعَةٌ وَمَنَعَ مِنْهُ: طَاوُوس، وَمَالِكٌ وَأَجَازَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ، أَوْ زَرْعَهُ أَوْ عَدَدَهُ، وَلاَ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ مَنْ نَسَجَ الثَّوْبَ، وَلِمَنْ كَانَ، وَمَتَى نُسِجَ، وَأَيْنَ أُصِيبَ هَذَا الْبُرُّ، وَهَذَا التَّمْرُ وَلاَ يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مُخْطِئٌ وَقَائِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ". وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا جُزَافًا قَدْ عَلِمَ كَيْلَهُ حَتَّى يَعْلَمَ صَاحِبُهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فَاحِشُ الأَنْقِطَاعِ" . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ إِلاَّ الطَّعَامُ فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا: "قِسْنَا عَلَى الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ قلنا: فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَى الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُقْبَضَ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَأْتِ النَّصُّ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ.قلنا: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِلاَّ الطَّعَامُ فأما اتَّبِعُوا النَّصَّيْنِ مَعًا دُونَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا قِيسُوا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ، فَكَيْفَ وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالنَّهْيِ، عَنِ الْبَيْعِ فِي كُلِّ مَا اُبْتِيعَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ فَخَالَفُوهُ" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/30)


1544 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْحِيتَانِ - الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ - أَوْ الأُُتْرُجِّ - الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ - أَوْ الدُّلَّاعِ، أَوْ الثِّيَابِ، أَوْ الْخَشَبِ، أَوْ الْحَيَوَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جُزَافًا: حَلَالٌ لَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِبَارِ مِنْ الْحِيتَانِ، وَالْخَشَبِ، وَأَجَازَهُ فِي الصِّغَارِ - وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ -:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا بَيْعٌ حَلَالٌ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ فَاسِدٌ، إذْ لَمْ يَجِدْ الْكَبِيرَ الَّذِي مُنِعَ بِهِ مِنْ بَيْعِ الْجُزَافِ مِنْ الصَّغِيرِ الَّذِي أَبَاحَهُ بِهِ - وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ حَرَّمَ وَحَلَّلَ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ مَا الْحَرَامُ فَيَجْتَنِبُهُ مَنْ يَبِيعُهُ، وَمَا الْحَلَالُ فَيَأْتِيهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ

(9/30)


1545 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ أَلْبَانِ النِّسَاءِ جَائِزٌ.وَكَذَلِكَ الشُّعُورُ، وَبَيْعُ الْعَذِرَةِ وَالزِّبْلِ لِلتَّزْبِيلِ، وَبَيْعُ الْبَوْلِ لِلصَّبَّاغِ : جَائِزٌ وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ هَذَا.
قال أبو محمد: "لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْلُبَ لَبَنَهَا فِي إنَاءٍ وَتُعْطِيَهُ لِمَنْ يَسْقِيهِ صَبِيًّا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا لَهُ، وَكُلُّ مَا صَحَّ مِلْكُهُ وَانْتِقَالُ الإِمْلاَكِ فِيهِ حَلَّ بَيْعُهُ"، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إِلاَّ مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا وَأَمَّا الشُّعُورُ، وَالْعَذِرَةُ، وَالْبَوْلُ: فَكُلُّ ذَلِكَ يُطْرَحُ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ أَحَدٌ: هَذَا عَمَلُ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِذَا تُمُلِّكَ لأََحَدٍ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا ذَكَرْنَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَمْتِعَ بِشُعُورِ النَّاسِ، كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ.

(9/31)


1546 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ النَّحْلِ، وَدُودِ الْحَرِيرِ، وَالضَّبِّ، وَالضَّبُعِ: جَائِزٌ حَسَنٌ: أَمَّا الضَّبُّ وَالضَّبُعُ: فَحَلاَلٌ أَكْلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَصَيْدٌ مِنْ الصَّيُودِ، وَمَا جَازَ تَمَلُّكُهُ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا النَّحْلُ، وَدُودُ الْحَرِيرِ: فَلَهُمَا مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَهُمَا مَمْلُوكَانِ: فَبَيْعُهُمَا جَائِزٌ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّحْلِ، وَدُودِ الْقَزِّ وَأَمَّا مَا عَسَّلَتْ النَّحْلُ فِي غَيْرِ خَلاَيَا مَالِكِهَا: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ بَعْضَهَا، وَلاَ مُتَوَلِّدًا مِنْهَا كَالْبَيْضِ، وَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، لَكِنَّهُ كَسْبٌ لَهَا، كَصَيْدِ الْجَارِحِ، وَهُمَا غَيْرُ النَّحْلِ وَالْجَارِحِ: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا وَضَعَتْ فِي خَلاَيَا صَاحِبِهَا فَلَهُ، لأََنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَ الْخَلاَيَا، فَمَا صَارَ فِيهَا فَهُوَ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ حِبَالَةً لِلصَّيْدِ، أَوْ قُلَّةً لِلْمَاءِ، أَوْ حَظِيرًا لِلسَّمَكِ فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ، لأََنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِوَضْعِ مَا ذَكَرْنَا لَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/31)


1547 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ الْحَرِيرِ جَائِزٌ، وَقَالَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَرِهَ التِّجَارَةَ فِي الشَّابِرِيِّ الرَّقِيقِ، وَالْحَرِيرِ وَلُبْسَهُ. جَاءَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ

(9/31)


وابتياع ولد الزنا والزانية حلالا
...
1548 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ وَلَدِ الزِّنَى، وَالزَّانِيَةِ حَلاَلٌ .رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "وَلَدُ الزِّنَى لاَ تَبِعْهُ، وَلاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَأْكُلْ ثَمَنَهُ".قَالَ عَلِيٌّ: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَقَدْ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِبَيْعِ الأَمَةِ الْمَحْدُودَةِ فِي الزِّنَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ إذَا زَنَتْ الرَّابِعَةَ".

(9/32)


1549 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَاتِ كُلِّهَا حَلاَلٌ إذَا دُبِغَتْ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ وَأَمَّا شَعْرُهُ وَعَظْمُهُ فَلاَ. وَلاَ يَحِلُّ عِظَامُ الْمَيْتَةِ أَصْلاً وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ بَيْعِ جُلُودِهَا وَإِنْ دُبِغَتْ وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ بَيْعَ صُوفِ الْمَيْتَةِ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَّا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ إنَّهَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَأَمَرَ عليه السلام بِأَنْ يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ، وَالْبَيْعُ مَنْفَعَةٌ بِلاَ شَكٍّ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّحْلِيلِ، وَخَارِجٌ، عَنِ التَّحْرِيمِ إذْ لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أَمَّا الْخِنْزِيرُ: فَحَرَامٌ كُلُّهُ، حَاشَا طَهَارَةَ جِلْدِهِ بِالدِّبَاغِ فَقَطْ. وَمِنْ عَجَائِبِ احْتِجَاجِ الْمَالِكِيِّينَ هَهُنَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْجِلْدَ يَمُوتُ، وَكَذَلِكَ الرِّيشُ تُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَلاَ يَمُوتُ فَلَوْ عُكِسَ قَوْلُهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: بَلْ الْجُلُودُ لاَ تَمُوتُ وَكَذَلِكَ الرِّيشُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَتُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَنْفَصِلُونَ، وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى كَدَعْوَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ، وَأَبَاحَ الأَنْتِفَاعَ بِعَظْمِ الْفِيلِ وَبَيْعَهُ: طَاوُوس، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/32)


وبيع المكاتب قيل أن يودى شيئا من كتابته
...
1550 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ جَائِزٌ، وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَدَّى مِنْهَا شَيْئًا حَرُمَ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى، وَجَازَ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ، وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ، وَبَقِيَ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى حُرًّا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَدَّى عُشْرَ كِتَابَتِهِ، فَإِنَّ عُشْرَهُ حُرٌّ وَيَجُوزُ بَيْعُ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ جُزْءٍ كَثُرَ أَوْ قَلَّ وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ

(9/32)


1551 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ، حَلاَلٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِغَيْرِ دَيْنٍ لاَ كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِالْبَيْعِ، كَمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِبَيْعِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وقال أحمد: "يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ كَمَا قلنا، وَلاَ تُبَاعُ الْمُدَبَّرَةُ. وَهَذَا تَفْرِيقٌ لاَبرهان عَلَى صِحَّتِهِ"، وقال مالك: "لاَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ، وَلاَ الْمُدَبَّرَةُ إِلاَّ فِي الدَّيْنِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ بِيعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يُبَاعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُدَبِّر، وَبِيعَا فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثَ الْمُدَبَّرُ، وَلاَ دَيْنَ هُنَالِكَ أُعْتِقَ مِنْهُ مَا يَحْمِلُ الثُّلُثَ وَرَقَّ" سَائِرُهُ. قَالَ: فَإِنْ بِيعَ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ دَيْنٍ فَأَعْتَقَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَجَازَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا فَمَا يَحِلُّ بَيْعُهُ لاَ فِي دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ أُعْتِقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ كَمَا لاَ تُبَاعُ أُمُّ الْوَلَدِ، وَلاَ يَنْفُذُ بَيْعُهَا وَإِنْ أُعْتِقَتْ وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَلاَلاً فَمَا يَحْرُمُ مَتَى شَاءَ سَيِّدُهُ بَيْعَهُ. وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ حُجَّةً لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.وقال أبو حنيفة: "لاَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ لاَ فِي دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ دَيْنٍ لاَ فِي الْحَيَاةِ، وَلاَ بَعْدَ الْمَوْتِ" وَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ اسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَقَالَ زُفَرُ: "هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَاسْتَسْعُوهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ".
قال أبو محمد: "وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا" خَبَرٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ مُوسَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثِقَةٌ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدَةَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُدَبَّرُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ" وَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ، لأََنَّ عَبْدَ الْبَاقِي رَاوِي

(9/35)


كُلِّ بَلِيَّةٍ، وَقَدْ تُرِكَ حَدِيثُهُ، إذْ ظَهَرَ فِيهِ الْبَلاَءُ. ثُمَّ سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ إلَى أَيُّوبَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ مَجْهُولُونَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ إنْ كَانَ هُوَ السِّنْجَارِيَّ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ قَدْ خَالَفُوهُ. وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرُ نَصِيبَهُ: فَإِنَّ عَلَى الَّذِي دَبَّرَ نَصِيبَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ الَّذِي أَعْتَقَ حِصَّتَهُ وَهَذَا بَيْعٌ لِلْمُدَبَّرِ فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ الْمَوْضُوعَ مَعَ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ. وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرُ مِمَّنْ يَرُدُّ حَدِيثَ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ، وَحَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثَ النَّهْيِ، عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ، مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا وَانْتِشَارِهَا ثُمَّ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْكَذِبَةِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ، أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ بَيْعَ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ: مَا لَهُمْ أَثَرٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي أَوْلاَدِ الْمُدَبَّرَةِ: إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا مَا نَرَاهُمْ إِلاَّ أَحْرَارًا، وَوَلَدُهَا كَذَلِكَ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا فِي الأَعْرَابِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَبَعَثَ فِي طَلَبِ الْجَارِيَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَأَخَذَ الثَّمَنَ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مَكَانَهَا عَلَى تَدْبِيرِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
أَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَسَاقِطٌ، لأََنَّ الزُّهْرِيَّ، وَرَبِيعَةَ، لَمْ يُولَدَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَزِيَادَةً، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَيْضًا فَفِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوُجُوه أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ خَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْهَا، وَلاَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا، وَهَذَا تَنَازُعٌ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَ التَّنَازُعِ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا يُبِيحَانِ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الثَّمَنَ فَابْتَاعَ بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْفَاسِدِ، الظَّاهِرِ الْعَوَارِ، إذْ يَحْرُمُ بَيْعُ مَمْلُوكَةٍ مِنْ أَجْلِ مَمْلُوكَةٍ أُخْرَى بِيعَتْ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا. وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَنْ بَاعَ حُرًّا أَنْ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ مَكَانَهُ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَكَيْفَ إنْ ذَهَبَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ بِهِ رَقَبَةٌ أَوْ وُجِدَتْ بِهِ رِقَابٌ أَوْ وُجِدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ أَنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأُُخْرَى مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا، وَلَعَلَّ هَذِهِ تَمُوتُ مَمْلُوكَةً، فَكَيْفَ

(9/36)


الْعَمَلُ أَوْ لَعَلَّهَا تَعِيشُ وَتَمُوتُ الْمَبِيعَةُ مَمْلُوكَةً فَكَيْفَ الْعَمَلُ فِي هَذَا التَّخْلِيطِ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَأَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ: فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيهٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدٌ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا فِيهِ حُكْمُ وَلَدِهَا إنْ عَتَقَتْ هِيَ فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ لَهُمْ حَيَاءٌ مَا مَوَّهُوا فِي الدِّينِ بِمِثْلِ هَذَا، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ جَابِرٍ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يُرَقُّونَ بِرِقِّهَا، وَيُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا". وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَهَذَا جَابِرٌ يَرَى إرْقَاقَ الْمُدَبَّرَةِ فإن قيل: "هَذَا مُرْسَلٌ" قلنا: "بِالْمُرْسَلِ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْنَا فَخُذُوهُ أَوْ فَلاَ تَحْتَجُّوا بِهِ".وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّمَا فِيهِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ، كَمَا رُوِّينَا بِأَصَحِّ سَنَدٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ يَطَأُ الرَّجُلُ وَلِيدَةً إِلاَّ وَلِيدَةً إنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَبَّرَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ، فَكَانَ يَطَؤُهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ مِنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ وَطْئِهَا كَذَبُوا، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَتَهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَقُلْت لَهُ: "لِمَ تَكْرَهُهُ" فَقَالَ: لِقَوْلِ عُمَرَ: "لاَ تَقْرَبْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ لأََحَدٍ". فَظَهَرَ فَسَادُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ جَاءَ عَنْهُمْ، وَمَوَّهُوا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الْمُدَبَّرِ، وَاسْمِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.
قال أبو محمد: "وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ برهان، وَلَيْسَ كُلُّ اسْمَيْنِ اخْتَلَفَا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهُمَا وَحُكْمُهُمَا إذَا وُجِدَا فِي اللُّغَةِ مُتَّفِقِي الْمَعْنَى: فَإِنَّ " الْمُحَرَّرَ، وَالْمُعْتَقَ " اسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، " وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ " كَذَلِكَ، " وَالزَّوَاجُ، وَالنِّكَاحُ " كَذَلِكَ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمُ الْفَاسِدُ لَكَانَ الْوَاجِبُ إذَا جَاءَ فِيهِمَا نَصٌّ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ الأَسْمَيْنِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا،وَلاَ يُبَاعَ الآخَرُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ اسْمُ: الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ، وَكِلاَهُمَا يُبَاعُ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ أَصْلاً وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ مُتَمَلَّكٍ جَائِزٌ إِلاَّ مَا فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِهِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ

(9/37)


فَبَيْعُهُمَا حَلاَلٌ. وَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ" .وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ غُلاَمًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَبْتَاعُهُ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ" قَالَ جَابِرٌ: غُلاَمٌ قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ وَأَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ: فَهَذَا أَثَرٌ مَشْهُورٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ وَأَمْرٌ كَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، كُلُّهُمْ مُسَلِّمٌ رَاضٍ، فَلَوْ ادَّعَى الْمُسْلِمُ هَهُنَا الإِجْمَاعَ لَمَا أَبْعَدَ، لاَ كَدَعَاوِيهِمْ الْكَاذِبَةِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَذِبِ: بَيْعٌ فِي دَيْنٍ، وَإِلَّا فَلأََيِّ وَجْهٍ بِيعَ.فَقُلْنَا: "كَذَبْتُمْ وَأَفَكْتُمْ، وَإِنَّمَا بِيعَ"، لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمُدَبِّرِهِ مَالٌ غَيْرُهُ، فَلِهَذَا بَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَيْعُهُ مُبَاحٌ لاَ وَاجِبٌ كَسَائِرِ مَنْ تَمَلَّكَ.وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ قَبْل أَنْ يُدَبَّرَ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُدَبَّرَ فَقَدْ أَبْطَلَ وَادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَصَحَّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بِصِفَةٍ لاَ يَدْرِي أَيُدْرِكُهَا الْمُعْتَقُ بِهَا أَمْ لاَ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ مَجِيءِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْمُدَبَّرُ مُوصًى بِعِتْقِهِ، كِلاَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ فَوَاجِبٌ إنْ صَحَّ الْقِيَاسُ أَنْ يُبَاعَ الْمُدَبَّرُ كَمَا يُبَاعُ الآخَرَانِ، وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ. وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالاَ جَمِيعًا: الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ.وبه إلى مَعْمَرٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، قَالَ: "سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ الْمُدَبَّرِ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ أَبِي فِيهِ، أَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ" فَقُلْت: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: يَبِيعُهُ إنْ احْتَاجَ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ طَاوُوس لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَعُودَ الرَّجُلُ فِي عَتَاقَتِهِ قَالَ عَمْرٌو: يَعْنِي التَّدْبِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ يَرْجِعُ فِيهِ إذَا شَاءَ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ: يُعَادُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَفِي كُلِّ وَصِيَّةٍ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ: كَرَاهِيَةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ يَبِيعُهُ الْجَرِيءُ، وَيَرَعُ عَنْهُ الْوَرِعُ.

(9/38)


قال أبو محمد: "بَلْ يَبِيعُهُ الْوَرِعُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقِفُ عَنْهُ الْجَاهِلُ وَتَاللَّهِ مَا تُخَافُ تَبِعَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرٍ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي تَحْرِيمِنَا مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ، أَوْ فِي تَوَقُّفِنَا فِيهِ خَوْفَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا. قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ مِمَّا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلاَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".

(9/39)


1552 مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا حَمَلَتْ بِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ حَلاَل ٌ وَبَيْعُ مَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ أَنْ تُكَاتَبَ وَبَعْدَ أَنْ كُوتِبَتْ مَا لَمْ تُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا: حَلاَلٌ. وَبَيْعُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ: حَلاَلٌ. هَذَا كُلُّهُ لاَ خِلاَفَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، إِلاَّ مَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ.وَأَمَّا مَا وَلَدَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ: فَحَرَامٌ بَيْعُهُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ أُمِّهِ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ مَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ بَعْدَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا فِي " كِتَابِ الْمُكَاتَبِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ الَّتِي تَحْمِلُ بِهِ بَعْدَ التَّدْبِيرِ: هُوَ أَنَّهُ وَلَدُ أَمَةٍ جَائِزٌ بَيْعُهَا، فَهُوَ عَبْدٌ، لأََنَّ وَلَدَ الأَمَةِ عَبْدٌ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا هَذَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ لاَ عِتْقَ لَهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَطَاءٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ عَبِيدٌ، وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ ثُمَّ أَدْرَكَهَا الْعِتْقُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَهُ فَهُوَ حُرٌّ مَعَهَا مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ السَّيِّدُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ: مِنْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَهُوَ تَبَعٌ لَهَا.وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
قال أبو محمد: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلاَفَهُمْ لِطَوَائِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، كَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لِدَارٍ وَاشْتِرَاطَ سُكْنَاهَا مُدَّةَ عُمُرِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا.وَأَمَّا وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُمْ، لأََنَّهَا حَرَامٌ بَيْعُهَا وَهُوَ إذَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْضُهَا: فَحَرَامٌ بَيْعُهُ، وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ بِيَقِينٍ فَلاَ يَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي

(9/39)


جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهَا.فَإِنْ ذَكَرُوا " كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا " فَهُوَ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا فِي وَلَدِ الْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، وَوَلَدُ الْمُعْتَقَةِ إلَى أَجَلٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/40)


1553 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بِصِفَةٍ : حَلاَلٌ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْعِتْقُ بِحُلُولِ تِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا، فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُصْبِحْ الْغَدُ، أَوْ كَمَنْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ إذَا أَفَاقَ مَرِيضِي: فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُفِقْ مَرِيضُهُ، لأََنَّهُ عَبْدٌ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِتْقَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِمْ.وقال مالك: "كَذَلِكَ فِي الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ تَكُونَ، وَلَمْ يَقُلْهُ فِي الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ.فَقُلْنَا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا إِلاَّ أَنَّهُ حَتَّى الآنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى وَاحْتِجَاجٌ لِقَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِمْ".

(9/40)


وجائز لمن أتى السوق من أهله ومن غير أهله
...
1554 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِمَنْ أَتَى السُّوقَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي السُّوقِ، وَبِأَكْثَرَ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لأََهْلِ السُّوقِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ لِلسُّلْطَانِ وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ.
قال علي: "وهذا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ التَّرْخِيصِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُبِيحُونَ لَهُ التَّغْلِيَةَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَا نَعْلَمُ قَوْلَهُمْ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ. ثُمَّ زَادُوا فِي الْعَجَبِ وَاحْتَجُّوا بِاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَأَمَّا أَنْ تَرْفَعَ، عَنْ سُوقِنَا".
قال علي: "هذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ كَإِجْبَارِهِ بَنِي عَمٍّ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِمْ وَكَعِتْقِهِ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ إذَا مَلَكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، لأََنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ إِلاَّ نَعْيَهُ النُّعْمَانَ بْنَ مُقْرِنٍ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ أَخْطَئُوا فِيهِ عَلَى عُمَرَ، فَتَأَوَّلُوهُ بِمَا لاَ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، يُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ مِنْ الْمَكَايِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا تَبِيعُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ هَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ مُبَيَّنًا
كَمَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَبِيعُ الزَّبِيبَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَبِيعُ يَا حَاطِبٌ فَقَالَ: مُدَّيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَبْتَاعُونَ بِأَبْوَابِنَا، وَأَفْنِيَتِنَا

(9/40)


ومن ابتاع سلعة في السوق فلا يحل أن يحكم عليه بشر كفيها
...
1555 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُشْرِكُهُ فِيهَا أَهْلُ تِلْكَ السُّوقِ، وَهِيَ لِمُشْتَرِيهَا خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ.وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: "يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُشْرِكُوهُ فِيهَا وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ غَيْرَهُمْ وَهُوَ ظُلْمٌ ظَاهِرٌ، وَيُبْطِلُهُ" قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَلَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ إِلاَّ مَعَ هَذَا الْمُبْتَاعِ لاَ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ بِهِ لِغَيْرِهِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. بَلْ قَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ الْحُكْمُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بِهَذَا فِي غَيْرِهِمْ لاَ لَهُمْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "قَدِمَ الْمَدِينَةَ طَعَامٌ فَخَرَجَ أَهْلُ السُّوقِ إلَيْهِ فَابْتَاعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَفِي سُوقِنَا هَذَا تَتَّجِرُونَ أَشْرِكُوا النَّاسَ، أَوْ اُخْرُجُوا فَاشْتَرُوا ثُمَّ ائْتُوا فَبِيعُوا".
قال علي: "وهذا الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ أَعْظَمُ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لأََنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَةِ مِنْ السُّوقِ يَتَوَاطَئُونَ عَلَى إمَاتَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي يَبِيعُهَا الْجَالِبُ أَوْ الْمُضْطَرُّ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَزِيدُوا فِيهَا، وَيَتْرُكُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ يَسُومُهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمُضْطَرُّ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا وَاجِبٌ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لأََنَّهُ غِشٌّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا" .

(9/41)


ولا يجوز البيع بالبراءة من كل عيب ولا على أن لا يقوم على العيب
...
1556 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَلاَ عَلَى أَنْ لاَ يُقَوَّمَ عَلَيَّ بِعَيْبٍ وَالْبَيْعُ هَكَذَا فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْبَرَاءَةِ، وَلَمْ يَرَ لِلْمُشْتَرِي الْقِيَامَ بِعَيْبٍ أَصْلاً عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ سُفْيَانُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: إلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعُيُوبِ عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ إِلاَّ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ عُيُوبِ الْحَيَوَانِ الْمَبِيعِ، وَلاَ يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ عُيُوبِهِ فَكَتَمَهُ. وَلِمَالِكٍ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: "أَحَدُهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ حَرْفًا حَرْفًا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ.وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِذَلِكَ إِلاَّ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً، فَيَبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ وَلاَ يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَ

(9/41)


1557 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ كُتُبِ الْعُلُومِ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا

(9/44)


لأََنَّ الَّذِي يُبَاعُ إنَّمَا هُوَ الرَّقُّ أَوْ الْكَاغَدُ أَوْ الْقِرْطَاسُ وَالْمِدَادُ، وَالأَدِيمُ إنْ كَانَتْ مُجَلَّدَةً وَحِلْيَةً إنْ كَانَتْ عَلَيْهَا فَقَطْ وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلاَ يُبَاعُ، لأََنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ، وَتَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ بِالأَرْشِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَجْلاَنَ هُوَ الأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت أَنَّ الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى الْحَرَشِيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْت فَتْحَ تُسْتَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَأَصَبْنَا دَانْيَالَ بِالسُّوسِ وَمَعَهُ رَبْعَةٌ فِيهَا كِتَابٌ، وَمَعَنَا أَجِيرٌ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ: تَبِيعُونِي هَذِهِ الرَّبْعَةَ وَمَا فِيهَا قَالُوا: إنْ كَانَ فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ كِتَابُ اللَّهِ لَمْ نَبِعْك قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَرِهُوا بَيْعَهُ، قَالَ: " فَبِعْنَاهُ الرَّبْعَةَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَوَهَبْنَا لَهُ الْكِتَابَ"، قَالَ قَتَادَةُ: "فَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ، لأََنَّ الأَشْعَرِيَّ وَالصَّحَابَةَ كَرِهُوا بَيْعَ ذَلِكَ الْكِتَابِ".
قال أبو محمد: "إنَّمَا كَرِهُوا الْبَيْعَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ وَهَبُوهُ لَهُ بِلاَ ثَمَنٍ".وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَمَسْرُوقًا، وَشُرَيْحًا، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَقَالُوا: "لاَ نَأْخُذُ لِكِتَابِ اللَّهِ ثَمَنًا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ"، عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ ذَكَرَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ شِرَاءَ الْمَصَاحِفِ وَبَيْعَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قُلْت لِعَلْقَمَةَ: أَبِيعُ مُصْحَفًا قَالَ: "لاَ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَحْسُ الدُّبُرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "لاَ يُورَثُ الْمُصْحَفُ": هُوَ لأََهْلِ الْبَيْتِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ:

(9/45)


كَانَ يَكْرَهُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا مَهْدُ بْنُ مَيْمُونٍ سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، عَنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ بِالأَجْرِ فَقَالَ: "كَرِهَ كُتَّابَهَا وَاسْتِكْتَابَهَا وَبَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سَالِمٍ هُوَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "بِئْسَ التِّجَارَةُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَشُعْبَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ قَالاَ جَمِيعًا: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ تَبِعْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اشْتَرِ، وَلاَ تَبِعْ يَعْنِي الْمَصَاحِفَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَفَّانَ أَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ قَالَ: اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَكَرِهَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ تَبِعْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ حَتَّى أَرْخَصَ لَهُ، فَهَؤُلاَءِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَكُلُّ مَنْ مَعَهُ مِنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عُمَرَ: سِتَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِإِطْلاَقٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَمِنْ التَّابِعِينَ الْمُسَمَّيْنَ: مَسْرُوقٌ، وَشُرَيْحٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، كُلُّهُمْ يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَلاَ يَرَاهُ سِوَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ وَمَا نَعْلَمُهُ رَوَى إبَاحَةَ بَيْعِهَا إِلاَّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُمَا، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَثَرَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ السَّمْحِ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَمْرٍو الأَيْلِيِّ قَالَ: كَانَ ابْنُ مُصَبِّحٍ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ وَيَبِيعُهَا، وَلاَ يُنْكَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالآخَرُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ بُكَيْرٍ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهَا يَتَّخِذُهَا مَتْجَرًا، وَلاَ يَرَى بَأْسًا بِمَا عَمِلَتْ يَدَاهُ

(9/46)


مِنْهَا أَنْ يَبِيعَهُ. ابْنُ حَبِيبٍ سَاقِطٌ، وَابْنُ مُصَبِّحٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَطَلْقُ بْنُ السَّمْحِ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَمْرٍو سَاقِطٌ وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَبُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ ضَعِيفٌ ثُمَّ هُمَا مُخَالِفَانِ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُصَبِّحٍ: أَنَّ عُثْمَانَ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَلاَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَّخِذَ بَيْعَهَا مَتْجَرًا. فَأَيْنَ الْمَالِكِيُّونَ، وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، وَالْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ وَافَقُوا هَهُنَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ عَنْهَا أَبْلَغَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ فِي ابْتِيَاعِهِ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَيْعِهِ إيَّاهُ مِنْ الَّتِي بَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَقَدْ خَالَفَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ.، وَلَمْ يَقُولُوا هَهُنَا فِيمَا صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ مِنْ إبَاحَةِ قَطْعِ الأَيْدِي فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ جُمْلَةً فَهَلاَّ قَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ"، وَلَكِنْ هَهُنَا يَلُوحُ تَنَاقُضُهُمْ فِي كُلِّ مَا تَحْكُمُوا بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ.وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَمْ قَلُّوا كَائِنًا مَنْ كَانَ الْقَائِلُ، لاَ نَتَكَهَّنُ فَنَقُولُ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَنَنْسُبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ جِهَارًا. وَالْحُجَّةُ كُلُّهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا حَلاَلٌ، إذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَلَوْ فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ لَحَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/47)


1558 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى حَالَّةً، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا فَلَهُ أَنْ يَبْتَاعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ مِثْلِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ مِنْهُ، وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ حَالًّا وَإِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَقْرَبَ مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ إلَيْهِ، أَوْ أَبْعَدَ وَمِثْلَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَنْ شَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ، عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَانِ بَيْعَانِ فَهُمَا حَلاَلاَنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلُ تَحْرِيمِهِمَا فِي كِتَابٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فَلَيْسَا بِحَرَامٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"

(9/47)


وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَا وَقَبَضَ السِّلْعَةَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ لَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ هُوَ الثَّمَنَ الَّذِي كَانَ اشْتَرَاهَا هُوَ بِهِ: فَالْبَيْعُ الثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ الَّذِي كَانَ ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِدَنَانِيرَ، وَكَانَ هُوَ قَدْ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ ابْتَاعَهَا بِدَنَانِيرَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا بِدَرَاهِمَ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّمَنِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهَا هُوَ مِنْهُ بِسِلْعَةٍ جَازَ ذَلِكَ كَانَ ثَمَنُهَا أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنْ ابْتَاعَهَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِثَمَنٍ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ: "وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْبَائِعِ الأَوَّلِ فَهُوَ يَحْرُمُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي التِّجَارَةِ الَّتِي تِلْكَ السِّلْعَةُ مِنْهَا"، وَعَلَى وَكِيلِهِ، وَعَلَى مُدَبَّرِهِ، وَعَلَى مُكَاتَبِهِ، وَعَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ, وقال مالك: "مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ ابْتَاعَهَا هُوَ مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الأَجَلِ لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً لَيْسَتْ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ بَاعَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَيْنَةِ وَقَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ فَإِنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، أَوْ بِسِلْعَةٍ تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، أَوْ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ بَائِعِهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، وَلاَ بِسِلْعَةٍ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ".
قال أبو محمد: "احْتَجَّ أَهْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ امْرَأَتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةَ بِنْتِ أَيْفَعَ بْنِ شُرَحْبِيلَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمِّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "إنِّي بِعْت غُلاَمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّك قَدْ أَبْطَلْت جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَمَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَمَا شَرَيْت قَالَتْ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ مَالِي قَالَتْ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ فَقَالُوا: مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلاَ فِيمَا سَبِيلُهُ الأَجْتِهَادُ فَصَحَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ". وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ

(9/48)


الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَيْسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَبِيعُ الْجَرِيرَةَ إلَى رَجُلٍ فَكَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا يَعْنِي بِدُونِ مَا بَاعَهَا. وَقَالُوا: "هِيَ دَرَاهِمُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا" وَقَالُوا: "هَذَانِ أَرَادَا الرِّبَا فَتَحَيَّلاَ لَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ مَا لَهُمْ شَيْءٌ شَغَبُوا بِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ".
فأما خَبَرُ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ فَفَاسِدٌ جِدًّا، لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولَةُ الْحَالِ، لَمْ يَرْوِ عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا، وَوَلَدُهَا يُونُسُ، عَلَى أَنَّ يُونُسَ قَدْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ بِأَقْبَحِ التَّضْعِيفِ وَضَعَّفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا، وَقَالَ فِيهِ شُعْبَةُ: أَمَا قَالَ لَكُمْ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَأَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمْ تَسْمَعْهُ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلاَ وَلَدُهَا: أَنَّهَا سَمِعَتْ سُؤَالَ الْمَرْأَةِ لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ جَوَابَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا، إنَّمَا فِي حَدِيثِهَا دَخَلْت عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا، وَأُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَسَأَلَتْهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السُّؤَالُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ، فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الأَنْصَارِيُّ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ اللَّخْمِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ الْقَاضِي أَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَرْوَانَ الْقَيْسَرَانِيُّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا لَهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، فَاحْتَاجَ فَابْتَاعَتْهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: "بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت مِرَارًا"، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ جِهَادُهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قَالَتْ: "فَإِنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ مَالِي قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ", وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ: "سَمِعْت امْرَأَةَ أَبِي السَّفَرِ تَقُولُ: سَأَلْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْت: بِعْت زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ خَادِمًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ بِئْسَ مَا شَرَيْت أَوْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ: أَفَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ مَالِي قَالَتْ: "لاَ بَأْسَ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ" فَبَيَّنَ سُفْيَانُ الدَّفِينَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْهُ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا رَوَتْهُ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ، وَهِيَ الَّتِي بَاعَتْ مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدٍ، وَهِيَ فِي الْجَهَالَةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنْ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَصَارَتْ مَجْهُولَةً عَنْ أَشَدَّ مِنْهَا جَهَالَةً وَنَكِرَةً فَبَطَلَ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَلَيْسَ بَيْنَ يُونُسَ، وَبَيْنَ سُفْيَانَ نِسْبَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْحِفْظِ، فَالرِّوَايَةُ مَا رَوَى سُفْيَانُ. وَالثَّالِثُ أَنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ عَلَى كَذِبِ هَذَا الْخَبَرِ وَوَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَصْلاً: مَا فِيهِ مِمَّا نُسِبَ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّهَا قَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ

(9/49)


أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَزَيْدٌ لَمْ يَفُتْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا غَزْوَتَانِ فَقَطْ بَدْرٌ، وَأُحُدٌ فَقَطْ، وَشَهِدَ مَعَهُ عليه السلام سَائِرَ غَزَوَاتِهِ، وَأَنْفَقَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَشَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالصِّدْقِ وَبِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَنَصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَوَاَللَّهِ مَا يُبْطِلُ هَذَا كُلَّهُ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ غَيْرُ الرِّدَّةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَطْ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَعَاذَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْبَاطِلَ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُوَضِّحُ كَذِبَ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ زَيْدًا أَتَى أَعْظَمَ الذُّنُوبِ مِنْ الرِّبَا الْمُصَرَّحِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ لَكَانَ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ أَجْرًا وَاحِدًا غَيْرَ آثِمٍ، وَلَكَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لأَبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ جِهَارًا يَدًا بِيَدٍ، وَمَا لِطَلْحَةَ رضي الله عنه إذْ أَخَذَ دَنَانِيرَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ثُمَّ أَخَّرَهُ بِالدَّرَاهِمِ فِي صَرْفِهَا إلَى مَجِيءِ خَازِنِهِ مِنْ الْغَابَةِ بِحَضْرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه: فَمَا زَادَ عُمَرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ، وَلاَ زَادَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى لِقَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ. وَمَا أَبْطَلَ عُمَرُ. وَلاَ أَبُو سَعِيدٍ بِذَلِكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً مِنْ عَمَلِ طَلْحَةَ. وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلاَ الْوَجْهَيْنِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ رِبًا صُرَاحٌ، وَلاَ شَيْءَ فِي الرِّبَا فَوْقَهُ. فَكَيْفَ يُظَنُّ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إبْطَالُ جِهَادِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي شَيْءٍ عَمِلَهُ مُجْتَهِدًا، لاَ نَصَّ فِي الْعَالَمِ يُوجَدُ خِلاَفُهُ، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ هَذَا وَاَللَّهِ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، فَلْيَتُبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يُحَرِّمُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ بَرَاهِينُ أَرْبَعَةٌ فِي بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَكْذُوبَةٌ ثم نقول: "إنَّهُ لَوْ صَحَّ صِحَّةَ الشَّمْسِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ"، وَمَا قَوْلُهَا بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ زَيْدٍ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْهُ إذَا تَنَازَعَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالرَّدِّ إلَى أَحَدٍ دُونَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ لَهُمْ كَمْ قَوْلَةٍ رَدَدْتُمُوهَا لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ كَبَيْعِهَا الْمُدَبَّرَةَ وَإِبَاحَتِهَا الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَاطَّرَحْتُمْ حُكْمَهَا وَتَعَلَّقْتُمْ بِمُخَالَفَةِ عُمَرَ لَهَا فِي الْمُدَبَّرَةِ وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ مَنْ قَدَّمَ ثِقْلَهُ مِنْ مِنًى قَبْلَ أَنْ يَنْفِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ، وَالأَشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ، فَأَطْرَحْتُمْ قَوْلَ عُمَرَ، وَلَمْ تَقُولُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ وَخَالَفْتُمُوهُ" لِقَوْلِ ابْنِهِ: لاَ أَعْرِفُ الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَمَرَّةً يَكُونُ قَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةً، وَمَرَّةً لاَ يُشْتَغَلُ بِهِ، وَمَرَّةً تَكُونُ عَائِشَةُ حُجَّةً عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعُمَرُ حُجَّةً عَلَى عَائِشَةَ، وَابْنُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى عُمَرَ، وَغَيْرُ ابْنِ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا هُوَ التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ وَبِالْحَقَائِقِ

(9/50)


وَالثَّالِثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَهَلاَّ قُلْتُمْ مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ كَمَا قُلْتُمْ هَهُنَا وَالرَّابِعُ أَنَّ مِنْ الضَّلاَلِ الْعَظِيمِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ عِنْدَهَا، رضي الله عنها، فِي هَذَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَثَرًا ثُمَّ تَكْتُمُهُ فَلاَ تَرْوِيهِ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى حَاشَا لَهَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكْتُمَ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَمَا حَصَلُوا إِلاَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْوِيلِهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، إذْ لَوْ قَالَهُ لَكَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ إلَى أُمَّتِهِ، وَالْكَذِبِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخَامِسُ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ بِقَوْلِهَا بِئْسَ مَا شَرَيْت وَالْمَالِكِيُّونَ يُبِيحُونَهُ بِمِثْلِ هَذَا، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا نِصْفُ كَلاَمِهَا حُجَّةٌ وَنِصْفُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالسَّادِسُ أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ خَدِيجِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أُمِّ مَحَبَّةَ خَتَنَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا نَذَرَتْ مَشْيًا إلَى مَكَّةَ فَعَجَزَتْ فَقَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكِ ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا أَعْظَمُ فِي نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ لاَ حُجَّةَ فِيهَا فَهِيَ تِلْكَ نَفْسُهَا أَوْ مِثْلُهَا، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أُمِّ مَحَبَّةَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ حُجَّةً فَهَذَا حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ التَّنَاقُضُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الأَحْتِجَاجِ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "ذُكِرَ لأَبْنِ عُمَرَ رَجُلٌ بَاعَ سَرْجًا بِنَقْدٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِد"َ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَعَلَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بَاعَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا", وَكَمْ قِصَّةٍ لأَبْنِ عَبَّاسٍ خَالَفُوهُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا آنِفًا فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قَاصَصَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهَا دَرَاهِمُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا فَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ جِدًّا، وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِهِمْ: مَا تَقُولُونَ فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ بِدِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ بِدِينَارَيْنِ؟ فَقَالَ: حَلاَلٌ فَقُلْت لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَاهُ بِدِينَارٍ رِبًا وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ، وَلَمْ يَجِبْ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهُ بِدِينَارَيْنِ أَنْ يَكُونَ رِبًا وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ، وَهَلْ فِي الْهَوَسِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَبِيعَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو دِينَارًا بِدِينَارَيْنِ فَيَكُونَ رِبًا، وَيَبِيعَ مِنْهُ دِينَارَيْنِ بِدِينَارٍ فَلاَ يَكُونُ رِبًا، لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ دِينٍ وَجَدْتُمْ هَذَا أَمْ فِي أَيِّ عَقْلٍ فَمَا أَتَى بِفَرْقٍ، وَلاَ يَأْتُونَ بِهِ أَبَدًا.وَأَمَا قَوْلُهُمْ: إنَّهُمَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْنَا فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا

(9/51)


الْعَمَلِ فَجَوَابُهُمْ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْتُمْ فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا الْعَمَلِ، فَبَارَكَ اللَّهُ فِيهِمَا، فَقَدْ أَحْسَنَا مَا شَاءَا إذْ هَرَبَا مِنْ الرِّبَا الْحَرَامِ إلَى الْبَيْعِ الْحَلاَلِ، وَفَرَّا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مَا أَحَلَّ، وَلَقَدْ أَسَاءَ مَا شَاءَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمَا، وَأَثِمَ مَرَّتَيْنِ لأَِنْكَارِهِ إحْسَانَهُمَا، ثُمَّ لِظَنِّهِ بِهِمَا مَا لَعَلَّهُمَا لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِمَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" .
وَأَمَّا أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ تَقْسِيمِهِمَا، وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَهُ يَرَى أَنَّهَا تَقَاسِيمُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَالتَّنَاقُضِ. كَتَفْرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِسِلْعَةٍ وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِدَنَانِيرَ، وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ وَكَتَحْرِيمِهِ ذَلِكَ عَلَى وَكِيلِهِ وَشَرِيكِهِ وَكَتَفْرِيقِ مَالِكٍ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَ بَاعَهَا بِهِ فَيَرَاهُ حَلاَلاً، وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِأَقَلَّ فَيَرَاهُ حَرَامًا، وَهَذِهِ عَجَائِبُ بِلاَ دَلِيلٍ كَمَا تَرَى ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْهَمَ أَنَّهُ أَخَذَ بِخَبَرِ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، لأََنَّهُ يَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ مَا لَمْ يَنْتَقِدْ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي خَبَرِ عَائِشَةَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/52)


1559 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ دُورِ مَكَّةَ أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَابْتِيَاعُهَا حَلاَلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.

(9/52)


وبيع الأعمى أو ابتاعياعه بالصفة جائز
...
1560 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الأَعْمَى، أَوْ ابْتِيَاعُهُ بِالصِّفَةِ جَائِزٌ كَالصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/52)


1561- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْعَبْدِ، وَابْتِيَاعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ جَائِزٌ، مَا لَمْ يَنْتَزِعْ سَيِّدُهُ مَالَهُ فَإِنْ انْتَزَعَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَالُ السَّيِّدِ، لاَ يَحِلُّ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ حَرَامًا لَفَصَّلَهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَنَا، وَلَمَا أَلْجَأَنَا فِيهِ إلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ وَالآرَاءِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ حَلاَلٌ غَيْرُ حَرَامٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الزَّكَاةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ صِحَّةَ مِلْكِ الْعَبْدِ لِمَالِهِ، وَأَمَّا انْتِزَاعُ السَّيِّدِ مَالَ الْعَبْدِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَسَأَلَ، عَنْ ضَرِيبَتِهِ فَأَمَرَ مَوَالِيَهِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ قَالَ ] "حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ" فَصَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لأََنَّهُ عليه السلام أَعْطَاهُ أَجْرَهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ وَصَحَّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَهُ بِأَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يُخَفِّفَ

(9/52)


1562 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ مُذْ تَبْلُغُ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَُبِ، وَغَيْرِ ذَاتِ الأَُبِ وَالثَّيِّبِ ذَاتِ الزَّوْجِ وَاَلَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا جَائِزٌ، وَابْتِيَاعُهَا كَذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي " كِتَابِ الْحَجْرِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.

(9/54)


ومن مالك معدنا له جاز بيعه
...
1563 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَلَكَ مَعْدِنًا لَهُ جَازَ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ بِذَهَبٍ، لِأَنَّهُ ذَهَبٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، إذْ الذَّهَبُ مَخْلُوقٌ فِي مَعْدِنِهِ كَمَا هُوَ هُوَ، جَائِزٌ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ [ وَبِغَيْرِ الْفِضَّةِ ] نَقْدًا وَإِلَى أَجَلٍ وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ فِضَّةٍ جَازَ بَيْعُهُ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ نَقْدًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى أَجَلٍ، لِأَنَّهُ لَا فِضَّةَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ تُرَابُهُ بِالطَّبْخِ فِضَّةً. وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَقَدْ أَجَازَ بَيْعَ النَّخْلِ لَا ثَمَرَ فِيهَا بِالتَّمْرِ نَقْدًا وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ وَنَسِيئَةً، وَالتَّمْرُ يَخْرُجُ مِنْهَا وَكَذَلِكَ أَبَاحَ بَيْعَ الأَُرْضِ بِالْبُرِّ، وَكُلُّ هَذَا سَوَاءٌ - وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.

(9/54)


1564 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْكَلاَِ جَائِزٌ فِي أَرْضٍ وَبَعْدَ قَلْعِهِ، لأََنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الأَرْضِ وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَهُوَ مِنْ مَالِهِ، كَالْوَلَدِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالثَّمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وقال أبو حنيفة: "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْكَلاَِ إِلاَّ بَعْدَ قَلْعِهِ".قَالَ عَلِيٌّ: وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً وَإِنَّمَا هُوَ تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ، وَدَعْوَى سَاقِطَةٌ فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَا أَبُو خِدَاشٍ " أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ غَزَوَاتٍ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ الْمَاءُ وَالْكَلاَُ وَالنَّارُ" وَرَوَاهُ أَيْضًا حُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيِّ وَهُوَ أَبُو خِدَاشٍ نَفْسُهُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَرْنٍ وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُرَيْرِيُّ قَالَ لِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا السُّحْتَ بَيْعَ الشَّجَرِ وَإِجَارَةَ الأَمَةِ الْمُسَافِحَةِ وَثَمَنَ الْخَمْرِ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ أَنَا أَبِي كَهْمَسٍ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُهَيْسَةَ، عَنْ أَبِيهَا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا الَّذِي لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ فَأَجَابَهُ: الْمَاءُ، وَالْمِلْحُ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ أَبُو خِدَاشٍ هُوَ حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيُّ نَفْسُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْحَنَفِيِّينَ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ أَوْلَى بِهِ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ النَّارِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ,وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ

(9/54)


1565 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الشِّطْرَنْجِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالْعِيدَانِ، وَالْمَعَازِفِ، وَالطَّنَابِيرِ: حَلاَلٌ كُلُّهُ، وَمَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صُورَةً مُصَوَّرَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، لأََنَّهَا مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهَا.وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَابْتِيَاعُهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ َرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ لاَ تَصِحُّ، أَوْ يَصِحُّ بَعْضُهَا، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، وَهِيَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،عَنْ أَبِي سَلاَمٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الأَزْرَقِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَبَاطِلٌ، إِلاَّ رَمْيَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ، أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، أَوْ مُلاَعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الأَزْرَقِ مَجْهُولٌ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَا أَبُو سَلاَمٍ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ لِي عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَهْوُ الْمُؤْمِنِ إِلاَّ ثَلاَثٌ .. ثُمَّ ذَكَرَهُ. خَالِدُ

(9/55)


بْنُ زَيْدٍ مَجْهُولٌ.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سَعِيدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَفْصٍ أَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَر: " أَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَعِبٌ، لاَ يَكُونُ أَرْبَعَةً: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السِّبَاحَةَ" هَذَا حَدِيثٌ مَغْشُوشٌ مُدَلَّسٌ دُلْسَةَ سُوءٍ، لأََنَّ الزُّهْرِيَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ ابْنَ شِهَابٍ، لَكِنَّهُ رَجُلٌ زُهْرِيٌّ مَجْهُولٌ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، هُوَ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ: رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ، إِلاَّ أَرْبَعَةً: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُهُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السِّبَاحَةَ" فَسَقَطَ هَذَا الْخَبَرُ.وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَغْوٌ وَسَهْو"ٌ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهُ سَهْوٌ وَلَغْوٌ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ َرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُغَنِّيَةَ وَبَيْعَهَا وَثَمَنَهَا وَتَعْلِيمَهَا وَالأَسْتِمَاعَ إلَيْهَا" فِيهِ: لَيْثٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي رَزِينٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ أَخِيهِ، وَمَا أَدْرَاك مَا عَنْ أَخِيهِ هُوَ مَا يُعْرَفُ وَقَدْ سُمِّيَ، فَكَيْفَ أَخُوهُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ أَنَا لاَحِقُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَقْدِسِيُّ قَدِمَ مَرْوَ أَنَا أَبُو الْمُرَجَّى ضِرَارُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَاضِي الْجِيلاَنِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ الْحِمْصِيُّ أَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا عَمِلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلاَءُ فَذَكَرَ مِنْهُنَّ وَاِتَّخَذُوا الْقَيْنَاتِ، وَالْمِعْزَفَ فَلْيَتَوَقَّعُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَمَسْخًا وَخَسْفًا" لاَحِقُ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَضِرَارُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحِمْصِيُّ مَجْهُولُونَ. وَفَرَجُ

(9/56)


بْنُ فَضَالَةَ حِمْصِيٌّ مَتْرُوكٌ، تَرَكَهُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلاَءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ كَيْسَانَ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا مُعَاوِيَةُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تِسْعٍ وَأَنَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُنَّ الآنَ فَذَكَرَ فِيهِنَّ: الْغِنَاءَ، وَالنَّوْحَ" مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ ضَعِيفٌ. وَكَيْسَانُ مَجْهُولٌ.وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنَا سَلاَمُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنْ شَيْخٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: "سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ" عَنْ شَيْخٍ عَجَبٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَا حَاتِمُ بْنُ حُرَيْثٍ،عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ" مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعَازِفِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اتِّخَاذِ الْقَيْنَاتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى اسْتِحْلاَلِهِمْ الْخَمْرَ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَالدِّيَانَةُ لاَ تُؤْخَذُ بِالظَّنِّ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحَضْرَمِيُّ الْقَاضِي أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلَّاصِ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ شَعْبَانَ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْغِمْرِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ بِحِمْصَ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ أَنَا عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ الْحَلَبِيُّ، هُوَ ابْنُ نُعَيْمٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: "مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ فَسَمِعَ مِنْهَا صَبَّ اللَّهُ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُرَكَّبٌ، فَضِيحَةٌ مَا عُرِفَ قَطُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَلاَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلاَ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَكُلُّ مَنْ دُونَ ابْنِ الْمُبَارَكِ إلَى ابْنِ شَعْبَانَ مَجْهُولُونَ. وَابْنُ شَعْبَانَ فِي الْمَالِكِيِّينَ نَظِيرُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ فِي الْحَنَفِيِّينَ، قَدْ تَأَمَّلْنَا حَدِيثَهُمَا فَوَجَدْنَا فِيهِ الْبَلاَءَ الْبَيِّنَ، وَالْكَذِبَ الْبَحْتَ، وَالْوَضْعَ اللَّائِحَ، وَعَظِيمَ الْفَضَائِحِ، فإما تَغَيَّرَ ذِكْرُهُمَا، أَوْ اخْتَلَطَتْ كُتُبُهُمَا وَإمَّا تَعَمَّدَا الرِّوَايَةَ، عَنْ كُلِّ مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ مِنْ كَذَّابٍ، وَمُغَفَّلٍ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ.
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَهُوَ ثَالِثَةُ الأَثَافِي: أَنْ يَكُونَ الْبَلاَءُ مِنْ قِبَلِهِمَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالصِّدْقَ وَصَوَابَ الأَخْتِيَارِ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شَعْبَانَ قَالَ: رَوَى هَاشِمُ بْنُ نَاصِحٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلاَ تُصَلُّوا عَلَيْهِ . هَاشِمٌ، وَعُمَرُ: مَجْهُولاَنِ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ عَائِشَةَ", وَحَدِيثٌ لاَ نَدْرِي لَهُ طَرِيقًا، إنَّمَا

(9/57)


ذَكَرُوهُ هَكَذَا مُطْلَقًا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: " نَهَى، عَنْ صَوْتَيْنِ مَلْعُونَيْنِ صَوْتِ نَائِحَةٍ، وَصَوْتِ مُغَنِّيَةٍ" وَهَذَا لاَ شَيْءَ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُطَرِّحِ بْنِ يَزِيدَ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ وَقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآيَةَ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَقِيرَةَ صَوْتِهِ بِغِنَاءٍ إِلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِهِ عَلَى صَدْرِهِ وَظَهْرِهِ حَتَّى يَسْكُتَ" إسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ، وَمُطَرِّحٌ مَجْهُولٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُحَرَ ضَعِيفٌ، وَالْقَاسِمُ ضَعِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ دِمَشْقِيٌّ مُطَّرَحٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأُُوَيْسِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ تَعْلِيمُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ، وَلاَ بَيْعُهُنَّ، وَلاَ اتِّخَاذُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَفَعَ رَجُلٌ عَقِيرَتَهُ بِالْغِنَاءِ إِلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى يَسْكُتَ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ تَعْلِيمَ الْمُغَنِّيَاتِ وَشِرَاءَهُنَّ، وَبَيْعَهُنَّ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهِنَّ" أَمَّا الأَوَّلُ: فَعَبْدُ الْمَلِكِ هَالِكٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ وَالثَّانِي: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْقَاسِمِ أَيْضًا، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأُُوَيْسِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي إبِلٌ، أَفَأَحْدُو فِيهَا قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَأُغَنِّي فِيهَا قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُغَنِّيَ أُذُنَاهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ يُرْغِمُهُ حَتَّى يَسْكُتَ. هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ، وَالْعُمَرِيُّ الصَّغِيرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ سُلَيْمُ بْنُ سَالِمٍ بَصْرِيٌّ أَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَحُجُّونَ قَالُوا: فَمَا بَالُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ وَالْقَيْنَاتِ، وَالدُّفُوفَ، وَيَشْرَبُونَ هَذِهِ الأَشْرِبَةَ فَبَاتُوا عَلَى لَهْوِهِمْ، وَشَرَابِهِمْ، فَأَصْبَحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ" هَذَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، وَلَمْ يُدْرَ مَنْ هُوَ
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَيْضًا أَنَا الْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ

(9/58)


أَنَا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: " تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، يَكُونُ فِيهَا خَسْفٌ، وَقَذْفٌ، وَيُبْعَثُ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ فَتَنْسِفُهُمْ، كَمَا نَسَفَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلاَلِهِمْ الْحَرَامَ، وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ، وَضَرْبِهِمْ الدُّفُوفَ، وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقِيَانَ" وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ لاَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ ضَعِيفٌ، نَعَمْ: وَسُلَيْمُ بْنُ سَالِمٍ، وَحَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو: لاَ أَعْرِفُهُمْ فَسَقَطَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ بِيَقِينٍ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْوِ الْمَعَازِفِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالأَوْثَانِ، وَالصُّلُبِ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ، وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ، وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ، وَلاَ التِّجَارَةُ بِهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ" نَعْنِي الضَّوَارِبَ الْقَاسِمُ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: أَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَوَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَصَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَلاَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَمَوْضُوعٌ، وَوَاللَّهِ لَوْ أُسْنِدَ جَمِيعُهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُ فَأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقِ الثِّقَاتِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ حَقًّا مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ لَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ مَنْ وَطِئَهُنَّ بِالشِّرَاءِ، وَأَنْ لاَ يَلْحَقَ بِهِ وَلَدُهُ مِنْهَا. ثُمَّ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ مِلْكِهِنَّ، وَقَدْ تَكُونُ أَشْيَاءُ يَحْرُمُ بَيْعُهَا وَيَحِلُّ مِلْكُهَا وَتَمْلِيكُهَا كَالْمَاءِ، وَالْهِرِّ، وَالْكَلْبِ. هَذَا كُلُّ مَا حَضَرَنَا ذِكْرُهُ مِمَّا أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا عَمَّنْ دُونَهُ عليه السلام: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآيَةَ، فَقَالَ: الْغِنَاءُ، وَاَلَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: الْغِنَاءُ، وَشِرَاءُ الْمُغَنِّيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: الْغِنَاءُ، وَنَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْكُوفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(9/59)


قَالَ: الدُّفُّ حَرَامٌ، وَالْمَعَازِفُ حَرَامٌ: وَالْمِزْمَارُ حَرَامٌ، وَالْكُوبَةُ حَرَامٌ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو وَكِيعٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَأْخُذُونَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ يَخْرِقُونَ الدُّفُوفَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: الْغِنَاءُ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانُ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ.
قال أبو محمد: "لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لأََحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَصَّ الآيَةِ يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا"، لأََنَّ فِيهَا { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وَهَذِهِ صِفَةٌ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ كَافِرًا، بِلاَ خِلاَفٍ، إذَا اتَّخَذَ سَبِيلَ اللَّهِ تَعَالَى هُزُوًا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأً اشْتَرَى مُصْحَفًا لِيُضِلَّ بِهِ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا لَكَانَ كَافِرًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَمَّ قَطُّ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيَلْتَهِيَ بِهِ وَيُرَوِّحَ نَفْسَهُ، لاَ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَغَلَ عَامِدًا، عَنِ الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ السُّنَنِ، أَوْ بِحَدِيثٍ يَتَحَدَّثُ بِهِ أَوْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِ، أَوْ بِغِنَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْ الْفَرَائِضِ اشْتِغَالاً بِمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُحْسِنٌ. وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: مِنْ الْحَقِّ الْغِنَاءُ أَمْ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ نَوَى" بِاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فَاسِقٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الْغِنَاءِ، وَمَنْ نَوَى بِهِ تَرْوِيحَ نَفْسِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُنَشِّطَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ فَهُوَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً فَهُوَ لَغْوٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَخُرُوجِ الإِنْسَانِ إلَى بُسْتَانِهِ مُتَنَزِّهًا، وَقُعُودِهِ عَلَى بَابِ دَارِهِ مُتَفَرِّجًا وَصِبَاغِهِ ثَوْبَهُ لاَزَوَرْدِيًّا أَوْ أَخْضَرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَدِّ سَاقِهِ وَقَبْضِهَا وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ بُطْلاَنًا مُتَيَقَّنًا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.

(9/60)


وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالْمَيْسِرِ يَعْنِي النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي مِثْلَ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِالْقَيْحِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يُصَلِّي أَفَنَقُولُ: يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَتَهُ" ؟ هَذَا مُرْسَلٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ سَاقِطٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ ضَعِيفٌ.
وهذا الخبر حُجَّةٌ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ. وَالْحَنَفِيِّينَ، الْقَائِلِينَ بِالْمُرْسَلِ، لأََنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِهِ فَيَنْقُضُونَ الْوُضُوءَ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنْ تَرَكُوهُ تَنَاقَضُوا وَتَلاَعَبُواَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى. وَعَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ سَلَمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشِّطْرَنْجُ مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِهَا، وَالنَّاظِرُ إلَيْهَا كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. ابْنُ حَبِيبٍ لاَ شَيْءَ، وَأَسَدٌ ضَعِيفٌ، وَحَبَّةُ بْنُ سَلَمٍ مَجْهُولٌ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا الْجُذَامِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَاحِبُ الشَّاهِ الَّذِي يَقُولُ: قَتَلْتُهُ، وَاَللَّهِ أَهْلَكْتُهُ، وَاَللَّهِ اسْتَأْصَلْتُهُ، وَاَللَّهِ إفْكًا وَزُورًا وَكَذِبًا عَلَى اللَّهِ" عَبْدُ الْمَلِكِ لاَ شَيْءَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ الْفَرَجِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أَعْبُدَ وَثَنًا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْعَبَ بِالشِّطْرَنْجِ هَذَا كَذِبٌ بَحْتٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ صَاحِبٌ إنَّ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الذُّنُوبِ فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ أَخَفَّ مِنْهَا وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لاَ شَيْءَ وَأَبُو قَبِيلٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِالْعَدَالَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، وَأَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ رِجَالِهِمَا: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِرِجَالٍ يَلْعَبُونَ بِشِطْرَنْجٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ لاََنْ يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ جَمْرَةً حَتَّى تُطْفَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا، لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْت بِهَا وُجُوهَكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا. هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ ابْنُ حَبِيبٍ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. وَالْجَوَابُ، عَنْ قَوْلِهِمْ أَهُوَ مِنْ الْحَقِّ أَمْ مِنْ الْبَاطِلِ كَجَوَابِنَا فِي الْغِنَاءِ، وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: "فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم تَفْصِيلٌ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا صَحَّ أَنَّهُ كُلُّهُ حَلاَلٌ مُطْلَقٌ" فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجْهَهُ وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ" وَبِهِ

(9/61)


أَيْضًا إلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ لِي: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمَا" فإن قيل: "قَدْ رَوَيْتُمْ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ "، عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ فِيهِ: "وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ "قلنا: "نَعَمْ"، وَلَكِنَّهَا قَدْ قَالَتْ: "إنَّهُمَا كَانَتَا تُغَنِّيَانِ فَالْغِنَاءُ مِنْهُمَا قَدْ صَحّ"َ، وَقَوْلُهَا " لَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ " أَيْ لَيْسَتَا بِمُحْسِنَتَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ إنَّمَا الْحُجَّةُ فِي إنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَوْلَهُ: أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ، لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ بِلاَ شَكٍّ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُدَانِيُّ أَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَنَأَى"، عَنِ الطَّرِيقِ وَقَالَ لِي: "يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا" قُلْتُ: " لاَ، فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ" وَقَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا وَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا".
قال أبو محمد: "هَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الأَسَانِيدِ، وَلَوْ كَانَ الْمِزْمَارُ حَرَامًا سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ عليه السلام لأَبْنِ عُمَرَ سَمَاعَهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ حَرَامًا سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ لِنَافِعٍ سَمَاعَهُ، وَلاََمَرَ عليه السلام بِكَسْرِهِ وَبِالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَمَا فَعَلَ عليه السلام شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا تَجَنَّبَ عليه السلام سَمَاعَهُ كَتَجَنُّبِهِ أَكْثَرَ الْمُبَاحِ مِنْ أَكْثَرِ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَتَجَنُّبِهِ الأَكْلَ مُتَّكِئًا، وَأَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ، وَأَنْ يُعَلِّقَ السُّتُرَ عَلَى سَهْوَةٍ فِي الْبَيْتِ وَالسُّتُرُ الْمُوَشَّى فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ، عَنِ النَّظَرِلارُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ رَأَى أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، وَقَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ، وَثَابِتَ بْنَ يَزِيدَ وَهُمْ فِي عُرْسٍ وَعِنْدَهُمْ غِنَاءٌ فَقُلْت لَهُمْ: هَذَا وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّهُ رَخَّصَ لَنَا فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ، وَالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ لَيْسَ فِيهِ النَّهْيُ، عَنِ الْغِنَاءِ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَسَلَمَةُ، هُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، كُلِّهِمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ

(9/62)


أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِجِوَارٍ فَأَتَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَعَرَضَهُنَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جَارِيَةً مِنْهُنَّ فَأَحْدَتْ، قَالَ أَيُّوبُ: "ِالدُّفِّ", وَقَالَ هِشَامٌ: "ِالْعُود"، حَتَّى ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ", فَسَاوَمَهُ، ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي غُبِنْتُ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ", فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ غُبِنَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فإما أَنْ تُعْطِيَهَا إيَّاهُ، وَأَمَّا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ بَيْعَهُ، فَقَالَ: بَلْ نُعْطِيهَا إيَّاهُ َهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ سَمِعَ الْغِنَاءَ وَسَعَى فِي بَيْعِ الْمُغَنِّيَةِ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ لاَ تِلْكَ الْمُلَفَّقَاتُ الْمَوْضُوعَةُ َمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ إِلاَّ التَّمَاثِيلَ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ لاَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمَكْذُوبَةُ الَّتِي رَوَاهَا مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ.فإن قيل: قَدْ رَوَى: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ قلنا: هَذَا سَاقِطٌ، لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ السَّبِيعِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ سَاقِطٌ، وَالسَّبِيعِيُّ مَجْهُولٌ، ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ.فإن قيل: الدُّفُّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قلنا: هَذَا الْبَاطِلُ: وَرُوِّينَا مِنْ أَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْجَوَارِي فِي الْمَدِينَةِ مَعَهُنَّ الدُّفُوفُ فَيُشَقِّقُونَهَا. وَقَدْ جَاءَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يُحْسِنَانِ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَانَ يُغَنِّي بِالْعُودِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/63)


1566 - مَسْأَلَةٌ: وَالْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَ يُرَدُّ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزٌ. وَابْتِيَاعُ الْمَرْءِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ جَائِزٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ لاَ تَصِحُّ: رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ وَكُلُّهُمْ مَجْهُولُونَ عَنْ عَلِيٍّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّحَلُّقِ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَعَنِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ هَذِهِ صَحِيفَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ بَيْعًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ فَأَرْبَحَ فِيهِ فَبَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ

(9/63)


عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ أَشْتَرِي بَعْدَهَا شَيْئًا إِلاَّ وَعِنْدِي ثَمَنُهُ سِمَاكٌ، وَشَرِيكٌ ضَعِيفَانِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَنْشُدُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ فَقُولُوا لَهُ: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ" لَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَلَكِنَّهَا كَرَاهِيَةٌ.

(9/64)


1567 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُكْرَةُ الْمُضِرَّةُ بِالنَّاسِ حَرَامٌ سَوَاءٌ فِي الأَبْتِيَاعِ أَوْ فِي إمْسَاكِ مَا ابْتَاعَ وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُحْتَكِرُ فِي وَقْتِ رَخَاءٍ لَيْسَ آثِمًا، بَلْ هُوَ مُحْسِنٌ، لأََنَّ الْجُلَّابَ إذَا أَسْرَعُوا الْبَيْعَ أَكْثَرُوا الْجَلْبَ، وَإِذَا بَارَتْ سِلْعَتُهُمْ وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا مُبْتَاعًا تَرَكُوا الْجَلْبَ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُصَحِّحُونَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ . قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْبِسُ، نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْ ثَمَرِهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ" فَهَذَا النَّبِيُّ عليه السلام قَدْ احْتَبَسَ قُوتَ أَهْلِهِ سَنَةً، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْثَرَفَصَحَّ أَنَّ إمْسَاكَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مُبَاحٌ، وَالشِّرَاءُ مُبَاحٌ وَالْمَذْكُورُ بِالذَّمِّ هُوَ غَيْرُ الْمُبَاحِ بِلاَ شَكٍّ، فَهَذَا الأَحْتِكَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ احْتِكَارٍ فَإِنَّهُ إمْسَاكٌ وَالأَحْتِكَارُ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إمْسَاكٍ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ بِالْمَنْعِ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ الْمَذْمُومُ حِينَئِذٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ. وَهَذَا لاَ يَصِحُّ، لأََنَّ أَصْبَغَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَثِيرَ بْنَ مُرَّةَ مَجْهُولاَنِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ

(9/64)


لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْرَقَ طَعَامًا اُحْتُكِرَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ حُبَيْشٌ أَحْرَقَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيَادِرَ بِالسَّوَادِ كُنْت احْتَكَرْتهَا، لَوْ تَرَكَهَا لَرَبِحْت فِيهَا مِثْلَ عَطَاءِ الْكُوفَةِ الْبَيَادِرُ أَنَادِرُ الطَّعَامِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَيَلْزَمُ مَنْ شَنَّعَ بِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَأْخُذَ بِهِ.

(9/65)


وان كان التجار االمسلمون اذا دخلوا أرض الحرب ...
...
1568 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ التُّجَّارُ الْمُسْلِمُونَ إذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ أُذِلُّوا بِهَا وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ ، فَالتِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ حَرَامٌ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَنَكْرَهُهَا فَقَطْ، وَالْبَيْعُ مِنْهُمْ جَائِزٌ إِلاَّ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَوَابَّ أَوْ سِلاَحٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَصْلاً، قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} فَالدُّخُولُ إلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَجْرِي عَلَى الدَّاخِلِ أَحْكَامُهُمْ وَهَنٌ وَانْسِفَالٌ وَدُعَاءٌ إلَى السَّلْمِ وَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَتَقْوِيَتُهُمْ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ، وَيُنَكَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُبَالَغُ فِي طُولِ حَبْسِهِ.

(9/65)


1569 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ الْعُيُوبِ فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَهِيَ صَفْقَةٌ مَفْسُوخَةٌ كُلُّهَا، لاَ خِيَارَ لَهُ فِي إمْسَاكِهَا إِلاَّ بِأَنْ يُجَدِّدَا فِيهَا بَيْعًا آخَرَ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا، لأََنَّ الْمَعِيبَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ السَّالِمِ، وَهُوَ إنَّمَا اشْتَرَى سَالِمًا فَأُعْطِيَ مَعِيبًا، فَاَلَّذِي أُعْطِيَ غَيْرُ الَّذِي اشْتَرَى فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَشْتَرِ، لأََنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلاَمًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/65)


1570 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ، وَلاَ بُيِّنَ لَهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَ عَيْبًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكٍ أَوْ رَدٍّ، فَإِنْ أَمْسَكَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأََنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِعَيْنِ مَا اشْتَرَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ رِضَاهُ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الصَّفْقَةِ، لأََنَّهُ وَجَدَ خَدِيعَةً وَغِشًّا وَغَبْنًا وَالْغِشُّ، وَالْخَدِيعَةُ: حَرَامَانِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مَا اشْتَرَى، وَيَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، لأََنَّهُ إنَّمَا لَهُ تَرْكُ الرِّضَا بِمَا غُبِنَ فِيهِ فَقَطْ، وَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ حَقًّا فِي مَالِ الْبَائِعِ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، بَلْ مَالُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ، لأََنَّ نَفْسَ الْمُعَامِلِ لَهُ لَمْ تَطِبْ لَهُ بِبَعْضِ مَا بَاعَ مِنْهُ دُونَ بَعْضٍ، وَلاَ يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ إِلاَّ بِتَرَاضٍ، أَوْ بِنَصٍّ يُوجِبُ إحْلاَلَهُ لِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَعِيبُ وَجْهَ

(9/65)


1571- مَسْأَلَةٌ: هَذَا حُكْمُ كُلِّ مَعِيبٍ حَاشَا الْمُصَرَّاةَ فَقَطْ ، فَإِنَّ حُكْمَهَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَهِيَ مَا كَانَ يُحْلَبُ مِنْ إنَاثِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ يَظُنُّهَا لَبُونًا فَوَجَدَهَا قَدْ رُبِطَ ضَرْعُهَا حَتَّى اجْتَمَعَ اللَّبَنُ، فَلَمَّا حَلَبَهَا افْتَضَحَ لَهُ الأَمْرُ: فَلَهُ الْخِيَارُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَلاَ بُدَّ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُصَرَّاةُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ لاَ يَرُدُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ صَاعًا وَاحِدًا مِنْ تَمْرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَاهَا بِكَثِيرٍ أَوْ بِقَلِيلٍ، وَلَوْ بِعُشْرِ صَاعِ تَمْرٍ. فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا يَوْمَ اشْتَرَاهَا حَاضِرًا رَدَّهُ كَمَا هُوَ حَلِيبًا أَوْ حَامِضًا فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ رَدَّ مَعَهَا لَبَنًا مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَخَضَهُ أَوْ عَقَدَهُ رَدَّهُ، فَإِنْ نَقَصَ عَنْ قِيمَتِهِ لَبَنًا رَدَّ مَا بَيْنَ النَّقْصِ وَالتَّمَامِ، لأََنَّهُ لَبَنُ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا حَدَثَ مِنْ اللَّبَنِ فِي كَوْنِهَا عِنْدَهُ، لأََنَّهُ حَدَثَ فِي مَالِهِ فَهُوَ لَهُ. فَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ آخَرَ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ التَّمْرِ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ فِي ضَرْعِهَا إذَا اشْتَرَاهَا، فَإِنْ انْقَضَتْ الثَّلاَثَةُ الأَيَّامُ، وَلَمْ يَرُدَّهَا بَعْدُ لَزِمَتْهُ، وَبَطَلَ خِيَارُهُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ آخَرَ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُصَرَّاةً، لأََنَّ التَّصْرِيَةَ هِيَ الْجَمْعُ وَهَذِهِ جُمِعَ لَبَنُهَا وَهِيَ أَيْضًا الْمُحَفَّلَةُ، لأََنَّهُ قَدْ حُفِّلَ لَبَنُهَا فِي ضَرْعِهَا.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً أَوْ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لاَ سَمْرَاءَ" السَّمْرَاءُ الْبُرُّ فَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ يَقْتَضِي كُلَّ مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَى سَائِرِ الأَخْبَارِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، ثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ قَالَ: إنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ" .
قال أبو محمد: رُوِّينَا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، وَثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا أَوْرَدْنَا وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُوسَى بْنُ يَسَارٍ وَأَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَالأَعْرَجِ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلاَءِ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَدَاوُد بْنُ قَيْسٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، وَمَعْمَرٌ، وَأَيُّوبُ، وَحَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ

(9/66)


1572 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ فَاتَ الْمَعِيبُ بِمَوْتٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ إيلاَدٍ أَوْ تَلَفٍ ، فَلِلْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ: الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، لأََنَّهُ إذَا لَمْ يَرْهَنْ وَأَخَذَ الْعَيْبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَبْنِ فَمَالُهُ حَرَامٌ عَلَى آخِذِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى رَدِّ الصَّفْقَةِ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِبَدَلِهِ مِنْ مَالِهِ, وَكَذَلِكَ مَنْ غُبِنَ فِي بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْغَبْنِ، وَلاَ بُدَّ, وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى زَرِيعَةً فَزَرَعَهَا فَلَمْ تَنْبُتْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَمَا هِيَ رَدِيئَةٌ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا نَابِتَةٌ، لأََنَّهَا قَدْ تَلِفَتْ عَيْنُهَا، فَإِنَّمَا لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْغَبْنِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَابِتَةٌ فَالصَّفْقَةُ

(9/70)


فَاسِدَةٌ وَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا إنْ لَمْ تُوجَدْ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


فا باعه فرد عليه لم يكن له أن يرد هو لكن يرجع ..
...
1573 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، لَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فَقَطْ، لأََنَّهُ قَدْ بَطَلَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ بِخُرُوجِ الْمَعِيبِ، عَنْ مِلْكِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَلَمْ يَجِبْ لَهُ إِلاَّ قِيمَةُ الْغَبْنِ فَقَطْ، وَمَا سَقَطَ حُكْمُهُ بِبُرْهَانٍ فَلاَ يَرْجِعُ إِلاَّ بِنَصٍّ يُوجِبُ رُجُوعَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


فان مات الذى له الرد قبل أن يلفظ بالردو
...
1574 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الرَّدُّ قَبْلَ أَنْ يَلْفِظَ بِالرَّدِّ، وَبِأَنَّهُ لاَ يَرْضَى: فَقَدْ لَزِمَتْ الصَّفْقَةُ وَرَثَتَهُ، لأََنَّ الْخِيَارَ لاَ يُورَثُ، إذْ لَيْسَ مَالاً، وَلأََنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْعَقْدِ، فَهُوَ عَلَى الرِّضَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} .

(9/71)


فان مات الذى يجب عليه به الرد هو ما حط من الثمن الذى اشترى به
...
1575 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ كَانَ لِوَاجِدِ الْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ عَلَى الْوَرَثَةِ، لأََنَّ لَهُ الرِّضَا أَوْ الرَّدَّ، فَلاَ يُبْطِلُهُ مَوْتُ الْغَابِنِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


والعيب الذى يجب به الرد هو هو ما حط من الثمن الذى اشترى به أو باع به
...
1576 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَيْبُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ: هُوَ مَا حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ أَوْ بَاعَ بِهِ مَالاً يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ ، لأََنَّ هَذَا هُوَ الْغَبْنُ، لاَ غَبْنَ غَيْرُهُ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى الشَّيْءَ بِثَمَنٍ هُوَ قِيمَتُهُ مَعِيبًا، أَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ هُوَ قِيمَتُهُ مَعِيبًا وَهُوَ لاَ يَدْرِي الْعَيْبَ ثُمَّ وَجَدَ الْعَيْبَ فَلاَ رَدَّ لَهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْبًا. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: "لَهُ الرَّدُّ" وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لأََنَّهُ ظُلْمٌ لِلْبَائِعِ، وَعِنَايَةٌ وَمُحَابَاةٌ لِلْمُشْتَرِي بِلاَ برهان، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.

(9/71)


1577 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ كَانَ قَدْ اشْتَرَى بِثَمَنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ حِينَ اشْتَرَاهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ غَلاَ حَتَّى صَارَ لاَ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ شَيْئًا، أَوْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ، فَلَهُ الرَّدُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ، لأََنَّهُ حِينَ الْعَقْدِ وَقَعَ عَلَيْهِ غَبْنٌ فَلَهُ أَنْ لاَ يَرْضَى بِالْغَبْنِ إذَا عَلِمَهُ، وَلاَ يُوجِبُ سُقُوطَ مَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


1578 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ سَلَمٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ فَلَمَّا قَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ مَا سَلَّمَ فِيهِ وَجَدَ عَيْبًا أَوْ اسْتَحَقَّ مَا أَخَذَ أَوْ بَعْضَهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الأَسْتِبْدَالُ فَقَطْ، لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ، إنَّمَا لَهُ صِفَةٌ، فَاَلَّذِي أُعْطِيَ هُوَ غَيْرُ حَقِّهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ، وَأَنْ يَطْلُبَ مَا لَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


1579 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلاً لِيَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا سَمَّاهُ، فَابْتَاعَهُ لَهُ بِغَبْنٍ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، أَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا عَيْبًا يَحُطُّ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ: فَلَهُ مِنْ الرَّدِّ، أَوْ الإِمْسَاكِ، أَوْ الأَسْتِبْدَالِ، أَوْ مِنْ فَسْخِ الصَّفْقَةِ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ سَوَاءً سَوَاءً، لأََنَّ يَدَ وَكِيلِهِ هِيَ يَدُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/71)


1580 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ الْعَيْبُ حَادِثٌ أَمْ كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَيْسَ عَلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ : بِاَللَّهِ مَا بِعْته إيَّاهُ وَأَنَا أَدْرِي فِيهِ هَذَا الْعَيْبَ وَيَبْرَأُ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ بِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ فَيُرَدُّ، لأََنَّ الصَّفْقَةَ بَيْعٌ، وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ بِالدَّعَاوَى وَلاَ بِالظُّنُونِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/72)


1581 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ سِلْعَةً وَاحِدَةً صَفْقَةً وَاحِدَةً فَوَجَدَ عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّ حِصَّةَ مَنْ شَاءَ وَيَتَمَسَّكَ بِحِصَّةِ مَنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ إنْ شَاءَ، أَوْ يُمْسِكَ الْكُلَّ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الآخَرِ، لأََنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ الآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

(9/72)


1582 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ فَصَاعِدًا سِلْعَةً مِنْ وَاحِدٍ فَوَجَدَا عَيْبًا فَأَيُّهُمَا شَاءَ أَنْ يَرُدَّ رَدَّ، وَأَيُّهُمَا شَاءَ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ صَفْقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَفْقَةِ الآخَرِ فَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّ الثَّمَنُ الَّذِي دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ، وَلاَ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عَقْدُ الآخَرِ فِي حِصَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/72)


1583 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَدْ كَانَ حَدَثَ عِنْدَهُ فِيهَا عَيْبٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَهُ الرَّدُّ، كَمَا قلنا، أَوْ الإِمْسَاكُ، وَلاَ يَرُدُّ مِنْ أَجْلِ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَلاَ مِنْ أَجْلِ مَا أَحْدَثَ هُوَ فِيهِ شَيْئًا، لأََنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَحَقِّهِ لَمْ يَتَعَدَّ، وَلاَ ظَلَمَ فِيهِ أَحَدًا، وَالْغَبْنُ قَدْ تَقَدَّمَ، فَلَهُ مَا قَدْ وَجَبَ لَهُ مِنْ رَدِّ الْغَبْنِ الَّذِي ظُلِمَ فِيهِ، وَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
.

(9/72)


1584 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً، أَوْ دَابَّةً، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ دَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَوَطِئَ الْجَارِيَةَ أَوْ افْتَضَّهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، أَوْ زَوَّجَهَا فَحَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ، وَأَنْضَى الدَّابَّةَ وَسَكَنَ الدَّارَ، وَاسْتَعْمَلَ مَا اشْتَرَى وَاسْتَغَلَّهُ، وَطَالَ اسْتِعْمَالُهُ الْمَذْكُورُ أَوْ قَلَّ، ثُمَّ وَجَدَ عَيْبًا، فَلَهُ الرَّدُّ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ الإِمْسَاكُ. وَلاَ يَرُدُّ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ اسْتِعْمَالِهِ لِذَلِكَ، لأََنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَفِي مَتَاعِهِ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَمَنْ لَمْ يَلُمْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَهُ ذَلِكَ فَهُوَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مُحْسِنٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَإِغْرَامُ الْمَالِ سَبِيلٌ مُسَبَّلَةٌ عَلَى مَنْ كُلِّفَهَا، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ كَسَائِرِ وَاجِدِي الْغَبْنِ فِي أَنَّ لَهُ الرِّضَا، أَوْ الرَّدَّ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

(9/72)


1585 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اطَّلَعَ فِيمَا اشْتَرَى عَلَى عَيْبٍ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ سَاعَةَ يَجِدُ الْعَيْبَ وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ ثُمَّ يَرُدَّهُ مَتَى شَاءَ طَالَ ذَلِكَ الأَمَدُ أَمْ قَرُبَ. وَلاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ بِالْوَطْءِ، وَالأَسْتِخْدَامِ، وَالرُّكُوبِ، وَاللِّبَاسِ، وَالسُّكْنَى، وَلاَ مُعَانَاتِهِ إزَالَةَ الْعَيْبِ، وَلاَ عَرْضِهِ إيَّاهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ، وَلاَ تَعْرِيضِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِلْبَيْعِ. وَلاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ إِلاَّ أَحَدُ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ لاَ سَادِسَ لَهَا، وَهِيَ نُطْقُهُ بِالرِّضَا بِإِمْسَاكِهِ، أَوْ خُرُوجُهُ كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ إيلاَدُ الأَمَةِ، أَوْ مَوْتُهُ، أَوْ ذَهَابُ عَيْنِ الشَّيْءِ أَوْ بَعْضِهَا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِ, وَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ.
وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: "هُوَ أَنَّ الرَّدَّ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ مُخَالِفِينَا"، وَبِمَا أَوْرَدْنَا مِنْ بَرَاهِينِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ وَإِيجَابِ النَّصِيحَةِ. فَهُوَ عَلَى مَا وَجَبَ لَهُ، لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ إِلاَّ نَصٌّ، أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِمَا هَهُنَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ رِضًا وَأَمَّا سُقُوطُ الرَّدِّ بِالرِّضَا أَوْ بِخُرُوجِ الشَّيْءِ أَوْ بَعْضِهِ، عَنِ الْمِلْكِ أَوْ بِذَهَابِ بَعْضِ عَيْنِهِ أَوْ كُلِّهِ أَوْ بِمَوْتِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي ذَهَابِ عَيْنِهِ أَوْ بَعْضِهَا مُمْتَنِعٌ مِنْهُ الرَّدُّ لِمَا اشْتَرَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَأَمَّا الإِيلاَدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَرْءِ أُمَّ وَلَدِهِ غَيْرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/73)


1586 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَ فِي عُمْقِهِ عَيْبًا، كَبَيْضٍ، أَوْ قِثَّاءٍ، أَوْ قَرْعٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَلَهُ الرَّدُّ، أَوْ الإِمْسَاكُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ، إِلاَّ بِكَسْرِهِ أَوْ شَقِّهِ، لأََنَّ الْغَبْنَ لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَحِلُّ، إِلاَّ بِرِضَا الْمَغْبُونِ وَمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِ الْغَبْنِ، وَطِيبِ نَفْسِهِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَائِعُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْصِدْ الْغِشَّ فَقَدْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَالُ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضًا مِنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَلاَ يُمْكِنُ وُجُودُ الرِّضَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.

(9/73)


1587 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَبُيِّنَ لَهُ بِعَيْبِ الإِبَاقِ أَوْ الصَّرْعِ، فَرَضِيَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ عَرَفَ مُدَّةَ الإِبَاقِ، وَصِفَةَ الصَّرْعِ أَوْ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ، لأََنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الإِبَاقِ إبَاقٌ. وَجَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّرْعِ صَرْعٌ، وَقَدْ رَضِيَ بِجُمْلَةِ إطْلاَقِ ذَلِكَ. فَلَوْ قُلِّلَ لَهُ الأَمْرُ فَوَجَدَ خِلاَفَ مَا بُيِّنَ لَهُ بَطَلَتْ الصَّفْقَةُ، لأََنَّهُ غَيْرُ مَا اشْتَرَى وَلَوْ وَجَدَ زِيَادَةً عَلَى مَا بُيِّنَ لَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي رَدٍّ أَوْ إمْسَاكٍ، لأََنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/73)


1588 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلاً عَلَى أَنَّ فِيهِ عَدَدًا مُسَمًّى مِنْ الثِّيَابِ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَطْلاً مِنْ سَمْنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوزَنُ، أَوْ كَذَا وَكَذَا تُفَّاحَةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ، أَوْ كَذَا وَكَذَا مُدًّا مِمَّا يُكَالُ أَوْ اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّ فِيهَا كَذَا وَكَذَا قَفِيزًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ شَيْئًا عَلَى أَنَّ فِيهِ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا، فَوَجَدَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ أَبَدًا، لأََنَّهُ أَخَذَ غَيْرَ مَا اشْتَرَى فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ لاَ بِتِجَارَةٍ، عَنْ تَرَاضٍ. وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ سَلِيمِ الْحِسِّ أَنَّ الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ خَمْسُونَ ثَوْبًا لَيْسَ هُوَ الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ ثَوْبًا، وَلاَ هُوَ أَيْضًا الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ وَاحِدٌ وَخَمْسُونَ ثَوْبًا، وَهَكَذَا أَيْضًا فِي سَائِرِ الأَعْدَادِ، وَالأَوْزَانِ. وَالأَكْيَالِ، وَالذَّرْعِ. فَلَوْ لَمْ يَقَعْ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ وَالْمَعْرُوفَ أَنَّ فِي تِلْكَ الأَعْدَالِ عَدَدًا مَعْرُوفًا، وَكَذَلِكَ تِلْكَ الصُّبْرَةُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ، أَوْ وَصَفَهُ الْبَائِعُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ مِنْ النَّقْصِ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدٍّ أَوْ إمْسَاكٍ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ مِنْ الزِّيَادَةِ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ الْبَائِعُ زِيَادَةً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهَا، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدٍّ أَوْ رِضًا، لأََنَّ كِلاَ الأَمْرَيْنِ غَبْنٌ لأََحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَالْغَبْنُ لاَ يَحِلُّ إِلاَّ بِرِضَا الْمَغْبُونِ وَمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لاَ تِجَارَةٌ، عَنْ تَرَاضٍ، ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالْحِيَاطَةِ وَالنَّظَرِ لَهُ مِنْ الآخَرِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ مُتَحَكِّمٌ بِلاَ برهان، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(9/74)


1589- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ لِمُعَامِلِهِ: هَذِهِ دَرَاهِمُك أَوْ دَنَانِيرُك وَجَدْت فِيهَا هَذَا الرَّدِيءَ، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: هَذِهِ سِلْعَتُك وَجَدْت فِيهَا عَيْبًا فَقَالَ الآخَرُ: ، مَا أُمَيِّزُهَا، وَلاَ أَدْرِي أَنَّهَا دَرَاهِمِي، أَوْ دَنَانِيرِي، أَوْ سِلْعَتِي أَمْ لاَ فَإِنْ كَانَتْ لِلَّذِي يَذْكُرُ وُجُودَ الْعَيْبِ وَالرَّدِيءِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا تِلْكَ قُضِيَ لَهُ وَإِلَّا فَعَلَى الَّذِي يَقُولُ: لاَ أَدْرِي، الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، وَيَبْرَأُ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُدَّعِي هَهُنَا هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ الآخَرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ وَالثَّمَنُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ خُرُوجَ مَا بِيَدِهِ، عَنْ يَدِهِ.

(9/74)


ومن رد بعيب وقد اغتل الوالد
...
1590 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَدَّ بِعَيْبٍ وَقَدْ اغْتَلَّ الْوَلَدَ، وَاللَّبَنَ، وَالثَّمَرَةَ، وَالْخَرَاجَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَلَهُ الرَّدُّ، وَلاَ يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، لأََنَّهُ حَدَثَ فِي مَالِهِ وَفِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ، فَلاَ حَقَّ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ فِيهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ

(9/74)


1591 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لأَخَرَ عِنْدَهُ حَقٌّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ ، فَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ وَالذَّرْعُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ أَوْ شَيْءٌ بِصِفَةٍ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالتَّقْلِيبُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْضًا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يُوفِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَنْ هُوَ لَهُ عَلَيْهِ وَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَمَنْ كَانَ حَقُّهُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ ذَرْعًا أَوْ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِطِيبٍ، أَوْ بِصِفَةٍ مَا فَعَلَيْهِ إحْضَارُ مَا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ، إنَّمَا الْحَقُّ لَهُ، وَلاَ حَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}

(9/81)


وَقَالَ تَعَالَى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} قلنا: نَعَمْ، هَذَا هُوَ قَوْلُنَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ عَلَى الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى إخْسَارِ ذِي الْحَقِّ، وَعَلَى التَّطْفِيفِ، وَلَيْسَ فِي إخْبَارِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَكْتَالُونَ لأََنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لاَ يَكِيلُ لَهُمْ، لأََنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ اسْتِيفَاءَهُمْ مَا لَهُمْ مِنْ الْكَيْلِ فَقَطْ، وَالأَسْتِيفَاءُ يَكُونُ بِكَيْلِ كَائِلٍ مَا، فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَصَحَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ يَكِيلُ وَيَزِنُ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ، عَنِ الإِخْسَارِ.

(9/82)


1592 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَهِيَ لَهُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ قَائِمٍ، أَوْ شَجَرٍ نَابِتٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَبِنَاؤُهَا كُلُّهُ لَهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهَا مِنْ بَابٍ أَوْ دَرَجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الدُّورَ وَالأَرْضِينَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا لاَ يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْعُ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هَكَذَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهَا غَيْرَ مَبْنِيٍّ، كَأَبْوَابٍ، وَسُلَّمٍ، وَدَرَجٍ، وَآجُرٍّ، وَرُخَامٍ، وَخَشَبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،، وَلاَ يَكُونُ لَهُ الزَّرْعُ الَّذِي يُقْلَعُ، وَلاَ يَنْبُتُ، بَلْ هُوَ لِبَائِعِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَنْ ابْتَاعَ أَنْقَاضًا، أَوْ شَجَرًا، دُونَ الأَرْضِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُقْلَعُ، وَلاَ بُدَّ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
1593 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى التُّجَّارِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا فِي خِلاَلِ بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ بِمَا طَابَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ: لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرْزَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّهُ يَشْهَدُ بَيْعَكُمْ الْحَلِفُ، وَاللَّغْوُ: شُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ" وَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلُهُ عليه السلام: "شُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ" يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ وَالتَّكْرَارَ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.

(9/72)


كتاب الشفعة
الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الشُّفْعَةِ
1594 - مَسْأَلَةٌ: الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ بِيعَ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ، وَمِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ: مِنْ أَرْضٍ، أَوْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَكْثَرَ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ مِنْ سَيْفٍ، أَوْ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ بِيعَ لاَ يَحِلُّ لِمَنْ لَهُ ذَلِكَ الْجُزْءُ

(9/82)


أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى شَرِيكِهِ أَوْ شُرَكَائِهِ فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ الأَخْذَ لَهُ بِمَا أَعْطَى فِيهِ غَيْرُهُ فَالشَّرِيكُ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَأْخُذَ فَقَطْ سَقَطَ حَقُّهُ، وَلاَ قِيَامَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِمَّنْ بَاعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا حَتَّى بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ فَمَنْ يُشْرِكُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَبَيْنَ أَنْ يُبْطِلَهُ وَيَأْخُذَ ذَلِكَ الْجُزْءَ لِنَفْسِهِ بِمَا بِيعَ بِهِ.
وَهَا هُنَا خِلاَفٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ أَمْ لاَ وَالثَّانِي هَلْ يَكُونُ فِي بَيْعِهِ شُفْعَةٌ أَمْ لاَ؟ وَالثَّالِث الأَشْيَاءُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الشُّفْعَةُ, وَالرَّابِعُ إنْ عَرَضَ الْبَائِعُ عَلَى مَنْ يُشْرِكُهُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ فَأَبَى شَرِيكُهُ مِنْ الأَخْذِ هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَاضِي الْبَصْرَةِ: "لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ" رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: "رُفِعَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ رَجُلٌ بَاعَ نَصِيبًا لَهُ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَلَمْ يُجِزْهُ، فَذَكَرَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَرَآهُ غَيْرَ جَائِزٍ", وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "لاَ بَأْسَ بِالشَّرِيكَيْنِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمَتَاعُ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يُكَالُ، وَلاَ يُوزَنُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَاسِمَهُ", وَقَالَ الْحَسَنُ: "لاَ يَبِعْ مِنْهُ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَاسِمَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لُؤْلُؤَةً أَوْ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى قِسْمَتِهِ", وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ بَيْعَ الْمُشَاعِ وَلَمْ يَرَ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ. وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: "لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي الأَرْضِ فَقَطْ أَوْ فِي أَرْضٍ بِمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ نَابِتٍ فَقَطْ", قَالَ مَالِكٌ: "الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الأَرْضِ وَحْدَهَا، وَفِي الأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ نَابِتٍ، أَوْ فِي الثِّمَارِ الَّتِي فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ وَإِنْ بِيعَتْ دُونَ الأُُصُولِ".وَرُوِّينَا، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّان َرضي الله عنه "لاَ شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلاَ فَحْلٍ" رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ، وَلاَ فَحْلٍ وَالأُُرْفُ يَقْطَعُ كُلَّ شُفْعَةٍ". الأُُرْفُ الْحُدُودُ وَالْمَعَالِمُ.
قال أبو محمد: وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَنَا مَحْمُودُ، هُوَ ابْنُ غَيْلاَنَ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ" . وَوَجَدْت فِي كِتَابِ يَحْيَى بْنِ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ بِخَطِّهِ: أَخْبَرَنِي الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ أَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ هُوَ

(9/83)


الْقَرَاطِيسِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ". قَالَ الطَّحَاوِيَّ: وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّرِيكُ شَفِيعٌ وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَيَأْخُذُ أَوْ يَدَعُ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِكُلِّ مَا قلنا، جَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ . وَرَوَاهَا كَذَا، عَنْ جَابِرٍ: أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْهُ وَعَطَاءٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا فِي هَذَا كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَعَرَفَ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلاَ شُفْعَةَ بَيْنَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مَنْظُورِ بْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ أَبَاهُ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ مُكَايَلَةَ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ. فَهَذَانِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنهما يَحْمِلاَنِ قَطْعَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِوُقُوعِ الْحُدُودِ، وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَلَمْ يَخُصَّا أَرْضًا دُونَ سَائِرِ الأَمْوَالِ بَلْ أَجْمَلاَ ذَلِكَ، وَالْحُدُودُ تَقَعُ فِي كُلِّ جِسْمٍ مَبِيعٍ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ كُلِّ أَحَدٍ حَقَّهُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ الأَرْضِ وَالدَّارِ، وَالْجَارِيَةِ، وَالْخَادِمِ" فَقَالَ عَطَاءٌ: "إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الأَرْضِ وَالدَّارِ" فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تَسْمَعُنِي لاَ أُمَّ لَكَ، أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ تَقُولُ مِثْلَ هَذَا وَإِلَى هَذَا رَجَعَ عَطَاءٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ قَالَ أَنَا أَبَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً، عَنِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: لَهُ شُفْعَةٌ وَسَأَلْته عَنِ الْحَيَوَانِ فَقَالَ: لَهُ شُفْعَةٌ وَسَأَلْته، عَنِ الْعَبْدِ فَقَالَ: لَهُ شُفْعَةٌ. فَهَذَانِ: عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ عَنْهُمَا.
قال أبو محمد: "فَلاَ تَخْلُو الشُّفْعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ أَوْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ كَمَا يَقُولُ الْمُخَالِفُونَ". فَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ فَهَذِهِ النُّصُوصُ الَّتِي أَوْرَدْنَا لاَ يَحِلُّ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، عَنِ الشَّرِيكِ فَالْعِلَّةُ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْعَقَارِ، بَلْ أَكْثَرُ، وَفِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ، كَوُجُودِهَا

(9/84)


فِيمَا يَنْقَسِمُ، بَلْ هِيَ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَشَدُّ ضَرَرًا فأما مَنْ مَنَعَ بَيْعَ الْمُشَاعِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً بَلْ هُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا بَيْعٌ لَمْ يُفَصَّلْ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحَرِّمِينَ رَهْنَ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَهِبَةَ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَالصَّدَقَةَ بِالْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَالإِجَارَةَ لِلْجُزْءِ الْمُشَاعِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، لأََنَّ الْعِلَّةَ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ، وَالْقَبْضُ وَاجِبٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا هُوَ فِي الْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالصَّدَقَةِ وَالإِجَارَةِ وَلَكِنَّ التَّخَاذُلَ فِي أَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ قَالُوا: "اتَّبَعْنَا فِي إجَازَةِ بَيْعِ الْمُشَاعِ الآثَارَ الْمَذْكُورَةَ"قلنا: "مَا فَعَلْتُمْ، بَلْ خَالَفْتُمُوهَا كَمَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"، وَأَقْرَبُ ذَلِكَ مُخَالَفَتُكُمْ إيَّاهَا فِي سُقُوطِ حَقِّ الشَّرِيكِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ الأَخْذَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَأْخُذْ، فَقُلْتُمْ: "بَلْ حَقُّهُ بَاقٍ، وَلاَ يَسْقُطُ",وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ نَصٌّ بِهِبَةِ الْمُشَاعِ إذْ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَشْعَرِيِّينَ ثَلاَثَ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ بَيْنَهُمْ فَلَمْ تُجِيزُوهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ حُجَّتَهُ أَنْ يَقُولَ: "خَبَرُ الشُّفْعَةِ مُخَالِفٌ لِلأُُصُولِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا بِالشِّرَاءِ" فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا ثَبَتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُخَالِفِينَ لِلثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُكْمِ الْمُصَرَّاةِ، وَمِنْ حُكْمِ مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا، وَالْقُرْعَةُ بَيْنَ الأَعْبُدِ السِّتَّةِ فِي الْعِتْقِ، وَقَالُوا: هَذِهِ الأَخْبَارُ مُخَالِفَةٌ لِلأُُصُولِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي خَبَرِ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ أَسْهَلُ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ، وَلاَ حُجَّةَ فِي نَظَرٍ مَعَ حُكْمٍ ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَأَمَّا الْخِلاَفُ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا ذَكَرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ إِلاَّ هَذَا. فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي هَذَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ وَالرَّبْعِ وَالْحَائِطِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ هَلْ الشُّفْعَةُ فِيمَا عَدَاهَا أَمْ لاَ فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِ مَا عَدَا هَذِهِ فِي غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ وَجَدْنَا خَبَرَ جَابِرٍ هَذَا نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ بِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا يَجْهَلُ أَنَّ عَطَاءً فَوْقَ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلاَّ جَاهِلٌ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ" أَفَتَرَوْنَ هَذَا حُجَّةً فِي أَنْ لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي رَبْعٍ أَوْ نَخْلٍ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الثِّمَارِ؟فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ بِزِيَادَةٍ قلنا: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ

(9/85)


لَنَا أَيْضًا بِزِيَادَةٍ كُلُّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، وَلاَ فَرْقَ فَكَيْفَ وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذَا أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا عَلَى حُكْمِ الأَرْضِ، وَالْحَائِطِ، وَالْبِنَاءِ: سَائِرَ الأَمْلاَكِ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ وَدَفْعِهِ، كَمَا قَاسُوا عَلَى الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ، وَالتَّمْرِ: سَائِرَ الأَنْوَاعِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْمُوجِبُ لِلْقِيَاسِ هُنَالِكَ وَفِي سَائِرِ مَا قَاسُوا فِيهِ وَمُنِعَ مِنْهُ هَاهُنَا، لاَ سِيَّمَا وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ يَجْعَلُونَ الشُّفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، فَهَلاَّ قَاسُوا الْبَيْعَ عَلَى الْبَيْعِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الصَّدَاقِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْمَالِكِيُّونَ يَرَوْنَ الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرَةِ دُونَ الأُُصُولِ، فَهَلاَّ قَاسُوا غَيْرَ الثَّمَرَةِ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا قَاسُوا الثَّمَرَةَ عَلَى الْعَقَارِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ بِذَلِكَ قَبْلَهُ. ثُمَّ كُلُّهُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ، فِي أَنَّهُمْ لاَ يُسْقِطُونَ حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي الشُّفْعَةِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ أَخْذَ الشِّقْصِ بِمَا يُعْطَى فِيهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ خَبَرٍ حُجَّةً، لاَ سِيَّمَا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِيمَا هُوَ فِيهِ مَنْصُوصٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ "فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ" فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الأَرْضِ، وَالْعَقَارِ، وَالْبِنَاءِ. بَلْ الْحُدُودُ وَاقِعَةٌ فِي كُلِّ مَا يَنْقَسِمُ مِنْ طَعَامٍ، وَحَيَوَانٍ، وَنَبَاتٍ، وَعُرُوضٍ، وَإِلَى كُلِّ ذَلِكَ طَرِيقُ ضَرُورَةٍ، كَمَا هُوَ إلَى الْبِنَاءِ وَإِلَى الْحَائِطِ، وَلاَ فَرْقَ، وَكَانَ ذِكْرُهُ عليه السلام لِلْحُدُودِ وَالطُّرُقِ إعْلاَمًا بِحُكْمِ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا لاَ يُقْسَمُ عَلَى حَسْبِهِ فَكَيْفَ وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ بَيَانٌ كَافٍ فِي أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَالٍ يُقْسَمُ، وَفِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا عُمُومٌ لِجَمِيعِ الأَمْوَالِ مَا احْتَمَلَ مِنْهَا الْقِسْمَةَ وَمَا لَمْ يَحْتَمِلْهَا. وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ بِهَذَا الْحُكْمِ " الأَرْضَ " فَقَطْ، ثُمَّ يُجْمِلُ هَذَا الإِجْمَالَ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ لاَ بِالإِبْهَامِ وَالتَّلْبِيسِ هَذَا أَمْرٌ لاَ يَتَشَكَّلُ فِي عَقْلِ ذِي عَقْلٍ سِوَاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: "فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ، وَقَدْ جَسَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى جَارِي عَادَتِهِ فِي الْكَذِبِ فَادَّعَى الإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ، وَالْبِنَاءِ، وَالأَشْجَارِ فَقَطْ، وَادَّعَى الإِجْمَاعَ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِيمَا سِوَاهَا".
قال أبو محمد: "أَمَّا الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ" فَقَدْ أَوْرَدْنَا عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَهَؤُلاَءِ فُقَهَاءُ تَابِعُونَ وَأَمَّا الإِجْمَاعُ عَلَى أَنْ لاَ شُفْعَةَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا عُمُومَ الرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَالرِّوَايَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَطَاءٍ0 وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهَذَا مَالِكٌ يَرَى الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ دُونَ

(9/86)


الأَصْلِ وَمَا نَعْلَمُ رُوِيَ إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ فِيمَا عَدَا الأَرْضِ إِلاَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُمْ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَقَدْ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرَبِيعَةَ، وَهُوَ، عَنْ هَؤُلاَءِ صَحِيحٌ. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ شُفْعَةَ فِي الْحَيَوَانِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، كَمَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ، عَنْ غَيْرِ الْبُرِّ وَالْفَحْلِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا جُمْلَةً,وَأَمَّا ابْنُ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَهُوَ، عَنْ شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، وَيَكْفِي. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُبَيْدَةَ، وَجَرِيرُ، وَيُونُسُ قَالَ عُبَيْدَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ، أَوْ عَقَارٍ وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي تُرْبَةٍ.
قال أبو محمد: "وَمِثْلُ عَدَدِ هَؤُلاَءِ لاَ يَعُدُّهُمْ إجْمَاعًا إِلاَّ كَذَّابٌ، قَلِيلُ الْحَيَاءِ وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ". وَقَدْ خَالَفَ هَؤُلاَءِ كُلَّهُمْ مَالِكٌ، فَرَأَى الشُّفْعَةَ فِي التِّينِ وَالْعِنَبِ، وَالزَّيْتُونِ، وَالْفَوَاكِهِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ، وَلَيْسَتْ دَارًا، وَلاَ عَقَارًا، وَلاَ تُرْبَةً وَرَأَى ابْنُ شُبْرُمَةَ الشُّفْعَةَ فِي الْمَاءِ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ فِي إجْبَارِهِمْ الشَّرِيكَ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ وَلَمْ يُوجِبْ قَطُّ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ أَثَرٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ نَظَرٌ، ثُمَّ لاَ يُوجِبُ لَهُ الشُّفْعَةَ، وَقَدْ جَاءَ بِهَا النَّصُّ. وَعَجَبٌ آخَرُ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْحَنَفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: الْمُسْنَدُ كَالْمُرْسَلِ سَوَاءٌ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: بَلْ الْمُرْسَلُ أَقْوَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا: أَحْسَنَ الْمَرَاسِيلِ بِإِيجَابِ الشُّفْعَةِ فِي الْجَارِيَةِ وَفِي الْخَادِمِ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْعَبْدِ شُفْعَةٌ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَمَا نَعْلَمُ فِي الْمُرْسَلاَتِ أَقْوَى مِنْ هَذَا فَخَالَفُوهُ، وَمَا عَابُوهُ إِلاَّ بِإِرْسَالٍ فَأَيُّ دِينٍ، أَوْ أَيُّ إحْيَاءٍ، يَبْقَى مَعَ هَذَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.وَأَمَّا سُقُوطُ حَقِّ الشَّرِيكِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ الأَخْذَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ حَاشَا الطَّحَاوِيَّ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ، قَالُوا: "لاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْدَ الْبَيْعِ"، وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: بِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَتَرْكُهُ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ بَعْدُ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ إذَا وَجَبَ، مَا لَهُمْ حُجَّةٌ غَيْرُ هَذَا أَصْلاً. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ بَعْدُ، فَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الشُّفْعَةَ وَغَيْرَ الشُّفْعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّيَانَةِ كُلِّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ إذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَجِئْ هَذَا الْمَجِيءَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الدِّينِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ حَقَّ الشَّفِيعِ بِعَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَأَسْقَطَ حَقَّهُ بِتَرْكِهِ الأَخْذَ حِينَئِذٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ حَقًّا أَصْلاً، إِلاَّ بِأَنْ لاَ يَعْرِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لَهُ الْحَقُّ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلاَ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام فَلْيَأْتُونَا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّ الأَخْذَ لاَ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ إِلاَّ بَعْدَ الْبَيْعِ

(9/87)


فَقَطْ، وَهَذَا مَا لاَ يَجِدُونَهُ أَبَدًا فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مِنْ كَثَبٍ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ كَانَ الْحَنَفِيُّونَ، عَنْ هَذَا النَّظَرِ حَيْثُ أَجَازُوا الزَّكَاةَ قَبْلَ الْحَوْلِ، نَعَمْ، وَقَبْلَ دُخُولِهِ، وَالْمَالِكِيُّونَ كَذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِشَهْرَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّونَ كَذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ؟ وَأَيْنَ كَانَ الْمَالِكِيُّونَ، عَنْ هَذَا النَّظَرِ حَيْثُ أَجَازُوا إذْنَ الْوَارِثِ لِلْمُوصِي فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمَالُ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ بَعْدُ، وَلاَ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَعَلَّهُ هُوَ يَرِثُهُمْ أَوْ لَعَلَّهُ سَيَحْدُثُ لَهُ وَلَدٌ يَحْجُبُهُمْ وَأَيْنَ كَانُوا، عَنْ هَذَا النَّظَرِ فِي إجَازَتِهِمْ الطَّلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَالْعِتْقَ قَبْلَ الْمِلْكِ، فَأُعْجِبُوا لِهَذِهِ التَّخَالِيطِوَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي الرَّجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا دَارٌ أَوْ أَرْضٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ وَلَك الشُّفْعَةُ فَاشْتَرِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ الآخَرُ: لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، قَدْ أَذِنْت لَك أَنْ تَبِيعَ، فَبَاعَ، ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الشُّفْعَةِ فَيَقُولُ قَدْ قَامَ الثَّمَنُ وَأَنَا أَحَقُّ قَالَ الْحَكَمُ: لاَ شَيْءَ لَهُ إذَا أَذِنَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ: وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فإن قال قائل: قَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ: لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ قلنا: لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَمَاعًا فَإِنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ، عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ آخِرُ الْخَبَرِ حَاكِمًا عَلَى أَوَّلِهِ، وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ شَيْءٍ، صَحَّ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ: رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
قال أبو محمد: "فَإِنَّمَا جَعَلَهُ عليه السلام بَعْدَ الْبَيْعِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَحَقَّ فَقَطْ، فَلاَحَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الأَخْذِ أَوْ التَّرْكِ بَعْدَ الْبَيْعِ إلَى الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ قَبْلَ الْبَيْعِ فَإِنْ أَبْطَلَهُ بَطَلَ وَإِنْ أَجَازَهُ فَحِينَئِذٍ جَازَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".

(9/88)


1595 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي الْبَيْعِ وَحْدَهُ، وَلاَ شُفْعَةَ فِي صَدَاقٍ، وَلاَ فِي إجَارَةٍ، وَلاَ فِي هِبَةٍ، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى الشُّفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ فِي صَدَاقٍ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّدَاقِ وَالشُّفْعَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الْعُكْلِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِصَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَمَالِكٌ

(9/88)


يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ وَأَوْجَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ الشُّفْعَةَ فِي الإِجَارَةِ.
قال أبو محمد: إنْ قِيلَ: فَهَلاَّ أَخَذْتُمْ بِإِيجَابِ الشُّفْعَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَائِهِ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ قلنا: لَمْ يَجُزْ مَا تَقُولُونَ، لأََنَّ " الشُّفْعَةَ " لَيْسَتْ لَفْظَةً قَدِيمَةً إنَّمَا هِيَ لَفْظَةٌ شَرِيعِيَّةٌ لَمْ تَعْرِفْ الْعَرَبُ مَعْنَاهَا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَمْ تَعْرِفْ لَفْظَةَ " الصَّلاَةِ " وَلَفْظَةَ " الزَّكَاةِ " وَلَفْظَةَ " الصِّيَامِ " وَلَفْظَةَ " الْكَفَّارَةِ " وَلَفْظَةَ " النُّسُكِ " وَلَفْظَةَ " الْحَدِّ " الْوَارِدَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الدِّينِ، حَتَّى بَيَّنَهَا لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ قَطُّ: مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَمَا يُعْطَى مِنْ الأَمْوَالِ وَمَا يُمْتَنَعُ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ " الشُّفْعَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا الْمُرَادُ بِهَا حَتَّى بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَعَدَّى بِهَا بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ, فَإِنْ قَالُوا: "قِسْنَا الصَّدَاقَ" وَالإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْفَسَادِ، لأََنَّ الصَّدَاقَ، وَالإِجَارَةَ لاَ يُشْبِهَانِ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنْ يُحْكَمَ لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ، وَالْبَيْعُ تَمْلِيكٌ لِلْمَبِيعِ، وَلَيْسَتْ الإِجَارَةُ تَمْلِيكًا لِلْمُؤَاجِرِ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةٌ لِلْمَنَافِعِ الْحَادِثَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلاَ الصَّدَاقُ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ، وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ وَالإِجَارَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَالنِّكَاحُ يَجُوزُ بِلاَ ذِكْرِ صَدَاقٍ، وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ. ثُمَّ اخْتِلاَفُهُمْ فِي ذَلِكَ أَبِصَدَاقِ مِثْلِهَا أَمْ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ بَيَانُ أَنَّهُ رَأْيٌ فَاسِدٌ مُتَعَارِضٌ لَيْسَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى مِنْ الآخَرِ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ كَانُوا، عَنْ هَذَا الْقِيَاسِ فِي أَنْ يَقِيسُوا عَلَى الأَرْضِينَ فِي " الشُّفْعَةِ " سَائِرَ الأَمْوَالِ وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ يَوْمًا. فَإِنْ ذَكَرُوا الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتَاعَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَوْلَى" فَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، لأََنَّهُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ الشُّفْعَةِ فِيمَا عَدَا الْعَقَارِ.

(9/89)


1596 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَعْرِضْ عَلَى شَرِيكِهِ الأَخْذَ قَبْلَ الْبَيْعِ حَتَّى بَاعَ فَوَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِذَلِكَ لِلشَّرِيكِ، فَالشَّرِيكُ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلِمَ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، حَضَرَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ، أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ حَتَّى يَأْخُذَ مَتَى شَاءَ، وَلَوْ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ يَلْفِظُ بِالتَّرْكِ فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِعَرْضِ غَيْرِ شَرِيكِهِ أَوْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ طَلَبَ فِي الْوَقْتِ أَوْ أَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ آخِذٌ بِشُفْعَتِهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ أَبَدًا، وَإِنْ سَكَتَ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَلاَ طَلَبَ

(9/89)


فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ, وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَاضِرِ: أَنَّ لَهُ أَجَلَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ فِيهَا قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ مَرَّتْ الثَّلاَثُ وَلَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ، إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يَنْتَفِعُ بِالإِشْهَادِ عَلَى أَنَّهُ طَالِبٌ بِالشُّفْعَةِ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ إشْهَادُهُ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ بِحَضْرَةِ الشِّقْصِ الْمَطْلُوبِ" وَقَالَ أَيْضًا: "فَإِنْ سَكَتَ بَعْدَ الإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ شَهْرًا وَاحِدًا لاَ يَطْلُبُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ". وَقَالَ بَعْضُ كِبَارِ نُظَّارِ مُقَلِّدِي أَبِي حَنِيفَةَ: لِلشَّفِيعِ مِنْ أَمَدِ الْخِيَارِ إنْ سَكَتَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلاَ طَلَبَ مَا لِلْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ. وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ الْبَتِّيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالأَوْزَاعِيُّ، إِلاَّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ قَالَ: "لاَ يُمْهَلُ إِلاَّ سَاعَةً وَاحِدَةً" وقال مالك ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: مَرَّةً قَالَ: "إنْ بَلَغَهُ الْبَيْعُ أَنَّ لَهُ الْقِيَامَ بِالشُّفْعَةِ فَسَكَتَ، وَلَمْ يَطْلُبْ، وَلاَ أَشْهَدَ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ مَا لَمْ يَطُلْ الأَمَدُ جِدًّا دُونَ تَحْدِيدٍ فِي ذَلِكَ" وَمَرَّةً قَالَ: "إنْ قَامَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ حَتَّى مَضَتْ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ" وقال الشافعي: "إنْ تَرَكَ الطَّلَبَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى مَضَتْ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ" وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: "إنْ تَرَكَ الطَّلَبَ دُونَ عُذْرٍ مَانِعٍ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ"، وَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ طَالَ الأَمَدُ أَوْ قَصُرَ وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ وَرُوِيَ، عَنْ شُرَيْحٍ وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَرُوِيَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ لَهُ أَجَلَ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَمِمَّنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَزْرَقِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قال أبو محمد: أَمَّا أَقْوَالُ مَالِكٍ كَمَا هِيَ، فَهِيَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لأََنَّهَا إمَّا تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان وَأَمَّا إجْمَالٌ بِلاَ تَحْدِيدٍ، فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلاَ مَتَى لاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَيْسَ فِي الزَّمَانِ طَوِيلٌ إِلاَّ بِإِضَافَةٍ إلَى مَا هُوَ أَقْصَرُ مِنْهُ، فَالْيَوْمُ طَوِيلٌ لِمَنْ عُذِّبَ فِيهِ، وَبِالإِضَافَةِ إلَى سَاعَةٍ وَمِائَةِ عَامٍ قَلِيلٌ بِالإِضَافَةِ إلَى عُمْرِ الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهَا أَقْوَالٌ لَمْ تُعْهَدْ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ يُعَضِّدُهَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ سَلَفٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ.وَكَذَلِكَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَالأَوَّلُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْدِيدِ يَوْمٍ، فَهُمَا قَوْلاَنِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لأََنَّهُمَا تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان، وَلَيْسَ رَدُّ ذَلِكَ إلَى مَا جَاءَ مِنْ الأَخْبَارِ بِخِيَارِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُرَدَّ إلَى خِيَارِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ ارْتَجَعَ وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى

(9/90)


الطَّلاَقَ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تَخَالِيطُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَتَحْدِيدُهُ بِشَهْرٍ وَبِأَنْ لاَ يَكُونَ الإِشْهَادُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ فَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيك بِهِ وَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: " لَهُ مِنْ الأَمَدِ مَا لِلْمُخَيَّرَةِ " فَأَسْخَفُ قَوْلٍ سُمِعَ بِهِ لأََنَّهُ احْتِجَاجٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ، وَلِلْهَوَسِ بِالْهَوَسِ، وَمَا سُمِعَ بِأَحْمَقَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي حُكْمِ الْمُخَيَّرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْبَتِّيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَإِنَّ تَحْدِيدَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالإِشْهَادِ، ثُمَّ السُّكُوتِ إنْ شَاءَ قَوْلٌ بِلاَ برهان لَهُ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ وَاجِبٌ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا لَمْ يُؤْذِنْهُ الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إلَى الإِشْهَادِ، أَوْ مِنْ أَيْنَ أَلْزَمُوهُ إيَّاهُ وَأَسْقَطُوا حَقَّهُ بِتَرْكِهِ هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، وَإِسْقَاطٌ لِحَقٍّ قَدْ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، فَمَا يُقَوِّيهِ الإِشْهَادُ، وَلاَ يُضَعِّفُهُ تَرْكُهُ فَبَطَلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ
فَنَظَرْنَا فِيهِ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمُمَوِّهِينَ نَزَعَ بِقَوْلٍ مَكْذُوبٍ مَوْضُوعٍ مُضَافٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ عِقَالٍ وَالشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا" وَهَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ قَالَ: أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ لِغَائِبٍ، وَلاَ لِصَغِيرٍ وَالشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ مَنْ مَثَّلَ بِمَمْلُوكِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقُوا الْحَقَّ" .
قال أبو محمد: أَفَيَكُونُ أَعْجَبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ كُلَّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ وَاحْتِجَاجِهِمْ بِبَعْضِهِ، فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ أُفٍّ لِهَذِهِ الأَدْيَانِ وَأَمَّا الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا، فَمَا يَحْضُرُنَا الآنَ ذِكْرُ إسْنَادِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ جُمْلَةً لاَ خَيْرَ فِيهِ، وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ضَعِيفٌ مُطْرَحٌ، وَمُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ.وَأَمَّا لَفْظُ لِمَنْ وَاثَبَهَا فَهُوَ لَفْظٌ فَاسِدٌ، لاَ يَحِلُّ أَنْ يُضَافَ مِثْلُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأََنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا: مُوجِبٌ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلَبُ مَعَ الْبَيْعِ لاَ بَعْدَهُ، لأََنَّ الْمُوَاثَبَةَ فِعْلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مَعَ الْبَيْعِ لاَ بَعْدَهُ، لأََنَّ التَّأَنِّي فِي الْوَثْبِ لاَ يُسَمَّى مُوَاثَبَةً.وَأَمَّا قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ عِقَالٍ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ نَشْطَ الْعِقَالِ: هُوَ حَلُّ الْعِقَالِ، وَكَذَلِكَ الشُّفْعَةُ، لأََنَّهَا حَلُّ مِلْكٍ، عَنِ الْمَبِيعِ وَإِيجَابُهُ لِغَيْرِهِ فَقَطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: "وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّ الشَّفِيعِ وَاجِبًا وَجَعَلَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام الْمُصَدَّقِ أَحَقَّ"، إذَا لَمْ يُؤْذَنْ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَكُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَسْقُطُ أَبَدًا إِلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ بِسُقُوطِهِ، فَإِنْ وَقَفَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَتْرُكَ لَزِمَهُ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إجْبَارُهُ عَلَى أَحَدِ الأَمْرَيْنِ لأََنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ حَقَّهُ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ

(9/91)


تَضْيِيعُهُ، فَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَخْذِهِ، أَوْ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ غَاشٌّ غَيْرُ نَاصِحٍ لأََخِيهِ الْمُنْصِفِ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا مَنْ مُنِعَ حَقُّهُ وَلَمْ يُعْطَهُ، فَلَيْسَ سُقُوطُهُ، عَنْ طَلَبِهِ قَطْعًا لِحَقِّهِ وَلَوْ سَكَتَ عُمْرَهُ كُلَّهُ، وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ غُصِبَ مَالاً، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ أَوْ مِيرَاثٌ، أَوْ حَقٌّ مَا، فَإِنَّ سُقُوطَهُ، عَنْ طَلَبِهِ لاَ يُبْطِلُهُ، وَأَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ أَبَدًا فَمِنْ أَيْنَ خَصُّوا حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بِهَذِهِ التَّخَالِيطِ؟.

(9/92)


فان أخذ الشقيع حقه لزم المشترى ردما استغل
...
1597. - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ حَقَّهُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي رَدُّ مَا اسْتَغَلَّ وَكَانَ كُلُّ مَا أَنْفَذَ فِيهِ مِنْ هِبَةٍ , أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ مُكَاتَبَةٍ، أَوْ مُقَاسَمَةٍ، فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَتُقْلَعُ أَنْقَاضُهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا الْمُخَاصِمُ الْمَانِعُ، فَإِنَّ هَذَا غَاصِبٌ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ، مَانِعٌ حَقَّ غَيْرِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ الشَّرِيكُ الأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ نَفَذَ كُلُّ ذَلِكَ وَصَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْهُ، وَكَانَتْ الْغَلَّةُ لَهُ، هَذَا إذَا كَانَ إيذَانُهُ الشَّرِيكَ مُمْكِنًا لَهُ، أَوْ لِلْبَائِعِ حِينَ اشْتَرَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إيذَانُ الشَّرِيكِ مُمْكِنًا لِلْبَائِعِ لِعُذْرٍ مَا، أَوْ لِتَعَذُّرِ طَرِيقٍ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ مَتَى طَلَبَهَا وَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْغَلَّةِ حِينَئِذٍ، لَكِنَّ كُلَّ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَمَفْسُوخٌ وَيُقْلَعُ بُنْيَانُهُ وَلاَ بُدَّ.
برهان ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام الَّذِي أَوْرَدْنَا قَبْلُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَلاَ يَخْلُو بَيْعُ الشَّرِيكِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ مِنْ أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ، لاَ رَابِعَ لَهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلاً وَإِنْ صَحَّحَهُ الشَّفِيعُ بِتَرْكِهِ الشُّفْعَةَ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْغَلَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ أَوْ تَرَكَ، وَالْخَبَرُ يُوجِبُ غَيْرَ هَذَا، بَلْ يُوجِبُ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ، وَأَنَّهُ إنْ تَرَكَ فَلَهُ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً لاَحْتَاجَ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ آخَرَ وَهَذَا خَطَأٌ، أَوْ يَكُونُ صَحِيحًا حَتَّى يُبْطِلَهُ الشَّفِيعُ بِالأَخْذِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لاَ يَصْلُحُ فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مَا أَخْبَرَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، أَوْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ عُلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلاً، وَإِنْ تَرَكَ حَقَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ صَحِيحًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِبُطْلاَنِ الْوَجْهَيْنِ الأَوَّلِينَ لِقَوْلِهِ عليه السلام "الشَّرِيكُ أَحَقّ" فَصَحَّ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقًّا بَعْدَ حَقِّ الشَّفِيعِ. فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا: مَتَى كَانَ الشَّفِيعُ أَحَقَّ، أَحِينَ أَخَذَ أَمْ حِينَ رَدَّ الْبَيْع َإِنْ قَالُوا: مِنْ حِينِ أَخَذَقلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ خِلاَفُ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَعَلَهُ أَحَقَّ حِينَ الْبَيْعِ، فَإِذْ هُوَ أَحَقُّ حِينَ الْبَيْعِ فَإِذَا أَخَذَ فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ,َأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ إعْلاَمُ الشَّرِيكِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(9/92)


"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فَصَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إيذَانِ الشَّرِيكِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْهُ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ وَحَلَّ لَهُ الْبَيْعُ، لأََنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: "لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ" يَقْتَضِي ضَرُورَةً مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إيذَانِهِ، فَخَرَجَ، عَنْ هَذَا النَّصِّ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إيذَانِهِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَعَاجِزٌ، عَنِ الإِيذَانِ فَمُبَاحٌ لَهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَسَاقِطٌ عَنْهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَهَذَا إذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ وَأَخَذَ شُفْعَتَهُ، فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْغَلَّةُ لَهُ، لأََنَّهَا غَلَّةُ مَالِهِ وَأَمَّا الْبِنَاءُ وَسَائِرُ مَا أَحْدَثَ فَقَدْ أَبْطَلَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَنْفَذَ حُكْمَهُ فِيمَا غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ فَبَطَلَ أَنْ يَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيمَا جَعَلَهُ تَعَالَى حَقًّا لِغَيْرِهِ لقوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالاَ جَمِيعًا: إذَا بَنَى ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ بَعْدَهُ فَالْقِيمَةُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: "يَقْلَعُ بِنَاءَهُ وَبِهِ" يَأْخُذُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُهُمْ وَبِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ يَأْخُذُ مَالِكٌ وَالْبَتِّيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدَ.
قال أبو محمد: إلْزَامُهُ قَلْعَ بِنَائِهِ وَاجِبٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إبْقَاءُ أَنْقَاضِهِ فِي سَاحَةِ غَيْرِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" ، وَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُهُ غَرَامَةً فِي ابْتِيَاعِ مَا لاَ يُرِيدُ ابْتِيَاعَهُ مِنْ أَنْقَاضِ بِنَاءِ الْمَخْرَجِ مِنْ الأَبْتِيَاعِ لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ، فَهُوَ ظُلْمٌ مُجَرَّدٌ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إلْزَامِهِ غَرَامَةً لِلْمَخْرَجِ، عَنِ الْمِلْكِ وَبَيْنَ إبَاحَةِ أَنْقَاضِ الْمَخْرَجِ لِلشَّفِيعِ وَكُلُّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ مُحَرَّمٍ بِالْبَاطِلِ، بَلْ كُلُّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: "أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام الْخِيَارَ فِي الْبَيْعِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ الْمُصَرَّاةُ" ، وَمَنْ بَايَعَ وَقَالَ: "لاَ خِلاَبَةَ فَهَذَانِ خِيَارُهُمَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا فَقَطْ" وَمَنْ تُلُقِّيَتْ سِلْعَتُهُ فَهَذَا لَهُ الْخِيَارُ إذَا دَخَلَ السُّوقَ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَمَنْ وَجَدَ عَيْبًا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ بِهِ، وَلاَ شَرَطَ السَّلاَمَةَ مِنْهُ. وَالشَّرِيكُ يَبِيعُ مَعَ غَيْرِ شَرِيكِهِ، وَلاَ يُؤْذِنُهُ. فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ الْخِيَارُ بِلاَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ إِلاَّ حَتَّى يُقِرُّوا بِتَرْكِ حَقِّهِمْ فَوَجَدْنَا مُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ، وَمَنْ بَايَعَ عَلَى أَنْ لاَ خِلاَبَةَ يَنْقَضِي خِيَارُهُمَا بِتَمَامِ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمَا خِيَارٌ بَعْدَهَا، وَيَلْزَمُهُمَا الشِّرَاءُ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، إذْ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَلْزَمْ أَصْلاً إِلاَّ بِتَجْدِيدِ عَقْدٍ، فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يُخَيَّرْ فِي إمْضَائِهِ أَوْ فِي رَدِّهِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ بَاطِلاً لاَ خِيَارَ لأََحَدٍ فِي تَصْحِيحِهِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا، ثُمَّ جَعَلَ تَعَالَى لِلْمُشْتَرِي رَدَّهُ إنْ شَاءَ فَصَحَّ أَنَّ الْغَلَّةَ لَهُ رَدَّ أَوْ أَخَذَ

(9/93)


لأََنَّهَا حَدَثَتْ فِي مَالِهِ. وَوَجَدْنَا مَنْ تَلَقَّى السِّلَعَ فَابْتَاعَ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا، عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارًا إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ إلَى السُّوقِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ خِيَارًا.فَصَحَّ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا، عَنِ التَّلَقِّي، وَلَمْ يَنْهَ، عَنِ الأَبْتِيَاعِ، لأََنَّ التَّلَقِّيَ غَيْرُ الأَبْتِيَاعِ فَهُمَا فِعْلاَنِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ الآخَرِ نَهَى، عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَنْهَ، عَنِ الآخَرِ، لَكِنْ جُعِلَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ فِي رَدِّهِ أَوْ إمْضَائِهِ وَلَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَبَطَلَ جُمْلَةً. فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِلْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْبَائِعِ الْبَيْعَ أَوْ إجَازَتِهِ. وَوَجَدْنَا [ أَيْضًا ] مَنْ وَجَدَ عَيْبًا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ بِهِ، وَلاَ شَرَطَ السَّلاَمَةَ مِنْهُ، لَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ رَدِّهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ صَحِيحًا، إذْ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ إمْضَاؤُهُ فَوَجَبَ أَيْضًا أَنَّ الْغَلَّةَ لَهُ، رَدَّ أَوْ أَخَذَ. وَبَقِيَ أَمْرُ الشَّفِيعِ فَوَجَدْنَاهُ بِخِلاَفِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْبُيُوعِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنْ الْبُيُوعِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ جَاءَ النَّصُّ بِإِجَازَتِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَانَ الدَّلِيلُ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً. وَوَجَدْنَا مَنْ يُمْكِنُهُ إيذَانُ شَرِيكِهِ فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ لَوَجَبَ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّرِيكَ أَحَقَّ، وَأَبَاحَ لَهُ الأَخْذَ أَوْ التَّرْكَ: وَجَبَ أَنَّهُ مُرَاعًى كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ أَخَذَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُمْضِ ذَلِكَ الْعَقْدَ، بَلْ أَبْطَلَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَزِمَهُ رَدُّ الْغَلَّةِ، وَإِنْ تَرَكَ الأَخْذَ فَقَدْ أَجَازَهُفَصَحَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ جَائِزًا.وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الإِيذَانُ فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ فِيهِ بِأَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ الأَخْذَ أَوْ التَّرْكَ، فَإِنْ أَخَذَ فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْغَلَّةُ لِلْمُشْتَرِي هَاهُنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/94)


1598 - مَسْأَلَةٌ: وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْبَدْوِيِّ، وَلِلسَّاكِنِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، وَلِلْغَائِبِ، وَلِلصَّغِيرِ إذَا كَبُرَ، وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَلِلذِّمِّيِّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ: لاَ شُفْعَةَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: "لاَ شُفْعَةَ لِمَنْ لاَ يَسْكُنُ الْمِصْر"َ، وَلاَ لِلذِّمِّيِّ.وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ شُفْعَةَ لِذِمِّيٍّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لاَ شُفْعَةَ لِغَائِبٍ، وَقَالَهُ أَيْضًا الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، قَالاَ: إِلاَّ الْقَرِيبَ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ شُفْعَةَ لِصَغِيرٍ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، فَإِنْ تَرَكَ وَلِيُّ الصَّغِيرِ، أَوْ الْمَجْنُونِ الأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُمَا لَزِمَهُمَا، لأََنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ لَيْسَ نَظَرًا لَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا، وَلَهُمَا الأَخْذُ أَبَدًا، لأََنَّهُ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ غِشِّهِمَا.

(9/94)


فان باع الشقصر بعرض أو بعقار للشفيع
...
1599 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَ الشِّقْصَ بِعَرَضٍ، أَوْ بِعَقَارٍ لَمْ يَجُزْ لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ إِلاَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَقَارِ أَوْ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلاً فَالْمَطْلُوبُ مُخَيَّرٌ

(9/94)


1600 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شِقْصَهُ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ فَالشَّفِيعُ أَحَقُّ بِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى ذَلِكَ الأَجَلِ ,قال مالك: "إنْ كَانَ مَلِيًّا أَخَذَ الشِّقْصَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى ذَلِكَ الأَجَلِ" وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَضَمِنَهُ مَلِيءٌ وَإِلَّا فَلاَ وقال الشافعي: وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِالنَّقْدِ، فَإِنْ أَبَى قِيلَ لَهُ: "اصْبِرْ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ فَخُذْهَا حِينَئِذٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ ذِمَّةَ الشَّرِيكِ وَقَدْ يُعْسِرُ قَبْلَ الأَجَلِ قال أبو محمد: هَذَا لاَ شَيْءَ، وَنَقُولُ لَهُمْ: إنْ كَانَ لَمْ يَرْضَ ذِمَّةَ الشَّرِيكِ فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مُرَاعَاةُ رِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَرْضَ مُعَامَلَتَهُ، وَقَدْ يُعْسِرُ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ أَيْضًا، فَالأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَالشَّرِيكُ أَحَقُّ" مُوجِبٌ لَهُ الأَخْذُ بِمَا يَبِيعُ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَى فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/95)


ولو أن الشريك ببعد بيع شريكه قبل ان يؤذنه باع أيضا
...
1601 - مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ بَعْدَ بَيْعِ شَرِيكِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذِنَهُ بَاعَ أَيْضًا حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ، أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ عَلِمَ بِأَنَّ لَهُ الشُّفْعَةَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَالشُّفْعَةُ لَهُ كَمَا كَانَتْ، لأََنَّهُ حَقٌّ قَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَلاَ يُسْقِطُهُ عَنْهُ بَيْعُ مَالِهِ، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/95)


1602- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَلَا مَالَ لَهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُهْمَلَ، لَكِنْ يُبَاعُ ذَلِكَ الشِّقْصُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَفَّى بِالثَّمَنِ فَذَلِكَ، وَإِنْ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ اُتُّبِعَ بِالْبَاقِي، وَأُنْظِرَ فِيهِ أَنْ يُوسِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ بِذَلِكَ الشِّقْصِ الْوَاجِبِ لَهُ. وَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَيْسَ ذَا عُسْرَةٍ لَكِنْ يُبَاعُ مَالُهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ فَهُوَ حِينَئِذٍ ذُو عُسْرَةٍ بِالْبَاقِي فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ حِينَئِذٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ قَوْمٌ: يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إخْرَاجُ حَقِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَقَّ

(9/95)


1603 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا آخُذُ شُفْعَتِي فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ، وَلاَ حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَصْلاً، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْحَقَّ لَهُ لاَ لِغَيْرِهِ، وَالْخِيَارُ لاَ يُوَرَّثُ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "سَمِعْنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُوهَبُ، وَلاَ تُوَرَّثُ، وَلاَ تُعَارُ، هِيَ لِصَاحِبِهَا الَّذِي وَقَعَتْ لَهُ" قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: هُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: "لشُّفْعَةُ لِوَرَثَتِهِ" وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: "وَرَّثُ الشُّفْعَةُ كَمَا يُوَرَّثُ الْعَفْوُ فِي الدَّمِ أَوْ الْقِصَاصِ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا أُوهِمُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا، وَهَذَا بَاطِلٌ " لأََنَّهَا دَعْوَى بِلاَ برهان ثُمَّ هُوَ احْتِجَاجٌ لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ. وَقَوْلُهُمْ: "إنَّ الْعَفْوَ وَالْقِصَاصَ يُوَرَّثَانِ، خَطَأٌ"، بَلْ هُمَا لِمَنْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذُكُورِ الأَوْلِيَاءِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِيرَاثَ فِي الأَمْوَالِ، لاَ فِيمَا لَيْسَ مَالاً، وَلَوْ وُرِّثَ الْخِيَارُ لَوَجَبَ أَنْ يُوَرَّثَ عِنْدَهُمْ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَخَيَّرَهُ فِي طَلاَقِهَا أَوْ إبْقَائِهَا، فَمَاتَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَرِثَ وَرَثَتُهُ مَا جُعِلَ لَهُ مِنْ الْخِيَارِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا. وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا: لِمَنْ يَأْخُذُونَ الْوَرَثَةَ بِالشُّفْعَةِ، أَلِلْمَيِّتِ أَمْ لأََنْفُسِهِمْ
فَإِنْ قَالُوا: لِلْمَيِّتِ قلنا: "هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا".وَإِنْ قَالُوا: لأََنْفُسِهِمْ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ شَرِكَتَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلاَ تُوجَدُ شُفْعَةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا حِينَ الْبَيْعِ شُرَكَاءَ، فَلَمْ تَجِبْ لَهُمْ شُفْعَةٌ. وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ، وَخَالَفُوا جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ، لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ أَحَدَ الأَوْلِيَاءِ الَّذِي لَهُمْ الْعَفْوُ أَوْ الْقِصَاصُ إنْ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَبَنَاتٍ لَمْ يَرِثْنَ الْخِيَارَ الَّذِي لَهُ. وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ، لأََنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ الْعَفْوَ وَالْقِصَاصَ، وَلاَ يُوَرِّثُونَ الْخِيَارَ هَاهُنَا فأما إذَا بَلَغَ الشَّرِيكَ أَمْرُ الْبَيْعِ فَقَالَ: أَنَا آخُذُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدْ صَحَّتْ لَهُ، وَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ حِينَئِذٍ، وَلِوَرَثَتِهِ الطَّلَبُ، لأََنَّهَا حِينَئِذٍ مَالٌ قَدْ تَمَّ لَهُ. وَلاَ مَعْنَى لِلطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلاَ لِحُكْمِ الْقَاضِي، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا جُعِلَ الْقَاضِي لِيُجْبِرَ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْحَقِّ فَقَطْ، وَلاَ مَزِيدَ، وَلَوْ تَعَاطَى النَّاسُ الْحُقُوقَ بَيْنَهُمْ مَا اُحْتِيجَ إلَى قَاضٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/96)


ومن باع شقصا أو سعلة معه صفقة واحدة
...
1604 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شِقْصًا أَوْ سِلْعَةً مَعَهُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَجَاءَ الشَّفِيعُ يَطْلُبُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ الْكُلَّ وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَسَوَّارِ

(9/96)


1605 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ شُرَكَاءُ فَبَاعَ مِنْ أَحَدِهِمْ كَانَ لِلشُّرَكَاءِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حِصَّتِهِ مِمَّا اشْتَرَى كَأَحَدِهِمْ، لأََنَّهُ شَرِيكٌ وَهُمْ شُرَكَاءُ، فَهُوَ دَاخِلٌ مَعَهُمْ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ" وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ حِصَّةَ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ كَمَا ذَكَرْنَا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "إذَا بَاعَ مِنْ أَحَدِ شُرَكَائِهِ فَلاَ شُفْعَةَ لِلآخَرِينَ مِنْهُمْ" وَكَذَلِكَ أَيْضًا، عَنِ الْحَسَنِ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ قال علي: وهذا خِلاَفُ النَّصِّ أَيْضًا.

(9/97)


1606 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ غُيَّبًا فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقُولَ: لاَ آخُذُ إِلاَّ حِصَّتِي لأََنَّ الْبَائِعَ لاَ يَرْضَى بِبَيْعِ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِيمَنْ بَاعَ شِقْصًا وَسِلْعَةً. فَلَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَحَضَرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إِلاَّ حِصَّتَهُ فَقَطْ فِي قَوْلِ قَوْمٍ وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَخْذُ الْكُلِّ أَوْ تَرْكُ

(9/97)


1607 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ بَاعَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ حِصَّةٍ شَاءَ وَيَدَعَ أَيَّهَا شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ، لأََنَّهَا عُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَعَقْدُ زَيْدٍ غَيْرُ عَقْدِ عَمْرٍو. وَلَوْ اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ الَّذِي أَعْطَى أَحَدُهُمَا فَانْفَسَخَ عَقْدُهُ لَمْ يَكْدَحْ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/98)


1608 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ شُرَكَاءُ فِي شَيْءٍ بَعْضُهُمْ بِمِيرَاثٍ، وَبَعْضُهُمْ بِبَيْعٍ، وَبَعْضُهُمْ بِهِبَةٍ وَفِيهِمْ إخْوَةٌ وَرِثُوا أَبَاهُمْ مَا كَانَ أَبُوهُمْ وَرِثَهُ مَعَ أَعْمَامِهِمْ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ فَالْجَمِيعُ شُفَعَاءُ عَلَى عَدَدِهِمْ، لَيْسَ الأَخُ أَوْلَى بِحِصَّةِ أَخِيهِ مِنْ عَمِّهِ، وَلاَ مِنْ امْرَأَةِ أَبِيهِ، وَلاَ مِنْ امْرَأَةِ جَدِّهِ، وَلاَ مِنْ الأَجْنَبِيِّ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ" وَكُلُّهُمْ شَرِيكُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.وقال مالك: إنْ كَانَ إخْوَةُ الأُُمِّ وَزَوْجَاتٌ وَبَنَاتٌ وَأَخَوَاتٌ وَعَصَبَةٌ فَبَاعَ أَحَدُ الإِخْوَةِ لِلأُُمِّ فَسَائِرُ الإِخْوَةِ لِلأُُمِّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الزَّوْجَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَحَدُ الْبَنَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الأَخَوَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: لَوْ بَاعَ أَحَدُ الْعُصْبَةِ لَمْ يَكُنْ سَائِرُ الْعُصْبَةِ أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ، بَلْ يَأْخُذُهَا مَعَهُمْ الْبَنَاتُ وَالزَّوْجَاتُ، وَالأَخَوَاتُ، وَالإِخْوَةُ لأَُمٍّ. قَالَ: فَلَوْ اشْتَرَى بَنَاتُ إنْسَانٍ شِقْصًا وَاشْتَرَى أَخَوَاتُهُ شِقْصًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَاشْتَرَى أَجْنَبِيُّونَ شِقْصًا ثَالِثًا مِنْهُ فَبَاعَ إحْدَى الْبَنَاتِ أَوْ إحْدَى الأَخَوَاتِ لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتُهَا أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ عَمَّتِهَا، وَلاَ مِنْ الأَجْنَبِيِّينَ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ وَرَثَةٌ وَمُشْتَرُونَ فِي شَيْءٍ فَبَاعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَلِلأَجْنَبِيِّ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي إيرَادُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ إفْسَادِهِ لِفُحْشِ تَنَاقُضِهِ، وَظُهُورِ فَسَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/98)


1609 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شِقْصًا وَلَهُ شُرَكَاءُ لأََحَدِهِمْ مِائَةُ سَهْمٍ، وَلأَخَرَ عِشْرُونَ، وَلأَخَرَ عُشْرُ الْعُشْرِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ: فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَيَقْتَسِمُونَ مَا أَخَذُوا بِالسَّوَاءِ، وَلاَ مَعْنَى لِتَفَاضُلِ حِصَصِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَشَرِيكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَشْهَر

(9/98)


ولا شفعة الآبتمام البيع بالتفريق أو التخير
...
1610 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ شُفْعَةَ إِلاَّ بِتَمَامِ الْبَيْعِ بِالتَّفْرِيقِ أَوْ التَّخْيِيرِ لأََنَّهَا لَيْسَ بَيْعًا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِتَفَرُّقِ الأَبَدَانِ.

(9/99)


1611 - مَسْأَلَةٌ: وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الأَجْزَاءُ مَقْسُومَةً إذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَيْهَا وَاحِدًا مُتَمَلَّكًا نَافِذًا أَوْ غَيْرَ نَافِذٍ لَهُمْ، فَإِنْ قُسِّمَ الطَّرِيقُ أَوْ كَانَ نَافِذًا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ لَهُمْ فَلاَ شُفْعَةَ حِينَئِذٍ كَانَ مُلاَصِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ" فَلَمْ يَقْطَعْهَا عليه السلام إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الأَمْرَيْنِ مَعًا، وُقُوعُ الْحُدُودِ، وَصَرْفُ الطُّرُقِ، لاَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ. وَلاَ يَقْطَعُ الشُّفْعَةَ قِسْمَةٌ فَاسِدَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، لأََنَّهَا لَيْسَتْ قِسْمَةً.، وَلاَ يَقْطَعُهَا قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ، لأََنَّ الْحَقَّ قَدْ وَجَبَ قَبْلَهَا.وقال أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ: "الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ" فَإِنْ تَرَكَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ، فَلِشَرِيكِهِ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ أَوْ الدَّارُ قَدْ قُسِّمَتْ فَإِنْ تَرَكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ قَدْ وَقَعَتْ وَالطَّرِيقُ غَيْرُ الطَّرِيقِ وَلاَ شُفْعَةَ لِجَارٍ غَيْرِ مُلاَصِقٍ. وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: الشُّفْعَةُ لِكُلِّ جَارٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، وَرُوِيَ فِي كُلِّ ذَلِكَ آثَارٌ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إذَا قُسِّمَتْ الأَرْضُ وَحُدِّدَتْ فَلاَ شُفْعَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ، وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: إذَا ضُرِبَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الأَرْضِينَ، وَالدُّورِ، وَلاَ تَكُونُ

(9/99)


كتاب السلم
السلم ليس بيعا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ السَّلَمِ
1612 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه: السَّلَمُ لَيْسَ بَيْعًا ، لأََنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الدِّيَانَاتِ لَيْسَتْ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَفَ، أَوْ التَّسْلِيفَ، أَوْ السَّلَمَ. وَالْبَيْعُ يَجُوزُ بِالدَّنَانِيرِ وَبِالدَّرَاهِمِ حَالًّا وَفِي الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى وَإِلَى الْمَيْسَرَةِ. وَالسَّلَمُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَلاَ بُدَّ وَالْبَيْعُ يَجُوزُ فِي كُلِّ مُتَمَلَّكٍ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالنَّهْيِ، عَنْ بَيْعِهِ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ إِلاَّ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَقَطْ. وَلاَ يَجُوزُ فِي حَيَوَانٍ، وَلاَ مَذْرُوعٍ، وَلاَ مَعْدُودٍ، وَلاَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَك. وَالسَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَك. وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَصْلاً.
برهان ذَلِكَ:
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ.قال أبو محمد: هَذَا فِي كِتَابِي، عَنِ ابْنِ نَامِي، وَفِي كِتَابِ غَيْرِي، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَبْدُ الْوَارِثِ

(9/105)


وَالآخَرُ، كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَسْلَفَ فَلاَ يُسْلِفْ إِلاَّ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ" فَهَذَا مَنْعُ السَّلَفِ وَتَحْرِيمُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ َنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" فَفِي هَذَا إيجَابُ الأَجَلِ الْمَعْلُومِ. وَقَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك فَصَحَّ مَاقلنا نَصًّا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَقَدْ فَرَّقَ الأَوْزَاعِيِّ، وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَأَصْحَابِنَا الظَّاهِرِيِّينَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: مَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ جَازَ حَالًّا، وَمَا كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِأَجَلٍ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: مَا كَانَ أَجَلُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا كَانَ أَجَلُهُ أَكْثَرَ فَهُوَ سَلَمٌ. قَالَ الْقُمِّيُّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحَنَفِيِّينَ: السَّلَمُ لَيْسَ بَيْعًا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لِذِكْرِهِ: فَطَائِفَةٌ كَرِهَتْ السَّلَمَ جُمْلَةً َمَا رُوِّينَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ السَّلَمَ كُلَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نُهِيَ، عَنِ الْعِينَةِ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ الْعِينَةَ فَقَالَ: نُبِّئْت أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: "دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا جَرِيرَةٌ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "الْعِينَةُ حَرَامٌ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَرِهَا الْعِينَةَ، وَمَا دَخَلَ النَّاسُ فِيهِ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، وَزَيْدِ بْنِ مَرْدَانُبَةَ قَالاَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ: انْهَ مَنْ قِبَلَك، عَنِ الْعِينَةِ، فَإِنَّهَا أُخْتُ الرِّبَا.
قال أبو محمد: "الْعَيِّنَةُ هِيَ السَّلَمُ نَفْسُهُ، أَوْ بَيْعُ سِلْعَةٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا، فَبَقِيَ السَّلَمُ". قَالَ عَلِيٌّ: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَاحَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْمَعْدُودِ، وَالْمَذْرُوعِ مِنْ الثِّيَابِ بِغَيْرِ ذِكْرِ وَزْنِهِ وَمَنَعَا مِنْ السَّلَفِ حَالًّا، فَكَانَ هَذَا عَجَبًا مِنْ قَوْلِهِمَا، لأََنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ حَالًّا، أَوْ نَقْدًا، فَإِنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ يُسَلِّفَ إِلاَّ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ

(9/106)


وَأَوْكَدُ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّلَمِ فِي غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلَئِنْ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ وَالْمَذْرُوعِ، وَالْمَعْدُودِ جَائِزًا فَإِنَّ قِيَاسَ جَوَازِ الْحُلُولِ وَالنَّقْدِ عَلَى جَوَازِ الأَجَلِ أَوْلَى، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمَا بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ السَّلَفِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْضَحُ، لأََنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَلاَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إذَا خَالَفَ النَّصَّ.وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَجَازَ السَّلَمَ حَالًّا قِيَاسًا عَلَى جَوَازِهِ إلَى أَجَلٍ، وَأَجَازَ السَّلَمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَانْتَظَمَ خِلاَفُ الْخَبَرِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ، وَكَانَ أَطْرَدَهُمْ لِلْقِيَاسِ وَأَفْحَشَهُمْ خَطَأً. فإن قيل: "إنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ اُسْتُثْنِيَ مِنْ جُمْلَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك" قلنا: "هَذَا بَاطِلٌ"، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَا عُوِّضَ فِيهِ بِآخَرَ بَيْعًا، فَهَذَا الْقَرْضُ مَالٌ بِمَالٍ، وَلَيْسَ بَيْعًا بِلاَ خِلاَفٍ. وَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَا نَعْلَمُ لِتَخْصِيصِهِمْ الْحَيَوَانَ بِالْمَنْعِ مِنْ السَّلَمِ فِيهِ دُونَ سَائِرِ مَا أَبَاحُوا السَّلَمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَوَّهَ بِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ الرِّبَا مَا لاَ يَكَادُ يَخْفَى كَالسَّلَمِ فِي سِنٍّ. قَالُوا: وَعُمَرُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ.فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا لاَ يُسْنَدُ، عَنْ عُمَرَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، لأََنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَهَى، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ، وَهِيَ مُغَضَّفَةٌ لَمَّا تَطِبْ بَعْدُ، وَأَنْتُمْ تُجِيزُونَهُ عَلَى الْقَطْعِ فَمَرَّةً عُمَرُ حُجَّةٌ، وَمَرَّةً لَيْسَ هُوَ بِحُجَّةٍ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "مِنْ الرِّبَا أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ وَهِيَ مُغَضَّفَةٌ لَمَّا تَطِبْ".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ ابْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الرَّهْنِ فِي السَّلَفِ فَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا الْمَضْمُونُ، وَهُمْ يُجِيزُونَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ إنَّهُ الرِّبَا بِأَصَحِّ طَرِيقٍ حُجَّةً فِي أَنَّهُ رِبًا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَاعُ الْبَعِيرَ بِالْقَلُوصَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَمْرِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي غَايَةِ فَسَادِ الإِسْنَادِ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَمَرَّةً رَوَاهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الدِّينَوَرِيِّ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ الزُّبَيْدِيِّ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَمَرَّةً قُلِبَ الإِسْنَادُ، فَجُعِلَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَآخِرُهُ أَوَّلَهُ: فَرَوَاهُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ جُبَيْرٍ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْشٍ. وَمِثْلُ هَذَا لاَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ إِلاَّ مُجَاهِرٌ بِالْبَاطِلِ أَوْ جَاهِلٌ أَعْمَى. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ لأََنَّ الأَجَلَ عِنْدَهُمْ إلَى الصَّدَقَةِ لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ خَالَفُوهُ، وَمَجِيءُ

(9/107)


إبِلِ الصَّدَقَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ عليه السلام يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا عَظِيمًا مِنْهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ كَبَلِيٍّ وَجُهَيْنَةَ، وَمِنْهُ عَلَى عِشْرِينَ يَوْمًا كَتَمِيمٍ، وطيئ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَالِكِيِّينَ لاَ يُجِيزُونَ سَلَمَ الإِبِلِ فِي الإِبِلِ إِلاَّ بِشَرْطِ اخْتِلاَفِهَا فِي الرِّحْلَةِ وَالنَّجَابَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْكُورًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ,فَإِنْ قَالُوا: نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا قلنا: إنْ فَعَلْتُمْ كُنْتُمْ قَدْ كَذَبْتُمْ وَزِدْتُمْ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَمَا لَمْ يُرْوَ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ، كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ بِالْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الْخَبَرِ، لأََنَّهُ مِثْلُهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْنَا: هَذَا عَجَبٌ يَكُونُ قَوْلُ عُمَرَ " مِنْ الرِّبَا السَّلَمُ فِي سِنٍّ " مُضَافًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ، وَيَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ بِغَيْرِ عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نَصِّهِ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ آخُذَ فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ أَبْتَاعُ الْبَعِيرَ بِالْقَلُوصَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَتْ الصَّدَقَةُ قَضَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُفٍّ أُفٍّ لِعَدَمِ الْحَيَاءِ، وَلاَ تُمَوِّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكْرٌ فَقَضَاهُ، فَإِنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَرْضًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْقَرْضِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَكَذَلِكَ ابْتِيَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَبْدَ الَّذِي هَاجَرَ إلَيْهِ بِعَبْدَيْنِ وَصَفِيَّةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ فَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ نَقْدًا. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِخَبَرِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي أَنَّ الْعُمْرَةَ تَطَوُّعٌ، وَبِتِلْكَ الْمَرَاسِيلِ وَالْبَلاَيَا أَنْ يَقُولُوا: "بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ كُلُّهُمْ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً" .وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لاَ بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ خَيْرَ فِيهِ نَسَاءٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً"، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ فَخَالَفَهُ الْمَالِكِيُّونَ جُمْلَةً. وَأَجَازُوا الْحَيَوَانَ كُلَّهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ نَسِيئَةً. وَأَجَازُوهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إذَا اخْتَلَفَتْ أَوْصَافُهُ بِتَخَالِيطَ لاَ تُعْقَلُ. وَنَسِيَ الْحَنَفِيُّونَ قَوْلَهُمْ: إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لاَ زَكَاةَ فِيهَا، فَهَلاَّ قَالُوا: هُنَا: "نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام، عَنِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً" دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعُرُوضِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الْوُصَفَاءِ، وَإِصْدَاقَ الْوُصَفَاءِ فِي الذِّمَّةِ وَمَنَعُوا مِنْ السَّلَمِ فِي الْوُصَفَاءِ فَقَالُوا: "النِّكَاحُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ" قلنا: "وَالسَّرِقَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ النِّكَاحِ، وَقَدْ قِسْتُمْ مَا يَكُونُ صَدَاقًا عَلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ، وَمَا فِي حُكْمٍ

(9/108)


إِلاَّ وَهُوَ يُخَالِفُ سَائِرَ الأَحْكَامِ ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَيْثُ اشْتَهَيْتُمْ.
قال أبو محمد: وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ نُبَيْحًا الْعَنَزِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "السَّلَمُ بِالسِّعْرِ"، وَلَكِنْ اسْتَكْثِرْ بِدَرَاهِمِك أَوْ بِدَنَانِيرِك إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فِي السَّلَفِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كَيْلٌ مَعْلُومٌ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. عَنِ ابْنِ عُمَرَ إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي الْكَرَابِيسِ وَهِيَ ثِيَابٌ وَفِي الْحَرِيرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السَّبَائِبِ وَهُوَ الْكَتَّانُ وَكُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ وَزْنُهُ، وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إجَازَةَ سَلَمٍ حَالٍّ، وَلاَ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ، وَلاَ مَوْزُونٍ إِلاَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ.وَرُوِّينَا أَيْضًا: إبَاحَتَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاسْتِدْلاَلٍ لاَ بِنَصٍّ. وَرُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ صَحِيحًا، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/109)


لو الأجل في السلم ما وقع عليه أجل
...
1613 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَجَلُ فِي السَّلَمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ أَجَلٍ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَحُدَّ أَجَلاً مِنْ أَجَلٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا: وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ فَالأَجَلُ سَاعَةٌ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: لاَ يَكُونُ الأَجَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.وقال بعضهم: لاَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد: هَذَا تَحْدِيدٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ بِلاَ برهان وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: "يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَيْنِ فَأَقَلّ"َ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "مَا تَتَغَيَّرُ إلَيْهِ الأَسْوَاقُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ"، لأََنَّهُ تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان ثُمَّ إنَّ الأَسْوَاقَ قَدْ تَتَغَيَّرُ مِنْ يَوْمِهَا، وَقَدْ لاَ تَتَغَيَّرُ شُهُورًا وَكِلاَهُمَا لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَى التَّحْدِيدِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: "خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا".

(9/109)


ولا يجوز أن يكون الثمن في السلم الا مقبوظا
...
1614 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ إِلاَّ مَقْبُوضًا فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ تَمَامِ قَبْضِ جَمِيعِهِ بَطَلَتْ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُسَلِّفَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. " وَالتَّسْلِيفُ " فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام هُوَ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ، فَمَنْ لَمْ يَدْفَعْ مَا أُسْلِفَ فَلَمْ يُسَلَّفْ شَيْئًا، لَكِنْ وَعَدَ بِأَنْ يُسَلِّفَ. فَلَوْ دَفَعَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ سَوَاءٌ أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ فَهِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَقْدٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ وَاحِدٍ جَمَعَ فَاسِدًا وَجَائِزًا

(9/109)


1615 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ عَيْبًا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ السَّلاَمَةَ بَطَلَتْ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، لأََنَّ الَّذِي أُعْطِيَ غَيْرَ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ، فَصَارَ عَقْدَ سَلَمٍ لَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْبِسَ مَا أَخَذَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَرُدَّ وَتُنْقَضُ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا لأََنَّهُ إنْ رَدَّ الْمَعِيبَ صَارَ سَلَمًا لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ,وقال أبو حنيفة: "يَسْتَبْدِلُ الزَّائِفَ، وَيُبْطِلُ مِنْ الصَّفْقَةِ بِقَدْرِ مَا وَجَدَ مِنْ السَّتُّوقِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي",وقال مالك: "يَسْتَبْدِلُ كُلَّ ذَلِكَ وَالْحُجَّةُ فِي هَذِهِ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَلاَ فَرْقَ".

(9/110)


ولا يجوز أن يشترط طافي السلم
...
1616 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا فِي السَّلَمِ دَفْعَهُ فِي مَكَان بِعَيْنِهِ، فَإِنْ فَعَلاَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ وَكُلَّمَا قلنا أَوْ نَقُولُ: "إنَّهُ فَاسِدٌ، فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ",وبرهان ذَلِكَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ" لَكِنَّ حَقَّ السَّلَمِ قِبَلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَحَيْثُ مَا لَقِيَهُ عِنْدَ مَحَلِّ الأَجَلِ فَلَهُ أَخْذُهُ، يَدْفَعُ حَقَّهُ إلَيْهِ، فَإِنْ غَابَ أَنْصَفَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ إنْ وُجِدَ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ أَمَانَتِهِ حَيْثُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَيُسْأَلُهَا. وَالْمَشْهُورُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ السَّلَمَ يَبْطُلُ إنْ لَمْ يُذْكَرْ مَكَانُ الإِيفَاءِ.
وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: "مَالُهُ مُؤْنَةٌ وَحِمْلٌ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ"، إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَ الدَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ حِمْلٌ، وَلاَ مُؤْنَةٌ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَ الدَّفْعِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَبرهان عَلَى صِحَّتِهَا، فَهِيَ فَاسِدَةٌ.

(9/110)


1617 - مَسْأَلَةٌ: وَاشْتِرَاطُ الْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ يَفْسُدُ بِهِ السَّلَمُ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهِ فَجَائِزٌ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الرَّهْنِ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَمِمَّنْ أَبْطَلَ بِهِ الْعَقْدَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمَا.

(9/110)


1618 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِي الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ إذَا سُلِّمَ فِيهِمَا عَرَضًا، لأََنَّهُمَا وَزْنٌ

(9/110)


1619 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ فِي صِنْفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ مِثْلُ أَنْ يُسَلِّمَ فِي قَفِيزَيْنِ مِنْ قَمْحٍ وَشَعِيرٍ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَكُونُ مِنْهُمَا قَمْحًا، وَكَمْ يَكُونُ شَعِيرًا وَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُمَا نِصْفَانِ لأََنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَلَوْ أَسْلَمَ اثْنَانِ إلَى وَاحِدٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالسَّلَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي الثَّمَنِ الَّذِي يَدْفَعَانِ، لأََنَّ الَّذِي أَسْلَمَا فِيهِ إنَّمَا هُوَ بِإِزَاءِ الثَّمَنِ بِلاَ خِلاَفٍ. فَلَوْ أَسْلَمَ وَاحِدٌ إلَى اثْنَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَهُمَا فِيمَا قَبَضَا سَوَاءٌ لأََنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ، وَأَخَذَاهُ مَعًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلاَ فِيهِ إِلاَّ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّ لِهَذَا ثُلُثَهُ وَلِهَذَا ثُلُثَيْهِ، أَوْ كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/113)


ولا بد من وصف ما يسلم فيه ما يسلم فيه بصفاته الضابطة
...
1620 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ بُدَّ مِنْ وَصْفِ مَا يُسْلِمُ فِيهِ بِصِفَاتِهِ الضَّابِطَةِ لَهُ، لأََنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ تِجَارَةً، عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ، إذْ لاَ يَدْرِي الْمُسَلِّمُ مَا يُعْطِيهِ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ، وَلاَ يَدْرِي الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْمُسَلِّمُ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَالتَّرَاضِي لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يُمْكِنُ إِلاَّ فِي مَعْلُومٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(9/113)


والسلم جائز فيما يوجد حين عقد
...
1621 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِيمَا لاَ يُوجَدُ حِينَ عَقْدِ السَّلَمِ، وَفِيمَا يُوجَدُ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِلَى مَنْ عِنْدَهُ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيمَا لاَ يُوجَدُ حِينَ حُلُولِ أَجَلِهِ.برهان ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالسَّلَمِ كَمَا ذَكَرْنَا " وَبَيَّنَ فِي الْكَيْلِ " وَفِي الْوَزْنِ، وَإِلَى أَجَلٍ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُ السَّلَمِ فِي الشَّيْءِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي حَالِ وُجُودِهِ، أَوْ إلَى مَنْ عِنْدَهُ مَا سُلِّمَ إلَيْهِ فِيهِ لَمَا أَغْفَلَ عليه السلام بَيَانَ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَنَا إلَى غَيْرِهِ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَمَّا السَّلَمُ فِيمَا لاَ يُوجَدُ حِينَ حُلُولِ أَجَلِهِ فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا فَهُوَ عَقْدٌ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ. وقولنا في هذا كُلِّهِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَلَمْ يُجِزْ السَّلَمَ فِي شَيْءٍ لاَ يُوجَدُ حِينَ السَّلَمِ فِيهِ: سُفْيَانُ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ حِينِ السَّلَمِ إلَى حِينِ أَجَلِهِ لاَ يَنْقَطِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي شَيْءٍ يَنْقَطِعُ، وَلَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ، وَلاَ يُعْلَمُ أَيْضًا هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مِنْ هَذَا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ السَّلَمَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَهُمَا بَعْدُ سُنْبُلٌ لَمْ يَشْتَدَّ وَأَمَّا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ السَّلَمَ عِنْدَ الْحَنَفِيِّينَ وَعِنْدَنَا لَيْسَ بَيْعًا فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ جُمْلَةً. وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا حَلَّ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ لاَ لِمَنْ هُوَ عِنْدَهُ حِينَ السَّلَمِ فَإِنْ خَصُّوا السَّلَمَ مِنْ ذَلِكَ قلنا: فَخَصُّوهُ مِنْ جُمْلَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ فِيهِ وَإِلَّا فَقَدْ تَحَكَّمْتُمْ فِي الْبَاطِلِ. وَمَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ نَجْرَانِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ".
وَحدثنا حمام، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبُغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النَّجْرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسْلَفَ فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ" النَّجْرَانِيُّ عَجَبٌ مَا كَانَ لِيَعْدُوَهُمْ حَدِيثُ النَّجْرَانِيِّ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ ثَمَرُ النَّخْلِ خَاصَّةً.فَإِنْ قَالُوا: "قِسْنَا عَلَى ثَمَرَةِ النَّخْلِ" قلنا: وَهَلَّا قِسْتُمْ عَلَى السَّائِمَةِ غَيْرَ السَّائِمَةِ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ مَا قَالُوهُ مِنْ تَمَادِي وُجُودِهِ إلَى حِينِ أَجَلِهِ.
وَأَمَّا السَّلَمُ إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ يَحْيَى

(9/114)


بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ، عَنِ الرَّجُلِ يَبْتَاعُ شَيْئًا إلَى أَجَلٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلُهُ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا، وَكَرِهَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعِكْرِمَةُ، وطَاوُوس، وَابْنُ سِيرِينَ فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ. وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرو، هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: " نَهَى، عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ" وَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ" . وَمِنْ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ،عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: "نَهَى عُمَرُ، عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى يَصْلُحَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُسْلِمَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ أَوْ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ.وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا طَارِقٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَر: "لاَ تُسْلِمُوا فِي فِرَاخٍ حَتَّى تَبْلُغَ" وَذَكَرُوا كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ، عَنِ الأَسْوَدِ، وَإِبْرَاهِيمَ.
قَالَ عَلِيٌّ: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ إنَّمَا نَهَوْا، عَنْ ذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ فِي زَرْعٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي ثَمَرِ نَخْلٍ بِعَيْنِهِ وَنَصُّ هَذِهِ الأَخْبَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا رَأَيَا السَّلَمَ بَيْعًا، وَالْحَنَفِيُّونَ لاَ يَرَوْنَهُ بَيْعًا وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي شَيْءٍ غَيْرَ حُجَّةٍ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".

(9/115)


1622 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَلَمَ فِي شَيْءٍ فَضَيَّعَ قَبْضَهُ أَوْ اشْتَغَلَ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ وَعَدِمَ فَصَاحِبُ الْحَقِّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُوجَدَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ لَوْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فَحُرْمَةُ حَقِّ صَاحِبِ السَّلَمِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَيْنِ حَقِّهِ كَحُرْمَةِ مِثْلِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ ".

(9/115)


1623 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ ، لأََنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ وَقَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ، لأََنَّهُ غَرَرٌ لَكِنْ يُبْرِئُهُ مِمَّا شَاءَ مِنْهُ فَهُوَ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/115)


1624 - مَسْأَلَةٌ: مُسْتَدْرَكَةٌ مِنْ الْبُيُوعِ: مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَهِيَ لَهُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ قَائِمٍ أَوْ شَجَرٍ ثَابِتٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَبِنَاؤُهَا كُلُّهُ لَهُ وَكُلُّ مَا يَكُونُ مُرَكَّبًا فِيهَا مِنْ بَابٍ أَوْ دُرْجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الدُّورَ وَالأَرْضِينَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا لاَ يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْعُ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هَكَذَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهَا غَيْرَ مَبْنِيٍّ كَأَبْوَابٍ، وَسُلَّمٍ، وَدُرْجٍ، وَآجُرٍّ،

(9/115)


كتاب الهبات
*
لا تجوز هبة الا في موجود معلوم معروف القدر
...
كِتَابُ الْهِبَاتِ
1625 - مَسْأَلَةٌ: لاَ تَجُوزُ هِبَةٌ إِلاَّ فِي مَوْجُودٍ، مَعْلُومٍ، مَعْرُوفِ الْقَدْرِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْقِيمَةِ وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلٌ مَرْدُودَةٌ.وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ كَمَنْ وَهَبَ مَا تَلِدُ أَمَتُهُ، أَوْ شَاتُه، أَوْ سَائِرُ حَيَوَانِهِ، أَوْ مَا يَحْمِلُ شَجَرُهُ الْعَامَ وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ، لأََنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا لَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ وَالأَشْيَاءَ مَعَهُ وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ. وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ يَقْتَضِي كُلُّ ذَلِكَ مَوْهُوبًا وَمُتَصَدَّقًا، فَمَنْ أَعْطَى مَعْدُومًا أَوْ تَصَدَّقَ بِمَعْدُومٍ فَلَمْ يُعْطِ شَيْئًا، وَلاَ وَهَبَ شَيْئًا وَلاَ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ. وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا فَلاَ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَمْوَالَ النَّاسِ إِلاَّ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَطِيبَ النَّفْسُ عَلَى مَا لاَ تَعْرِفُ صِفَاتِهِ، وَلاَ مَا هُوَ، وَلاَ مَا قَدْرُهُ، وَلاَ مَا يُسَاوِي، وَقَدْ تَطِيبُ نَفْسُ الْمَرْءِ غَايَةَ الطِّيبِ عَلَى بَذْلِ الشَّيْءِ وَبَيْعِهِ، وَلَوْ عَلِمَ صِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ وَمَا يُسَاوِي لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَهَذَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَهُوَ حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ.وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَى أَوْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِرِطْلٍ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ، أَوْ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا الْبُرِّ، فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ لَمْ يُوقِعْ صَدَقَتَهُ، وَلاَ هِبَتَهُ عَلَى مَكِيلٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ مَعْدُودٍ بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَهَبْ، وَلاَ تَصَدَّقَ أَصْلاً.وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ لاَ يَدْرِي، وَلاَ لِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ، لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْحَبْسُ فَبِخِلاَفِ هَذَا كُلِّهِ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ حُكْمُهُ الْوَارِدُ فِيهِ بِالنَّصِّفَإِنْ ذَكَرُوا الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ دِحْيَةُ يَوْمَ خَيْبَرَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ" قَالَ:: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ"، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ بِنْتَ حُيَيِّ سَيِّدِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَا تَصْلُحُ إِلاَّ لَكَ"، قَالَ: "اُدْعُهُ بِهَا"، قَالَ: "فَجَاءَ بِهَا"، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا" قلنا:: هَذَا أَعْظَمُ حُجَّةً لَنَا"، لأََنَّ الْعَطِيَّةَ لَوْ تَمَّتْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ الْمَثَلُ السَّوْءُ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَكِنَّ أَخْذَهَا وَتَمَامَ

(9/116)


مِلْكِهِ لَهَا، وَكَمَالَ عَطِيَّتِهِ عليه السلام لَهُ، إذْ عَرَفَ عليه الصلاة والسلام عَيْنَهَا، أَوْ صِفَتَهَا، أَوْ قَدْرَهَا، وَمَنْ هِيَ" فإن قيل:: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عليه السلام اشْتَرَى صَفِيَّةَ مِنْ دِحْيَةَ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ ,قلنا: كِلاَ الْخَبَرَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ صَحِيحٌ، وَتَأْلِيفُهُمَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ " إنَّهَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، إنَّمَا مَعْنَاهُ بِأَخْذِهِ إيَّاهَا إذْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ فَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ. وَقَوْلُهُ اشْتَرَاهَا عليه السلام بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عليه السلام عَوَّضَهُ مِنْهَا فَسَمَّى أَنَسٌ ذَلِكَ الْفِعْلَ شِرَاءً.وَالثَّانِي أَنَّ دِحْيَةَ إذْ أَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: خُذْ غَيْرَهَا، قَدْ سَأَلَهُ إيَّاهَا، وَكَانَ عليه السلام لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا.فَصَحَّتْ لَهُ، وَصَحَّ وُقُوعُهَا فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ. وَلاَ شَكَّ فِي صِحَّةِ الْخَبَرَيْنِ، وَلاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِصِحَّتِهِمَا، إِلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَا لاَ شَكَّ فِيهِ فَلاَ شَكَّ فِيمَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَابِرٍ: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا, قلنا: هَذِهِ عِدَةٌ لاَ عَطِيَّةٌ، وَقَدْ أَنْفَذَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه هَذِهِ الْعِدَّةَ بَعْد مَوْتِهِ عليه السلام وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/117)


1626 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ آخَرَ حَقٌّ فِي الذِّمَّةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ، فَقَالَ لَهُ: "قَدْ وَهَبْتُ لَك مَا لِي عِنْدَك"، أَوْ قَالَ: "قَدْ أَعْطَيْتُكَ مَا لِي عِنْدَك أَوْ قَالَ لأَخَرَ: قَدْ وَهَبْتُ لَك مَا لِي عِنْدَ فُلاَنٍ", أَوْ قَالَ: "عْطَيْتُك مَا لِي عِنْدَ فُلاَنٍ" فَلاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي ذَلِكَ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ عِنْدَ فُلاَنٍ فِي أَيِّ جَوَانِبِ الدُّنْيَا هُوَ، وَلَعَلَّهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ الآنَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا بِلَفْظِ: الإِبْرَاءِ، أَوْ الْعَفْوِ، أَوْ الإِسْقَاطِ، أَوْ الْوَضْعِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا بِلَفْظِ " الصَّدَقَةِ " لِلْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَهَذَا عُمُومٌ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ,فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لأََهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} .قلنا: أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَهِبَاتُهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا أَفْعَالُ خَلْقِهِ، وَلاَ هِبَاتُهُمْ، لأََنَّهُ تَعَالَى لاَ آمِرَ فَوْقَهُ، وَلاَ شَرْعَ يَلْزَمُهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فَكَيْفَ وَذَلِكَ الْغُلاَمُ الْمَوْهُوبُ مَخْلُوقٌ مُرَكَّبٌ مِنْ نَفْسٍ مَوْجُودَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُهَا، وَمِنْ تُرَابٍ، وَمَا تَتَغَذَّى بِهِ أُمُّهُ، قَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ كُلِّ ذَلِكَ,وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ، وَقَدْ أَحَاطَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا بِأَعْيَانِ كُلِّ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ خَلْقِهِ وَالْكُلُّ

(9/117)


مِلْكُهُ بِخِلاَفِ خَلْقِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ فَرَّقَ مُخَالِفُونَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ: فَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الصَّدَقَةَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ، وَلَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ إِلاَّ مَقْبُوضَةً. وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ وَلَمْ يُجِزْهُ فِي الصَّدَقَةِ. وَيَكْفِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ، وَيَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَعَلَى آلِهِ، وَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمَا الْعَطَايَا، وَلاَ الْهِبَاتُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/118)


1627 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْهِبَةُ بِشَرْطٍ أَصْلاً، كَمَنْ وَهَبَ عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَهَا الْمَوْهُوبُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُوَلِّدَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ: فَالْهِبَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودَةٌ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا لاَ يُعْقَدُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ عَقْدٌ بِهِ.

(9/118)


1628 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا تَجُوزُ هِبَةٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا الثَّوَابُ أَصْلًا، وَهِيَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ,فَهُوَ بَاطِلٌ، بَلْ فِي الْقُرْآنِ الْمَنْعُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورٍ مِنْ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ نا يَحْيَى الْجَبَّانِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} قَالَ: هُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ، أَوْ هِبَةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا إذَا أَرَادَهُ بِقَلْبِهِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطَهُ فَعَيْنُ الْبَاطِلِ وَالإِثْمِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْعَوْفِيُّ نا أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِي نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَهُ طَاوُوس أَيْضًا - وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَمْنُنْ عَطِيَّتَك، وَلَا عَمَلَك، وَلَا تَسْتَكْثِرْ. وَبِهِ إلَى إسْمَاعِيلَ نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ مَالًا مُصَانَعَةً رَجَاءَ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ الثَّوَابِ مِنْ الدُّنْيَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ هُوَ عَارِمٌ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ سَمِعْت عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَا جَمِيعًا: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُصِيبَ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نا الْهَرَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ نا الزِّبْرِقَانُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}

(9/118)


1629 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً سَالِمَةً مِنْ شَرْطِ الثَّوَابِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَعْطَى عَطِيَّةً كَذَلِكَ أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَمَّتْ بِاللَّفْظِ، وَلاَ مَعْنَى لِحِيَازَتِهَا، وَلاَ لِقَبْضِهَا، وَلاَ يُبْطِلُهَا تَمَلُّكُ الْوَاهِبِ لَهَا، أَوْ الْمُتَصَدِّقِ بِهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَوَاءٌ تَمَلَّكَهَا إلَى أَنْ مَاتَ، أَوْ مُدَّةً يَسِيرَةً أَوْ كَثِيرَةً عَلَى وَلَدٍ صَغِيرٍ كَانَتْ أَوْ عَلَى كَبِيرٍ أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا اسْتَغَلَّ مِنْهَا كَالْغَصْبِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِي حَيَاتِهِ، وَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وقال أبو حنيفة: "مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ هِبَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، وَلاَ إلَى الَّذِي وَهَبَهَا لَهُ، فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ

(9/120)


مُخْتَارًا، فَحِينَئِذٍ تَمَّتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ"، وَصَحَّ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ أَوْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ وَالْمُتَصَدِّقِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بِذَلِكَ مِلْكٌ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّهَا إلَى الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ إِلاَّ الصَّغِيرَ، فَإِنَّ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ يَقْبِضَانِ لَهُ. قَالَ: "فَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ، أَوْ الْمُتَصَدِّقُ، أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ".وقال مالك: "مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ" وَهُوَ الْحَائِزُ لِلصَّغِيرِ الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ وَلِلأُُنْثَى تُنْكَحُ وَتَرْشُدُ. فَإِنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدٍ كَبِيرٍ، أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ: أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا فَإِنْ قَبَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ قَبْضٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ غَفَلَ، عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَالْهِبَةُ أَوْ الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ وَاعْتِمَارِهِ: بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَعَادَتْ مِيرَاثًا فَإِنْ دَفَعَ الْبَعْضَ وَاعْتَمَرَ الْبَعْضَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ: بَطَلَ الْجَمِيعُ وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَأَقَلُّ: صَحَّتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِي الْجَمِيعِ فِيمَا اعْتَمَرَ وَفِيمَا لَمْ يَعْتَمِرْ. وقال الشافعي "فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الأَحْبَاسِ فَقَطْ بِالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ أَصْحَابِنَا".
قال أبو محمد: "احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ إِلاَّ بِالْقَبْضِ" بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ وَيَقُولُ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ" قَالُوا: فَشَرَطَ عليه الصلاة والسلام فِي الْعَطِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ الإِمْضَاءَ، وَهُوَ الإِقْبَاضُ وَقَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْقَرْضِ، وَالْعَارِيَّةِ، فَلاَ يَصِحَّانِ إِلاَّ مَقْبُوضَيْنِ، بِعِلَّةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَعَلَى الْوَصِيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ، لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ مُقْتَرِنٍ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لَهَا: إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك فَإِذْ لَمْ تَفْعَلِي فَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، وَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَفِيهِ: أَنَّهَا قَالَتْ " وَاَللَّهِ يَا أَبَتِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَرَدَدْته ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ، قَالَ لَهَا: إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ أَرْضِي الَّتِي بِالْغَابَةِ، وَإِنَّك لَوْ كُنْتِ احْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلِي، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ".وَمِنْ طَرِيقِ

(9/121)


عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْقَارِي أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَنْحَلُونَ أَوْلاَدَهُمْ فَإِذْ مَاتَ الأَبْنُ قَالَ الأَبُ: مَالِي وَفِي يَدِي، وَإِذَا مَاتَ الأَبُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ نَحَلْتُ ابْنِي كَذَا وَكَذَا، لاَ نَحْلَ إِلاَّ لِمَنْ حَازَهُ وَقَبَضَهُ، عَنْ أَبِيهِ". قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ شُكِيَ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: نَظَرْنَا فِي هَذِهِ النُّحُولِ فَرَأَيْنَا أَحَقَّ مَنْ يَحُوزُ عَلَى الصَّبِيِّ أَبُوهُ" فَهَذِهِ أَصَحُّ رِوَايَةٍ فِي هَذَا، وَصَحَّ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ كَمَا أَوْرَدْنَا.وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نُحْلاً ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ قَالَ: مَالِي بِيَدِي لَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ قَالَ: لأَبْنِي قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إيَّاهُ، مَنْ نَحَلَ نِحْلَةً لَمْ يَحُزْهَا الَّذِي نُحِلَهَا حَتَّى تَكُونَ لِوَارِثِهِ إنْ مَاتَ فَهِيَ بَاطِلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا صَغِيرًا لَهُ لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَحُوزَ نِحْلَةً فَأَعْلَنَ بِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَإِنْ وَلِيَهَا أَبُوهُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَشُرَيْحٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَبُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ: مِنْ هَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ عَمْرٌو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، ثُمَّ اتَّفَقَ سَعِيدٌ وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، قَالُوا: لاَ تَجُوزُ صَدَقَةٌ حَتَّى تُقْبَضَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لاَ يُجِيزُ الصَّدَقَةَ حَتَّى تُقْبَضَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِإِسْنَادِهِ، وَزَادَ فِيهِ: إِلاَّ الصَّبِيَّ بَيْنَ أَبَوَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ شُرَيْحًا وَمَسْرُوقًا، كَانَا لاَ يُجِيزَانِ صَدَقَةً إِلاَّ مَقْبُوضَةً وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقْضِي بِذَلِكَ. قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فَإِذَا أَمْضَاهَا فَقُبِضَتْ، فَهِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ.
قال علي: "هذا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ",
فأما قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ: "إِلاَّ مَا تَصَدَّقْتَ، أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ" فَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّ الإِمْضَاءَ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ التَّصَدُّقِ، وَالإِعْطَاءِ، وَلاَ جَاءَ ذَلِكَ قَطُّ فِي لُغَةٍ، بَلْ كُلُّ تَصَدُّقٍ وَإِعْطَاءٍ إعْطَاءٌ، فَاللَّفْظُ بِهِمَا إمْضَاءٌ لَهُمَا، وَإِخْرَاجٌ لَهُمَا، عَنْ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ

(9/122)


الأَكْلَ نَفْسَهُ هُوَ الإِفْنَاءُ، وَاللِّبَاسُ هُوَ الإِبْلاَءُ، لأََنَّ لِكُلِّ لُبْسَةٍ حَظُّهَا مِنْ الإِبْلاَءِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ اللِّبَاسُ ظَهَرَ الإِبْلاَءُ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: "مَا لِي هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى فُلاَنٍ، أَوْ قَالَ: قَدْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِهَذَا الشَّيْءِ"، أَوْ قَالَ: "مَالِي هَذَا هِبَةٌ لِفُلاَنٍ"، أَوْ قَالَ: "قَدْ وَهَبْتُهُ لِفُلاَنٍ" فَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِمَّنْ يُحْسِنُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ فِي أَنَّهُ يُقَالُ: قَدْ تَصَدَّقَ فُلاَنٌ بِكَذَا عَلَى فُلاَنٍ، وَقَدْ وَهَبَ لَهُ كَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الصَّدَقَةُ كَامِلَةً تَامَّةً بِاللَّفْظِ، لَكَانَ الْمُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصَدَّقَ، أَوْ وَهَبَ كَاذِبًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ، مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِحُكْمٍ زَائِدٍ لاَ تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ وَيُعْمَلُ بِهِ. وَيُسْأَلُ الْمَالِكِيُّونَ خَاصَّةً عَمَّنْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَك، أَوْ قَالَ: هَذَا الشَّيْءُ هِبَةٌ لَك، أَوْ قَالَ: قَدْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِهَذَا، أَوْ قَالَ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَيْك أَتَصَدَّقُ، وَوَهَبَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، وَلاَ وَهَبَهُ، وَلاَ ثَالِثَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَوَهَبَهُ قلنا: فَإِذْ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَوَهَبَهُ فَقَدْ تَمَّتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَصَحَّتْ، فَمَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ الْحِيَازَةِ وَالْقَبْضِ، إذَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّفَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَهَبْ، وَلاَ تَصَدَّقَ قلنا: فَمِنْ أَيْنَ اسْتَحْلَلْتُمْ إجْبَارَهُ وَالْحُكْمَ عَلَيْهِ بِدَفْعِ مَالٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُتَصَدَّقْ بِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ وَهَبَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَهَبْهُ لَهُ، وَلاَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ هَذَا عَيْنُ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ، وَلاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا مَنْ دُونَ الصَّحَابَةِ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لاَ سِيَّمَا وَالْخِلاَفُ قَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ تِلْكَ الأَخْبَارِ إمَّا لاَ تَصِحُّ،
وَأَمَّا قَدْ جَاءَتْ بِخِلاَفِ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ أَلْفَاظِهَا، وَأَمَّا قَدْ خَالَفُوا أُولَئِكَ الصَّحَابَةَ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ كَمَجِيءِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ بِأَصَحَّ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرْضِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْعَارِيَّةِ: فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ: أَمَّا الْقَرْضُ: فَقَدْ أَبْطَلُوا وَهُوَ لاَزِمٌ بِاللَّفْظِ وَمَحْكُومٌ بِهِ، وَلاَ بُدَّ إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْ الْقَرْضِ بِعَدَمِ الإِقْبَاضِ مِثْلُ مَا يَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ مَالِي، أَوْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْك بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ مِنْ مَالِي، أَوْ وَهَبْتُكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ مَالِي: فَهَذَا كُلُّهُ لاَ يَلْزَمُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، إِلاَّ فِي مُعَيَّنٍ، وَإِلَّا فَلَيْسَ وَاهِبًا لِشَيْءٍ، وَلاَ مُتَصَدِّقًا بِشَيْءٍ، وَلاَ مُقْرِضًا لِشَيْءٍ. وَالْقَوْلُ فِي الْعَارِيَّةِ كَالْقَوْلِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْقِيَاسُ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَرْضَ يَرْجِعُ فِيهِ مَتَى أَحَبَّ، وَالْعَارِيَّةَ كَذَلِكَ وَلاَ يَرْجِعُ عِنْدَنَا فِي الْهِبَةِ، وَلاَ فِي الصَّدَقَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْقَرْضَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ بِعِوَضٍ، وَالْعَارِيَّةَ

(9/123)


لَيْسَتْ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ أَصْلاً فَبَطَلَ قِيَاسُ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ لأَخْتِلاَفِ أَحْكَامِهَا. وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: "ِّفَاقُ جَمِيعِهَا فِي أَنَّهَا بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ فَأَنَا أَقِيسُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَوْلَى مِمَّنْ قَالَ افْتِرَاقُهَا فِي أَحْكَامِهَا يُوجِبُ أَنْ لاَ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الأَتِّفَاقُ يُوجِبُ الْقِيَاسَ، فَالأَفْتِرَاقُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، وَإِلَّا فَقَدْ تَحَكَّمُوا بِالدَّعْوَى بِلاَ برهان" وَيُقَالُ لَهُمْ: "هَلَّا قِسْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَكُمْ بِاللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ"، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ مِنْ الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ: فَقَدْ كَفَوْنَا مُؤْنَةَ قِيَاسِهِمْ عَلَيْهَا، لأََنَّهُمْ لاَ يُوجِبُونَ فِيهَا الصِّحَّةَ بِالْقَبْضِ أَصْلاً، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِالْمَوْتِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُمْ: لاَ تَجِبُ بِاللَّفْظِ دُونَ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَوْتُ فَتَمْوِيهٌ بَارِدٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يُوجِبْ الْوَصِيَّةَ قَطُّ بِلَفْظِهِ، بَلْ إنَّمَا أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَحِينَئِذٍ وَجَبَتْ بِمَا أَوْجَبَهَا بِهِ فَقَطْ دُونَ مَعْنًى آخَرَ: فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ وَبَرْدُهُ وَغَثَاثَتُهُ، وَمُخَالَفَتُهُ لِلْحَقِّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَنَبْدَأُ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: لَمَّا نَصَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلاَ يَخْلُو ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَخْلاً تَجِدُّ مِنْهَا عِشْرِينَ وَسْقًا.وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَمْرًا يَكُونُ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً، لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَيُّ الأَمْرَيْنِ كَانَ فَإِنَّمَا هِيَ عِدَةٌ، وَلاَ يَلْزَمُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عِنْدَنَا، لأََنَّهَا لَيْسَتْ فِي مُعَيَّنٍ مِنْ النَّخْلِ، وَلاَ مُعَيَّنٍ مِنْ التَّمْرِ، وَقَدْ تَجِدُّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، وَقَدْ تَجِدُّ مِنْ مِائَتَيْ نَخْلَةٍ، وَقَدْ لاَ تَجِدُّ مِنْ نَخْلَةٍ بِالْغَابَةِ عِشْرِينَ وَسْقًا لِعَاهَةٍ تُصِيبَ الثَّمَرَةَ، فَهَذَا لاَ يَتِمُّ إِلاَّ حَتَّى يُعَيِّنَ النَّخْلَ أَوْ الأَوْسَاقَ فِي نَخْلَةٍ، فَيَتِمُّ حِينَئِذٍ بِالْجِدَادِ وَالْحِيَازَةِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ الْهِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَحْدُودَةِ وَلاَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ فِي وِرْدٍ، وَلاَ صَدْرٍ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يُوهِمُونَ فِي الأَخْبَارِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ عُرْوَةَ، وَآخَرُ هُوَ مِثْلُ عُرْوَةَ بِخِلاَفِ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيق عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "يَا بُنَيَّةُ إنِّي نَحَلْتُك نَخْلاً مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي أَخَاف أَنْ أَكُونَ آثَرْتُكِ عَلَى وَلَدِي، وَأَنَّكِ لَمْ تَكُونِي احْتَزْتِيهِ فَرُدِّيهِ عَلَى وَلَدِي فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، لَوْ كَانَتْ لِي خَيْبَرُ بِجِدَادِهَا لَرَدَدْتهَا. فَالْقَاسِمُ لَيْسَ دُونَ عُرْوَةَ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ لَيْسَ دُونَ ابْنِ شِهَابٍ، لأََنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ لَمْ يَأْخُذْ الزُّهْرِيُّ عَنْهُمْ، كَأَسْمَاءِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَابْنُ جُرَيْجٍ لَيْسَ دُونَ مَالِكٍ. وَهَذِهِ السِّيَاقَةُ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا لاَ لِقَوْلِهِمْ. فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَوْهُ مِمَّا لاَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ، بَلْ يُخَالِفُهُ حُجَّةً لِمَا لاَ يُوَافِقُهُ، وَلاَ يَكُونُ

(9/124)


مَا رُوِّينَاهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا حُجَّةً لِمَا يُوَافِقُهُ هَذِهِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ مِمَّنْ أَطْلَقَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ حِين أُحْضِرَ: "إنِّي قَدْ كُنْتُ أَبَنْتُكِ بِنُحْلٍ فَإِنْ شِئْت أَنْ تَأْخُذِي مِنْهُ قِطَاعًا أَوْ قِطَاعَيْنِ ثُمَّ تَرُدِّينَهُ إلَى الْمِيرَاثِ قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلاَ خِلاَفَ مِنْ أَنَّ مَسْرُوقًا أَجَلُّ مِنْ عُرْوَةَ، لأََنَّهُ أَفْتَى فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ وَكَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ". وَشَقِيقٌ أَجَلُّ مِنْ الزُّهْرِيِّ، لأََنَّهُ أَدْرَكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرَهُ، وَصَحِبَ الصَّحَابَةَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ عليه الصلاة والسلام الأَكَابِرَ الأَكَابِرَ. وَالأَعْمَشُ إنَّمَا يُعَارَضُ بِهِ شُيُوخَ مَالِكٍ، لأََنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ أَنَسًا وَرَآهُ، فَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا فِيهِ كَمَا تَرَى بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَرَدَّهُ بِإِذْنِهَا، لاَ بِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بِاللَّفْظِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مُرْسَلاً كَذَلِكَ، مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ جُمْلَةً وَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ، وَصَحَّ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِبَةَ جَائِزَةً بِغَيْرِ قَبْضٍ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ: "لاَ تَجُوزُ صَدَقَةٌ حَتَّى تُقْبَضَ فَبَاطِل"ٌ، لأََنَّ رَاوِيَهَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ وَهُوَ هَالِكٌ مُطْرَحٌ,وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ الْمُوَافِقَةُ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُثْمَانَ فَلاَ شَيْءَ، لأََنَّ ابْنَ وَهْبٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهَا وَالرِّوَايَةُ عَنْ مُعَاذٍ فِيهَا جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَبَقِيَّةُ الرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَهِيَ حُجَّةٌ إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فَعُمَرُ عَمَّ كُلَّ مَوْهُوبٍ، وَعُثْمَانُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ صِغَارَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ مِنْ رَأْيِهِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ، لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ خِلاَفُ ذَلِكَ، كَمَا أَوْرَدْنَا وَأَيْضًا فَإِنَّمَا هُوَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ فِي النُّحْلِ خَاصَّةً، لاَ فِي الصَّدَقَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ قَالَ: "سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الصَّدَقَةُ جَائِزَةٌ، قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: يُجِيزَانِ الصَّدَقَةَ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ فَهَذَا إسْنَادٌ كَإِسْنَادِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَتِلْكَ الْمُنْقَطِعَاتُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ [عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ]، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "نَحَلَنِي أَبِي نِصْفَ دَارِهِ"، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: "إنْ سَرَّك أَنْ تَحُوزَ ذَلِكَ فَاقْبِضْهُ"، فَإِنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الأَنْحَالِ: مَا قُبِضَ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُ فَهُوَ مِيرَاثٌ فَهَذَا أَنَسٌ بِأَصَحِّ سَنَدٍ لاَ يَرَى الْحِرْزَ شَيْئًا.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا

(9/125)


يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ وَهَبَ لأَمْرَأَتِهِ قَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْهَا. وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، كَقَضَائِهِمَا بِوَلَدِ الْمُسْتَحَقَّةِ رَقِيقًا لِسَيِّدِ أُمِّهِمْ، وَقَضَائِهِمَا فِي وَلَدِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الأَمَةِ بِخَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ، وَكَإِبَاحَتِهِمَا الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ. وَمَا رُوِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، مِنْ إبْطَالِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ. وَكَكَلاَمِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَةِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، إذْ ذَكَرَ لَهُ عُمَرُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَكَإِيجَابِهِمَا الْقِصَاصَ مِنْ الْوَكْزَةِ وَاللَّطْمَةِ، وَسُجُودِهِمَا فِي الْخُطْبَةِ، إذْ قَرَآ السَّجْدَةَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ دُونَ مُخَالِفٍ وَقَوْلُهُمَا: مَنْ أَشْعَرَ لَزِمَتْهُ الْحُدُودُ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَتَخْيِيرِهِمَا الْمَفْقُودَ إذَا قَدِمَ امْرَأَتَهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّدَاقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَمَرَّةً هُمَا حُجَّةٌ وَمَرَّةً لَيْسَا حُجَّةً.وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فِيمَنْ اعْتَمَرَ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ وَهَبَ الثُّلُثَ فَمَا فَوْقَهُ، أَوْ مَا دُونَ الثُّلُثِ، فَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ مَعَ تَنَاقُضِهِ هَاهُنَا، فَجَعَلَ الثُّلُثَ فِي حَيِّزِ الْكَثِيرِ، وَجَعَلَهُ فِيمَا تَحْكُمُ فِيهِ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِهَا فِي حَيِّزِ الْقَلِيلِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا مَعَ أَنَّهُ خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَكُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَفْظَةٌ، لأََنَّ جَمِيعَهُمْ إمَّا مُبْطِلٌ لِلْهِبَةِ فِيمَا لَمْ يَجُزْ جُمْلَةً، أَوْ فِي الصَّدَقَةِ كَذَلِكَ، أَوْ مُجِيزٌ لَهُ جُمْلَةً. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: "إنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ فَلَيْسَ قَبْضًا فَلاَ يُعْرَفُ"، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ. وَعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ، لأََنَّهُمَا رضي الله عنهما لَمْ يَقُولاَ حَتَّى يَقْبِضَ بِإِذْنِهِ، لَكِنْ قَالاَ: حَتَّى يَقْبِضَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً وَإِجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ الْحُجَّةَ وَالإِجْمَاعَ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمَا حُجَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا فَلاَ مَعْنَى لأَحْتِجَاجِهِمْ بِهِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِكُلِّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ, وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ "أَنَّ الصَّدَقَةَ جُمْلَةٌ تَتِمُّ بِلاَ حِيَازَةٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى".
قال أبو محمد: "وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأََنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ بَاطِلٌ، فَلَوْ عَمِلْنَا ذَلِكَ لَمَا أَجَزْنَاهَا، إذْ كُلُّ عَمَلٍ عُمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَنُبْطِلُ قَوْلَهُ فِي الْهِبَةِ بِمَا أَبْطَلْنَا بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ الْمُطْلَقَةِ يَمْلِكُهَا أَرْبَابُهَا، فَاحْتَاجُوا إلَى الْقَبْضِ
وَأَمَّا الْحُبَسُ فَلاَ مَالِكَ لَهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي قَبْضَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلاَ قَابِضَ لَهَا دُونَهُ".
قَالَ عَلِيٌّ: "الأَرْضُ كُلُّهَا وَكُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ، عَنْ مِلْكِهِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ" فَإِذَا

(9/126)


بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وَهَذَا مَكَانُ الأَحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الآيَةِ، لاَ حَيْثُ احْتَجُّوا بِهَا مِمَّا بَيَّنَتْ السُّنَنُ أَنَّهُ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا.وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَمَنْ تَلَفَّظَ بِالْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً، وَعَقَدَ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ إبْطَالُهُ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي إبْطَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/127)


ومن وهب هبة صحيحة لم يجز له الرجوع فيه أبدأ
...
1629 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَصْلاً مُذْ يَلْفِظُ بِهَا إِلاَّ الْوَالِدَ وَالأُُمَّ فِيمَا أَعْطَيَا، أَوْ أَحَدُهُمَا لِوَلَدِهِمَا فَلَهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ أَبَدًا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ. وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ الأَبْنَةُ عَلَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجَا، دَايَنَا عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُدَايِنَا، فَإِنْ فَاتَ عَيْنُهَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُمَا بِشَيْءٍ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُمَا بِالْغَلَّةِ، وَلاَ بِالْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْهِبَةِ، فَإِنْ فَاتَ الْبَعْضُ وَبَقِيَ الْبَعْضُ كَانَ لَهُمَا الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا. وقال أبو حنيفة: "مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ أَوْ لِوَلَدٍ هِبَةً وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا أَوْ وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ هِبَةً وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا فَلاَ رُجُوعَ لأََحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فِيمَا وَهَبَ وَمَنْ وَهَبَ لأََجْنَبِيٍّ، أَوْ لِمَوْلًى أَوْ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمَةٍ هِبَةً وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا، فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ مِنْ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ" وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ مَا لَمْ تَزِدْ الْهِبَةُ فِي بَدَنِهَا، أَوْ مَا لَمْ يُخْرِجْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ مَا لَمْ يَمُتْ الْوَاهِبُ، أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ مَا لَمْ يُعَوِّضْ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ غَيْرُهُ عَنْهُ الْوَاهِبَ عِوَضًا يَقْبَلُهُ الْوَاهِبُ، فَأَيُّ هَذِهِ الأَسْبَابِ كَانَ فَلاَ رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيمَا وَهَبَ. وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا إِلاَّ بِتَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ أَحَبَّ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَمْ كَرِهَ قَالَ: "فَلَوْ وَهَبَ آخَرُ جَارِيَةً فَعَلَّمَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ وَالْخَيْرَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَأَدَّاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْهَا، أَوْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَسْلَمَتْ فَلاَ رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيهَا",وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَلاَ رُجُوعَ لِلْمُتَصَدِّقِ فِيهَا لأََجْنَبِيٍّ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ أَجْنَبِيٍّ بِخِلاَفِ الْهِبَةِ وقال مالك: "لاَ رُجُوعَ لِوَاهِبٍ، وَلاَ لِمُتَصَدِّقٍ فِي هِبَتِهِ أَصْلاً، لاَ لأََجْنَبِيٍّ، وَلاَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ، إِلاَّ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ فَقَطْ"، وَفِيمَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ أَوْ ابْنَتِهِ الْكَبِيرَيْنِ أَوْ الصَّغِيرَيْنِ، مَا لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ وَهَبَهَا لِوَلَدِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَالَ هَذَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُ فِيمَا وَهَبَ فَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ، مَا لَمْ يُدَايِنْ الْوَلَدَ عَلَى تِلْكَ الْهِبَةِ، أَوْ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ الأَبْنُ أَوْ الأَبْنَةُ عَلَيْهَا، أَوْ مَا لَمْ يَثِبْ الْوَلَدُ أَوْ الأَبْنَةُ أَبَاهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ فَقَدْ بَطَلَ رُجُوعُ الأَبِ فِي الْهِبَةِ. وَتَرْجِعُ الأُُمُّ كَذَلِكَ فِيمَا وَهَبَتْ الأُُمُّ لِوَلَدِهَا الصِّغَارِ خَاصَّةً مَا دَامَ أَبُوهُمْ حَيًّا، فَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ فَلاَ رُجُوعَ لَهَا وَكَذَلِكَ لاَ رُجُوعَ لَهَا فِيمَا.

(9/127)


وَهَبَتْ لِوَلَدِهَا الْكِبَارِ، كَانَ أَبُوهُمْ حَيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ: وَهِبَةُ الثَّوَابِ صَاحِبُهَا الْوَاهِبُ لَهَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، فَإِنْ أُثِيبَ مِنْهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ. فَإِنْ أُثِيبَ قِيمَتَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ، فَإِنْ أُثِيبَ قِيمَتَهَا فَلَهُمْ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ لَهُ، وَالآخَرُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ مَا لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ الثَّوَابِ، وَلاَ ثَوَابَ عِنْدَهُمْ فِيمَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ لِلْفَقِيرِ فِيمَا أَهْدَى إلَى الْغَنِيِّ يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ، كَالْمَوْزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: وَلاَ رُجُوعَ فِي صَدَقَةٍ أَصْلاً، لاَ لِوَالِدٍ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: "هَذِهِ أَقَاوِيلُ لاَ تُعْقَلُ، وَفِيهَا مِنْ التَّضَادِّ، وَالدَّعَاوَى بِلاَ دَلِيلٍ مَا يَكْفِي سَمَاعُهُ عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْفَقِيرِ يُهْدِي إلَى الْغَنِيِّ يُقَدِّمُ الْمَوْزَ وَنَحْوَهُ مِنْ طَلَبِ الثَّوَابِ وَمَا أَحَدٌ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنْهُ، وَإِطْلاَقُهُمْ الْغَنِيَّ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ، وَمَنْعُهُمْ الأُُمَّ مِنْ الرُّجُوعِ إذَا مَاتَ أَبُو وَلَدِهَا، وَإِبَاحَتُهُمْ لَهَا الرُّجُوعَ إذَا كَانَ أَبُوهُمْ حَيًّا، وَإِبَاحَتُهُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَ لِيَتِيمٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُكْمِ الْوَالِدِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَخْصِيصُهُمْ إذَا تَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ الأَبْنَةُ عَلَى تِلْكَ الْهِبَةِ بِالْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ".وَكَذَلِكَ أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، إذْ رَأَى الإِسْلاَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَمْ يَرَ تَعَلُّمَ الْقُرْآنِ خَيْرًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ. وَإِذَا رَأَى أَدَاءَ دَيْنِ الْعَبْدِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَمْ يَرَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَإِذَا لَمْ يَرَ الرُّجُوعَ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ هَذَا عَجَبٌ جِدًّا، وَلَئِنْ كَانَ الرُّجُوعُ حَقًّا فَمَا بَالُهُ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْحَاكِمِ، وَلَئِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ فَمِنْ أَيْنَ جَازَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ فِي إبْطَالِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ رُجُوعِ بَائِعِ السِّلْعَةِ فِيهَا إذَا وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُفْلِسٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي لَهَا مَلَكَهَا أَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهَا فَبِأَيِّ شَيْءٍ صَارَتْ عِنْدَهُ، وَفِي جُمْلَةِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا فَلاَ سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى مَالِهِ فَهَاهُنَا كَانَ هَذَا الأَعْتِرَاضُ صَحِيحًا لاَ هُنَاكَ وَهَا هُنَا لاَ يَخْلُو الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَلَكَ مَا وَهَبَ لَهُ أَمْ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَلَّ لَهُ الْوَطْءُ وَالأَكْلُ، وَالْبَيْعُ، وَالتَّصَرُّفُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ وَرِثْث عَنْهُ إنْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ، فَلاَ سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَى مَالِهِ.
قال أبو محمد: "احْتَجَّ مَنْ رَأَى الرُّجُوعَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَرْضَ مِنْهَا" بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَلَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا إِلاَّ لِذِي رَحِمٍ".
وَمِنْ طَرِيق سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا".وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ

(9/128)


عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا".وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ رَدَّ الْهِبَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ غَرِيمَهُ مَاتَ وَدَيْنُهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ ابْنُ أَبْزَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: "الْمَوَاهِبُ ثَلاَثَةٌ: مَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ النَّاسِ، وَمَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا الثَّوَابُ فَمَوْهِبَةُ الثَّوَابِ يَرْجِعُ فِيهَا صَاحِبُهَا إذَا لَمْ يُثَبْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا يَعْنِي الْهِبَةَ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فَأَتَاهُ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ إلَيْهِ فِي بَازٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: وَهَبْتُ لَهُ بَازِي رَجَاءَ أَنْ يُثِيبَنِي فَأَخَذَ بَازِي وَلَمْ يُثِبْنِي فَقَالَ الآخَرُ: وَهَبَ لِي بَازِيَهُ مَا سَأَلْتُهُ، وَلاَ تَعَرَّضْت لَهُ، فَقَالَ فَضَالَةُ رُدَّ عَلَيْهِ بَازِيَهُ أَوْ أَثِبْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْمَوَاهِبِ النِّسَاءُ وَشِرَارُ الأَقْوَامِ. وَرُوِيَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْمَوَاهِبُ ثَلاَثَةٌ: "رَجُلٌ وَهَبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَوْهَبَ، فَهِيَ كَسَبِيلِ الصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ، وَرَجُلٌ اُسْتُوْهِبَ فَوَهَبَ فَلَهُ الثَّوَابُ، فَإِنْ قَبِلَ عَلَى مَوْهِبَتِهِ ثَوَابًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ وَرَجُلٌ وَهَبَ وَاشْتَرَطَ الثَّوَابَ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ حَتَّى يُثَابَ مِنْهَا مَا يَرْضَى، فَإِنْ نَمَتْ عِنْدَ مَنْ وُهِبَتْ لَهُ فَلَيْسَ لِمَنْ وَهَبَهَا إِلاَّ هِيَ بِعَيْنِهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ النَّمَاءِ شَيْءٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ مَنْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يُتْلِفْهَا أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ فَلْيَرْجِعْ فِيهَا عَلاَنِيَةً غَيْرَ سِرٍّ، ثُمَّ تُرَدُّ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَهَبَ شَيْئًا مُثْبَتًا فَحَسُنَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلْيَقْضِ لَهُ بِشَرْوَاهُ يَوْمَ وَهَبَهَا لَهُ، إِلاَّ مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا، أَوْ الزَّوْجَيْنِ، أَيُّهُمَا أَعْطَى صَاحِبَهُ شَيْئًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَلاَ رَجْعَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَيُونُسُ، وَابْنُ عَوْنٍ، كُلُّهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: "مَنْ أَعْطَى فِي صِلَةٍ

(9/129)


أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَجَزْنَا عَطِيَّتَهُ، وَالْجَانِبُ الْمُسْتَغْزِرُ يُثَابُ عَلَى هِبَتِهِ أَوْ تُرَدُّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يُثِبْه".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ"، فَإِنْ أُثِيبَ مِنْهَا قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ فَرَضِيَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَوَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ: أَنَّ رَجُلاً تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِخَادِمٍ لَهُ وَتَزَوَّجَ فَسَاقَ الْخَادِمَ إلَى امْرَأَتِهِ فَقَبَضَتْهَا امْرَأَتُهُ فَخَاصَمَتْهَا الأُُمُّ إلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ لَهَا شُرَيْحٌ: إنَّ ابْنَك لَمْ يَهَبْك صَدَقَتَهُ وَأَجَازَهَا لِلْمَرْأَةِ، لأََنَّ الأُُمَّ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهَا. قَالُوا: فَهَؤُلاَءِ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ أَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي اسْتَرَدَّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ فَيَأْكُلُ قَيْئَهُ" . فَإِذَا اسْتَرَدَّ الْوَاهِبُ فَلْيُوقَفْ فَلْيُعَرَّفْ مَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ، وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ أَخْبَرَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدَقَةَ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ الْهَدِيَّةَ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ" . قَالُوا فَعَلَى هَذَا لَهُ مَا ابْتَغَى إذْ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "وَهَبَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِبَةً فَأَثَابَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَزَادَهُ فَلَمْ يَرْضَ، فَقَالَ عليه السلام: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَقْبَلَ هِبَةً". وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: "أَنْ لاَ أَتَّهِبَ إِلاَّ مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ" وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
فأما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الأَدْنَى وَهُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّنَا لَمْ نُنْكِرْ إثَابَةَ الْمَوْهُوبِ، بَلْ هُوَ فِعْلٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا وُجُوبَهُ إذْ لَمْ يُوجِبْهُ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ أَنْكَرْنَا أَنْ يُوجِبَ فِي النَّاسِ الطَّمَعَ الَّذِي لاَ يُقْنِعُهُ تَطَوُّعُ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا أَنْكَرْنَا مَعْنًى، وَلاَ إشَارَةً، وَإِنَّمَا فِيهِ مَا لاَ نُنْكِرُهُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ عليه السلام هَمَّ أَنْ لاَ يَقْبَلَ هِبَةً إِلاَّ مِمَّنْ ذَكَرَ وَلَوْ أَنْفَذَ ذَلِكَ لَكَانَ مُبَاحًا فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ وَلَيْسَ مِنْ

(9/130)


الْمَحْذُورِ عَلَيْهِ خِلاَفُهُ، فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِمَا هَمَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَلاَ أَنَّ تِلْكَ الْهِبَةَ اُشْتُرِطَ فِيهَا الثَّوَابُ، وَلاَ فِيهِ إجَازَةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ فَوَجَدْنَاهُ لاَ خَيْرَ فِيهِ، فِيهِأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ، وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ. وَفِيهِ أَيْضًا أَبُو حُذَيْفَةَ، فَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ بَشِيرٍ النَّجَّارِيُّ فَهُوَ هَالِكٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فَسَقَطَ جُمْلَةً، وَلَمْ يَحِلَّ الأَحْتِجَاجُ بِهِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِهِبَةِ الثَّوَابِ أَصْلاً، وَلاَ لِلرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَنَّ الْهَدِيَّةَ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ.وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " لَهُ مَا ابْتَغَى " فَجُنُونٌ، نَاهِيكَ بِهِ، لأََنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتَغَى قَضَاءَ حَاجَتِهِ، وَمَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ تُقْضَى، وَلاَ تُقْضَى، لَيْسَ لِلْمَرْءِ مَا نَوَى فِي الدُّنْيَا: إنَّمَا هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الآخِرَةِ فِي الْجَزَاءِ فَقَطْ ةثم نقول: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ صَانَ نَبِيَّهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ يُصَوِّبَ أَنْ يُجِيزَ أَكْلَ هَدِيَّةٍ لَمْ يَبْتَغِ بِهَا مُهْدِيهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَصَدَ قَضَاءَ حَاجَتِهِ فَقَطْ وَوَجْهَ الرَّسُولِ، وَهَذِهِ هِيَ الرِّشْوَةُ الْمَلْعُونُ قَابِلُهَا وَمُعْطِيهَا فِي الْبَاطِلِ، فَلاَحَ مَعَ تَعَرِّي هَذَا الْخَبَرِ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ، مَعَ أَنَّهُ خَبَرُ سُوءٍ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ". ثُمَّ نَظَرْنَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَدَأْنَا فِيهِ: فَوَجَدْنَاهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ أَصْلاً مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ أَدْرَكَهُ بِعَقْلِهِ أَصْلاً، وَأَعَلَّا مَنْ عِنْدَهُ مَنْ كَانَ بَعْدَ السَّبْعِينَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَجَابِرٍ، وَمَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَبْلَ السِّتِّينَ، فَسَقَطَ جُمْلَةً. ثُمَّ إنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّ نَصَّهُ الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَلَمْ يَخُصَّ ذَا رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ هِبَةً اُشْتُرِطَ فِيهَا الثَّوَابُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ ثَوَابًا قَلِيلاً مِنْ كَثِيرٍ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ حَقًّا فَقَدْ خَالَفُوا الْحَقَّ بِإِقْرَارِهِمْ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ بَاطِلاً فَلاَ حُجَّةَ فِي الْبَاطِلِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ بِدَعْوَاهُمْ الْكَاذِبَةَ أَنَّهَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَالأُُصُولِ، وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ هَاهُنَا فَخِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالأُُصُولِ.وَأَمَّا خَبَرُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَصَحِيفَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهَا، ثُمَّ هُوَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَمُخَالِفًا لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ ذِي رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ زَوْجٍ لِزَوْجَةٍ، وَلاَ أَدَايَنَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُدَايِنْ، وَلاَ شَيْءٍ مِمَّا خَصَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَلاَ هِبَةَ ثَوَابٍ مِنْ غَيْرِهَا، بَلْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ هِبَةٍ، فَمَنْ خَصَّهَا فَقَدْ كَذَبَ بِإِقْرَارِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوَّلَهُ مَا لَمْ

(9/131)


يَقُلْهُ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ خَالَفَ حَدِيثًا بِأَسْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ بَعْضَهُ وَأَقَرَّ بِبَعْضِهِ، لاَ سِيَّمَا مِثْلُهُمْ وَمِثْلُنَا فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ مَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا، فَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالدَّمَارِ وَالْبَوَارِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نُخَالِفُ إِلاَّ مَا لاَ يَصِحُّ، كَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذِي عَقْلٍ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ نُخَالِفَ خَبَرًا نُصَحِّحُهُ إِلاَّ بِنَسْخٍ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ بِتَخْصِيصٍ بِنَصٍّ آخَرَ, وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ بِلاَ حَيَاءٍ: إنَّ الْمَنْصُوصَ فِي خَبَرِ الشُّفْعَةِ مِنْ أَنَّ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَكْذُوبِ بِلاَ شَكٍّ مِنْ أَنَّهُ يُوقَفُ ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا اسْتَرَدَّ، لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلاَمِ الرَّاوِي، بِلاَ شَكٍّ فِي هَذَا لَوْ صَحَّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ، إذْ مِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُخْبِرَ عليه السلام أَنَّ مُسْتَرِدَّ الْهِبَةِ كَالْكَلْبِ فِي أَقْبَحِ أَحْوَالِهِ مِنْ أَكْلِ قَيْئِهِ، وَاَلَّذِي ضَرَبَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْمَثَلَ لِلْكَافِرِ فَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} ثُمَّ يَنْفُذُ عليه السلام الْحُكْمُ بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ لَوْ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُحْتَجٌّ بِهَذَا الْخَبَرِ لَكَانَ أَقْوَى تَشْغِيبًا، لأََنَّ ظَاهِرَهُ: أَنَّ الْوَاهِبَ إذَا اسْتَرَدَّ مَا وَهَبَ وُقِفَ وَعُرِفَ مَا اسْتَرَدَّ، ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يُتْرَكُ عِنْدَ الْمُسْتَرِدِّ، وَاحْتِمَالٌ بِاحْتِمَالٍ وَدَعْوَى بِدَعْوَى. وَالْعَجَبُ مِنْ قِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ كَمَا بَيَّنَّا وَصَارَتْ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَاهُنَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حُجَّةً، وَهُمْ يَرُدُّونَ الرِّوَايَةَ الَّتِي لَيْسَتْ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَحْسَنَ مِنْهَا كَرِوَايَتِنَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، وَحَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَجُوزُ لأَمْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا" وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد نَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ نَا مَرْوَانُ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ نَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ نَا الْعَلاَءُ بْنُ الْحَارِثِ نَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَيْنِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ . وَغَيْرُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَمْ يَرُدُّوهُ إِلاَّ بِأَنَّهُ صَحِيفَةٌ، فَأَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا، أَوْ أَيُّ عَمَلٍ يَرْتَفِعُ مَعَهُ، وَهَذَا هُوَ التَّلْبِيسُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى جِهَارًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ.
وَأَمَّا مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ إذْ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ لَوْ كَانَ حُجَّةً فَهُوَ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ أَوَّلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرٍ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَرْضَى مِنْهَا فَلَمْ يَخُصَّ رَحِمًا مَحْرَمَةً مِنْ غَيْرِ مَحْرَمَةٍ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ الْحَنَفِيِّينَ، وَلاَ خَصَّ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ

(9/132)


الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ كَمَا خَصُّوا، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا، كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ خَالَفُوا عُمَرَ، وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ، أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا. يَا لِلْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرََ رضي الله عنه لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ، فَكَيْفَ اسْتَحَلُّوا خِلاَفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِمَا يُمَوِّهُونَ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَصُدُّونَ، عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ هُوَ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: تَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَتْهُ لاَ يَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَاهَا. وَمِنْ طَرِيق ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "أَنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ أَزْوَاجَهُنَّ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا شَيْئًا فَأَرَادَتْ أَنْ تَعْتَصِرَهُ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ، وَصَحَّ الْقَضَاءُ بِهَا"، عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، حَتَّى أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى لَهَا بِالرُّجُوعِ فِيمَا وَهَبَتْ. لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَةَ، عَنْ غَيْلاَنَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا أَدْرَكْتُ الْقُضَاةُ إِلاَّ يُقِيلُونَ الْمَرْأَةَ فِيمَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا، وَلاَ يُقِيلُونَ الزَّوْج فِيمَا وَهَبَ لأَمْرَأَتِهِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِعُمَرَ وَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَلاَحَ أَنَّ قَوْلَهُمْ خِلاَفُ قَوْلِهِ.وَأَمَّا خَبَرُ عُثْمَانَ فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ رَأْيٌ مُحْدَثٌ، لأََنَّ فِي نَصِّهِ " أَنَّ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الْهِبَةَ عُثْمَانَ " وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّ فِيهِ رَدَّ الْهِبَةِ جُمْلَةً بِلاَ تَخْصِيصِ ذِي رَحِمٍ، وَلاَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ فَصَارُوا مُخَالِفِينَ لَهُ وَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ.
وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيٍّ فَبَاطِلٌ، لأََنَّ أَحَدَ طَرِيقَيْهِ فِيهَا جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَفِي الآخَرِ ابْنُ لَهِيعَةَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّ فِي أَحَدِهِمَا الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا دُونَ تَخْصِيصِ ذِي رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذَا، وَفِي الأُُخْرَى أَيْضًا كَذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ جُمْلَةً فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِكُلِّ ذَلِكَ.وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَصَحِيحٌ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ عُثْمَانَ مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ تَخْصِيصُ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ فَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا خَبَرُ فَضَالَةَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، لأََنَّهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَا رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ تَخْصِيصُ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ وَظَاهِرُ إبْطَالِ هِبَةِ الثَّوَابِ، فَعَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لاَ لَهُمْ، لأََنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ.
وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ. فَعَادَتْ الأَخْبَارُ كُلُّهَا خِلاَفًا لَهُمْ فَإِنْ

(9/133)


كانَتْ إجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفُوا الإِجْمَاعَ وَإِنْ كَانَتْ حُجَّةَ حَقٍّ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا فَقَدْ خَالَفُوا حُجَّةَ الْحَقِّ الَّتِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا فَالإِيهَامُ بِإِيرَادِهَا لاَ يَجُوزُ وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَضَاءِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ بَيْنَ أَهْلِهَا قَضَى أَنَّهُ أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ أَرْضًا عَلَى أَنَّكَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ فَسَمِعَ لَهُ وَأَطَاعَ، فَهِيَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ كَذَا وَكَذَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، فَهُوَ لِلْوَاهِبِ إذَا جَاءَ الأَجَلُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ أَرْضًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ فَهِيَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ.وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: "كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: لاَ يُعَادُ فِي الْهِبَةِ". وبه إلى مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "لاَ يَعُودُ الرَّجُلُ فِي الْهِبَةِ" فَهَذَا مُعَاذٌ وَالْحَسَنُ، وطَاوُوس يَقُولُونَ بِقَوْلِنَا سَوَاءً سَوَاءً. وَقَالُوا: "إنَّمَا خَصَصْنَا ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمَةِ لأََنَّ الْهِبَةَ لَهُمْ مَجْرَى الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ الزَّوْجَيْنِ" لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ" قَالُوا: وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي الصَّدَقَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: وَالْهِبَةُ لِغَيْرِ ذِي الرَّحِمِ وَلِغَيْرِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا صَدَقَةٌ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ فَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ" .فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ هِبَةٍ لِمُسْلِمٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ، فَإِذْ قَدْ صَحَّ إجْمَاعٌ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ لاَ رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، فَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا الْهِبَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَهِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَا وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُحْسِنُونَ قِيَاسًا، وَلاَ يَتَّبِعُونَ نَصًّا.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، فَهَذَا مَوْضِعُ الأَحْتِجَاجِ بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لاَ حَيْثُ احْتَجُّوا بِهِمَا حَيْثُ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِيهِمَا وَنَسُوا احْتِجَاجَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَأَيْضًا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامُ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ وَشُعْبَةُ، قَالاَ جَمِيعًا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ" .وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ" وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ نَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا

(9/134)


إِلاَّ الْوَالِدُ يُعْطِيَ وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا كَالْكَلْبِ، أَكَلَ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فَرَجَعَ فِي قَيْئِهِ" فَهَذِهِ الآثَارُ الثَّابِتَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا، وَلاَ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَثَلُ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" .
قال أبو محمد: الْحُكْمُ فِي الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ، وَفِي الْعَائِدِ فِي صَدَقَتِهِ سَوَاءٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مُخْطِئٌ، وَالْعَجَبُ كُلُّهُ قَوْلُهُمْ " إنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، وَالْكَلْبُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَامًا فَهَذَا مِثْلُهُ " فَهَنِيئًا لَهُمْ هَذَا الْمَثَلُ الَّذِي أَبَاحُوا لأََنْفُسِهِمْ الدُّخُولَ فِيهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ مَثَلُ السَّوْءِ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، وَالْقَيْءُ عِنْدَهُمْ حَرَامٌ لاَ نَدْرِي بِمَاذَاوَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَبِهَذَا النَّصِّ. وَأَطَمُّ شَيْءٍ قَوْلُ بَعْضِهِمْ " لاَ يَمْنَعُ كَوْنُهُ حَرَامًا مِنْ جَوَازِهِ " وَهَذَا هَتْكُ الإِسْلاَمِ جِهَارًا. وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَيْضًا قَوْلُهُمْ إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ يُعْطِي وَلَدَهُ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا احْتَاجَ الْوَالِدُ فَيَأْخُذُ نَفَقَتَهُ.
قال أبو محمد: الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُمْ سَهْلٌ خَفِيفٌ، وَهَلْ فَهِمَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمَ الْجَمِيعُ أَنَّ الأَبَ إذَا احْتَاجَ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ دُونَ سَائِرِ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ. وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَأَمَّا جَعْلُنَا لِلْجَدِّ وَلِلأُُمِّ الرُّجُوعَ فِيمَا أَعْطَيَا لأَبْنِ الأَبْنِ وَلِلأَبْنِ عُمُومًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" {يَا بَنِي آدَمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} فَجَعَلَ تَعَالَى الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ أَبَوَيْنِ، وَالأُُمَّ وَالِدَةً تَقَعُ عَلَى الْجِنْسِ، وَهِيَ فِيهِ اسْمُ الْوَالِدِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَعْتَصِرُ الرَّجُلُ مِنْ وَلَدِهِ مَا أَعْطَاهُ، مَا لَمْ يَمُتْ، أَوْ يَسْتَهْلِك، أَوْ يَقَعُ فِيهِ دَيْنٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ الْمَدِينِيُّ ني ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ مُوسَى بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ سَعْدًا مَوْلَى الزُّبَيْرِ نَحَلَ ابْنَتَهُ جَارِيَةً فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ الْوَالِدَ يَعْتَصِرُ مَا دَامَ يَرَى مَالَهُ، مَا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهَا فَتَقَعُ فِي مِيرَاثٍ أَوْ تَكُونُ امْرَأَةً تُنْكَحُ، ثُمَّ تَلاَهُ عُثْمَانُ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلاً وَهَبَ لأَبْنِهِ نَاقَةً فَرَجَعَ فِيهَا، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهَا، وَجَعَلَ نَمَاهَا لأَبْنِهِ. قَالُوا: فَهَذَا عَمَلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ

(9/135)


رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، بِأَصَحَّ مِنْ هَذَا السَّنَدِ رُجُوعُ الْمَرْءِ فِيمَا وَهَبَ مَا لَمْ يُثَبْ إِلاَّ لِذِي رَحِمٍ. وَعَنْ عُثْمَانَ مِثْلُهُ فَمَا الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَوْلَى مِنْ تِلْكَ؟ فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ أَيْضًا، لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ: "إنَّمَا لِلأَبِ الأَرْتِجَاعُ فِي ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ فَقَطْ"، وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَيَقُولُونَ: "لَيْسَ لِلأَبِ الأَرْتِجَاعُ فِيمَا وَهَبَ ابْنَهُ لِلَّهِ تَعَالَى"، وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَحَاشَا لَهُمَا: أَنْ يُجِيزَا هِبَةً لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ فَهِيَ لِلشَّيْطَانِ. فَحَصَلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، لاَ حُجَّةَ لَهُمَا أَصْلاً، وَمُخَالِفًا لِكُلِّ مَا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(9/136)


1630 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَغَيَّرَتْ الْهِبَةُ عِنْدَ الْوَلَدِ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهَا الأَسْمُ، أَوْ خَرَجَتْ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ صَارَتْ لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَلاَ رُجُوعَ لِلأَبِ فِيهِ، لأََنَّهَا إذَا تَغَيَّرَتْ فَهِيَ غَيْرُ مَا جَعَلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ فِيهِ، وَإِذَا خَرَجَتْ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ مَاتَ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَإِذَا بَطَلَ تَمَلُّكُهَا، فَلاَ تَمَلُّكَ لِلأَبِ فِيهَا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/136)


ولا تنفذ هبة ولا صدقة لا حد الا فيما ابقى
...
1631 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَنْفُذُ هِبَةٌ، وَلاَ صَدَقَةٌ لأََحَدٍ إِلاَّ فِيمَا أَبْقَى لَهُ وَلِعِيَالِهِ غِنًى، فَإِنْ أَعْطَى مَا لاَ يَبْقَى لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَهُ غِنًى فُسِخَ كُلَّهُ.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى". فَإِذًا كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ وَخَيْرُهَا مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى، فَبِلاَ شَكٍّ وَبِالضَّرُورَةِ: أَنَّ مَا زَادَ فِي الصَّدَقَةِ وَنَقَصَ مِنْ الْخَيْرِ، وَالأَفْضَلِ فَلاَ أَجْرَ فِيهِ، وَلاَ خَيْرَ فِيهِ، وَلاَ فَضْلَ فِيهِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلاً، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(9/136)


ولا يحل لا حد أن يهب ولا أن يتصدق على احد من ولده
...
1632 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَهَبَ، وَلاَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وَلَدِهِ إِلاَّ حَتَّى يُعْطِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُفَضِّلَ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى، وَلاَ أُنْثَى عَلَى ذَكَرٍ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا، وَلاَ بُدَّ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي التَّطَوُّعِ وَأَمَّا فِي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ فَلاَ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ. لَكِنْ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ بِحَسْبِ حَاجَتِهِ، وَيُنْفِقُ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْغَنِيِّ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي وَلَدِ الْوَلَدِ، وَلاَ فِي أُمَّهَاتِهِمْ، وَلاَ فِي نِسَائِهِمْ، وَلاَ فِي رَقِيقِهِمْ، وَلاَ فِي غَيْرِ وَلَدٍ، بَلْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ بِمَالِهِ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ كَمَا أَعْطَاهُمْ، أَوْ يُشْرِكَهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَيْنُ الْعَطِيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ أَحَدُهُمْ فَيَصِيرُ مَالُهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الأَبِ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطِيَ هَذَا الْوَلَدَ، كَمَا أَعْطَى غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُعْطِيَ مِمَّا تَرَكَ أَبُوهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ فَلَقِيَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: "مَا نِمْت اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ ابْنِ سَعْدٍ هَذَا الْمَوْلُودُ لَمْ يُتْرَكْ لَهُ شَيْءٌ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "وَأَنَا وَاَللَّهِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ نُكَلِّمُهُ فِي أَخِيهِ، فَأَتَيْنَاهُ فَكَلَّمْنَاهُ فَقَالَ قَيْسٌ: أَمَّا شَيْءٌ أَمْضَاهُ سَعْدٌ فَلاَ أَرُدُّهُ أَبَدًا، وَلَكِنْ أُشْهِدُكُمَا أَنَّ نَصِيبِي لَهُ".
قال أبو محمد: قَدْ زَادَ قَيْسٌ عَلَى حَقِّهِ، وَإِقْرَارُ أَبِي بَكْرٍ لِتِلْكَ الْقِسْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ

(9/142)


اعْتِدَالِهَا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "يَا بُنَيَّةُ، إنِّي نَحَلْتُك نَخْلاً مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ آثَرْتُك عَلَى وَلَدِي، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي احْتَزْتِيهِ، فَرُدِّيهِ عَلَى وَلَدِي فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ لَوْ كَانَتْ لِي خَيْبَرُ بِجِدَادِهَا ذَهَبًا لَرَدَدْتُهَا".وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ حَكِيم بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَيْدَةَ كَانَ لَهُ بَنُونَ لِعَلَّاتٍ أَصَاغِرُ وَلَدِهِ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَجَعَلَهُ لِبَنِي عَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَخَرَجَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَخَيَّرَ عُثْمَانُ الشَّيْخَ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَالَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُوَزِّعَهُ بَيْنَهُمْ فَارْتَدَّ مَالُهُ فَلَمَّا مَاتَ تَرَكَهُ الأَكَابِرُ لأَِخْوَتِهِمْ. وبه إلى إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ نُحْلاً دُونَ بَنِيهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ النَّاحِلِ الْحَيِّ مَا يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ الْمَيِّتِ مِنْ وَصِيَّتِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي الْوَلَدِ: لاَ يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ بِشَعْرَةٍ، النُّحْلُ بَاطِلٌ، هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، اعْدِلْ بَيْنَهُمْ كِبَارًا وَأَبِنْهُمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْت لَهُ: هَلَكَ بَعْضُ نُحْلِهِمْ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُمْ قَالَ: لِلَّذِي نَحَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَقُلْت: أَرَدْت أَنْ أُفَضِّلَ بَعْضَ وَلَدِي فِي نُحْلٍ أَنْحَلُهُ فَقَالَ: لاَ، وَأَبَى إبَاءً شَدِيدًا وَقَالَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: يَنْحَلُ وَلَدَهُ أَيُسَوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبٍ وَزَوْجَةٍ قَالَ: لَمْ يُذْكَرْ إِلاَّ الْوَلَدَ، لَمْ أَسْمَعْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَهَؤُلاَءِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، ثُمَّ مُجَاهِدٌ، وطَاوُوس وَعَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ شُرَيْحٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، الْعَدْلُ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ حَظَّيْنِ وَالأُُنْثَى حَظًّا وَقَالَ غَيْرُهُمْ: بِالسَّوِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ ذَلِكَ، وَإِجَازَةُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْوَلَدِ عَلَى بَعْضٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَرَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَجَازَهُ إنْ وَقَعَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَنْحَلَ بَعْضَ

(9/143)


وَلَدِهِ مَالَهُ كُلَّهُ وَذَكَرُوا، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ، وَقَوْلَ عُمَرَ مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ ثَلاَثَةَ أَرْؤُسٍ أَوْ أَرْبَعَةً لِبَعْضِ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، قَالَ بُكَيْر: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ إذْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: "هَذِهِ الأَرْضُ لأَبْنِي وَاقِدٍ، فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ، نَحَلَهُ إيَّاهَا دُونَ وَلَدِهِ". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: "وَبَلَغَنِيعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ نَحَلَ ابْنَتَهُ مِنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا". وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ" وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا. وَوَجَدْنَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا يَحْتَجُّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَقُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، كِلاَهُمَا، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَقَالَ عَبْد، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ إبْرَاهِيمُ، وَسُفْيَانُ، وَاللَّيْثُ وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كِلاَهُمَا، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَتَى بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: أَكُلُّ بَنِيكَ نَحَلْتَ قَالَ: لاَ، فَارْدُدْهُ هَذَا لَفْظُ إبْرَاهِيمَ، وَيُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ، وَاللَّيْثُ: أَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْتَ وَاتَّفَقُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا" فَقَالَ: أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ قَالَ لاَ قَالَ: فَارْجِعْهُ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا نَصًّا مِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ".وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كُلُّهُمْ يَقُولُ فِيهِ " إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: رُدَّهُ، أَوْ اُرْدُدْهُ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَعْطَيْت ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عليه السلام:

(9/144)


أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا قَالَ: لاَ، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ ارْجِعْ فَرُدَّ عَطِيَّتَهُ" .وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ قَالَ : لاَ, قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ هُوَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" فَكَانَتْ هَذِهِ الآثَارُ مُتَوَاتِرَةً مُتَظَاهِرَةً: الشَّعْبِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كُلُّهُمْ سَمِعَهُ مِنْ النُّعْمَانِ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ الْحُفَلاَءُ مِنْ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفَسْخِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ وَرَدِّهَا، وَبَيَّنَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا رُدَّتْ، وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَ أَنَّهَا جَوْرٌ وَالْجَوْرُ لاَ يَحِلُّ إمْضَاؤُهُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ إمْضَاءُ كُلِّ جَوْرٍ وَكُلِّ ظُلْمٍ، وَهَذَا هَدْمُ الإِسْلاَمِ جِهَارًا. فَوَجَدْنَا الْمُخَالِفِينَ قَدْ تَعَلَّلُوا بِهَذَا فِي هَذَا بِأَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَهَبَهُ جَمِيعَ مَالِهِ.فَقُلْنَا: سُبْحَانَ اللَّهِ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ " بَعْضَ مَالِهِ " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ " بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ ". وَقَالَ آخَرُونَ: رَوَى هَذَا الْخَبَرَ دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَشِيرٍ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا أُولَئِكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلاَ إذًا". وَرَوَاهُ الْمُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ وَقَالَ فِيهِ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي. فَقُلْنَا: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ،لأََنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: " فَلاَ إذًا " نَهْيٌ صَحِيحٌ كَافٍ لِمَنْ عَقَلَ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" لَوْ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ هَذَا اللَّفْظُ لَمَا كَانَ لَكُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ,وَأَمَّا وَقَدْ رَوَى مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ الْمُغِيرَةِ وَدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ الزِّيَادَةَ الثَّابِتَةَ الَّتِي لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْهَا مِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِرَدِّ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ وَارْتِجَاعِهَا فَصَحَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَبِإِخْبَارِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ جَوْرٌ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي إنَّمَا هُوَ الْوَعِيدُ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} لَيْسَ عَلَى إبَاحَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَوْرِ وَالْبَاطِلِ، لَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} {وكُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} وَحَاشَ لَهُ عليه السلام أَنْ يُبِيحَ لأََحَدٍ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ هُوَ أَنَّهُ جَوْرٌ، وَأَنْ يُمْضِيَهُ، وَلاَ يَرُدَّهُ، هَذَا مَا لاَ يُجِيزُهُ مُسْلِمٌ، وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنْ نَقُولَ:

(9/145)


تِلْكَ الْعَطِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ أَحَقٌّ جَائِزٌ هِيَ أَمْ بَاطِلٌ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَإِنْ قَالُوا: حَقٌّ جَائِزٌ أَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ إذْ أَخْبَرُوا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي أَتَانَا عَنْ رَبِّنَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} وَإِنْ قَالُوا: إنَّهَا بَاطِلٌ غَيْرُ جَائِزٍ أَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ إذْ أَخْبَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِالْبَاطِلِ، وَأَنْفَذَ الْجَوْرَ وَأَمَرَ بِالإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِهِ وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ مُخْرِجٌ إلَى الْكُفْرِ بِلاَ مِرْيَةٍ وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَزَادَ بَعْضُهُمْ ضَلاَلاً وَفِرْيَةً فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" أَيْ إنِّي إمَامٌ وَالإِمَامُ لاَ يَشْهَدُ، فَجَمَعُوا فِرْيَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْوِيلِهِ مَا لَمْ يَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَنْ أَطْلَقَ هَذَا مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُمْ" إنَّ الإِمَامَ لاَ يَشْهَدُ، فَقَدْ كَذَبُوا وَأَفِكُوا فِي ذَلِكَ، بَلْ الإِمَامُ يَشْهَدُ، لأََنَّهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ لاَ يَأْبَوْا إذَا دُعُوا، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَهَذَا أَمْرٌ لِلأَئِمَّةِ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ مِرْيَةٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ قِلَّةِ حَيَاءِ هَذَا الْقَائِلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ أَنَّ الإِمَامَ إذَا شَهِدَ عِنْدَ حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ. ثُمَّ أَتَى بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ الْخَرَسُ أَوْلَى بِهِ فَقَالَ: لَعَلَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ النُّحْلَ وَقَائِلُ هَذَا إمَّا فِي نِصَابِ التُّيُوسِ جَهْلاً وَأَمَّا مَنْزُوعُ الْحَيَاءِ وَالدِّينِ، لأََنَّ صِغَرَ النُّعْمَانِ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ، " وَأَنَا يَوْمِئِذٍ غُلاَمٌ "، وَلاَ تُطْلَقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى رَجُلٍ بَالِغٍ أَصْلاً. وقال بعضهم لَمْ يَكُنْ النُّحْلُ تَمَّ إنَّمَا كَانَ اسْتِشَارَةً وَمَوَّهُوا بِرِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ فِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ نَحَلَنِي أَبِي غُلاَمًا ثُمَّ جَاءَ بِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا فَإِنْ أَذِنْتَ لِي أَنْ أُجِيزَهُ أَجَزْتُهُ.
قال أبو محمد: لَوْلاَ عَمَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَضَلاَلِهِمْ مَا تَمَكَّنَ الْهَوَى مِنْهُمْ هَذَا التَّمَكُّنُ، هُمْ يَسْمَعُونَ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ " نَحَلَنِي أَبِي غُلاَمًا " وَفِي وَسَطِهِ " يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحَلْت ابْنِي هَذَا غُلاَمًا " وَيَقُولُونَ: لَمْ يَتِمَّ النُّحْلُ. وَقَوْلُ بَشِيرٍ " فَإِنْ أَذِنْت لِي أَنْ أُجِيزَهُ أَجَزْته " قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُ مُؤْمِنٍ لاَ يَعْمَلُ إِلاَّ مَا أَبَاحَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ظَاهِرِهِ بِلاَ تَأْوِيلٍ، نَعَمْ إنْ أَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَهُ بَشِيرٌ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ عليه الصلاة والسلام رَدَّهُ بَشِيرٌ وَلَمْ يُجِزْهُ كَمَا فَعَلَ. وَذَكَرُوا أَيْضًا رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ لِهَذَا الْخَبَرِعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نُحْلاً ثُمَّ أَتَى بِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(9/146)


لِيُشْهِدَهُ فَقَالَ " أَكُلُّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا قَالَ: لاَقَالَ: أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمْ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا قَالَ: بَلَى قَالَ: فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ" قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ: إنَّمَا حَدَّثَنَا, أَنَّهُ قَالَ: قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْقَوْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا لِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَشْهَدُ عَلَى بَاطِلٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، إذْ لَمْ يَسْتَجِزْ عليه السلام أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ وَهَكَذَا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ لِهَذَا الْخَبَرِ وَفِيهِ لاَ أَشْهَدُ.وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ: قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، فَمُنْقَطِعٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ أَمَرَ بِالْمُقَارَبَةِ وَنَهَى، عَنْ خِلاَفِهَا، وَهُمْ يُجِيزُونَ خِلاَفَ الْمُقَارَبَةِ، وَلاَ يُوجِبُونَ الْمُقَارَبَةَ، فَمَنْ أَضَلُّ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَحْرُومِينَ. وَالْمُقَارَبَةُ: هُوَ الأَجْتِهَادُ فِي التَّعْدِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَصَحَّ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي التَّعْدِيلِ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ حَقِيقَةَ التَّعْدِيلِ كَانَ مُقَارِبًا، إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ بِرِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ لِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ جَابِرٌ: قَالَتْ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلْ ابْنِي غُلاَمَكَ هَذَا، أَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَهُ إخْوَةٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْتَهُ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ قَالَ: لاَ قَالَ: " فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، أَلاَ وَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ".
قال أبو محمد: أَفَيَكُونُ أَعْجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ فِي أَوَّلِهِ لَيْسَ يَصْلُحُ وَفِي آخِرِهِ إنِّي لاَ أَشْهَدُ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا، وَإِذْ لَيْسَ حَقًّا فَهُوَ بَاطِلٌ وَضَلاَلٌ قَالَ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام "لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ" فِي حَدِيثِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ أَجَزْتُمُوهُ إذَا أَجَازَهُ الشَّفِيعُ وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنِ النَّذْرِ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمُوهُ إذَا وَقَعَ.قلنا: نَعَمْ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي تَرْكِهِ إقْرَارُ ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَوَقَفْنَا عِنْدَ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ. وَنَهَى عليه السلام عَنِ النَّذْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَوَقَفْنَا عِنْدَ أَمْرِهِ، فَبَانُونَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمْضَاهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ وَنَحْنُ أَوَّلُ سَامِعٍ وَمُطِيعٍ، وَذَلِكَ مَا لاَ يَجِدُونَهُ أَبَدًا. وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِآبِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ هُوَ أَبُو الضُّحَى سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُول: ذَهَبَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ "فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ قَالَ: نَعَمْ، وَصَفَّ بِيَدِهِ أَجْمَعَ كُلِّهِ كَذَا، أَلاَ سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ".

(9/147)


قال أبو محمد: إنَّ مَنْ عَارَضَ رِوَايَةَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا بِرِوَايَةِ فِطْرٍ لَمَخْذُولٌ، وَفِطْرٌ ضَعِيفٌ وَلَوْلاَ أَنَّ سُفْيَانَ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ النُّعْمَانِ مَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ زَائِدَةٌ حُكْمًا وَلَفْظًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة، فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا فِي حَدِيثِ فِطْرٍ هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَنْ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ فِطْرٍ نْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: "جَاءَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى عَطِيَّةٍ أَعْطَانِيهَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: سَوِّبَيْنَهُمْ" فَهَذَا إيجَابٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ, وَقَدْ حَمَلَ الْمَالِكِيُّونَ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام بِالتَّكْبِيرِ عَلَى الْفَرْضِ بِمُجَرَّدِ الأَمْرِ وَحَمَلَ الْحَنَفِيُّونَ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام بِالإِعَادَةِ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الإِمَامِ عَلَى الْفَرْضِ بِمُجَرَّدِ الأَمْرِ وَمَا زَالُوا يَهْجُمُونَ عَلَى وُجُوهِ السُّخْفِ مُعَارَضَةً لِلْحَقِّ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَتَى بِخَرَزٍ فَقَسَمَهُ لِلْحُرَّةِ وَالأَمَةِ.
قال أبو محمد: أَيُّ شَبَهٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يَرُدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ وَالْعَطِيَّةَ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهَا جَوْرٌ لَوْ عَقَلُوا: فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ فَصَحِيحٌ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَاَلَّذِي حَكَمَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَفَسَخَ أَجْرَ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانَ الْكَاهِنِ، وَبَيْعَ الْخَمْرِ، وَبَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ وَبَيْعَ الرِّبَا، هُوَ الَّذِي فَسَخَ الصَّدَقَةَ وَالْعَطِيَّةَ الْمُفَضَّلَ فِيهَا بَعْضُ الْوَلَدِ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ أَنَّهُمْ اعْتَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الأَعْتِرَاضِ فِي إبْطَالِهِمْ النُّحْلَ وَالصَّدَقَةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ لَكَانَ أَصَحَّ وَأَثْبَتَ وَلَكِنَّهُمْ كَالسُّكَارَى يَخْبِطُونَ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ.فَقُلْنَا: عَمَلُ النَّاسِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ. وَقَالَ أَنَسٌ: مَا أَعْرِفُ مِمَّا أَدْرَكْت النَّاسَ عَلَيْهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ. وقال بعضهم: لَمَّا جَازَتْ مُفَاضَلَةُ الإِخْوَةِ جَازَتْ مُفَاضَلَةُ الأَوْلاَدِ قلنا: هَذَا حُكْمُ إبْلِيسَ وَهَلَّا قُلْتُمْ: لَمَّا جَازَ الْقَوَدُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ جَازَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَوَلَدِهِ؟ فَكَانَ أَصَحَّ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَا مَوَّهُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَدْ أَوْرَدْنَاهُ بِخِلاَفِ مَا أَوْرَدُوهُ.وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، مَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ نُحْلاً، فَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ نُحْلَ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا مَنَعْنَا الْمُفَاضَلَةَ، وَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِمَا إبَاحَةُ الْمُفَاضَلَةِ، كَمَا لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا الْمَنْعُ مِنْهَا، كَمَا أَوْرَدْنَا.وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلْ الآخَرِينَ قَبْلُ، وَلاَ بَعْدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا، أَنَّهُ قَالَ: وَاقِدٌ ابْنِي مِسْكِينٌ.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَحَلَهُ بَعْدُ كَمَا نَحَلَ إخْوَتَهُ

(9/148)


فَأَلْحَقهُ بِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ، عَنِ الْمَسْكَنَةِ، عَلَى أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ.وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هِيَ أَيْضًا مُنْقَطِعَةٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يُسَوِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ بَيْنَهُمْ، فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَاتُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ إيجَابٌ لاََنْ يُنْفِقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا لاَ قَوَامَ لَهُ إِلاَّ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى هَذَا فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إيجَابٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَوَارِيثِ فِي شَيْءٍ وَلِكُلِّ نَصٍّ حُكْمُهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الأَوْلاَدِ، إذَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ إِلاَّ فِيهِمْ وَأَمَّا وَلَدُ الْوَلَدِ: فَلاَ خِلاَفَ فِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ لأََصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنُو بَنِينَ وَبَنُو بَنَاتٍ فَلَمْ يُوجِبْ عليه الصلاة والسلام إعْطَاءَهُمْ، وَلاَ الْعَدْلَ فِيهِمْ. وَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ وُهِبَ هِبَةً لاَ مُحَابَاةَ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ وَبَطَلَ أَمْرُ الأَبِ فِيهَا,وَأَمَّا إنْ مَاتَ الْوَالِدُ فَالتَّعْدِيلُ بَيْنَهُمْ دَيْنٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/149)


1633 - مَسْأَلَةٌ: وَهِبَةُ جُزْءٍ مُسَمًّى مَنْسُوبٍ مِنْ الْجَمِيعِ كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُشَاعِ وَالصَّدَقَةُ بِهِ جَائِزَةٌ حَسَنَةٌ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِ الشَّرِيكِ، وَلِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَفِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ كَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ فَرْقَ,هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَمَعْمَرِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ,وقال أبو حنيفة: لاَ تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَلاَ الصَّدَقَةُ بِهِ لاَ لِلشَّرِيكِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ، لاَ عَلَى فَقِيرٍ وَلاَ عَلَى غَنِيٍّ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ بِمُشَاعٍ لاَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَلِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي يَنْقَسِمُ عِنْدَهُ: الدُّورُ، وَالأَرَضُونَ، وَالْمَكِيلاَتُ، وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ، وَالْمَذْرُوعَاتُ وَاَلَّذِي لاَ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْحَمَامُ، وَالسَّيْفُ، وَاللُّؤْلُؤَةُ، وَالثَّوْبُ وَالطَّرِيقُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ: وَالإِجَارَةُ بِمُشَاعٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَمِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ لاَ تَجُوزُ أَلْبَتَّةَ، إِلاَّ مِنْ الشَّرِيكِ وَحْدَهُ قَالَ: وَرَهْنُ الْمُشَاعِ الَّذِي يَنْقَسِمُ وَاَلَّذِي لاَ يَنْقَسِمُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ، لاَ مِنْ الشَّرِيكِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ: وَبَيْعُ الْمُشَاعِ وَإِصْدَاقِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ: جَائِزٌ مِنْ الشَّرِيكِ وَغَيْرِ الشَّرِيكِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُشَاعِ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ التَّقَاسِيمِ الَّتِي لاَ تَعْقِلُ، وَلاَ لَهَا فِي الدَّيَّانَةِ أَصْلٌ بِالْمَنْعِ خَاصَّةً فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ: كَمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُرِّ طَعَامٍ، أَوْ قِنْطَارِ حَدِيدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِغَنِيَّيْنِ لاَ يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ بِذَلِكَ عَلَى فَقِيرَيْنِ، أَوْ هِبَةِ ذَلِكَ لِفَقِيرَيْنِ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْهِبَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرَيْنِ وَفِي الأَصْلِ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ وَالأَشْهَرُ عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرَيْنِ كَذَلِكَ

(9/149)


أَنَّهَا تَجُوزُ، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ مُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُبَيِّنَةٍ أَجْمَلَ فِيهَا الْمَنْعَ فَقَطْ. وَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ وَهَبَ دَارًا لأَثْنَيْنِ بَيْنَهُمَا بِنِصْفَيْنِ جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَهَبَ لأََحَدِهِمَا الثُّلُثَ وَلِلآخَرِ الثُّلُثَيْنِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمَا مَعًا: جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ دَفَعَ إلَى الْوَاحِدِ ثُمَّ إلَى الآخَرِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ, وَمَنَعَ سُفْيَانُ مِنْ هِبَةِ الْمُشَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجَازَ هِبَةَ وَاحِدٍ دَارًا لأَثْنَيْنِ وَهِبَةَ الاِثْنَيْنِ دَارًا لِوَاحِدٍ وَمَنَعَ ابْنُ شُبْرُمَةَ مِنْ هِبَةِ الْمُشَاعِ وَمِنْ هِبَةِ وَاحِدٍ دَارًا لأَثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَأَجَازَ هِبَةَ اثْنَيْنِ دَارًا لِوَاحِدٍ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَغَبًا مَوَّهُوا بِهِ إِلاَّ إنْ قَالُوا: قَبْضُ الْمُشَاعَ لاَ يُمْكِنُ.فَقُلْنَا لَهُمْ: كَذَبْتُمْ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ، وَهَبْكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَهُ، وَالْبَيْعُ عِنْدَكُمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ، وَلِمَ أَجَزْتُمْ إصْدَاقَهُ، وَالصَّدَاقُ وَاجِبٌ فِيهِ الإِقْبَاضُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} وَلِمَ أَجَزْتُمْ الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلِمَ أَجَزْتُمْ إجَارَةَ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ، وَمَنَعْتُمْ الرَّهْنَ فِيهِ مِنْ الشَّرِيكِ وَمَنَعْتُمْ الْهِبَةَ مِنْ الشَّرِيكِ وَأَقْرَبُ ذَلِكَ لِمَ أَجَزْتُمْ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ. فَهَلْ فِي التَّلاَعُبِ وَالسَّخَافَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِالرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما: إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْغَابَةِ فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ هِبَةِ الْمُشَاعِ.
قال أبو محمد: هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَفَاحِشُ الْقُبْحِ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَثَانِيهَا أَنَّهُ كَمْ قَوْلَةٌ لأََبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما قَدْ خَالَفْتُمُوهُمَا فِيهَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي الزَّكَاةِ إنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ مَخَاضٍ فَابْنَ لَبُونٍ ذَكَرٍ، وَكَتَرْكِهِ التَّضْحِيَةَ وَهُوَ غَنِيٌّ، وَكَصِيَامِ عَائِشَةَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَقَوْلِهَا: لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَثَالِثُهَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ قَدْ أَوْرَدْنَاهُ بِخِلاَفِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَرَابِعُهَا أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ جِهَارًا بَلْ فِيهِ إجَازَةُ هِبَةِ جُزْءٍ مِنْ الْمُشَاعِ لِغَنِيَّةٍ، لأََنَّهُ نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ. وَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَحَلَهَا مِنْ تِلْكَ النَّخْلِ مَا تَجِدُّ مِنْهَا عِشْرِينَ وَسْقًا، أَوْ نَحَلَهَا عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً، فَهِيَ إمَّا عِدَةٌ بِأَنْ يَنْحَلَهَا ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الأَظْهَرُ وَأَمَّا أَنَّهُ نَحَلَهَا وَأَمْضَى لَهَا ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، وَهُوَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالْعَدَدِ وَالْعَيْنِ فِي مُشَاعٍ، فَرَأَيَاهُ مَعًا بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ جَائِزًا وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْهُمْ وَلَمْ يُبْطِلْهُ أَبُو بَكْرٍ لِذَلِكَ. فَكَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ صُرَاحًا، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ " لأََنَّهَا لَمْ تَحُزْهُ " فَقَطْ، وَلَوْ جَدَدْته وَحَازَتْهُ لَكَانَ نَافِذًا فَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ" فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.

(9/150)


قال أبو محمد: فَعُدْنَا إلَى قَوْلِنَا فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَالْفَضْلِ وَكَانَتْ الْهِبَةُ فِعْلَ خَيْرٍ، وَقَدْ عَلِمَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ فِي أَمْوَالِ الْمَحْضُوضِينَ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مُشَاعًا وَغَيْرَ مُشَاعٍ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَهُمْ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ فِي الْمُشَاعِ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمَا كَتَمَهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ حَرَّمَ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورِ بِالتَّبْلِيغِ. وَالْبَيَانِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَافْتَرَى عَلَيْهِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا. فَصَحَّ يَقِينًاأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالصَّدَقَةَ بِهِ، وَإِجَارَتَهُ وَرَهْنَهُ جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ، وَلِلْغَنِيِّ وَلِلْفَقِيرِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ " قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكُبَّةِ شَعْرٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْهَا لِي، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نُعَالِجُ الشَّعْر فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: نَصِيبِي مِنْهَا لَكَ" وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ، وَبِرِوَايَةِ شَرِيكٍ. وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ فَمَا صَرَفَهُمْ، عَنْ هَذَا الْخَبَرِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا قَالَتْ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: إنِّي وَرِثْت، عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ مَالاً بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِي مُعَاوِيَةُ بِهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَهُوَ لَكُمَا، لأََنَّهُمَا لَمْ يَرِثَا مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا إنَّمَا وَرِثَا أَسْمَاءَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَهَذِهِ هِبَةٌ لِغَنِيَّيْنِ مُكْثِرَيْنِ مُشَاعَةً، وَفِعْلُ أَسْمَاءَ رضي الله تعالى عنها بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،، وَلاَ يُعْرَفُ لَهَا مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَصَدَقَاتُ الصَّحَابَةِ عَلَى بَنِيهِمْ وَبَنِي بَنِيهِمْ بِغَلَّةِ أَوْقَافِهِمْ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لأََغْنِيَاءَ بِمُشَاعٍ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ حُنَيْنٍ وَطَلَبَ هَوَازِنَ عِيَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ هِبَةُ مُشَاعٍ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ. وَالْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً" فَهَذِهِ عَطِيَّةُ تَمْرٍ مُشَاعَةٍ وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلاَنِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلاَثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى وَذَكَرَ الْخَبَرَ فَهَذِهِ هِبَةُ مُشَاعٍ لَمْ يَنْقَسِمْ.
وَأَمَّا مِنْ النَّظَرِفَلَيْسَ إِلاَّ مِلْكٌ صَحِيحٌ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيمَا صَحَّ الْمِلْكُ فِيهِ وَلاَ مَزِيدَ، فَتَمَلُّكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ بِالْجُزْءِ الْمُشَاعِ كَمَا مَلَكَهُ الْوَاهِبُ وَالْمُتَصَدِّقُ، وَلاَ فَرْقَ أَلْبَتَّةَ وَيَتَصَرَّفُ

(9/151)


الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَالْمُتَصَدِّقُ. وَالْمُكْتَرِي، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوَاهِبُ وَالْمُتَصَدِّقُ وَالْمُكْتَرِي وَوُكَلاَؤُهُمْ وَلاَ فَرْقَ وَتَكُونُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ يَدُ الرَّاهِنِ وَوَكِيلُهُ وَلاَ فَرْقَ وَهَذَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/152)


1634 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا إذَا أَعْطَى شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةٍ، أَوْ عَدَدًا كَذَلِكَ، أَوْ ذَرْعًا كَذَلِكَ أَوْ وَزْنًا كَذَلِكَ، أَوْ كَيْلاً كَذَلِكَ، فَهُوَ بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ، مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ دَابَّةً مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ أَوْ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ مِنْ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ أَوْ رِطْلاً مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ أَوْ صَاعًا مِنْ هَذَا التَّمْرِ، أَوْ ذِرَاعًا مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالصَّدَقَةُ بِكُلِّ هَذَا، وَالْهِبَةُ وَالإِصْدَاقُ وَالْبَيْعُ. وَالرَّهْنُ، وَالإِجَارَةُ، بَاطِلٌ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيمَا اخْتَلَفَتْ أَبْعَاضُهُ أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ لاَ لِشَرِيكٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ، وَلاَ لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِفَقِيرٍ لأََنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الْهِبَةَ، وَلاَ الصَّدَقَةَ، وَلاَ الإِصْدَاقَ، وَلاَ الرَّهْنَ وَلاَ الإِجَارَةَ عَلَى شَيْءٍ أَبَانَهُ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ أَوْقَعَ فِيهِ حُكْمَ الرَّهْنِ، أَوْ الإِجَارَةِ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، عَنْ مِلْكِهِ، وَلاَ أَوْقَعَ فِيهِ حُكْمًا فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا خِلاَفُ مَا تَقَدَّمَ، لأََنَّ الْجُزْءَ الْمُسَمَّى مُتَيَقَّنٌ أَنَّهُ لاَ جُزْءَ إِلاَّ وَفِيهِ حَظٌّ لِلْمُشْتَرِي أَوْ الْمُصَدِّقِ أَوْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَو الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ شَرِيكًا لأََبِيهِ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: لَك مِائَةُ دِينَارٍ مِنْ الْمَالِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَضَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَحُوزَهُ مِنْ الْمَالِ وَيَعْزِلَهُ.وبه إلى مَعْمَرٍعَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مِنْ النَّحْلِ إِلاَّ مَا أُفْرِدَ وَعُزِلَ وَأُعْلِمَ.

(9/152)


ومن أعطى شئيا من غير مسألة ففرض عليه قبوله وله أن يهبه
...
1635 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُعْطِي شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَفَرَضَ عَلَيْهِ قَبُولَهُ، وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ لِلَّذِي وَهَبَهُ لَهُ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ النَّفْعِ.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إشْرَافِ نَفْسٍ، فَاقْبَلْهُ لاَ نَعْلَمُ حَدِيثًا رَوَاهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي نَسْقِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ إِلاَّ هَذَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو الطَّاهِرِ انَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطَاءَ فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ, قَالَ سَالِمٌ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلاَ يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيهِ ". أناأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

(9/152)


ولا يحل الرشوة وهي ما أعطاء المرء
...
1636 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ الرِّشْوَةُ: وَهِيَ مَا أَعْطَاهُ الْمَرْءُ لِيُحْكَمَ لَهُ بِبَاطِلٍ، أَوْ لِيُوَلِّيَ وِلاَيَةً أَوْ لِيُظْلَمَ لَهُ إنْسَانٌ فَهَذَا يَأْثَمُ الْمُعْطِي وَالآخِذُ.فأما مَنْ مُنِعَ مِنْ حَقِّهِ فَأَعْطَى لِيَدْفَعَ، عَنْ نَفْسِهِ الظُّلْمَ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْمُعْطِي وَأَمَّا الآخِذُ فَآثِمٌ، وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ فَالْمَالُ الْمُعْطَى بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ الَّذِي أَعْطَاهُ كَمَا كَانَ، كَالْغَصْبِ، وَلاَ فَرْقَ وَمِنْ جُمْلَةِ هَذَا مَا أُعْطِيهِ أَهْلَ دَارِ الْكُفْرِ فِي فِدَاءِ الأَسْرَى، وَفِي كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مِلْكَ أَهْلِ دَارِ الْكُفْرِ مَا أَخَذُوهُ فِي فِدَاءِ الأَسِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: قَدْ مَلَكُوهُ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ نَظَرٌ وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفْنَا أَبِحَقٍّ أَخَذَ الْكُفَّارُ مَا أَخَذُوا مِنَّا فِي الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ أَمْ بِبَاطِلٍ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ قَالُوا غَيْرَ ذَلِكَ كَفَرُوا، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ، لأََنَّهُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَلِلُزُومِ الدِّينِ لَهُمْ. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" .
فإن قيل: لِمَ أَبَحْتُمْ إعْطَاءَ الْمَالِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي قَالَ: قَاتِلْهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ قَالَ: فَهُوَ فِي النَّار" ِ وَبِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ" لَعَنِ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" قال أبو محمد: خَبَرُ لَعْنِهِ الرَّاشِي إنَّمَا رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُعْطِيَ فِي ضَرُورَةِ دَفْعِ الظُّلْمِ لَيْسَ رَاشِيًا وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُقَاتَلَةِ فَهَكَذَا نَقُولُ: مَنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إعْطَاءُ فَلْسٍ فَمَا فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ عَجَزَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ عليه السلام: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمُقَاتَلَةِ وَالدِّفَاعِ وَصَارَ فِي حَدِّ الإِكْرَاهِ عَلَى مَا أَعْطَى فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ

(9/157)


رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ عَانٍ عِنْدَ كُلِّ كَافِرٍ أَوْ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَعْمَرٍ قَالَ: مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، قَالاَ جَمِيعًا: مَا أَعْطَيْت مُصَانَعَةً عَلَى مَالِك وَدَمِك، فَإِنَّك فِيهِ مَأْجُورٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/158)


1637- مسألة ـ وأما من نصر آخر في حق أودفع عنه ظلما ولم يشترط عليه في ذلك عطاء فاهدى اليه مكافأة فهذا حسن لا نكرهه لانه من جملة شكر المنعم وهدية بطيب نفس وما نعلم قرآنا ولا سنة في المنع من ذلك، وقد روينا عن على وابن مسعود المنع من هذا ولا نعلم برهانا يمنع منه وبالله تعالى التوفيق.

(9/158)


1638- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ السُّؤَالُ تَكَثُّرًا إِلاَّ لِضَرُورَةِ فَاقَةٍ، أَوْ لِمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَالْمُضْطَرُّ فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَقُوتُهُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِمَّا لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، مِنْ: أَكْلٍ، وَسُكْنَى، وَكِسْوَةٍ، وَمَعُونَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ غَيْرَ مُتَكَثِّرٍ فَلَيْسَ مَكْرُوهًا. وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ سُلْطَانًا فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَعَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ" .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو كُرَيْبٍ نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ" .وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الْهِلاَلِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأََحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُوتَ ثَلاَثَةً مِنْ ذَوِي الْحَجِّ مِنْ قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا

(9/158)


واعطاء الكافر مباح وقبول ما أعطى هو القبول
...
1639 - مَسْأَلَةٌ: وَإِعْطَاءُ الْكَافِرِ مُبَاحٌ، وَقَبُولُ مَا أَعْطَى هُوَ كَقَبُولِ مَا أَعْطَى الْمُسْلِمُ .رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارَ نَا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ وَأَهْدَى مَلِكُ آيِلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا.وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "قَدِمَتْ أُمِّي عَلَيَّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صِلِي أُمَّكَ".وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" .فإن قيل: فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَمَّا رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، فَقَالَ: أَسْلَمْتَ قُلْتُ لاَ، قَالَ" "إنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ" َمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ مِثْلُهُ، وَقَالَ: فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا قَالَ الْحَسَنُ: زَبْدُ الْمُشْرِكِينَ رِفْدُهُمْ قلنا: هَذَا مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ أَبِي حُمَيْدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ كَانَ فِي تَبُوكَ، وَكَانَ إسْلاَمُ عِيَاضٍ قَبْلَ تَبُوكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/159)


1640 - مَسْأَلَةٌ: لاَ تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ بَلْ يَكْتَسِبُ بِذَلِكَ إثْمًا زَائِدًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . فَكُلَّمَا تَصَرَّفَ فِي الْحَرَامِ فَقَدْ زَادَ مَعْصِيَةً وَإِذَا زَادَ مَعْصِيَةً زَادَ إثْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .

(9/159)


1641 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنَّ يَمُنَّ بِمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ إِلاَّ مَنْ كَثُرَ إحْسَانُهُ

(9/159)


1642 - مَسْأَلَةٌ: وَهِبَةُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَالْبِكْرِ ذَاتِ الأَبِ، وَالْيَتِيمَةِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمَخْدُوعِ فِي الْبُيُوعِ، وَالْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتِهِ، أَوْ مَرَضَ غَيْرَ مَوْتِهِ، وَصَدَقَاتِهِمْ: كَهِبَاتِ الأَحْرَارِ، وَاَللَّوَاتِي لاَ أَزْوَاجَ لَهُنَّ، وَلاَ آبَاءَ كَهِبَاتِ الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَوَقَدْ ذَكَرْنَا برهان ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَ جَمِيعَ الْبَالِغِينَ الْمُمَيِّزِينَ إلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَإِنْقَاذِ نَفْسِهِ مِنْ النَّارِ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مُتَوَعَّدٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ " فَلاَ يَحِلُّ مَنْعُهُمْ مِنْ الْقُرْبِ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/160)


والصدقة التطوع على الغنى جائزة
...
1643 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّدَقَةُ لِلتَّطَوُّعِ عَلَى الْغَنِيِّ جَائِزَةٌ وَعَلَى الْفَقِيرِ، وَلاَ تَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلاَ لِمَوَالِيهِمْ، حَاشَ " الْحَبْسِ " فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُمْ، وَلاَ تَحِلُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ أُمُّهُ مِنْهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ مِنْهُمْ وَأَمَّا الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، وَالإِبَاحَةُ وَالْمِنْحَةُ، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى فَكُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهمْ هَذَا كُلُّهُ لاَ خِلاَفَ فِيهِ حَاشَ دُخُولِ بَنِي الْمُطَّلِبِ فِيهِمْ، وَحَاشَ دُخُولِ الْمَوَالِي فِيهِمْ، وَحَاشَ جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا أَجَازُوهَا لَهُمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ نَا شُعْبَةُ نَا الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَرَادَ أَبُو رَافِعٍ أَنْ يَتْبَعَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ. فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ صَدَقَةٍ" .وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ

(9/160)


وللعبدان يتصدق من مال سيده
...
1644 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ بِمَا لاَ يُفْسِدُ، وَاسْتَدْرَكْنَا فِي تَصَدُّقِ الْعَبْدِ الْخَبَرَ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا قُتَيْبَةُ نَا حَاتِمٌ، هُوَ ابْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَيْرًا مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: "أَمَرَنِي مَوْلاَيَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلاَيَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَهُ فَقَالَ: يُطْعِمُ طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الأَجْرُ بَيْنَكُمَا". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ كُلُّهُمْ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: " كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ شَيْئًا قَالَ: نَعَمْ، وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا[ نِصْفَانِ]".
قال أبو محمد: لاَ يَخْلُو مَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ، أَوْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِنْ كَانَ مَالٌ فَصَدَقَةُ الْمَرْءِ مِنْ مَالِهِ فِعْلٌ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِسَيِّدِهِ فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ بِإِبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَهُ مِنْهُ فَلْيُعْضَدُوا بِالْجَنْدَلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قوله تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لَيْسَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ، لأََنَّنَا نَرَاهُمْ لاَ يَعْجِزُونَ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْحُرُّ فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا عَنَى بَعْضَ الْعَبِيدِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ كُلُّ أَبْكَمَ كَذَلِكَ.فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ الْبُكْمِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُسْقِطُوا عَنْهُ الصَّلاَةَ، وَالْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ، وَالصِّيَامَ إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ أَعْمَالُ أَبَدَانً.قلنا: قَدْ تَرَكْتُمْ احْتِجَاجَكُمْ بِظَاهِرِ الآيَةِ بَعْدُ وَأَتَيْتُمْ بِدَعْوَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَعْمَالِ الأَبَدَانِ وَأَعْمَالِ الأَمْوَالِ بِلاَبرهان وَالْحَجُّ عَمَلُ بَدَنٍ فَأَلْزِمُوهُ إيَّاهُ.فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُجْبَرُ بِالْمَالِ. قلنا فَأَسْقِطُوا عَنْهُ الصَّوْمَ بِهَذَا الدَّلِيلِ السَّخِيفِ، لأََنَّهُ يُجْبَرُ بِالْمَالِ مِنْ عِتْقِ الْمُكَفِّرِ وَإِطْعَامِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/162)


الإباحة
والاباحة جائز في المجهول
...
الإِبَاحَةُ
1645- مَسْأَلَةٌ: وَالإِبَاحَةُ جَائِزَةٌ فِي الْمَجْهُولِ، بِخِلاَفِ الْعَطِيَّةِ، وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَالْحَبْسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ كَطَعَامٍ يُدْعَى إلَيْهِ قَوْمٌ يُبَاحُ لَهُمْ أَكْلُهُ، وَلاَ يُدْرَى كَمْ يَأْكُلُ كُلُّ وَاحِدٍ. وَهَذَا مَنْصُوصٌ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالأَكْلِ فِيهَا وَكَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ إذْ نَحَرَ الْهَدْيَ. وَكَأَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام الْمُرْسَلَ بِالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ أَنْ يَنْحَرَهُ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَنَحْوُ هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/163)


1646 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ وَالِدِهِ، وَوَالِدَتِهِ، وَابْنِهِ، وَابْنَتِهِ، وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ، شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لأََبٍ أَوْ لأَُمٍّ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَجَدِّهِ، وَجَدَّتِهِ، كَيْفَ كَانَا، وَعَمِّهِ، وَعَمَّتِهِ كَيْفَ كَانَا، وَخَالِهِ، وَخَالَتِهِ، كَيْفَ كَانَا، وَصَدِيقِهِ، وَمَا مَلَكَ مَفَاتِحَهُ، سَوَاءٌ رَضِيَ مَنْ ذَكَرْنَا أَوْ سَخِطَ، أَذِنُوا، أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْكُلَّ.برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَصِّ الْقُرْآنِ وَقَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} نَصُّ مَا قلنا، لأََنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ وَلَدَ أَحَدِكُمْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مِنْ كَسْبِهِ".

(9/163)


المنحة
والمنحة جائز
...
الْمِنْحَةُ
1647 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمِنْحَةُ جَائِزَةٌ، وَهِيَ فِي الْمُحْتَلَبَاتِ فَقَطْ، يَمْنَحُ الْمَرْءُ مَا يَشَاءُ مِنْ إنَاثِ حَيَوَانِهِ مَنْ شَاءَ لِلْحَلْبِ. وَكَدَارٍ يُبِيحُ سُكْنَاهَا، وَدَابَّةٍ يَمْنَحُ رُكُوبَهَا، وَأَرْضٍ يَمْنَحُ ازْدِرَاعَهَا وَعَبْدٍ يَخْدُمُهُ، فَمَا حَازَهُ الْمَمْنُوحُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ لاَ طَلَبَ لِلْمَانِحِ فِيهَا وَلِلْمَانِحِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَيْنَ مَا مَنَحَ مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ عَيَّنَ مُدَّةً أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ، أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ إِلاَّ بِنَصٍّ وَلاَ نَصَّ فِي هَذَا وَتَعْيِينُهُ الْمُدَّةَ عِدَّةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي بَابِ النُّذُورِ، وَالأَيْمَانِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. وَالإِزْرَاعُ، وَالإِسْكَانُ، وَالإِفْقَارُ، وَالإِمْتَاعُ، وَالإِطْرَاقُ، وَالإِخْدَامُ، وَالإِعْرَاءُ، وَالتَّصْيِيرُ: حُكْمُ مَا وَقَعَ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ كَحُكْمِ الْمِنْحَةِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُد، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ. فَالإِزْرَاعُ يَكُونُ فِي الأَرْضِ يَجْعَلُ الْمَرْءُ لأَخَرَ أَنْ يَزْرَعَ هَذِهِ الأَرْضَ مُدَّةً يُسَمِّيهَا، أَوْ طُولَ حَيَاتِهِ وَالإِسْكَانُ يَكُونُ فِي الْبُيُوتِ وَفِي الدُّورِ، وَالدَّكَاكِينِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالإِفْقَارُ يَكُونُ فِي الدَّوَابِّ الَّتِي تُرْكَبُ. وَالإِطْرَاقُ يَكُونُ فِي الْفُحُولِ تُحْمَلُ عَلَى الإِنَاثِ.=

 

كتاب :{10} المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

العمرى والرقى
العمرى والرقى هبة صحيحة تامة
...
الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
1648 - مَسْأَلَةٌ: الْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى: هِبَةٌ صَحِيحَةٌ تَامَّةٌ، يَمْلِكُهَا الْمُعْمِرُ وَالْمُرْقِبُ، كَسَائِرِ مَالِهِ، يَبِيعُهَا إنْ شَاءَ، وَتُورَثُ عَنْهُ، وَلاَ تَرْجِعُ إلَى الْمُعْمَرِ، وَلاَ إلَى وَرَثَتِهِ سَوَاءٌ اشْتَرَطَ أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَشَرْطُهُ لِذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَالْعُمْرَى هِيَ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ، وَهَذِهِ الأَرْضُ، أَوْ هَذَا الشَّيْءُ عُمْرَى لَك، أَوْ قَدْ أَعْمَرْتُكَ إيَّاهَا أَوْ هِيَ لَك عُمْرُك أَوْ قَالَ: حَيَاتُك أَوْ قَالَ: رُقْبَى لَك أَوْ قَدْ أَرْقَبْتُكهَا كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَوَالشَّافِعِيّ ِوَأَحْمَد وَأَصْحَابِهِمْ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعُمْرَى بَتَاتٌ وَمِنْ خُيِّرَ

(9/164)


فَقَدْ طَلَّقَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُوس عَنْ حُجْرٌ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ.وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ أَعْطَى ابْنًا لَهُ بَعِيرًا حَيَاتَهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ لَهُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعُمْرَى َالرُّقْبَى سَوَاءٌ وَصَحَّ أَيْضًا َنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَبَدًا وَعَنْ شُرَيْحٍ َقَتَادَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٍ، وطَاوُوس، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ نَا هُشَيْمٌ نَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَمَّنْ أَسْكَنَ آخَرَ دَارًا حَيَاتَهُ فَمَاتَ الْمُسْكِنُ وَالْمُسْكَنُ قَالَ: تَرْجِعُ إلَى وَرَثَةِ الْمُسْكِنِ فَقُلْت: أَلَيْسَ يُقَالُ: مَنْ مَلَكَ شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْعُمْرَى َأَمَّا السُّكْنَى وَالْغَلَّةُ، وَالْخِدْمَةُ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَوَكِيعٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ، إِلاَّ أَنَّ عَطَاءً، وَالزُّهْرِيَّ قَالاَ: إنْ جَعَلَ الْعُمْرَى بَعْدَ الْمُعَمَّرِ فِي وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، أَوْ لأَِنْسَانٍ آخَرَ غَيْرَ نَفْسِهِ: نَفَذَ ذَلِكَ كَمَا جَعَلَهُ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعُمْرَى: هِبَةٌ صَحِيحَةٌ إذَا أَعْمَرَهَا لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فأما إنْ لَمْ يَقُلْ: لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمُعَمِّرِ، أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ الْمُعَمِّرُ وَهُوَ قَوْلٌ صَحَّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعُمْرَى رَاجِعَةٌ إلَى الْمُعَمِّرِ، أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ قَالَ: أَعْمَرْتُكَ هَذَا بِشَيْءٍ لَك وَلِعَقِبِك: كَانَتْ كَذَلِكَ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُعَمِّرُ وَعَقِبُهُ: رَجَعَتْ إلَى الْمُعَمِّرِ، أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ
قال أبو محمد: فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} قَالُوا: فَكَانَ كَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أُعْمِرَعُمْرَى وَذَكَرُوا الْخَبَرَ "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" وَادَّعُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ بَلَغَنِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ تَعْمُرُ بَنِي أَخِيها حَياتَهُمْ فَإِذَا

(9/165)


َانْقَرَضَ أَحَدُهُمْ قَبَضَتْ مَسْكَنَهُ فَوِرْثنَا نَحْنُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْيَوْمَ عَنْهَا، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا أَصْلاً وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِأَمَّا خَبَرُ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فَبَاطِلٌ، وَهَذِهِ آفَةُ الْمُرْسَلِ، وَاَلَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، وَأَبَاهُ الْقَاسِمَ، وَجَدَّهُ مُحَمَّدًا، لَمْ يَرِثُوا عَائِشَةَ، وَلاَ صَارَ إلَيْهِمْ بِالْمِيرَاثِ عَنْهَا قِيمَةُ خَرْدَلَةٍ، لأََنَّ مُحَمَّدًا قُتِلَ فِي حَيَاتِهَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِنَّمَا وَرِثَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ، لأََنَّهُ كَانَ ابْنَ شَقِيقِهَا، فَحَجَبَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي " بَابِ هِبَةِ الْمُشَاعِ " قَبْلَ هَذَا الْبَابِ بِأَوْرَاقٍ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهَا لَكَانَ قَدْ خَالَفَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَلِيُّ بْن أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا أَوْرَدْنَا آنِفًا.وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَخَبَرٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ إمَّا عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ هَالِكٌ وَأَمَّا مُرْسَلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا أَوَّلَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُبْطِلُونَ مِنْ شُرُوطِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَرْطٍ: كَمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يُقِيلَهُ إلَى يَوْمَيْنِ. وَكَمَنْ بَاعَ أَمَةً بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا. وَكَمَنْ بَاعَ بِخِيَارٍ إلَى عِشْرِينَ سَنَةً. وَكَمَنْ نَكَحَ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ هِيَ عَلَيْهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. فَكَيْفَ وَهَذَا الشَّرْطُ يَعْنِي رُجُوعَ الْعُمْرَى إلَى الْمُعَمِّرِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ: شَرْطٌ قَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ نَصًّا بِإِبْطَالِهِ، كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتِجَاجُهُمْ بِالآيَةِ هَاهُنَا أَبْعَدُ شَيْءٍ مِنْ التَّوْفِيقِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُمْ قَاسُوا حُكْمَ النَّاسِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْتُلُ النَّاسَ وَلاَ مَلاَمَةَ عَلَيْهِ، وَيُجِيعُهُمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِالْمَرَضِ، وَلاَ مَلاَمَةَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ قِيَاسُ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُمْ مَوَّهُوا وَقَلَبُوا لَنَا الآيَةَ، لأََنَّنَا لَمْ نُنَازِعْهُمْ فِيمَنْ أَعْمَرَ آخَرَ مَالاً لَهُ وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْمَرْتُكُمْ الأَرْضَ إنَّمَا قَالَ: إنَّهُ اسْتَعْمَرْنَا فِيهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَّرَنَا بِالْبَقَاءِ فِيهَا مُدَّةً، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْعُمْرَى فِي وِرْدٍ، وَلاَ صَدْرٍ. وَثَالِثُهَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَوْ جَعَلْنَاهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لَكَانَ ذَلِكَ أَوْضَحَ مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِلاَ شَكٍّ أَبَاحَ لَنَا بَيْعَ مَا مَلَكْنَا مِنْ الأَرْضِ، وَجَعَلَهَا لِوَرَثَتِنَا بَعْدَنَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا فِي الْعُمْرَى لاَ قَوْلُهُمْ، فَظَهَرَ فَسَادُ مَا يَأْتُونَ بِهِ عَلاَنِيَةً، وَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ يَقِينًا، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ كُلَّ مَا صَحَّ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمُرْسَلاَتٍ كَثِيرَةٍ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، فَوَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك فأما إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا.
قال أبو محمد: لَمْ نَجِدْ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ الْمُسْنَدَ مِنْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ

(9/166)


صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ وَأَمَّا بَاقِي لَفْظِ الْخَبَرِ فَمِنْ كَلاَمِ جَابِرٍ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفَ جَابِرًا هَاهُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ حُكْمُ الْعُمْرَى إذَا قَالَ الْمُعَمِّرُ: " هِيَ لَك وَلِعَقِبِك " فَقَطْ وَبَقِيَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَقُلْ هَذَا الْكَلاَمُ لاَ ذِكْرَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَوَجَبَ طَلَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا: فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ نَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَهِيَ لَهُ بَتْلَةٌ وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ وَلاَ ثُنْيَا" قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لأََنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ فَقَطَعَتْ الْمَوَارِيثُ شَرْطَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقِبِهِ" .
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ عُمْرَى فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ" .وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِثْلَهُ مُرْسَلاً.وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيِّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَعْقِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنْ حُجْرٌ الْمَدَرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لِمُعْمَرِهِ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ، وَلاَ تُرْقِبُوا فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُهُ".
قَالَ عَلِيٌّ: هَكَذَا رُوِّينَاهُ بِضَمِّ الْمِيم الأُُولَى مِنْ " مُعْمَرٍ " وَفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تُرْقِبُوا، وَلاَ تَعْمُرُوا فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ" . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ " رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعُمْرَى لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى لِمَنْ أُرْقِبَهَا وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ عَنْهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ فِي الإِعْمَارِ وَالإِرْقَابِ كَمَا جَاءَ النَّصُّ وَأَمَّا الإِسْكَانُ فَيُخْرِجُهُ مَتَى شَاءَ لأََنَّهَا عِدَّةٌ فِيمَا لَمْ يُجْزِهِ مِنْ السُّكْنَى بَعْدُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/167)


العارية
والعارية جائزة وفعل حسن
...
الْعَارِيَّةُ
1649 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِعْلٌ حَسَنٌ، وَهِيَ فَرْضٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهِيَ إبَاحَةُ مَنَافِعِ بَعْضِ الشَّيْءِ، كَالدَّابَّةِ لِلرُّكُوبِ وَالثَّوْبِ لِلِّبَاسِ، وَالْفَأْسِ لِلْقَطْعِ، وَالْقِدْرِ لِلطَّبْخِ وَالْمِقْلَى لِلْقَلْوِ، وَالدَّلْوِ، وَالْحَبْلِ، وَالرَّحَى لِلطَّحْنِ وَالإِبْرَةِ لِلْخِيَاطَةِ، وَسَائِرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَجْلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ يَأْخُذُ مَا أَعَارَ مَتَى شَاءَ، وَمَنْ سَأَلَهَا إيَّاهُ مُحْتَاجًا فَفَرَضَ عَلَيْهِ إعَارَتَهُ إيَّاهُ إذَا وَثِقَ بِوَفَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَى إضَاعَةِ مَا يَسْتَعِيرُ أَوْ عَلَى جَحْدِهِ فَلاَ يُعِرْهُ شَيْئًا.
أَمَّا كَوْنُهَا فَرْضًا كَمَا ذَكَرْنَا فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فَتَوَعَّدَ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ مَنَعَ الْمَاعُون بِالْوَيْلِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ هُوَ الْعَوَارِيُّ. الْقِدْرُ، وَالدَّلْوُ، وَالْمِيزَانُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْد، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْمَاعُونُ مَا تَعَاوَرَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ: الْفَأْسُ، وَالْقِدْرُ، وَأَشْبَاهُهُ.وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ صُبْحٍ حَدَّثَتْنِي أُمُّ شَرَاحِيلَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: اذْهَبِي إلَى فُلاَنَةَ فَأَقْرِئِيهَا السَّلاَمَ وَقَوْلِي لَهَا: إنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ تُوصِيك بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ تَمْنَعِي الْمَاعُونَ قَالَتْ: فَقُلْت: مَا الْمَاعُونُ فَقَالَتْ لِي: هَبِلْتِ، هِيَ الْمِهْنَةُ يَتَعَاطَاهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَيْضًا، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ يَحْيَى: عَنْ شُعْبَةَ، ثُمَّ اتَّفَقَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عِيَاضِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: الْمَاعُونُ مَنْعُ الْقِدْرِ وَالْفَأْسِ، وَالدَّلْوِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْمَاعُونِ الْمَذْكُورِ فِي الآيَةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي رِوَايَتِهِ: مَتَاعُ الْبَيْتِ، وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ: هِيَ الْعَارِيَّةُ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: هُوَ الْمَالُ يُمْنَعُ حَقُّهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاوَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفًا لِهَذَا فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهَا الزَّكَاةُ قلنا: نَعَمْ، وَلَمْ يَقُلْ لَيْسَتْ الْعَارِيَّةُ ثُمَّ قَدْ جَاءَ عَنْهُ، أَنَّهَا الْعَارِيَّةُ. فَوَجَبَ جَمْعُ قَوْلَيْهِ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " لَمْ يَأْتِ أَهْلُهَا بَعْدُ " مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. قلنا: نَعَمْ، وَهَذَا

(9/168)


غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، لأََنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " لَمْ يَأْتِ أَهْلُهَا بَعْدُ " أَيْ إنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ يَتَبَاذَلُونَ، وَلاَ يَمْنَعُونَ وَسَيَأْتِي زَمَانٌ يَمْنَعُونَهُ، وَلاَ يَحْتَمِلُ أَلْبَتَّةَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلاَّ هَذَا الْوَجْهَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ لِمُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ، فَلأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.وَكَذَلِكَ مَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ فِيهَا، أَوْ حَائِطًا لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَخْذُهُ بِهَدْمِ بِنَائِهِ مَتَى أَحَبَّ بِلاَ تَكْلِيفِ عِوَضٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَأَنَّ مَنْ أَضَاعَ مَا يَسْتَعِيرُ أَوْ جَحَدَهُ وَلَمْ يُؤْمَنْ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى، عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلاَ يَجُوزُ عَوْنُهُ عَلَى ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/169)


والعارية غير مضمونة أن تلفت من من غير تعدى المستعير
...
1650 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَارِيَّةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْدِي الْمُسْتَعِيرِ، وَسَوَاءٌ مَا غَيَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَارِيّ وَمَا لَمْ يَغِبْ عَلَيْهِ مِنْهَا. فَإِنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَدَّى، أَوْ أَضَاعَهَا حَتَّى تَلِفَتْ، أَوْ عَرَضَ فِيهَا عَارِضٌ، فَإِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ أَقَرَّ: ضَمِنَ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ، وَلاَ أَقَرَّ: لَزِمَتْهُ الْعَيْنُ وَبَرِئَ، لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا تَضْمِينُهَا: فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا قلنا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِأَيِّ وَجْهٍ تَلِفَتْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُعِيرُ ضَمَانَهَا فَيَضْمَنُ حِينَئِذٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ يَعْنِي الْمُتَّهَمَ. وَقَالَ قَائِلٌ: أَمَّا مَا غَيَّبَ عَلَيْهِ كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَضْمَنُ جُمْلَةً وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ.وَأَمَّا مَا ظَهَرَ كَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ: فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُ فِيهِ سَلَفًا إِلاَّ عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ وَحْدَهُ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَتَّهِمُ الْمُسْتَعِيرَ فِيمَا غَابَ فَقُلْنَا: لَيْسَ بِالتُّهْمَةِ تُسْتَحَلُّ أَمْوَالُ النَّاسِ، لأََنَّهَا ظَنٌّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى: قَدْ أَنْكَرَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، فَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَتْبَعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" وَيَلْزَمُكُمْ إذَا أَعْمَلْتُمْ الظَّنَّ أَنْ تُضَمِّنُوا الْمُتَّهَمَ وَلاَ تُضَمِّنُوا مِنْ لاَ يُتَّهَمُ، كَمَا يَقُولُ شُرَيْحٌ وَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُضَمِّنُوا الْوَدِيعَةَ أَيْضًا بِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُتَكَلَّفَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَوْرَدْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وقال بعضهم: قِسْنَاهُ عَلَى الرَّهْنِ فَقُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ وَحُجَّةٌ لِقَوْلِكُمْ بِقَوْلِكُمْ، وَكِلاَهُمَا خَطَأٌ. وقال بعضهم:

(9/169)


لَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَضْمِينِ الْعَارِيَّةِ تَوَسَّطْنَا قَوْلَهُمْ قلنا لَهُمْ: وَمِنْ هَذَا سَأَلْنَاكُمْ مِنْ أَيْنَ فَعَلْتُمْ هَذَا وَمِلْتُمْ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ الْفَاسِدِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرَ الْمُغِلِّ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرَ الْمُغِلِّ، فَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سَمِعْت هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ يَذْكُرُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ الْمُغِلُّ: الْمُتَّهَمُ وَهُوَ يَبْطُلُ بِمَا بَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، لأََنَّهُ بَنَاهُ عَلَى التُّهْمَةِ، وَهُوَ ظَنٌّ فَاسِدٌ.وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ الْمُجِيزِينَ لِلشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بِالْخَبَرِ الْمَكْذُوبِ "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ قَتَادَةَ هَاهُنَا، وَلَكِنْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ ضَمِنَهَا جُمْلَةً، أَوْ قَوْلُنَا فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ ضَمِنَهَا جُمْلَةً. فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ هُوَ سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: الْعَارِيَّةُ تُغْرَمُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْمَنُ الْعَارِيَّةَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي قَضِيَّةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ. وَكَانَ شُرَيْحٌ يُضَمِّنُ الْعَارِيَّةَ، وَضَمَّنَهَا الْحَسَنُ، ثُمَّ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ، وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَيْضًا، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَذَكَرَا أَنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا بِهِ وَكَانُوا يَقْضُونَ. وَذَكَرَهُ أَيْضًا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَيَّارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَكْحُولٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَجْمَعَ رَأْيُ الْقُضَاةِ عَلَى ذَلِكَ، إذْ رَأَوْا شُرُورَ النَّاسِ وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَصْحَابُهُمَا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} فَقُلْنَا لَهُمْ: فَضَمَّنُوا بِهَذِهِ الآيَةِ الْوَدِيعَةَ فَقَدْ ضَمَّنَهَا عُمَرُ، وَغَيْرُهُ، وَنَعَمْ، هُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا، فَإِنْ عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَإِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَدَاؤُهَا فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ تَضْمِينٌ، لأََنَّ أَدَاءَ الْغَرَامَةِ هُوَ غَيْرُ أَدَاءِ الأَمَانَةِ، فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَكُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ أَصْلاً، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَدَاءُ غَيْرِهَا، وَلاَ ضَمَانُهَا، وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي أَدْرَاعِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَبِمَا رُوِيَ الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَكِلاَهُمَا

(9/170)


لايَصِحُّ, أَمَّا خَبَرُ دُرُوعِ صَفْوَانَ، فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أبية "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا، فَقَالَ: غَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" شَرِيكٌ مُدَلِّسٌ لِلْمُنْكَرَاتِ إلَى الثِّقَاتِ، وَقَدْ رَوَى الْبَلاَيَا وَالْكَذِبَ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، عَنِ الثِّقَاتِ.وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ اسْتَعَارَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِلاَحًا فَقَالَ: مَضْمُونَةٌ قَالَ: مَضْمُونَةٌ,الْحَارِثِ مَتْرُوكٌ. وَيَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ لَمْ يُدْرِكْ نَافِعًا، وَأَعْلَى مَنْ عِنْدَهُ شُعْبَةُ، وَلاَ نَعْلَمُ لِنَافِعٍ سَمَاعًا مِنْ صَفْوَانَ أَصْلاً وَاَلَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ فَإِنَّ صَفْوَانَ مَاتَ أَيَّامَ عُثْمَانَ قَبْلَ الْفِتْنَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ "أَعَارَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِلاَحًا فَقَالَ: أَعَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ أَمْ غَصْبٌ؟ فَقَالَ بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ" هَذَا مُنْقَطِعٌ، لأََنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمْ يُدْرِكْ صَفْوَانَ، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدَهْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ نَاسٍ مِنْ آلِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ "اسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَفْوَانَ سِلاَحًا فَقَالَ صَفْوَانُ: أَعَارِيَّةٌ أَمْ غَصْبٌ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ، فَفَقَدُوا مِنْهَا دِرْعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ فِي قَلْبِي مِنْ الإِيمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ" هَذَا، عَنْ نَاسٍ لَمْ يُسَمُّوا.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دُرُوعًا فَهَلَكَ بَعْضُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ شِئْتَ غَرِمْنَاهَا لَكَ قَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ" إسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام إنْ شِئْتَ غَرِمْنَاهَا لَكَ لَوْ صَحَّ بَيَانٌ بِوُجُوبٍ غَرِمَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ، وَالأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ لاَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِإِبَاحَتِهَا بِغَيْرِ بَيَانٍ جَلِيٍّ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَيُونُسَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ يُونُسُ: عَنْ رَبِيعَةَ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَر دُرُوعَ صَفْوَانَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَلْ طَوْعًا، وَهِيَ عَلَيْنَا ضَامِنَةٌ هَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي شَرْطِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ كَانَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ كَوْنٌ أَوْ حَدَثٌ أَنْ يُعْطُوا رُسُلَ الْيَمَنِ ثَلاَثِينَ بَعِيرًا وَثَلاَثِينَ فَرَسًا، وَثَلاَثِينَ دِرْعًا، وَهُمْ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا هَذَا مُرَدَّدٌ فِي الضَّعْفِ مُنْقَطِعٌ، وَعَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ سَاقِطٌ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ عَارِيَّةً ثَلاَثِينَ فَرَسًا وَثَلاَثِينَ دِرْعًا وَثَلاَثِينَ رُمْحًا، فَإِنْ ضَاعَ

(9/171)


مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى رُسُلِهِ، شَهِدَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ هَذَا مُنْقَطِعٌ، لَمْ يُدْرِكْ عَمْرٌو مِنْ هَؤُلاَءِ أَحَدًا وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ مُرْسَلٌ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ إيَاسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ حُنَيْنًا قَالَ لِصَفْوَانَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلاَحٍ قَالَ: عَارِيَّةً أَمْ غَصْبًا قَالَ: لاَ، بَلْ عَارِيَّةٌ، فَأَعَارَهُ مَا بَيْنَ الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ دِرْعًا، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ، فَفُقِدَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا، فَهَلْ نَغْرَمُ لَك فَقَالَ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فِي قَلْبِي الْيَوْمَ مَا لَمْ يَكُنْ" فَهَذَا مُرْسَلٌ كَتِلْكَ وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي الْحُكْمِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ" إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ.وَرُوِّينَا أَيْضًا الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت الْحَجَّاجَ بْنَ الْفُرَافِصَةِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْهَوْزَنِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّاجُ بْنُ الْفُرَافِصَةِ مَجْهُولٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ حُرَيْثٍ الطَّائِيُّ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَاتِمُ بْنُ حُرَيْثٍ مَجْهُولٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ اللَّيْثِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ" ابْنُ لَهِيعَةَ لاَ شَيْءَ.وَمِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ الْفَرْوِيُّ ضَعِيفٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْعُمَرِيُّ الصَّغِيرُ ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ لَمَا كَانَ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ، وَهَكَذَا نَقُولُ: إنَّ أَدَاءَهَا فَرْضٌ، وَالتَّضْمِينُ غَيْرُ الأَدَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ أَصْلاً فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، لأََنَّ قَتَادَةَ لَمْ يُدْرِكْ سَمُرَةَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ" الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ الأَدَاءُ، وَهَكَذَا نَقُولُ، وَالأَدَاءُ غَيْرُ الضَّمَانِ فِي اللُّغَةِ وَالْحُكْمِ، وَيَلْزَمُهُمْ إذَا حَمَلُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الضَّمَانِ أَنْ يُضَمِّنُوا بِذَلِكَ الْمَرْهُونَ وَالْوَدَائِعَ، لأََنَّهَا مِمَّا قَبَضَتْ الْيَدُ، وَكُلُّ

(9/172)


هَذَا قَدْ قَالَ بِتَضْمِينِهِ طَوَائِفُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ هِلاَلٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلاَثِينَ دِرْعًا وَثَلاَثِينَ بَعِيرًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ أَمْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ" فَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا رُوِيَ فِي الْعَارِيَّةِ خَبَرٌ يَصِحُّ غَيْرُهُ وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَلاَ يُسَاوِي الأَشْتِغَالَ بِهِ وَقَدْ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالأَدَاءِ وَأَوْجَبَ فِي الْعَارِيَّةِ الأَدَاءَ فَقَطْ دُونَ الضَّمَانِ فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ النُّصُوصِ. وَقَالُوا: وَجَدْنَا كُلَّ مَا يَقْبِضُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ مِنْ الأَمْوَالِ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا قِسْمُ مَنْفَعَةٍ لِلدَّافِعِ دُونَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، كَالْوَدِيعَةِ، وَالْوَكَالَةِ فَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ كَذَلِكَ وَثَانِيهَا قِسْمٌ مَنْفَعَتُهُ لِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مَعًا، كَالْقِرَاضِ، وَقَدْ أَتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا مَا مَنْفَعَتُهُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ دُونَ الدَّافِعِ كَالْقَرْضِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: "وَهَذَا قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ"، إِلاَّ أَنَّهُ مِنْ الْمَلِيحِ الْمُمَوَّهِ مِنْ مَقَايِيسِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَيُبِيحُونَ الْفُرُوجَ، وَالأَمْوَالَ وَالأَبْشَارَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا، كَقِيَاسِهِمْ فِي الصَّدَاقِ وَفِي جَلْدِ الشَّارِبِ قِيَاسًا عَلَى الْقَاذِفِ، وَالْقَوَدِ لِلْكَافِرِ مِنْ الْمُؤْمِنِ، وَفَاعِلُ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَائِرِ قِيَاسِهِمْ، إِلاَّ أَنَّنَا نُعَارِضُ هَذَا الْقِيَاسَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ دَفْعُ مَالٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْوَدِيعَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا يَلِي فِي اللِّبَاسِ وَفِيمَا اُسْتُعِيرَتْ لَهُ فَنَقَصَ مِنْهَا بِلاَ تَعَدٍّ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ النَّقْصِ وَهَذَا كُلُّهُ وَسَاوِسُ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْحُكْمِ بِهَا فِي دِينِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَبَقِيَ قَوْلُنَا، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْعَارِيَّةُ لَيْسَتْ بَيْعًا، وَلاَ مَضْمُونَةً إنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ إِلاَّ أَنْ يُخَالِفَ فَيَضْمَنَ وَهَذَا صَحِيحٌ، عَنْ عَلِيٍّ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ هِلاَلٍ الْوَزَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْعَارِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّىوَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ

(9/173)


تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ منكم} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَصَحَّ أَنَّ مَالَ الْمُسْتَعِيرِ مُحَرَّمٌ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهُ نَصُّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلَمْ يُوجِبْهُ قَطُّ نَصٌّ مِنْهُمَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وَالْمُسْتَعِيرُ مَا لَمْ يَتَعَدَّ، وَلاَ ضَيَّعَ: مُحْسِنٌ فَلاَ سَبِيلَ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالْغُرْمُ سَبِيلٌ بِيَقِينٍ فَلاَ غُرْمَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/174)


الضيافة
الضيافة فرض على البدوى
...
الضِّيَافَةُ
1651- مَسْأَلَةُ: الضِّيَافَةِ فَرْضٌ عَلَى الْبَدْوِيِّ، وَالْحَضَرِيِّ، وَالْفَقِيهِ، وَالْجَاهِلِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مَبَرَّةٌ وَإِتْحَافٌ، ثُمَّ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ: ضِيَافَةٌ، وَلاَ مَزِيدَ، فَإِنْ زَادَ فَلَيْسَ قِرَاهُ لاَزِمًا، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى قِرَاهُ: فَحَسَنٌ فَإِنْ مَنَعَ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ فَلَهُ أَخْذُهَا مُغَالَبَةً، وَكَيْف أَمْكَنَهُ، وَيُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلِيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ" قَالَ أَبُو دَاوُد، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله عليه الصلاة والسلام: "جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ": قَالَ مَالِكٌ: يُتْحِفُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيَخُصُّهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ضِيَافَةً.وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُقَدَّمُ أَبِي كَرِيمَةَ " أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ كَانَ مُسْلِمًا، فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، إنْ شَاءَ اقْتَضَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ هُوَ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ "قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ نَزَلْتُ بِهِ فَلَمْ يُكْرِمْنِي وَلَمْ يُضِفْنِي وَلَمْ يَقْرِنِي ثُمَّ نَزَلَ بِي أُجْزِيهِ قَالَ: بَلْ أَقْرِه". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قلنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ" .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَطَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ" .وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ

(9/174)


التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ هُوَ النَّهْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ" ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ خَمْسَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِسَادِسٍ، أَوْ كَمَا قَالَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشْرَةٍ. فَهَذَا نَصُّ إيجَابِ الضِّيَافَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَاضِرَةِ، وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مُخَالِفَتُهَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى " أَنَّ نَاسًا مِنْ الأَنْصَارِ سَافَرُوا فَأَرْمَلُوا فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَسَأَلُوهُمْ الْقِرَى فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَسَأَلُوهُمْ الشِّرَاءَ فَأَبَوْا فَضَبَطُوهُمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ فَأَتَتْ الأَعْرَابُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَشْفَقَتْ الأَنْصَارُ، فَقَالَ عُمَرُ تَمْنَعُونَ ابْنَ السَّبِيلِ مَا يَخْلُفُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ضُرُوعِ الإِبِلِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ابْنُ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ مِنْ الثَّاوِي عَلَيْهِ " فَهَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَحُكْمُ عُمَرَ بِحَضْرَتِهِمْ، لاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ: لاَ ضِيَافَةَ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ، وَلاَ عَلَى الْفُقَهَاءِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/175)


الاحباس
والتحبيس وهو الوقف جائز
...
الأَحْبَاسُ
1652 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّحْبِيسُ وَهُوَ الْوَقْفُ جَائِزٌ فِي الأُُصُولِ مِنْ الدُّور وَالأَرْضِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ إنْ كَانَتْ فِيهَا، وَفِي الأَرْحَاءِ، وَفِي الْمَصَاحِفِ، وَالدَّفَاتِرِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا فِي الْعَبِيدِ، وَالسِّلاَحِ، وَالْخَيْلِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجِهَادِ فَقَطْ، لاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا أَصْلاً، وَلاَ فِي بِنَاءٍ دُونَ الْقَاعَةِ. وَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْبِسَ عَلَى مَنْ أَحَبَّ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَخَالَفْنَا فِي هَذَا قَوْمٌ: فَطَائِفَةٌ أَبْطَلَتْ الْحَبْسَ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لاَ حَبْسَ إِلاَّ فِي سِلاَحٍ، أَوْ كُرَاعٍ، رُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهم، وَطَائِفَةٌ أَجَازَتْ الْحَبْسَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَتَى أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلٍ خَالَفَ فِيهِ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ وَالسُّنَّةَ وَالْمَعْقُولَ فَقَالَ: الْحَبْسُ جَائِزٌ فِي الصِّحَّةِ، وَفِي الْمَرَضِ إِلاَّ أَنَّ لِلْمُحْبِسِ إبْطَالُهُ مَتَى شَاءَ، وَبَيْعُهُ وَارْتِجَاعُهُ بِنَقْضِ الْحَبْسِ الَّذِي عَقَدَ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا، وَهَذَا أَشْهَرُ أَقْوَالِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَنْهُ أَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهُ وَهَذَا هُوَ الأَشْهَرُ عَنْهُ أَمْ لاَ يَجُوزُ؟

(9/175)


وَهَذَا قَوْلٌ يَكْفِي إيرَادُهُ مِنْ فَسَادِهِ، لأََنَّهُ لَمْ تَأْتِ بِهِ سُنَّةٌ، وَلاَ أَيَّدَهُ قِيَاسٌ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَتَفْرِيقٌ فَاسِدٌ فَسَقَطَ جُمْلَةً.وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ: أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْقَاسِمِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ حَبْسَ إِلاَّ فِي سِلاَحٍ أَوْ كُرَاعٍ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ سَاقِطَةٌ، لأََنَّهَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ وَلأََنَّ وَالِدَ الْقَاسِمِ لاَ يَحْفَظُ، عَنْ أَبِيهِ كَلِمَةً، وَكَانَ لَهُ إذْ مَاتَ أَبُوهُ سِتُّ سِنِينَ فَكَيْفَ وَلَدَهُ، وَلاَ نَعْرِفُهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلاً، وَلاَ عَنْ عَلِيٍّ، بَلْ نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ، لأََنَّ إيقَافَهُ يَنْبُعَ، وَغَيْرَهَا: أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ، وَالْكَذِبُ كَثِيرٌ، وَلَعَلَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَا فَضَلَ، عَنْ قُوتِهِ فِي السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ.
قال أبو محمد: فَيُقَالُ: نَعَمْ، وَإِنْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيقَافُ غَيْرِ الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ: وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ أَيْضًا، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ، فَبَطَلَ أَيْضًا هَذَا الْقَوْلُ.وَأَمَّا مَنْ أَبْطَلَ الْحَبْسَ جُمْلَةً: فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ حَبِيبٍ رَوَى، عَنِ الْوَاقِدِيِّ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَقَدْ أَوْقَفَ وَحَبَسَ أَرْضًا، إِلاَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْحَبْسَ وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَخْبَاثٍ فَإِنَّهَا زَادَتْ مَا جَاءَتْ فِيهِ ضَعْفًا وَلَعَلَّهُ قَبْلَهُ كَانَ أَقْوَى.وَأَمَّا مَالِكٌ وَمَنْ قَلَّدَهُ: فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى مَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ مَا لاَ نَصَّ فِيهِ.
قال أبو محمد: "وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ وَالنَّصُّ يُبْطِلُهُ"، لأََنَّ إيقَافَ الشَّيْءِ لِغَيْرِ مَالِكٍ مِنْ النَّاسِ، وَاشْتِرَاطُ الْمَنْعِ مِنْ أَنْ يُورَثَ، أَوْ يُبَاعَ، أَوْ يُوهَبَ: شُرُوطٌ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ" فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إِلاَّ مَا نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَوَازِهِ فَقَطْ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحَيٌّ يُوحَى} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} لاَ سِيَّمَا الدَّنَانِيرُ. وَالدَّرَاهِمُ، وَكُلُّ مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ، إِلاَّ بِإِتْلاَفِ عَيْنِهِ، أَوْ إخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، فَهَذَا هُوَ نَقْضُ الْوَقْفِ وَإِبْطَالُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجُّوا بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثِ أَشْيَاءَ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" فَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَعْنِ بِهَا إِلاَّ مَا أَجَازَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ، لاَ كُلَّ مَا يَظُنُّهُ الْمَرْءُ صَدَقَةً، كَمَنْ تَصَدَّقَ بِمُحَرَّمٍ أَوْ شَرَطَ فِي صَدَقَتِهِ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ,فَصَحَّ

(9/176)


أَنَّ الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ، الْبَاقِي أَجْرُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ إمَّا صَدَقَةٌ مُطْلَقَةٌ فِيمَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ بِهِ مِمَّا صَحَّ مِلْكُ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا شَرْطًا مُفْسِدًا,وَأَمَّا صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ فِيمَا يَجُوزُ الْوَقْفُ فِيهِ فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ حُجَّةٌ فِيمَا يُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ، أَيَجُوزُ أَمْ لاَ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَمْ يُجِزْهَا الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَكَمَنْ تَصَدَّقَ فِي وَصِيَّتِهِ عَلَى وَارِثٍ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَلاَ بِمُحَرَّمٍ كَمَنْ تَصَدَّقَ بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ. وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْجَائِزَةَ الْمُتَقَبَّلَةَ يَبْقَى أَجْرُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَطْ. فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً لِتَعَرِّيه مِنْ الأَدِلَّةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: "احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الْحَبْسَ جُمْلَة". بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: قَالَ لِي شُرَيْحٌ: جَاءَ مُحَمَّدٌ بِإِطْلاَقِ الْحَبْسِ. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ سَمِعَ شُرَيْحًا وَسُئِلَ فِيمَنْ مَاتَ وَجَعَلَ دَارِهِ حَبْسًا فَقَالَ: لاَ حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ.
قال علي: "هذا مُنْقَطِعٌ، بَلْ الصَّحِيحُ خِلاَفُهُ" وَهُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِإِثْبَاتِ الْحَبْسِ نَصًّا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْحَبْسُ، وَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِإِبْطَالِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ يُعْلَمُ بِيَقِينٍ، لأََنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَعْرِفْ فِي جَاهِلِيَّتِهَا الْحَبْسَ الَّذِي اخْتَلَفَا فِيهِ، إنَّمَا هُوَ اسْمٌ شَرِيعِيٌّ، وَشَرْعٌ إسْلاَمِيٌّ: جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَمَا جَاءَ بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَلَوْلاَهُ عليه الصلاة والسلام مَا عَرَفْنَا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشَّرَائِعِ، وَلاَ غَيْرِهَا، فَبَطَلَ هَذَا الْكَلاَمُ جُمْلَةً.وَأَمَّا قَوْلُهُ " لاَ حَبْسَ، عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ " فَقَوْلٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذِهِ مُسْقِطَةٌ لِفَرَائِضِ الْوَرَثَةِ عَمَّا لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ لَوَرِثُوهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَجِبُ بِهَذَا الْقَوْلِ إبْطَالُ كُلِّ هِبَةٍ، وَكُلِّ وَصِيَّةٍ، لأََنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَوَارِيثِ.فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ شَرَائِعُ جَاءَ بِهَا النَّصُّ قلنا: وَالْحَبْسُ شَرِيعَةٌ جَاءَ بِهَا النَّصُّ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ" .
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، وَابْنُ لَهِيعَةَ لاَ خَيْرَ فِيهِ، وَأَخُوهُ مِثْلُهُ وَبَيَانُ وَضْعِهِ: أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ أَوْ بَعْضَهَا نَزَلَتْ بَعْدَ أُحُدٍ يَعْنِي آيَةَ الْمَوَارِيثِ وَحَبَسَ الصَّحَابَةُ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ خَيْبَرَ وَبَعْدَ نُزُولِ الْمَوَارِيثِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَهَذَا أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ

(9/177)


وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِاتِّصَالِ الْحَبْسِ بِعِلْمِهِ عليه الصلاة والسلام إلَى أَنْ مَاتَ وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَمُحَمَّدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِي أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: "إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ حَائِطِي هَذَا صَدَقَةٌ وَهُوَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَجَاءَ أَبَوَاهُ فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ قِوَامُ عَيْشِنَا فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَاتَا فَوِرْثَهُمَا ابْنُهُمَا" زَادَ بَعْضُهُمْ " مَوْقُوفَةٌ " وَهِيَ زِيَادَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، لأََنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَلْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ قَطُّ.وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ قِوَامُ عَيْشِهِمْ، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِوَامِ عَيْشِهِ، بَلْ هُوَ مَفْسُوخٌ إنْ فَعَلَهُ، فَهَذَا الْخَبَرُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ وَمُوَافِقًا لِقَوْلِنَا، وَمُخَالِفًا لِقَوْلِهِمْ فِي إجَازَتِهِمْ الصَّدَقَةَ بِمَا لاَ يَبْقَى لِلْمَرْءِ بَعْدَهُ غِنًى. وَالثَّالِثُ أَنَّ لَفْظَةَ " مَوْقُوفَةٌ " إنَّمَا انْفَرَدَ بِهَا مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ. وَمَوَّهُوا بِأَخْبَارٍ نَحْوِ هَذَا، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرَ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا فِيهَا " صَدَقَةٌ " وَهَذَا لاَ نُنْكِرُهُ وقال بعضهم: قَدْ كَانَ شُرَيْحٌ لاَ يَعْرِفُ الْحَبْسَ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَقْضِيَ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا.
قال أبو محمد: "لَوْ اسْتَحْيَا قَائِلُ هَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُ"، وَهَلَّا قَالُوا هَذَا فِي كُلِّ مَا خَالَفُوا فِيهِ شُرَيْحًا وَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي جَهْلِ شُرَيْحٍ سُنَّةً وَأَلْفَ سُنَّةً، وَاَللَّهِ لَقَدْ غَابَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَسْخُ التَّطْبِيقِ، وَلَقَدْ غَابَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِيرَاثُ الْجَدَّةِ، وَلَقَدْ غَابَ، عَنْ عُمَرَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ سِنِينَ وَإِجْلاَءُ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى آخِرِ عَامٍ مِنْ خِلاَفَتِهِ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَوْ تُتُبِّعَ لَبَلَغَ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ سُنَّةٍ غَابَتْ عَمَّنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ شُرَيْحٍ. وَلَوْ لَمْ يُسْتَقْضَ إِلاَّ مَنْ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ سُنَّةٌ، وَلاَ تَغِيبُ عَنْ ذِكْرِهِ سَاعَةً مِنْ دَهْرِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: مَا اسْتَقْصَى أَحَدٌ، وَلاَ قَضَى، وَلاَ أَفْتَى أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ مَنْ جَهِلَ عُذِرَ وَمِنْ عَلِمَ غُبِطَ. وَقَالُوا: الصَّدَقَةُ بِالثَّمَرَةِ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ مِنْ الْحَبْسِ يَجُوزُ فِيهَا الْبَيْعُ، فَذَلِكَ فِي الأَصْلِ أَوْلَى.
قال علي: هذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ هُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إيقَافِ الأَصْلِ وَحَبْسِهِ وَتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ، فَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْقَوْمُ مَخَاذِيلُ. وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الأَحْبَاسُ تُخْرَجُ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ بَطَلَ ذَلِكَ، كَمَنْ قَالَ: أَخْرَجْتُ دَارِي عَنْ مِلْكِي.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ لأََنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ إخْرَاجًا إلَى غَيْرِ مَالِك بَلْ إلَى أَجْلِ الْمَالِكِينَ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَعِتْقِ الْعَبْدِ، وَلاَ فَرْقَ. ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضُوا فَأَجَازُوا تَحْبِيسَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَقْبَرَةِ وَإِخْرَاجَهُمَا إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَأَجَازُوا الْحَبْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِهِمْ، فَبَلَّحُوا عِنْدَ هَذِهِ

(9/178)


فَقَالُوا الْمَسْجِدُ إخْرَاجٌ إلَى الْمُصَلِّينَ فِيهِ فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ، لأََنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ بِذَلِكَ وَصَلاَتُهُمْ فِيهِ كَصَلاَتِهِمْ فِي طَرِيقِهِمْ فِي فَضَاءٍ مُتَمَلَّكٍ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: إنَّمَا خَرَجَتْ، عَنْ مِلْكِي إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَلاَ فَرْقَ، لأََنَّ هَذَا الْقَوْلُ نَظِيرُ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فِي الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَظِيرُهُ فِي الْمَوْتِ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَاتُ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ حَتَّى تُحَازَ، وَكَانَ الْحَبْسُ لاَ مَالِكَ لَهُ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ فَقُلْنَا: هَذَا احْتِجَاجٌ لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَوْلَكُمْ: أَنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَصِحُّ حَتَّى تُقْبَضَ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما قَدْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا فِيهِ، كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما، فَكَيْفَ وَالْحَبْسُ خَارِجٌ إلَى قَبْضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، الَّذِي هُوَ وَارِثُ الأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا وَكُلُّ شَيْءٍ بِيَدِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ. وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ أَبِي طَلْحَةَ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مُتَصَدَّقًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَجْعَلَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا الْمُخْزِيَةِ لَهُمْ: احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَاقَ الْهَدْيَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَقَلَّدَهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي إيجَابَهُ لَهُ، ثُمَّ صَرَفَهَا عَمَّا أَوْجَبَهَا لَهُ وَجَعَلَهَا لِلإِحْصَارِ، وَلِذَلِكَ أَبْدَلَهَا عَامًا ثَانِيًا.
قال أبو محمد: "أَوَّلُ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ" وَهَذَا يَقْتَضِي إيجَابَهُ لَهُ وَمَا اقْتَضَى ذَلِكَ قَطُّ إيجَابَهُ لأََنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ التَّطَوُّعُ بِذَلِكَ وَاجِبًا بَلْ أَبَاحَ رُكُوبَ الْبَدَنَةِ الْمُقَلَّدَةِ. وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِوَجْهٍ مَا خَارِجَةً بِذَلِكَ عَنْ مَالِهِ بَاقِيَةً فِي مَالِهِ. ثُمَّ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَبْدَلَهُ مِنْ قَابِلٍ. فَمَا صَحَّ هَذَا قَطُّ. وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُبَدِّلَ عليه الصلاة والسلام هَدْيًا وَضَعَهُ فِي حَقٍّ فِي وَاجِبٍ ثُمَّ أَيُّ شَبَهٍ بَيْنَ هَدْيِ تَطَوُّعٍ يُنْحَرُ عَنْ وَاجِبٍ فِي الإِحْصَارِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فِي حَبْسٍ. أَمَا يَسْتَحْيِ مِنْ هَذَا مِقْدَارَ عِلْمِهِ وَعَقْلِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثم نقول لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ ثُمَّ يَفْسَخَهُ، وَقِسْتُمُوهُ عَلَى الْهَدْيِ الْمَذْكُورِ، فَأَخْبِرُونَا: هَلْ لَهُ رُجُوعٌ فِي الْهَدْيِ بَعْدَ أَنْ يُوجِبَهُ فَيَبِيعَهُ هَكَذَا بِلاَ سَبَبٍ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: لاَ، فَنَقُولُ لَهُمْ: فَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ فِي الْحَبْسِ إذْ أَجَزْتُمْ الرُّجُوعَ فِيهِ بِلاَ سَبَبٍ وَظَهَرَ هَوَسُ قِيَاسِكُمْ الْفَاسِدِ الْبَارِدِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلَّا قَسَّمْتُمُوهُ عَلَى التَّدْبِيرِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ فِيهِ الرُّجُوعُ عِنْدَكُمْ، أَوْ هَلَّا قِسْتُمْ قَوْلَكُمْ فِي التَّدْبِيرِ عَلَى قَوْلِكُمْ فِي الْحَبْسِ، لَكِنْ أَبَى اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ إِلاَّ خِلاَفَ الْحَقِّ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ.

(9/179)


قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا فَإِنَّمَا مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ لاَ يَرَى الْحَبْسَ جُمْلَةً وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَكُلُّ هَذَا خِلاَفٌ لَهُ، لأََنَّهُ يُجِيزُ الْحَبْسَ، ثُمَّ يُجِيزُ نَقْضَهُ الْمُحْبَسَ، وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، وَيُجِيزُ إمْضَاءَهُ وَهَذَا لاَ يُعْقَلُ وَنَسُوا احْتِجَاجَهُمْ بِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ شَرْطِهِ وَ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا فَلْنَذْكُرْ الْبُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: "أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالاً أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِهِ فَقَالَ: إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ تُورَثُ: فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ "قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ الْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهَا، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَامِدِ بْنِ يَحْيَى الْبَلْخِيّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَفِيهِ "احْبِسْ الأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ" وَحَبَسَ عُثْمَانُ بِئْرَ رُومَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ ذَلِكَ الْخَلَفُ، عَنِ السَّلَفِ، جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِالْمَدِينَةِ,وَكَذَلِكَ صَدَقَاتُهُ عليه السلام بِالْمَدِينَةِ مَشْهُورَةٌ كَذَلِكَ. وَقَدْ تَصَدَّقَ عُمَرُ فِي خِلاَفَتِهِ بِثَمْغٍ، وَهِيَ عَلَى نَحْوِ مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَانَ يَغُلُّ مِائَةَ وَسْقٍ بِوَادِي الْقُرَى كُلُّ ذَلِكَ حَبْسًا، وَقْفًا، لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُشْتَرَى، أَسْنَدَهُ إلَى حَفْصَةَ، ثُمَّ إلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهِ. وَحَبَسَ عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: دُورَهُمْ عَلَى بَنِيهِمْ، وَضَيَاعًا مَوْقُوفَةً,وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ جُمْلَةُ صَدَقَاتِهِمْ بِالْمَدِينَةِ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ، لاَ يَجْهَلُهَا أَحَدٌ. وَأَوْقَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ " الْوَهْطَ " عَلَى بَنِيهِ. اخْتَصَرْنَا الأَسَانِيدَ لأَشْتِهَارِ الأَمْرِ,وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" فِي حَدِيثٍ.وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ الْبَصْرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، هُوَ ابْنُ سَوَّارٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" فِي حَدِيثٍ.

(9/180)


قال أبو محمد: الأَعْتَادُ جَمْعُ عَتِدٍ وَهُوَ الْفَرَسُ قَالَ الْقَائِلُ:
رَاحُوا بَصَائِرُهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ ... وَبَصِيرَتِي تَعْدُو بِهَا عَتِدٌ وَأَى
وَالأَعْبُدُ جَمْعُ عَبْدٍ، وَكِلاَ اللَّفْظَيْنِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ الأَقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مَالِكِ بْن أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" الْكُرَاعُ الْخَيْلُ فَقَطْ. وَالسِّلاَحُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: السُّيُوفُ، وَالرِّمَاحُ، وَالْقِسِيُّ، وَالنَّبْلُ، وَالدُّرُوعُ، وَالْجَوَاشِنُ وَمَا يُدَافَعُ بِهِ: كَالطَّبَرْزِينِ، وَالدَّبُّوسِ، وَالْخِنْجَرِ، وَالسَّيْفِ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، وَالدَّرَقِ، وَالتِّرَاسِ وَلاَ يَقَعُ اسْمُ السِّلاَحِ عَلَى سَرْجٍ، وَلاَ لِجَامٍ، وَلاَ مِهْمَازٍ. وَكَانَ عليه السلام يَكْتُبُ إلَى الْوُلاَةِ وَالأَشْرَافِ إذَا أَسْلَمُوا بِكُتُبٍ فِيهَا السُّنَنُ وَالْقُرْآنُ بِلاَ شَكٍّ، فَتِلْكَ الصُّحُفُ لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا لأََحَدٍ لَكِنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً يَتَدَارَسُونَهَا مَوْقُوفَةً لِذَلِكَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْحَبْسُ فَقَطْ وَأَمَّا مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ فَلاَ يَجُوزُ تَحْبِيسُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ مَنْ لاَ يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى أَنَّ صَدَقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جَازَتْ لأََنَّهُ كَانَ لاَ يُورَثُ وَأَنَّ صَدَقَاتِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، إنَّمَا جَازَتْ لأََنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يَرُدُّوهَا، وَأَنَّ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الأَعْلَى رُوِيَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْلاَ أَنِّي ذَكَرْتُ صَدَقَتِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ صَدَقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا جَازَتْ، لأََنَّهُ لاَ يُورَثُ فَقَدْ كَذَبُوا، بَلْ لأََنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَهَا صَدَقَةً، فَلِذَلِكَ صَارَتْ صَدَقَةً هَكَذَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ هُوَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ هُوَ أَخُو جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً". وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُورَثَ فَنَعَمْ، وَهَذَا لاَ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ بِأَرْضِهِ، بَلْ تُبَاعُ فَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ,وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّمَا جَازَتْ صَدَقَاتُ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم لأََنَّ الْوَرَثَةَ أَجَازُوهَا فَقَدْ كَذَبُوا، وَلَقَدْ تَرَكَ عُمَرُ ابْنَيْهِ زَيْدًا وَأُخْتَه صَغِيرَيْنِ جِدًّا وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَغَيْرُهُمْ، فَلَوْ كَانَ الْحَبْسُ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا حَلَّ تَرْكُ أَنْصِبَاءِ الصِّغَارِ تَمْضِي حَبْسًا وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرُوهُ، عَنْ مَالِكٍ فَمُنْكَرٌ وَبَلِيَّةٌ مِنْ الْبَلاَيَا وَكَذِبٌ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ نَدْرِي مَنْ رَوَاهُ عَنْ يُونُسَ وَلاَ هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَهَبْكَ

(9/181)


لَوْ سَمِعْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَمَا وَجَبَ أَنْ يُتَشَاغَلَ بِهِ وَلَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِمَّنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ، كَسُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَضُرَبَائِهِ. وَنَحْنُ نَبُتُّ وَنَقْطَعُ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَنْدَمْ عَلَى قَبُولِهِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا اخْتَارَهُ لَهُ فِي تَحْبِيسِ أَرْضِهِ وَتَسْبِيلِ ثَمَرَتِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَلَيْتَ شِعْرِي إلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَصْرِفُ عُمَرُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ لَوْ تَرَكَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهَا. حَاشَ لِعُمَرَ مِنْ هَذَا. وَزَادُوا طَامَّةً وَهِيَ أَنْ شَبَّهُوا هَذَا بِتَنَدُّمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إذْ لَمْ يَقْبَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
قال أبو محمد: لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ وَهَلْ يَنْدَمُ عَبْدُ اللَّهِ إِلاَّ عَلَى مَا يَحِقُّ التَّنَدُّمَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِهِ الأَمْرَ الَّذِي أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَوَقَفَ عِنْدَ الْمَشُورَةِ الأَخِيرَةِ وَهَذَا ضِدُّ مَا نَسَبُوا إلَى عُمَرَ مِمَّا وَضَعَهُ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يُسْعِدُ اللَّهَ جَدَّهُ مِنْ رَغْبَتِهِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم جُمْلَةً لاَ نَدْرِي إلَى مَاذَا فَوَضَحَ فَسَادُ قَوْلِ هَؤُلاَءِ الْمَحْرُومِينَ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: جَائِزٌ أَنْ يُسَبِّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ شَاءَ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا" وَقَالَ لِعُمَرَ تَصَدَّقْ بِالثَّمَرَةِ فَصَحَّ بِهَذَا جَوَازُ صَدَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَنْ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: وَغَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/182)


1653 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُبْطِلُ الْحَبْسَ تَرْكُ الْحِيَازَةِ، فَإِنْ اسْتَغَلَّهُ الْمُحْبِسُ وَلَمْ يَكُنْ سَبَّلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، كَالْغَصْبِ، وَلاَ يَحِلُّ إِلاَّ فِيمَا أَبْقَى غِنًى وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَفِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كَلاَمِنَا فِي " الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا.

(9/182)


1654 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ فَرْضٌ فِي الْحَبْسِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ " فَإِنْ خَصَّ بِهِ بَعْضَ بَنِيهِ، فَالْحَبْسُ صَحِيحٌ وَيَدْخُلُ سَائِرُ الْوَلَدِ فِي الْغَلَّةِ وَالسُّكْنَى مَعَ الَّذِي خَصَّهُ.برهان ذَلِكَ أَنَّهُمَا فِعْلاَنِ مُتَغَايِرَانِ بِنَصِّ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أَحَدُهُمَا تَحْبِيسُ الأَصْلِ، فَبِاللَّفْظِ تَحْبِيسُهُ يَصِحُّ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّنَا، عَنْ مَالِ الْمُحْبِسِ.وَالثَّانِي التَّسْبِيلُ وَالصَّدَقَةُ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا حِيفَ رُدَّ وَلَمْ يَبْطُلْ خُرُوجُ الأَصْلِ مُحْبِسًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَامَ الْوَلَدُ أَحْيَاءَ، فَإِذَا مَاتَ الْمَخْصُوصُ بِالْحَبْسِ رَجَعَ إلَى مَنْ عَقِبَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَخَرَجَ سَائِرُ الْوَلَدِ عَنْهُ، لأََنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْ بَطَلَتْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/182)


1655 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَبَسَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ، وَلَمْ يُسَبِّلْ عَلَى أَحَدٍ، فَلَهُ أَنْ يُسَبِّلَ الْغَلَّةَ مَا دَامَ حَيًّا عَلَى مَنْ شَاءَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ" فَلَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ

(9/182)


1656 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَبَسَ عَلَى عَقِبِهِ وَعَلَى عَقِبِ عَقِبِهِ، أَوْ عَلَى زَيْدٍ وَعَقِبِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبَنَاتُ وَالْبَنُونَ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَنُو الْبَنَاتِ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لاَ يَخْرُجُ بِنَسَبِ آبَائِهِ إلَى الْمُحَبِّسِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ" وَأَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَلَمْ يُعْطِ عُثْمَانَ وَلاَ غَيْرَهُ وَجَدَّةُ عُثْمَانَ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي بَنِي هَاشِمٍ إذْ لَمْ يَخْرُجْ بِنَسَبِ أَبِيهِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا بِنَسَبِ أُمِّهِ إلَيْهِ وَهِيَ أَرْوَى بِنْتُ الْبَيْضَاءِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْطَى الْعَبَّاسَ وَأُمَّهُ نُمَرِيَّةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/183)


ومن حبس وشرط أن يباع أن احتج صح الحبس
...
1657- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَبَسَ وَشَرَطَ أَنْ يُبَاعَ إنْ اُحْتِيجَ صَحَّ الْحَبْسُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبَطَلَ الشَّرْطُ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمَا فِعْلاَنِ مُتَغَايِرَانِ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: لاَ أَحْبِسُ هَذَا الْحَبْسَ إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يُبَاعَ: فَهَذَا لَمْ يَحْبِسْ شَيْئًا لأََنَّ كُلَّ حَبْسٍ لَمْ يَنْعَقِدْ إِلاَّ عَلَى بَاطِلٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
* * *

(9/183)


كتاب العتق
العتق فعل لا خلاف في ذلك
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْعِتْقِ، وَأُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ
1658 - مَسْأَلَةٌ: الْعِتْقُ فِعْلٌ حَسَنٌ، لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.

(9/183)


1659 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ لِغَيْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالٍ عَلَى الْعِتْقِ، إِلاَّ فِي الْكِتَابَةِ خَاصَّةً، لِمَجِيءِ النَّصِّ بِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ: إنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِلشَّيْطَانِ نَفَذَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا

(9/183)


1660 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: إنْ مَلَكْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ قَالَ: إنْ بِعْت عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ قَالَ: شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَمَةٍ لِسِوَاهُ أَوْ أَمَةٍ لَهُ ثُمَّ مَلَكَ الْعَبْدَ وَالأَمَةَ، أَوْ اشْتَرَاهُمَا " أَوْ بَاعَهُمَا: لَمْ يُعْتَقَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا بُطْلاَنُ ذَلِكَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ وَأَمَةِ غَيْرِهِ فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ".
وَأَمَّا بُطْلاَنُ ذَلِكَ فِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ فَلأََنَّهُ إذْ بَاعَهُمَا فَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ عَنْهُمَا، وَلاَ وَفَاءَ لِعَقْدِهِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ الأَعْلَمُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيمَنْ قَالَ لأَخَرَ: إنْ بِعْت غُلاَمِي هَذَا مِنْك فَهُوَ حُرٌّ فَبَاعَهُ مِنْهُ قَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ بِحُرٍّ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ قَالَ الآخَرُ: إنْ اشْتَرَيْته مِنْك فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَلَيْسَ بِحُرٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ قَالَ إنْ بِعْت غُلاَمِي فَهُوَ حُرٌّ، فَبَاعَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَإِنْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت غُلاَمَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ فَلَيْسَ بِحُرٍّ.وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لِقَوْلِهِ هَذَا بِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ فَهُوَ فِي مِلْكِهِ بَعْدُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَلِذَلِكَ عَتَقَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ بَعْدُ، فَإِذَا تَفَرَّقَا فَحِينَئِذٍ بَاعَهُ، وَلاَ عِتْقَ لَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ" . وقال أبو حنيفة وَسُفْيَانُ بِعَكْسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالاَ: إنْ قَالَ: إنْ بِعْت عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ. فَبَاعَهُ، لَمْ يَكُنْ حُرًّا بِذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ. فَاشْتَرَاهُ فَهُوَ حُرٌّوقال مالك: مَنْ قَالَ: إنْ بِعْت عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ. فَاشْتَرَاهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَلَوْ قَالَ: إنْ بِعْت عَبْدِي فَهُوَ حُرٌّ، وَقَالَ آخَرُ: إنْ اشْتَرَيْت عَبْدَ فُلاَنٍ فَهُوَ حُرٌّ. ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى الْبَائِعِ لاَ عَلَى الْمُشْتَرِي, وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ

(9/184)


إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ أَيْضًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُ وَكِلاَهُمَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهُ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ: هُوَ مُرْتَهِنٌ بِيَمِينِ الْبَائِعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ، لأََنَّهُ يُعَارِضُهُ الْحَنَفِيُّ فَيَقُولُ: بَلْ هُوَ مُرْتَهِنٌ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي وَيُعَارِضُهُ آخَرُ فَيَقُولُ: بَلْ هُوَ مُرْتَهِنٌ بِيَمِينِهِمَا جَمِيعًا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: يُعْتَقُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَشْتَرِي الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَبْدًا فَيَعْتِقُهُ وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُهُ لِمَنْ نَذَرَ عِتْقَهُ ثُمَّ يَلْزَمُهُ عِتْقًا فِيمَا لَمْ يُنْذَرْ عِتْقُهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ الرَّأْي فِي الدِّينِ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ.
.

(9/185)


1661 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ عِتْقٌ بِشَرْطٍ أَصْلاً، وَلاَ بِإِعْطَاءِ مَالٍ إِلاَّ فِي " الْكِتَابَةِ " فَقَطْ وَلاَ بِشَرْطِ خِدْمَةٍ وَلاَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ ". فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ حَدَّثَنَا سَفِينَةُ أَبُوعَبْدِ الرَّحْمنِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ: أُرِيد أَنْ أُعْتِقَكَ وَأَشْتَرِطَ عَلَيْك أَنْ تَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْت قُلْت: إنْ لَمْ تَشْتَرِطِي عَلَيَّ لَمْ أُفَارِقْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمُوتَ قَالَ: فَأَعْتَقَتْنِي وَاشْتَرَطَتْ عَلَيَّ أَنْ أَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا عَاشَ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ، فَسَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ بَلْ مَذْكُورٌ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ حَدِيثُهُ ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ وَالْحَنَفِيُّونَ. وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ لاَ يُجِيزُونَ الْعِتْقَ بِشَرْطِ أَنْ يَخْدُمَ فُلاَنًا مَا عَاشَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْتَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كُلَّ مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَقِيقِ الإِمَارَةِ، وَاشْتَرَطَ عَلَى بَعْضِهِمْ خِدْمَةَ مَنْ بَعْدَهُ إنْ أَحَبَّ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَعْتَقَ كُلَّ مَنْ صَلَّى مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَبَتَّ عِتْقَهُمْ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدِي ثَلاَثَ سَنَوَاتٍ، وَشَرَطَ لَهُمْ أَنَّهُ يَصْحَبُكُمْ بِمِثْلِ مَا كُنْتُ أَصْحَبُكُمْ بِهِ فَابْتَاعَ الْخِيَارُ خَدَمَتْهُ تِلْكَ الثَّلاَثَ سَنَوَاتٍ مِنْ عُثْمَانَ بِأَبِي فَرْوَةَ وَخَلَّى سَبِيلَ الْخِيَارِ، وَقَبَضَ أَبَا فَرْوَةَ. وبه إلى ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَعْتَقَ غُلاَمًا لَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَمَلَهُ سَنَتَيْنِ، فَعَمِلَ لَهُ بَعْضَ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: قَدْ تَرَكْت لَك الَّذِي اشْتَرَطْت عَلَيْك فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَيْسَ عَلَيْك عَمَلٌ

(9/185)


وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ تَصَدَّقَ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْضٍ لَهُ، وَأَعْتَقَ بَعْضَ رَقِيقِهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهَا خَمْسَ سِنِينَ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الأَخْرَمِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي أَعْتَقْت أَمَتِي هَذِهِ وَاشْتَرَطْت عَلَيْهَا أَنْ تَلِيَ مِنِّي مَا تَلِي الأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا إِلاَّ الْفَرْجَ، فَلَمَّا غَلُظَتْ رَقَبَتُهَا قَالَتْ: إنِّي حُرَّةٌ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهَا خُذْ بِرَقَبَتِهَا فَانْطَلِقْ بِهَا فَلَكَ مَا اشْتَرَطْت عَلَيْهَا.
قال أبو محمد: الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ مُخَالِفُونَ لِجَمِيعِ هَذِهِ الآثَارِ لأََنَّ فِي جَمِيعِهَا الْعِتْقَ بِشَرْطِ الْخِدْمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَإِلَى غَيْرِ أَجَلٍ وَهُمْ لاَ يُجِيزُونَ هَذَا وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ رَأْيَهُمْ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.وَرُوِّينَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَاشْتَرَطَ خِدْمَتَهُ عَتَقَ وَبَطَلَ شَرْطُهُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الأَحْمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلَهُ. وَأَجَازُوا الْعِتْقَ عَلَى إعْطَاءِ مَالٍ، وَلاَ يُحْفَظُ هَذَا فِيمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي غَيْرِ الْكِتَابَةِ, فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابَةِ قلنا: نَاقَضْتُمْ لأََنَّكُمْ لاَ تُجِيزُونَ فِي الْكِتَابَةِ الضَّمَانَ، وَلاَ الأَدَاءَ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَتُجِيزُونَ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ. وَلاَ تُجِيزُونَ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَكُونَ أَمَدُ أَدَاءِ الْمَالِ مَجْهُولاً، وَتُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ قِيَاسَكُمْ، فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَهُمْ فِي هَذَا غَرَائِبُ فأما أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ، فَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. فَمَرَّةً قَالَ فِي مَالِهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ فِي مَالِهِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ. قَالَ: وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيْك أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالْخِيَارُ لِلْعَبْدِ فِي قَبُولِ ذَلِكَ أَوْ رَدِّهِ، فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ حُرٌّ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَلاَ عِتْقَ لَهُ، وَلاَ مَالَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَهُ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا، فَإِذَا أَدَّاهَا فَهُوَ حُرٌّةوقال مالك: مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنَّ عَلَيْك أَلْفَ دِرْهَمٍ: لَمْ يَلْزَمْ الْعَبْدَ أَدَاؤُهَا وَلاَ حُرِّيَّةَ لَهُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا، فَإِذَا أَدَّاهَا فَهُوَ حُرٌّ. قَالَ: فَلَوْ قَالَ: إنْ جِئْتَنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَمَتَى مَا جِئْتنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَتَلَوَّمَ لَهُ السُّلْطَانُ، وَلاَ يُنَجِّمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَجَّزَهُ السُّلْطَانُ وَكَانَ لِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ. قَالَ: فَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَالْمَالُ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ: هُوَ حُرٌّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لأََنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْحُرِّيَّةَ بِالْغُرْمِ، بَلْ أَمْضَاهَا بَتْلَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ

(9/186)


ثُمَّ أَلْزَمَهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بَاطِلٌ, وَلَكِنْ لَيْتَ شِعْرِي كَمْ يَتَلَوَّمُ لَهُ السُّلْطَانُ، أَسَاعَةً أَمْ سَاعَتَيْنِ أَمْ يَوْمًا أَمْ يَوْمَيْنِ أَمْ جُمُعَةً أَمْ جُمُعَتَيْنِ أَمْ حَوْلاً أَمْ حَوْلَيْنِ وَكُلُّ حَدٍّ فِي هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَبرهان وَالْقَوْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ كَلاَمَهُ مَخْرَجَ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ فَهُوَ لاَزِمٌ، لأََنَّهُ مَلَكَهُ فَمَتَى مَا جَاءَهُ بِمَا قَالَ فَهُوَ حُرٌّ لَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ، وَلِلسَّيِّدِ بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِتْقَ، لأََنَّهُ عَبْدُهُ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ تُحْفَظُ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَجَعَلَ خِيَارًا لِلْعَبْدِ حَيْثُ لاَ دَلِيلَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/187)


ومن قال : لله على عتق رقبة
...
1662 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ : لَزِمَتْهُ وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ أَمْرُ كَذَا مِمَّا لاَ مَعْصِيَةَ فِيهِ فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَهُوَ حُرٌّ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي " كِتَابِ النُّذُورِ " وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ رَقَبَةً فَهُوَ نَذْرٌ لاَ عِتْقَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَهُوَ لاَزِمٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ النُّذُورِ " وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا نَصٌّ وَهُوَ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ عَلَيَّ لِلَّهِ رَقَبَةً أَفَأُعْتِقُهَا فَسَأَلَهَا عليه السلام أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هِيَ مُؤْمِنَةٌ، فَأَعْتِقْهَا فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى لُزُومِ الرَّقَبَةِ لِمَنْ الْتَزَمَهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَبِهِ عَزَّ وَجَلَّ نَتَأَيَّدُ.

(9/187)


1663 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ عِتْقُ الْجَنِينِ دُونَ أُمِّهِ إذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَهُ أُمُّهُ، وَلاَ هِبَتُهُ دُونَهَا. وَيَجُوزُ عِتْقُهُ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ وَتَكُونُ أُمُّهُ بِذَلِكَ الْعِتْقِ حُرَّةً وَإِنْ لَمْ يُرِدْ عِتْقَهَا وَلاَ تَجُوزُ هِبَتُهُ أَصْلاً دُونَهَا. فَإِنْ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنْ كَانَ جَنِينُهَا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، فَهُوَ حُرٌّ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ فَإِنْ اسْتَثْنَاهُ فَهِيَ حُرَّةٌ، وَهُوَ غَيْرُ حُرٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنْ أَتْبَعَهَا إيَّاهُ إذْ أَعْتَقَهَا فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ لَمْ يَتْبَعْهَا إيَّاهُ، أَوْ اسْتَثْنَاهُ: فَهِيَ حُرَّةٌ، وَهُوَ غَيْرُ حُرٍّ,وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْهِبَةِ إذَا وَهَبَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَلاَ فَرْقَ وَحَدُّ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ: تَمَامُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلْقَنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلْقَنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ " أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِذَا عَلاَ مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ

(9/187)


1664 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ عُضْوًا أَيَّ عُضْوٍ كَانَ مِنْ أَمَتِهِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ، أَوْ أَعْتَقَ عُشْرَهُمَا أَوْ جُزْءًا مُسَمًّى كَذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ وَالأَمَةُ كُلُّهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ ظُفْرًا أَوْ شَعْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ

(9/188)


1665 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَلَكَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ كُلَّهُ، أَوْ بَعْضَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ كُلَّهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ حِينَ يَلْفِظُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَفِي بِقِيمَةِ حِصَّةِ مَنْ يُشْرِكُهُ حِينَ لَفَظَ بِعِتْقِ مَا أَعْتَقَ مِنْهُ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يُشْرِكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِذَلِكَ كُلِّفَ الْعَبْدُ أَوْ الأَمَةُ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَةِ حِصَّةِ مَنْ لَمْ يَعْتِقْ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ، لاَ شَيْءَ لِلشَّرِيكِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلاَ لَهُ

(9/190)


أنْ يَعْتِقَ وَالْوَلاَءُ لِلَّذِي أَعْتَقَ أَوَّلاً وَإِنَّمَا يَقُومُ كُلُّهُ ثُمَّ يَعْرِفُ مِقْدَارَ حِصَّةِ مَنْ لَمْ يَعْتِقْ وَلاَ يَرْجِعُ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا سَعَى فِيهِ حَدَثَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يَحْدُثْ وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلاً: قَالَ رَبِيعَةُ: مَنْ أَعْتَقَ حِصَّةً لَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ.
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ قَالَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ حَدَّثَنَا سَحْنُونَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ يُونُسُ سَأَلْته، عَنْ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَقَالَ رَبِيعَةُ: عِتْقُهُ مَرْدُودٌ لَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الطَّحَاوِيَّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ بُكَيْر بْنُ الأَشَجِّ فِي اثْنَيْنِ بَيْنَهُمَا عَبْدٌ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ: فَإِنَّمَا يَتَقَاوَمَانِهِ, رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍعَنْ أَبِيهِ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْفُذُ عِتْقُ مَنْ أَعْتَقَ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَعْتِقْ عَلَى نَصِيبِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ َمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالاَ جَمِيعًا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ الأَسْوَدِ وَأُمِّنَا غُلاَمٌ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ وَأَبْلَى فِيهَا فَأَرَادُوا عِتْقَهُ وَكُنْتُ صَغِيرًا فَذَكَرَ ذَلِكَ الأَسْوَدُ لِعُمَرَ، فَقَالَ: أَعْتِقُوا أَنْتُمْ وَيَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى نَصِيبِهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مِثْلِ مَا رَغِبْتُمْ فِيهِ أَوْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَكَانَ " أَعْتِقُوا أَنْتُمْ ": " أَعْتِقُوا إنْ شِئْتُمْ " لَمْ يَخْتَلِفَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا إسْنَادٌ كَالذَّهَبِ الْمَحْضِ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: كَانَ لِي وَلأَِخْوَتِي غُلاَمٌ أَبْلَى يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَرَدْت عِتْقَهُ لِمَا صَنَعَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: أَتُفْسِدُ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا، فَإِنْ رَغِبُوا فِيمَا رَغِبْت فِيهِ وَإِلَّا لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِمْ نَصِيبَهُمْ.
قال أبو محمد: لَوْ رَأَى التَّضْمِينَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إفْسَادًا لِنَصِيبِهِمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَأَرَادَ الآخَرُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ الْعَبْدِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: حَدَّثَنَا أَقْضِي قِيمَتِي فَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: سَيِّدُهُ أَحَقُّ بِمَا بَقِيَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّهُ قَالَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرُ بَعْدُ فَوَلاَؤُهُ وَمِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَاوَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا قَالَ مَعْمَرٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ رَبِيعَةَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، وَكَاتَبَ الآخَرُ نَصِيبَهُ، وَتَمَسَّك الآخَرُ بِالرِّقِّ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، فَإِنَّ الَّذِي كَاتَبَ يَرُدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَا تَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي تَمَسَّك بِالرِّقِّ يَقْتَسِمَانِهِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْفُذُ عِتْقُ الَّذِي

(9/191)


أَعْتَقَ فِي نَصِيبِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِشَرِيكِهِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً رَائِعَةً إنَّمَا تُلْتَمَسُ لِلْوَطْءِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِلضَّرَرِ الَّذِي أَدْخَلَ عَلَى شَرِيكِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: شَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَلَهُ شُرَكَاءُ يَتَامَى فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "يَنْتَظِرُ بِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَعْتِقُوا أَعْتَقُوا"، وَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يُضْمَنَ لَهُمْ ضُمِنَ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، إنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا، لأََنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ مَيْمُونٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. ثُمَّ مُنْقَطِعَةٌ، لأََنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا قَدْ رُوِيَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَشَرِيكُهُ بَيْنَ خِيَارَيْنِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي قِيمَةِ حِصَّتِهِ، فَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ وَالْوَلاَءُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ فِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا وَلَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا خِيَارٌ فِي وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ إنْ شَاءَ ضَمِنَ لِلْمُعْتِقِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ وَيَرْجِعُ الْمُعْتِقُ الْمُضَمِّنُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَهُ شَرِيكُهُ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ، فَإِذَا أَدَّاهَا الْعَبْدُ عَتَقَ، وَالْوَلاَءُ فِي هَذَا الْوَجْهِ خَاصَّةً لِلَّذِي أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فَقَطْ. قَالَ فَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ: فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ، وَلاَ عَلَيْهِ أَيْضًا مُوسِرًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ مُعْسِرًا. قَالَ: فَإِنْ دَبَّرَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ احْتَبَسَ نَصِيبَهُ رَقِيقًا كَمَا هُوَ، وَيَكُونُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مُدَبَّرًا، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ نَصِيبَهُ أَيْضًا وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْعَبْدُ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْهُ مُدَبَّرًا، وَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ، وَضَمِنَ الشَّرِيكُ الَّذِي دَبَّرَ الْعَبْدَ أَيْضًا قِيمَةَ حِصَّتِهِ مُدَبَّرًا، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى شَرِيكِهِ فِي تَضْمِينٍ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ لِشَرِيكِهِ الَّذِي دَبَّرَ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّرِيكَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ سَبَقَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَلاَ إلَى هَذِهِ الْوَسَاوِسِ وَأَعْجَبُهَا أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ اتَّبَعَهُ عَلَيْهِ، إِلاَّ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَزْمَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ فَقَطْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ ضَمِنَ قِيمَةَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، كِلاَهُمَا، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي غُلاَمٌ فَأَرَدْت أَنْ أَعْتِقْهُ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي رِوَايَتِهِ: فَأَتَيْت ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: لاَ تُفْسِدُ عَلَى شُرَكَائِك فَتَضْمَنُ وَلَكِنْ تَرَبَّصْ حَتَّى يَشِبُّوا وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ ابْنِ مَسْعُودٍ عُمَرَ وَاتَّفَقَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عَبْدًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ أَعْلَى الْقِيمَةِ وَهَذَا لاَ شَيْءَ، لأََنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ هَالِكٌ، وَالآخَرَ مُرْسَلٌ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا قَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَشِّرٍعَنْ هِشَامِ

(9/192)


ابْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ قَالَ: هُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ,وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ سَوَاءً كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: إنْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ أُقِيمَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، ثُمَّ عَتَقَ فِي مَالِ الَّذِي أَعْتَقَهُ، ثُمَّ اسْتَسْعَى هَذَا الْعَبْدُ بِمَا غَرِمَ فِيمَا أَعْتَقَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ فَقُلْت لَهُ: يَسْتَسْعِي الْعَبْدُ كَانَ مُفْلِسًا أَوْ غَنِيًّا؟ قَالَ: نَعَمْ زَعَمُوا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَذَا أَوَّلُ قَوْلِ عَطَاءٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْت عَنْهُ قَبْلُ,وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُفْلِسٌ فَأَرَادَ الْعَبْدُ أَخْذَ نَفْسِهِ بِقِيمَتِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ إنْ نَفَّذَ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَوْلُهُ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ: أَنَّ بَاقِيهِ يُعْتَقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ: رُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ حِصَصُ شُرَكَائِهِ وَأَغْرَمَهَا لَهُمْ، وَأُعْتِقَ كُلُّهُ بَعْدَ التَّقْوِيمِ لاَ قَبْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ أَنْ يَعْتِقَ حِصَّتَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ رَقِيقًا، وَلاَ أَنْ يُكَاتِبَهُ، وَلاَ أَنْ يَبِيعَهُ وَلاَ أَنْ يُدَبِّرَهُ، فَإِنْ غَفَلَ، عَنِ التَّقْوِيمِ حَتَّى مَاتَ الْمُعْتِقُ أَوْ الْعَبْدُ بَطَلَ التَّقْوِيمُ، وَمَالُهُ كُلُّهُ لِمَنْ تَمَسَّك بِالرِّقِّ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ وَالْبَاقِي رَقِيقٌ يَبِيعُهُ الَّذِي هُوَ لَهُ إنْ شَاءَ، أَوْ يُمْسِكُهُ رَقِيقًا، أَوْ يُكَاتِبُهُ، أَوْ يَهَبُهُ، أَوْ يُدَبِّرُهُ، وَسَوَاءٌ أَيْسَرَ الْمُعْتِقُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْ لَمْ يُوسِرْ. فَإِنْ كَانَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى الْمُعْتِقِ وَبَقِيَ بِحَسَبِهِ، فَإِنْ كَانَ كِلاَهُمَا مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ أَوَّلاً فَقَطْ، فَلَوْ أَعْتَقَ الأَثْنَانِ مَعًا وَكَانَا غَنِيَّيْنِ قُوِّمَتْ حِصَّةُ الْبَاقِينَ عَلَيْهِمَا، فَمَرَّةً قَالَ: بِنِصْفَيْنِ، وَمَرَّةً قَالَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا لَمْ يُنْتَظَرْ، لَكِنْ يُقَوَّمُ عَلَى الْحَاضِرِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ لأََحَدٍ قَبْلَهُ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ الَّذِي أَعْتَقَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مِنْ شِرْكِهِ وَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ حِينَ عَتَقَ الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ يُشْرِكُهُ أَنْ يَعْتِقُوا، وَلاَ أَنْ يُمْسِكُوا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَقَدْ عَتَقَ مَا عَتَقَ وَبَقِيَ سَائِرُهُ مَمْلُوكًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مَالِكُهُ كَمَا يَشَاءُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وقال أحمد وَإِسْحَاقُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ بَاقِي قِيمَتِهِ، لاَ يُبَاعُ لَهُ فِي ذَلِكَ دَارُهُ، قَالَ إِسْحَاقُ: وَلاَ خَادِمُهُ وَسَكَتَا، عَنِ الْمُعْسِرِ فَمَا سَمِعْنَا عَنْهُمَا فِيهِ لَفَظَّةً.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ لِنَصِيبِهِ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مِنْ شِرْكِهِ وَعَتَقَ كُلُّهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ لِنَصِيبِهِ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي قِيمَةِ حِصَّةِ مَنْ لَمْ يَعْتِقْ وَعَتَقَ كُلُّهُ ثُمَّ

(9/193)


اخْتَلَفَ هَؤُلاَءِأَيَكُونُ حُرًّا مُذْ يَعْتِقُ الأَوَّلُ نَصِيبَهُ، وَلاَ يَكُونُ لِلآخَرِ تَصَرُّفٌ بِعِتْقٍ وَلاَ بِغَيْرِهِ أَمْ لاَ يُعْتَقُ إِلاَّ بِالأَدَاءِ وَلِمَنْ يَكُونُ وَلاَؤُهُ إنْ أُعْتِقَ بِاسْتِسْعَائِهِ وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ بَعْضَهُ أَوَّلاً بِمَا سَعَى فِيهِ أَمْ لاَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَعَلَى الَّذِي أَعْتَقَ أَنْصِبَاءُ شُرَكَائِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْن الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ ثَلاَثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُضَمِّنُونَ الرَّجُلَ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَيَسْتَسْعَوْنَهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا. وَمِنْ طَرِيقِ الطَّحَاوِيَّ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: سُئِلَ أَبُو الزِّنَادِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَمَّنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَذَكَرَا تَضْمِينَ الْعِتْقِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، أَوْ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَقَالاَ: سَمِعْنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَكَلَّمَ بِبَعْضِ ذَلِكَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: إذَا أَعْتَقَ شِقْصًا فِي عَبْدٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي بَقِيَّتِهِ فَقُلْت لِسُلَيْمَانَ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا؟ قَالَ: كَذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: مِنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي بَقِيَّتِهِ قَالَ أُسَامَةُ: فَقُلْت لِسُلَيْمَانَ: عَمَّنْ قَالَ: جَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْن الْمُعْتَمِرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ قَالَ: يَضْمَنُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ تَمَامُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ضَمِنَ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ سِعَايَةٌ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ دِرْهَمٌ فَمَا فَوْقَهُ سَعَى الْعَبْدُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتِقِ ضَمَانٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا يُونُسُ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ: عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالاَ جَمِيعًا: إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ أَنْصِبَاءَ أَصْحَابِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا اسْتَسْعَى الْعَبْدَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ، وَلاَ يَتْبَعُهُ السَّيِّدُ بِمَا غَرِمَ عَنْهُ وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُعْتَقٍ حَتَّى يُتِمَّ أَدَاءَ مَا اسْتَسْعَى فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ، وَلاَ بُدَّ، إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ لِنَصِيبِهِ مُعْسِرًا، وَلاَ يَسْتَسْعِي إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيُعْتَقُ كُلُّهُ يَعْنِي عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ.

(9/194)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: يَقُومُ الْعَبْدُ بِمَالِهِ عَلَى الْمُعْتِقِ فِي مَالِ الْمُعْتِقِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَالٌ اُسْتُسْعِيَ. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا قَالاَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ ثَلاَثَةٍ أَعْتَقَ اثْنَانِ نَصِيبَهُمَا مِنْهُ فَقَالاَ: نَرَى أَنْ يَضْمَنَا عَتَاقَهُ جَمِيعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَالٌ قُوِّمَ الْعَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ فَسَعَى الْعَبْدُ فِيهَا فَأَدَّاهَا.وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ ثَلاَثِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَبَعْضُهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: وَهُوَ السُّنَّةُ، وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو الزِّنَادِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَأَمَّا هَلْ يَكُونُ حُرًّا حِينَ يَعْتِقُ الأَوَّلُ بَعْضَهُ أَمْ لاَ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ قَالُوا: هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ يَلْفِظُ بِعِتْقِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ عَبْدٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتِقْ حَقَّهُ.وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ وَلاَؤُهُ: فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، كِلاَهُمَا قَالَ: إنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ مَالٌ فَضَمِنَهُ فَالْوَلاَءُ كُلُّهُ لَهُ وَإِنْ عَتَقَ بِالأَسْتِسْعَاءِ فَالْوَلاَءُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَكُلُّ مَنْ قَالَ: هُوَ حُرٌّ حِينَ عَتَقَ بَعْضُهُ: أَنَّ وَلاَءَهُ كُلَّهُ لِلَّذِي أَعْتَقَ بَعْضَهُ: عَتَقَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالأَسْتِسْعَاءِ. وَأَمَّا رُجُوعُهُ، أَوْ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ لَيْلَى, وَابْنَ شُبْرُمَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: لاَ يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْعَبْدِ، وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ إذَا اسْتَسْعَى بِمَا أَدَّى عَلَى الَّذِي ابْتَدَأَ عِتْقَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَغَيْرُهُ: لاَ رُجُوعَ لأََحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ.
قال أبو محمد: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ. فَوَجَدْنَا قَوْلَ رَبِيعَةَ يُشْبِهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ مِنْ هِبَةِ الْمُشَاعِ وَمِنْ الصَّدَقَةِ بِالْمُشَاعِ. وَمِنْ إجَارَةِ الْمُشَاعِ وَرَهْنِ الْمُشَاعِ. وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى الْقَاضِي فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْمُشَاعِ، وَرَهْنِ الْمُشَاعِ، وَيَحْتَجُّ لَهُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَكَرْنَا. وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، لأََنَّ النَّصَّ وَالنَّظَرَ يُخَالِفُ كُلَّ ذَلِكَ أَمَّا النَّصُّفَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى,وَأَمَّا النَّظَرُ فَكُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ نَصٌّ، وَقَدْ حَضَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَأَمَرَنَا بِالرَّهْنِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالإِجَارَةَ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ بِذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ فَقُلْنَا: وَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: كَمَا لاَ تَكُونُ امْرَأَةٌ بَعْضُهَا مُطَلَّقَةٌ، وَبَعْضُهَا زَوْجَةٌ فَقُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولُوا:

(9/195)


إذَا وَقَعَ هَذَا أُعْتِقَ كُلُّهُ كَمَا يَقُولُونَ: فِي الْمَرْأَةِ إذَا طَلَّقَ بَعْضَهَا وَقَالُوا هَذَا ضَرَرٌ عَلَى الشَّرِيكِ وَقَدْ جَاءَ " لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ " فَقُلْنَا: افْتِرَاقُ الْمِلْكِ أَيْضًا ضَرَرٌ فَامْنَعُوا مِنْهُ، وَأَعْظَمُ الضَّرَرِ مَنْعُ الْمُؤْمِنِ مِنْ عِتْقِ حِصَّتِهِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّقَاوُمِ فَخَطَأٌ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى إخْرَاجِ مِلْكِهِ، عَنْ يَدِهِ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَصٌّ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا.وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ. وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَرَبِيعَةَ فَوَجَدْنَا مِنْ حُجَجِهِمْ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ كَانَ لَهُمْ غُلاَمٌ فَأَعْتَقُوهُ كُلُّهُمْ إِلاَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَذَهَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشْفِعُ بِهِ عَلَى الرَّجُلِ فَوَهَبَ الرَّجُلُ نَصِيبَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْمُهُ رَافِعُ أَبُو الْبَهَاءِ.
قال أبو محمد: هَذَا مُنْقَطِعٌ لأََنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْهُودِ الأَصْلِ وَالأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَمْلَكُ بِمَالِهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُعْتَقَ عَلَى الْمُوسِرِ وَيُسْتَسْعَى إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَبَطَلَ بِهَذَا الْحُكْمِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ. وَقَالُوا: هُوَ قَوْلٌ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ. فَقُلْنَاعَارَضُوا بِهَذَا الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ السُّنَنَ لأََقَلَّ مِنْ هَذَا، كَمَا فَعَلُوا فِي " الْبَيِّعَيْنِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " وَفِي عِتْقِ صَفِيَّةَ وَجَعْلِهِ عليه الصلاة والسلام عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَتَوْرِيثِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا فِي مَرَضِ الْمَوْتِ.وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَنْبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ الثَّلْبِ، عَنْ أَبِيهِ "أن رَجُلاً أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَلَمْ يَضْمَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فَهَذَا عَنِ ابْنِ الثَّلْبِ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ عِتْقِ نَصِيبِهِ وَبَيْنَ بَيْعِ نَصِيبِهِ. قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَقَدْ حَكَمْتُمْ بِالْعَاقِلَةِ وَلَمْ تُبْطِلُوهَا بِهَذِهِ الآيَةِ. وَحَكَمْتُمْ بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ تَقُولُوا: كُلُّ أَحَدٍ أَمْلَكُ بِحَقِّهِ. وَقَالُوا: لَوْ ابْتَدَأَ عِتْقُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لَمْ يَنْفُذْ فَكَذَلِكَ، بَلْ أَحْرَى أَنْ لاَ يَنْفُذَ إذَا لَمْ يَعْتِقْهُ، لَكِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَ نَفْسِهِ، وَقَدْ جَاءَ لاَ عِتْقَ قَبْلَ مِلْكٍ.فَقُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَكُلُّهُ لاَ يُعَارَضُ بِهِ النَّصُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تُضْرَبُ السُّنَنُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَقَالُوا: لَوْ أَعْتَقَا مَعًا لَجَازَ

(9/196)


فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ أَمْلَكُ بِحَقِّهِ قلنا: نَعَمْ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُشْبِهٍ لِعِتْقِهِ بَعْدَ عِتْقِ شَرِيكِهِ، لأََنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَعَ عِتْقِ شَرِيكِهِ مَعًا، وَأَنْ يَهَبَ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَبِيعَ بَعْدَ عِتْقِ شَرِيكِهِ، وَلاَ أَنْ يَهَبَ، وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَكُلُّ هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُشْغَبَ بِهِ لَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَأَمَّا وَقَدْ جَاءَ مَا يَخُصُّ هَذَا كُلَّهُ فَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: هَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ، فَخَالَفُوا صَاحِبًا لاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ، وَخَالَفُوا أَثَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ، وَخَالَفُوا الْقِيَاسَ فأما أَبُو حَنِيفَةَ: فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ أَصْلاًوَأَمَّا مَالِكٌ: فَتَعَلَّقَ بِحَدِيثٍ نَاقِصٍ، عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَاءَ غَيْرُهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي تَخْصِيصِهِ الْجَارِيَةَ الرَّائِعَةَ، فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلاً وَاسْتِدْلاَلُهُ فَاسِدٌ، لأََنَّ الضَّرَرَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِمْ بِالشَّرِكَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْوَطْءِ هُوَ بِعَيْنِهِ، وَلاَ زِيَادَةَ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي عِتْقِ بَعْضِهَا، وَلاَ فَرْقَ، وَكِلْتَاهُمَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَلاَ فَرْقَ، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَأَمَّا قَوْلُ زُفَرَ: فَإِنَّ الْحُجَّةَ لَهُ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غَيْلاَنَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَلَهُ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَةٍ لِمَا أَسَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ" وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الأَنْصَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي عَبْدٍ فَأَعْتَقَ نَصِيبَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَ عِتْقَهُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ".
قال أبو محمد: الأَوَّلُ إنَّمَا فِيهِ حُكْمُ مَنْ لَهُ وَفَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَنْ لاَ وَفَاءَ عِنْدَهُ وَأَيْضًا فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غَيْلاَنَ، وَلاَ نَعْرِفُهُ وَأَخْلَقَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولاً لاَ يُعْتَدُّ بِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا قَالَ: "يَضْمَنُ وَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ" وَأَمَّا الثَّانِي، وَالثَّالِثُ فَصَحِيحَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِمَا، فَأَخْذُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى وَلَوْ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ لَمَا تَعَدَّيْنَاهُمَا. وَقَالُوا: جَنَى عَلَى شُرَكَائِهِ فَوَجَبَ تَضْمِينُهُ.
قال أبو محمد: مَا جَنَى شَيْئًا بَلْ أَحْسَنَ وَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنْ عَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ يَجْعَلُونَ خَبَرَ الْمُعْتِقِ نَصِيبَهُ حُجَّةً لِقَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ فِي أَنَّ الْمُعْتَدِيَ لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَ لاَ مِثْلَ مَا أَفْسَدَ، فَإِذْ هُوَ عِنْدَهُمْ إفْسَادٌ وَهُمْ أَصْحَابُ تَعْلِيلٍ. وَقِيَاسٍ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ زُفَرَ هَذَا، وَإِلَّا فَقَدْ أَبْطَلُوا تَعْلِيلَهُمْ، وَنَقَضُوا قِيَاسَهُمْ، وَأَفْسَدُوا احْتِجَاجَهُمْ

(9/197)


وَتَرَكُوا مَا أَصَّلُوا وَهَذِهِ صِفَاتٌ شَائِعَةٌ فِي أَكْثَرِ أَقْوَالِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لأََنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ وَلاَ تَابِعٍ وَلاَ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِرَأْيٍ سَدِيدٍ وَلاَ احْتِيَاطٍ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ. وَمَا وَجَدْنَاهُمْ مَوَّهُوا إِلاَّ بِكَذِبٍ فَاضِحٍ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَذَبُوا كَمَا يَرَى كُلُّ ذِي فَهْمٍ مِمَّا أَوْرَدْنَا. وَحَكَمُوا بِالأَسْتِسْعَاءِ وَخَالَفُوا حَدِيثَ الأَسْتِسْعَاءِ فِي إجَازَتِهِمْ الَّذِي لَمْ يَعْتِقْ أَنْ يَعْتِقَ، وَأَنْ يَضْمَنَ فِي حَالِ إعْسَارِ الشَّرِيكِ وَأَجَازُوا لَهُ أَنْ يَعْتِقَ وَمَنَعُوهُ أَنْ يَحْتَبِسَ. ثُمَّ أَتَوْا بِمَقَايِيسَ سَخِيفَةٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَهُمْ قَدْ يَعْجِزُ فَيُرَقُّ وَلاَ يُرَقُّ عِنْدَهُمْ الْمُسْتَسْعَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُفَارِقُوا فِيهِ الْكَذِبَ الْبَارِدَ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ كُلَّ فَصْلٍ مِنْ قَوْلِنَا مَوْجُودٌ فِي حَدِيثٍ مِنْ الأَحَادِيثِ. قلنا: وَمَوْجُودٌ أَيْضًا خِلاَفُهُ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَمِنْ أَيْنَ أَخَذْتُمْ مَا أَخَذْتُمْ وَتَرَكْتُمْ مَا تَرَكْتُمْ هَكَذَا مُطَارَفَةًوَأَيْضًا فَلاَ يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ خِيَارٌ فِي تَضْمِينِ الْمُوسِرِ أَوْ تَرْكِ تَضْمِينِهِ، وَلاَ رُجُوعَ الْمُوسِرِ عَلَى الْعَبْدِ، وَلاَ تَضْمِينَ الْعَبْدِ فِي حَالِ يَسَارِ الَّذِي أَعْتَقَهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَسَائِرُ الأَقْوَالِ لاَ مُتَعَلَّقَ لَهَا أَصْلاً وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: فَوَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَعَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا أَصْلاً وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا وَقَدْ أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ فَزَادَ فِي هَذَا الْخَبَرِ "وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقّ" وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهَا لاَ ثِقَةٌ وَلاَ ضَعِيفٌ وَلاَ يَجُوزُ الأَشْتِغَالُ بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الْمُعْسِرِ أَصْلاً وَإِنَّمَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ قَدْ "عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " وَبَقِيَ حُكْمُ الْمُعْسِرِ فَوَجَبَ طَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَةَ "وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ نَافِعٍ، وَلَسْنَا نَلْتَفِتُ إلَى هَذَا، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ، لَكِنْ يَنْبَغِي طَلَبُ الزِّيَادَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ صَحِيحَةً وَجَبَ الأَخْذُ بِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ. فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا فَوَجَدْنَا الْحُجَّةَ لَهُ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ وَإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ كِلاَهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَخَلاَصُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ

(9/198)


فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" .وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ الْكَشِّيُّ حَدَّثَنَا أَبَانُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" .وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ، وَقَالَ أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا فِي عَبْدٍ عَتَقَ كُلُّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا اُسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" وَقَدْ سَمِعَ قَتَادَةُ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيق أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ بَقِيَّتَهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ، عَنِ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرُ شُعْبَةُ، وَهَمَّامٌ، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ فَلَمْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ.
قال أبو محمد: فَكَانَ مَاذَا؟ وَابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ثِقَةٌ فَكَيْفَ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَرِيرٌ، وَأَبَانُ، وَهُمَا ثِقَتَانِ. فإن قيل: فَإِنَّ هَمَّامًا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ قلنا: صَدَقَ هَمَّامٌ، قَالَ قَتَادَةُ مُفْتِيًا بِمَا رَوَى وَصَدَقَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَجَرِيرٌ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ وَغَيْرُهُمْ، فَأَسْنَدُوهُ عَنْ قَتَادَةَ وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُ قَتَادَةَ هَذَا لَكَانَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِالتَّضْمِينِ جُمْلَةً زَائِدَةً عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ، فَكَانَ يَكُونُ الْقَوْلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ، وَهَذَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ حُرٌّ سَاعَةَ يُعْتَقُ بَعْضُهُ، فَإِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ قَالَ " ثُمَّ يُعْتَقُ " وَكَانَ فِي رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ الَّتِي ذَكَرْنَا " عَتَقَ كُلُّهُ " فَكَانَتْ هَذِهِ زِيَادَةً لاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا، فَإِذْ قَدْ عَتَقَ كُلُّهُ فَوَلاَؤُهُ لِلَّذِي عَتَقَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا رُجُوعُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فَبَاطِلٌ لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَ الْغَرَامَةَ لِلْمُعْتِقِ فِي يَسَارِهِ وَأَلْزَمَهَا الْعَبْدَ الْمُعْتَقَ فِي إعْسَارِ الْمُعْتِقِ وَلَمْ يَذْكُرْ رُجُوعًا فَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ الْقَضَاءُ بِرُجُوعٍ فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لاَ يَفِي بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْعَبْدُ فَلاَ غَرَامَةَ عَلَى الْمُعْتِقِ لَكِنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَهَذَا مُقْتَضَى لَفْظِ الْخَبَرِ وَبِهِ يَقُولُ حَمَّادٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/199)


1666 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ بِلاَ اسْتِسْعَاءٍ، وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ بَعْضِ عَبْدِهِ أَعْتَقَ مَا أَوْصَى بِهِ وَأَعْتَقَ بَاقِيهِ وَاسْتُسْعِيَ فِي قِيمَةِ مَا زَادَ عَلَى مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. فَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَلَمْ يَحْمِلْهُ ثُلُثُهُ أُعْتِقَ مِنْهُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ وَأُعْتِقَ بَاقِيهِ وَاسْتُسْعِيَ لِوَرَثَتِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلاَ يُعْتَقُ فِي ثُلُثِهِ، لأََنَّ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ الْمَيِّتُ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ فَالْوَرَثَةُ شُرَكَاؤُهُ فِيمَا أَعْتَقَ وَلاَ مَالَ لِلْمَيِّتِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَسْعَى لَهُمْ.رُوِّينَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَنْ أَعْتَقَ ثُلُثَ مَمْلُوكِهِ فَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: "مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ عَتَقَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ". وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَكَمِ، وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ فَمِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ اُسْتُسْعِيَ لِلْوَرَثَةِ وَعَتَقَ كُلُّهُ. وقال أبو حنيفة: إنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ فِي صِحَّتِهِ عَتَقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ وَاسْتُسْعِيَ لَهُ فِي بَاقِيهِ فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ.وقال أبو حنيفة" "فَإِنْ أَوْصَى بِعِتْقِ بَعْضِهِ عَتَقَ مِنْهُ مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ وَسَعَى لِلْوَرَثَةِ فِي الْبَاقِي"، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ جُمْلَةً؟ وقال مالك: إنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدٍ فِي صِحَّتِهِ أُعْتِقَ عَلَيْهِ كُلَّهُ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ أُعْتِقَ عَلَيْهِ بَاقِيه مَا حُمِلَ مِنْهُ الثُّلُثُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا، فَإِنْ أَوْصَى بِعِتْقِ بَعْضِ عَبْدِهِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ إِلاَّ مَا أَوْصَى بِهِ فَقَطْ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَسْعُودٍ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ" يُعْتِقُ الرَّجُلُ مَا شَاءَ مِنْ غُلاَمِهِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا.

(9/200)


ومن ملك ذا رجم محرمة فهو حر
...
1667 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ يَمْلِكُهُ، فَإِنْ مَلَكَ بَعْضَهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ إِلاَّ الْوَالِدَيْنِ خَاصَّةً، وَالأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ فَقَطْ، فَإِنَّهُمْ يُعْتَقُونَ عَلَيْهِ كُلُّهُمْ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَحْمِلُ قِيمَتَهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَحْمِلُ قِيمَتَهُمْ اسْتُسْعُوا. وَهُمْ كُلُّ مَنْ وَلَدَهُ مِنْ جِهَةِ أُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ أَوْ جَدٍّ أَوْ أَبٍ. وَكُلُّ مَنْ وَلَدَهُ هُوَ مِنْ جِهَةِ وَلَدٍ أَوْ ابْنَةٍ وَالأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ وَإِنْ عَلَوْا كَيْفَ كَانُوا لأَُمٍّ أَوْ لأََبٍ، وَالأَخَوَاتُ وَالإِخْوَةُ كَذَلِكَ. وَمَنْ نَالَتْهُ وِلاَدَةُ أَخٍ أَوْ أُخْتٍ بِأَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. وَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَهُ أَبٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ جَدٌّ أَوْ جَدَّةٌ أُجْبِرَ عَلَى ابْتِيَاعِهِمْ بِأَغْلَى قِيمَتِهِمْ وَعِتْقِهِمْ إذَا أَرَادَ سَيِّدُهُمْ بَيْعَهُمْ فَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ السَّيِّدُ عَلَى الْبَيْعِ وَإِنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ غَيْرَ مَحْرَمَةٍ أَوْ مَلَكَ ذَا مَحْرَمٍ بِغَيْرِ رَحِمٍ لَكِنْ بِصِهْرٍ أَوْ وَطْءِ أَبٍ أَوْ ابْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُمْ وَلَهُ بَيْعُهُمْ إنْ شَاءَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَعْتِقُ إِلاَّ مَنْ وَلَدَهُ مِنْ جِهَةِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ مَنْ وَلَدَهُ هُوَ

(9/200)


كَذَلِكَ أَوْ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَقَطْ. وَلاَ يَعْتِقُ الْعَمُّ، وَلاَ الْعَمَّةُ، وَلاَ الْخَالُ، وَلاَ الْخَالَةُ، وَلاَ مَنْ وَلَدَ الأَخُ أَوْ الأُُخْتُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَصَحَّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ وَرُوِيَ، عَنْ رَبِيعَةَ وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ، وَلاَ رُوِيَ عَنْهُمْ: أَنَّ مَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ لاَ يَعْتِقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَعْتِقُ إِلاَّ مَنْ وَلَدَهُ مِنْ جِهَةِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَمَنْ وَلَدُهُ هُوَ كَذَلِكَ، وَلاَ يَعْتِقُ غَيْرُ هَؤُلاَءِ لاَ أَخٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: "لاَ يَعْتِقُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: "يَعْتِقُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمَةٍ حَتَّى ابْنُ الْعَمِّ، وَابْنُ الْخَالِ فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ عَلَيْهِ وَيَسْتَسْعِيهِمَا".
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُ رُوِيَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْوَالِدُ وَالْوَلَدَ عَتَقَ. قلنا: نَعَمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ هَذَا أَيْضًا فِي كُلِّ ذِي رَحِمٍ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ " إذَا مَلَكَ الْوَالِدُ الْوَلَدَ عَتَقَ " أَنَّ غَيْرَهُمَا لاَ يُعْتِقُ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إِلاَّ دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى عِتْقِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَهَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ فَمَا يُحْفَظُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ عَنْ عِشْرِينَ مِنْ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ وَهُمْ أُلُوفٌ فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} قلنا: أَتِمُّوا الآيَةَ {وَبِذِي الْقُرْبَى} فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:فِي الْوَالِدَيْنِ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} قَالُوا: وَلاَ يُمْكِنُ خَفْضُ الْجُنَاحِ وَالذُّلِّ لَهُمَا مَعَ اسْتِرْقَاقِهِمَا. قَالُوا: وَأَمَّا الْوَلَدُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} قَالُوا: فَوَجَبَ أَنَّ الرِّقَّ، وَالْوِلاَدَةَ لاَ يَجْتَمِعَانِ. قَالُوا: وَأَمَّا الأَخُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام: {إنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} قَالُوا: فَكَمَا لاَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ كَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَخَاهُ. وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ هُوَ الْقَارِئُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْلًى يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ اشْتَرَى أَخًا لَهُ مَمْلُوكًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ عَتَقَ حِينَ مَلَكْتَهُ".
قال أبو محمد: وَهَذَا أَثَرٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ حَفْصَ بْنَ سُلَيْمَانَ سَاقِطٌ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى سِيءُ الْحِفْظِ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إرْقَاقُ مَنْ عَدَا الأَخِوَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} فَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَخْلِيطٌ سَمِجٌ. وَلَوْ كَانَ هَذَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى أَنَّ الأَخَ يُمْلَكُ لَكَانَ أَدْخَلَ فِي الشُّبْهَةِ، لأََنَّ فِيهِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى الأَخِ وَالنَّفْسِ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقَعَ لأََحَدٍ مِلْكُ رِقٍّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ مُحَالاً مِلْكُ أَخِيهِ وَأَبِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ الأَخِ عَلَى النَّفْسِ لأََنَّ

(9/201)


الإِنْسَانَ يَصْرِفُ نَفْسَهُ فِي الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَمْلِكُ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام إنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فِي الْجِهَادِ، وَلاَ يَصْرِفُ أَخَاهُ كَذَلِكَ، وَلاَ يُطِيعُهُ فَفَسَدَ هَذَا الْقِيَاسُ الْبَارِدُ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ بِأَسْخَفَ مِنْهُ, وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يُسْتَدَلَّ مِنْ هَذَا عَلَى عِتْقِ الأَبْنِ، وَلاَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْلَكُ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ وَلَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الْخَبَرَ عَنْهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لاَ أَوْلاَدٌ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ عِتْقُ الزَّوْجَةِ وَالشَّرِيكِ إذَا مُلِكَا لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى انْتَفَى عَنِ الْوَلَدِ سَوَاءً سَوَاءً وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُهُ، وَلاَ فَرْقَ فَسَقَطَ احْتِجَاجُهُمْ جُمْلَةً، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ, وَأَمَّا مَنْ قَالَ: لاَ يَعْتِقُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".
قال أبو محمد: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} فَافْتَرَضَ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرَ الأَبَوَيْنِ وَجَزَاؤُهُمَا هُوَ مِنْ شُكْرِهِمَا، فَجَزَاؤُهُمَا فَرْضٌ، فَإِذْ هُوَ فَرْضٌ، وَجَزَاؤُهُمَا لاَ يَكُون إِلاَّ بِالْعِتْقِ فَعِتْقُهُمَا فَرْضٌ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ نَظَرْنَا: فِيمَا احْتَجَّ بِهِ الأَوْزَاعِيِّ فَوَجَدْنَا مِنْ حُجَّتِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} .
قال علي: وهذا لاَ يُوجِبُ الْعِتْقَ، لأََنَّ الإِحْسَانَ فُرِضَ إلَى الْعَبِيدِ، وَلاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ عِتْقَهُمْ فَرْضًا وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ فِي ابْنِ الْعَمِّ، وَابْنِ الْخَال لَوَجَبَ فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ، لأََنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ إلَى آدَمَ عليه السلام، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهَذَا ابْنَ الْعَمِّ، وَابْنَ الْخَالِ: دُونَ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ وَابْنِ ابْنِ الْخَالِ، وَهَكَذَا صَعَدًا، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِنَا فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو عُمَيْرٍ الرَّمْلِيُّ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ الْفَاخُورِيُّ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ" فَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ كُلُّ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ تَعَلَّلَ فِيهِ الطَّوَائِفُ الْمَذْكُورَةُ بِأَنَّ ضَمْرَةَ انْفَرَدَ بِهِ وَأَخْطَأَ فِيهِ فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا إذَا انْفَرَدَ بِهِ وَمَتَى لَحِقْتُمْ بِالْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنْ لاَ تَقْبَلُوا مَا رَوَاهُ الْوَاحِدُ، عَنِ الْوَاحِدِ، وَكَمْ خَبَرٌ انْفَرَدَ بِهِ رَاوِيهِ فَقَبِلْتُمُوهُ، وَلَيْتَكُمْ لاَ تَقْبَلُونَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ، كَابْنِ لَهِيعَةَ، وَجَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، وَغَيْرِهِ فأما دَعْوَى أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ فَبَاطِلٌ، لأََنَّهَا دَعْوَى بِلاَ برهان وَهَذَا مَوْضِعٌ قَبِلَهُ الْحَنَفِيُّونَ وَقَالُوا بِهِ، وَلَمْ يَرَوْا انْفِرَادَ ضَمْرَةَ بِهِ عِلَّةً، ثُمَّ أَتَوْا إلَى مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ

(9/202)


السَّيِّدُ" فَقَالُوا انْفَرَدَ بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَخْطَأَ فِيهِ، فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا رَأَى الْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ هَذَا الْخَبَرَ صَحِيحًا وَعَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يَرَوْا انْفِرَادَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ بِهِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ خَطَأٌ فِيهِ حُجَّةٌ فِي رَدِّهِ وَتَرْكِهِ وَرَأَى الْحَنَفِيُّونَ انْفِرَادَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ بِهَذَا الْخَبَرِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِهِ وَرَدِّهِ، وَلَمْ يَرَوْا انْفِرَادَ ضَمْرَةَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِهِ وَرَدِّهِ، فَهَلْ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى التَّلاَعُبِ بِالدَّيْنِ وَقِلَّةِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ وَقَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ فَصَحَّحَ الْحَنَفِيُّونَ هَذَا الْخَبَرَ وَرَأَوْهُ حُجَّةً وَقَالُوا: لاَ يَضُرُّهُ مَا قِيلَ: أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ، وَالْمُنْقَطِعُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، ثُمَّ أَتَوْا إلَى مُرْسَلٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثٌ فَقَالُوا: لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةً. وَقَلَبَ الْمَالِكِيُّونَ هَذَا الْعَمَلَ فَرَأَوْا رِوَايَةَ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ فِي عُهْدَةِ الرَّقِيقِ حُجَّةً لاَ يَضُرُّهُ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ، وَالْمُنْقَطِعُ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَمْ يَرَوْا خَبَرَ عِتْقِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمَةِ حُجَّةً، لأََنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ شَيْئًا، وَالْمُنْقَطِعُ لاَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ عَقَلَ وَنَصَحَ نَفْسَهُ.
قال أبو محمد: فَبَطَلَتْ الأَقْوَالُ إِلاَّ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَبِهِ يَقُولُ جُمْهُورُ السَّلَفِ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْخُشَنِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ ابْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ.وبه إلى بِنْدَارَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلاَنَ وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، كِلاَهُمَا، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، هُوَ ابْنُ الأَحْنَفِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَهُ: إنَّ عَمِّي زَوَّجَنِي جَارِيَةً لَهُ، وَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِقَّ وَلَدِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالاَ جَمِيعًا: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ عَتَقَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إذَا مُلِكَ الأَخُ وَالأُُخْتُ وَالْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ عَتَقُوا.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالاَ جَمِيعًا: كُلُّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ عَتَقَ,

(9/203)


وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ َجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَصَاحِبَيْنِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ الْحَسَنِ: مَنْ مَلَكَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ عَتَقَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَقَتَ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ جَارِيَةً لَهُ أَرْضَعَتْ وَلَدَهُ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا حُجَّةً إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقِيسُوا الأُُمَّ مِنْ الرَّضَاعِ، وَالأَبَ مِنْ الرَّضَاعِ، وَالْوَلَدِ مِنْ الرَّضَاعِ وَالأَخِ مِنْ الرَّضَاعِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ" فَهَذَا أَصَحُّ مِنْ كُلِّ قِيَاسٍ قَالُوا بِهِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَرَأَيْنَا مِنْ حُجَّتِهِمْ أَنْ قَالُوا: إنَّ السُّنَّةَ تُوجِبُ أَنْ يُعْتَقَ ذَوُو الْمَحَارِمِ مِنْ الرَّضَاعِ أَيْضًا، وَلاَ بُدَّ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ" .وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّحِمِ " وَوَجَدْنَا " يَحْرُمُ مِنْ الرَّحِمِ، وَمِنْ النَّسَبِ " تَمَادِي مِلْكِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ وَذِي نَسَبٍ مَحْرَمٍ، فَوَجَبَ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَحْرُمَ تَمَادِي الْمِلْكِ فِيمَنْ يَمُتُّ بِالرَّضَاعَةِ كَذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ. فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الأَحْتِجَاجِ فَوَجَدْنَاهُ شَغَبِيًّا: أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمَةِ لَيْسَ حَرَامًا، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ " فَأَوْقَعَ الْمِلْكَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَلْزَمَ الْعِتْقَ وَلَوْ لاَ صِحَّةَ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ. ثُمَّ وَجَدْنَا قَوْلَهُمْ: إنَّ تَمَادِيَ مِلْكِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمَةِ يَحْرُمُ خَطَأٌ، لأََنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا إِلاَّ تَحْرِيمَ تَمَادِي الْمِلْكِ لَكَانَ الْعِتْقُ لاَ يَجِبُ، وَلاَ بُدَّ، بَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ فَيَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَيَبْطُلُ بِهَذَا مَا قَالُوا مِنْ أَنَّ تَمَادِيَ الْمِلْكِ يَحْرُمُ، وَكَانَ الْحَقُّ أَنْ يَقُولُوا: إنَّ الْعِتْقَ يَجِبُ عَقِيبَ الْمِلْكِ بِلاَ فَصْلٍ، وَلاَ مُهْلَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ عليه الصلاة والسلام: إنَّهُ يَجِبُ فِي الرَّضَاعِ مَا يَجِبُ فِي النَّسَبِ، وَمَا يَجِبُ فِي الرَّحِمِ، وَلَوْ قَالَ هَذَا لَوَجَبَ الْعِتْقُ كَمَا قَالُوا وَإِنَّمَا قَالَ: يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ وَمِنْ الرَّحِمِ فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَالتَّلَذُّذُ فَقَطْ، فَهُوَ حَرَامٌ فِيهِمَا مَعًا وَأَمَّا

(9/204)


مَنْ مَلَكَ بَعْضَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمَةِ فَلَمْ يَمْلِكْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ، إذْ لَمْ يُوجِبْ النَّصُّ ذَلِكَ,وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الْوَالِدَيْنِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ، فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالاَ جَمِيعًا: ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ، هُوَ ابْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ " وَالِدَهُ " وَاتَّفَقَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ" وَاسْمُ " الْوَالِدِ " يَقَعُ عَلَى الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ مَا لَمْ يَخُصَّهُمَا نَصٌّ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمَا يَشْتَرِي بِهِ الرَّقَبَةَ الْوَاجِبَةَ لِلْعِتْقِ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرّ" ٌ فَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ أَمَتِهِ حُرٌّ عَلَى أَبِيهِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الْيَتِيمُ أُمُّهُ مُحْتَاجَةٌ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً أَتُعْتَقُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يُكْرَهُ عَلَى إعْتَاقِهَا إنْ لَمْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا وَيَحْتَاجُوهُ.

(9/205)


1668 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَصِحُّ عِتْقُ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ثَمَنِ مَمْلُوكِهِ أَوْ غَلَّتِهِ أَوْ خِدْمَتِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، مَجْنُونًا أَوْ عَاقِلًا، غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، وَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ بِحُكْمِ السُّلْطَانِ وَبِغَيْرِ حُكْمِ السُّلْطَانِ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ نا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حَدِيثُ الْمُدَبَّرِ نَفْسَهُ، رَوَاهُ: عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ، كُلُّهُمْ عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ دَبَّرَهُ قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ فِي عَبْدَيْنِ لَكَانَ مَا قُلْتُمْ حَقًّا وَأَمَّا إذْ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَا خَبَرَيْنِ فِي عَبْدَيْنِ يَبْتَاعُهُمَا مَعًا نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ، فَلَا يَحِلُّ الْقَطْعُ بِأَنَّهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَاذِبًا، قَافِيًا مَا لَا عَلِمَ لَهُ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ، فَمَا يُبَالِي أَعْتَقَهُ أَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ، وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ، بَلْ هُوَ حُرٌّ وَلَا بُدَّ. وَمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، وَلَا غِنًى بِهِ عَنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِذْ هُوَ بَاطِلٌ فَلَمْ يَعْتِقْهُ، فَلَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ مَنْ أَعْتَقَ وَالِدَيْنِ مُحِيطٌ بِمَالِهِ رُدَّ عِتْقُهُ - وَلَا نَصَّ لَهُ فِي ذَلِكَ.

(9/205)


1669 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ لاَ يَبْلُغُ، وَلاَ عِتْقُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ مِنْ سَكْرَانَ أَوْ مَجْنُونٍ وَلاَ عِتْقَ مُكْرَهٍ وَلاَ مَنْ لَمْ يَنْوِ الْعِتْقَ، لَكِنْ أَخْطَأَ لِسَانُهُ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ إنْ قَامَتْ

(9/205)


1670 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا، أَوْ إلَى سَنَةٍ، أَوْ إلَى بَعْدَ مَوْتِي أَوْ إذَا جَاءَ أَبِي أَوْ إذَا أَفَاقَ فُلاَنٌ، أَوْ إذَا نَزَلَ الْمَطَرُ أَوْ نَحْوُ هَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الأَجَلُ فَإِنْ بَاعَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِلْكِهِ فَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ الْعَقْدُ وَلاَ عِتْقَ لَهُ بِمَجِيءِ ذَلِكَ الأَجَلِ وَلاَ رُجُوعَ لَهُ فِي عَقْدِهِ ذَلِكَ أَصْلاً، إِلاَّ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ لأََنَّ هَذَا الْعِتْقَ إمَّا وَصِيَّةٌ وَأَمَّا نَذْرٌ وَكِلاَهُمَا عَقْدٌ صَحِيحٌ قَدْ جَاءَ النَّصُّ بِالْوَفَاءِ بِهِمَا فَلَوْ عَلَّقَ

(9/206)


الْعِتْق بِمَعْصِيَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ طَاعَةٍ، وَلاَ مَعْصِيَةَ: لَمْ يَجُزْ الْعِتْقُ، لأََنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَطَاءٍ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ حُرًّا حَتَّى يَقُولَ: لِلَّهِ وَهَذَا حَقٌّ لأََنَّ الْعِتْقَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَبِرٌّ وَقُرْبَةٌ إلَيْهِ تَعَالَى فَكُلُّ عِبَادَةٍ وَقُرْبَةٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَعَالَى مُخْلِصًا لَهُ بِهَا فَهِيَ بَاطِلٌ مَرْدُودَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ فَاسِدَةٌ مِنْهَا "مَنْ أَعْتَقَ لاَعِبًا فَقَدْ جَاز"َ وَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَأَرْبَعٌ مُقْفَلاَتٌ لاَ يَجُوزُ فِيهِنَّ الْهَزْلُ الطَّلاَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقَةُ، وَالنَّذْرُ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ، وَلَمْ يَسْمَعْ سَعِيدٌ مِنْ عُمَرَ شَيْئًا إِلاَّ نَعْيَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ، لأََنَّ ظَاهِرَهُ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ، بَلْ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، لأََنَّ الْهَزْلَ لاَ يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعِتْقِ، وَالنَّذْرِ، فَإِذْ لاَ يَجُوزُ فِيهَا فَهِيَ غَيْرُ وَاقِعَةٍ بِهِ، هَذَا مُقْتَضَى لَفْظِ الْخَبَرِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَمَا يُرِيدُونَ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ، عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عُمَرَ: ثَلاَثٌ اللَّاعِبُ فِيهِنَّ وَالْجَادُّ سَوَاءٌ الطَّلاَقُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ ثُمَّ هُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذَا لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ صَدَقَةَ الْمُكْرَهِ عَلَيْهَا فَبَعْضُ كَلاَمٍ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ حُجَّةً، وَبَعْضُهُ لَيْسَ حُجَّةً، هَذَا اللَّعِبُ بِالدِّينِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ثَلاَثٌ اللَّاعِبُ فِيهِنَّ كَالْجَادِّ النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْعَتَاقُ هَذَا مُرْسَلٌ وَلَمْ يُدْرِكْ الْحَسَنُ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَمِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيٍّ: ثَلاَثٌ لاَ لَعِبَ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْعَتَاقُ، جَابِرٌ كَذَّابٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا لاَ لِقَوْلِهِمْ، وَهُوَ إبْطَالُ اللَّعِبِ فِيهِنَّ فَإِذًا بَطَلَ مَا وَقَعَ مِنْهَا بِاللَّعِبِ.وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بَلَغَنِي أَنَّ مَرْوَانَ أَخَذَ مِنْ عَلِيٍّ: أَرْبَعٌ لاَ رُجُوعَ فِيهِنَّ إِلاَّ بِالْوَفَاءِ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنَّذْرُ وَنَعَمْ، كُلُّ هَذِهِ إذَا وَقَعَتْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي دِينِ الإِسْلاَمِ فَالْوَفَاءُ بِهَا فَرْضٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ كَمَا أَمَرَ إبْلِيسُ، فَلاَ، وَلاَ كَرَامَةَ لِلآمِرِ وَالْمُطِيعِ ثُمَّ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرٌ لِلإِكْرَاهِ عَلَى الْعِتْقِ وَجَوَازُهُ، فَوَضَحَ بُطْلاَنُ قَوْلِهِمْ بِلاَ شَكٍّ,وَأَمَّا قَوْلُنَا: لَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَأْتِ الأَجَلُ، فَلأََنَّهُ عَبْدٌ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْحُرِّيَّةَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الآجَالِ الْمَذْكُورَةِ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ قَدْ يَجِيءُ ذَلِكَ الأَجَلُ وَالْعَبْدُ مَيِّتٌ أَوْ السَّيِّدُ مَيِّتٌ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ إنْ أَخْرَجَهُ، عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِلْكِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِتْقُ بِمَجِيءِ ذَلِكَ الأَجَلِ، فَلأََنَّهُ قَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَكُلُّ شَيْءٍ بَطَلَ بِحَقٍّ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ

(9/207)


إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِعَوْدَتِهِ وَلاَ نَصَّ فِي عَوْدَةِ هَذَا الْعَقْدِ بَعْدَ بُطْلاَنِهِ وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ رُجُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، إِلاَّ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَقَطْ، فَلأََنَّهَا كُلَّهَا عُقُودٌ صِحَاحٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ إبْطَالُهُ، إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِكَيْفِيَّةِ إبْطَالِهِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُ عَقْدٍ صَحِيحٍ أَصْلاً، إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ نَصٌّ بِذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/208)


1671 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُسْلِمِ عِتْقُ عَبْدِهِ الْكِتَابِيِّ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ وَأَرْضِ الْحَرْبِ مَلِكَهُ هُنَالِكَ أَوْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" وَلِحَضِّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْعِتْقِ جُمْلَةً، إِلاَّ أَنَّ عِتْقَ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْكَافِرِ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ جَائِزٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ حَكِيمٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ" فَجَعَلَ عِتْقَ الْعَبْدِ الْكَافِرِ خَيْرًا. فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُعْتَقُ وَرِثَهُ سَيِّدُهُ الْمُسْلِمُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ لأََنَّ الْوَلاَءَ لِلْمُعْتِقِ عُمُومًا قَالَ عليه الصلاة والسلام: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالآخَرُ كَافِرًا لَمْ يَتَوَارَثَا لأَخْتِلاَفِ الدِّينِ.

(9/208)


1672 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ عَبْدٌ كَافِرٌ فَأَسْلَمَا مَعًا فَهُوَ عَبْدُهُ، كَمَا كَانَ، فَلَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ قَبْلَ سَيِّدِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ يُسْلِمُ، وَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وَالرِّقُّ أَعْظَمُ السَّبِيلِ.وَقَدْ وَافَقَنَا الْمُخَالِفُونَ لَنَا عَلَى أَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ، وَمَا نَدْرِي لِلْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ حُكْمًا، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِنَظَرٍ فإن قيل: أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ عَبِيدِ الْكُفَّارِ.قلنا: هَذِهِ حُجَّتُنَا وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ بِالْخُرُوجِ أَعْتَقَهُ وَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام قَطُّ ذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُونَ: إنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْكَافِرِ بِيعَ عَلَيْهِ فَقُلْنَا: لِمَاذَا تَبِيعُونَهُ أَلأََنَّهُ لاَ يَجُوزُ مِلْكُهُ لَهُ أَمْ لِنَصٍّ وَرَدَ فِي بَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَهُ جَائِزًا، وَلاَ سَبِيلَ إلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَفَإِنْ قَالُوا: لأََنَّ مِلْكَهُ لَهُ لاَ يَجُوزُقلنا: فَإِذْ لاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ لَهُ فَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِلاَ شَكٍّ، وَإِلَّا فَكَلاَمُكُمْ مُخْتَلِطٌ مُتَنَاقِضٌ وَإِذْ قَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَعْدُ مِلْكٍ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ حُرٌّ، إذْ هَذِهِ صِفَةُ الْحُرِّ. وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَهُ جَائِزًا فَبَيْعُكُمْ إيَّاهُ ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ وَجَوْرٌ. وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا قَضَيْتُمْ بِهِ مِنْ إبْقَائِهِ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ حَتَّى يُبَاعَ وَلَعَلَّهُ لاَ يَسْتَبِيعُ إِلاَّ بَعْدَ سَنَةٍ وَبَيْنَ مَنْعِكُمْ مِنْ مِلْكِهِ مُتَمَادِيًا وَهَذَا مَا لاَ سَبِيل لَهُ إلَى وُجُودِ فَرْقٍ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُوَأَمَّا سُقُوطُ الْوَلاَءِ عَنْهُ فَلأََنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ وَلاَ وَلاَءَ إِلاَّ لِلْمُعْتِقِ أَو لِمَنْ أَوْجَبَهُ النَّصّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/208)


وعتق ولد الزنا جائز
...
1673 - مَسْأَلَةٌ: وَعِتْقُ وَلَدِ الزِّنَى جَائِزٌ، لأََنَّهُ رَقَبَةٌ مَمْلُوكَةٌ، وَقَدْ جَاءَتْ أَخْبَارٌ بِخِلاَفِ

(9/208)


ومن قال : أحد عبدى هذين حر فليس منهما حر وكلاهما عبدا
...
1674- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: أَحَدُ عَبْدَيَّ هَذَيْنِ حُرٌّ. فَلَيْسَ مِنْهُمَا حُرٌّ وَكِلاَهُمَا عَبْدٌ كَمَا كَانَ، وَلاَ يُكَلَّفُ عِتْقَ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ هَذَا بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ حُرًّا، إذْ لَمْ يَعْتِقْهُ سَيِّدُهُ، وَلاَ أَعْتَقَ هَذَا الآخَرَ أَيْضًا بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ أَيْضًا حُرًّا، إذْ لَمْ يَعْتِقْهُ سَيِّدُهُ، فَكِلاَهُمَا لَمْ يَعْتِقْهُ سَيِّدُهُ، فَكِلاَهُمَا عَبْدٌ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَلاَ يَجُوزُ إخْرَاجُ مِلْكِهِ، عَنْ يَدِهِ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ.

(9/209)


1675 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَطَمَ خَدَّ عَبْدِهِ أَوْ خَدَّ أَمَتِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ فَهُمَا حُرَّانِ سَاعَتَئِذٍ إذَا كَانَ اللَّاطِمُ بَالِغًا مُمَيِّزًا وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهُمَا أَوْ حَدَّهُمَا حَدًّا لَمْ يَأْتِيَاهُ فَهُمَا حُرَّانِ بِذَلِكَ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ لَا بِمُثْلَةٍ وَلَا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ كَانَ اللَّاطِمُ مُحْتَاجًا إلَى خِدْمَةِ الْمَمْلُوكِ الْمَلْطُومِ أَوْ الأَُمَةِ كَذَلِكَ وَلَا غِنَى لَهُ عَنْهُ أَوْ عَنْهَا اسْتَخْدَمَهُ أَوْ اسْتَخْدَمَهَا فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ أَوْ عَنْهَا فَهِيَ أَوْ هُوَ حُرَّانِ حِينَئِذٍ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ غُنْدَرٌ: نا شُعْبَةُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ فِرَاسِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ يُحَدِّثُ عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ قَالَ: دَعَا ابْنُ عُمَرَ غُلَامًا لَهُ فَرَأَى بِظَهْرِهِ أَثَرًا فَقَالَ لَهُ: أَوْجَعْتُكَ ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَأَنْتَ عَتِيقٌ ثُمَّ قَالَ: "إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ" اللَّطْمُ لَا يَقَعُ فِي اللُّغَةِ إلَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى الْخَدِّ فَقَطْ، وَهُوَ فِي الْقَفَا الصَّفْعُ. وَحَدِيثُ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ زَائِدٌ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لَا يَجُوزُ رَدُّهَا, وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ نا أَبِي نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْد بْنِ مُقْرِنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كُنَّا بَنِي مُقْرِنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ لَنَا إلَّا خَادِمٌ وَاحِدٌ فَلَطَمَهَا أَحَدُنَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْتِقُوهَا، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ خَادِمٌ غَيْرُهَا، قَالَ: فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا" فَهَذَا أَمْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ, فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ

(9/209)


ومن أعتق عبدا وله مال فما له الا أن ينتزعه
...
1677 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَنْتَزِعَهُ السَّيِّدُ قَبْلَ عِتْقِهِ إيَّاهُ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لِلسَّيِّدِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لأَمْرَأَةٍ سَأَلَتْهَا وَقَدْ أَعْتَقَتْ عَبْدَهَا: إذَا أَعْتَقْتِيهِ وَلَمْ تَشْتَرِطِي مَالَهُ فَمَالُهُ لَهُ. وَمِثْلُهُ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ فِي عَبْدٍ كَاتَبَهُ مَوْلاَهُ وَلَهُ مَالٌ وَوَلَدٌ مِنْ سُرِّيَّةٍ لَهُأَنَّ مَالَهُ وَسُرِّيَّتَهُ لَهُ وَوَلَدَهُ أَحْرَارٌ وَالْعَبْدُ إذَا أُعْتِقَ كَذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ عَنْ زِيَادٍ الأَعْلَمِ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ زِيَادٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ قَيْسٌ: عَنْ عَطَاءٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ فَمَالُهُ لَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مَضَتْ السُّنَّةُ إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ يَتْبَعُهُ مَالُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي وَمَكْحُولٍ مِثْلُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ يَحْيَى عَلَى هَذَا أَدْرَكْت النَّاسَ، وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَأَبُو الزِّنَادِ، سَوَاءٌ عَلِمَ سَيِّدُهُ مَالَهُ أَوْ جَهِلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: مَالُ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لَهُ، وَأَمَّا أَوْلاَدُهُ فَلِسَيِّدِهِ وَكَذَلِكَ حَمْلُ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَوْ أَنَّهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَرَادَ عِتْقَ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَقْدِرْ لأََنَّ حَمْلَهَا رَقِيقٌ. وَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا، أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أُعْتِقَ يَتْبَعُهُ مَالُهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَدُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ إذَا فَلَّسَا أَوْ جُرِحَا أُخِذَ مَالُهُمَا وَأُمَّهَاتُ أَوْلاَدِهِمَا، وَلَمْ يُؤْخَذْ أَوْلاَدُهُمَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ إذَا بِيعَ وَاشْتَرَطَ الْمُبْتَاعُ مَالَهُ كَانَ لَهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهُ فِي الشَّرْطِ.

(9/213)


قال أبو محمد: مَا رَأَيْنَا حُجَّةً أَفْقَرَ إلَى حُجَّةٍ مِنْ هَذِهِ، وَإِنَّ الْعَجَبَ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةُ الَّتِي لاَ يُعْرَفُ لَهَا رَاوٍ مِنْ النَّاسِ لاَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ. وَالْخِلاَفُ فِيهَا أَشْهَرُ مِنْ ذَلِكَ. كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، بَلْ إنَّمَا رُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُُمَّةُ وَمَالِكٌ مَعَهُمْ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهَؤُلاَءِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الأَمَةِ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ أُمِّهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ الرَّجُلِ مِنْ أَمَتِهِ الصَّحِيحَةِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ حُرٌّ، وَالْفَاسِدَةِ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حُرٌّ، وَعَلَى أَبِيهِ قِيمَتُهُ أَوْ فِدَاؤُهُ. وَلاَ تَخْلُو أُمُّ وَلَدِ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ، فَوَلَدُهَا لَهُ إمَّا حُرٌّ، وَأَمَّا مَمْلُوكٌ فَتُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، أَوْ لاَ تُعْتَقُ وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ لِسَيِّدِهِ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ وَطْءُ أَمَةِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِالزَّوَاجِ، وَإِلَّا فَهُوَ زِنًا، وَالْوَلَدُ غَيْرُ لاَحِقٍ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا أَمَةُ غَيْرِهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ وَلَيْسَ فِي الْبَاطِلِ، وَالْكَلاَمُ الْمُتَنَاقِضُ الَّذِي يُفْسِدُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَمَةً لِلْعَبْدِ لاَ يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ وَطْؤُهَا إِلاَّ أَنْ يَنْتَزِعَهَا، وَيَكُونُ وَلَدُهَا لِسَيِّدِ أَبِيهِ مَمْلُوكًا، هَذَا عَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ أَصْلَ لَهُ. فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ لِظُهُورِ فَسَادِهِ. وأعجب مِنْهُ مَنْعُهُ عِتْقَ أُمِّ وَلَدِهِ وَهُوَ حُرٌّ وَهِيَ أَمَتُهُ مِنْ أَجْلِ جَنِينِهَا، وَهُمْ يُجِيزُونَ عِتْقَ الْجَنِينِ دُونَ أُمِّهِ وَهُمَا لِوَاحِدٍ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ عِتْقِ أُمِّهِ دُونَهُ وَهُمَا لأَثْنَيْنِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: كُلُّ مَا أَعْطَى الْمَرْءُ أُمَّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهَا إذَا مَاتَ لاَ يُعَدُّ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَلَهُ مَالٌ فَمَا كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ فَهُوَ لِلْعَبْدِ، وَمَا كَانَ بِيَدِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ السَّيِّدُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ وَهَذَا تَقْسِيمٌ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَالُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، قَالُوا كُلُّهُمْ: الْمُكَاتَبُ وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعْتَقُ، وَالْمَوْهُوبُ، وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ يَمُوتُ سَيِّدُهَا: فَمَالُهُمْ كُلُّهُمْ لِلْمُعْتَقِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: مَالُ الْمُعْتَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: مَالُ الْمُعْتَقِ وَأُمِّ الْوَلَدِ: لِلسَّيِّدِ وَلِوَرَثَتِهِ.وقال أحمد وَإِسْحَاقُ: مَالُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِهِ وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَصَحَّ عَنْ قَتَادَةَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الأَحْمَرِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لأَبْنِ مَسْعُودٍ فَأَعْتَقَهُ، وَقَالَ: أَمَا إنَّ مَالَك لِي، ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَك. وَصَحَّ نَحْوُهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: مَالُ الْمُعْتَقِ لِسَيِّدِهِ، فَوَجَدْنَاهُمْ يَذْكُرُونَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، َدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ أَبِي الْمُسَاوِرِ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ: أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَكَ وَأَدَعَ مَالَكَ فَأَخْبِرْنِي بِمَالِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ

(9/214)


بْنِ عِمْرَانَ الْمَسْعُودِيُّ مَوْلاَهُمْ سَمِعَ عَمَّهُ يُونُسَ بْنَ عِمْرَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا فَلَيْسَ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ" هَذَانِ لاَ شَيْءَ، لأََنَّ عَبْدَ الأَعْلَى بْنَ أَبِي الْمُسَاوِرِ ضَعِيفٌ جِدًّا وَالآخَرَ مُنْقَطِعٌ لأََنَّ الْقَاسِمَ لاَ يَحْفَظُ أَبُوهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ شَيْئًا فَكَيْفَ هُوَ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا بِيعَ فَمَالُهُ لِلسَّيِّدِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَعِتْقُهُ كَذَلِكَ، وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً، لأََنَّ الْبَيْعَ نَقْلُ مِلْكٍ فَلاَ يُشْبِهُ الْعِتْقَ الَّذِي هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ جُمْلَةً، وَالْقِيَاسُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ لاَ عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ. وَقَالُوا: مَالُ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ. َقُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ مَا هُوَ لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ، إِلاَّ أَنْ يَنْتَزِعَهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْحُجَّةَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى فِي الإِمَاءِ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فَدَخَلَ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ.وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَصَحَّ أَنَّ صَدَاقَ الأَمَةِ لَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَدْفَعُهُ إلَيْهَا. وَصَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِإِيتَاءِ الصَّدَاقِ، فَلَوْلاَ أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا كُلِّفَ ذَلِكَ، وَلاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِصَدَاقٍ، إنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْعَقْدِ فَبَعْدَ الْعَقْدِ، وَوَعَدَهُمْ اللَّهُ بِالْغِنَى فَهُمْ كَسَائِرِ النَّاسِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَإِذْ مَالُهُ لَهُ فَهُوَ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ. ثُمَّ وَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ السَّيِّدُ" فَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ, فإن قيل: قَدْ قِيلَ: إنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ أَخْطَأَ فِيهِ قلنا: إنَّمَا أَخْطَأَ مَنْ ادَّعَى الْخَطَأَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بِلاَ برهان وَلاَ دَلِيلٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا قَوْلَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ " أَخْطَأَ ضَمْرَةُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ سُفْيَانَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ ". وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ عَلَى الثِّقَةِ بِلاَ برهان ثُمَّ تَعَلَّقُوا بِقَوْلِ أُولَئِكَ أَنْفُسِهِمْ هَاهُنَا أَخْطَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَتَعَلَّقَ الْمَالِكِيُّونَ بِقَوْلِهِمْ: أَخْطَأَ ضَمْرَةُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى قَوْلِهِمْ: أَخْطَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَهَلْ فِي التَّلاَعُبِ بِالدِّينِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ فَرَدُّوا الْخَبَرَيْنِ مَعًا، وَأَخَذُوا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِالْخَطَأِ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/215)


1678 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لِلأَبِ عِتْقُ عَبْدِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَلاَ لِلْوَصِيِّ عِتْقُ عَبْدِ يَتِيمِهِ أَصْلاً وَهُوَ مَرْدُودٌ إنْ فَعَلاَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}

(9/215)


وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ لِلأَبِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ قَدْرَ ذَرَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ,وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وقال مالك: يُعْتِقُ عَبْدَ صَغِيرٍ وَلاَ يُعْتِقُ عَبْدَ كَبِيرٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، إذْ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/216)


1680 - مَسْأَلَةٌ: وَعِتْقُ الْعَبْدِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ لِعَبْدِهِمَا جَائِزٌ وَالْوَلاَءُ لَهُمَا يَدُورُ مَعَهُمَا حَيْثُ دَارَا وَمِيرَاثُ الْعِتْقِ لأََوْلَى النَّاسِ بِالْعَبْدِ مِنْ أَحْرَارِ عَصَبَتِهِ، أَوْ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا أُعْتِقَ فَإِنْ مَاتَ فَالْمِيرَاثُ لَهُ، أَوْ لِمَنْ أَعْتَقَهُ، أَوْ لِعَصَبَتِهِمَا لأََنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ الْمِلْكِ لِلْعَبْدِ وَإِذْ هُوَ مَالِكٌ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَنَصَّ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَرِثُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي " كِتَابِ الْمَوَارِيثِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي " الْمُكَاتَبِ " بَعْدَ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ فَهُوَ لِلْحُرِّ مِنْ عَصَبَتِهِ وَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ، لأََنَّهُ لاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِهِ فَإِذَا عَتَقَ صَحَّ الْمِيرَاثُ لَهُ أَوْ لِمَنْ يَجِبُ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/216)


ومن وطىء أمة له حاملا من غيره فجنينها حر أمنى فيها أو لم يمن
...
1681 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ أَمَةً لَهُ حَامِلاً مِنْ غَيْرِهِ فَجَنِينُهَا حُرٌّ أَمْنَى فِيهَا أَوْ لَمْ يُمْنِ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حِمْيَرٍ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّ صَاحِبَ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ يُلِمُّ بِهَا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ، وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، وَكَيْفَ يَسْتَرِقُّهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ" وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ خِلاَفُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ فَهُوَ حُرٌّ بِلاَ شَكٍّ، وَهُوَ غَيْرُ لاَحِقٍ بِهِ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الأَسْوَدِ الْمَعَافِرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جُبَيْرٍ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَسْقِ مَاءَهُ وَلَدَ غَيْرِهِ فَإِنْ هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ وَغَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَيْهِ فَلْيُعْتِقْهُ وَلْيُوصِ لَهُ مِنْ مَالِهِ.وبه إلى ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ غَوْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيِّ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الأَمَةِ الْحَامِلِ يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا قَالَ: رَأَتْ الْوُلاَةُ أَنْ يَعْتِقَ ذَلِكَ الْحَمْلُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: وَإِنِّي أَرَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَالأَوْزَاعِيُّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَبَعْضِ الشَّافِعِيِّينَ.
قال أبو محمد: سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ قَاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالشَّامِ وَغَوْثُ بْنُ سُلَيْمَانَ

(9/216)


ومن أحاط الدين بما له كله
...
1681 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ غِنًى، عَنْ مَمْلُوكِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِيهِ وَإِلَّا فَلاَ وقال مالك: "لاَ يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ" وقال أبو حنيفة: وَالشَّافِعِيُّ بِقَوْلِنَاإِلاَّ أَنَّهُمَا أَجَازَا عِتْقَهُ بِكُلِّ حَالٍ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا. أَنَّ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ فَاسْتَقْرَضَ مَالاً فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَأَنْ يَبْتَاعَ جَارِيَةً يَطَؤُهَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَا اسْتَقْرَضَ، وَأَنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ بِمَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ غِنًى وَالْعِتْقُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَقَدْ يَرْزُقُ اللَّهُ عِبَادَهُ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَهَذَا بِخِلاَفِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ مِمَّنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَالاً فِي الدُّنْيَا لَمْ يَرْزُقْهُ إيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَقْرِضُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/217)


1682 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُدَبَّرُ عَبْدٌ مُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُدَبَّرَةُ كَذَلِكَ، وَبَيْعُهُمَا حَلاَلٌ، وَالْهِبَةُ لَهُمَا كَذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ، وَلاَ حُجَّةَ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ قَدْ بَيَّنَّا عِلَّتَهُ هُنَالِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/217)


1683 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَمْلُوكَةٍ حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَأَسْقَطَتْ شَيْئًا يُدْرَى أَنَّهُ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدَتْهُ: فَقَدْ حَرُمَ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَرَهْنُهَا وَالصَّدَقَةُ بِهَا وَقَرْضُهَا وَلِسَيِّدِهَا وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَكُلُّ مَالِهَا فَلَهَا إذَا عَتَقَتْ وَلِسَيِّدِهَا انْتِزَاعُهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِزِنًا، أَوْ إكْرَاهٍ، أَوْ نِكَاحٍ بِجَهْلٍ: فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا إذَا أُعْتِقَتْ عَتَقُوا.
قال أبو محمد: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا. فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَالَ: شَاوَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، فَرَأَيْت أَنَا وَعُمَرُ أَنْ أُعْتِقَهُنَّ فَقَضَى بِهِ عُمَرُ حَيَاتَهُ، وَعُثْمَانُ حَيَاتَهُ فَلَمَّا وُلِّيت رَأَيْت أَنْ أَرِقَّهُنَّ، قَالَ عَبِيدَةُ: فَرَأْيُ عُمَرُ، وَعَلِيٍّ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ وَحْدَهُ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ أَحَبَّ إلَى عَبِيدَةُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَبَّ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَإِنَّ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ لَبَوْنًا بَائِنًا فَأَيْنَ الْمُحْتَجُّونَ بِقَوْلِ الصَّاحِبِ الْمُشْتَهِرِ الْمُنْتَشِرِ وَأَنَّهُ إجْمَاعٌ، أَفَيَكُونُ اشْتِهَارًا أَعْظَمَ وَانْتِشَارًا أَكْثَرَ مِنْ حُكْمِ عُمَرَ بَاقِي خِلاَفَتِهِ، وَعُثْمَانَ جَمِيعَ خِلاَفَتِهِ

(9/217)


فلو أن حر تزوج أمة لغيره ثم مات
...
1684 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَنَّ حُرًّا تَزَوَّجَ أَمَةً لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ حَامِل ٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَعَتَقَ الْجَنِينُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ لَمْ يَرِث أَبَاهُ لأََنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِتْقَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَكَانَ حِينَ مَوْتِ أَبِيهِ مَمْلُوكًا لاَ يَرِثُ، فَلَوْ مَاتَ لَهُ بَعْدَ أَنْ عَتَقَ مَنْ يَرِثُهُ بِرَحِمٍ أَوْ وَلاَءٍ وَرِثَهُ إنْ خَرَجَ حَيًّا لأََنَّهُ كَانَ حِينَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ حُرًّا. فَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ حَامِلاً فَأَسْلَمَتْ بَعْدَهُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَوْ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أُمِّهِ وَلاَ يَرِثُ أَبَاهُ لأََنَّهُ لَمْ يَصِرْ لَهُ حُكْمُ الإِسْلاَمِ الَّذِي يَرِثُ بِهِ وَيُورَثُ لَهُ أَوْ لاَ يَرِثُ بِهِ، وَلاَ يُورَثُ بِهِ لأَخْتِلاَفِ الدِّينَيْنِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَخَرَجَ إلَى الدُّنْيَا مُسْلِمًا عَلَى غَيْرِ دِينِ أَبِيهِ، وَعَلَى غَيْرِ حُكْمِ الدِّينِ الَّذِي لَوْ تَمَادَى عَلَيْهِ لَوَرِثَ أَبَاهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ حَامِلاً قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ [ أَوْ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ ] فَتَمَلَّكَهَا نَصْرَانِيٌّ آخَرُ فَاسْتَرَقَّهَا فَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَرِثْ أَبَاهُ لأََنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الدُّنْيَا إِلاَّ مَمْلُوكًا لاَ يَرِثُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجَنِينُ الْمِيرَاثَ بِبَقَائِهِ حُرًّا عَلَى دِينِ مَوْرُوثِهِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ الْمَوْرُوثُ إلَى أَنْ يُولَدَ حَيًّا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأً تَرَكَ أُمَّ وَلَدِهِ حَامِلاً فَاسْتُحِقَّتْ بَعْدَهُ ثُمَّ أُعْتِقَ الْجَنِينُ بِعِتْقِهَا فَإِنَّ نَسَبَهُ لاَحِقٌ وَلاَ يَرِثُ أَبَاهُ، لأََنَّ أَبَاهُ مَاتَ حُرًّا وَهُوَ مَمْلُوكٌ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْحَالِ الَّتِي يُورَثُ بِهَا وَيَرِثُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَلَوْ مَاتَ لَهُ مَوْرُوثٌ بَعْدَ أَنْ عَتَقَ وَرِثَهُ إنْ وُلِدَ حَيًّا لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/221)


كتاب الكتابة
من كان له مملوك مسلم أو مسلمة فدعا أو دعت الى الكتابة ففرض على السيد الاجابة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا
كِتَابُ الْكِتَابَةِ
1685 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ مُسْلِمٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ فَدَعَا أَوْ دَعَتْ إلَى الْكِتَابَةِ فُرِضَ عَلَى السَّيِّدِ الإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ وَيُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يُدْرَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ الْعَبْدَ أَوْ الأَمَةَ يُطِيقُهُ مِمَّا لاَ حَيْفَ فِيهِ عَلَى السَّيِّدِ، لَكِنْ مِمَّا يُكَاتَبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُمَا، وَلاَ يَجُوزُ كِتَابَةُ عَبْدٍ كَافِرٍ أَصْلاً.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخَيْرِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَالُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الدِّينُ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَوْضُوعَ كَلاَمِ الْعَرَبِ الَّذِي بِهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ: إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا، أَوْ عِنْدَهُمْ خَيْرًا، أَوْ مَعَهُمْ خَيْرًا، لأََنَّ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ يُضَافُ الْمَالُ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلاَ يُقَالُ أَصْلاً فِي فُلاَنٍ مَالٌ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} عَلِمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَرِدْ " الْمَالَ ".فَصَحَّ أَنَّهُ " الدِّينُ "، وَلاَ خَيْرَ فِي دِينِ الْكَافِرِ وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ بِقَوْلِهِ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ لاَ دِينَ إِلاَّ الإِسْلاَمُ وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْخَيْرِ وَكُلُّ خَيْرٍ بَعْدَ هَذَا فَتَابِعٌ لِهَذَا وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَأُكَاتِبُ وَلَيْسَ لِي مَالٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: نَعَمْ.فَصَحَّ أَنَّ الْخَيْرَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ " الْمَالَ ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قَالَ: إنْ أَقَامُوا الصَّلاَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ [ فِي هَذِهِ الآيَةِ ] قَالَ: إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا قَالَ: دِينٌ وَأَمَانَةٌوَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَالَ: الإِسْلاَمُ وَالْوَفَاءُ وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وطَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي رَزِينٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كِلاَ الأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَخِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ نَاقَضَ فِي مَسَائِلِهِ.وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ: فَكَانَ شَرْطُ اللَّهِ[ تَعَالَى عِنْدَهُمْ ] هَاهُنَا مُلْغًى، لاَ مَعْنَى لَهُ فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ شَرْطَهُ عِنْدَهُمْ ضَائِعًا، وَشُرُوطَهُمْ الْفَاسِدَةَ عِنْدَهُمْ لاَزِمَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُبِيحُونَ كِتَابَةَ

(9/222)


الْكَافِرِ الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ خَارِجٌ، عَنِ الآيَةِ، لأََنَّهُ لاَ خَيْرَ فِيهِ أَصْلاً وَخَارِجٌ عَنْ قَوْلِ كُلِّ مَنْ سَلَفَ وَهَذَا مِمَّا فَارَقُوا فِيهِ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ قَوْلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرَائِفِ الدُّنْيَااحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِأَنْ قَالَ: قِسْنَا مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ عَلَى مَنْ فِيهِ خَيْرٌ. قَالَ عَلِيٌّ: فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَفَ مِنْ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا قَالُوا بِالْقِيَاسِ فِيمَا يُشْبِهُ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ لاَ فِيمَا لاَ يُشْبِهُهُ وَهَلَّا قَاسُوا مَنْ يَسْتَطِيعُ " الطَّوْلَ " فِي نِكَاحِ الأَمَةِ عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُهُ وَهَلَّا قَاسُوا بِهِ غَيْرَ السَّائِمَةِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى السَّائِمَةِ وَهَلَّا قَاسُوا غَيْرَ السَّارِقِ عَلَى السَّارِقِ، وَغَيْرَ الْقَاتِلِ عَلَى الْقَاتِلِ وَهَذِهِ حَمَاقَةٌ لاَ نَظِيرَ لَهَا. وقال بعضهم: لَمْ يَذْكُرْ فِي الآيَةِ إِلاَّ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ، وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ، فَأَجَزْنَا كِتَابَتَهُ بِالأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْكِتَابَةِ جُمْلَةً.فَقُلْنَا لَهُمْ: فَأَبِيحُوا بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ أَكْلَ كُلِّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ لقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} وَهَذَا بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ" وَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُجِيزُوا كِتَابَةَ الْمَجْنُونِ، وَالصَّغِيرِ بِعُمُومِ تِلْكَ الأَحَادِيثِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُكَاتَبًا إِلاَّ مَنْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مُكَاتَبَتَهُ أَوْ أَمَرَ بِهَا, وَأَيْضًا فَلَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَثَرٌ قَطُّ فِي الْمُكَاتَبِ إِلاَّ وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُكَاتَبَةِ وَبِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ فَرْضٌ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ اللَّهُ تَعَالَى افْعَلْ أَمْرًا كَذَا، فَيَقُولُ هُوَ: لاَ أَفْعَلُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لَهُ تَعَالَى: إنْ شِئْت فَافْعَلْ وَإِلَّا فَلاَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَهُ الْمُكَاتَبَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاَللَّهِ لَتُكَاتِبْنَهُ، وَتَنَاوَلَهُ بِالدِّرَّةِ فَكَاتَبَهُ.وبه إلى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إذَا عَلِمْت لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلاَّ وَاجِبًا، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي أَيْضًا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْكِتَابَةَ وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاسْتَأْذَنَهُ فَقَالَ عُمَرُ لأََنَسٍ: كَاتِبْهُ فَأَبَى، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: {كَاتِبْهُ وَيَتْلُو فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ.وبه إلى ابْنِ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدٍ كَانَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَذَكَرَ حَدِيثًا وَفِيهِ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِالزُّبَيْرِ فَدَخَلَ مَعَهُ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فُلاَنٌ كَاتَبَهُ فَقَطَّبَ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْلاَ أَنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا فَعَلْت ذَلِكَ وَذَكَرَ الْخَبَرَ, وَرُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ

(9/223)


رَاهْوَيْهِ: مُكَاتَبَتُهُ وَاجِبَةٌ إذَا طَلَبَهَا وَأَخْشَى أَنْ يَأْثَمَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلاَ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ وَبِإِيجَابِ ذَلِكَ، وَجَبْرِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُنَا. فَهَذَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَرَيَانِهَا وَاجِبَةً وَيُجْبِرُ عُمَرُ عَلَيْهَا وَيَضْرِبُ فِي الأَمْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ وَالزُّبَيْرِ يَسْمَعُ حَمَلَ عُثْمَانُ الآيَةَ عَلَى الْوُجُوبِ فَلاَ يُنْكَرُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَمَّا ذُكِّرَ بِالآيَةِ سَارَعَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْمُكَاتَبَةِ وَتَرَكَ امْتِنَاعَهُ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَخَالَفَ ذَلِكَ الْحَنَفِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَقَالُوا: لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَمَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِتَشْغِيبَاتٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى النَّدْبِ مِثْلَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَوْلاَ نُصُوصٌ أُخَرُ جَاءَتْ لَكَانَ هَذَانِ الأَمْرَانِ فَرْضًا، لَكِنْ لَمَّا حَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَلَمْ يَصْطَدْ صَارَ الأَمْرُ بِذَلِكَ نَدْبًا وَلَمَّا حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقُعُودِ فِي مَوْضِعِ الصَّلاَةِ وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ كَانَ الأَنْتِشَارُ نَدْبًا. فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ نَصٌّ يُبَيِّنُ أَنَّ الأَمْرَ بِالْكِتَابَةِ نَدْبٌ صِرْنَا إلَيْهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ كَذَبَ مُحَرِّفُ الْقُرْآنِ، عَنْ مَوْضِعِ كَلِمَاتِهِ، وَلَيْسَ إذَا وُجِدَ أَمْرٌ مَخْصُوصٌ أَوْ مَنْسُوخٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا أَوْ مَخْصُوصًا. وَقَالُوا: لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ إذَا طَلَبَ مِنْهُ الْكِتَابَةَ عَلِمْنَا أَنَّ الأَمْرَ بِهَا نَدْبٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ بَارِدٌ نَعَمْ وَلَهُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَاتَبَهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ وَلَهُ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى يَتِمَّ عِتْقُهُ بِالأَدَاءِ. وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ قَدِمَ أَبُوهُ أَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَا لَمْ يَقْدَمْ أَبُوهُ وَفِي ذَلِكَ بُطْلاَنُ نَذْرِهِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ لَوْ لَمْ أَبِعْهُ. وَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الأُُصُولِ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى عَقْدٍ فِيمَا يَمْلِكُ فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا ؟ وَلاَ وَجَدْتُمْ قَطُّ فِي الأُُصُولِ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى الأَمْتِنَاعِ مِنْ بَيْعِ أَمَتِهِ، وَتَخْرُجُ حُرَّةً مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إنْ مَاتَ وَقَدْ قُلْتُمْ بِذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ. وَلاَ وَجَدْتُمْ قَطُّ صَوْمَ شَهْرٍ مُفْرَدٍ إِلاَّ رَمَضَانَ فَأَبْطَلُوا صَوْمَهُ بِذَلِكَ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَالَ: لاَ آخُذُ بِشَرِيعَةٍ حَتَّى أَجِدَ لَهَا نَظِيرًا، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: لاَ آخُذُ بِهَا حَتَّى أَجِدَ لَهَا نَظِيرَيْنِ. وَقَدْ وَجَدْنَا الْمُفْلِسَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَوَجَدْنَا الشَّفِيعَ يُجْبِرُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى تَصْيِيرِ مِلْكِهِ إلَيْهِ, وَقَالُوا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى السَّيِّدِ إذَا طَلَبَهُ الْعَبْدُ لَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ إذَا طَلَبَهُ السَّيِّدُ وَهَذَا أَسْخَفُ مَا أَتَوْا بِهِ لأََنَّ النَّصَّ جَاءَ بِذَلِكَ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا إذَا طَلَبَهَا السَّيِّدُ فَإِنْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ قِيَاسًا صَحِيحًا فَلْيَقُولُوا: إنَّهُ لَمَّا كَانَ الزَّوْجُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِلْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ طَلاَقَهُ أَنْ

(9/224)


يَكُونَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَهُ وَلَمَّا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ وَإِنْ كَرِهَ الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا إلْزَامُهُ إيَّاهُ وَإِنْ كَرِهَ الشَّفِيعُ. وَهَذِهِ وَسَاوِسُ سَخِرَ الشَّيْطَانُ بِهِمْ فِيهَا، وَشَوَاذُّ سَبَّبَ لَهُمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمَضَاحِكِ فِي الدِّينِ، فَاتَّبَعُوهُ عَلَيْهَا وَلاَ نَدْرِي بِأَيِّ نَصٍّ أَمْ بِأَيِّ عَقْلٍ وَجَبَ هَذَا الَّذِي يَهْذِرُونَ بِهِ وَقَالُوا: كَانَ الأَصْلُ أَنْ لاَ تَجُوزَ الْكِتَابَةُ لأََنَّهَا عَقْدُ غَرَرٍ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَسَبِيلُهُ إذْ جَاءَ بِهِ نَصٌّ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، لأََنَّهُ إطْلاَقٌ مِنْ حَظْرٍ فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ بَلْ الأَصْلُ لأََنَّهُ لاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ حَتَّى يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَإِذَا أَمَرَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا يَعْصِي مَنْ أَبَى قَبُولَهُ هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ تَخْتَلِفُ الْعُقُولُ فِيهِ وَمَا جَاءَ قَطُّ نَصٌّ وَلاَ مَعْقُولٌ بِأَنَّ الأَمْرَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ نَدْبًا بَلْ قَدْ كَانَتْ الصَّلاَةُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرْضًا وَإِلَى الْكَعْبَةِ مَحْظُورَةً مُحَرَّمَةً، ثُمَّ جَاءَ الأَمْرُ بِالصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فَكَانَ فَرْضًا وَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ فَرْضًا لَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ السَّيِّدُ عَلَيْهَا وَإِنْ أَرَادَهَا الْعَبْدُ بِدِرْهَمٍ وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِإِجَابَةِ الْعَبْدِ إلَى مَا أَرَادَ أَنْ يُكَاتَبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِإِجَابَتِهِ إلَى الْكِتَابَةِ ثُمَّ تَرَكَ الْمُكَاتَبَةَ مُجْمَلَةً بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ لأََنَّ قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ فِعْلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُكَلِّفَ السَّيِّدَ إضَاعَةَ مَالِهِ. وَصَحَّ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنَّ اللَّازِمَ لَهُمَا مَا أَطَاقَهُ الْعَبْدُ بِلاَ حَرَجٍ وَمَا لاَ غَبْنَ فِيهِ عَلَى السَّيِّدِ وَلاَ إضَاعَةَ لِمَالِهِ وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ لِلسَّيِّدِ تَكْلِيفَ عَبْدِهِ الْخَرَاجَ وَإِجْبَارَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُجِيزًا أَنْ يُكَلِّفَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُطِيقُ وَلاَ إجَابَةُ الْعَبْدِ إلَى أَدَاءِ مَا لاَ يَرْضَى السَّيِّدُ بِهِ مِمَّا هُوَ قَادِرٌ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابَةِ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَاقًا، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَتُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ، وَلاَ تُعْطَى بِرَأْيِهَا وَلاَ يُعْطِي هُوَ بِرَأْيِهِ. وَقَدْ رَأَى الْحَنَفِيُّونَ الأَسْتِسْعَاءَ وَالْقَضَاءَ بِهِ وَاجِبًا فَهَلاَّ عَارَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَقَالُوا: إنْ قَالَ الْعَبْدُ: لاَ أُؤَدِّي إِلاَّ دِرْهَمًا فِي سِتِّينَ سَنَةٍ وَقَالَ الْمُسْتَسْعَى لَهُ: "لاَ تُؤَدِّي إِلاَّ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ يَوْمِهِ", وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيُّونَ الْخَرَاجَ عَلَى الأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ فَرْضًا لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنُوا مَا هُوَ، وَلاَ مِقْدَارَهُ. وَكَمْ قِصَّةٍ قَالَ فِيهَا الشَّافِعِيُّونَ بِإِيجَابِ فَرْضٍ حَيْثُ لاَ يَحُدُّونَ مِقْدَارَهُ، كَقَوْلِهِمْ: الصَّلاَةُ تَبْطُلُ بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَلاَ تَبْطُلُ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ، فَهَذَا فَرْضٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَوْجَبُوا الْمُتْعَةَ فَرْضًا ثُمَّ لَمْ يَحُدُّوا فِيهَا حَدًّا، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/225)


والكتابة جائزة على المال
...
1686 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ عَلَى مَالٍ جَائِزٍ تَمَلُّكُهُ، وَعَلَى عَمَلٍ فِيهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَإِلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ حَالًّا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى نَجْمٍ وَنَجْمَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَكُنَّا قَبْلُ نَقُولُ: لاَ تَجُوزُ إِلاَّ عَلَى نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا حَتَّى وَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، هُوَ ابْنُ النُّعْمَانَ الظَّفَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلاً، وَفِيهِ فَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي، ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرًا وَفِيهِ: فَأَسْلَمْتُ وَشَغَلَنِي الرِّقُّ حَتَّى فَاتَتْنِي بَدْرٌ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَاتِبْ فَسَأَلْتُ صَاحِبِي ذَلِكَ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى كَاتَبَنِي عَلَى أَنْ أُحْيِيَ لَهُ ثَلاَثَمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ لِي: اذْهَبْ فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَضَعَهَا فَلاَ تَضَعْهَا حَتَّى تَأْتِيَنِي فَتُؤْذِنَنِي فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي أَضَعُهَا بِيَدِي قَالَ: فَقُمْت بِتَفْقِيرِي وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى فَقَرْتُ لَهَا سَرَبَهَا ثَلاَثَمِائَةِ سَرْبَةٍ، وَجَاءَ كُلُّ رَجُلٍ بِمَا أَعَانَنِي بِهِ مِنْ النَّخْلِ، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَضَعُهُ بِيَدِهِ وَيُسَوِّي عَلَيْهَا تُرَابَهَا وَيُبَرِّكُ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَةٌ، وَبَقِيَتْ الذَّهَبُ فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهَا مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمِسْكِينُ الْمُكَاتَبُ اُدْعُوهُ لِي فَدُعِيتُ فَجِئْتُ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذِهِ فَأَدِّهَا بِمَا عَلَيْكَ مِنْ الْمَالِ فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ مَا عَلَيْكَ مِنْ الْمَالِ قَالَ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ وَزَنْتُ لَهُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً حَتَّى أَوْفَيْتُهُ الَّذِي عَلَيَّ، قَالَ: فَأُعْتِقَ سَلْمَانُ، وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ، وَبَقِيَّةَ مَشَاهِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي: "لاَ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ إِلاَّ عَلَى نَجْمَيْنِ لِلأَتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهَا كَذَلِكَ".
قال أبو محمد: "لاَ حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ صِحَّةِ الْخَبَرِ", فإن قيل: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَسْلَمَ وَسَيِّدُهُ كَافِرٌ فَهُوَ حُرٌّ وَهَذَا سَلْمَانُ أَسْلَمَ وَسَيِّدُهُ كَافِرٌ وَلَمْ يُعْتَقْ بِذَلِكَ قلنا: لَمْ نَقُلْ بِهَذَا إِلاَّ لِعِتْقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسْلِمًا مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وَالطَّائِفُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِدَهْرٍ وَقِصَّةُ سَلْمَانَ مُوَافِقَةٌ لِمَعْهُودِ الأَصْلِ فَصَحَّ بِنُزُولِ الآيَةِ نَسْخُ جَوَازِ تَمَلُّكِ الْكَافِرِ لِلْمُؤْمِنِ وَبَقِيَ سَائِرُ الْخَبَرِ عَلَى مَا فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/226)


1687 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَبْلُغْ، لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "كِتَابَتُهُ جَائِزَةٌ"، وَهَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ غَيْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَلاَ يَجُوزُ عَمَلُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْوَصِيِّ غُلاَمَ يَتِيمِهِ وَلاَ مُكَاتَبَةُ الأَبِ غُلاَمَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لأََنَّهُ غَيْرُ الْمُخَاطَبِ فِي الآيَةِ وَلأََنَّهُ لَيْسَ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ إذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِ كَسْبِهِ بِغَيْرِ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ.

(9/227)


1688 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، فَإِذَا أَدَّى شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ فَقَدْ شَرَعَ فِيهِ الْعِتْقَ وَالْحُرِّيَّةَ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَبَقِيَ سَائِرُهُ مَمْلُوكًا، وَكَانَ لِمَا عَتَقَ مِنْهُ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحُدُودِ وَالْمَوَارِيثِ، وَالدِّيَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ حُكْمُ الْعَبِيدِ فِي الدِّيَاتِ، وَالْمَوَارِيثِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يَتِمَّ عِتْقُهُ بِتَمَامِ أَدَائِهِ. لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ خِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كِلاَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَدْرِ مَا أُعْتِقَ مِنْهُ، وَيَرِثُ بِقَدْرِ مَا أُعْتِقَ مِنْهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ هُوَ ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُكَاتَبِ يَقْتُلُ يُودِي مَا أَدَّى مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ، وَمِمَّا بَقِيَ دِيَةَ الْمَمْلُوكِ.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمٍ الْبَلْخِيّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ سُلَيْمَانُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ مُعَاذٌ وَالنَّضْرُ كِلاَهُمَا يَقُولُ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يُودِي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ وَبِقَدْرِ مَا رُقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ".وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام قَالَ: يُودِي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَهَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ لاَ يَضُرُّهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ، بَلْ هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ، لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ الأَثْبَاتِ.وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا عَيْبُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ لَهُ بِأَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ أَرْسَلَهُ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَأَنَّ ابْنَ عُلَيَّةَ رَوَاهُ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ

(9/227)


عَلِيٍّ أَنَّهُ قَال: يُودِي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى فَأَوْقَفَهُ عَلَى عَلِيٍّ.
قال أبو محمد: أَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا يَكُونُ الْحَنَفِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ عِنْدَ كُلِّ كَلِمَةٍ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ وَلاَ فَرْقَ فَإِذَا وَجَدُوا مُسْنَدًا يُخَالِفُ هَوَى أَبِي حَنِيفَةَ وَرَأْيَ مَالِكٍ: جَعَلُوا إرْسَالَ مَنْ أَرْسَلَهُ عَيْبًا يَسْقُطُ بِهِ إسْنَادُ مَنْ أَسْنَدَهُ، وَيَكُونُ الشَّافِعِيُّونَ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الْمُسْنَدَ لاَ يَضُرُّهُ إرْسَالُ مَنْ أَرْسَلَهُ، فَإِذَا وَجَدُوا مَا يُخَالِفُ رَأْيَ صَاحِبِهِمْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ أَشَدَّ الضَّرَرِ أَيَرَوْنَ اللَّهَ غَافِلاً عَنْ هَذَا الْعَمَلِ فِي الدِّينِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَقَتَادَةُ عَنْ خِلاَسٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ حَمَّادٍ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ فَكَيْفَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ كِلاَهُمَا عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُكَاتَبًا قُتِلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُودِيَ مَا أَدَّى دِيَةَ الْحُرِّ وَمَا لاَ دِيَةَ الْمَمْلُوكِ.وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ إيقَافِ ابْنِ عُلَيَّةَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ فَهُوَ قُوَّةٌ لِلْخَبَرِ، لأََنَّهُ فُتْيَا مِنْ عَلِيٍّ بِمَا رَوَى، وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لِمَنْ وَقَعَ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَسْنَدَ الْخَبَرَ، عَنْ مِثْلِهِ، وَأَوْقَفَهُ آخَرُ، أَوْ أَرْسَلَهُ آخَرُ: أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا لاَ يُوجِبُهُ نَصٌّ وَلاَ نَظَرٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَالْبُرْهَانُ قَدْ صَحَّ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ لِلْمُسْنَدِ دُونَ شَرْطٍ، فَبَطَلَ مَا عَدَا هَذَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَقَالُوا: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ غَرِيمٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدُّ الْمُكَاتَبِ حَدُّ الْمَمْلُوكِ، وَهَذَا تَرْكٌ مِنْهُمَا لِمَا رَوَيَا.
قال أبو محمد: فَقُلْنَا: هَبْكَ أَنَّهُمَا تَرَكَا مَا رَوَيَا، فَكَانَ مَاذَا إنَّمَا الْحُجَّةُ فِيمَا رَوَيَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ فِي قَوْلِهِمَا وَقَدْ أَفْرَدْنَا جُزْءًا ضَخْمًا لِمَا تَنَاقَضُوا فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ هَذَا الأَخْتِلاَفُ يُوجِبُ عِنْدَهُمْ الْوَهَنَ فِيمَا رَوَيَا، فَانْفَصَلُوا مِمَّنْ عَكَسَ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ ذَلِكَ يُوجِبُ الْوَهَنَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِمَّا هُوَ خِلاَفٌ لِمَا رَوَيَا وَحَاشَا لَهُمَا مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَكَيْفَ وَقَدْ يَتَأَوَّلُ الرَّاوِي فِيمَا رَوَى وَقَدْ يَنْسَاهُ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا، عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفٌ لِمَا رَوَيَاهُ. أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ: إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ غَرِيمٌ، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِلْمَشْهُورِ عَنْهُ مِنْ تَوْرِيثِ مَنْ بَعْضَهُ حُرٌّ بِمَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ

(9/228)


وَلاَ لِمَا رُوِيَ مِنْ حُكْمِ الْمُكَاتَبِ لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ لَيْسَ بَاقِيهِ عَبْدًا، وَلاَ قَالَ فِيهِ: لَيْسَ مَا قَابَلَ مَا أَدَّى حُرًّا، لَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَعْجِزُ، لَكِنْ يُتْبَعُ بِبَاقِي الْكِتَابَةِ فَقَطْ، فَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا لِمَا رَوَى. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدُّ الْمُكَاتَبِ حَدُّ مَمْلُوكٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ وَمَا قَابَلَ مِنْهُ إذَا أَدَّى الْبَعْضَ مَا لَمْ يُؤَدِّ فَهَذَا صَحِيحٌ، وَبِهِ نَقُولُ فَبَطَلَ هَذْرُهُمْ، وَدَعْوَاهُمْ الْكَاذِبَةُ أَنَّهُمَا رضي الله عنهما خَالَفَا مَا رَوَيَا، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَدْحٌ فِي الْخَبَرِ.
وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَجَابِرٍ: وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلاَ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ لأََنَّهُ، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ هَالِكٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ وَهُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ ثُمَّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ مُرْسَلٌ.وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ عُمَرَ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَاَلَّتِي عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَنْدَلٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَهُوَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ صَحَّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَالأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُكَاتَبُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ: صَحَّ ذَلِكَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ حُرٌّ سَاعَةَ الْعَقْدِ بِالْكِتَابَةِ. وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ إسْنَادًا إلَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا أَدَّى نِصْفَ مُكَاتَبَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ, رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ الشَّطْرَ فَهُوَ غَرِيمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَفْسِهِ قَالَ عُمَرُ: إذَا أَدَّى الشَّطْرَ فَلاَ رِقَّ عَلَيْهِ.وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا قَوْلَ عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُمَا إسْنَادَانِ جَيِّدَانِ, وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ: إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ النِّصْفَ فَلاَ رِقَّ عَلَيْهِ وَهُوَ غَرِيمٌ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ الثُّلُثَ فَهُوَ غَرِيمٌ: رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ ثُلُثَ كِتَابَتِهِ

(9/229)


فَهُوَ غَرِيمٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا أَدَّى الرُّبُعَ فَهُوَ غَرِيمٌ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ كَانَ يُقَالُ: إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ الرُّبُعَ فَهُوَ غَرِيمٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا أَدَّى ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ غَرِيمٌ رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ مِنْ رَأْيِهِ قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا أَدَّى قِيمَتَهُ فَهُوَ غَرِيمٌ رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: قَوْلُ شُرَيْحٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ قِيمَتَهُ فَهُوَ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ.
قال أبو محمد: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ، لأََنَّ الشَّعْبِيَّ صَحِبَ شُرَيْحًا، وَشُرَيْحٌ صَحِبَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا رُوِيَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا إذَا أَدَّى نِصْفَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ غَرِيمٌ لأََنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَلاَ يَتَمَانَعَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَرَى إنْ أَدَّى الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ غَرِيمٌ، أَيَّهُمَا أَدَّى فَهُوَ غَرِيمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنِ النَّخَعِيِّ إذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ ثَمَنَ رَقَبَتِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِقُّوهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا بَقِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ خَمْسُ أَوَاقٍ أَوْ خَمْسُ ذَوْدٍ أَوْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَهُوَ غَرِيمٌ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ضَعِيفٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِمِثْلِ قَوْلِنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَلِيٍّ يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمُكَاتَبِ: يُعْتَقُ بِالْحِسَابِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: تُجْزِي الْعَتَاقَةُ فِي الْمُكَاتَبِ مِنْ أَوَّلِ نَجْمٍ.
قال أبو محمد: وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ لاَ نَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا كُلَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إنْ لَمْ تَكُنْ أَقْوَى مِنْ تَحْدِيدِ مَالِكٍ مَا أَبَاحَ لِذَاتِ الزَّوْجِ الصَّدَقَةَ بِهِ، وَمَا أَسْقَطَ مِنْ الْجَائِحَةِ، وَمَا لَمْ يُسْقِطْ وَمِنْ تَحْدِيدِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ مِمَّا يَنْكَشِفُ مِنْ رَأْسِ الْحُرَّةِ أَوْ مِنْ بَطْنِهَا أَوْ مِنْ فَخِذِهَا مِنْ رُبُعِ كُلِّ ذَلِكَ. وَمِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ لَهَا " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَلَيْسَتْ أَضْعَفَ بَلْ لِهَذِهِ مَزِيَّةٌ لأََنَّ أَكْثَرَهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، إِلاَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْن

(9/230)


شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ" .وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ رَاوِي الْكَذِبِ عَنْ مُوسَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنَ يُونُسَ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ" . وَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ، لَمْ يُعْرَفْ قَطُّ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلاَ مِنْ أَحْمَدَ بْنَ يُونُسَ وَلاَ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ وَلاَ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرٍ وَلاَ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ وَلاَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، إنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَأَحَادِيثُ هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ، وَلاَ نَدْرِي مَنْ مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا أَيْضًا وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَصَحِيفَةٌ، عَلَى أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ. قَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إِلاَّ عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ، وَأَيُّمَا عَبْدٌ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ" وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَنْ كَاتَبَ مُكَاتَبًا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَاهَا إِلاَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ عَبْدٌ، أَوْ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَقَضَاهَا إِلاَّ أُوقِيَّةً فَهُوَ عَبْدٌ. عَطَاءٌ هَذَا الْخُرَاسَانِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ شَيْئًا، وَلاَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ مِنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يُعَلِّلُ خَبَرَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ بِأَنَّهُ اضْطَرَبَ فِيهِ وَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا كَمَا تَرَى.
فَإِنْ قَالُوا: هُوَ قَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَهْتِكَ سِتْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدُخُولِ مَنْ لاَ يَحِلُّ دُخُولُهُ عَلَى أَزْوَاجِه قلنا: صَدَقْتُمْ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِنَّ دُخُولَ الأَحْرَارِ عَلَيْهِنَّ فَقَطْ، وَالْمُكَاتَبُ مَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا فَهُوَ عَبْدٌ، وَمَا دَامَ يَبْقَى عَلَيْهِ فَلْسٌ فَلَيْسَ حُرًّا، لَكِنَّ بَعْضَهُ حُرٌّ وَبَعْضَهُ عَبْدٌ، وَلَمْ يُنْهَيْنَ قَطُّ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
فإن قيل: هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ قلنا: فَكَانَ مَاذَا وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفْتُمْ فِيهَا الْجُمْهُورَ نَعَمْ وَأَتَيْتُمْ بِقَوْلٍ لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَهُ قَبْلُ مَنْ قَلَّدْتُمُوهُ دِينَكُمْ. وَهَذَا الشَّافِعِيُّ خَالَفَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ فِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ، وَفِي تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ، وَفِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ بِمَا يَمُوتُ فِيهِ مِنْ الذُّبَابِ، وَفِي نَجَاسَةِ الشَّعْرِ وَفِي أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ قَضِيَّةٍ. وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ خَالَفَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. وَخَالَفَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْخُلْطَةَ لاَ تُغَيِّرُ الزَّكَاةَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. وَخَالَفَ فِي وَضْعِهِ فِي الذَّهَبِ أَوْقَاصًا جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَفِي أَزْيَدَ مِنْ أَلْفِ قَضِيَّةٍ. وَهَذَا مَالِكٌ خَالَفَ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ: وَفِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ

(9/231)


تُفْطِرَانِ. وَفِي أَنَّ الْعُمْرَةَ تَطَوُّعٌ وَفِي مِئِينَ مِنْ الْقَضَايَا، فَالآنَ صَارَ أَكْثَرُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ وَلاَ يَبْلُغُونَ عَشَرَةً حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا وَقَدْ خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ نُظَرَائِهِمْ, وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا رِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَحَدِيثِهِ لاَ يَجُوزُ لأَمْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا، وَلاَ عَطِيَّةٌ إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا، وَأَنَّ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَا شَاةٍ، وَفِي إحْرَاقِ رَحْلِ الْغَالِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَعِبٌ وَعَبَثٌ فِي الدِّينِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَانَ عَبْدًا فَهُوَ كَذَلِكَ فَقُلْنَا: نَعَمْ مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِخِلاَفِ هَذَا، وَبِشُرُوعِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِبَيْعِ بَرِيرَةَ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَلَمْ تَكُنْ أَدَّتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ وَبِهَذَا نَقُولُ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ وَصَحَّ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا.

(9/232)


1689 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ مَمْلُوكَيْنِ مَعًا كِتَابَةً وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ أَوْ ذَوَيْ رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ . برهان ذَلِكَ. أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ لاَ يُدْرَى مَا يَلْزَمُ مِنْهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُمْ وَهَذَا بَاطِلٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لاَ يُعْتَقَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ إِلاَّ بِأَدَاءِ الآخَرِ، وَعِتْقُهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فَصَحَّ أَنَّهُ عَقْدٌ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فَلاَ يَجُوزُ وَلاَ يَقَعُ بِهِ عِتْقٌ أَصْلاً أَدَّيَا أَوْ لَمْ يُؤَدِّيَا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.

(9/232)


وبيع المكاتب والمكاتب ما لم يؤديا
...
1690 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّيَا شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِمَا جَائِزٌ مَتَى شَاءَ السَّيِّدُ وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْمُكَاتَبَةِ جَائِزٌ مَا لَمْ تُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا، فَإِنْ حَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ فَهِيَ عَلَى مُكَاتَبَتِهَا فَإِذَا بِيعَ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِهِ فَلاَ كِتَابَةَ لَهُمَا إِلاَّ بِعَقْدٍ مُحَدَّدٍ إنْ طَلَبَهُ الْعَبْدُ أَوْ الأَمَةُ فَإِنْ َدَّيَا شَيْئًا مِنْ الْكِتَابَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَرُمَ وَطْؤُهَا جُمْلَةً وَجَازَ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُؤَدِّيَا. فَإِنْ بَاعَ ذَلِكَ الْجُزْءَ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فِيهِ خَاصَّةً وَصَحَّ الْعِتْقُ فِيمَا قَابَلَ مِنْهُمَا مَا أَدَّيَا، فَإِنْ عَادَ الْجُزْءُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ يَوْمًا مَا لَمْ تَعُدْ فِيهِ الْكِتَابَةُ، وَلاَ الرُّجُوعُ فِي الْكِتَابَةِ أَصْلاً، بِغَيْرِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِلْكِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ السَّيِّدُ فَإِنَّ مَا قَابَلَ مِمَّا أَدَّيَا حُرٌّ وَمَا بَقِيَ رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ قَدْ بَطَلَتْ فِيهِ الْكِتَابَةُ فَإِنْ كَانَا لَمْ يَكُونَا أَدَّيَا شَيْئًا بَعْدُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ كُلُّهَا وَهُمَا رَقِيقٌ لِلْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَمْ يَكُونَا أَدَّيَا شَيْئًا، فَقَدْ مَاتَا مَمْلُوكَيْنِ وَمَالُهُمَا كُلُّهُ لِلسَّيِّدِ فَإِنْ كَانَا قَدْ أَدَّيَا مِنْ الْكِتَابَةِ فَمَا قَابَلَ مِنْهُمَا مَا أَدَّيَا فَهُوَ حُرٌّ وَيَكُونُ مَا قَابَلَ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِمَّا تَرَكَا مِيرَاثًا لِلأَحْرَارِ مِنْ وَرَثَتِهِمَا وَيَكُونُ مَا قَابَلَ مَا لَمْ يُؤَدِّيَا مِمَّا تَرَكَا لِلسَّيِّدِ وَقَدْ بَطَلَ بَاقِي الْكِتَابَةِ وَمَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا إلَى أَنْ يَتِمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ

(9/232)


ولا تحل الكتابة على الشرط خدمة فقط
...
1691 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ الْكِتَابَةُ عَلَى شَرْطِ خِدْمَةٍ فَقَطْ، وَلاَ عَلَى عَمَلٍ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلاَ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ أَصْلاً، وَالْكِتَابَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ".

(9/241)


ومن كوتب الى غير أجل مسمى فهو على كتابة
...
1692 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كُوتِبَ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ مَا عَاشَ السَّيِّدُ [ وَهُوَ ] وَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ السَّيِّدِ فَمَتَى أَدَّى مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ عَتَقَ، لأََنَّ هَذِهِ صِفَةُ كِتَابَتِهِ وَعَقْدِهِ فَلاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ وَمَنْ كُوتِبَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى نَجْمٍ وَاحِدٍ أَوْ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا، فَحَلَّ وَقْتُ النَّجْمِ وَلَمْ يُؤَدِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الْمُكَاتَبِ يُؤَدِّي صَدْرًا مِنْ كِتَابَتِهِ ثُمَّ يَعْجِزُ قَالَ: يُرَدُّ عَبْدًا سَيِّدُهُ أَحَقُّ بِشَرْطِهِ الَّذِي شَرَطَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ. يَعْنِي أَنَّهُ رَدَّ مُكَاتَبًا لَهُ فِي الرِّقِّ، إذْ عَجَزَ بَعْدَ أَنْ أَدَّى نِصْفَ كِتَابَتِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَأَدْخَلَ نَجْمًا فِي نَجْمٍ رُدَّ فِي الرِّقِّ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَاتَبَ أَفْلَحَ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَسَأَلَهُ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ دُونَ أَنْ يَعْجِزَ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ بَتْلاً. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَقَالَ هَؤُلاَءِ: تَعْجِيزُ الْمُكَاتَبِ جَائِزٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ دُونَ السُّلْطَانِ إِلاَّ أَنَّ لِمَالِكٍ قَوْلاً، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّعْجِيزُ إِلاَّ بِحُكْمِ السُّلْطَانِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَعْجِيزِهِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خَلاَصِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ اسْتَسْعَى حَوْلَيْنِ زَادَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فَإِنْ أَدَّى وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَلَمْ يَقُلْ جَابِرٌ وَلاَ ابْنُ عُمَرَ بِالتَّلَوُّمِ، بَلْ أَرَقَّهُ ابْنُ عُمَرَ سَاعَةَ ذَكَرَ أَنَّهُ عَجَزَ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُنَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ يَعْجِزُ: إنَّهُ يُعْتَقُ بِالْحِسَابِ يَعْنِي بِحِسَابِ مَا أَدَّى. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يُرَقُّ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ لاَ يُؤَدِّيهِمَا. وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: إذَا عَجَزَ اُسْتُوْفِيَ بِهِ شَهْرَانِ. وقال أبو حنيفة وَالشَّافِعِيُّ: إذَا عَجَزَ اسْتَوْفَى بِهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ ثُمَّ يُرَقُّ وقال مالك: يَتَلَوَّمُ لَهُ السُّلْطَانُ بِقَدْرِ مَا يَرَى.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:

(9/241)


قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ اسْتَسْعَى وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَشُرَيْحٍ إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَلاَ رِقَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَرِيمٌ وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْهُمْ وَقَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إذَا أَدَّى ثُلُثَ كِتَابَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ. وَقَوْلَ إبْرَاهِيمَ إذَا أَدَّى رُبُعَ كِتَابَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ. وَقَوْلَ عَطَاءٍ: إذَا أَدَّى ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِ كِتَابَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ. وَقَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ إذَا أَدَّى قِيمَتَهُ فَهُوَ غَرِيمٌ وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْهُمَا.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ حُجَّةً، وَأَعْجَبُهَا قَوْلُ مَنْ حَدَّ التَّلَوُّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ بِشَهْرَيْنِ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ أَفَرَأَيْت إنْ لَمْ يَتَلَوَّمْ لَهُ السُّلْطَانُ إِلاَّ سَاعَةً، إذْ رَأَى أَنْ يَتَلَوَّمَ لَهُ خَمْسِينَ عَامًا.ثم نقول لِجَمِيعِهِمْ: لاَ تَخْلُو الْكِتَابَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ دَيْنًا لاَزِمًا، أَوْ تَكُونَ عِتْقًا بِصِفَةٍ لاَ دَيْنًا وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ أَصْلاً لاَ فِي الدِّيَانَةِ، وَلاَ فِي الْمَعْقُولِ, فَإِنْ كَانَتْ عِتْقًا بِصِفَةٍ فَالْوَاجِبُ أَنَّهُ سَاعَةَ يَحِلُّ الأَجَلُ فَلاَ يُؤَدِّيهِ، فَلَمْ يَأْتِ بِالصِّفَةِ الَّتِي لاَ عِتْقَ لَهُ إِلاَّ بِهَا فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُهُ وَلاَ عِتْقَ لَهُ وَلاَ يَجُوزُ التَّلَوُّمُ عَلَيْهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ كَمَنْ قَالَ لِغُلاَمِهِ: إنْ قَدِمَ أَبِي يَوْمِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَدِمَ أَبُوهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلاَ عِتْقَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ تَنَاقَضُوا أَقْبَحَ تَنَاقُضٍ، وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا. فَصَحَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ عِتْقًا بِصِفَةٍ أَوْ يَكُونَ دَيْنًا وَاجِبًا، فَلاَ سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ.كَمَا رُوِّينَا عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ. فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ بِشُرُوعِ الْعِتْقِ فِيهِ بِقَدْرِ مَا أَدَّى. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهَا دَيْنٌ وَاجِبٌ يَسْقُطُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَأَنَّهُ لَيْسَ عِتْقًا بِصِفَةٍ أَصْلاً لأََنَّ أَدَاءَ بَعْضِ الْكِتَابَةِ لَيْسَ هُوَ الصِّفَةَ الَّتِي تَعَاقَدَا الْعِتْقَ عَلَيْهَا، فَإِذْ هِيَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالْقَوْلِ أَصْلاً وَوَجَبَتْ النَّظِرَةُ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَلاَ بُدَّ. فإن قيل: فَإِذْ هِيَ دَيْنٌ كَمَا تَقُولُ فَهَلاَّ حَكَمْتُمْ بِهِ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ السَّيِّدُ، أَوْ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ كَمَا حَكَمْتُمْ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ قلنا: لَمْ نَفْعَلْ، لأََنَّ ذَلِكَ لَيْسَ دَيْنًا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا هُوَ دَيْنٌ يَصِحُّ بِثَبَاتِ الْمِلْكِ، وَيَبْطُلُ بِبُطْلاَنِ الْمِلْكِ، لأََنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ لِلسَّيِّدِ بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِأَدَائِهِ حُرًّا فَقَطْ بِهَذَا جَاءَ الْقُرْآنُ، وَفَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ فَقَدْ بَطَلَ وُجُودُ الْمُعْتِقِ، فَبَطَلَ الشَّرْطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ، عَنِ الْعَبْدِ، إذْ لاَ سَبِيلَ إلَى تَمَامِهِ أَبَدًا. وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ بَطَلَ وُجُودُهُ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ الْعِتْقِ، فَبَطَلَ دَيْنُ السَّيِّدِ، إذْ لاَ سَبِيلَ إلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الدَّيْنَ إِلاَّ بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ

(9/242)


أَيْضًا قَدْ بَطَلَ عِتْقُهُ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ، فَبَطَلَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ مِمَّا لاَ يَجِبُ لَهُ إِلاَّ بِمَا قَدْ بَطَلَ وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/243)


1693 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَصِحُّ الْكِتَابَةُ إِلاَّ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ هَذَا الْعَدَدَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَكْثَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ.برهان ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ عِتْقًا إِلاَّ حَتَّى يَلْفِظَ سَيِّدُهُ لَهُ بِالْعِتْقِ، وَإِلَّا فَلاَ، لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ وَلاَ إجْمَاعٌ.

(9/243)


ولا تجوز الكتابة على المجهول عددا أو صفة
...
1964 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى مَجْهُولِ الْعَدَدِ وَلاَ عَلَى مَجْهُولِ الصِّفَةِ وَلاَ بِمَا لاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ يَصِحُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِتْقٌ أَصْلاً وَلاَ بِكِتَابَةٍ فَاسِدَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَرَرٌ مُحَرَّمٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ" وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي تَمْيِيزٍ صَحِيحٍ أَنَّ مَا عَقَدَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ فَلاَ صِحَّةَ لَهُ, وقال الشافعي: الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ تُفْسَخُ مَا لَمْ يُؤَدِّهَا فَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ.
قال أبو محمد: هَذَا عَيْنُ الْفَسَادِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ الْبَاطِلُ بِتَمَامِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ" وقال مالك: إذَا عُقِدَتْ الْكِتَابَةُ بِشَرْطٍ فَاسِدٍ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّتْ الْكِتَابَةُ.
قال علي: هذا غَايَةُ الْخَطَأِ، لأََنَّهُ يُلْزِمُهُمَا عَقْدًا لَمْ يَلْتَزِمَاهُ قَطُّ وَلاَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْزَامِهِمَا إيَّاهُ وَإِنَّمَا تَرَاضَيَا الْكِتَابَةَ بِهَذَا الشَّرْطِ وَإِلَّا فَلاَ كِتَابَةَ بَيْنَهُمَا فأما أَنْ يَصِحَّ شَرْطُهُمَا فَتَصِحَّ كِتَابَتُهُمَا وَأَمَّا أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ فَلاَ كِتَابَةَ هَاهُنَا أَصْلاً. وقال أبو حنيفة: مَنْ كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ أَوْ عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ عَلَى مَا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِقْدَارٌ فَهِيَ كِتَابَةُ بَاطِلٍ وَلاَ عِتْقَ لَهُ وَإِنْ أَدَّى وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى خَمْرٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ مَوْصُوفٍ، فَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَوْلاَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا سُمِعَ بِأَنْتَنَ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلاَ بِأَفْسَدَ مِنْهُ، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلاَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُسَمِّيَا ذَلِكَ الثَّمَنَ وَلاَ عَرَفَاهُ، فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ وَهِيَ مَعَهُ وَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ. وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ هَاهُنَا أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِهِمْ لأََنَّهُمْ قَالُوا: الْعُقُودُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ جَائِزَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَقَدْ أَنْزَلُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ لَمْ يُنْزِلْهُمْ مِنْ الأَئْتِسَاءِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ الْكُفَّارِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَهْلَ الْكُفْرِ أُسْوَةً وَلاَ قُدْوَةً وَإِنَّ فِي هَذِهِ لِدَلاَئِلَ سُوءٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ فَكَيْفَ وَمَا أَحَلَّ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُذْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ سَلَفًا وَلاَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِشَيْءٍ.

(9/243)


1695 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ بِمَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ إذَا حَلَّ مِلْكُهُ، كَالْكَلْبِ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالْمَاءِ وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، وَالسُّنْبُلِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ، لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا مَالٌ حَلاَلٌ تَمَلُّكُهُ وَهِبَتُهُ وَإِصْدَاقُهُ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ بَيْعًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/244)


1696 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَنْتَزِعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ مُكَاتَبِهِ مُذْ يُكَاتِبُهُ، فَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ، أَوْ بَاعَ مِنْهُ مَا قَابَلَ مَا لَمْ يُؤَدِّ: فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ إذَا بَاعَهُ كُلَّهُ وَأَمَّا فِي بَيْعِ بَعْضِهِ فَمَالُهُ لَهُ وَمَعَهُ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ زِيَادٍ الأَعْلَمِ، وَقَيْسٍ قَالَ زِيَادٌ: عَنِ الْحَسَنِ وَقَالَ قَيْسٌ: عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ اتَّفَقَا جَمِيعًا: أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَاتَبَهُ مَوْلاَهُ وَلَهُ مَالٌ وَسُرِّيَّةٌ وَوَلَدٌ: أَنَّ مَالَهُ لَهُ وَسُرِّيَّتَهُ لَهُ وَوَلَدُهُ أَحْرَارٌ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا عَتَقَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا: مَالِكٌ وَأَبُو سُلَيْمَانَ.وقال أبو حنيفة: مَالُهُ لِسَيِّدِهِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمَالُ لِلسَّيِّدِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُكَاتَبُ وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: مَا عَرَفَهُ السَّيِّدُ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ فَهُوَ لِلْعَبْدِ، وَمَا لَمْ يَعْرِفْهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ.
قال أبو محمد: مَالُ الْعَبْدِ لَهُ وَجَائِزٌ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهُ بِالنَّصِّ فَإِذَا كُوتِبَ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ كَسْبَهُ لَهُ لاَ لِلسَّيِّدِ وَلَوْ كَانَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهُ لَمْ يَتِمَّ عِتْقُهُ أَبَدًا فَصَحَّ أَنَّ حَالَ الْكِتَابَةِ غَيْرُ حَالِهِ قَبْلَهَا، وَكَانَ مَالُهُ كُلُّهُ حُكْمًا وَاحِدًا فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهُ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ نَصٌّ.

(9/244)


وولد العبد له وجائز للسيد انتزاعه بالنص
...
1697 - مَسْأَلَةٌ: وَوَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ حُرٌّ وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ أَوْ يُعْتِقَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُكَاتَبًا مِنْ غَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/244)


1698 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا حَلَّ النَّجْمُ، أَوْ الْكِتَابَةُ وَوَجَبَتْ، فَضَمَانُهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ جَائِز وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ لأََنَّهُ مَالٌ قَدْ صَحَّ وُجُوبُهُ لِلسَّيِّدِ وَهُوَ دَيْنٌ لاَزِمٌ، فَضَمَانُهُ جَائِزٌ. وَلَوْ بِيعَ مِنْ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُؤَدِّ كَانَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ دَيْنًا يُتْبَعُ بِهِ وَأَمَّا قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ فَلاَ، لأََنَّهُ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ وَلَعَلَّهُ يَمُوتَ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَوْ يَمُوتُ السَّيِّدُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ.

(9/244)


1699 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ مُقَاطَعَةُ الْمُكَاتَبِ، وَلاَ أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ بِشَرْطِ أَنْ يُعَجِّلَ لأََنَّهُمَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْعُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَمَا لاَ يَدْرِي أَهُوَ فِي الْعَالَمِ أَمْ لاَ وقال مالك: وَأَبُو حَنِيفَةَ: مُقَاطَعَةُ الْمُكَاتَبِ جَائِزَةٌ بِبَعْضِ مَا عَلَيْهِ وَبِالْعُرُوضِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مُقَاطَعَتُهُ إِلاَّ بِالْعُرُوضِ فَخَالَفَا ابْنَ عُمَرَ وَلاَ يُعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وقال الشافعي: بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي نَصٍّ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَبِهِ نَتَأَيَّدُ.

(9/244)


1700 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ بَعْضِ عَبْدٍ، وَلاَ كِتَابَةُ شِقْصٍ لَهُ فِي عَبْدٍ مَعَ

(9/244)


واذا مانت الكتابة نجمين فصاعدا أو الى أجل
...
1701 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ، فَأَرَادَ الْعَبْدُ تَعْجِيلَهَا كُلَّهَا أَوْ تَعْجِيلَ بَعْضِهَا قَبْلَ أَجَلِهِ لَمْ يَلْزَمْ السَّيِّدَ قَبُولُ ذَلِكَ وَلاَ عِتْقَ الْعَبْدِ وَهِيَ إلَى أَجَلِهَا وَكُلُّ نَجْمٍ مِنْهَا إلَى أَجَلِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ مَنْ خَالَفَنَا عَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ.وقال مالك: يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِ ذَلِكَ وَتَعْجِيلِ الْعِتْقِ لِلْمُكَاتَبِ. وقال الشافعي: إنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى قَبُولِهَا وَإِنْ كَانَتْ عُرُوضًا لَمْ يُجْبَرْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَتَقْسِيمٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ سُنَّةٍ وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ وَلاَ قِيَاسٍ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ. وَقَدْ يَكُونُ لِلسَّيِّدِ غَرَضٌ فِي تَأْجِيلِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ خَوْفٍ لَحِقَهُ أَوْ رَجَاءِ ارْتِفَاعِ سِعْرٍ لِدَيْنِهِ مِنْهُمَا، كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ أَوْهَمُوا أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا الْوَزَّانُ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْد بْنِ مَنْجُوفٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَاتَبَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا، فَكُنْت فِي مِفْتَحِ تُسْتَرَ فَاشْتَرَيْت رَثَّةً فَرَبِحْت فِيهَا، فَأَتَيْت أَنَسًا بِجَمِيعِ مُكَاتَبَتِي فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا إِلاَّ نُجُومًا فَأَتَيْت عُمَرَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَرَادَ أَنَسٌ الْمِيرَاثَ وَكَتَبَ إلَى أَنَسٍ: أَنْ اقْبَلْهَا، فَقَبِلَهَا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ وَسَائِرُهَا مُنْقَطِعٌ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كِتَابَتِهِ أَتَاهُ الْعَبْدُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَأَبَى الْحَارِثُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَقَالَ: لِي شَرْطِي، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: هَلُمَّ الْمَالَ فَاجْعَلْهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَتُعْطِيه مِنْهُ فِي كُلِّ حِلٍّ مَا يَحِلُّ، فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ.
قال أبو محمد: هَذَا عَجِيبٌ جِدًّا إذْ رَأَى عُمَرُ، وَعُثْمَانُ إجَابَةَ السَّيِّدِ إلَى كِتَابَةِ عَبْدِهِ إذَا طَلَبَهَا الْعَبْدُ، وَخَالَفَهُ أَنَسٌ وَاحْتَجَّ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ بِالْقُرْآنِ كَانَ قَوْلُ أَنَسٍ حُجَّةً وَكَانَ قَوْلُ عُمَرَ

(9/245)


وَعُثْمَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِذَا وَافَقَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَأْيَ مَالِكٍ، خَالَفَهُمَا أَنَسٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَهُمَا صَاحِبَانِ، وَالْقُرْآنُ: صَارَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ حُجَّةً، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَنَسٍ حُجَّةً إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ". فَإِنْ مَوَّهُوا بِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْعِتْقِ قلنا: أَيْنَ كُنْتُمْ، عَنْ هَذَا التَّعْظِيمِ إذْ لَمْ تُوجِبُوا الْكِتَابَةَ فَرْضًا لِعِتْقِ الْعَبْدِ إذَا طَلَبَهَا وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ ذَلِكَ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا. وَأَيْنَ كُنْتُمْ عَنْ هَذَا التَّعْظِيمِ إذْ رَدَدْتُمْ الْمُكَاتَبَ رَقِيقًا مِنْ أَجْلِ دِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ بَقِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَبَادَرْتُمْ وَأَبْطَلْتُمْ كُلَّ مَا أَعْطَى وَلَمْ تُؤَجِّلُوهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَبَعْضُكُمْ أَيْضًا أَمْرًا يَسِيرًا وَأَنْتُمْ بِزَعْمِكُمْ أَصْحَابُ نَظَرٍ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ طَلَبِ الْعَبْدِ تَعْجِيلَ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِ لِيَتَعَجَّلَ الْعِتْقَ وَالسَّيِّدُ يَأْبَى إِلاَّ شَرْطَهُ الْجَائِزَ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ فَتُجْبِرُونَ السَّيِّدَ عَلَى مَا لاَ يُرِيدُ وَبَيْنَ أَنْ يُرِيدَ السَّيِّدُ تَعْجِيلَ الْكِتَابَةِ كُلِّهَا لِيَتَعَجَّلَ عِتْقُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَأْبَى إِلاَّ الْجَرْيَ عَلَى نُجُومِهِ فَلاَ تُجْبِرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ فِي التَّخَاذُلِ وَالتَّحَكُّمِ بِالْبَاطِلِ وَالْمُنَاقَضَةِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.

(9/246)


وفرض على السيدد أن يعطى المكاتب ما لا من عند بفسه
...
1702 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُكَاتَبَ مَالاً مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِمَّا يُسَمَّى مَالاً فِي أَوَّلِ عَقْدٍ لِلْكِتَابَةِ وَيُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ كُلِّفَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعَ الْغُرَمَاءِ. برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَهَذَا أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَنَاقَضَ فَرَأَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا عَلَى النَّدْبِ وَرَأَى وَقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} عَلَى الْوُجُوبِ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ لَمْ يَجِدْ فِيهِ عَدَدًا مَا أَحَدُهُمَا: مَوْكُولٌ إلَى السَّيِّدِ، وَالآخَرُ مَوْكُولٌ إلَيْهِ وَإِلَى الْعَبْدِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا لاَ حَيْفَ فِيهِ وَلاَ مَشَقَّةَ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِمَا. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ: كِلاَ الأَمْرَيْنِ نَدْبٌ قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أَمْرٌ لِلسَّيِّدِ وَلِغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: هَذَا خَطَأٌ. أَمَّا قَوْلُهُمْ " كِلاَ الأَمْرَيْنِ نَدْبٌ " فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى افْعَلُوا عَلَى لاَ تَفْعَلُوا إنْ شِئْتُمْ وَلاَ يَفْهَمُ هَذَا الْمَعْنَى أَحَدٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَهَذِهِ إحَالَةٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مَوَاضِعِهِ إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ وَرَدَ بِذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " إنَّهُ أَمْرٌ لِلسَّيِّدِ وَغَيْرِهِ " فَبَاطِلٌ لأََنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ} فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِالْكِتَابَةِ لَهُمْهُمْ الْمَأْمُورُونَ بِإِتْيَانِهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ لاَ يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الأَمْرِ غَيْرَ هَذَا فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَتَحَكُّمُهُمْ بِالدَّعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ أَنَّهُ حَثَّ عَلَيْهِ السَّيِّدَ وَغَيْرَهُ عَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا الْحَسَنُ بْنُ وَاقِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ

(9/246)


طَائِفَةٌأَمَرَ بِذَلِكَ السَّيِّدَ وَغَيْرَهُ، فَهَؤُلاَءِ رَأَوْهُ وَاجِبًا. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ وَالْمُغِيرَةِ، قَالَ يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ اتَّفَقَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْلاَهُ وَالنَّاسَ أَنْ يُعِينُوا الْمُكَاتَبَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَشَهِدْته كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ فَحَطَّ عَنْهُ أَلْفًا فِي آخِرِ نُجُومِهِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} الرُّبُعَ مِمَّا تُكَاتِبُوهُمْ عَلَيْهِ.وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَة وَرُوِّينَا أَيْضًا فِي أَنَّهُ عُشْرُ الْكِتَابَةِ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: هُوَ الْعُشْرُ يُتْرَكُ لَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شَبِيبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَاتَبَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَيَّةَ، فَجَاءَهُ بِنَجْمِهِ حِينَ هَلَّ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ اذْهَبْ فَاسْتَعِنْ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي آخِرِ نَجْمٍ فَقَالَ عُمَرُ: لِعَلِيٍّ لاَ أُدْرِكُهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَتْنِي أُمِّيّ، عَنْ أَبِي، عَنْ جَدِّي عُبَيْدِ اللَّهِ الْجَحْدَرِيِّ قَالَ الْمُبَارَكُ: وَحَدَّثَنِي مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ، عَنْ عَمِّي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: سَأَلْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ الْمُكَاتَبَةَ قَالَ لِي: كَمْ تَعْرِضُ قُلْت: مِائَةَ أُوقِيَّةٍ قَالَ: فَمَا اسْتَزَادَنِي، قَالَ: فَكَاتِبْنِي وَأَرْسَلَ إلَى حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي كَاتَبْت غُلاَمِي، وَأَرَدْت أَنْ أُعَجِّلَ لَهُ طَائِفَةً مِنْ مَالِي فَأَرْسِلِي إلَيَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَأْتِيَنِي شَيْءٌ فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِيَمِينِهِ وَقَرَأَ {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} خُذْهَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا.
قال أبو محمد: لَقَدْ كَانَ أَشْبَهَ بِأُمُورِ الدِّينِ وَأَدْخَلَ فِي السَّلاَمَةِ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّونَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يَقُولُوا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ حَيْثُ يَقُولُونَ مَا يُضْحِكُ الثَّكَالَى وَيُبْعِدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ إنْ انْكَشَفَ فِي فَخِذِ الْحُرَّةِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ مِنْ السَّاقِ أَوْ مِنْ الْبَطْنِ أَو مِنْ الذِّرَاعِ، أَوْ مِنْ الرَّأْسِ الرُّبُعُ بَطَلَتْ الصَّلاَةُ فَإِنْ انْكَشَفَ أَقَلُّ لَمْ تَبْطُلْ الصَّلاَةُ لاَ سِيَّمَا وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَاصِمِ

(9/247)


بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ الدَّبَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَبِيبٍ هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَخْبَرَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: رُبُعُ الْكِتَابَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فإن قيل: فَلَمْ لَمْ تَأْخُذُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ قلنا: لأََنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَطِ عَطَاءٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيُّ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: تَغَيَّرَ حِفْظُ ابْنِ السَّائِبِ بَعْدُ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ لاَ يَرْوِي حَدِيثَ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلاَّ عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ.
قال أبو محمد: فَصَحَّ اخْتِلاَطُهُ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُحْتَجَّ مِنْ حَدِيثِهِ إِلاَّ بِمَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ اخْتِلاَطِهِ وَهَؤُلاَءِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْهُ إِلاَّ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَمَّا هُمْ فَإِذَا وَافَقَ الْخَبَرُ رَأْيَهُمْ لَمْ يُعَلِّلُوهُ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا فَإِذْ قَدْ سَقَطَ هَذَا الْخَبَرُ فَلاَ حُجَّةَ لأََهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ بِحَدِيثِ كِتَابَةِ سَلْمَانَ رضي الله عنه وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَوْ ابْنِ عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبَهَا فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْتَعِينُهُ فَقَالَ لَهَا عليه الصلاة والسلام: "أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ أَقْضِ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ" قَالُوا: فَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ إيتَاءَ مَالِ الْمُكَاتَبِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. أَمَّا خَبَرُ سَلْمَانَ فَإِنَّ مَالِكَهُ كَانَ يَهُودِيًّا غَيْرَ ذِمِّيٍّ بَلْ مُنَابِذٌ لاَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الإِسْلاَمِ فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهَذَا. وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ إيتَاءِ الْمَالِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ لَهُ فِيمَا أَجَازَهُ فِيهِ نَصًّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إحْيَاءِ ثَلاَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى، وَلاَ مَقْبُوضَةً، وَهُمْ لاَ يُجِيزُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، فَسُبْحَانَ مَنْ أَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَذِهِ الْعَظَائِمِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَرْدَعَ عَنْهَا الْحَيَاءُ وَأَنْ يَرْدَعَ عَنْهَا الدِّينُ. وَأَمَّا خَبَرُ جُوَيْرِيَةَ فَلَيْسَ فِيهِ عَلَى مَاذَا كَاتَبَهَا، وَلاَ هَلْ كَاتَبَ إلَى أَجَلٍ أَمْ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي إجَازَةِ الْكِتَابَةِ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، وَكُلُّ كِتَابَةٍ أَفْسَدُوهَا إذْ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا إيتَاءَ الْمَالِ، فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تُؤْتِ الْمَالَ، فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ، فَكَيْفَ وَهِيَ كِتَابَةٌ لَمْ تَتِمَّ بِلاَ شَكٍّ، لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ

(9/248)


الْعِلْمِ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ مَوْلاَةً لِثَابِتٍ، وَلاَ لأَبْنِ عَمِّهِ، بَلْ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا . فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ مَحْدُودَ الْقَدْرِ.
قال أبو محمد: فَقُلْنَا: مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ هَذَا وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا عَطَاءً يَكِلُهُ إلَى اخْتِيَارِنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْطَيْنَاهُ كُنَّا قَدْ أَدَّيْنَا مَا عَلَيْنَا. وَهَلَّا قُلْتُمْ هَذَا فِي الْمُتْعَةِ الَّتِي رَآهَا الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَرْضًا وَهِيَ غَيْرُ مَحْدُودَةِ الْقَدْرِ وَهَلَّا قَالَ هَذَا الْمَالِكِيُّونَ فِي الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ عَنْوَةً وَهُوَ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الْقَدْرِ وَكَمَا قَالُوا فِيمَا أَوْجَبُوا فِيهِ الْحُكُومَةَ فَرْضًا مِنْ الْخَرَاجِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودِ الْقَدْرِ فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَفِي ظَنِّهِمْ: أَنْ يَتَعَقَّبُوا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُكْمَهُ بِمَا لاَ يَتَعَقَّبُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يُشَرِّعُونَهُ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. تَمَّ كِتَابُ الْكِتَابَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

(9/249)


كتاب صحبة ملك اليمين
لا يجوز للسيد أن يقول لغلامه : هذا عبدى ولا لمملوكته
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِه
ِ كِتَابُ صُحْبَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ
1703 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِغُلاَمِهِ: هَذَا عَبْدِي وَلاَ لِمَمْلُوكَتِهِ : هَذِهِ أَمَتِي، لَكِنْ يَقُولُ: غُلاَمِي وَفَتَايَ وَمَمْلُوكِي وَمَمْلُوكَتِي َخَادِمِي وَفَتَاتِي. وَلاَ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا رَبِّي أَوْ مَوْلاَيَ أَوْ رَبَّتِي. وَلاَ يَقُلْ أَحَدٌ لِمَمْلُوكٍ: هَذَا رَبُّك، وَلاَ رَبَّتُك لَكِنْ يَقُولُ: سَيِّدِي. وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ الْمَرْءُ لأَخَرَ: هَذَا عَبْدُك وَهَذَا عَبْدُ فُلاَنٍ وَأَمَةُ فُلاَنٍ وَمَوْلَى فُلاَنٍ لأََنَّ النَّهْيَ لَمْ يَرِدْ إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا فَقَطْ. وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلاَءِ عَبِيدُك وَعِبَادُك، وَإِمَاؤُك. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلاَ يَقُولَنَّ الْمَمْلُوكُ: رَبِّي وَرَبَّتِي وَلْيَقُلْ الْمَالِكُ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلْيَقُلْ الْمَمْلُوكُ: سَيِّدِي وَسَيِّدَتِي فَإِنَّكُمْ الْمَمْلُوكُونَ وَالرَّبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ اسْقِ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي وَلْيَقُلْ: سَيِّدِيوَلاَ يَقُلْ: مَوْلاَيَ وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ: فَتَايَ فَتَاتِي غُلاَمِي". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ

(9/249)


عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَلاَ يَقُلْ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلاَيَ فَإِنَّ مَوْلاَكُمْ اللَّهُ" .
قال أبو محمد: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ: مَوْلاَيَ وَالنَّهْيُ هُوَ الزَّائِدُ وَالْوَارِدُ بِرَفْعِ الإِبَاحَةِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ فَأَسْنَدَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَبْدُ الرَّحْمنِ وَالِدُ الْعَلاَءِ وَرَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ فُتْيَاهُ: أَبُو يُونُسَ غُلاَمُهُ، وَلاَ يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ يُوسُفَ عليه السلام: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} وَقَوْلِهِ: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فَتِلْكَ شَرِيعَةٌ، وَهَذِهِ أُخْرَى وَتِلْكَ لُغَةٌ وَهَذِهِ أُخْرَى وَقَدْ كَانَ هَذَا مُبَاحًا عِنْدَنَا وَفِي شَرِيعَتِنَا حَتَّى نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} وَقَدْ نُهِينَا، عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ.

(9/250)


وفرض على السيد أن يكسو ممكلوكه
...
1704 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَكْسُوَ مَمْلُوكَهُ وَمَمْلُوكَتَهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَوْ شَيْئًا وَأَنْ يُطْعِمَهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلَوْ لُقْمَةً وَأَنْ يُشْبِعَهُ وَيَكْسُوَهُ بِالْمَعْرُوفِ، مِثْلَ مَا يُكْسَى وَيُطْعَمُ مِثْلُهُ، أَوْ مِثْلُهَا وَأَنْ لاَ يُكَلِّفَهُ مَا لاَ يُطِيقُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ سَمِعْتُ الْمَعْرُورَ بْنَ سُوَيْد قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَحْتَ أَيْدِيَكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالاَ جَمِيعًا حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْيَسْرِ وَقَدْ لَقِيَهُ وَعَلَيْهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ وَعَلَى غُلاَمِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْيُسْرِ: بَصَرَ عَيْنَايَ هَاتَانِ، وَسَمِعَ أُذُنَايَ هَاتَانِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "َطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَكْسُون" قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: فَكَانَ إذَا أَعْطَيْته مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرُوِّينَا مِثْلَ هَذَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَصْلاً .

(9/250)


1705 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ غُلاَمَهُ أَفْلَحَ وَلاَ يَسَارَ وَلاَ نَافِعَ وَلاَ نَجِيحَ وَلاَ رَبَاحَ وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ أَوْلاَدَهُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ وَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَمَالِيكَهُ بِسَائِرِ الأَسْمَاءِ، مِثْلِ نَجَاحٍ وَمُنَجَّحٍ وَنُفَيْعٍ وَرُبَيْحٍ وَيَسِير: وَفُلَيْحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لاَ تُحَاشِ شَيْئًا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَّهُ سَمِعَ الْمُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ الرُّكَيْنَ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عُمَيْلَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءَ: أَفْلَحَ وَرَبَاحَ وَيَسَارَ وَنَافِعَ" . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ عُمَيْلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَمِّيَنَّ غُلاَمَك يَسَارًا، وَلاَ رَبَاحًا، وَلاَ نَجِيحًا، وَلاَ أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ فَيَقُولُ: لاَ إنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ، فَلاَ تَزِيدُنَّ عَلَيَّ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ [قال أبومحمد] فَخَالَفَ قَوْمٌ هَذَا وَدَفَعُوهُ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ يَقِينًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَنْهَى أَنْ يُسَمَّى ان يَعْلَى وَبَرَكَةٍ وَأَفْلَحَ وَنَافِعٍ وَيَسَارٍ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ رَأَيْتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا ثُمَّ قُبِضَ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَهُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ عَلِمَ، جَابِرٌ يَقُولُ مَا عِنْدَهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ النَّهْيَ وَسَمُرَةُ يَقُولُ مَا عِنْدَهُ، لأََنَّهُ سَمِعَ النَّهْيَ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي، لأََنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا زَائِدًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جَابِرٍ وَلاَ يُمْكِنُ الأَخْذُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ إِلاَّ بِتَكْذِيبِ سَمُرَةَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا فَكَيْفَ وَكَثِيرٌ مِنْ الأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا جَابِرٌ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا أَصْلاً فَصَحَّ أَنَّ حَدِيثَ سَمُرَةَ لَيْسَ مُخَالِفًا لأََكْثَرِ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لأََنَّ جَابِرًا ذَكَرَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنْهَ، عَنْ تِلْكَ الأَسْمَاءِ الَّتِي ذَكَرَ وَصَدَقَ وَذَكَرَ سَمُرَةُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَعْضِهَا وَصَدَقَ.
وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ غُلاَمٌ أَسْوَدُ اسْمُهُ: رَبَاحٌ، يَأْذَنُ عَلَيْهِ وَقَدْ غَابَ، عَنْ عُمَرَ أَمْرُ جِزْيَةِ الْمَجُوسِ وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَغِيبَ عَنْ جَابِرٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ وَقَدْ غَابَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ النَّهْيُ عَنْ كَرْيِ الأَرْضِ ثُمَّ بَلَغَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فَرَجَعَ إلَيْهِ وَهُوَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ.
َأَمَّا تَسْمِيَةُ غُلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَبَاحًا: فَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِمَعْهُودِ الأَصْلِ، وَكَانَ النَّهْيُ شَرْعًا زَائِدًا لاَ يَحِلُّ الْخُرُوجُ عَنْهُ وَقَالُوا: قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " فَإِنَّك تَقُولُ: أَثَمَّ هُوَ فَيَقُولُ: لاَ " بَيَانٌ بِالْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ

(9/251)


وَهِيَ عِلَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي خِيرَةَ وَخَيْرٍ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَمَحْمُودٍ وَأَسْمَاءَ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهَا عِنْدَكُمْ أَيْضًا قلنا: هَذَا أَصْلُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ لاَ أَصْلُنَا وَإِنَّمَا نَجْعَلُ نَحْنُ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَقَطْ لاَ نَتَعَدَّاهُ إلَى مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عِلَّةً فِي سَائِرِ الأَسْمَاءِ لَمَا عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي أَتَى بِهِ فَهَذَا حُكْمُ الْبَيَانِ وَاَلَّذِي يَنْسُبُونَهُ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَتَكَلَّفَ ذِكْرَ بَعْضِهَا وَعَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَ بِالسَّبَبِ فِي ذَلِكَ، وَسَكَتَ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ التَّلْيِيسِ، وَعَدَمِ التَّبْلِيغِ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا. وَلاَ دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاكُمْ إِلاَّ الدَّعْوَى فَقَطْ، وَالظَّنُّ الْكَاذِبُ. وَقَالُوا: قَدْ سَمَّى ابْنُ عُمَرَ غُلاَمَهُ نَافِعًا وَسَمَّى أَبُو أَيُّوبَ غُلاَمَهُ: أَفْلَحَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ قلنا قَدْ غَابَ بِإِقْرَارِكُمْ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ الإِيلاَجِ، وَغَابَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حُكْمُ كَرْيِ الأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَيُّمَا أَشْنَعُ مَغِيبُ مِثْلِ هَذَا أَوْ مَغِيبُ النَّهْيِ، عَنْ اسْمٍ مِنْ الأَسْمَاءِ: فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. تَمَّ كِتَابُ صُحْبَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(9/252)


كتاب المورايث
أول ما يخرج من رأس المال دين الغرماء فان قضل منه شىء كفن منه الميت
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الْمَوَارِيثِ
1706 - مَسْأَلَةٌ: أَوَّلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دَيْنُ الْغُرَمَاءِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ كُفِّنَ مِنْهُ الْمَيِّتُ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ كَفَنُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ الْغُرَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْجَنَائِزِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا. وَعُمْدَةُ ذَلِكَ قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه لَمْ يُوجَدْ لَهُ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَكُفِّنَ فِيهِ وَلأََنَّ تَكْلِيفَ الْغُرَمَاءِ خَاصَّةً أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ نَاقِصًا مِنْ حُقُوقِهِمْ ظُلْمٌ لَهُمْ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْغُرَمَاءُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ.

(9/252)


1707 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ مِنْ الْمَالِ: كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، لاَ يَتَجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثَ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي " كِتَابِ الْوَصَايَا " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ مَا بَقِيَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.

(9/252)


ولا يرث من الرجال الا الأب والجد أبو الأب
...
1708 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَرِثُ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ الأَبُ وَالْجَدُّ

(9/252)


1709 - مَسْأَلَةٌ: أَوَّلُ مَا يُخْرَجُ مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ إنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ: دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى، إنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ: كَالْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ أُخْرِجَ مِنْهُ دُيُونُ الْغُرَمَاءِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كُفِّنَ مِنْهُ الْمَيِّتُ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ كَفَنُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ الْغُرَمَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَإِنْ فَضَلَ بَعْدَ الْكَفَنِ شَيْءٌ: نَفَذَتْ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى، اقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ" وَقَدْ ذَكَرْنَا

(9/253)


ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِي " كِتَابِ الصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا، فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ فَالآيَةُ تَعُمُّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى وَدُيُونَ الْخَلْقِ، وَالسُّنَنُ الثَّابِتَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الْكَفَنُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَصَحَّ " أَنَّ حَمْزَةَ، وَالْمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنهما: لَمْ يُوجَدْ لَهُمَا شَيْءٌ، إِلاَّ شَمْلَةٌ شَمْلَةٌ فَكُفِّنَا فِيهِمَا " وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَفَنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الدُّيُونِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّ النَّصَّ جَاءَ بِتَقْدِيمِ الدَّيْنِ كَمَا تَلَوْنَا فَإِذْ قَدْ صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْغُرَمَاءِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَمِنْ الظُّلْمِ أَنْ يُخَصَّ الْغُرَمَاءُ بِإِخْرَاجِ الْكَفَنِ مِنْ مَالِهِمْ دُونَ مَالِ سَائِرِ مَنْ حَضَرَ إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ وَلاَ سُنَّةٌ وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ نَظَرٌ، وَلاَ احْتِيَاطٌ، لَكِنَّ حُكْمَهُ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَصْلاً، وَمَنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَكَفَنُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَلِيَ كَفَنَ أَخِيهِ أَنْ يُحْسِنَهُ فَصَارَ إحْسَانُ الْكَفَنِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ، فَهَذَا عُمُومٌ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَضَرَ وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَنْفُذُ إِلاَّ بَعْدَ انْتِصَافِ الْغُرَمَاءِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَمَالُ الْمَيِّتِ قَدْ صَارَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْغُرَمَاءِ بِمَوْتِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ فِي مَالِهِ الَّذِي يَتَخَلَّفُ فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا يَبْقَى بَعْدَ الدَّيْنِ.

(9/254)


1710 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ أَوْ لأََبٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُخْتَيْنِ كَذَلِكَ أَيْضًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلاَ أَخًا شَقِيقًا وَلاَ لأََبٍ وَلاَ مَنْ يَحُطُّهُنَّ مِمَّا نَذْكُرُ فَلَهُمَا ثُلُثَا مَا تَرَكَ أَوْ لَهُنَّ عَلَى السَّوَاءِ, وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا ذَكَرًا، وَلاَ مَنْ يَحُطُّهُنَّ: فَلَهُمَا أَوْ لَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ أَيْضًا.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ هُوَ الْهُجَيْمِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " اشْتَكَيْت وَعِنْدِي سَبْعُ أَخَوَاتٍ لِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَفَخَ فِي وَجْهِي فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أُوصِي لأََخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَنِي، ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ فَقَالَ: إنِّي لاَ أَرَاك مَيِّتًا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فَبَيَّنَ الَّذِي لأََخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} " وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ,وَأَمَّا الْبِنْتَانِ فَلاَ خِلاَفَ

(9/254)


فِي الثَّلاَثِ فَصَاعِدًا، وَلاَ وَلَدَ لِلْمَيِّتِ ذَكَرًا فِي أَنَّ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَنْ يَحُطُّهُنَّ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وَأَمَّا الْبِنْتَانِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا إِلاَّ النِّصْفُ كَمَا لِلْوَاحِدَةِ وَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جِئْنَا امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ فِي الأَسْوَاقِ وَهِيَ جَدَّةُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَذَكَرَ حَدِيثًا وَفِيهِ: فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِابْنَتَيْنِ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ بِنْتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ اسْتَقَى عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالاً إِلاَّ أَخَذَهُ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاَللَّهِ لاَ يَنْكِحَانِ أَبَدًا إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ الآيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اُدْعُوَا لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا: أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ" وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الأَبْنَةَ النِّصْفَ وَابْنَةَ الأَبْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَقَدْ ادَّعَى أَصْحَابُ الْقِيَاسِ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْبِنْتَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الأُُخْتَيْنِ قَالُوا: وَالْبِنْتَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الأُُخْتَيْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ لأََنَّ الْبِنْتَيْنِ أَحَقُّ مِنْ الأُُخْتَيْنِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَزِيدُوهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ، فَيُخَالِفُوا الْقُرْآنَ، أَوْ يُبْطِلُوا قِيَاسَهُمْ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ نَعْنِي هَؤُلاَءِ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا الْقِيَاسِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي عَشْرِ بَنَاتٍ وَأُخْتٍ لأََبٍ: أَنَّ لِلأُُخْتِ الثُّلُثَ كَامِلاً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَنَاتِ خُمُسُ الثُّلُثِ فَقَدْ أَعْطُوا الأُُخْتَ الْوَاحِدَةَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطُوا أَرْبَعَ بَنَاتٍ فَأَيْنَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَنَاتِ أَحَقُّ مِنْ الأَخَوَاتِ وَهَذَا مِنْهُمْ تَخْلِيطٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَتْ الْمَوَارِيثُ عَلَى قَدْرِ التَّفَاضُلِ فِي الْقَرَابَةِ، إنَّمَا هِيَ كَمَا جَاءَتْ النُّصُوصُ فَقَطْ وَلاَ خِلاَفَ فِيمَنْ تَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أُمِّهِ، وَابْنَ بِنْتِهِ وَبِنْتَ أَخِيهِ، وَابْنَ أُخْتِهِ، وَخَالَهُ وَخَالَتَهُ وَعَمَّتَهُ وَابْنَ عَمٍّ لَهُ لاَ يَلْتَقِي مَعَهُ إِلاَّ إلَى عِشْرِينَ جَدًّاأَنَّ هَذَا الْمَالَ كُلَّهُ لِهَذَا الأَبْنِ الْعَمِّ الْبَعِيدِ، وَلاَ شَيْءَ لِكُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا، وَأَيْنَ قَرَابَتُهُ مِنْ قَرَابَتِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/255)


فان ترك أختا شقيقية وأختا شقيقة وأختا واحدة للاب
...
1711 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَرَكَ أُخْتًا شَقِيقَةً، وَأُخْتًا وَاحِدَةً لِلأَبِ أَوْ اثْنَتَيْنِ لِلأَبِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ: فَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ، وَلِلَّتِي لِلأَبِ، أَوْ اللَّوَاتِي، لِلأَبِ: السُّدُسُ فَقَطْ، لأََنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَى الأُُخْتَ النِّصْفَ، وَأَعْطَى الأُُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَيْنِ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلأَخَوَاتِ اللَّوَاتِي لِلأَبِ، أَوْ اللَّوَاتِي لِلأَبِ وَالأُُمِّ وَإِنْ كَثُرْنَ إِلاَّ الثُّلُثَانِ فَقَطْ، وَإِذَا وَجَبَ لِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقِّنِ فِي أَنْ لاَ يُشَارِكَهَا فِيهِ الَّتِي لَيْسَتْ

(9/255)


شَقِيقَةً فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ السُّدُسُ فَهُوَ لِلَّتِي لِلأَبِ أَوْ اللَّوَاتِي لِلأَبِ.

(9/256)


ولا ترث أخت شقيقة ولا غير شقيقة ولا غير مع ابن ذكر ولا مع ابنة أثني ولا مع ابن ابن
...
1712 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَرِثُ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَلاَ غَيْرُ شَقِيقَةٍ مَعَ ابْنٍ ذَكَرٍ وَلاَ مَعَ ابْنَةٍ أُنْثَى وَلاَ مَعَ ابْنِ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَ وَلاَ مَعَ بِنْتِ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَتْ وَالْبَاقِي بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الأَبْنِ لِلْعَصَبَةِ كَالأَخِ وَابْنِ الأَخِ وَالْعَمِّ َابْنِ الْعَمِّ وَالْمُعْتَقِ وَعَصَبَتِهِ إِلاَّ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ عَاصِبٌ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مَا بَقِيَ لِلأُُخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لِلَّتِي لِلأَبِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَقِيقَةً وَلِلأَخَوَاتِ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَبِهِ نَأْخُذُ. وَهُنَا قَوْلاَنِ غَيْرَ هَذَا. أَحَدُهُمَا أَنَّ الأَخَوَاتِ عَصَبَةُ الْبَنَاتِ وَأَنَّ الأُُخْتَ الْمَذْكُورَةَ أَوْ الأَخَوَاتِ الْمَذْكُورَاتِ يَأْخُذْنَ مَا فَضَلَ عَنِ الأَبْنَةِ أَوْ بِنْتِ الأَبْنِ أَوْ مَا فَضَلَ عَنِ الْبِنْتَيْنِ أَوْ بِنْتَيْ الأَبْنِ فَصَاعِدًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهَا. وَصَحَّ فِي الأُُخْتِ وَالْبِنْتِ عَنْ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى، وَسَلْمَانَ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ تَرِثُ أُخْتٌ أَصْلاً مَعَ ابْنَةٍ، وَلاَ مَعَ ابْنَةِ ابْنٍ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الأَخَوَاتِ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الأَوْدِيِّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ عَنِ الْهُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى، عَنْ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلأَبْنَةِ النِّصْفُ وَلِلأُُخْتِ النِّصْفُ فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلأَبْنَةِ النِّصْفُ وَلأَبْنَةِ الأَبْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأُُخْتِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أُخْتًا مَعَ ابْنَةٍ، وَلاَ مَعَ ابْنَةِ ابْنٍ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وَاسْمُ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى الأَبْنَةِ، وَبِنْتِ الأَبْنِ، كَمَا يَقَعُ عَلَى الأَبْنِ وَابْنِ الأَبْنِ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْقُرْآنِ وَالْعَجَبُ مِنْ مُجَاهَرَةِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ هَاهُنَا: إنَّمَا عَنَى وَلَدًا ذَكَرًا وَهَذَا إقْدَامٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَقَوْلٌ عَلَيْهِ بِمَا لاَ يَعْلَمُ، بَلْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قوله تعالى: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} وَبَيْنَ قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَلأََبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأَُمِّهِ

(9/256)


السُّدُسُ} فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الآيَاتِ أَنَّ الْوَلَدَ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ وَلَدَ الْوَلَدِ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي مِيرَاثِ الأُُخْتِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الذَّكَرَ وَسَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْوَاحْتَجَّ أَيْضًا مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ أُخْتًا مَعَ ابْنَةٍ، وَلاَ مَعَ ابْنَةِ ابْنٍ بِالثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَصْحَابِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلأََوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ تَوْرِيثَهُمْ الأُُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتَ الأَبْنِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّعْصِيبِ لاَ بِفَرْضٍ مُسَمًّى لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي بِنْتٍ وَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ أَوْ لأََبٍ أَوْ أَخَوَاتٍ كَذَلِكَ: إنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعَ وَلِلأُُمِّ السُّدُسَ وَلَيْسَ لِلأُُخْتِ أَوْ الأَخَوَاتِ إِلاَّ نِصْفُ السُّدُسِ. فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَتْ ابْنَتَانِ لَمْ تَرِثْ الأُُخْتُ وَلاَ الأَخَوَاتُ شَيْئًا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِعَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: قِيلَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ ابْنَتَهُ، وَأُخْتَه لأََبِيهِ، وَأُمِّهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لأَبْنَتِهِ النِّصْفُ، وَلِلأُُخْتِ النِّصْفُ وَلَيْسَ لأَُخْتِهِ شَيْءٌ مِمَّا بَقِيَ، وَهُوَ لِعَصَبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إنَّ عُمَرَ قَضَى بِغَيْرِ ذَلِكَ، جَعَلَ لِلأَبْنَةِ النِّصْفَ، وَلِلأُُخْتِ النِّصْفَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ قَالَ مَعْمَرٌ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لأَبْنِ طَاوُوس قَالَ لِي ابْنُ طَاوُوس: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَتَجِدُونَهُ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ: مِيرَاثُ الأُُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ.
قال أبو محمد: هَذَا يُرِيَك أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَ مَا فَشَا فِي النَّاسِ وَاشْتَهَرَ فِيهِمْ حُجَّةً وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ الْقَوْلَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا فِي أَبِي قَيْسٍ.قَالَ عَلِيٌّ: أَبُو قَيْسٍ ثِقَةٌ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَرَحَهُ بِجُرْحَةٍ يَجِبُ بِهَا إسْقَاطُ رِوَايَتِهِ فَالْوَاجِبُ الأَخْذُ بِمَا رَوَى وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُسْنَدِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَوَجَبَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ عَاصِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا فَضَلَ عَنْ فَرِيضَةِ الأَبْنَةِ أَوْ الْبِنْتَيْنِ أَوْ بِنْتِ الأَبْنِ أَوْ بِنْتَيْ الأَبْنِ لِلْعَصَبَةِ لأََنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَلَيْسَتْ الأُُخْتُ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِإِلْحَاقِ فَرَائِضِهِمْ بِهِمْ وَهَذَا وَاضِحٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ رَجُلٌ عَاصِبٌ أَصْلاً أَخَذْنَا بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ وَجَعَلْنَا الأُُخْتَ عَصَبَةً كَمَا فِي نَصِّهِ

(9/257)


وَلَمْ نُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ وَالْمُعْتَقُ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ مِنْ الذُّكُورِ أَوْ عَصَبَتِهِ مِنْ الذُّكُورِ هُمْ بِلاَ شَكٍّ مِنْ الرِّجَالِ الذُّكُورِفَهُمْ أَوْلَى مِنْ الأَخَوَاتِ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَةٌ أَوْ ابْنَةُ ابْنٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُمْ وَرَّثُوا الأُُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ مَعَ وُجُودِ عَاصِبٍ ذَكَرٍ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/258)


والام مع الولد الذكر او الانثى أو ابن الابنى أو بني الابن
...
1713 - مَسْأَلَةٌ: وَالأُُمُّ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ الأُُنْثَى، أَوْ ابْنِ الأَبْنِ أَوْ بِنْتِ الأَبْنِ وَإِنْ سَفَلَ السُّدُسُ فَقَطْ، لأََنَّهُ نَصُّ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/258)


1714 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَخٌ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أُخْتٌ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ، وَلاَ وَلَدَ لَهُ وَلاَ وَلَدَ وَلَدٍ ذَكَرٍ فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كَانَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ الإِخْوَةِ ذُكُورٍ أَوْ إنَاثٍ أَوْ بَعْضُهُمْ ذَكَرٌ وَبَعْضُهُمْ أُنْثَى: فَلأَُمِّهِ السُّدُسُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأَُمِّهِ السُّدُسُ} وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِاثْنَيْنِ مِنْ الإِخْوَةِ تُرَدُّ الأُُمُّ إلَى السُّدُسِ وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا لاَ تُرَدُّ، عَنِ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِأَخٍ وَاحِدٍ، وَلاَ بِأُخْتٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ فِي أَنَّهَا تُرَدُّ إلَى السُّدُسِ بِثَلاَثَةٍ مِنْ الإِخْوَةِ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا الْخِلاَفُ فِي رَدِّهَا إلَى السُّدُسِ بِاثْنَيْنِ مِنْ الإِخْوَةِ. حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَمْرُوسٍ الأَسْتَجِيُّ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ إبْرَاهِيمَ السَّعِيدِيّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بْنِ بَادِيٍّ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ هُوَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الأَخَوَيْنِ لاَ يَرُدَّانِ الأُُمَّ إلَى السُّدُسِ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} وَالأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِك لَيْسُوا بِإِخْوَةٍ فَقَالَ عُثْمَانُ: لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي، تَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الأَمْصَار.ِ
قال أبو محمد: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ وَقَّفَ عُثْمَانَ عَلَى الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عُثْمَانُ ذَلِكَ أَصْلاً وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ حُجَّةٌ مِنْ اللُّغَةِ لَعَارَضَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِهَا مَا فَعَلَ بَلْ تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ كَانَ قَبْلَهُ، تَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الأَمْصَارِ فَعُثْمَانُ رَأَى هَذَا حُجَّةً وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَهُ حُجَّةً وَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَنَصُّهُمَا يَشْهَدُ بِصِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَمْ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُثْمَانَ وَعُمَرَ كَتَقْوِيمِهِمَا الدِّيَةَ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحُلَلِ، وَإِضْعَافِهَا فِي الْحَرَمِ وَالْقَضَاءِ بِوَلَدِ الْغَارَةِ رَقِيقًا لِسَيِّدِ أُمِّهِمْ فِي كَثِيرٍ جِدًّا. وَمَنْ ادَّعَى مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا وَمُخَالِفُ الإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ كَافِرٌ: فَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى قَوْلِهِمْ كَافِرٌ إذْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ مُكَفِّرُهُ أَحَقُّ بِالْكُفْرِ

(9/258)


1715 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ زَوْجَةً وَأَبَوَيْنِ أَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ: فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلأُُمِّ الثُّلُثُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَامِلاً وَلِلأَبِ مِنْ ابْنَتِهِ السُّدُسُ، وَمِنْ ابْنِهِ الثُّلُثُ، وَرُبُعُ الثُّلُثِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِلأُُمِّ فِي كِلْتَيْهِمَا إِلاَّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ مِيرَاثِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ صَحِيحًا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي الزَّوْجَةِ وَالأَبَوَيْنِ َالزَّوْجِ وَالأَبَوَيْنِ وَصَحَّ عَنْ زَيْدٍ، وَرُوِّينَاهُ، عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، وَالْحَسَنِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَهَا هُنَا قَوْلٌ آخَرُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ قَالَ فِي رَجُلٍ تَرَكَ امْرَأَتَهُ وَأَبَوَيْهِ: لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَلِلأُُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأَبِ وَقَالَ فِي امْرَأَةٍ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأَبَوَيْهَا: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأُُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَلِلأَبِ مَا بَقِيَ قَالَ: إذَا فَضَلَ الأَبُ الأُُمَّ بِشَيْءٍ فَإِنَّ لِلأُُمِّ الثُّلُثَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي قلنا بِهِ: فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُُمِّ الثُّلُثُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَال قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لِلأُُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلأُُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَانِي أُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى أَبٍ, وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْعَقِيمِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَهْلَ الصَّلاَةِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ. وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ} أَيْ مِمَّا يَرِثُهُ أَبَوَاهُ. مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا، وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ

(9/260)


نُكْرَةَ فِي تَفْضِيلِ الأُُمِّ عَلَى الأَبِ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صُحْبَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ" فَفَضَّلَ الأُُمَّ عليه الصلاة والسلام عَلَى الأَبِ فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَقَدْ سَوَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الأَبِ وَالأُُمِّ بِإِجْمَاعِنَا وَإِجْمَاعِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ لأََبَوَيْهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَمِنْ أَيْنَ تَمْنَعُونَ مِنْ تَفْضِيلِهَا عَلَيْهِ إذَا أَوْجَبَ ذَلِكَ نَصٌّ. ثُمَّ إنَّ هَؤُلاَءِ الْمُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا أَوَّلُ مُخَالِفِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ" كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لاَ يُفَضِّلاَنِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ.
قال أبو محمد: وَالْمُمَوِّهُونَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يُخَالِفُونَهُ وَيُخَالِفُونَ عُمَرَ فَيُفَضِّلُونَ الأُُمَّ عَلَى الْجَدِّ وَهُمْ يُفَضِّلُونَ الأُُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِيثِ فَيَقُولُونَ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ وَأُخْتَهَا لأَُمٍّ: إنَّ لِلأُُخْتِ لِلأُُمِّ السُّدُسَ كَامِلاً وَلِلذَّكَرَيْنِ الأَخَوَيْنِ الشَّقِيقَيْنِ السُّدُسَ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ السُّدُسِ. وَيَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ فِي امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا أَوْ أُخْتَهَا شَقِيقَتَهَا وَأَخًا لأََبٍ إنَّ الأَخَ لاَ يَرِثُ شَيْئًا فَلَوْ كَانَ مَكَانَهُ أُخْتٌ: فَلَهَا السُّدُسُ، يُعَالُ لَهَا بِهِ فَهُمْ لاَ يُنْكِرُونَ تَفْضِيلَ الأُُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ ثُمَّ يُمَوِّهُونَ بِتَشْنِيعِ تَفْضِيلِ الأُُمِّ عَلَى الأَبِ حَيْثُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ: خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَهْلَ الصَّلاَةِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خِلاَفُ أَهْلِ الصَّلاَةِ كُفْرًا أَوْ فِسْقًا فَلْيَنْظُرُوا فِيمَا يَدْخُلُونَ وَالْمُعَرِّضُ بِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا أَحَقُّ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ هَذَا إبْرَاهِيمُ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. مُوَافَقَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا وَمَا وَجَدْنَا قَوْلَ الْمُخَالِفِينَ يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ إِلاَّ عَنْ زَيْدٍ وَحْدَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ وَلَيْسَ يُقَالُ فِي إضْعَافِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: خَالَفَ أَهْلَ الصَّلاَةِ فَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ هَذَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ} أَيْ مِمَّا يَرِثُهُ أَبَوَاهُ فَبَاطِلٌ، وَزِيَادَةٌ فِي الْقُرْآنِ لاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهَا.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: أَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَسْأَلُهُ، عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ فَقَالَ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

(9/261)


َاتَقُولُهُ بِرَأْيِك أَمْ تَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ زَيْدٌ: أَقُولُهُ بِرَأْيِي، وَلاَ أُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى أَبٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَوْ كَانَ لِزَيْدٍ بِالآيَةِ مُتَعَلَّقٌ مَا قَالَ: أَقُولُهُ بِرَأْيِي لاَ أُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى أَبٍ، وَلَقَالَ: بَلْ أَقُولُهُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قال أبو محمد: لَيْسَ الرَّأْيُ حُجَّةً وَنَصُّ الْقُرْآنِ يُوجِبُ صِحَّةَ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ} فَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأَُمِّهِ السُّدُسُ} أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لاَ مِمَّا يَرِثُهُ الأَبَوَانِ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاهُنَا فِي قوله تعالى: فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَرِثُ الأَبَوَانِ وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِقْدَامٌ عَلَى تَقْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ: فَأَصَابَ فِي الْوَاحِدَةِ وَأَخْطَأَ فِي الأُُخْرَى، لأََنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ مَجِيئًا وَاحِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/262)


1716 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَلاَ وَلَدُ وَلَدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنْ وَلَدٍ ذَكَرٍ وَإِنْ سَفَلَ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنٌ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ ابْنُ ابْنٍ ذَكَرٍ، أَوْ بِنْتُ ابْنٍ ذَكَرٍ وَإِنْ سَفَلَ كَمَا ذَكَرْنَا. فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِلاَّ الرُّبُعُ. وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ ابْنٌ ذَكَرٍ، وَلاَ أُنْثَى, وَلاَ ابْنُ ابْنٍ ذَكَرٍ أَوْ بِنْتُ ابْنٍ ذَكَرٍ، أَوْ بِنْتُ ابْنِ ابْنٍ ذَكَرٍ وَإِنْ سَفَلَ مَنْ ذَكَرْنَا سَوَاءٌ مِنْ تِلْكَ الزَّوْجَةِ كَانَ الْوَلَدُ الْمَذْكُورُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ وَلَدٌ، أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ ذَكَرٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ إِلاَّ الثُّمُنُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ اثْنَتَانِ، أَوْ ثَلاَثٌ، أَوْ أَرْبَعٌ: هُنَّ شُرَكَاءُ فِي الرُّبُعِ، أَوْ الثُّمُنِ.
برهان ذَلِكَ نَصُّ الْقُرْآنِ الْمَحْفُوظِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا أَصْلاً، وَلاَ حُكْمَ لِوَلَدِ الْبَنَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَبِيَقِينٍ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْوَاتٌ تَرَكُوا بَنِي بَنَاتٍ، فَاتَّسَقَ نَقْلُ الْجَمِيعِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَرِثُوا، وَلاَ حُجِبُوا، بَلْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا، بِخِلاَفِ التَّحْرِيمِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ الْمَنْقُولِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ بِلاَ خِلاَفٍ أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي بَنِي الْبَنَاتِ، وَبَنِي الْبَنِينَ, وَبِخِلاَفِ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَالْعِتْقِ، وَالنَّفَقَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْهُ النُّصُوصُ.

(9/262)


و لاعول في شيء من مواريث الفرائض
...
1717 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ عَوْلَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَوَارِيثِ الْفَرَائِضِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْمِيرَاثِ ذَوُو فَرَائِضَ مُسَمَّاةٍ لاَ يَحْتَمِلُهَا الْمِيرَاثُ، مِثْلُ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ، وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ وَأُخْتٍ لأَُمٍّ أَوْ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ أَوْ لأََبٍ وَأَخَوَيْنِ لأَُمٍّ أَوْ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَةٍ، أَوْ ابْنَتَيْنِ

(9/262)


1718 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ ذَكَرٍ كَذَلِكَ، أَوْ تَرَكَ أَبًا أَوْ جَدًّا لأََبٍ، وَتَرَكَ أَخًا لأَُمٍّ، أَوْ أُخْتًا لأَُمٍّ، أَوْ أَخًا لأَُمٍّ، أَوْ إخْوَةً لأَُمٍّ: فَلاَ مِيرَاثَ لِوَلَدِ الأُُمِّ أَصْلاً، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلِلأَخِ لِلأُُمِّ السُّدُسُ فَقَطْ، وَلِلأُُخْتِ لِلأُُمِّ السُّدُسُ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ أُخْتًا وَأَخًا لأَُمٍّ: فَلَهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، لاَ يُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الأُُنْثَى وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً: فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ شَرْعًا سَوَاءٌوَكَذَلِكَ إنْ وَجَبَ لَهُمْ السُّدُسُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَلاَ فَرْقَ.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ

(9/267)


فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ.} وَهَذَا قَوْلُنَا. وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ، إِلاَّ رِوَايَتَيْنِ رُوِيَتَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, إحْدَاهُمَا أَنَّ الإِخْوَةَ لِلأُُمِّ يَقْسِمُونَ الثُّلُثَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الأَخَ لِلأُُمِّ وَالأُُخْتَ لِلأُُمِّ يَرِثَانِ مَعَ الأَبِ,فأما الْمَسْأَلَةُ الأُُولَى: فَلاَ نَقُولُ بِهَا، لأََنَّهَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذِهِ الْقَوْلَةِ قِيَاسًا عَلَى مِيرَاثِ الإِخْوَةِ لِلأَبِ أَوْ الأَشِقَّاءِ، وَبِاَللَّهِ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ كُلِّ مَا حَكَمُوا فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَأَيْنَ هَذَا الْقِيَاسُ مِنْ قِيَاسِهِمْ مِيرَاثَ الْبِنْتَيْنِ عَلَى مِيرَاثِ الأُُخْتَيْنِ، وَسَائِرِ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ؟.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ تَصِحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلاَّ فِي السُّدُسِ الَّذِي حَطَّهُ الإِخْوَةُ مِنْ مِيرَاثِ الأُُمِّ فَرَدُّوهَا إلَى السُّدُسِ، عَنِ الثُّلُثِ فَقَطْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلاَفُهَا وَلَمْ نَقُلْ بِهَا: لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا التَّوْرِيثَ " كَلاَلَةً " فَوَجَبَ أَنْ تَعْرِفَ مَا " الْكَلاَلَةُ " وَمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ، عَنْ مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ بِنَصٍّ ثَابِتٍ، أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، وَإِلَّا فَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَوَجَدْنَا: مَنْ يَرِثُهُ إخْوَةٌ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ أَخٌ إمَّا شَقِيقٌوَأَمَّا لأََبٍ،وَأَمَّا لأَُمٍّ، وَلاَ وَلَدَ لَهُ، وَلاَ ابْنَةَ، وَلاَ وَلَدَ ابْنِ ذَكَرٍ وَإِنْ سَفَلَ، وَلاَ أَبَ، وَلاَ جَدَّ لأََبٍ وَإِنْ عَلاَ فَهُوَ كَلاَلَةٌ، مِيرَاثُهُ كَلاَلَةٌ بِإِجْمَاعٍ مَقْطُوعٍ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَوَجَدْنَا أَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ شَيْءٌ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ: أَهُوَ كَلاَلَةٌ أَمْ لاَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْطَعَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ الثَّابِتِ إذَا لَمْ نَجِدْ نَصًّا مُفَسِّرًا فَوَجَبَ بِهَذَا أَنْ لاَ يَرِثَ الإِخْوَةُ كَيْفَ كَانُوا، إِلاَّ حَيْثُ يُعْدَمُ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا، إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ مِيرَاثَ بَعْضِهِمْ نَصٌّ صَحِيحٌ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَطْ: وَهُوَ الأَخُ الشَّقِيقُ، أَوْ لِلأَبِ مَعَ الأَبْنَةِ فَصَاعِدًا، وَأُخْتٌ مِثْلُهُ مَعَهُ فَصَاعِدًا، مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: الأُُخْتُ كَذَلِكَ مَعَ الْبِنْتِ، أَوْ الْبَنَاتِ حَيْثُ لاَ عَاصِبَ لِلْمَيِّتِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/268)


1719 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَةً، أَوْ ابْنًا وَابْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ ابْنَةً وَابْنًا فَأَكْثَرَ، أَوْ اثْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ: فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ، وَلِلأُُنْثَى سَهْمٌ. هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ، وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.

(9/268)


1720 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَخُ، وَالأُُخْتُ الأَشِقَّاءُ أَوْ لِلأَبِ فَقَطْ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ أَيْضًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ، وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.

(9/268)


1721 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ أَخٌ شَقِيقٌ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَمَعَهُ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ فَأَكْثَرُ، أَوْ لاَ أُخْتَ مَعَهُ لَمْ يَرِثْ هَاهُنَا الأَخُ لِلأَبِ، وَلاَ الأُُخْتُ لِلأَبِ شَيْئًا, وَهَذَا نَصُّ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلأََوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ أَيْضًا

(9/268)


1722 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَرَكَ أُخْتًا شَقِيقَةً، وَأَخًا لأََبٍ، أَوْ إخْوَةً ذُكُورًا لأََبٍ: فَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ وَلِلأَخِ لِلأَبِ أَوْ الإِخْوَةِ مِنْ الأَبِ: مَا بَقِيَ وَإِنْ كَثُرُوا وَهَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، وَنَصُّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ أَخًا، أَوْ إخْوَةً لأََبٍ فَلِلشَّقِيقَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأَخِ، أَوْ الإِخْوَةِ لِلأَبِ، كَمَا قلنا.

(9/269)


فان ترك أختا شقبقة
...
1723 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَرَكَ أُخْتًا شَقِيقَةً، وَأُخْتًا لأََبٍ، أَوْ أَخَوَاتٍ لِلأَبِ: فَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ، وَلِلَّتِي لِلأَبِ أَوْ اللَّوَاتِي لِلأَبِ: السُّدُسُ فَقَطْ وَإِنْ كَثُرْنَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} فَلَمْ يَجْعَلْ تَعَالَى لِلأَخَوَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ إِلاَّ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ تَرَكَ أَيْضًا أُخْتًا لأَُمٍّ كَانَ لَهَا سُدُسٌ خَامِسٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَخًا لأَُمٍّ فَإِنْ كَانَ أَخَوَانِ لأَُمٍّ، أَوْ أُخْتَانِ لأَُمٍّ، أَوْ أَخًا، أَوْ أُخْتًا، أَوْ إخْوَةً كَثِيرًا لأَُمٍّ: فَالثُّلُثُ الْبَاقِي لَهُمَا أَوْ لَهُمْ أَوْ لَهُنَّ وَهَذَا نَصٌّ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ. فَإِنْ تَرَكَ شَقِيقَتَيْنِ وَأَخَوَاتٍ لأََبٍ، وَابْنَ عَمٍّ أَوْ عَمًّا، فَلِلشَّقِيقَتَيْنِ: الثُّلُثَانِ " وَلِلْعَمِّ، أَوْ لأَبْنِ الْعَمِّ مَا بَقِيَ، وَلاَ شَيْءَ لِلَّوَاتِي لِلأَبِ وَهَذَا دَلِيلُ النَّصِّ وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ إِلاَّ شَيْئًا ذُكِرَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الثُّلُثَ الْبَاقِي لِلَّوَاتِي لِلأَبِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ حَيْثُ يُوجَدُ عَاصِبٌ ذَكَرٌ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ، وَأُخْتَيْنِ لأَُمٍّ، وَأَخَوَاتٍ أَوْ أُخْتًا لأََبٍ، أَوْ إخْوَةً لأََبٍ، فَلِلشَّقِيقَتَيْنِ فَصَاعِدًا: الثُّلُثَانِ، وَلِلْبِنْتَيْنِ لِلأُُمِّ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ، وَلاَ شَيْءَ لِلأُُخْتِ لِلأَبِ، وَلاَ لِلأَخَوَاتِ لِلأَبِ، وَلاَ لِلإِخْوَةِ لِلأَبِ وَهَذَا دَلِيلُ النَّصِّ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ مَقْطُوعٌ بِهِ.

(9/269)


1724 - مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا شَقِيقَةً، وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِلأَبِ، فَلِلشَّقِيقَةِ: النِّصْفُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ لِلأَبِ، مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مَا يَجِبُ لِلأَخَوَاتِ السُّدُسُ، وَلاَ يَزِدْنَ عَلَى السُّدُسِ أَصْلاً، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلذَّكَرِ وَحْدَهُ. فَإِنْ كَانَتَا شَقِيقَتَيْنِ، وَأُخْتًا أَوْ أَخَوَاتٍ لأََبٍ، وَأَخًا لأََبٍ فَالثُّلُثَانِ لِلشَّقِيقَتَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلأَخِ الذَّكَرِ وَلاَ شَيْءَ لِلأُُخْتِ لِلأَبِ، وَلاَ لِلأَخَوَاتِ لِلأَبِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى هُوَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي أَخَوَاتٍ لأََبٍ وَأُمٍّ، وَإِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ لأََبٍ: لِلأَخَوَاتِ مِنْ الأَبِ وَالأُُمِّ: الثُّلُثَانِ، وَسَائِرُ الْمَالِ لِلذُّكُورِ دُونَ الإِنَاثِ.وبه إلى، سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَخَوَاتٍ لأََبٍ وَأُمٍّ فَجَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ دُونَ الإِنَاثِ، فَخَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَ وَهُوَ يَرَى أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: مَا رَدُّك، عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ، أَلَقِيت

(9/269)


1725 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَرِثُ مَعَ الأَبْنِ الذَّكَرِ أَحَدٌ إِلاَّ الْبَنَاتُ، وَالأَبُ وَالأُُمُّ، وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ، وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، فَقَطْ. وَوَلَدُ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ فِي الْمِيرَاثِ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدِ أَبِيهِ، وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً لِغَيْرِ أَبِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عُمُومُ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.

(9/271)


1726 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَرِثُ بَنُو الأَبْنِ مَعَ الأَبْنِ الذَّكَرِ شَيْئًا أَبَاهُمْ كَانَ أَوْ عَمَّهُمْ.، وَلاَ يَرِثُ بَنُو الأَخِ الشَّقِيقِ أَوْ لِلأَبِ مَعَ أَخٍ شَقِيقٍ أَوْ لأََبٍ وَهَذَا نَصُّ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: "فَلأََوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ".

(9/271)


ومن ترك الابنتة وبنى ابن ذكور
...
1727 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَرَكَ ابْنَةً، وَبَنِي ابْنٍ ذُكُورًا فَلأَبْنَتِهِ النِّصْفُ وَلِبَنِي الأَبْنِ الذُّكُورِ مَا بَقِيَ, فَإِنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا، وَبَنِي ابْنٍ ذُكُورًا فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَمَا بَقِيَ فَلِبَنِي الأَبْنِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ ابْنَةً وَلاَ وَلَدًا، وَتَرَكَ بِنْتَ ابْنٍ، فَلَهَا النِّصْفُ، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، فَإِنْ تَرَكَ بَنَاتِ ابْنٍ وَبَنِي ابْنٍ: فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً وَابْنَةَ ابْنٍ، أَوْ بِنْتَيْ ابْنٍ، أَوْ بَنَاتِ ابْنٍفَلِلأَبْنَةِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الأَبْنِ، أَوْ لَبِنْتَيْ الأَبْنِ، أَوْ لِبَنَاتِ الأَبْنِ: السُّدُسُ فَقَطْ وَإِنْ كَثُرْنَ وَالْبَاقِي لِلْعَاصِبِ. فَإِنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَبَنَاتِ ابْنٍ وَعَمًّا وَابْنَ عَمٍّ، أَوْ أَخًا، أَوْ ابْنَ أَخٍ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْعَمِّ، أَوْ لأَبْنِ الْعَمِّ، أَوْ لِلأَخِ، أَوْ لأَبْنِ الأَخِ، وَلاَ شَيْءَ لِبَنَاتِ الأَبْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ نَصٌّ وَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الآنَ.

(9/271)


ومن ترك ابنة وبنى ابن الذكور ا واناثا
...
1729 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَرَكَ ابْنَةً وَبَنِي ابْنٍ ذُكُورًا وَإِنَاثًا: فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ ثُمَّ يَنْظُرُ: فَإِنْ وَقَعَ لِبَنَاتِ الأَبْنِ بِالْمُقَاسَمَةِ السُّدُسُ فَأَقَلُّ قَاسَمْنَ، وَإِنْ وَقَعَ لَهُنَّ أَكْثَرُ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى السُّدُسِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَبَنِي ابْنٍ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي لِذُكُورِ وَلَدِ الْوَلَدِ دُونَ الإِنَاثِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً، وَبِنْتَ ابْنٍ، وَبَنِي ابْنِ ابْنٍ: فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الأَبْنِ السُّدُسُ،وَكَذَلِكَ لَوْ كُنَّ أَكْثَرَ وَالْبَاقِي لِذُكُورِ وَلَدِ الْوَلَدِ دُونَ الإِنَاثِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُقَاسِمُ الذَّكَرُ مِنْ وَلَدِ الْوَلَدِ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ الإِنَاثِ وَيُقَاسِمُ أَيْضًا وَلَدُ الْوَلَدِ عَمَّاتِهِ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ كَالْحُجَّةِ فِي الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ لِلأَبِ مَعَ الأُُخْتِ وَالأَخَوَاتِ

(9/271)


والجدة ترث الثلث اذا لم يكن للميت أم حيث الثلث
...
1729 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجَدَّةُ تَرِثُ الثُّلُثَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ حَيْثُ تَرِثُ الأُُمُّ الثُّلُثَ، وَتَرِثُ السُّدُسَ حَيْثُ تَرِثُ الأُُمُّ السُّدُسَ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ وَتَرِثُ الْجَدَّةُ وَابْنُهَا أَبُو الْمَيِّتِ حَيٌّ، كَمَا تَرِثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا. وَكُلُّ جَدَّةٍ تَرِثُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ أَقْرَبُ مِنْهَا فَإِنْ اسْتَوَيْنَ فِي الدَّرَجَةِ اشْتَرَكْنَ فِي الْمِيرَاثِ الْمَذْكُورِ. وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا أُمُّ الأُُمِّ، وَأُمُّ الأَبِ، وَأُمُّ أُمِّ الأُُمِّ، وَأُمُّ أُمِّ الأَبِ، وَأُمُّ أَبِي الأَبِ، وَأُمُّ أَبِي الأُُمِّ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ: فَرُوِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثْ إِلاَّ جَدَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أُمُّ الأُُمِّ فَقَطْ وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ، تَوْرِيثُ جَدَّتَيْنِ فَقَطْ، وَهُمَا: أُمُّ الأُُمِّ وَأُمَّهَاتُهَا، وَأُمُّ الأَبِ وَأُمَّهَاتُهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بِتَوْرِيثِ ثَلاَثِ جَدَّاتٍ، وَهُمَا اللَّتَانِ ذَكَرْنَا، وَأُمُّ أَبٍ الأَبِ وَأُمَّهَاتُهَا وَرُوِيَ، عَنْ طَائِفَةٍ: تَوْرِيثُ كُلِّ جَدَّةٍ إِلاَّ جَدَّةً مِنْ قِبَلِ أَبِي أُمٍّ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِي جَدَّةٍ.
وقال بعضهم: لاَ تَرِثُ الْجَدَّةُ وَالْجَدَّتَانِ وَالأَكْثَرُ إِلاَّ السُّدُسَ فَقَطْ وقال بعضهم: إنْ كَانَتْ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ أَقْرَبَ انْفَرَدَتْ بِالسُّدُسِ وَلَمْ تَرِثْ مَعَهَا الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأَبِ، فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأَبِ مُسَاوِيَةً لِلَّتِي مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ أَوْ كَانَتْ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ أَبْعَدَ اشْتَرَكَتَا فِي السُّدُسِ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تَرِثُ الْجَدَّةُ مَا دَامَ ابْنُهَا الَّذِي صَارَتْ بِهِ جَدَّةً حَيًّا.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأَُمِّهِ الثُّلُثُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} فَجَعَلَ آدَمَ وَامْرَأَتَهُ عليهما السلام أَبَوَيْنَا فَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَسَرَ قَوْمٌ عَلَى الْكَذِبِ هَاهُنَا فَادَّعَوْا الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ لَيْسَ لِلْجَدَّةِ إِلاَّ السُّدُسُ وَهَذَا مِنْ تِلْكَ الْجَسْرَاتِ كَتَبَ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّبْرِيزِيُّ الأَزْدِيُّ، قَالَ: ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ اللَّبَّانِ، حَدَّثَنَا دِعْلِجُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْجَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْجَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الأُُمِّ إذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ وَقَالَ طَاوُوس: الْجَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الأُُمِّ تَرِثُ مَا تَرِثُ الأُُمُّ وَمَا وَجَدْنَا إيجَابَ السُّدُسِ لِلْجَدَّةِ إِلاَّ مُرْسَلاً، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ: خَمْسَةٌ فَقَطْ، فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ.
قال أبو محمد: لاَ سِيَّمَا مَنْ وَرَّثَ الْجَدَّ مِيرَاثَ الأَبِ فَإِنَّهُ نَاقَضَ، إذْ لَمْ يُوَرِّثْ الْجَدَّةَ مِيرَاثَ الأُُمِّ.
فإن قيل: إنَّ خَبَرَ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ "َطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ جَدَّاتٍ السُّدُسَ" رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، كُلُّهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ. وَخَبَرُ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ.وَمُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ شَهِدَا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ

(9/272)


"َأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ " . وَخَبَرُ ابْنِ وَهْبٍ عَمَّنْ سَمِعَ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَ جَدَّتَيْنِ السُّدُسَ، إذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ، أَوْ شَيْءٌ دُونَهُمَا، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ إِلاَّ وَاحِدَةٌ: فَلَهَا السُّدُسُ. وَخَبَرُ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُزْمَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ.وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالُوا: وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُخَالِفُهُ. قلنا: هَذَا كُلُّهُ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. حَدِيثُ قَبِيصَةَ مُنْقَطِعٌ، لأََنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ، وَلاَ سَمِعَهُ مِنْ الْمُغِيرَةِ، وَلاَ مُحَمَّدٍ، وَخَبَرُ إبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ لِقَوْلِنَا، لأََنَّنَا نَقُولُ بِتَوْرِيثِهَا السُّدُسَ مِنْ حَيْثُ تَرِثُ الأُُمُّ السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ وَالإِخْوَةِ. وَأَمَّا خَبَرُ بُرَيْدَةَ فَعَبْدُ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ مَجْهُولٌ. وَخَبَرُ عَلِيٍّ أَفْسَدَهَا كُلَّهَا، لأََنَّ ابْنَ وَهْبٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَأَيْضًا فَعَبْدُ الْوَهَّابِ هَالِكٌ سَاقِطٌ. وَأَيْضًا فَلاَ سَمَاعَ يَصِحُّ لِمُجَاهِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَالرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ يُعْرَفُ مَخْرَجُهَا، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ لَهَا السُّدُسَ حَيْثُ لِلأُُمِّ السُّدُسُ. وَهَلَّا قَالُوا هَاهُنَا بِقَوْلِهِمْ الْمَعْهُودِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَتْرُكْ مَا رُوِيَ إِلاَّ لأََمْرٍ هُوَ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَوْ صَحَّ هَاهُنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمٌ بِخِلاَفِ قَوْلِنَا لَقُلْنَا بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَصْلاً. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رَوَيْتُمْ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ الْمَذْكُورِ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: إنَّ ابْنَ ابْنِي، أَوْ ابْنَ ابْنَتِي مَاتَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّ لِي فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقًّا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَجِدُ لَك فِي الْكِتَابِ حَقًّا، وَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي لَك بِشَيْءٍ وَسَأَسْأَلُ النَّاسَ قلنا: إنَّمَا أَخْبَرَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، عَنْ وُجُودِهِ وَسَمَاعِهِ وَصَدَقَ، وَقَدْ رَوَيْتُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ سَمِعَا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْمَعْ، فَرَجَعَ هُوَ رضي الله عنه إلَى مَا سَمِعَا مِمَّا لَمْ يَسْمَعْ هُوَ فَأَيُّ غَرِيبَةٍ فِي أَنْ لاَ يَجِدَ أَيْضًا فِي الْكِتَابِ فِي ذِكْرِهِ حِينَئِذٍ مَا يَجِدُ غَيْرُهُ وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ مِنْ التَّزَيُّدِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فِي الصَّدَاقِ، فَلَمَّا ذُكِّرَ بِالْقُرْآنِ رَجَعَ، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ. وَقَدْ وَجَدْنَا نَصًّا: أَنَّ الْجَدَّةَ أَحَدُ الأَبَوَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِيرَاثُ الأَبَوَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَمِيرَاثُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ مَا فِي حِفْظِهِ، وَنَسِيَ آدَم، فَنَسِيَ بَنُوهُ، فَهَذَا مِيرَاثُ الْجَدَّةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ لِمُخَالِفِنَا مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً، لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ نَظَرٍ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وَلاَ مَعْنَى لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ وَقِلَّتِهِمْ، وَقَدْ أَفْرَدْنَا أَجْزَاءَ ضَخْمَةً فِيمَا خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ، وَفِيمَا قَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَ بِهِ قَبْلَهُ، وَقَطَعَهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ كُلُّ

(9/273)


وَاحِدٍ مِنْهُمْ الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ الْمَقْطُوعَ بِهِ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ نَظَرٌ صَحِيحٌ بِتَرْجِيحِ مَا كَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى مَا قَلَّ الْقَائِلُونَ بِهِ. فَهَذَا مِيرَاثُ الْجَدَّةِوَأَمَّا: كَمْ جَدَّةً تَرِثُ فَإِنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: لاَ تَرِثُ إِلاَّ جَدَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أُمُّ الأُُمِّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَجُلاً مَاتَ وَتَرَكَ جَدَّتَيْهِ: أُمَّ أُمِّهِ، وَأُمَّ أَبِيهِ، فَأَتَوْا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَأَعْطَى أُمَّ أُمِّهِ السُّدُسَ دُونَ أُمِّ الأَبِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَكَانَ بَدْرِيًّا لَقَدْ وَرَّثْتَ الَّتِي لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ مَا وَرِثَ مِنْهَا شَيْئًا، وَتَرَكَتْ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ وَرِثَ مَالَهَا كُلَّهُ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَدَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي الزِّنَادِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَرَّثَ الْجَدَّةَ أُمَّ الأُُمِّ السُّدُسَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَاءَتْهُ الْجَدَّةُ أُمُّ الأَبِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَسَوْفَ أَسْأَلُ لَك النَّاسَ قَالَ: فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُهُ شَيْئًا فَقَالَ غُلاَمٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ: لِمَ لاَ تُوَرِّثُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ لَوْ تَرَكَتْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَرِثَهَا، وَهَذِهِ لَوْ تَرَكَتْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ يَرِثْهَا ابْنُ ابْنَتِهَا، فَوَرَّثَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَيَجْعَلُ فِي الْجَدَّاتِ خَيْرًا كَثِيرًا. فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: جَعَلاَ الْمِيرَاثَ لِلْجَدَّةِ الَّتِي لِلأُُمِّ دُونَ أُمِّ الأَبِ. فإن قيل: قَدْ رَجَعَا، عَنْ ذَلِكَ قلنا: قَدْ قَالاَ بِهِ، وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، فَلاَ إجْمَاعَ مُتَيَقَّنٌ مَعَكُمْ أَصْلاً وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ كَمَا تَرَوْنَ. وَهَذَا عَلِيٌّ يُخْبِرُ بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِمَنْعِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَعَلِيٌّ مَعَهُ يُوَافِقُهُ، وَعُثْمَانُ أَيْضًا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا وَلِي عَلِيٌّ خَالَفَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَ مَا سَلَفَ مِمَّا ذَكَرْنَا إجْمَاعًا فَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا، وَالْكَذِبُ عَلَى جَمِيعِ الأُُمَّةِ أَشَدُّ عَارًا وَإِثْمًا مِنْ الْكَذِبِ عَلَى وَاحِدٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ خَيْرَ فِيهِ، وَالْقَوْلُ بِالظَّنِّ كَذِبٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَرِثُ إِلاَّ جَدَّتَانِ فَقَطْ: أُمُّ الأُُمِّ وَأُمُّهَا، وَأُمُّ أُمِّهَا، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّهَا وَهَكَذَا أَبَدًا: أُمًّا فأما فَقَطْ. وَأُمُّ الأَبِ وَأُمُّهَا، وَأُمُّ أُمِّهَا، وَأُمُّ أُمِّ أُمِّهَا، وَهَكَذَا: أُمًّا فأما فَقَطْ، وَلاَ يُوَرِّثُونَ أُمَّ جَدٍّ أَصْلاً. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرِثُ ثَلاَثُ جَدَّاتٍ فَقَطْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ لأَبْنِ مَسْعُودٍ: أَتَغْضَبُ عَلَيَّ أَنْ أُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ، وَأَنْتَ تُوَرِّثُ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ أَفَلاَ تُوَرِّثُ حَوَّاءُ امْرَأَةَ آدَمَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، وَمَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ مَسْلَمَةُ: عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، كِلاَهُمَا: عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ خَارِجَةُ، وَمَكْحُولٌ

(9/274)


أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَرَّثَ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ: اثْنَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ، وَوَاحِدَةً مِنْ قِبَلِ الأَبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ. وَحُمَيْدٍ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: يَرِثْنَ ثَلاَثُ جَدَّاتٍ جَدَّتَا الأَبِ، وَجَدَّةُ الأُُمِّ لأَُمِّهَا وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانُوا يُوَرِّثُونَ مِنْ الْجَدَّاتِ ثَلاَثًا: جَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الأَبِ، وَوَاحِدَةً مِنْ قِبَلِ الأُُمِّ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ، هُوَ ابْنُ سَوَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جِئْنَ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ إلَى مَسْرُوقٍ فَوَرَّثَ ثَلاَثًا، وَأَلْغَى أُمَّ أَبِي الأُُمِّ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: إذَا كُنَّ الْجَدَّاتُ أَرْبَعًا: طُرِحَتْ أُمُّ أَبِي الأُُمِّ وَوَرِثَ الثَّلاَثُ السُّدُسَ أَثْلاَثًا بَيْنَهُنَّ وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَرِثُ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُوَرِّثُ الْجَدَّاتِ الأَرْبَعِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَرِّثَانِ أَرْبَعَ جَدَّاتٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَرِثُ كُلُّ جَدَّةٍ إِلاَّ جَدَّةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَبُو أُمٍّ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِمَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إنَّمَا طُرِحَتْ أُمُّ أَبِي الأُُمِّ، لأََنَّ أَبَا الأُُمِّ لاَ يَرِثُ.وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَرِثُ كُلُّ جَدَّةٍ.كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ، وَأَبِي سَهْلٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ كِلاَهُمَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُوَرِّثُ مَا قَرُبَ مِنْ الْجَدَّاتِ وَمَا بَعُدَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ: جِئْنَ إلَى مَسْرُوقٍ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ يَتَسَاءَلْنَ فَأَلْغَى أُمَّ أَبِي الأُُمِّ، قَالَ أَشْعَثُ: فَأَخْبَرْت بِذَلِكَ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ: أَوْهَمَ أَبُو عَائِشَةَ، يُوَرَّثْنَ جَمِيعًا.
قال أبو محمد: أَبُوعَائِشَةَ: كُنْيَةُ مَسْرُوقٍ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ كُلُّ هَؤُلاَءِ رُوِيَ عَنْهُمْ تَوْرِيثُ أُمِّ أَبِي الأُُمِّ، وَغَيْرِهَا. قَالَ عَلِيٌّ: فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ فَوَجَدْنَا حُجَّةَ مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ إِلاَّ جَدَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أُمُّ الأُُمِّ وَأُمُّهَا ثُمَّ أُمُّهَا، هَكَذَا فَقَطْ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْمُجْتَمَعُ عَلَى تَوْرِيثِهَا، وَلاَ يَصِحُّ أَثَرٌ بِخِلاَفِ ذَلِكَ. فإن قيل: قَدْ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، عَنْ ذَلِكَ قلنا: نَعَمْ، وَعُمَرُ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ.فإن قيل: فَقَدْ رَجَعَ قلنا: فَكَانَ مَاذَا إذَا وُجِدَ الْخِلاَفُ، وَوَسِعَ الآخَرَ مَا وَسِعَ الأَوَّلَ مِنْ الأَجْتِهَادِ وَالأَسْتِدْلاَلِ، وَلَيْسَتْ الْحُجَّةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمَا رضي الله عنهما بِمُوجَبِهِ رُجُوعًا، لأََنَّ أُمَّ الأُُمِّ تَرِثُ، وَلاَ تُورَثُ

(9/275)


بِلاَ خِلاَفٍ، وَالْعَمَّةُ تُورَثُ، وَلاَ تَرِثُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَهَذَا عُمَرُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ تَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى نَاكِحِهَا فِي الأَبَدِ، وَأَبَاحَ لَهُ نِكَاحَهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ مَالِكٌ، عَنْ قَوْلِهِ الأَوَّلِ لِرُجُوعِ عُمَرَ عَنْهُ. وَهَذَا عَلِيٌّ قَدْ رَجَعَ، عَنْ مَنْعِهِ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وَلَمْ يَرْجِعْ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ لِرُجُوعِهِ، وَلَيْسَ رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ حُجَّةً، كَمَا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَيْسَ حُجَّةً، إِلاَّ أَنْ يُصَحِّحَ الْقَوْلَ أَوْ الرُّجُوعَ حُجَّةً. وَقَالُوا أَيْضًا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَرِثُ مِنْ الأَجْدَادِ إِلاَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَبٌ الأَبِ، وَأَبُوهُ، وَأَبُو أَبِيهِ هَكَذَا فَقَطْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لاَ يَرِثَ مِنْ الْجَدَّاتِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أُمُّ الأُُمِّ، وَأُمُّهَا وَأُمُّ أُمِّهَا وَهَكَذَا فَقَطْ.
قال أبو محمد: هَاتَانِ حُجَّتَانِ لاَزِمَتَانِ لأََهْلِ الْقِيَاسِ، لأََنَّ الأُُولَى كَثِيرًا مَا يَحْتَجُّونَ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ أَصَحُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقِيَاسِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ دُونُهَا أُمٌّ، بِدَلِيلِ ذِكْرِ الأُُمِّ الَّتِي دُونَهَا، فَلَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا إِلاَّ جَدَّةً تَكُونُ دُونَهَا أُمٌّ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ آنِفًا وَعِلَّتَهُ، وَلاَ يَلْزَمَانِنَا، لأََنَّنَا لاَ نَمْنَعُ مِنْ الأَخْذِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ إذَا أَوْجَبَهُ برهان، بَلْ نُوجِبُ الأَخْذَ بِهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْلاَ الْبُرْهَانُ الْمُوجِبُ لِتَوْرِيثِ كُلِّ جَدَّةٍ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِسِوَاهُ، لأََنَّهُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ وَمَا عَدَاهُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَنَحْنُ لاَ نَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ إِلاَّ جَدَّتَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَوْرَدْنَا. فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِخَبَرِ مُجَاهِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَ جَدَّتَيْنِ السُّدُسَ قلنا: هَذَا خَبَرٌ فَاسِدٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَنَعَ مِنْ تَوْرِيثِ أَكْثَرَ وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ أَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَرَّثَ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ. وَلَيْسَ قَوْلُ سَعْدٍ أَلاَ تُوَرِّثُ حَوَّاءَ امْرَأَةَ آدَمَ حُجَّةً، لأََنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ تَوْرِيثِ حَوَّاءَ امْرَأَةِ آدَمَ لَوْ كَانَتْ حَيَّةً، وَلَمْ تَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ، وَلاَ جَدَّةٌ، لأََنَّ كُلَّ مَيِّتٍ فِي الْعَالَمِ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَهُ أُمٌّ، وَلأَُمِّهِ أُمٌّ، وَلأَُمِّ أُمِّهِ أُمٌّ، هَكَذَا قَطْعًا بِيَقِينٍ إلَى بِنْتِ حَوَّاءَ، فَهِيَ جَدَّةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّ الأُُمِّ وَأُمَّهَاتِهَا بِيَقِينٍ، فَبَطَلَ هَذَا الأَعْتِرَاضُ، وَلَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلِّقٌ أَصْلاً. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ: مِنْ أَنَّ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، فِي أَقْوَالِهِمَا فِي الْفَرَائِضِ مُقَلِّدِينَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَزَيْدٌ يُوَرِّثُ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ فَخَالَفُوهُ بِلاَ مَعْنَى، وَلَيْسَ إنْكَارُ سَعْدٍ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ تَوْرِيثَ ثَلاَثِ جَدَّاتٍ مُوجِبًا أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُوَرِّثُ جَدَّتَيْنِ، بَلْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لاَ يُوَرِّثُ إِلاَّ جَدَّةً وَاحِدَةً، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ.وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ إِلاَّ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ، فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا إِلاَّ خَبَرُ إبْرَاهِيمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ السُّدُسَ، وَهَذَا مُرْسَلٌ، لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَنَعَ مِنْ تَوْرِيثٍ أَكْثَرَ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوَرِّثْ

(9/276)


إِلاَّ أَرْبَعَ جَدَّاتٍ، فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا أَصْلاً، فَبَطَلَ لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْحُجَّةِ,وَأَمَّا مَنْ وَرَّثَ كُلَّ جَدَّةٍ إِلاَّ جَدَّةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَبُو أُمٍّ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ أَصْلاً، إِلاَّ مَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: مِنْ أَنَّ الَّذِي تُدْلِي بِهِ لاَ يَرِثُ فَيُقَالُ لَهُمْ: فَكَانَ مَاذَا هَذَا الْمُسْلِمُ يَمُوتُ لَهُ أَبٌ كَافِرٌ، وَجَدٌّ مُسْلِمٌ، أَوْ عَمٌّ مُسْلِمٌ، أَوْ ابْنُ عَمٍّ مُسْلِمٌ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا يَرِثُ، وَأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ لاَ يَرِثُ. إنَّمَا الْمَوَارِيثُ بِالنُّصُوصِ لاَ بِالْقُرْبِ، وَلاَ بِالإِدْلاَءِ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَقَةُ لاَ تَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ، وَلاَ الْمَجْنُونُ فَلاَ يَنْكِحَانِ، وَعَاصِبُهُمَا يَنْكِحُ مَوْلاَتَهَا، وَعَاصِبُ الْمَجْنُونِ يَنْكِحُ ابْنَتَهُ وَأُخْتَه، وَاَلَّذِي يُدْلِيَانِ بِهِ لاَ يَنْكِحُ. وَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَدَّعُوا إجْمَاعًا عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنْ مَنْعِ الْجَدَّةِ أُمِّ أَبِي الأُُمِّ الْمِيرَاثَ، فَمَا هَذَا بِبِدْعٍ مِنْ جَسْرَاتِهِمْ، فَقَدْ رَأَيْنَا كَذِبَهُمْ بِقَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِ فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْحُجَّةِ.وَأَمَّا مَنْ وَرَّثَ كُلَّ جَدَّةٍ، فَإِنَّ حُجَّتَهُ مَا صَدَّرْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ، وَأَحَدُ الأَبَوَيْنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَمِيرَاثُ الأَبَوَيْنِ مُبَيَّنٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْرَمَ الأَبَوَانِ الْمِيرَاثَ إِلاَّ بِنَصٍّ صَحِيحٍ، أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ.فَصَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بِنَقْلِ كَوَافِّ الأَعْصَارِ، عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُوَرِّثْ قَطُّ مِنْ ابْنِ بِنْتٍ بِالْبُنُوَّةِ، وَلاَ ابْنِ بِنْتٍ بِالْبُنُوَّةِ، فَسَقَطَ مِيرَاثُ كُلِّ جَدٍّ يَكُونُ الْمَيِّتُ مِنْهُ ابْنَ بِنْتٍ، وَبَقِيَ مِيرَاثُ الْجَدِّ الَّذِي هُوَ أَبٌ وَأَبُو أَبٍ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ بِمَنْعِ الْجَدَّةِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِذَلِكَ، فَبَقِيَ مِيرَاثُهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَاجِبًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَوَجَدْنَا خَبَرَ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ" مُوَافِقًا لِهَذَا الْقَوْلِ، لأََنَّهُ عَمَّ، وَلَمْ يَخُصَّ جَدَّةً مِنْ جَدَّةٍ، فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِالْمُرْسَلِ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا، لأََنَّهُ أَعَمُّ مِنْ سَائِرِ الأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَعْتَمِدُ إِلاَّ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَقَطْ، وَبَطَلَتْ سَائِرُ الأَقْوَالِ بِيَقِينٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، لِتَعَرِّيهَا مِنْ حُجَّةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وأما تفاضل الجدات في القرب فإن طائفة قالت: لا نبالي أي الجدات أقرب، ولا أيتهن أبعد في الميراث سواء. كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحجاج بن أرطاة عن الشعبي قال: كان ابن مسعود يساوي بين الجدتين - كانت إحداهما أقرب أو لم تكن أقرب - وروي عنه أيضا: لا يحجب الجدات إلا الأم، ويرثن - وإن كان بعضهن أقرب من بعض - إلا أن تكون إحداهن أم الأخرى فترث الابنة دون أمها. وقول آخر: كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أشعث عن الشعبي قال: كان ابن مسعود يورث ما قرب من الجدات وما بعد منهن، جعل لهن السدس إذا كن من مكانين شتى، فإذا كن من مكان واحد ورث القربى. وقول ثالث: قاله الحسن بن حي، وزفر بن الهذيل، وهو إن كانت

(9/277)


إحدى الجدتين جدة من جهتين، وكانت الأخرى جدة من جهة واحدة: فللتي من جهتين ثلثا السدس، وللتي من جهة واحدة ثلث السدس. مثال ذلك: امرأة تزوج ابن ابنها ابنة ابنتها فولد لهما ولد، فمات أبواه وجدتاه ولم يترك إلا هذه المرأة التي هي أم أبي أبيه وأم أم أمه، فهي جدة من جهتين - وجدة أخرى هي أم أم أبيه، فهي جدة من جهة واحدة. وقول رابع: وهو أنه إن كانت الجدة التي من جهة الأم أبعد من التي من قبل الأب اشتركتا في الميراث جميعا، وكذلك إن كانتا سواء، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب من التي من قبل الأب: كان الميراث كله للتي من قبل الأم، ولا شيء للتي من قبل الأب. كما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت قال: إذا كانت الجدة من قبل الأم أقرب فهي أحق به، فإن كانت أبعد فهما سواء. ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد، وحميد عن (أهل المدينة)، قالوا: إذا كانت جدتان من قبل الأم ومن قبل الأب، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فهي أحق بالسدس، وإن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس بينهما. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد قال: أدركت خارجة بن زيد، وطلحة بن عبد الله بن عوف، وسليمان بن يسار، يقولون: إذا كانت جدتان من قبل الأب ومن قبل الأم، فإن كانت التي من قبل الأم أقرب فهي أحق بالسدس، وإن كانت أبعد: فهما سواء. وهو قول عطاء - وبه يقول مالك، والأوزاعي، وروي عن الشافعي. وقول خامس: وهو أيتهن كانت أقرب فهي أحق بالميراث. كما روينا من طريق سفيان، ومعمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب، فذكر توريث أبي بكر للجدة من قبل الأب أو من قبل الأم، وفيه: فلما كانت خلافة عمر جاءت الجدة التي يخالفها، فقال عمر: إنما كان القضاء في غيرك، ولكن إذا اجتمعتما فالسدس بينكما، وأيكما خلت به فهو لها ومن طريق وكيع نا سفيان هو الثوري - عن حميد الطويل عن عمار بن أبي عمار عن زيد بن ثابت: أنه كان يورث القربى من الجدات. ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا محمد بن سالم عن الشعبي: أن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت كانا يجعلان السدس للقربى منهما - يعني الجدتين. ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين في الجدات قال: إن كانت واحدة فالسدس لها، وإن كانت اثنتين فالسدس بينهما فإن كن ثلاثا فالسدس بينهن، وإن كن أربعا فالسدس بينهن، وأيتهن كانت أقرب فهي أحق، إنما هي طعمة. وبه يقول الحسن البصري، ومكحول، وأبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، والحسن بن حي، وشريك، وداود - وهو أشهر قولي الشافعي.

(9/278)


قال أبو محمد: أما القول الثاني الذي ذكرنا عن ابن مسعود، والقول الثالث الذي ذكرنا عن زفر، والرابع الذي اختاره مالك: فأقوال لا دليل على صحة شيء منها: لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية سقيمة، ولا من قول صاحب لا مخالف له، ولا من إجماع، ولا من نظر، ولا قياس ولا من رأي له وجه. والعجب من تقليد المالكيين لقول زيد في ذلك دون قول زيد الثاني، فهذا عجب جدا، فلم يبق إلا القول الأول، وهذا الآخر. فوجدنا من حجة من ذهب إلى القول الأول أن يقول: الجدة أم، فكلهن أم، وكلهن وارثة. قال علي: ووجدنا حجة القول الآخر أن ميراث الأب والأم قد صح بالقرآن، فأول أم توجد، وأول أب يوجد، فميراثهما واجب، ولا تجوز تعديهما إلى أم ولا إلى أب أبعد منهما، إذ لم يوجب ذلك نص أصلا - وهذا هو الحق - وبالله تعالى التوفيق. وأما هل ترث الجدة أم الأب والأب حي ؟ فطائفة قالت: لا ترث. روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محمد بن سالم عن الشعبي قال: كان علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت لا يورثان الجدة مع ابنها. وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: أن عثمان بن عفان لم يورث الجدة إن كان ابنها حيا - قال الزهري: والناس عليه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت كان لا يورث الجدة أم الأب وابنها حي. ومن طريق ابن وهب عمن يثق به عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن مسعود في الجدة وابنها حي: منعها الذي به تمت. ومن طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن عطاء أن زيد بن ثابت قال: يحجب الرجل أمه كما تحجب الأم أمها من السدس - كثير لا شيء - وحديث ابن وهب مرسل - وروي هذا عن سعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام. وهو قول سعيد بن المسيب، وطاوس، والشعبي - وبه يقول سفيان، والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وروي عن داود. والقول الثاني: أنها ترث. كما روينا من طريق سعيد بن منصور، نا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إن أول جدة ورثت في الإسلام كانت مع ابنها.
قال أبو محمد: أقل ما في هذا أن يراد خلاف أبي بكر. ومن طريق وكيع نا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: مات ابن لحسكة الحبطي فترك حسكة وأما لحسكة، فكتب أبو موسى الأشعري إلى عمر في ذلك ؟ فكتب إليه عمر: ورثها مع ابنها السدس ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود: أنه ورث الجدة مع ابنها، قال وكيع: ونا الأعمش عن إبراهيم

(9/279)


النخعي عن ابن مسعود قال: لا يحجب الجدات إلا الأم. ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا سلمة بن علقمة عن حميد بن هلال العدوي عن رجل منهم: أن رجلا منهم مات وترك أم أبيه، وأم أمه، وأبوه حي فوليت تركته، فأعطيت السدس أم أمه، وتركت أم أبيه؟ فقيل لي: كان ينبغي لك أن تشرك بينهما ؟ فأتيت عمران بن الحصين فسألته ؟ فقال: أشرك بينهما في السدس ؟ ففعلت ومن طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن، وابن سيرين أن أبا موسى الأشعري ورث أم حسكة من ابن حسكة وحسكة حي. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بلال بن أبي بردة أن أبا موسى الأشعري كان يورث الجدة مع ابنها - وقضى بذلك بلال - وهو أمير على البصرة - وهو قول عامر بن واثلة. ومن طريق عبد الرزاق نا هشام بن حسان، ومعمر، قال هشام: عن أنس بن سيرين، وقال معمر: عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين، ثم اتفق أنس، ومحمد: على أن شريحا كان يورث الجدة مع ابنها وهو حي. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال: ترث الجدة مع ابنها. ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد، ومنصور، كلاهما عن أنس بن سيرين قال: شهدت شريحا أتى في رجل ترك جدتيه: أم أمه، وأم أبيه، وأبوه حي: فأشرك بين جدتيه في السدس. ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا حميد عن الحسن، وابن سيرين في الجدة: أنهما كانا يورثانها مع ابنها، فهم كما ترى: خلافة أبي بكر، وعمر، وأبي موسى الأشعري، وابن مسعود، وعمران بن الحصين، وعامر بن واثلة، وجابر بن زيد، وشريح، والحسن، وابن سيرين. وهو قول عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، ومسلم بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، والمسيب، وسوار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، وشريك بن عبد الله، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وفقهاء البصرة - وروي عن داود أيضا. فوجدنا أهل القول الأول يحتجون بالخبر الذي ذكرنا من طريق ابن وهب عمن سمع عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر عن أبيه عن علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم جدتين السدس إذا لم تكن أم، أو شيء دونهما".
قال أبو محمد: هذا خبر سوء منقطع ما بين ابن وهب، وعبد الوهاب، ثم عبد الوهاب متروك، ثم لا يصح لمجاهد سماع من علي، ثم ليس فيه بيان بذكر الأب. وقالوا أيضا: لما حجب أباه وجب أن يحجب أمه. قال علي: وهذا قياس والقياس كله فاسد، ثم لو صح لكان هذا منه غاية الفساد، لأنه إنما يحجب أباه بأنه عاصب أولى منه، والجدة لا ترث بالتعصيب إنما ترث بالسهم، فبابه غير بابها. ثم يعارضون بأن يقال لهم:

(9/280)


كما لا تحجب الأم كذلك لا تحجب الجدة، وكما لا تحجب أم الأم كذلك لا تحجب أم نفسه. وقالوا: كما تحجب الأم أمها كذلك يحجب الأب أمه ؟ قلنا: هذا قياس، والقياس كله باطل، ثم لو صح القياس لكان هذا منه باطلا، لأن الأم إنما حجبت أمها لأنها أم أقرب منها، وليس الأب كذلك. ثم يقال لهم: كما لا تحجب الأم الجد - وإنما تحجب الجدات - كذلك لا يحجب الأب الجدات، وإنما يحجب الجد فقط. وقالوا: حجبها الذي تدلي به - وهذا ليس بشيء، لأنه قول لم يوجبه قرآن ولا سنة، وقد وجدنا الجدة من الأب يكون الأب عبدا فلا يحجبها عندهم وهي تدلي به. فإن قالوا: إنما يحجبها إذا ورث؟ قلنا: هذه زيادة لم يوجبها برهان قرآن ولا سنة، فهي لا شيء، إنما هي دعوى لا نوافقكم عليها، فهي ساقطة ما لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع. وقالوا: ميراثها مع وجود الأب مختلف فيه ؟ قلنا: نعم، فإن لم يوجب ميراثها برهان، وإلا فلا ميراث لها.
قال أبو محمد: فسقط هذا القول، إذ لا برهان على صحته، وبقي أن نثبت صحة قولنا بحول الله وقوته فنقول - وبالله تعالى التوفيق. قد جاء نص القرآن بإيجاب ميراث الأبوين سواء، فوجب بالقرآن ميراث الأب والجد، وأبي الجد، وجد الجد مع الأم، لأنهم أبوان، ووجب ميراث الجدة مع الجدة كما قلنا، ومع الأب، لأنهما أبوان، فليس ميراث الأب أولى من ميراث الأم وأمها أمه - وهذا نص لا يسع خلافه. وكتب إلي أبو الحسن علي بن إبراهيم التبريزي نا أبو الحسين محمد بن عبد الله البصري المعروف بابن اللبان نا أحمد بن كامل بن شجرة القاضي نا أحمد بن عبيد الله نا يزيد بن هارون نا محمد بن سالم عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ورث جدة وابنها حي" ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأشعث - هو ابن عبد الملك الحمراني - عن ابن سيرين قال: "أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أب مع ابنها}. ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو يحيى بكر بن محمد الضرير عن الأشعث بن عبد الملك عن الحسن البصري قال: "أول جدة أطعمت السدس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنها حي". قال علي: عهدنا بالحنفيين، والمالكيين يقولون: المسند والمرسل سواء، وهذان مرسلان ومسند صالح، فليأخذوا بهما. فإن قالوا: لعل ابنها كان عم الميت ؟ قلنا: لا يرد الدين ب "لعل" لكن ابنها هو الأب والعم، أيهما كانت ورثت معه، وتخصيص العم بذلك لا يجوز، لأنه دعوى كاذبة، وقطع بالظن، وتفسير بارد للخبر، لأنه لا فائدة هاهنا في حياة العم ولا في موته - وبالله تعالى التوفيق.
فَصْلٌ
قال أبو محمد: وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الأَبَ لاَ يَحْجُبُ أُمَّ الأُُمِّ، وَلاَ أُمَّ أُمِّ الأُُمِّ فَصَاعِدًا،

(9/281)


وَقَدْ قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إنَّ الْجَدَّ أَبَا الأَبِ يَحْجُبُ جَدَّةَ الأَبِ أُمَّ أُمِّهِ وَهَذَا قَوْلٌ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/282)


ولا ترث الأخوة الذكور ولا الأناث
...
مَعَ الإِخْوَةِ السُّدُسَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَخٌ لَنَا آخَرُ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ وَتَرَكَ إخْوَتَهُ وَجَدَّهُ فَأَتَيْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ: فَأَعْطَى الْجَدَّ مَعَ الإِخْوَةِ الثُّلُثَ.
فَقُلْنَا لَهُ: إنَّك أَعْطَيْت جَدَّنَا فِي أَخِينَا الأَوَّلِ السُّدُسَ، وَأَعْطَيْته الآنَ الثُّلُثَ فَقَالَ: إنَّمَا نَقْضِي بِقَضَاءِ أَئِمَّتِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مُطَرِّفُ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: إنَّا كُنَّا أَعْطَيْنَا الْجَدَّ مَعَ الإِخْوَةِ السُّدُسَ، وَلاَ أَحْسَبُنَا إِلاَّ قَدْ أَجْحَفْنَا بِهِ فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَأَعْطِ الْجَدَّ مَعَ الأَخِ الشَّطْرَ، وَمَعَ الأَخَوَيْنِ الثُّلُثَ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ تُنْقِصْهُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى: أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الإِخْوَةَ لِلأَبِ وَالأُُمِّ، وَالإِخْوَةَ لِلأُُمِّ مَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، فَإِنْ كَثُرَ الإِخْوَةُ أَعْطَى الْجَدَّ الثُّلُثَ، وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلإِخْوَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ، وَإِنَّ بَنِي الأَبِ وَالأُُمِّ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَنِي الأَبِ ذُكُورِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، غَيْرَ أَنَّ بَنِي الأَبِ يُقَاسِمُونَ الْجَدَّ وَبَيْنَ الأَبِ وَالأُُمِّ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ لِبَنِي الأَبِ شَيْءٌ مَعَ بَنِي الأَبِ وَالأُُمِّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَنُو الأَبِ يَرُدُّونَ عَلَى بَنَاتِ الأَبِ وَالأُُمِّ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ فَرَائِضِ بَنَاتِ الأَبِ وَالأُُمِّ، فَهُوَ لِلإِخْوَةِ مِنْ الأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُشْرِكُ الْجَدَّ مَعَ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ إلَى الثُّلُثِ، فَإِذَا بَلَغَ الثُّلُثَ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ، وَكَانَ لِلإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ، وَيُقَاسِمُ الأَخَ لِلأَبِ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَى أَخِيهِ، وَيُقَاسِمُ بِالإِخْوَةِ مِنْ الأَبِ أَوْ الأَخَوَاتُ مِنْ الأَبِ الإِخْوَةَ وَالأَخَوَاتِ مِنْ الأَبِ وَالأُُمِّ، وَلاَ يُوَرِّثُهُمْ شَيْئًا، فَإِذَا كَانَ الأَخُ لِلأَبِ وَالأُُمِّ أَعْطَاهُ النِّصْفَ، وَإِذَا كَانَ أَخَوَاتٌ وَجَدٌّ أَعْطَاهُ مَعَ الأَخَوَاتِ الثُّلُثَ، وَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ أَعْطَاهُمَا النِّصْفَ وَلَهُ النِّصْفُ، وَلاَ يُعْطِي أَخًا لأَُمٍّ مَعَ الْجَدِّ شَيْئًا.
قال أبو محمد: فَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ كَمَا تَسْمَعُونَ، عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ:.
وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالْحَسَنُ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ثُمَّ رَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إلَى التَّوْقِيفِ جُمْلَةً، وَرَجَعَ اللُّؤْلُؤِيُّ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ عَلِيٍّ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ زَيْدٍ أَنَّهُ رَجَعَ، عَنْ هَذَا إلَى أَنْ يُنْقَصَ الْجَدُّ، عَنْ ذَلِكَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْد أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ

(9/268)


1731 - مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ " الْخَرْقَاءُ " وَهِيَ: أُمٌّ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ: وَرُوِّينَا، عَنِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ، قَالَ الْبَزَّارُ: يُقَالُ: لَيْسَ بِمِصْرَ أَوْثَقُ وَأَصْدَقُ مِنْهُ [حدِيثًا]، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ أَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: بَعَثَ إلَيَّ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي جَدٍّ، وَأُمٍّ، وَأُخْتٍ قُلْت: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ الْحَجَّاجُ: فَمَا قَالَ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ إنْ كَانَ لَمُتْقَنًا قُلْت: جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا، وَلَمْ يُعْطِ الأُُخْتَ شَيْئًا، وَأَعْطَى الأُُمَّ الثُّلُثَ قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا ابْنُ مَسْعُودٍ قُلْت: جَعَلَهَا مِنْ سِتَّةٍ: أَعْطَى الأُُخْتَ ثَلاَثَةً، وَأَعْطَى الْجَدَّ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَى الأُُمَّ الثُّلُثَ، قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُثْمَانَ قُلْت: جَعَلَهَا أَثْلاَثًا، قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا أَبُو تُرَابٍ يَعْنِي عَلِيًّا قُلْت: جَعَلَهَا مِنْ سِتَّةٍ: أَعْطَى الأُُخْتَ ثَلاَثَةً، وَأَعْطَى الأُُمَّ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَى الْجَدَّ سَهْمًا، قَالَ: فَمَا قَالَ فِيهَا زَيْدٌ قُلْت: جَعَلَهَا مِنْ تِسْعَةٍ: أَعْطَى الأُُمَّ ثَلاَثَةً، وَأَعْطَى الْجَدَّ أَرْبَعَةً، وَأَعْطَى الأُُخْتَ: اثْنَيْنِ قَالَ الْحَجَّاجُ: مُرْ الْقَاضِي يُمْضِيهَا عَلَى مَا أَمْضَاهَا عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي عُثْمَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي أُخْتٍ، وَأُمٍّ، وَجَدٍّ، قَالَ: لِلأُُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْجَدِّ.
قال أبو محمد: هَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَرْسَلَ إلَيَّ الْحَجَّاجُ فَقَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي فَرِيضَةٍ أُتِيت بِهَا: أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ فَقُلْت: مَا قَالَ فِيهَا الأَمِيرُ فَأَخْبَرَنِي بِقَوْلِهِ، فَقُلْت: هَذَا قَضَاءُ أَبِي تُرَابٍ يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ فِيهَا سَبْعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: لِلأُُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلأُُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لِلأُُمِّ الثُّلُثُ وَلِلأُُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: لِلأُُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلأُُخْتِ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ الثُّلُثُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، وَقَالَ زَيْدٌ: لِلأُُمِّ ثَلاَثَةٌ، وَلِلْجَدِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلأُُخْتِ سَهْمَانِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: لِلأُُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ مَا بَقِيَ، وَلَيْسَ لِلأُُخْتِ شَيْءٌ.

(9/289)


1732 - مَسْأَلَةٌ: " وَالأَكْدَرِيَّةُ " وَهِيَ أُمٌّ، وَجَدٌّ، وَأُخْتٌ، وَزَوْجٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ: لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلأُُمِّ سَهْمَانِ، وَلِلْجَدِّ سَهْمٌ، وَلِلأُُخْتِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِلزَّوْجِ ثَلاَثَةُ

(9/289)


1733 - مَسْأَلَةٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ، أَنَّهُ قَالَ فِي جَدٍّ، وَابْنَةٍ، وَأُخْتٍ: هِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِلْجَدِّ سَهْمٌ، وَلِلأُُخْتِ سَهْمٌ فَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ فَمِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلأُُخْتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَهْمَانِ فَإِنْ كُنَّ ثَلاَثَةَ أَخَوَاتٍ، فَمِنْ عَشْرَةٍ: لِلْبِنْتِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلأَخَوَاتِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمِ بَيْنَهُنَّ.

(9/290)


1734 - مَسْأَلَةٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يُنْزِلُ بَنِي الأَخِ مَعَ الْجَدِّ مَنَازِلَهُمْ يَعْنِي مَنَازِلَ آبَائِهِمْ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُهُ غَيْرَهُ.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ لِتَلُوحَ مُنَاقَضَتُهَا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَهَا، وَلِنُرِيَ الْمُقَلِّدَ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/290)


الآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْجَدِّ
1735 - مَسْأَلَةٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، هُوَ ابْنُ الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَوَّارٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ ثُمَّ اتَّفَقَ هُشَيْمٌ، وَوُهَيْبٌ، كِلاَهُمَا، عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى الْجَدَّ السُّدُسَ قَالَ مُعَاوِيَةُ فِي حَدِيثِهِ: لاَ نَدْرِي مَعَ مَنْ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْبَلْخِيّ: أَنَا النَّضْرُ، هُوَ ابْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: أَنَّ

(9/290)


1735 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ: أَخًا لأََبٍ، وَابْنَ أَخٍ شَقِيقٍ: فَالأَخُ لِلأَبِ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ بِلاَ خِلاَفٍ، لأََنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذُكِرَ، وَابْنُ الأَخِ الشَّقِيقِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ ابْنِ الأَخِ لِلأَبِ، لأََنَّهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذُكِرَ بِلاَ خِلاَفٍ. فَلَوْ تَرَكَ: ابْنَ عَمٍّ، وَعَمًّا، فَالْعَمُّ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْعَمِّ، وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ الْعَمِّ لِلأَبِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا: كَانَ أَبُوهُ شَقِيقَ أَبِي الْمَيِّتِ، وَالآخَرُ: كَانَ أَبُوهُ أَخَا أَبِي الْمَيِّتِ لأََبِيهِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا هُوَ أَخُو الْمَيِّتِ لأَُمِّهِ، فَالْمَالُ كُلُّهُ لأَبْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِلأُُمِّ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ، لأََنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا فِي ابْنَيْ عَمَّيْنِ، أَحَدُهُمَا: ابْنُ شَقِيقِ أَبِي الْمَيِّتِ، وَالآخَرُ: ابْنُ أَخِي أَبِي الْمَيِّتِ لأََبِيهِ: أَنَّ ابْنَ شَقِيقِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْلَى، لأَسْتِوَائِهِ مَعَ أَبِي الْمَيِّتِ فِي وِلاَدَةِ جَدِّ الْمَيِّتِ، دُونَ ابْنِ الْعَمِّ الآخَرِ، وَبِالْحِسِّ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي وِلاَدَةِ جَدِّ الْمَيِّتِ أَبِي أَبِيهِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِوِلاَدَةِ جَدِّ

(9/299)


الْمَيِّتِ لأََبِيهِ وَأَبِي الْمَيِّتِ، وَانْفَرَدَ الآخَرُ بِوِلاَدَةِ أُمِّ الْمَيِّتِ لَهُ، وَلاَ يُخَيَّلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ وِلاَدَةَ الأُُمِّ أَقْرَبُ مِنْ وِلاَدَةِ الْجَدَّةِ، فَهُوَ أَوْلَى رَجُلٍ ذُكِرَ فَإِنْ تَرَكَتْ: ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا: زَوْجٌ، فَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ الأَبْنَيْ عَمٍّ سَوَاءً.

(9/300)


1736 - مَسْأَلَةٌ: وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا أَوْ أَمَةً: وَرِثَ مَالَ الْمُعْتَقِ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحُطُّ بِمِيرَاثِهِ، أَوْ مَا فَضَلَ، عَنْ ذَوِي السِّهَامِ.
وَكَذَلِكَ يَرِثُ مَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ مِنْ نَسْلِ الذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَعَمَّ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَأَعْتَقَتْ ابْنَةُ حَمْزَةَ عَبْدًا فَمَاتَ وَتَخَلَّفَ ابْنَةً، فَأَعْطَى عليه الصلاة والسلام ابْنَتَهُ النِّصْفَ، وَبِنْتَ حَمْزَةَ النِّصْفَ
وَكَذَلِكَ يَرِثُ مَنْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقَتْ وَهَكَذَا مَنْ سَفَلَ.

(9/300)


1737 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ مَاتَتْ، وَلَهَا بَنُونَ وَعُصْبَةٌ مِنْ إخْوَةٍ، أَوْ بَنِي إخْوَةٍ وَإِنْ سَفَلُوا أَوْ أَعْمَامٍ، أَوْ بَنِي أَعْمَامٍ وَإِنْ بَعُدُوا وَسَفَلُوا: فَمِيرَاثُ مَنْ أَعْتَقَتْ لِعُصْبَتِهَا لاَ لِوَلَدِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا عُصْبَتَهَا، كَأَوْلاَدِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ سَيِّدِهَا، أَوْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي عَمِّهَا لاَ أَحَدَ مِنْ بَنِي جَدِّهَا، وَلاَ مِنْ بَنِي أَبِيهَا: أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ الْمِيرَاثُ لِوَلَدِهَا، وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ: اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ فِي مَوْلَى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَضَى عُمَرُ بِالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ، وَبِالْمِيرَاثِ لِلزُّبَيْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْوَلاَءُ شُعْبَةٌ مِنْ النَّسَبِ، مَنْ أَحْرَزَ الْوَلاَءَ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحَقُّهُمْ بِالْوَلاَءِ أَحَقُّهُمْ بِالْمِيرَاثِ.
قَالَ عَلِيٌّ: الأَحَقُّ بِالْوَلاَءِ هُمْ عُصْبَتُهَا الَّذِينَ إلَيْهِمْ يَنْتَمِي الْمَوَالِي، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ مَوَالِي بَنِي أَسَدٍ إنْ كَانَتْ هِيَ أَسْدِيَةً، وَلاَ يَنْتَمُونَ إلَى بَنِي تَمِيمٍ إنْ كَانَ وَلَدُهَا مِنْ تَمِيمٍ.
قال أبو محمد: بِقَوْلِ عَلِيٍّ هَاهُنَا نَقُولُ، وَقَالَ بِقَوْلِ عُمَرَ: الشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ.
قال أبو محمد: برهان صِحَّةُ قَوْلِنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ" . وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلأََوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مُضَرَ وَبَنُوهَا مِنْ الْيَمَنِ: فَمَوَالِيهَا مِنْ مُضَرَ، بِلاَ شَكٍّ. وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَرِثُ مُضَرِّيًا بِالتَّعْصِيبِ، بَلْ يَرِثُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يَمَانِيٌّ أَوْلَى بِرَجُلٍ

(9/300)


وما ولد المملوك من حرة فانه لا يرثه من اعتق اباه
...
1738 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا وُلِدَ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ حُرَّةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَرِثُهُ مَنْ أَعْتَقَ أَبَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرِثُ الْمَرْءُ مَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ مِنْ حَمْلٍ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَ أَبَاهُ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَهَذَا الْمَوْلُودُ خُلِقَ حُرًّا، وَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ عَلَيْهِ بَعْدَ حُرِّيَّتِهِ وَلاَءٌ لِمَنْ لَمْ يُعْتِقْهُ، وَلاَ كَانَ ذَلِكَ الْوَلاَءُ عَلَيْهِ قَبْلُ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ ثَبَاتِ الْوَلاَءِ عَلَى أَبِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَوْجُودًا إِلاَّ وَالْوَلاَءُ عَلَيْهِ ثَابِتٌ فَمِيرَاثُهُ لِمَوْلاَهُ. وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ: لاَ وَلاَءَ إِلاَّ لِذِي نِعْمَةٍ.

(9/301)


وما ولد لمولى من مرلاة لآخرين فولاءه لمن أعتق اباه
...
1739 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا وُلِدَ لِمَوْلًى مِنْ مَوْلاَةٍ لأَخَرِينَ فَوَلاَؤُهُ لِمَنْ أَعْتَقَ، أَبَاهُ، أَوْ أَجْدَادَهُ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَمَا وَلَدَتْ الْمَوْلاَةُ مِنْ عَرَبِيٍّ فَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لِمَوَالِي أُمِّهِ، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَمَا وَلَدَتْ الْمَوْلاَةُ مِنْ زَوْجٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ مِنْ زِنًى، أَوْ مِنْ إكْرَاهٍ، أَوْ حَرْبِيٍّ، أَوْ لاَعَنَتْ عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: وَلاَؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا، بَلْ لاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِ الْوَلاَءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، بَلْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ حُكْمَ لِلْوَلاَءِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى أُمِّهِ إنْ كَانَ أَبُوهُ مَوْلًى، أَوْ عَرَبِيًّا فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/301)


1740 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَبْدُ لاَ يَرِثُ، وَلاَ يُورَثُ: مَالُهُ كُلُّهُ لِسَيِّدِهِ، هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ،

(9/301)


والمكاتب اذا أدى شيئا من مكاتبته فمات أو مات له موروث
...
1741 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُكَاتَبُ إذَا أَدَّى شَيْئًا مِنْ مُكَاتَبَتِهِ فَمَاتَ، أَوْ مَاتَ لَهُ مُورِثٌ وَرِثَ مِنْهُ وَرَثَتُهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى فَقَطْ، وَوَرِثَ هُوَ أَيْضًا بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى فَقَطْ، وَيَكُونُ مَا فَضَلَ عَمَّا وَرِثَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ مَا فَضَلَ، عَنْ وَرَثَتِهِ لِسَيِّدِهِ. وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْمُكَاتَبِ " وَذَكَرْنَا مَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. وَمَنْ مَاتَ وَبَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ: فَلِلَّذِي لَهُ الْوَلاَءُ مِمَّا تَرَكَ بِمِقْدَارِ مَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْوَلاَءِ وَالْبَاقِي لِلَّذِي لَهُ الرِّقُّ سَوَاءٌ كَانَ يَأْخُذُ حِصَّتَهُ مِنْ كَسْبِهِ. فِي حَيَاتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ لأََنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ مَا كَانَ يَأْخُذُ: مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْمُكَاتَبِ يَأْكُلُهُ، وَيَتَزَوَّجُ فِيهِ، وَيَتَسَرَّى، وَيَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَهُوَ مَالُهُ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ الَّذِي لَهُ فِيهِ بَقِيَّةٌ فَإِذَا مَاتَ فَهُوَ مَالٌ يُخَلِّفُهُ، لَيْسَ لِلَّذِي تَمَسَّكَ بِالرِّقِّ أَنْ يَأْخُذَهُ الآنَ، إذْ قَدْ وَجَبَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّذِي لَهُ فِيهِ بَعْضُ الْوَلاَءِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ مَالِكٌ: مَالُهُ كُلُّهُ لِلَّذِي لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الرِّقِّ
وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مِيرَاثُهُ كُلُّهُ لِلَّذِي لَهُ فِيهِ شُعْبَةُ الْعِتْقِ.
وقال أبو حنيفة: يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ وَيَرِثُ الْبَاقِيَ وَرَثَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُرَقَّ بِذَلِكَ: فَمَالُهُ كُلُّهُ لِلْمُتَمَسِّكِ بِالرِّقِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: مَالُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال الشافعي فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ: إنَّهُ يُورَثُ بِمِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ، وَلاَ يَرِثُ هُوَ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ. وَقَوْلُنَا فِي ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ.

(9/302)


وولد الزنا يرث أمة ولها عليه حق الأمومية من البر
...
1742 - مَسْأَلَةٌ: وَوَلَدُ الزِّنَى يَرِثُ أُمَّهُ، وَتَرِثُهُ أُمُّهُ، وَلَهَا عَلَيْهِ حَقُّ الأُُمُومِيَّةِ مِنْ: الْبِرِّ، وَالنَّفَقَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَسَائِرِ حُكْمِ الأُُمَّهَاتِ: وَلاَ يَرِثُهُ الَّذِي تَخَلَّقَ مِنْ نُطْفَتِهِ، وَلاَ يَرِثُهُ هُوَ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهِ حَقُّ الأُُبُوَّةِ لاَ فِي بِرٍّ، وَلاَ فِي نَفَقَةٍ، وَلاَ فِي تَحْرِيمٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا إِلاَّ فِي التَّحْرِيمِ فَقَطْ.
برهان صِحَّةِ مَا قلنا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام أَيْضًا الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ . فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ وَهِيَ الأُُمُّ وَبِصَاحِبِهِ وَهُوَ الزَّوْجُ، أَوْ السَّيِّدُ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْعَاهِرِ إِلاَّ الْحَجَرَ. وَمَنْ جَعَلَ تَحْرِيمًا بِمَا لاَ حَقَّ لَهُ فِي الأُُبُوَّةِ فَقَدْ نَاقَضَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/302)


والمولود دون في أرض الشرك يتوارثون كما يتوارث من ولد
...
1743 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَوْلُودُونَ فِي أَرْضِ الشِّرْكِ يَتَوَارَثُونَ كَمَا يَتَوَارَثُ مَنْ وُلِدَ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِهِمْ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ سَوَاءٌ أَسْلَمُوا وَأَقَرُّوا مَكَانَهُم ْ، أَوْ

(9/302)


1744 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ الْمُرْتَدُّ وَغَيْرُ الْمُرْتَدِّ سَوَاءٌ إِلاَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُذْ يَرْتَدُّ فَكُلُّ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَلِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا، أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا: فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ فَهُوَ لَهُ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ مَاتَ مُسْلِمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلاَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ.
فإن قيل: إنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنْ مَاتَ عَبْدٌ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ مَجُوسِيٌّ، أَوْ يَهُودِيٌّ وَسَيِّدُهُ مُسْلِمٌ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ
قلنا: نَعَمْ، لاَ بِالْمِيرَاثِ، لَكِنْ لأََنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَهُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْعَبْدُ لاَ يُورَثُ بِالْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ مِيرَاثًا لاَ لَهُ، وَلاَ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمَسْرُوقٍ: تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ، وَلاَ يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ:
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَهُوَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ ثَابِتٌ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ، وَلاَ يُوَرِّثُ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ. قَالَ مَسْرُوقٌ:

(9/304)


مَا حَدَثَ فِي الإِسْلاَمِ قَضَاءٌ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهُ وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ أَعْتَقَ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ.
قال أبو محمد: أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَا لَمْ يَقُلْ " سَمِعْت، أَوْ أَنَا، أَوْ أَرِنَا " تَدْلِيسٌ، وَلَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ: إِلاَّ عَبْدُهُ، أَوْ أَمَتُهُ، وَلاَ يُسَمَّى الْمُعْتَقُ، وَلاَ الْمُعْتَقَةُ: عَبْدًا، وَلاَ أَمَةً. وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ: فَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَعَلَ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَمْ يَصِحَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْمُرْتَدِّ هَلْ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ بَنُوهُ فَقَالَ: نَرِثُهُمْ، وَلاَ يَرِثُونَنَا، قَالَ: وَتَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، فَإِنْ قُتِلَ: فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُطَيِّبُونَ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لأََهْلِهِ إذَا قُتِلَ.
وَرُوِيَ تَوْرِيثُ مَالِ الْمَقْتُولِ عَلَى الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي مِلْكِهِ إلَى أَنْ ارْتَدَّ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَسَبَ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال أبو حنيفة: إنْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ فَمَالُهُ فَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَا كَسَبَ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقْضِي الْقَاضِي بِعِتْقِ مُدَبِّرِيهِ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلاَدِهِ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَرْضِ الإِسْلاَمِ مُسْلِمًا أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ بِأَيْدِي وَرَثَتِهِ، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَكَلُوهُ، أَوْ أَتْلَفُوهُ، وَكُلُّ مَا حَمَلَ مِنْ مَالِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُوَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظُفِرَ بِهِ، لاَ لِوَرَثَتِهِ، فَلَوْ رَجَعَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ إلَى أَرْضِ الإِسْلاَمِ فَأَخَذَ مَالاً مِنْ مَالِهِ فَنَهَضَ بِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَظُفِرَ بِهِ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَتَانِ إحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ، وَالأُُخْرَى كَافِرَةٌ، فَوَلَدَتَا مِنْهُ لأََكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ ارْتَدَّ فَأَقَرَّ بِهِمَا لَحِقَا بِهِ جَمِيعًا، وَوَرِثَهُ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ، وَلَمْ يَرِثْهُ ابْنُ الذِّمِّيَّةِ. قَالَ: وَلاَ يَرِثُ الْمُرْتَدُّ مُذْ يَرْتَدُّ إلَى أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ، أَوْ يُسْلِمَ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ الْكُفَّارِ أَصْلاً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.

(9/305)


وَبِهِ يَقُولُ رَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وقال مالك: إنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ فَمَالُهُ لَهُ، فَإِنْ ارْتَدَّ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ اُتُّهِمَ: إنَّمَا ارْتَدَّ لِيَمْنَعَ وَرَثَتَهُ فَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ مَنْ ارْتَدَّ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْهُ امْرَأَتُهُ، لأََنَّهُ لاَ يُتَّهَمُ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ لِيَمْنَعَ أَخْذَ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: مَالُ الْمُرْتَدِّ مُذْ يَرْتَدُّ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: فَظَاهِرُ الأَضْطِرَابِ وَالتَّنَاقُضِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَحُكْمٌ بِالتُّهْمَةِ وَهُوَ الظَّنُّ الْكَاذِبُ الَّذِي حَرَّمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْحُكْمَ بِهِ،
وَأَمَّا قَوْلُ سُفْيَانَ: فَتَقْسِيمٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَسَاوِسُ كَثِيرَةٌ فَاحِشَةٌ: مِنْهَا: تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَمِنْهَا: تَوْرِيثُهُ وَرَثَتَهُ عَلَى حُكْمِ الْمَوَارِيثِ وَهُوَ حَيٌّ بَعْدُ. وَمِنْهَا: قَضَاؤُهُ لَهُ إنْ رَجَعَ بِمَا وَجَدَ، لاَ بِمَا اسْتَهْلَكُوا، وَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجَبَ لِلْوَرَثَةِ مَا قَضَوْا لَهُمْ بِهِ، أَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ. فَإِنْ كَانَ وَجَبَ لَهُمْ فَلأََيِّ شَيْءٍ يَنْتَزِعُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَهَذَا ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ وَجَوْرٌ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ فَلأََيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا أَنْ يَقْضُوا لَهُمْ بِهِ حَتَّى أَكَلُوهُ، وَوُرِثَ عَنْهُمْ، وَتَحَكَّمُوا فِيهِ، وَلَئِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى الْمُرَاجِعِ إلَى الإِسْلاَمِ فَمَا الَّذِي خُصَّ بِرُجُوعِهِ إلَيْهِ مَا وَجَدَ دُونَ مَا لَمْ يَجِدْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَضَوْا لَهُ بِهِ إنَّ هَذَا لَضَلاَلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ
وأعجب شَيْءٍ اعْتِرَاضُ هَؤُلاَءِ النَّوْكَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِكَاحِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ، وَجَعْلِهِ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا بِقَوْلِهِمْ السَّخِيفِ: لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ أَمَةٌ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ، أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ مُعْتَقَةٌ فَهَذَا نِكَاحٌ بِلاَ صَدَاقٍ، مَعَ إجَازَتِهِمْ لأََبِي حَنِيفَةَ هَذِهِ الْحَمَاقَاتِ، وَالْمُنَاقَضَاتِ، وَمَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ، رضي الله عنها، إِلاَّ وَهِيَ حُرَّةٌ مُعْتَقَةٌ بِصَدَاقٍ قَدْ صَحَّ لَهَا وَتَمَّ، وَهُوَ عِتْقُهُ لَهَا. ثُمَّ تَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَالٍ تَرَكَهُ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ، أَوْ مَالٍ حَمَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ إلَى أَرْضِ الْكُفْرِ، وَمَالٍ تَرَكَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ فَحَمَلَهُ فَهَذَا مِنْ الْمُضَاعَفِ نَسْجُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّخْلِيطِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الأَحْكَامَ الْفَاسِدَةَ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ قَبْلَ مَنْ ضَلَّ بِتَقْلِيدِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: بِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ حُجَّةَ لِهَذَا الْقَوْلِ إِلاَّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ مُؤْمِنًا مِنْ كَافِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ قَدْ مَنَعْتُمْ الْمُكَاتَبَ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْقُرْآنُ يُوجِبُهُ لَهُ، وَالسُّنَّةُ كَذَلِكَ، وَمَنَعْتُمْ الْقَاتِلَ بِرِوَايَةٍ لاَ تَصِحُّ، وَمَنَعْتُمْ سَائِرَ الْكُفَّارِ مِنْ أَنْ يَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لاَ وَجْهَ لَهُ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ.

(9/306)


قال أبو محمد: وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ، بُرْهَانُنَا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا ظُفِرَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ مَالُ كَافِرٍ، لاَ ذِمَّةَ لَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وَلاَ يُحَرَّمُ مَالُ كَافِرٍ إِلاَّ بِالذِّمَّةِ، وَهَذَا لاَ ذِمَّةَ لَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلاَّ وَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ لَهُ، أَوْ عَنْهُ، وَوَجَبَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ إِلاَّ كَأَحَدِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يُظْفَرْ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ مِنْ مِلْكِهِ لَهُ [ فَهُوَ لَهُ ] مَا لَمْ يَظْفَرْ الْمُسْلِمُونَ بِهِ، لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لاَ ذِمَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ خَاصَّةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَلاَ يَخْرُجُ، عَنْ حُكْمِهَا إِلاَّ مَا أَخْرَجَهُ نَصُّ سُنَّةٍ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانُوا ذِمَّةً سَلَّمَ إلَيْهِمْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ، لأََنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوهُ بِالْمِيرَاثِ. وَإِنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ أُخِذَ لِلْمُسْلِمِينَ مَتَى ظُفِرَ بِهِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ لَهُ يَرِثُهُ عَنْهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا حُكْمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ، وَمُوجَبُ الإِجْمَاعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(9/307)


1745 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ لَهُ مَوْرُوثٌ وَهُمَا كَافِرَانِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَيُّ أُخِذَ مِيرَاثُهُ عَلَى سُنَّةِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ تُقَسَّمُ مَوَارِيثُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلاَّ عَلَى قَسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوَارِيثَ فِي الْقُرْآنِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.
وَقَوْله تَعَالَى أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا. وَلاَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَدَعُ حُكْمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُقِرُّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْكُمُ بِحُكْمِ الْكُفْرِ وَهُوَ يُقِرُّ أَنَّهُ حُكْمُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَنَّهُ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ، وَاَلَّذِي لاَ يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ عَجِيبٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ حَدَّثَهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَتْ: إنَّ ابْنِي هَلَكَ، فَزَعَمَتْ الْيَهُودُ أَنَّهُ لاَ حَقَّ لِي فِي مِيرَاثِهِ فَدَعَاهُمْ عُمَرُ فَقَالَ: أَلاَ تُعْطُونَ هَذِهِ حَقَّهَا فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي كِتَابِنَا فَقَالَ: أَفِي التَّوْرَاةِ قَالُوا: بَلَى، فِي الْمُثَنَّاةِ قَالَ: وَمَا الْمُثَنَّاةُ قَالُوا: كِتَابٌ كَتَبَهُ أَقْوَامٌ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ فَسَبَّهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَعْطُوهَا حَقَّهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى حَيَّانَ بْنِ شُرَيْحٍ: أَنْ اجْعَلْ مَوَارِيثَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقال أبو حنيفة: مَوَارِيثُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَحْكَامِ دِينِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا.
وقال مالك: تَقْسِيمُ مَوَارِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى حُكْمِ دِينِهِمْ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ مَا أَخَذَ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ

(9/307)


قَبْلَ الْقِسْمَةِ: قَسَمَ عَلَى حُكْمِ الإِسْلاَمِ وقال الشافعي، وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِنَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ: فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الْفَرْقَ الَّذِي ذُكِرَ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ دَلِيلٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا وَافَقَهُ فِيهِ مَالِكٌ: فَقَدْ ذَكَرْنَا إبْطَالَهُ، وَمَا فِي الشُّنْعَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَحْكِيمِ الْكُفْرِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مُسْلِمٍ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَا عَهِدْنَا قَوْلَهُمْ فِي حُكْمٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ إِلاَّ أَنَّهُ يُحْكَمُ فِيهِ، وَلاَ بُدَّ بِحُكْمِ الإِسْلاَمِ إِلاَّ هَاهُنَا، فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِحُكْمِ الشَّيْطَانِ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لاَ سِيَّمَا إنْ أَسْلَمَ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ، فَلَعَمْرِي إنَّ اقْتِسَامَهُمْ مِيرَاثَهُمْ بِقَوْلِ " دكريز الْقُوطِيِّ " " وَهِلاَلٍ الْيَهُودِيِّ " لَعَجَبٌ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي هَذَا أَثَرَانِ يَحْتَجُّونَ بِأَضْعَفَ مِنْهُمَا، وَبِإِسْنَادِهِمَا نَفْسِهِ، إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ وَهُوَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ مَا أَدْرَكَ إسْلاَمٌ وَلَمْ يُقْسَمْ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الإِسْلاَمِ .
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كُلَّ مَا قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ مَا أَدْرَكَ الإِسْلاَمُ، وَلَمْ يُقْسَمْ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الإِسْلاَمِ.
قَالَ عَلِيٌّ: مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ ضَعِيفٌ، وَالثَّانِي مُرْسَلٌ، وَلاَ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِمَا، إنَّمَا حُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/308)


1746 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ فَخَرَجَ حَيًّا كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ تَمَامِ خُرُوجِهِ عَطَسَ أَوْ لَمْ يَعْطِسْ وَصَحَّتْ حَيَاتُهُ بِيَقِينٍ بِحَرَكَةِ عَيْنٍ، أَوْ يَدٍ، أَوْ نَفْسٍ، أَوْ بِأَيِّ شَيْءٍ صَحَّتْ، فَإِنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ، وَلاَ مَعْنَى لِلأَسْتِهْلاَلِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ. وَهَذَا وَلَدٌ بِلاَ شَكٍّ. فإن قيل: هَلَّا وَرَّثْتُمُوهُ وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا بِحَيَاتِهِ فِي الْبَطْنِ قلنا: لَوْ أَيْقَنَّا حَيَاتَهُ لَوَرَّثْنَاهُ، وَقَدْ تَكُونُ لِحَرَكَةِ رِيحٍ وَالْجَنِينُ مَيِّتٌ وَقَدْ يَنْفُشُ الْحَمْلُ، وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ حَمْلاً وَإِنَّمَا كَانَ عِلَّةً، فَإِنَّمَا نُوقِنُ حَيَاتَهُ إذَا شَاهَدْنَاهُ حَيًّا. وقال الشافعي: لاَ يَرِثُ، وَلاَ يُورَثُ حَتَّى يَخْرُجَ حَيًّا كُلَّهُ.
وَهَذَا قَوْلٌ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لاَ يَرِثُ، وَلاَ يُورَثُ وَإِنْ رَضَعَ وَأَكَلَ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُوهُ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَفْرِضُ لِلصَّبِيِّ إذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: إذَا صَاحَ صُلِّيَ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا اسْتَهَلَّ

(9/308)


الصَّبِيُّ وَرِثَ وَوُرِّثَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الْمَنْفُوسِ: يَرِثُ إذَا سُمِعَ صَوْتُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ، قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: مَتَى يَجِبُ سَهْمُ الْمَوْلُودِ قَالَ: إذَا اسْتَهَلَّ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَقْلُهُ وَمِيرَاثُهُ. وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثْ مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَرُوِيَ أَيْضًا: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ قَلَّدَ هَذَأ الْقَوْلَ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَبِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، أَنَّهُ قَالَ: صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ نَزْغَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ. وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودِ وَرِثَ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى الْبَلْخِيّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصَّبِيُّ إذَا اسْتَهَلَّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ حَدَّثَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلاَنِيُّ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ" ، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَهِلَّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي طَلْقٌ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَجَبَتْ دِيَتُهُ وَمِيرَاثُهُ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ" . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا: مُطَرِّفٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ وَالْحُسَيْنِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: سِتَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَكُلُّهُ إمَّا لاَ شَيْءَ وَأَمَّا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ. أَمَّا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ: فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ تَمْوِيهِهِمْ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ هَلْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ الْمِيرَاثِ بِنَصٍّ أَوْ بِدَلِيلٍ أَمَّا هَذَا تَقْوِيلٌ لَهُ عليه الصلاة والسلام مَا لَمْ يَقُلْ وَهَلْ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلاَّ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْخُسُهُ وَهَذَا حَقٌّ نُؤْمِنُ بِهِ، وَمَا خُولِفُوا قَطُّ فِي هَذَا، ثُمَّ فِيهِ أَنَّهُ يَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ هَذَا

(9/309)


فَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي يَقِينًا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا عَنِي بِذَلِكَ مَنْ اسْتَهَلَّ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ فَنَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا أَيُوجَدُ مَوْلُودٌ يَخْرُجُ حَيًّا، وَلاَ يَسْتَهِلُّ أَمْ لاَ يُوجَدُ أَصْلاً
فَإِنْ قَالُوا: لاَ يُوجَدُ أَصْلاً كَابَرُوا الْعِيَانَ وَأَنْكَرُوا الْمُشَاهَدَةَ، فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرٌ لاَ يَسْتَهِلُّ إِلاَّ بَعْدَ أَزْيَدَ مِنْ سَاعَةٍ زَمَانِيَّةٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَسْتَهِلَّ حَتَّى يَمُوتَ ثم نقول لَهُمْ: فَإِذْ لاَ يُوجَدُ هَذَا أَبَدًا فَكَلاَمُكُمْ وَكَلاَمُنَا فِيهَا عَنَاءٌ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَنْ يُولَدُ مِنْ الْفَمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَالِّ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ قَدْ يُوجَدُ هَذَا قلنا لَهُمْ: فَأَخْبِرُونَا الآنَ أَتَقُولُونَ: إنَّهُ لَيْسَ مَوْلُودًا فَهَذِهِ حَمَاقَةٌ وَمُكَابَرَةٌ لِلْعَيَانِ، أَمْ تَقُولُونَ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَنْخُسْهُ، فَتُكَذِّبُوا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ أَمْ تَقُولُونَ: إنَّهُ نَخَسَهُ فَلَمْ يَسْتَهِلَّ فَهَذَا قَوْلُنَا، وَرَجَعْتُمْ إلَى الْحَقِّ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: مَنْ يَسْتَهِلُّ دُونَ مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلاَثِ، إِلاَّ أَنَّهُ بِكُلِّ حَالٍ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْمَوَارِيثِ، فَبَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْخَبَرِ الآخَرِ سَوَاءً سَوَاءً. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهُ إذَا اسْتَهَلَّ وَرِثَ، وَهَكَذَا نَقُولُ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يَرِثْ، فَإِقْحَامُهُ فِيهِ: كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ لَفْظَةَ " الأَسْتِهْلاَلِ " فِي اللُّغَةِ هُوَ الظُّهُورُ، تَقُولُ اسْتَهَلَّ الْهِلاَلُ بِمَعْنَى ظَهَرَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: إذَا ظَهَرَ الْمَوْلُودُ وَرِثَ، وَهُوَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَلَمْ يَقُلْ أَبُو الزُّبَيْرِ: إنَّهُ سَمِعَهُ، فَهُوَ مُدَلِّسٌ. وَفِي حَدِيثِ الأَوْزَاعِيِّ: بَقِيَّةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَحَدِيثَا: عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مُرْسَلاَنِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هَالِكٌ. فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآثَارِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَوْلُ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَمْ قِصَّةً مِثْلَ هَذِهِ قَدْ خَالَفُوا فِيهَا طَوَائِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، كَالْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ، وَإِمَامَةِ الْجَالِسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَيْضًا: فَالآثَارُ الْمَذْكُورَةُ، عَنِ الصَّحَابَةِ إنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَهَلَّ وَرِثَ وَلَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُورَثْ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا. ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ، عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ فَلَمْ يَسْتَهِلَّ، إِلاَّ أَنَّهُ تَحَرَّكَ، وَرَضَعَ، وَطَرَفَ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ قَاتِلٌ عَمْدًا، أَيَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ أَمْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ غُرَّةٌ فَإِنْ قَالُوا: فِيهِ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ: نَقَضُوا قَوْلَهُمْ، وَأَوْجَبُوا أَنَّهُ وَلَدٌ حَيٌّ فَلِمَ مَنَعُوهُ الْمِيرَاثَ وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ غُرَّةٌ تَرَكُوا قَوْلَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/310)


كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا مَا طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مِمَّا لاَ يُجْحِفُ بِالْوَرَثَةِ، وَيُجْبِرُهُمْ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ إنْ أَبَوْا. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: مِنْ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَسَمَ لِي بِهَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فِي قوله تعالى وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى الآيَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَزْعُمُونَ: أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَتْ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} فَلاَ وَاَللَّهِ مَا نَسَخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ، وَذَاكَ الَّذِي يُرْزَقُ، وَوَالٍ لاَ يَرِثُ، فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَك أَنْ أُعْطِيَك. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ قَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَقَدْ أَعْطَيْت بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَاهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَسَمَ مِيرَاثَ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ، فَلَمْ يَدَعْ فِي الدَّارِ مِسْكِينًا، وَلاَ ذَا قَرَابَةٍ إِلاَّ أَعْطَاهُمْ، وَتَلاَ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. وَصَحَّ أَيْضًا: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَرُوِيَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَا نَعْلَمُ لأََهْلِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً، بَلْ هُوَ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَمَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ: افْعَلْ: إنْ شِئْت فَلاَ تَفْعَلْ. وَلَيْسَ وُجُودُنَا آيَاتٍ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، أَوْ مَخْصُوصَةٌ، أَوْ أَنَّهَا نَدْبٌ، بِمُوجِبِ أَنْ يُقَالَ فِيمَا لاَ دَلِيلَ بِذَلِكَ فِيهِ: هَذَا نَدْبٌ، أَوْ هَذَا مَنْسُوخٌ، أَوْ هَذَا مَخْصُوصٌ، فَيَكُونُ قَوْلاً بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ السَّلَفِ، رضي الله عنهم،
تَمَّ كِتَابُ الْفَرَائِضِ.

(9/311)


1748 - مَسْأَلَةٌ: مُسْتَدْرَكَةٌ: وَلاَ يَصِحُّ نَصٌّ فِي مِيرَاثِ الْخَالِ، فَمَا فَضَلَ، عَنْ سَهْمِ ذَوِي السِّهَامِ، وَذَوِي الْفَرَائِضِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَاصِبٌ، وَلاَ مُعْتَقٌ، وَلاَ عَاصِبٌ مُعْتَقٌ: فَفِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ذِي سَهْمٍ، وَلاَ عَلَى غَيْرِ ذِي سَهْمٍ مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ، إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ. فَإِنْ كَانَ ذَوُو الأَرْحَامِ فُقَرَاءَ أُعْطُوا عَلَى قَدْرِ فَقْرِهِمْ، وَالْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.

(9/312)


كتاب الوصايا
الوصية فرض على كل من ترك مالا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْوَصَايَا
1749 - مَسْأَلَةٌ: الْوَصِيَّةُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ تَرَكَ مَالاً، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُذْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوَصِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ يُشَدِّدَانِ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَطَلْحَةَ بْنِ مُطَرِّفٍ، وطَاوُوس، وَالشَّعْبِيِّ، وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَتْ فَرْضًا، وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ. قَالُوا: فَرَدَّ الأَمْرَ إلَى إرَادَتِهِ وَقَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوصِ، وَرَوَوْا: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ رَاوِي الْخَبَرِ لَمْ يُوصِ، وَأَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ لَمْ يُوصِ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِيمَنْ تَرَكَ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ: قَلِيلٌ، لَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةٌ، وَأَنَّ عَلِيًّا نَهَى مَنْ لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ مِنْ السَّبْعِمِائَةِ إلَى التِّسْعِمِائَةِ، عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِيمَنْ تَرَكَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ: فِي هَذَا فَضْلٌ، عَنْ وَلَدِهِ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ لَيْسَتْ الْوَصِيَّةُ فَرْضًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ: أَمَّا مَنْ زَادَ فِي رِوَايَتِهِ " يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ " فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَوَاهُ كَمَا أَوْرَدْنَا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، لَكِنْ بِلَفْظِ الإِيجَابِ فَقَطْ. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَيُونُسُ، عَنْ نَافِعٍ وَكِلاَ الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحٌ. فَإِذْ هُمَا صَحِيحَانِ فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِرِوَايَةِ مَالِكٍ، وَوَجَبَ

(9/312)


عَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهَا، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوصِ فَقَدْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَ بِقَوْلِهِ الثَّابِتِ يَقِينًا إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ بِلاَ شَكٍّ، لأََنَّهُ أَوْصَى بِصَدَقَةِ كُلِّ مَا يَتْرُكُ إذَا مَاتَ، وَإِنَّمَا صَحَّ الأَثَرُ بِنَفْيِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الرَّافِضَةُ إلَى عَلِيٍّ فَقَطْ. وَأَمَّا مَا رَوَوْا مِنْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُوصِ، فَبَاطِلٌ، لأََنَّ هَذَا إنَّمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَشْهَلَ بْنِ حَاتِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ لاَ شَيْءَ وَالثَّابِتُ عَنْهُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ مِنْ إيجَابِهِ الْوَصِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبِتْ لَيْلَتَهُ مُذْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَاطِبٍ وَعُمَرَ: فَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهِيَ أَسْقَطُ مِنْ أَنْ يُشْتَغَلَ بِهَا. وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَفِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ حَدُّ الْقَلِيلِ بِمَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إلَى التِّسْعِمِائَةِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ بِمَا ادَّعَوْا. ثُمَّ لَوْ صَحَّ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ قَدْ عَارَضَهُمْ صَحَابَةٌ، كَمَا أَوْرَدْنَا، وَإِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ طَائِفَةٍ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أُخْرَى، وَالْفَرْضُ حِينَئِذٍ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَكِلاَهُمَا يُوجِبُ فَرْضَ الْوَصِيَّةِ، أَمَّا السُّنَّةُ: فَكَمَا أَوْرَدْنَا، وَأَمَّا الْقُرْآنُ: فَكَمَا نُورِدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(9/313)


فمن مات ولم يوص فففرض أن يتصدق عنه بما يتيسر
...
1750 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ: فَفُرِضَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِمَا تَيَسَّرَ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّ فَرْضَ الْوَصِيَّةِ وَاجِبٌ، كَمَا أَوْرَدْنَا.فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَمَّا وَجَبَ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَا رَآهُ الْوَرَثَةُ، أَوْ الْوَصِيُّ مِمَّا لاَ إجْحَافَ فِيهِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ صَحَّ بِهِ أَثَرٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَإِنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ ، فَتَصَدَّقَ عَنْهَا" فَهَذَا إيجَابُ الصَّدَقَةِ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ، وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام: فَرْضٌ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "نَعَمْ" . فَهَذَا إيجَابٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَلاََنْ يُتَصَدَّقَ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّ التَّكْفِيرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي ذَنْبٍ، فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام: أَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ يَحْتَاجُ فَاعِلُهُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ، وَهَذَا مَا لاَ

(9/313)


يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي مَنَامٍ لَهُ فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تِلاَدًا مِنْ تِلاَدِهِ. فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهَا، رضي الله عنها، فَرْضٌ، وَأَنَّ الْبِرَّ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ: فَرْضٌ، إذْ لَوْلاَ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَتْ مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِإِخْرَاجِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُوسًا يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَمْ يُوصِ إِلاَّ وَأَهْلُهُ أَحَقُّ، أَوْ مُحِقُّونَ أَنْ يُوصُوا عَنْهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَعَرَضْت عَلَى ابْنِ طَاوُوس هَذَا وَقُلْت: أَكَذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسُفْيَانَ، وَمَعْمَرٍ، كُلُّهُمْ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ، أَفَأُوصِي عَنْهَا فَقَالَ: " نَعَمْ". وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ، عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ تُوصِ وَلِيدَةً وَتَصَدَّقَ عَنْهَا بِمَتَاعٍ". وَلاَ مُرْسَلَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَيْنِ فَخَالَفُوهُمَا، لِرَأْيِهِمَا الْفَاسِدِ

(9/314)


1751 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ، إمَّا لِرِقٍّ، وَأَمَّا لِكُفْرٍ، وَأَمَّا لأََنَّ هُنَالِكَ مَنْ يَحْجُبُهُمْ، عَنِ الْمِيرَاثِ أَوْ لأََنَّهُمْ لاَ يَرِثُونَ فَيُوصِي لَهُمْ بِمَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ، لاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُعْطُوا، وَلاَ بُدَّ مَا رَآهُ الْوَرَثَةُ، أَوْ الْوَصِيُّ. فَإِنْ كَانَ وَالِدَاهُ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ مَمْلُوكًا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُوصِيَ لَهُمَا، أَوْ لأََحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَكُنْ الآخَرُ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُعْطِيَ، أَوْ أُعْطِيَا مِنْ الْمَالِ، وَلاَ بُدَّ، ثُمَّ يُوصِي فِيمَا شَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ أَوْصَى لِثَلاَثَةٍ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمَذْكُورِينَ أَجْزَأَهُ. وَالأَقْرَبُونَ: هُمْ مَنْ يَجْتَمِعُونَ مَعَ الْمَيِّتِ فِي الأَبِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ إذَا نُسِبَ، وَمِنْ جِهَةِ أُمِّهِ كَذَلِكَ أَيْضًا: هُوَ مَنْ يَجْتَمِعُ مَعَ أُمِّهِ فِي الأَبِ الَّذِي يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، لأََنَّ هَؤُلاَءِ فِي اللُّغَةِ أَقَارِبُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوقَعَ عَلَى غَيْرِ هَؤُلاَءِ اسْمُ أَقَارِبَ بِلاَ برهان.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهَذَا فَرْضٌ كَمَا تَسْمَعُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْوَالِدَانِ، وَالأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ، وَبَقِيَ مَنْ لاَ يَرِثُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ. وَإِذْ هُوَ حَقٌّ لَهُمْ وَاجِبٌ فَقَدْ وَجَبَ لَهُمْ مِنْ مَالِهِ جُزْءٌ مَفْرُوضٌ إخْرَاجُهُ لِمَنْ وَجَبَ لَهُ إنْ ظُلِمَ هُوَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِخْرَاجِهِ، وَإِذَا أَوْصَى لِمَنْ أَمَرَ بِهِ فَلَمْ يَنْهَ، عَنِ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ، فَقَدْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ وَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ. وَمَنْ أَوْصَى

(9/314)


لِثَلاَثَةِ أَقْرَبِينَ فَقَدْ أَوْصَى لِلأَقْرَبِينَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ وَسَمَّاهُمْ وَتَرَكَ ذَوِي قَرَابَتِهِ مُحْتَاجِينَ اُنْتُزِعَتْ مِنْهُمْ وَرُدَّتْ عَلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِهِ فُقَرَاءُ فَلأََهْلِ الْفَقْرِ مَنْ كَانُوا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: إذَا أَوْصَى فِي غَيْرِ أَقَارِبِهِ بِالثُّلُثِ: جَازَ لَهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَرُدَّ عَلَى قَرَابَتِهِ: ثُلُثَا الثُّلُثِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلاَلٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى لِثَلاَثَةٍ فِي غَيْرِ قَرَابَتِهِ، فَقَالَ: لِلْقَرَابَةِ الثُّلُثَانِ، وَلِمَنْ أَوْصَى لَهُ الثُّلُثُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مَسْرُوقٍ: ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ فَأَحْسَنَ الْقِسْمَةَ، وَإِنَّهُ مَنْ يَرْغَبُ بِرَأْيِهِ، عَنْ رَأْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَضِلُّ، أَوْصِ لِقَرَابَتِك مِمَّنْ لاَ يَرِثُ، ثُمَّ دَعْ الْمَالَ عَلَى مَا قَسَمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَأَلْت سَالِمَ بْنَ يَسَارٍ، وَالْعَلاَءَ بْنَ زِيَادٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ فَدَعَوَا بِالْمُصْحَفِ فَقَرَآ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالاَ: هِيَ لِلْقَرَابَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيمَنْ يُوصِي لِغَيْرِ ذِي الْقُرْبَى وَلَهُ ذُو قَرَابَةٍ مِمَّنْ لاَ يَرِثُهُ أَنَّهُ يُجْعَلُ ثُلُثَا الثُّلُثِ لِذَوِي الْقَرَابَةِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ قَالَ: نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ، وَتُرِكَ الأَقَارِبُ مِمَّنْ لاَ يَرِثُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ: هِيَ لِلْقَرَابَةِ يَعْنِي الْوَصِيَّةَ. وَبِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ يَقُولُ إِسْحَاقُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ ذَلِكَ فَرْضًا، بَلْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ لِغَيْرِ ذِي قَرَابَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الَّذِي أَوْصَى بِعِتْقِ السِّتَّةِ الأَعْبُدِ، وَلاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً فَقَالُوا: هَذِهِ وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ الأَقَارِبِ. قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَنَحْنُ لاَ نُخَالِفُهُمْ فِي أَنَّ قَبْلَ نُزُولِهَا كَانَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ لِمَنْ شَاءَ، فَهَذَا الْخَبَرُ مُوَافِقٌ

(9/315)


لِلْحَالِ الْمَنْسُوخَةِ الْمُرْتَفِعَةِ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ قَطْعًا فَحُكْمُ هَذَا الْخَبَرِ مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ وَالآيَةُ رَافِعَةٌ لِحُكْمِهِ نَاسِخَةٌ لَهُ بِلاَ شَكٍّ. وَمَنْ ادَّعَى فِي النَّاسِخِ أَنَّهُ عَادَ مَنْسُوخًا، وَفِي الْمَنْسُوخِ أَنَّهُ عَادَ نَاسِخًا بِغَيْرِ نَصٍّ ثَابِتٍ وَارِدٍ بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَقَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ يَعْلَمُ وَتَرَكَ الْيَقِينَ وَحَكَمَ بِالظُّنُونِ، وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فَنَحْنُ نَقْطَعُ وَنَبُتُّ وَنَشْهَدُ أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ إلَى نَسْخِ نَاسِخٍ، وَرَدِّ حُكْمٍ مَنْسُوخٍ دُونَ بَيَانٍ وَارِدٍ لَنَا بِذَلِكَ، وَلَوْ جَازَ غَيْرُ هَذَا لَكُنَّا مِنْ دِينِنَا فِي لَبْسٍ، وَلَكُنَّا لاَ نَدْرِي مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِمَّا نَهَانَا عَنْهُ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا فَظَهَرَ لَنَا بُطْلاَنُ تَمْوِيهِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ صَلِيبَةً مِنْ الأَنْصَارِ، وَكَانَ لَهُ قَرَابَةٌ لاَ يَرِثُونَ، فَإِذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِيهِ فَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ حَلِيفًا أَتِيًّا لاَ قَرَابَةَ لَهُ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلاَ يَحِلُّ الْقَطْعُ بِالظَّنِّ، وَلاَ تَرْكُ الْيَقِينِ لَهُ. وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَوْصَى لأَُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلأََهْلِ بَدْرٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، مِائَةُ دِينَارٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ أَوْصَى لِكُلِّ أُمٍّ وَلَدٍ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، أَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَتْ لأَلِ أَبِي يُونُسَ مَوْلاَهَا بِمَتَاعِهَا قال أبو محمد: إنَّ هَذَا لَمِنْ قَبِيحِ التَّدْلِيسِ فِي الدِّينِ، وَلَيْتَ شِعْرِي: أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُبِيحُ أَنْ لاَ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ وَهَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّهُمْ، رضي الله عنهم، لَمْ يُوصُوا لِقَرَابَتِهِمْ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِيهِ قلنا: وَلاَ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَوْصَوْا بِالثُّلُثِ فَأَقَلَّ، وَلَعَلَّهُمْ أَوْصَوْا بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَهَذِهِ كُلُّهَا فَضَائِحُ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهَا وَنَسْأَلُهُ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ.

(9/316)


1752 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ أَصْلاً، فَإِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ فَصَارَ وَارِثًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي: بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ، فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ ثُمَّ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ لَمْ تَجُزْ لَهُ الْوَصِيَّةُ، لأََنَّهَا إذْ عَقَدَهَا كَانَتْ بَاطِلاً، وَسَوَاءٌ جَوَّزَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُجَوِّزُوا، لأََنَّ الْكَوَافَّ نَقَلَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" . فَإِذْ قَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُجِيزُوا مَا أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَبْتَدِئُوا هِبَةً لِذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ مَالُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمْعَانَ، وَعَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ حُمَيْدٍ الْيَحْصُبِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ سَنْدَلٍ، قَالَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ: عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ الآخَرُونَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَامَ الْفَتْحِ فِي خُطْبَتِهِ: " لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ" زَادَ عَطَاءٌ

(9/316)


فِي حَدِيثِهِ: وَإِنْ أَجَازُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ، ثُمَّ هُوَ مِنْ الْمُرْسَلِ فَضِيحَةٌ، لأََنَّ الأَرْبَعَةَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ابْنُ وَهْبٍ كُلُّهُمْ مُطَّرَحٌ، وَإِنَّ فِي اجْتِمَاعِهِمْ لاَُعْجُوبَةً. وَعَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ، وَالْمُسْنَدَ كَالْمُرْسَلِ، وَلاَ يُبَالُونَ بِضَعِيفٍ، فَهَلاَّ أَخَذُوا بِهَذَا الْمُرْسَلِ وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ. وقال أبو حنيفة: لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ مَوْتِهِ. وقال مالك: لاَ رُجُوعَ لَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا فِي كَفَالَتِهِ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا.

(9/317)


1753 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، أَجَازَ الْوَرَثَةُ، أَوْ لَمْ يُجِيزُوا: صَحَّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالنِّصْفُ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ قَالَ: نَعَمْ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ". وَالْخَبَرُ بِأَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِعِتْقِ سِتَّةِ أَعْبُدٍ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. وقال مالك: إنْ زَادَتْ وَصِيَّتُهُ، عَنِ الثُّلُثِ بِيَسِيرٍ كَالدِّرْهَمَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَهَذَا خِلاَفُ الْخَبَرِ، وَخَطَأٌ فِي تَحْدِيدِهِ مَا ذُكِرَ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ، وَلاَ تَخْلُو تِلْكَ الزِّيَادَةُ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ حَقِّ الْمُوصِي أَوْ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَقِّ الْمُوصِي فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ حَقِّهِ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَفَّذَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَلاَ يَحِلُّ لِلْمُوصِي أَنْ يَحْكُمَ فِي مَالِهِمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ. صَحَّ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّكُمْ مِنْ أَحْرَى حَيٍّ بِالْكُوفَةِ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَدَعُ عَصَبَةً، وَلاَ رَحِمًا فَلاَ يَمْنَعُهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ لَيْسَ لَهُ مَوْلَى عَتَاقَةٍ أَنَّهُ يَضَعُ مَالَهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: إذَا مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ لأََحَدٍ، وَلاَ عَصَبَةَ يَرِثُونَ فَإِنَّهُ يُوصِي بِمَالِهِ كُلِّهِ حَيْثُ شَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةَ الرِّيَاحِيَّ أَعْتَقَتْهُ مَوْلاَتُه سَائِبَةً، فَلَمَّا اُحْتُضِرَ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لِغَيْرِهَا، فَخَاصَمَتْ فِي ذَلِكَ فَقُضِيَ لَهَا بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَشَرِيكٍ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وقال مالك،

(9/317)


وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" :. قَالُوا: فَإِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِلَّةَ فِي أَنْ لاَ يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُغْنِيَ الْوَرَثَةَ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِلَّةُ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا شَاءَ وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَقَالُوا: فَلَمَّا كَانَ مَالُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُونَ، لأََنَّهُ مَالٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رَبٌّ، فَإِذْ هُوَ هَكَذَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ لأََحَدٍ حَقٌّ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ شَاءَ وَقَالُوا: كَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَيْثُ شَاءَ فَكَذَلِكَ لِصَاحِبِهِ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا يَشْغَبُونَ بِهِ غَيْرَ هَذَا وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي أَنْ لاَ يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ غِنَى الْوَرَثَةِ فَبَاطِلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا قَالَ عليه الصلاة والسلام قَطُّ إنَّ أَمْرِي بِأَنْ لاَ يُتَجَاوَزَ الثُّلُثُ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ لِغِنَى الْوَرَثَةِ إنَّمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَحُكْمُ فَصْلٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا بَعْدَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ عليه الصلاة والسلام قَضِيَّةً أُخْرَى مُبْتَدَأَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا، غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا قَبْلَهَا، فَقَالَ: إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ.
برهان صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُنْسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَلَّلَ عِلَّةً فَاسِدَةً مُنْكَرَةً حَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَجِدُ مَنْ لَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْوَرَثَةِ فُقَرَاءُ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِنَّ لَهُ بِإِقْرَارِهِمْ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِهِ، وَلاَ يَتْرُكُ لَهُمْ مَا يُغْنِيهِمْ مِنْ جُوعٍ غَدَاءً وَاحِدًا، وَلاَ عَشَاءً وَاحِدًا. وَنَحْنُ نَجِدُ مَنْ لاَ يَتْرُكُ وَارِثًا إِلاَّ وَاحِدًا غَنِيًّا مُوسِرًا مُكْثِرًا، وَلاَ يُخَلِّفُ إِلاَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عِنْدَنَا أَنْ يُوصِيَ إِلاَّ بِثُلُثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ غِنًى فِيمَا يَدَعُ لَهُ وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرُوا لَكَانَ مَنْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا، وَتَرَكَ ثَلاَثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِالنِّصْفِ، لأََنَّ لَهُ فِيمَا يَبْقَى غِنَى الأَبَدِ، فَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ غِنَى الْوَرَثَةِ لَرُوعِيَ مَا يُغْنِيهِمْ عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي قَالُوا بَاطِلٌ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ تَحْدِيدُ الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ فَقَطْ قَلَّ الْمَالُ أَوْ كَثُرَ، كَانَ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ غِنًى أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَلَعَلَّهُمْ يَقْرَعُونَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ، الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِهَا، وَيُورِدُونَهَا عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ وَيَتَقَاذَفُونَ لَهَا أَبَدًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَرَى حُجَّةً إِلاَّ فِي نَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ، عَنْ

(9/318)


رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّمَا يَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ مَالَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، لأََنَّهُ لاَ رَبَّ لَهُ، فَإِذْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ بِمَوْتِهِ أَحَدٌ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ، فَمَا زَادُونَا عَلَى تَكْرَارِ قَوْلِهِمْ، وَأَنْ جَعَلُوا دَعْوَاهُمْ حُجَّةً لِدَعْوَاهُمْ، وَفِي هَذَا نَازَعْنَاهُمْ، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، لَكِنْ نَحْنُ وَأَمْوَالُنَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَفْسِهِ، وَلاَ فِي مَالٍ إِلاَّ بِمَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ مَالِكُهُ، وَمَالُك مَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَطْ. وَلَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ أَيْدِيَنَا عَلَى أَمْوَالِنَا فِيمَا شَاءَ لَمَا جَازَ لَنَا فِيهَا حُكْمٌ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لَنَا فِيهَا حُكْمٌ، حَيْثُ لَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا التَّصَرُّفَ فِيهَا. وَلَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لَنَا فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نُوصِيَ بِشَيْءٍ، فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الثُّلُثَ فَمَا دُونَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا وَلَمْ يُبِحْ أَكْثَرَ فَهُوَ غَيْرُ مُبَاحٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَصَاحِبُهُ أَوْلَى فَكَلاَمٌ بَارِدٌ، وَقِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ تَرَكَ زَوْجَةً وَلَمْ يَتْرُكْ ذَا رَحِمٍ، وَلاَ مَوْلًى، وَلاَ عَاصِبًا: أَنَّ الرُّبْعَ لِلزَّوْجَةِ، وَأَنَّ الثَّلاَثَةَ الأَرْبَاعِ يَضَعُهَا الإِمَامُ حَيْثُ يَشَاءُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. فَهَلاَّ قَاسُوا هَاهُنَا كَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الثَّلاَثَةَ الأَرْبَاعِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ وَلَكِنَّ هَذَا مِقْدَارُ قِيَاسِهِمْ فَتَأَمَّلُوهُ. وَأَمَّا إذَا أَذِنَ الْوَرَثَةُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّ عَطَاءً، وَالْحَسَنَ، وَالزُّهْرِيَّ، وَرَبِيعَةَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي لَيْلَى، وَالأَوْزَاعِيُّ قَالُوا: إذَا أَذِنَ الْوَرَثَةُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُمْ، وَلَمْ يَخُصُّوا إذْنًا فِي صِحَّةِ مَنْ أَذِنَ فِي مَرَضٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وطَاوُوس، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إذَا أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي صِحَّتِهِ: بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ، وَلَهُمْ الرُّجُوعُ إذَا مَاتَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ أَصْلاً كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ هُوَ أَبُو عُمَيْسٍ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْمَرَ وَرَثَتَهُ فِي أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَأَذِنُوا لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ رَجَعُوا، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النَّكِرَةُ لاَ يَجُوزُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ دَاوُد، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا أَنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً

(9/319)


فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ {عَذَابٌ مُهِينٌ} قال أبو محمد: إنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَطْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: يَرُدُّ، عَنْ حَيْفِ النَّاحِلِ الْحَيُّ مَا يَرُدُّ مِنْ حَيْفِ النَّاحِلِ فِي وَصِيَّتِهِ، فَهَؤُلاَءِ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ أَبْطَلُوا مَا خَالَفَ السُّنَّةَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يُجِيزُوهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا رِضَا الْوَرَثَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وقال مالك: إنْ اسْتَأْذَنَهُمْ فِي صِحَّتِهِ فَأَذِنُوا لَهُ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ إذَا مَاتَ، وَإِنْ اسْتَأْذَنَهُمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَأَذِنُوا لَهُ فَلاَ رُجُوعَ لَهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ وَنَفَقَتِهِ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: فَلاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ يَخْلُو الْمَالُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِهِ فِي صِحَّتِهِ وَفِي مَرَضِهِ، أَوْ يَكُونَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ لِوَرَثَتِهِ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ لِصَاحِبِهِ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ فَلاَ إذْنَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ وَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ جَوَازُ إذْنِهِمْ فِيمَا لاَ حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَفِيمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، حَتَّى لَوْ سَرَقُوا مِنْهُ دِينَارًا لَوَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَهُ مِنْهُمْ وَقَدْ يَمُوتُ أَحَدُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَرِيضِ فَيَرِثُهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: إنَّ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْرُوثِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ إذْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا عَقْدٌ قَدْ الْتَزَمُوهُ فَعَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ بِهِ.
قال أبو محمد: وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ أَجَازَ الْعِتْقَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَالطَّلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ: أَنْ يَقُولَ بِإِلْزَامِهِمْ هَذَا الإِذْنَ، وَلَكِنَّهُمْ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: كُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِالأَمْرِ بِهِ أَوْ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا نَصًّا أَوْ أَبَاحَهَا نَصًّا. وَأَمَّا مَنْ عَقَدَ مَعْصِيَةً فَمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي الْوَفَاءِ بِهَا، بَلْ حَرَّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعْصِيَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَالْعَقْدُ فِي الإِذْنِ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُجِيزُوا ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأََنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ صَارَ لِلْوَرَثَةِ، فَحُكْمُ الْمُوصِي فِيمَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْمِيرَاثِ بَاطِلٌ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلَيْسَ لَهُمْ إجَازَةُ الْبَاطِلِ، لَكِنْ إنْ أَحَبُّوا أَنْ يُنَفِّذُوا ذَلِكَ مِنْ مَالِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَلَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَجْعَلُوا الأَجْرَ لِمَنْ شَاءُوا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ ثَلاَثَةً مِنْ

(9/320)


الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ.

(9/321)


1754 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَجُزْ مِنْ وَصِيَّتِهِ إِلاَّ مِقْدَارُ ثُلُثِ مَا كَانَ لَهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ، لأََنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَقَدَهُ عَقْدًا حَرَامًا لاَ يَحِلُّ كَمَا ذَكَرْنَا وَمَا كَانَ بَاطِلاً فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ فِي ثَانٍ، إذْ لَمْ يُعْقَدْ، وَلاَ مُحَالَ أَكْثَرُ مِنْ عَقْدٍ لَمْ يَصِحَّ حُكْمُهُ إذْ عُقِدَ، ثُمَّ يَصِحُّ حُكْمُهُ إذْ لَمْ يُعْقَدْ. فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فَأَقَلَّ، ثُمَّ نَقَصَ مَالُهُ حَتَّى لَمْ يَحْتَمِلْ وَصِيَّتَهُ، ثُمَّ زَادَ لَمْ يُنَفَّذْ مِنْ وَصِيَّتِهِ إِلاَّ مِقْدَارُ ثُلُثِ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، لأََنَّ وَصِيَّتَهُ بِمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مَالُهُ قَدْ بَطَلَتْ، وَمَا بَطَلَ فَلاَ سَبِيلَ إلَى عَوْدَتِهِ دُونَ أَنْ تَبْتَدِئَ إعَادَتُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، إذْ قَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الأَوَّلُ. فَلَوْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عَامِدًا وَلَهُ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يُنَفَّذْ إِلاَّ فِي مِقْدَارِ ثُلُثِ مَا عَلِمَ فَقَطْ، لأََنَّهُ عَقَدَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ عَقْدَ مَعْصِيَةٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ. فَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالاً فَإِنِّي أُوصِي مِنْهُ بِكَذَا، أَوْ قَالَ أُوصِي إذَا مَاتَ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ ثُلُثُ مَا يَتَخَلَّفُ، أَوْ جُزْءًا مُشَاعًا أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ قَالَ: فَيَخْرُجُ مِمَّا يَتَخَلَّفُ كَذَا وَكَذَا: فَهَذَا جَائِزٌ وَتُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ كُلِّ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، بِأَيِّ وَجْهٍ كَسَبَهُ، أَوْ بِأَيِّ وَجْهٍ صَحِيحٍ مَلَكَهُ، بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لأََنَّهُ عَقَدَ عَقْدًا صَحِيحًا فِيمَا يَتَخَلَّفُهُ، وَلَمْ يَخُصَّ بِوَصِيَّتِهِ مَا يَمْلِكُ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَقَدْ عَقَدَ وَصِيَّتَهُ عَقْدًا صَحِيحًا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهِيَ وَصِيَّةٌ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا. فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَمَالُهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، ثُمَّ نَقَصَ مَالُهُ الَّذِي عَلِمَ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، فَوَصِيَّتُهُ نَافِذَةٌ فِيمَا عَلِمَ وَفِيمَا لَمْ يَعْلَمْ، لأََنَّهُ عَقَدَهَا عَقْدًا صَحِيحًا تَامًّا مِنْ حِينِ عَقَدَهُ إلَى حِينِ مَاتَ، وَلاَ تَدْخُلُ دِيَتُهُ إنْ قُتِلَ خَطَأً فِيمَا تُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، لأََنَّهَا لَمْ تَجِبْ لَهُ قَطُّ، وَلاَ مَلَكَهَا قَطُّ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، وَزِيَادٍ الأَعْلَمِ، قَالَ الْحَجَّاجُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ زِيَادٌ الأَعْلَمُ: عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ قُتِلَ خَطَأً أَنَّهُ يَدْخُلُ ثُلُثُ دِيَتِهِ فِي ثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَفَادَ مَالاً وَلَمْ يَكُنْ شَعَرَ بِهِ: دَخَلَ ثُلُثُهُ فِي وَصِيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ، حَاشَ الدِّيَةِ فَلاَ تَدْخُلُ وَصِيَّتُهُ فِيهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ تَدْخُلُ وَصِيَّتُهُ إِلاَّ فِيمَا عَلِمَ مِنْ مَالِهِ، لاَ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ رُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَكْحُولٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ. وقال مالك كَذَلِكَ، إِلاَّ فِيمَا رَجَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ، كَرِبْحِ مَالٍ يَنْتَظِرُهُ، أَوْ غَلَّةٍ

(9/321)


لاَ يَدْرِي مَبْلَغَهَا، فَإِنَّ وَصَايَاهُ تَدْخُلُ فِيهَا وَمَا نَعْلَمُ هَذَا التَّقْسِيمَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً.
وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَأَوْجَبَ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيرَاثَ فِي كُلِّ مَا عَلِمَ بِهِ مِنْ مَالِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَأَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ وَالدَّيْنَ مُقَدَّمَيْنِ كَذَلِكَ عَلَى الْمَوَارِيثِ، فَالْمُفَرَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ مُبْطِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ مَا قَصَدَ بِهِ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَطْ، وَمَا نَعْلَمُ لِمُخَالِفِينَا حُجَّةً أَصْلاً وَقَدْ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ، عَنْ عَلِيٍّ لاَ تَصِحُّ، لأََنَّ فِيهَا الْحَجَّاجَ، وَالْحَارِثَ قلنا: وَالرِّوَايَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ لاَ تَصِحُّ، لأََنَّهَا، عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلاَ تَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لأََنَّهَا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ، وَلاَ تَصِحُّ، عَنْ مَكْحُولٍ، لأََنَّهَا، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلاَ عَنْ رَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، لأََنَّهَا عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/322)


1755- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ، لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا، فَمَنْ أَوْصَى لِحَيٍّ ثُمَّ مَاتَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ. فَإِنْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَلِمَيِّتٍ جَازَ نِصْفُهَا لِلْحَيِّ وَبَطَلَ نِصْفُ الْمَيِّتِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِحَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَازَ لِلْحَيِّ فِي النِّصْفِ وَبَطَلَتْ حِصَّةُ الْمَيِّتِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ. وقال مالك: إنْ كَانَ عَلِمَ الْمُوصِي بِأَنَّ الَّذِي أَوْصَى لَهُ مَيِّتٌ فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي. قال علي: هذا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ بِلاَ برهان: فإن قيل: إذَا أَوْصَى لَهُ وَهُوَ مَيِّتٌ فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِوَرَثَتِهِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَصِيَّةَ لِوَرَثَتِهِ لَقَدَرَ عَلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَتَقْوِيلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ حُكْمٌ بِالظَّنِّ، وَالْحُكْمُ بِالظَّنِّ لاَ يَحِلُّ.

(9/322)


1756 - مَسْأَلَةٌ: وَالْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فِي كُلِّ ذِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ.

(9/322)


1757 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لاَ يُنَفَّذُ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهَا، أَوْ فِيمَا أَوْصَى بِهِ سَاعَةَ مَوْتِ الْمُوصِي: مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ بِنَفَقَةٍ عَلَى إنْسَانٍ مُدَّةً مُسَمَّاةً، أَوْ بِعِتْقِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ يَخْدُمَ فُلاَنًا مُدَّةً مُسَمَّاةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، أَوْ يَحْمِلُ بُسْتَانَه فِي الْمُسْتَأْنَفِ، أَوْ بَغْلَةَ دَارِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لاَ يُنَفَّذُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى لأَخَرَ بِغَنَمٍ حَيَاتَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَيَكُونُ لِلْمُوصِي لَهُ مِنْ الْغَنَمِ أَلْبَانُهَا وَأَصْوَافُهَا وَأَوْلاَدُهَا

(9/322)


1758 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِمَتَاعِ بَيْتِهِ لأَُمِّ وَلَدِهِ، أَوْ لِغَيْرِهَا، فَإِنَّمَا لِلْمُوصَى لَهُ بِذَلِكَ مَا الْمَعْهُودُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْبَيْتِ مِنْ الْفُرُشِ الْمَبْسُوطَةِ فِيهِ، وَالْمُعَلَّقِ، وَالْفِرَاشِ الَّذِي يُقْعَدُ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يُنَامُ عَلَيْهِ وَبِمَا يَتَغَطَّى فِيهِ، وَيَتَوَسَّدُهُ، وَالآنِيَةِ الَّتِي يُشْرَبُ فِيهَا وَيُؤْكَلُ، وَالْمَائِدَةِ، وَالْمَسَامِيرِ الْمُسَمَّرَةِ فِيهِ، وَالْمَنَادِيلِ، وَالطَّسْتِ، وَالإِبْرِيقِ. وَلاَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لاَ يُضَافُ إلَى الْبَيْتِ مِنْ ثِيَابِ اللِّبَاسِ، وَالْمَرْفُوعَةِ، وَالتُّخُوتِ، وَوِطَاءٍ لاَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْتِ، وَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَحُلِيٍّ، وَخِزَانَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لأََنَّهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ مَا يُفْهَمُ مِنْ لُغَةِ الْمُوصِي. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(9/327)


1759 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ وَصِيَّةٌ فِي مَعْصِيَةٍ لاَ مِنْ مُسْلِمٍ، وَلاَ مِنْ كَافِرٍ كَمَنْ أَوْصَى بِبُنْيَانِ كَنِيسَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَقَوْله تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَمَنْ تَرَكَهُمْ يُنَفِّذُونَ خِلاَفَ حُكْمِ الإِسْلاَمِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

(9/327)


1760 - مَسْأَلَةٌ: وَوَصِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَبِ، وَذَاتِ الزَّوْجِ الْبَالِغَةِ، وَالثَّيِّبِ ذَاتِ الزَّوْجِ: جَائِزَةٌ، كَوَصِيَّةِ الرَّجُلِ، أَحَبَّ الأَبُ أَوْ الزَّوْجُ أَوْ كَرِهَا. وَلاَ مَعْنَى لأَِذْنِهِمَا فِي ذَلِكَ لأََنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ جَاءَ عَامًّا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَلَمْ يَخُصَّ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَحَدٍ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَمَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا مِنْ أَحَدٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/327)


1763 - مَسْأَلَةٌ: وَوَصِيَّةُ الْمَرْءِ لِعَبْدِهِ بِمَالٍ مُسَمًّى أَوْ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ: جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ

(9/327)


1762 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ وَصِيَّةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَصْلاً. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجَازَ لَهَا وَصِيَّةَ غُلاَمٍ لَمْ يَحْتَلِمْ بِبِئْرِ جُشَمَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ: فَبِعْتهَا أَنَا بِثَلاَثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ، وَقَالَ: مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ أَجَزْنَا، وَرُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ جَارِيَةٍ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ بِالثُّلُثِ. وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَجَزْنَا وَصِيَّتَهُ. وَعَنِ ابْنِ سَمْعَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إذَا عَرَفَ الصَّلاَةَ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ الْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ سَوَاءٌ. وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إجَازَةُ وَصِيَّةِ الصَّغِيرَيْنِ إذَا أَصَابَا الْحَقَّ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ. وَأَجَازَ مَالِكٌ وَصِيَّةَ مَنْ بَلَغَ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا. وَقَوْلٌ آخَرُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ تَجُوزُ فِي قُرْبِ الثُّلُثِ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَبْلُغَ الثُّلُثَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: قَالَ الْقَاضِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ

(9/330)


لْعَنْبَرِيُّ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ الصَّغِيرَانِ سِنًّا مِنْ وَسَطِ مَا يَحْتَلِمُ لَهُ الْغِلْمَانُ: جَازَتْ وَصِيَّتُهُمَا. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ وَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ لاَ تَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَا لَمْ تَحْتَلِمْ أَوْ تَحِضْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْغُلاَمِ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَصَحَّ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا تَحْدِيدُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بِبُلُوغِ مَنْ هِيَ وَسَطُ مَا يَحْتَلِمُ لَهَا الْغِلْمَانُ وَمَنْعُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ بُلُوغِ الثُّلُثِ، وَإِجَازَتُهُ مَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ وَتَخْصِيصُ مَالِكٍ ابْنَ تِسْعٍ فَصَاعِدًا: فَأَقْوَالٌ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا بِشَيْءٍ أَصْلاً، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّ ذَلِكَ قَبْلَ مَالِكٍ. وَلَعَلَّ بَعْضَ مُقَلِّدِيهِ يَقُولُ: صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ فَنَقُولُ لَهُ: نَعَمْ، وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ سِنِينَ، فَأَجِيزُوا وَصِيَّةَ ابْنِ سِتِّ سِنِينَ بِذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ أَصْلاً. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ الصَّغِيرَيْنِ إذَا أَصَابَا الْحَقَّ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} . قَالُوا: وَهَذَا عُمُومٌ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَهَذَا عُمُومٌ، وَبِالثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ، عَنِ الصَّغِيرِ أَلَهُ حَجٌّ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: نَعَمْ، وَلَكَ أَجْرٌ وَوَجَدْنَاهُ يَحُضُّ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فَالْوَصِيَّةُ كَذَلِكَ. وَقَالُوا: السَّفِيهُ، وَالصَّغِيرُ مَمْنُوعَانِ مِنْ أَمْوَالِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا، وَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ: جَائِزَةٌ، فَالصَّغِيرُ كَذَلِكَ وَقَالُوا: هَذَا حُكْمُ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَالرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلاَفِ ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ، لأََنَّهَا، عَنْ هَالِكِينَ: إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ مَا لَهُمْ شُبْهَةٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ مُتَعَلِّقَ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَلَّدَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، لأََنَّهُمْ خَصُّوا مَنْ دُونَ التِّسْعِ بِلاَ برهان، فَخَالَفُوا كُلَّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ: أَمَّا قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)، وَقَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ، لاَ بِفَرْضٍ، وَلاَ بِتَحْرِيمٍ، وَلاَ بِنَدْبٍ، وَلاَ دَاخِلاً فِي هَذَا الْخِطَابِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ أَعْمَالِهِ الَّتِي هِيَ أَعْمَالُ الْبِرِّ بِبَدَنِهِ دُونَ أَنْ يُلْزِمَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، فَبَطَلَ التَّعْلِيقُ بِالآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّغِيرِ لَهُ حَجٌّ فَنَعَمْ، هُوَ حَقٌّ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إطْلاَقُهُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالْمَالِ وَالصَّدَقَةِ بِهِ، لاَ فِي حَيَاتِهِ، وَلاَ فِي وَصِيَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْقِيَاسُ

(9/331)


بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّهُمْ لَمْ يَقِيسُوا الصَّدَقَةَ فِي الْحَيَاةِ مِنْ الصَّغِيرِ عَلَى الْحَجِّ مِنْهُ، فَقِيَاسُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْمَالِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا مِنْ قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْحَجِّ وَالصَّلاَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ يُحَضُّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لأََنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الصَّغِيرَ، وَالسَّفِيهَ مَمْنُوعَانِ مِنْ مَالِهِمَا، وَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ الصَّغِيرُ فَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ مَا شَغَبُوا بِهِ، لأََنَّنَا لاَ نُسَاعِدُهُمْ عَلَى أَنَّ مُسْلِمًا يَعْقِلُ يَكُونُ سَفِيهًا أَصْلاً، حَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا السَّفِيهُ الْكَافِرُ، أَوْ الْمَجْنُونُ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ لَكِنْ نَقُولُ لَهُمْ: إنَّ الصَّغِيرَ وَالأَحْمَقَ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ: مَمْنُوعَانِ مِنْ مَالِهِمَا، وَوَصِيَّةُ الأَحْمَقِ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ لاَ تَجُوزُ، فَالصَّغِيرُ كَذَلِكَ فَهَذَا قِيَاسٌ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِمْ، لأََنَّ الْقَضِيَّةَ الأُُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ فِعْلُ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَمِثْلُهُ لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ إنَّهَا لاَ تَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لأََنَّ أُمَّ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ مَجْهُولَةٌ، وَعَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ رَوَاهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ فِي ذَلِكَ لاَ تَصِحُّ. وَكَمْ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَصَحَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْمَجْنُونَ، وَالصَّغِيرَ: مَمْنُوعَانِ مِنْ أَمْوَالِهِمَا حَتَّى يَعْقِلَ الأَحْمَقُ، وَيَبْلُغَ الصَّغِيرُ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمَا حُكْمٌ فِي أَمْوَالِهِمَا أَصْلاً، وَتَخْصِيصُ الْوَصِيَّةِ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ. وَكَذَلِكَ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ فَذَكَرَ فِيهِمْ الصَّغِيرَ حَتَّى يَبْلُغَ فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/332)


1763 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ أَصْلاً، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ الْمَوَارِيثُ وَالْعَبْدُ لاَ يُورَثُ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَنْ أَقَرَّ بِالْوَصِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِي وَصِيَّةٍ "مَنْ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ" وَلَيْسَ لأََحَدٍ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ إِلاَّ مَنْ أَبَاحَ لَهُ النَّصُّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، إنَّمَا لَهُ شَيْءٌ إذَا مَاتَ صَارَ لِسَيِّدِهِ لاَ يُورَثُ عَنْهُ. فأما مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ عَبْدٌ فَوَصِيَّتُهُ كَوَصِيَّةِ الْحُرِّ، لأََنَّهُ يُورَثُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْمَأْمُورِينَ بِالْوَصِيَّةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/332)


ومن أوصى بما لا يحمله ثلثه بدىء
...
1764 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِمَا لاَ يَحْمِلُهُ ثُلُثُهُ بُدِئَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حَتَّى يَتِمَّ الثُّلُثُ، فَإِذَا تَمَّ بَطَلَ سَائِرُ الْوَصِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ أَجْمَلَ الأَمْرَ تَحَاصُّوا فِي الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ. وَصَحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا. وَقَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إنَّمَا يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ، فأما إذَا قَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي نَسَمَةً، فَالنَّسَمَةُ وَسَائِرُ الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ هُشَيْمٌ: وَسَمِعْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَابْنَ شُبْرُمَةَ يَقُولاَنِهِ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَتَحَاصُّ الْوَصَايَا، الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: أَنَا قَيْسٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ فِيمَنْ أَوْصَى بِعِتْقٍ وَأَشْيَاءَ، فَزَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ: أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: يُبْدَأُ بِالْعَتَاقَةِ، وقال الشافعي: بِالْحِصَصِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: بِالْحِصَصِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَزَادَ أَنَّهُ يَسْتَسْعِي فِي الْعِتْقِ فِيمَا فَضَلَ، عَنِ الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: فَإِنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: يُبْدَأُ بِالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ وَيَتَحَاصَّانِ إنْ لَمْ يَحْمِلْهُمَا الثُّلُثُ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمَا بِمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ يُتَحَاصُّ الْعِتْقُ الْمُوصَى بِهِ جُمْلَةً مَعَ سَائِرِ الْوَصَايَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُبْدَأُ بِالْمُعْتَقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ، ثُمَّ الْعِتْقُ وَسَائِرُ الْوَصَايَا سَوَاءٌ، يُتَحَاصُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة: يُبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِالْعِتْقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ إذَا كَانَ الْعِتْقُ بَعْدَ الْمُحَابَاةِ، فَإِنْ أُعْتِقَ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ حَابَى تَحَاصَّا جَمِيعًا، فَإِنْ حَابَى فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أُعْتِقَ، ثُمَّ حَابَى، فَلِلْبَائِعِ الْمُحَابِي أَوَّلاً نِصْفُ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ نِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَيْنَ الْمُعْتَقِ فِي الْمَرَضِ بَتْلاً وَبَيْنَ الْمُحَابِي فِي الْمَرَضِ آخِرًا فَهَذَا يُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا، سَوَاءٌ قُدِّمَ فِي ذَلِكَ فِي الذِّكْرِ أَوْ آخِرِهِ. فَإِنْ أَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِحَجٍّ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَوَصَايَا لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ: قُسِمَ الثُّلُثُ، أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْقُرَبِ، فَمَا وَقَعَ لِلْمُوصَى لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ دَفَعَ إلَيْهِمْ وَتَحَاصُّوا فِيهِ، وَمَا وَقَعَ لِسَائِرِ الْقُرَبِ بُدِئَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ، فَإِذَا تَمَّ فَلاَ شَيْءَ لِمَا بَقِيَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ أَبَدًا عَلَى الْمُحَابَاةِ

(9/333)


فِي الْمَرَضِ ثُمَّ الْمُحَابَاةُ. فَإِنْ أَوْصَى بِعِتْقٍ مُطْلَقٍ، أَوْ بِعِتْقِ عَبْدٍ فِي مِلْكِهِ، وَبِمَالٍ مُسَمًّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِصَدَقَةٍ، وَفِي الْحَجِّ، وَلأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ: تَحَاصَّ كُلُّ ذَلِكَ، فَمَا وَقَعَ لِلْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ، وَسَائِرُ ذَلِكَ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي بِذِكْرِهِ أَوَّلاً فَأَوَّلاً، فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ فَلاَ شَيْءَ لِمَا بَقِيَ. وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: إنْ أُعْتِقَ بَتْلاً فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ حَابَى فِي مَرَضِهِ بُدِئَ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ حَابَى فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أُعْتِقَ بُدِئَ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ سَائِرُ الْوَصَايَا، سَوَاءٌ مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ الْقُرَبِ وَمَا أَوْصَى بِهِ لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ: كُلُّ ذَلِكَ بِالْحِصَصِ، لاَ يُقَدَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ. وقال مالك: يُبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ، ثُمَّ بِالْعِتْقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ، وَالْمُدَبَّرِ فِي الصِّحَّةِ، وَيَتَحَاصَّانِ، ثُمَّ عِتْقِ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، وَعِتْقِ مَنْ سَمَّاهُ وَأَوْصَى بِأَنْ يُبْتَاعَ فَيُعْتَقَ بِعَيْنِهِ، وَيَتَحَاصَّانِ، ثُمَّ سَائِرُ الْوَصَايَا، وَيَتَحَاصُّ مَعَ مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ عِتْقِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَبْدَأُ أَبَدًا عَلَى الْعِتْقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ.وقال الشافعي: إذَا أَعْتَقَ فِي الْمَرَضِ عَبْدًا بَتْلاً بُدِئَ بِمَنْ أَعْتَقَ أَوَّلاً فَأَوَّلاً، وَلاَ يَتَحَاصُّونَ فِي ذَلِكَ، وَيُرَقُّ مَنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، أَوْ يُرَقُّ مِنْهُ مَا يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ. وَالْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ مُبَدَّاةٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا بِالْعِتْقِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: يَتَحَاصُّ فِي الْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ وَسَائِرِ الْوَصَايَا عَلَى السَّوَاءِ، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ فِي الْمَرَضِ مَفْسُوخٌ، لأََنَّهُ وَقَعَ عَلَى غَرَرٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ: فَظَاهِرَةُ الْخَطَأِ، لأََنَّهَا دَعَاوَى وَآرَاءٌ بِلاَ برهان، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمْ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ. وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُمَوِّهَ هَاهُنَا بِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ، لأََنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُخْتَلِفُونَ كَمَا تَرَى، وَأَفْسَدُهَا كُلِّهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ قَوْلُ مَالِكٍ لِكَثْرَةِ تَنَاقُضِهِمَا، وَتَفَاسُدِ أَقْسَامِهِمَا، وَهِيَ أَقْوَالٌ تُؤَدِّي إلَى تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَا سَمِعْت، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. ثم نقول وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ قَوْلاً جَامِعًا فِي إبْطَالِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ تَبْدِيَةِ الْعِتْقِ بَتْلاً فِي الْمَرَضِ، وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ، فَنَقُولُ لَهُمْ: يَا هَؤُلاَءِ أَخْبِرُونَا، عَنْ قَضَاءِ الْمَرِيضِ فِي عِتْقِهِ، وَهِبَتِهِ، وَمُحَابَاتِهِ فِي بَيْعِهِ، أَهُوَ كُلُّهُ وَصِيَّةٌ، أَمْ لَيْسَ وَصِيَّةً، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ وَصِيَّةً قلنا: صَدَقْتُمْ، وَهَذَا قَوْلُنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً فَلاَ مَدْخَلَ لَهُ فِي الثُّلُثِ أَصْلاً، لأََنَّ الثُّلُثَ بِالسُّنَّةِ الْمُسْنَدَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الْوَصَايَا، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ إذْ جَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِي الثُّلُثِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ قلنا لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ تَبْدِيَةُ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِبْطَالُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ، وَتَبْدِيلُهُ بَعْدَ مَا سَمِعْتُمُوهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِمَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَبْدِيَةُ الْعِتْقِ مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَمَسْرُوقٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ ثُمَّ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ،

(9/334)


لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِمْ تَبْدِيَةُ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ فِي الثُّلُثِ، وَالْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ فِي الثُّلُثِ، عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، إنَّمَا جَاءَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا تَبْدِيَةُ الْعِتْقِ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. وَعَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا: تَبْدِيَةُ عِتْقِ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ بِاسْمِهِ وَعَيَّنَهُ وَهُوَ فِي مِلْكِ الْمُوصِي عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا فَقَدْ خَالَفَ الْمَذْكُورُونَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا بِآرَاءٍ مُخْتَرَعَةٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ. فَإِنْ قَالُوا: وَقَعَ ذَلِكَ لَنَا، لأََنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ، وَالْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ: أَوْكَدُ مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا قلنا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَعْوَى كَاذِبَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا، وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُحَابَاةُ النَّصْرَانِيِّ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ، أَوْ لِخَلِيعٍ مَاجِنٍ فِي بَيْعِ تُفَّاحٍ لِنَقْلِهِ: أَوْكَدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ثُغُورٍ مُهِمَّةٍ، وَمِنْ فَكِّ مُسْلِمٍ فَاضِلٍ، أَوْ مُسْلِمَةٍ كَذَلِكَ، أَوْ صِغَارٍ مُسْلِمِينَ مِنْ أَسْرِ الْعَدُوِّ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ، وَالْفَضِيحَةَ فِي النَّفْسِ، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ مَا مِثْلُهُ عَجَبٌ وَدَعَاوَى فَاحِشَةٌ مَفْضُوحَةٌ بِالْكَذِبِ، فَإِنْ قَالُوا: الْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ قَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُعْتَقُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ قلنا: فَإِنْ كَانَا قَدْ اسْتَحَقَّاهُ فَلِمَ تَرُدَّانِهِمَا إلَى الثُّلُثِ إذًا، وَمَا هَذَا التَّخْلِيطُ تَارَةً يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَتَارَةً لاَ يَسْتَحِقُّ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ فِي فَسَادِ تِلْكَ الأَقْوَالِ الَّتِي هِيَ النِّهَايَةُ فِي الْفَسَادِ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى تَخْلِيصِهِ إيَّانَا مِنْ الْحُكْمِ بِهَا فِي دِينِهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ. وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الْعِتْقِ جُمْلَةً عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا وَهُوَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَوْلُ سُفْيَانَ، وَإِسْحَاقَ. قال أبو محمد: احْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ النَّارِ، حَتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ. وَقَالُوا: مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْكِيدِ الْعِتْقِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْفَذَ عِتْقَ الشَّرِيكِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَذَكَرُوا خَبَرًا رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، عَنْ حَيْوَةِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُبْدَأَ بِالْعَتَاقِ فِي الْوَصِيَّةِ وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ صَاحِبٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وقال بعضهم: الْعِتْقُ لاَ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَسَائِرُ الأَشْيَاءِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ، وقال بعضهم: لَوْ أَنَّ امْرَأً أَعْتَقَ عَبْدَ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ آخَرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ السَّيِّدَ، فَأَجَازَ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَوْ أَنَّ امْرَأً وَكَّلَ رَجُلاً بِعِتْقِ عَبْدِهِ، وَوَكَّلَ آخَرَ بِبَيْعِهِ فَوَقَعَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ مِنْ الْوَكِيلِينَ مَعًا: أَنَّ الْعِتْقَ نَافِذٌ، وَالْبَيْعَ بَاطِلٌ. قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا هَاتَانِ الْقَضِيَّتَانِ فَهُوَ نَصْرٌ مِنْهُمْ لِلْخَطَأِ بِالضَّلاَلِ، وَلِلْوَهْمِ بِالْبَاطِلِ، بَلْ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إجَازَةُ عِتْقٍ وَقَعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلاَ إجَازَةُ بَيْعٍ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَالإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَقَالَ

(9/335)


رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . فَمَنْ أَحَلَّ الْحَرَامَ فَتَحْلِيلُهُ بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ، لَكِنْ إنْ أَحَبَّ إنْفَاذَ عِتْقِ عَبْدِهِ فَلْيُعْتِقْهُ هُوَ بِلَفْظِهِ مُبْتَدِئًا وَإِنْ أَحَبَّ بَيْعَهُ فَلْيَبِعْهُ كَذَلِكَ مُبْتَدِئًا، وَلاَ بُدَّ. وَالتَّوْكِيلُ فِي الْعِتْقِ: لاَ يَجُوزُ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِجَازَتِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ. وَأَمَّا التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ: فَجَائِزٌ بِالسُّنَّةِ، فَمَنْ وَكَّلَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَمْ يُنَفَّذْ عِتْقُهُ أَصْلاً، وَمَنْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهِ: جَازَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْعِتْقُ لاَ يَلْحَقُهُ فَسْخٌ وَسَائِرُ الأَشْيَاءِ يَلْحَقُهَا فَسْخٌ: فَقَدْ كَذَبُوا، وَكُلُّ عَقْدٍ مِنْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَعَ صَحِيحًا فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِإِيجَابِ فَسْخِهِ قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ، وَالْعِتْقُ الصَّحِيحُ قَدْ يُفْسَخُ، وَذَلِكَ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْعَبْدَ النَّصْرَانِيَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَسَبَى وَقَسَمَ، فَإِنَّ عِتْقَهُ الأَوَّلَ يُفْسَخُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ كُلُّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ لَيْسَ دُونَهُمْ، كَعَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَلَيْسَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ حُجَّةً، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَشْعَثِ بْنِ سَوَّارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلاَّ إلَى كَلاَمِهِ، وَكَلاَمِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام لاَ إلَى كَلاَمِ صَاحِبٍ، وَلاَ غَيْرِهِ، فَمَنْ رَدَّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى غَيْرِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلاَمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُبْدَأَ بِالْعَتَاقِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَهَذَا غَيْرُ مُسْنَدٍ، وَلاَ مُرْسَلٌ أَيْضًا، وَمَنْ أَضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَلَمْ يَقُلْ سَعِيدٌ رحمه الله إنَّ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ حُكْمُهُ وَقَدْ يَقُولُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ: مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِ صَاحِبٍ. وَمِنْ أَعْجَبْ مِمَّنْ لاَ يَرَى قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ إلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَنَّهَا السُّنَّةُ حُجَّةً، ثُمَّ يَرَى قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِذَلِكَ: حُجَّةً، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إنَّ هَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ لَكَانَ مُرْسَلاً، لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ فِي تَأْكِيدِ الْعِتْقِ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْفَاذُهُ عليه الصلاة والسلام عِتْقَ الشَّرِيكِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ: فَهُمَا سُنَّتَا حَقٍّ بِلاَ شَكٍّ، وَلَيْسَ فِيهِمَا إِلاَّ فَضْلُ الْعِتْقِ وَالْحُكْمُ فِيهِ فَقَطْ، وَلَمْ يُخَالِفُونَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّ الْعِتْقَ أَوْكَدُ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ الْقُرَبِ أَصْلاً، وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِيهِمَا فَقَدْ كَذَبَ وَقَالَ الْبَاطِلَ، بَلْ قَدْ جَاءَ نَصُّ الْقُرْآنِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالإِطْعَامِ لِمِسْكِينٍ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ

(9/336)


أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الأَيْمَانِ، وَهَذِهِ كَفَّارَةُ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْحَجِّ لِمَنْ بِهِ أَذًى مِنْهُ لَوْ أَعْتَقَ فِيهِ أَلْفَ رَقَبَةٍ مَا أَجْزَأَهُ، وَإِنَّمَا يُجْزِيهِ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ نُسُكٌ، أَفَتَرَى هَذَا دَلِيلاً عَلَى فَضْلِ النُّسُكِ عَلَى الْعِتْقِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا إنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ يُطَاعُ لَهَا، وَلاَ يُزَادُ فِيهَا مَا لَيْسَ فِيهَا ثُمَّ قَدْ جَاءَ النَّصُّ الصَّحِيحُ بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرَبِ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ بِبَيَانٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمْ فِي تَأْكِيدِ الْعِتْقِ عَلَى سَائِرِ الْقُرَبِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: "إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ". حدثنا عبد الله بن ربيع، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَزِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ أَنَّهُ سَمِعَ كُرَيْبًا مَوْلَى بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: أَعْتَقْتُ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " لَوْ أَعْطَيْتِ أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأََجْرِكِ ". فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ يُغْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، عَنْ تَقَحُّمِ الْكَذِبِ وَتَكَلُّفِ الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّ الْعِتْقَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ قُرْبَةٍ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ إبْطَالُ سَائِرِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُوصِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إيثَارًا لِلْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لاَ يَجُوزُ، وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِهَذَا أَنْ يَقُولَ بِمَا صَحَّ عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَوْصَى إنْسَانٌ فِي أَمْرٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ قَالَ: فَافْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَأَيْتَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مَا لَمْ يُسَمِّ إنْسَانًا بِاسْمِهِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ثُمَّ رَجَعَ عَطَاءٌ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لِيُنَفِّذَ قَوْلَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَوْلُهُ الأَوَّلُ أَعْجَبُ إلَيَّ. قال أبو محمد: مَنْ أَبْطَلَ شَيْئًا مِمَّا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ إيثَارًا لِلْعِتْقِ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ قَوْلِ عَطَاءٍ الأَوَّلِ، وَقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَمَعُوا إلَى ذَلِكَ تَنَاقُضًا قَبِيحًا زَائِدًا. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ يَرَى تَبْدِيَةَ بَعْضِ الْوَصَايَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا، أَوْ قَوْلُ مَنْ رَأَى التَّحَاصَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ، فَوَجَدْنَا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَدْ خَالَفَ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي أَيْضًا بِغَيْرِ نَصٍّ، مِنْ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ قَالُوا: وَأَنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ أَيْضًا مَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي
قلنا: خِلاَفُنَا لِمَا أَوْصَى غَيْرُ خِلاَفِكُمْ، لأََنَّكُمْ قَدْ خَالَفْتُمُوهُ بِغَيْرِ نَصٍّ، مِنْ

(9/337)


قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَنَحْنُ خَالَفْنَاهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ.
قال أبو محمد: فَلَمَّا عُرِّيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا مِنْ الْبُرْهَانِ لَزِمَنَا أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُجِزْ الْوَصِيَّةَ إِلاَّ بِالثُّلُثِ فَأَقَلَّ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فَأَقَلَّ أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ إنْفَاذُ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ عَاصِيًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ وَقَصْدٍ، وَأَمَّا مُخْطِئًا مَعْفُوًّا عَنْهُ الإِثْمُ إنْ كَانَ جَهِلَ ذَلِكَ، وَفِعْلُهُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلاَ يَحِلُّ إنْفَاذُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ إمْضَاءُ الْخَطَأِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ. وَوَجَدْنَا الْمُوصِيَ إذَا أَوْصَى فِي وَجْهٍ مَا بِمِقْدَارٍ مَا دُونَ الثُّلُثِ فَقَدْ وَجَبَ إنْفَاذُ كُلِّ مَا أَوْصَى بِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بَاطِلاً لاَ يَحِلُّ إنْفَاذُهُ فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا حَرْفًا حَرْفًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام فإن قال قائل: وَمَنْ قَالَ هَذَا قَبْلَكُمْ قلنا لَهُ: إنْ كَانَ حَنِيفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا وَمَنْ قَالَ قَبْلَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ بِأَقْوَالِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ أَنَّ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ أَقْوَالَهُمَا لاَ يُوَافِقُهُمَا نَصٌّ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَقَوْلُنَا هُوَ نَفْسُ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام. وَإِنَّمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ، عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَوَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُمْ عَشَرَاتُ أُلُوفٍ، فَأَيْنَ أَقْوَالُ سَائِرِهِمْ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ بِتَبْدِيَةِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ الْمُوصِي أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِمَا، وَمَا نَقُولُ هَذَا مُتَكَثِّرِينَ بِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ مُسْتَوْحِشِينَ إلَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ لِنُرِيَ الْمُخَالِفَ فَسَادَ اعْتِرَاضِهِ، وَفَاحِشَ انْتِقَاضِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ الْمُوصِي بِشَيْءٍ، لَكِنْ قَالَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ: يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ ذَلِكَ، فَهَاهُنَا يَتَحَاصُّونَ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ الثُّلُثُ فَيَجُوزُ لَهُمْ مَا أَجَازَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَبْطُلُ لَهُمْ مَا أَبْطَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقُرَبِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
"فَصْل" قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الزَّكَاةِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي " كِتَابِ الْحَجِّ " مِنْهُ، وَفِي " كِتَابِ التَّفْلِيسِ " مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ وَقَدْ فَرَّطَ: فِي زَكَاةٍ، أَوْ فِي حَجِّ الإِسْلاَمِ، أَوْ عُمْرَتِهِ، أَوْ فِي نَذْرٍ، أَوْ فِي كَفَّارَةِ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ، أَوْ يَمِينٍ، أَوْ تَعَمَّدَ وَطْءً فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ بَعْضَ لَوَازِمِ الْحَجِّ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لاَ شَيْءَ لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يَقْضِيَ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا، ثُمَّ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِلْغُرَمَاءِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ الْمِيرَاثُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَكَرْنَا الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ

(9/338)


يُقْضَى". وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ قَوْلَ الْحَسَنِ، وطَاوُوس بِأَصَحِّ طَرِيقٍ عَنْهُمَا: أَنَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ، وَزَكَاةَ الْمَالِ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ. وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ: إنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمَيِّتِ وَكُلُّ شَيْءٍ وَاجِبٌ فَهُوَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّ الْحَجَّ وَالنَّذْرَ يُقْضَيَانِ، عَنِ الْمَيِّتِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ الْمَوْتَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُ طَاوُوس، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَرَّةً قَالَ: تَتَحَاصَّ دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى وَدُيُونُ النَّاسِ، وَمَرَّةً قَالَ كَمَا قلنا، وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِأَنْ لاَ تَخْرُجَ الزَّكَاةُ إِلاَّ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهَا مِنْ التَّابِعِينَ، إِلاَّ رَبِيعَةُ. وَبَقِيَ أَنْ نَذْكُرَ أَقْوَالَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِوَصَايَا: مِنْهَا زَكَاةٌ وَاجِبَةٌ، وَحَجَّةُ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ يُبْدَأُ فِي الثُّلُثِ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ سَوَاءٌ ذَكَرَهَا أَوَّلاً أَوْ آخِرًا وَتَتَحَاصَّ الْفُرُوضُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِهِ فِي الْوَصَايَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُبْدَأُ بِالزَّكَاةِ، ثُمَّ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ، وَمَرَّةً قَالَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: ثُمَّ بَعْدَ الزَّكَاةِ وَالْحَجَّةِ الْمَفْرُوضَةِ مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ عِتْقٍ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ صَيْدٍ، وَفِدْيَةِ الأَذَى: يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ بِذِكْرِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ، ثُمَّ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُبْدَأُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَمِنْ الزَّكَاةِ بِمَا بَدَأَ الْمُوصِي بِذِكْرِهِ فِي وَصِيَّتِهِ. وقال مالك: يُبْدَأُ بِالْعِتْقِ الْبَتِّ فِي الْمَرَضِ، وَالتَّدْبِيرِ فِي الصِّحَّةِ، ثُمَّ بَعْدَهُمَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، ثُمَّ عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى فَيُعْتَقَ، ثُمَّ الْكِتَابَةِ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُكَاتَبَ عَبْدُهُ، ثُمَّ الْحَجِّ، ثُمَّ إقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ لِمَنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ إقْرَارُهُ بِهِ. قَالَ: وَيُبْدَأُ بِالزَّكَاةِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ عِتْقِ رَقَبَةٍ، عَنْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ خَطَإٍ، أَوْ يَتَحَاصُّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مَعَ رَقَبَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ، ثُمَّ مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ كَفَّارَةِ الأَيْمَانِ قَالَ: وَيُبْدَأُ بِالإِطْعَامِ عَمَّا أَوْصَى بِهِ مِمَّا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَى النَّذْرِ.
قال أبو محمد: فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ عِبْرَةٌ لِمَنْ اعْتَبَرَ، وَآيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَطْرَدُهَا لِخَطَئِهِ، وَأَقَلُّهَا تَنَاقُضًا، لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَحَجَّةُ الإِسْلاَمِ، وَسَائِرُ الْفُرُوضِ، إذَا فَرَّطَ فِيهَا وَتَبَرَّأَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ: يَجْرِي كُلُّ ذَلِكَ مَجْرَى الْوَصَايَا، فَلأََيِّ شَيْءٍ قَدَّمْتهَا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، فَإِنْ قَالَ: لأََنَّهَا أَوْكَدُ، قِيلَ لَهُ: وَمِنْ

(9/339)


أَيْنَ صَارَتْ أَوْكَدَ عِنْدَك وَأَنْتَ قَدْ أَخْرَجْتهَا، عَنْ حُكْمِ الْفَرْضِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ إضَاعَتُهُ إلَى حُكْمِ الْوَصَايَا فَبَطَلَ التَّأْكِيدُ عَلَى قَوْلِك الْفَاسِدِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، وَلاَ فَرْقَ، وَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ خَارِجًا، عَنْ حُكْمِ الْوَصَايَا، وَبَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْفَرْضِ الَّذِي لاَ يَسَعُ تَعْطِيلُهُ، فَلِمَ جَعَلْتهَا مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهَا أَيْضًا وَمَا هَذَا الْخَبْطُ وَالتَّخْلِيطُ بِالْبَاطِلِ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: فَآبِدَةٌ فِي تَقْدِيمِهِ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَجِّ فَإِنْ قَالَ: الزَّكَاةُ حَقٌّ فِي الْمَالِ، وَالْحَجُّ عَلَى الْبَدَنِ قِيلَ: فَلِمَ أَدْخَلْته فِي الْوَصَايَا إذًا وَهَلَّا مَنَعْت مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ كَمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالنَّخَعِيُّ وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. فإن قيل: لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ قِيلَ: فَذَلِكَ النَّصُّ يُوجِبُ أَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِك الْفَاسِدِ وَهَذَا نَفْسُهُ يَدْخُلُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي تَقْدِيمِهِ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا وَأَمَّا قَوْلُ مَالك: فَأَفْحَشُهَا تَنَاقُضًا، وَأَوْحَشُهَا وَأَشَدُّهَا فَسَادًا، لأََنَّهُ قَدَّمَ بَعْضَ الْفَرَائِضِ عَلَى بَعْضٍ بِلاَ برهان، فَقَدَّمَ بَعْضَ التَّطَوُّعِ عَلَى بَعْضِ الْفَرَائِضِ بِلاَ برهان، وَصَارَ كُلُّهُ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الأَدِلَّةِ أَصْلاً، مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُ نَعْنِي: ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الَّذِي رَتَّبَ وَأَطْرَفُ شَيْءٍ قَوْلُهُ " إقْرَارُهُ لِمَنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ إقْرَارُهُ " فَكَيْفَ يَجُوزُ مَا هُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ عَجِيبٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فإن قال قائل: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ لَمَا شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَحْرِمَ وَرَثَتَهُ مَالَهُ إِلاَّ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَضَعَ فُرُوضَهُ، ثُمَّ يُوصِيَ بِهَا عِنْدَ مَوْتِهِ قلنا لَهُ: إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إثْمُهُ، وَلاَ تُسْقِطُ عَنْهُ مَعْصِيَتُهُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِإِسْقَاطِ حُقُوقِهِ مِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرْتُمْ. ثم نقول لَهُمْ: هَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِهَذَا الأَحْتِجَاجِ نَفْسِهِ إذْ قُلْتُمْ: إنَّ دُيُونَ النَّاسِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَنَقُولُ لَكُمْ: لَوْ كَانَ هَذَا لَمَا شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَحْرِمَ وَرَثَتَهُ إِلاَّ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ لِمَنْ شَاءَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ مَالَهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلاَ فَرْقَ. وَيُقَالُ لَكُمْ أَيْضًا: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ لَمَا شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يُبْطِلَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقَ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَيُهِنِّي ذَلِكَ وَرَثَتَهُ إِلاَّ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ اعْتِرَاضَهُمْ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ إبْطَالٌ لأََوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَرَائِضِهِ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ أَعْرِفَنَّ امْرَأً بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ يُدَغْدِغُ مَالَهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا قلنا: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ لَمْ يُسْنَدْ قَطُّ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سُقُوطُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ بُخْلِهِ بِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ إنَّمَا فِيهِ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ فَقَطْ، وَنَعَمْ، فَهُوَ مُنْكَرٌ بِلاَ شَكٍّ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي مَالِهِ، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/340)


1765 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّ مَا أَوْصَى بِهِ إِلاَّ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِ

(9/340)


مَمْلُوكٍ لَهُ يَمْلِكُهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ أَصْلاً إِلاَّ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ، عَنْ مِلْكِهِ بِهِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّمْلِيكِ. وَأَمَّا مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ رَقَبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يُحْدِثُ اللَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ مَا شَاءَ، وَمَلاَكُ الْوَصِيَّةِ آخِرُهَا. وَصَحَّ عَنْ طَاوُوس، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّ لِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ فِي وَصِيَّتِهِ عِتْقًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بِخِلاَفِ ذَلِكَ: رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ أَوْصَى إنْ مَاتَ أَنْ يُعْتَقَ غُلاَمٌ لَهُ فَقَالَ: أَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الرِّقِّ، وَلَيْسَ الْعِتْقُ كَسَائِرِ الْوَصِيَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كُلُّ صَاحِبِ وَصِيَّةٍ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاَّ الْعَتَاقَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالُوا: كُلُّ صَاحِبِ وَصِيَّةٍ يَرْجِعُ فِيهَا إِلاَّ الْعَتَاقَةَ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِلرُّجُوعِ فِي الْعِتْقِ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَنَّهُ قَوْلُ صَاحِبٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبِأَنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا تَعَلَّقُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا، وَكُلُّهُ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَوْلُ صَاحِبٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرُبَّ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِهِ فِي الْيَرْبُوعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ بِعَنَاقٍ، وَفِي الأَرْنَبِ بِجَدْيٍ وَسَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ لِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ لاَ يُجِيزُونَ الرُّجُوعَ فِي التَّدْبِيرِ، وَلاَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ، وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ فِي كُلِّ حَالٍ، لأََنَّهُ عِتْقٌ لِمَا لاَ يَجِبُ إِلاَّ بِالْمَوْتِ، وَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ مِنْ الثُّلُثِ وَهَذِهِ صِفَةُ سَائِرِ الْوَصَايَا. وأعجب شَيْءٍ تَبْدِيئُهُمْ الْعِتْقَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا وَتَأْكِيدُهُمْ إيَّاهُ، وَتَغْلِيظُهُمْ فِيهِ، ثُمَّ سَوَّوْهُ هَاهُنَا بِسَائِرِ الْوَصَايَا فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الآرَاءِ وَهَذِهِ الْمَقَايِيسِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لاَ يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي التَّدْبِيرِ، وَهُوَ عِنْدَهُ وَصِيَّةٌ بِالْعِتْقِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ، وَقِيَاسُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ، وَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ الْبَتَّةِ وَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ عِتْقٌ بِصِفَةٍ فَعَادَ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِمْ فَإِذْ قَدْ بَطَلَ قَوْلُهُمْ فَعَلَيْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} ِ وَكَانَ عَهْدُهُ بِعِتْقِهِ عَبْدَهُ

(9/341)


إنْ مَاتَ عَقْدًا مَأْمُورًا بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَمَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَلاَ يَحِلُّ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَأَمَّا سَائِرُ الْوَصَايَا فَإِنَّمَا هِيَ مَوَاعِيدُ، وَالْوَعْدُ لاَ يَلْزَمُ إنْفَاذُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " بَابِ النَّذْرِ " مِنْ هَذَا الدِّيوَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ رَقَبَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ وَهَمٌّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يُنَفِّذْهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَقْدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا إذَا أَخْرَجَهُ، عَنْ مِلْكِهِ فَقَدْ فَعَلَ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ، فَإِذْ صَارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُهُ فِيهِ: لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْعَقْدُ، لأََنَّ مَا بَطَلَ بِوَاجِبٍ فَلاَ يَعُودُ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي عَوْدَتِهِ، فَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهُ، عَنْ مِلْكِهِ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا سَقَطَ مِلْكُهُ عَنْهُ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ.

(9/342)


1766 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى لأَُمِّ وَلَدِهِ مَا لَمْ تُنْكَحْ فَهُوَ بَاطِلٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ يُوقِفُ عَلَيْهَا وَقْفًا مِنْ عَقَارِهِ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَلاَ حَقَّ لَهَا فِيهِ، لَكِنْ يَعُودُ الْوَقْفُ إلَى وَجْهٍ آخَرَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ، فَهَذَا جَائِزٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَنْ أَوْصَى لأَُمَّهَاتِ أَوْلاَدِهِ بِأَرْضٍ يَأْكُلْنَهَا فَإِنْ نَكَحْنَ فَهِيَ لِلْوَرَثَةِ قَالَ: تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ عَلَى شَرْطِهِ. وقال أبو حنيفة: إنْ أَوْصَى لأَُمِّ وَلَدِهِ بِمَالٍ سَمَّاهُ عَلَى أَنْ لاَ تَتَزَوَّجَ أَبَدًا قَالَ: إنْ تَزَوَّجَتْ فَلاَ شَيْءَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَهَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ هَلْ يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ أَمْ لاَ إِلاَّ بِمَوْتِهَا، وَهِيَ بَعْدَ الْمَوْتِ لاَ تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلاَ تَسْتَحِقُّهُ. وَأَيْضًا فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مَلَكَتْ مَا أَوْصَى لَهَا بِهِ أَوْ لَمْ تَمْلِكْهُ فَإِنْ كَانَتْ مَلَكَتْهُ فَلاَ يَجُوزُ إزَالَةُ مِلْكِهَا، عَنْ يَدِهَا بَعْدَ صِحَّتِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَمْلِكْهُ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُعْطَى مَا لَيْسَ لَهَا، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا إدْخَالُهَا فِي الْوَقْفِ بِصِفَةٍ فَهَذَا جَائِزٌ، لأََنَّهُ تَسْبِيلُ وُقُوفٍ فِيهِ عِنْدَ حَدِّ الْمُسَبَّلِ، وَلَيْسَ تَمْلِيكًا لِرَقَبَةِ الْوَقْفِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا مَا اسْتَحَقَّتْ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، لأََنَّهَا قَدْ مَلَكَتْهُ، فَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ بَاطِلاً.

(9/342)


1767 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ رَقِيقٍ لَهُ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ، أَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ لَمْ يُنَفَّذْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ بِالْقُرْعَةِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ صَحَّ فِيهِ الْعِتْقُ، سَوَاءٌ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقُرْعَةِ، أَوْ عَاشَ إلَى حِينِ الْقُرْعَةِ. وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الرِّقِّ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ أَوْ عَاشَ إلَيْهَا فَإِنْ شَرَعَ السَّهْمُ فِي بَعْضِ مَمْلُوكٍ عَتَقَ مِنْهُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ بِلاَ اسْتِسْعَاءٍ، وَعَتَقَ بَاقِيهِ وَاسْتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِي قِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الثُّلُثِ. فَلَوْ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ بُدِئَ بِاَلَّذِي سَمَّى أَوَّلاً فَأَوَّلاً، فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ رَقَّ الْبَاقُونَ فَلَوْ شَرَعَ الْعِتْقُ فِي بَعْضِ مَمْلُوكٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ وَاسْتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ مِنْهُ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا مُسَمًّى

(9/342)


1768 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِ مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ مَمَالِيكَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلنَّاسِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ كُلِّهِ: بَطَلَ كُلُّ مَا أَوْصَى بِهِ مِنْ الْعِتْقِ جُمْلَةً، وَبِيعُوا فِي الدَّيْنِ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَارِيثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَحَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فِيمَا يُخَلِّفُهُ الْمُوصِي، وَأَنَّ لِلْوَرَثَةِ الثُّلُثَيْنِ، أَوْ مَا فَضَلَ، عَنِ الْوَصِيَّةِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ. فَصَحَّ ضَرُورَةً: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ أَدَاءِ الدَّيْنِ وَاجِبًا لِلْغُرَمَاءِ فَصَحَّ أَنَّ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِجَمِيعِ مَا تَرَكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مَا لاَ يُوصِي فِيهِ، وَأَنَّ مَا تَخَلَّفَهُ انْتَقَلَ إلَى مِلْكِ الْغُرَمَاءِ إثْرَ مَوْتِهِ بِلاَ فَصْلٍ، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُوصِيَ فِي مَالِ غَيْرِهِ: فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. وقال أبو حنيفة: يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ وَيَعْتِقُ وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمَوَّهُوا فِي الأَحْتِجَاجِ بِخَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ لِلْوَصِيَّةِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ " أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ عَبْدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَهَذَا خَبَرٌ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: حُكْمُ الْوَصِيَّةِ، إنَّمَا فِيهِ حُكْمُ مَنْ أَعْتَقَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ قَالُوا: الأَمْرُ سَوَاءٌ فِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ لأََنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَبَيْنَ فِعْلِ الْحَيِّ عِلَّةً تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ وَهُوَ خَبَرٌ مَكْذُوبٌ لاَ يَصِحُّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْمَكِّيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَهَذَا فِيهِ أَرْبَعُ فَضَائِحَ: إحْدَاهَا يَكْفِي: أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ مُطْرَحٌ. وَثَالِثُهَا: عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ وَهُوَ هَالِكٌ مَتْرُوكٌ. وَرَابِعُهَا

(9/347)


أَنَّهُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْمَكِّيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَلاَ يَحِلُّ الأَخْذُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ.
قال أبو محمد: فَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ مَمَالِيكَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لاَ يُحِيطُ بِمَا تَرَكَ وَكَانَ يَفْضُلُ مِنْ الْمَمْلُوكِ فَضْلَةٌ، عَنِ الدَّيْنِ وَإِنْ قَلَّتْ أُعْتِقَ مَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَيَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ، ثُمَّ عَتَقَ مِنْهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بِلاَ اسْتِسْعَاءٍ وَاسْتَسْعَى لِلْوَرَثَةِ فِي حَقِّهِمْ. برهان ذَلِكَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنْفَاذِ عِتْقِ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَأَنْ يَسْتَسْعِيَ الْمَمْلُوكُ الْمُعْتَقُ لِشَرِيكِ مُعْتِقِهِ، وَهَذَا الْمُوصَى بِعِتْقِهِ لِلْمُوصِي فِيهِ حَقٌّ وَقَدْ شَرِكَهُ الْغُرَمَاءُ وَالْوَرَثَةُ فَيُعْتَقُ وَيَسْعَى. فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ لِلدَّيْنِ رَقَّ، وَمَنْ خَرَجَ لِلْوَصِيَّةِ عَتَقَ، وَرَقَّ الْبَاقُونَ، إِلاَّ أَنْ يَشْرَعَ بَيْنَهُمْ لِلْعِتْقِ فِي مَمْلُوكٍ فَيُعْتَقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِالأَسْتِسْعَاءِ.
لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الْوَصَايَا " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وسلم.

(9/348)


كِتَابُ فِعْلِ الْمَرِيضِ
مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ أَوْ الْمَوْقُوفِ لِلْقَتْلِ، أَوْ الْحَامِلِ، أَوْ الْمُسَافِرِ فِي أَمْوَالِهِمْ
قال أبو محمد: كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا فَكُلُّ مَا أَنَفَذُوا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ مُحَابَاةٍ فِي بَيْعٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ إقْرَارٍ: كَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِوَارِثٍ، أَوْ لِغَيْرِ وَارِثٍ، أَوْ إقْرَارٍ بِوَارِثٍ، أَوْ عِتْقٍ أَوْ قَضَاءِ بَعْضِ غَرَائِمِهِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكُلُّهُ نَافِذٌ مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي الأَصِحَّاءِ الآمِنِينَ الْمُقِيمِينَ، وَلاَ فَرْقَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً، وَوَصَايَاهُمْ كَوَصَايَا الأَصِحَّاءِ، وَلاَ فَرْقَ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْر}َ وَحَضُّهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَإِحْلاَلُهُ الْبَيْعَ وَقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وَلَمْ يَخُصَّ عَزَّ وَجَلَّ صَحِيحًا مِنْ مَرِيضٍ، وَلاَ حَامِلاً مِنْ حَائِلٍ، وَلاَ آمِنًا مِنْ خَائِفٍ، وَلاَ مُقِيمًا مِنْ مُسَافِرٍ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام فَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّادِقَةِ: إنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ قَطُّ تَخْصِيصَ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نَحَلَهَا جَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لَهَا: إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْغَابَةِ، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَحُزْتِيهِ كَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ،

(9/348)


عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ قَالَ: يُعْتَقُ ثُلُثُهُ
وبه إلى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَعْتَقَتْ امْرَأَةٌ جَارِيَةً لَيْسَ لَهَا مَالٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَسْعَى فِي ثَمَنِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: اشْتَرَى رَجُلٌ جَارِيَةً فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، فَجَاءَ الَّذِينَ بَاعُوهَا يَطْلُبُونَ ثَمَنَهَا، فَلَمْ يَجِدُوا لَهَا مَالاً، فَرَفَعُوا ذَلِكَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَهَا: اسْعَيْ فِي ثَمَنِك. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ: يُعْتَقُ وَيَسْعَى فِي الْقِيمَةِ. وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَصَحَّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ حُرٌّ وَيَسْعَى فِي ثَمَنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ اسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ ثَمَنِهِ وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا، عَنْ إبْرَاهِيمَ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ مَنْ أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ ثُلُثَ عَبْدٍ لَهُ أُقِيمَ فِي ثُلُثِهِ وَعَتَقَ كُلُّهُ. وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ مَنْ أَعْتَقَ وَلَدَ عَبْدِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ نَفَذَ وَاسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا: مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ. وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ فِيمَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، أَنَّهُ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْتَسْعِي فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا وَعَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَقَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ: إنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُعْتَقِ دَيْنٌ أُعْتِقَ الثُّلُثُ وَاسْتَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْمَمْلُوكِ الْمُعْتَقِ بِيعَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَمَا سِوَاهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَتْ السِّعَايَةُ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُد بْنُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عَمَّنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ غُلاَمٌ فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّمَا لَهُ ثُلُثُهُ، فَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ قِيمَتَهُ، فَيُسْتَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ، فَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمَانِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ يُبَاعُ وَيُقْضَى الدَّيْنُ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَدْرَكْت مَوْلًى لِسَعِيدِ بْنِ بَكْرٍ أَعْتَقَ ثُلُثَ رَقِيقٍ لَهُ نَحْوَ عِشْرِينَ، فَرَفَعَ أَمْرَهُمْ إلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، فَقَسَّمَهُمْ أَثْلاَثًا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ

(9/349)


فَأَعْتَقَ ثُلُثَهُمْ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَتْقُ ثُلُثِهِمْ بِالْقُرْعَةِ وَالْقِيمَةِ. وَعَنْ مَكْحُولٍ عِتْقُ ثُلُثِهِمْ بِالْقُرْعَةِ بِالْعَدَدِ دُونَ تَقْوِيمٍ وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي الْعِتْقِ أَقَلُّهُمْ قِيمَةً أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَنْفُذُ عِتْقُهُ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: فَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْقُرْعَةَ أَصْلاً، وَلاَ الإِرْقَاقَ، لَكِنْ يُعْتَقُ الثُّلُثُ بِلاَ اسْتِسْعَاءٍ، وَيُعْتَقُ الثُّلُثَانِ بِالأَسْتِسْعَاءِ. وقال مالك: إنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ بَتًّا أَعْتَقَ الثُّلُثَ بِالْقُرْعَةِ وَالْقِيمَةِ، وَرَقَّ الثُّلُثَانِ، سَوَاءٌ أَعْتَقَهُمْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَعْتَقَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بِأَسْمَائِهِمْ وقال الشافعي: مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي يَمُوتُ مِنْهُ عَبِيدًا لَهُ بَتْلاً وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا: أَعْتَقَ مَنْ سَمَّى أَوَّلاً فَأَوَّلاً، فَإِذَا تَمَّ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ رَقَّ الْبَاقُونَ، وَإِنْ شَرَعَ الْعِتْقُ فِي وَاحِدٍ كَانَ بَاقِيهِ رَقِيقًا وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهُمْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ قُوِّمُوا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأُعْتِقَ الثُّلُثُ وَرَقَّ الثُّلُثَانِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا فَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْعِتْقِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي الرَّجُلِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَهُوَ مَرِيضٌ قَالَ: هُوَ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ مَكَثَ عَشْرَ سِنِينَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ يَرَى مَا صَنَعَتْ الْحَامِلُ فِي حَمْلِهَا وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، وَجَرِيرٌ، كِلاَهُمَا، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ جَرِيرٌ فِي رِوَايَتِهِ: إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الْعَطِيَّةَ حِينَ يَضَعُ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ لِلسَّفَرِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ مِنْ السَّفَرِ، وَقَالَ هُشَيْمٌ فِي رِوَايَتِهِ: إذَا وَضَعَ الْمُسَافِرُ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا صَنَعَ فِي شَيْءٍ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لِي عَطَاءٌ: مَا صَنَعَتْ الْحَامِلُ فِي حَمْلِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ. قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأْيٌ أَمْ شَيْءٌ سَمِعْتَهُ قَالَ: بَلْ سَمِعْنَاهُ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مَا صَنَعَتْ الْحَامِلُ فِي حَمْلِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: مَا أَعْطَتْ الْحَامِلُ فَثُلُثُهُ لِزَوْجِهَا، أَوْ لِبَعْضِ مَنْ يَرِثُهَا فِي غَيْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَرِيضَةً. وبه إلى ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ جَابِرٌ: لِلْحَامِلِ مَا أَعْطَتْ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا. قَالَ يُونُسُ: وَقَالَ رَبِيعَةُ: يَجُوزُ عَطَاؤُهَا مَا لَمْ تَثْقُلْ أَوْ يَحْضُرْهَا نِفَاسٌ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ حُجَيْرَةَ الْخَوْلاَنِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَسْجُونٍ فِي قَتْلٍ أَوْ فِي جُرْحٍ أَوْ خَرَجَ إلَى صَفٍّ أَوْ يُعَذَّبُ. أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ مَا يَجُوزُ لِلْمُوصِي. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْحَامِلُ إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ فَوَصِيَّتُهَا يَعْنِي أَنَّ فِعْلَهَا مِنْ الثُّلُثِ.

(9/350)


وَرُوِيَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ: أَنَّ فِعْلَ الْحَامِلِ مِنْ رَأْسِ مَالِهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَا أَعْطَاهُ الْغَازِي فَمِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَا لَمْ تَقَعْ الْمُسَايَفَةُ. وَعَنِ الْحَسَنِ فِي الْمَحْبُوسِ: أَنَّ فِعْلَهُ مِنْ الثُّلُثِ وَقَالَ فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ، وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الطَّاعُونُ: إنَّ عَطِيَّتَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ كَذَلِكَ فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ مَا لَمْ يَهِجْ الْبَحْرُ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ. أَمَّا فِي الْعِتْقِ فَرُوِيَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَصَحَّ عَنْ قَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عِتْقَ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا غَيْرُ الْعِتْقِ فَكَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسَافِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَفِي الْغَازِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَخَالَفَهُمَا إبْرَاهِيمُ، وَمَكْحُولٌ مَا لَمْ تَقَعْ الْمُسَايَفَةُ. وَفِي الْمَرِيضِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَفِي الْحَامِلِ، عَنْ عَطَاءٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ وَخَالَفَهُمْ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ وَرُوِيَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنِ حُجَيْرَةَ. وَصَحَّ عَنْ رَبِيعَةَ مَا لَمْ تَثْقُلْ، وَفِي الْمَسْجُونِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَخَالَفَهُمَا إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَنْ مَكْحُولٍ فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ إذَا هَالَ الْبَحْرُ. وَرُوِيَ خِلاَفُ ذَلِكَ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ امْرَأَةً رَأَتْ فِي مَنَامِهَا فِيمَا يَرَى النَّائِمُ: أَنَّهَا تَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَقْبَلَتْ عَلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَتَعَلَّمَتْهُ، وَشَذَّبَتْ مَالَهَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَخَلَتْ عَلَى جَارَاتِهَا فَجَعَلَتْ تَقُولُ: يَا فُلاَنَةُ اسْتَوْدَعْتُك اللَّهَ وَأَقْرَأُ عَلَيْك السَّلاَمَ فَجَعَلْنَ يَقُلْنَ لَهَا: لاَ تَمُوتِينَ الْيَوْمَ، لاَ تَمُوتِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ فَسَأَلَ زَوْجُهَا أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: أَيُّ امْرَأَةٍ كَانَتْ امْرَأَتُك قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحْرَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ، وَلَكِنَّهَا فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هِيَ كَمَا تَقُولُ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَبُو مُوسَى. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَجُلاً رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ يَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَطَلَّقَ نِسَاءَهُ تَطْلِيقَةً تَطْلِيقَةً، وَقَسَّمَ مَالَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَجَاءَك الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِك فَأَخْبَرَك أَنَّك تَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَطَلَّقْت نِسَاءَك وَقَسَمْت مَالَك رُدَّهُ وَلَوْ مِتّ لَرَجَمْت قَبْرَك كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالَ فَرَدَّ مَالَهُ وَنِسَاءَهُ، وَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَرَاك تَلْبَثُ إِلاَّ يَسِيرًا قَالَ: فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ

(9/351)


بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لِلَّهِ فِي مَرَضِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ قَالَ مَسْرُوقٌ: أُجِيزُهُ، شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لاَ أَرُدُّهُ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: أُجِيزُ ثُلُثَهُ وَاسْتَسْعِيهِ فِي ثُلُثَيْهِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَوْلُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْفُتْيَا، وَقَوْلُ شُرَيْحٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْقَضَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الرَّجُلِ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ قَالَ إذَا وَضَعَهُ فِي حَقٍّ فَلاَ أَحَدَ أَحَقَّ بِمَالِهِ مِنْهُ، وَإِذَا أَعْطَى الْوَرَثَةَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الثُّلُثُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ طَعَنَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ قَالَ: إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا مِنْ صَدَاقِهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ: لاَ يَجُوزُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ يُجِيزُ فِعْلَ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَهُوَ فِي أَشَدِّ حَالٍ مِنْ الْمَرِيضِ هِيَ أَيْضًا ذَاتُ زَوْجٍ غَيْرِ رَاضٍ بِمَا فَعَلَتْ فِي مَالِهَا كُلِّهِ. وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَدَّ فِعْلَ مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يُجِزْ مِثْلَهُ لاَ ثُلُثًا، وَلاَ غَيْرَهُ وَهَذَا مَسْرُوقٌ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ يُنَفِّذُ مَا فَعَلَهُ الْمَرِيضُ فِي مَالِهِ كُلِّهِ مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَالَ إلَيْهِ الشَّعْبِيُّ فِي الْفُتْيَا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ جَوَازُ فِعْلِ الْمَرِيضِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ غُرَمَاءَهُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَأَمَّا مُحَابَاتُهُ فِي الْبَيْعِ، وَهِبَتُهُ، وَصَدَقَتُهُ، وَعِتْقُهُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَقَ يُسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ، قَالَ: فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ: جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَالَ:
وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إذَا ضَرَبَهَا وَجَعُ الطَّلْقِ وَمَا لَمْ يَضْرِبْهَا: فَكَالصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهَا، وَالْوَاقِفُ فِي الصَّفِّ فَكَالصَّحِيحِ فِي جَمِيعِ مَالِهِ قُتِلَ أَوْ عَاشَ، قَالَ: وَاَلَّذِي يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ فِي قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ فِي زِنًى كَالْمَرِيضِ لاَ يَجُوزُ فِعْلُهُ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ قَالَ: فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ وَوَرِثَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ لَمْ يَرِثْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: بَلْ يَرِثُهُ إِلاَّ أَنَّهُ يَسْعَى فِيمَا يَقَعُ مِنْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ فَيَأْخُذُونَهُ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ الْمُخِيفِ، كَحُمَّى الصَّالِبِ، وَالْبِرْسَامِ، وَالْبَطْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْجُذَامُ، وَحُمَّى الرُّبْعِ، وَالسُّلُّ، وَمَنْ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي مَرَضِهِ فَأَفْعَالُهُ كَالصَّحِيحِ. وقال مالك: لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ

(9/352)


بعضهم دُونَ بَعْضٍ. قَالُوا: وَالْحَامِلُ مَا لَمْ تَتِمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَكَالصَّحِيحِ، فَإِذَا أَتَمَّتْهَا، فَأَفْعَالُهَا فِي مَالِهَا مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ. قَالَ: وَالْمَرِيضُ، وَالزَّاحِفُ فِي الْقِتَالِ صَدَقَتُهُمَا، وَمُحَابَاتُهُمَا فِي الْبَيْعِ وَهِبَتُهُمَا، وَعِتْقُهُمَا فِي الثُّلُثِ وَقَالَ فِيمَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي صِفَةِ الْمَرَضِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءً سَوَاءً. وقال الشافعي، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ غُرَمَاءَهُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالاَ جَمِيعًا فِي الْحَامِلِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وقال الشافعي، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ فِي أَفْعَالِ الْمَرِيضِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَكَذَلِكَ فِي صِفَةِ الْمَرِيضِ. وَقَالَ فِي الأَسِيرِ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ، وَالْمُقْتَحِمِ فِي الْقِتَالِ، وَمَنْ كَانَ فِي أَيْدِي قَوْمٍ يَقْتُلُونَ الأَسْرَى مَرَّةً أَنَّهُمْ كَالْمَرِيضِ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُمْ كَالصَّحِيحِ، إذْ قَدْ يَسْلَمُونَ مِنْ الْقَتْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَالثَّوْرِيُّ: إذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ فَأَفْعَالُهُمْ كَالْمَرِيضِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: أَفْعَالُ الْمَرِيضِ فِي مَالِهِ مِنْ الثُّلُثِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَفْعَالُ الْمَرِيضِ كُلُّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ كَالصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا حَاشَ عِتْقِ الْمَرِيضِ وَحْدَهُ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ أَفَاقَ أَوْ مَاتَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ: فِيمَنْ يَشْتَرِي ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ لأََحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُمَا، بَلْ قَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنَّهُ يُشْتَرَى مِنْ مَالِ أَبِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَرِثُ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ وَإِنَّ فِي قَوْلِهِمَا هَذَا لاَُعْجُوبَةً، لأََنَّهُ لاَ يَخْلُو شِرَاؤُهُ لأَبْنِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ لاَ يَكُونَ وَصِيَّةً، فَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً فَلاَ يَجِبُ أَنْ يَرِثَ أَصْلاً حَمَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ، لأََنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ وَصِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلاَ فَرْقَ، وَإِنَّ قَوْلَهُمَا هَاهُنَا لَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَمُخَالَفَةِ النُّصُوصِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ فِي الْحَامِلِ فَقَوْلٌ أَيْضًا لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} ..فَقُلْنَا: يَا هَؤُلاَءِ، وَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّ الإِثْقَالَ هُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّهُ إثْقَالٌ، لاَ مَا قَبْلَهُ، فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَنْعُهَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ مَالِهَا إذَا أَثْقَلَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَمْرَاضِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ أَصْلاً، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ، فَحَصَلَ قَوْلُهُمْ لاَ حُجَّةَ لَهُ أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ نَظَرٍ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأً ادَّعَى عَلَيْهِمْ خِلاَفَ إجْمَاعِ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الصِّدْقِ مِنْ دَعْوَاهُمْ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ فِيمَا قَدْ صَحَّ فِيهِ الْخِلاَفُ، كَمَا أَوْرَدْنَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ..فَقُلْنَا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ الصَّحِيحِ، وَالْمَرِيضِ سَوَاءٌ: لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ سَوَاءً، فَهَذَا قِيَاسٌ أَصَحُّ مِنْ قِيَاسِهِمْ. وَقَالُوا: نَتَّهِمُهُ بِالْفِرَارِ بِمَالِهِ، عَنِ الْوَرَثَةِ..فَقُلْنَا: الظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ الْوَارِثُ قَبْلَهُ فَيَرِثُهُ الْمَرِيضُ فَهَذَا مُمْكِنٌ وَأَيْضًا: فَإِذْ لَيْسَ إِلاَّ التُّهْمَةُ فَامْنَعُوا

(9/353)


الصَّحِيحَ أَيْضًا مِنْ أَكْثَرِ ثُلُثِ مَالِهِ، وَاتَّهِمُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَفِرُّ بِمَالِهِ، عَنْ وَرَثَتِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ وَيَرِثُوهُ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَرِيضِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَمُوتَ الْوَارِثُ فَيَرِثَهُ الْمَرِيضُ كَمَا يَرِثُهُ الصَّحِيحُ، وَلاَ فَرْقَ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ يَمُوتُ قَبْلَ مَرِيضٍ. وَأَيْضًا: فَاتَّهِمُوا الشَّيْخَ الَّذِي قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَامْنَعُوهُ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ لِئَلَّا يَفِرَّ بِمَالِهِ، عَنْ وَرَثَتِهِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ يَعِيشُ أَعْوَامًا قلنا: وَقَدْ يَبْرَأُ الْمَرِيضُ فَيَعِيشُ عَشَرَاتِ أَعْوَامٍ، وَإِذْ لَيْسَ إِلاَّ التُّهْمَةُ، فَلاَ تَتَّهِمُوا مَنْ يَرِثُهُ وَلَدُهُ فَاجْعَلُوا فِعْلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَاتَّهِمُوا مَنْ يَرِثُهُ عَصَبَتُهُ فَلاَ تُطْلِقُوا لَهُ الثُّلُثَ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا خِلاَفُ النَّصِّ قلنا: وَفِعْلُكُمْ خِلاَفُ النَّصِّ فِي التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُحِبُّهُ الْمَرْءُ مِنْ مَالِهِ، قَالَ تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . وَالْمَرِيضُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَى ذَلِكَ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى لاَ أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا، أَلاَ وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ". قلنا: نَعَمْ، هَذَا حَقٌّ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَفَاضُلُ الصَّدَقَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ مَرَضٍ، وَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ أَصْلاً، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ، عَنْ مَالِ الْمَرِيضِ لِمَنْ أَلَهُ أَمْ لِلْوَرَثَةِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ لَهُ كَمَا هُوَ لِلصَّحِيحِ. قلنا: فَلِمَ تَمْنَعُونَهُ مَالَهُ دُونَ أَنْ تَمْنَعُوا الصَّحِيحَ، وَهَذَا ظُلْمٌ ظَاهِرٌ. وَلَوْ قَالُوا: بَلْ هُوَ لِلْوَرَثَةِ. لَقَالُوا الْبَاطِلَ، لأََنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا لَقُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّهِ، وَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْمَرِيضِ لَحُدَّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا حَلَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَرَثَةِ. وَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَطْلَقُوا لِلْمَرِيضِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ، وَيَلْبَسَ مَا شَاءَ، وَيُنْفِقَ عَلَى مَنْ إلَيْهِ مِنْ عَبِيدٍ وَإِمَاءٍ. وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَنَعُوهُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً وَتَعَرِّيهِ، عَنْ أَنْ يُوجَدَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ، عَنْ نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ مُخْتَلِفِينَ، وَقَدْ خَالَفُوا بَعْضَهُمْ فِي قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، كَخِلاَفِهِمْ لِلشَّعْبِيِّ فِي فِعْلِ الْمُسَافِرِ فِي مَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الشَّعْبِيَّ أَقْوَى حُجَّةً مِنْهُمْ، لأََنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ . وَرُوِيَ أَيْضًا الْمُسَافِرُ وَرَحْلُهُ عَلَى قَلَتٍ إِلاَّ مَا وَقَى اللَّهُ . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَوَجَدْنَاهُمْ يُشَنِّعُونَ بِآثَارٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا الأَثَرُ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا بِأَوْرَاقٍ فِي بَابِ تَبْدِئَةِ دُيُونِ

(9/354)


اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ لاَ أَعْرِفَنَّ أَحَدًا بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى إذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ يُدَغْدِغُ مَالَهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ بِالْحَقِّ فِي الْمَالِ. وَمِنْهَا: مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَوْتِكُمْ رَحْمَةً لَكُمْ وَزِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ وَحَسَنَاتِكُمْ . َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِالثُّلُثِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ: سَمِعْت " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: جَعَلْتُ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: جَعَلْتُ لَكَ طَائِفَةً مِنْ مَالِكَ عِنْدَ مَوْتِكَ أَرْحَمُكَ بِهِ".
قال أبو محمد: وَهَذَا كُلُّهُ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَصْلاً: أَمَّا خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ: فَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الشَّامِيِّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ.وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَمِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْكَذِبِ وَالآخَرَانِ مُرْسَلاَنِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ بِهَا مُتَعَلِّقٌ أَصْلاً، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا عِنْدَ مَوْتِنَا ثُلُثَ أَمْوَالِنَا، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ الْوَصِيَّةُ الَّتِي لاَ تُنَفَّذُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ ذِكْرٌ لِلْمَرَضِ أَصْلاً، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَا. وَنَسْأَلُهُمْ: عَمَّنْ تَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَاتَ بَغْتَةً إثْرَ ذَلِكَ. أَوْ أَعْتَقَ جَمِيعَ مَمَالِيكِهِ كَذَلِكَ أَيْضًا فَمِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. فَنَقُولُ لَهُمْ: قَدْ خَالَفْتُمْ جَمِيعَ هَذِهِ الآثَارِ لأََنَّ هَذَا فِعْلُ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الآثَارِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الآثَارِ أَنَّهُ أَيْقَنَ بِأَنَّهُ يَمُوتُ إذَا أَعْتَقَ أَعْبُدَهُ، إنَّمَا فِيهَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَطْ فَظَهَرَ خِلاَفُهُمْ لِلآثَارِ كُلِّهَا. وَمِنْهَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ"، قُلْت: فَالشَّطْرُ قَالَ: "لاَ"، ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك أَنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" . ثُمَّ ذَكَرَ

(9/355)


الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِسَعْدٍ يَوْمَئِذٍ: "وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلِّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ". وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ. [ وَرَوَاهُ أَيْضًا كَذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ ] وَبِلَفْظَةِ " الصَّدَقَةِ " فَقَالُوا: فَقَدْ مَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّدَقَةِ فِي مَرَضِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ وَفِيهِ " قَالَ سَعْدٌ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَبِشَطْرِ مَالِي قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَبِثُلُثِ مَالِي قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ قَالَ: ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، كِلاَهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ " قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: أَفَأُوصِي بِالشَّطْرِ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ أُوصِي قَالَ: الثُّلُثُ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَذَكَرَ الْخَبَرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ سَعْدٌ، عَنِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ، عَنْ مَقَامٍ وَاحِدٍ فَصَحَّ أَنَّ لَفْظَةَ " الصَّدَقَةِ " الَّتِي رَوَاهَا: مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ إنَّمَا مَعْنَاهَا الْوَصِيَّةُ. كَمَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ وَمَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ دُون مَالِكٍ وَسُفْيَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَغَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ وَافَقَ مَعْمَرٌ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَلَى لَفْظَةِ " أُوصِي " وَفِي هَذَا الْخَبَرِ جَمَاعَةُ الإِثْبَاتِ. كَمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، كُلِّهِمْ، عَنْ سَعْدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(9/356)


السُّلَمِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، كُلُّهُمْ يَذْكُرُ نَصًّا: أَنَّ سَعْدًا إنَّمَا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُوصِي بِهِ. وَالْوَجْهُ الآخَرُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَمُوتُ مِنْهُ صَاحِبُهُ، لاَ الَّذِي يَبْرَأُ مِنْهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ سَعْدًا سَيَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ " قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ حَتَّى إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَخْبَرَ بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلاَءِ.
قال أبو محمد: وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ هُوَ هَزَمَ عَسَاكِرَ الْفُرْسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَافْتَتَحَ مَدِينَةِ كِسْرَى فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عليه الصلاة والسلام بَلْ مِنْ أَكْبَرِ ذَلِكَ وَأَهَمِّهِ وَأَعَمِّهِ فَتْحًا فِي الإِسْلاَمِ. وَهَذَا قَدْ أَنْذَرَ بِهِ عليه السلام فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ إذْ قَالَ لَهُ: لَعَلَّك سَتُخَلِّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ فِي نَصِّ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا الآنَ إسْنَادُهُ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ يَوْمَئِذٍ: "إنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ" . قال علي: وهذا كُلُّهُ بِإِجْمَاعٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ، وَمِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمَرِيضِ مَاتَ أَوْ عَاشَ فَثَبَتَ يَقِينًا ضَرُورِيًّا: أَنَّ صَدَقَةَ الْمَرِيضِ خَارِجَةٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لاَ مِنْ ثُلُثِهِ بِنَصِّ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَطَلَ مَا خَالَفَ هَذَا بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ، وَعَادَ هَذَا الْخَبَرُ أَعْظَمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَأَوْضَحَ حُجَّةً لِقَوْلِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْلِهِ عَائِشَةَ رضي الله عنهما فَإِيرَادُهُمْ إيَّاهُ فَضِيحَةُ الدَّهْرِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ هِبَةِ الْمَرِيضِ ذِكْرٌ أَصْلاً، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا كَانَ نَحَلَهَا ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ وَتَأَخَّرَ جِدَادُهَا لِذَلِكَ إلَى أَنْ مَاتَ رضي الله عنه فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ رضي الله عنه أَنَّهُ رَغِبَ إلَيْهَا فِي رَدِّ تِلْكَ النِّحْلَةِ بِرِضَاهَا. فَكَيْفَ وَإِنَّمَا كَانَ وَعْدًا بِمَجْهُولٍ لاَ يُدْرَى مِنْ كَمْ مِنْ نَخْلَةٍ تَجِدُ الْعِشْرِينَ وَسْقًا، وَلاَ مِنْ أَيِّ تِلْكَ النَّخْلِ تَجِدُ فَسَقَطَتْ الأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ بِيَقِينٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْمَرِيضِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ. فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا. فَوَجَدْنَا الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ

(9/357)


أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، كِلاَهُمَا: عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيدًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاَثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، وَحَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَهِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، وَيَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ، كُلِّهِمْ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ كَمَا أَوْرَدْنَا. وَسَمَاعُ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ عِمْرَانَ صَحِيحٌ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قال أبو محمد: فَقُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِلْحَنَفِيِّينَ، وَلاَ لِلْمَالِكِيِّينَ، وَلاَ لِلشَّافِعِيِّينَ: الْحُجَّةُ بِهِ أَصْلاً، فِيمَا عَدَا الْعِتْقِ، لأََنَّهُ قِيَاسٌ، وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ كُلُّهُ. كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْخَبَرِ الثَّابِتِ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى بِهِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ خَاصَّةً: لاَ إلَى صَدَقَةٍ، وَلاَ إلَى إنْفَاقٍ، وَلاَ إلَى إصْدَاقٍ، وَلاَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ خَالَفُوا نَصَّهُ فِيمَا جَاءَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ أَثَرٌ، وَهَذَا عَارٌ جِدًّا. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا: فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا، وَإِنَّمَا فِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ يَفْجَأُ الْمَوْتُ الصَّحِيحَ فَيُوقِنُ بِهِ، فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُقْحَمَ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَرَضِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ هَذَا الْعِتْقَ لِلسِّتَّةِ الأَعْبُدِ إنَّمَا كَانَ وَصِيَّةً: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بِالإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: هُوَ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْخَبَرَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا حَقًّا، فَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ عِتْقٌ فِي عَبْدٍ أَوْ عَبِيدٍ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، يُنَفَّذُ مِنْ ذَلِكَ الْعِتْقِ مَا وَقَعَ فِيمَنْ بِهِ عَنْهُ غِنًى، وَيَبْطُلُ فِي مِقْدَارِ مَا لاَ غِنًى بِهِ عَنْهُ. فَلَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً لَكَانَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَحَقَّ بِظَاهِرِهِ، وَأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام أَجَازَ لِلْمَرِيضِ ثُلُثَ مَالِهِ، إذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا أَصْلاً. فَبَطَلَ تَعَلُّقُ أَصْحَابِنَا بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً، وَصَحَّ قَوْلُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ السَّاقِطُ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ أَعْتَقَ غُلاَمًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَ مِنْهُ الثُّلُثَ وَاسْتَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ، فَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَوْ صَحَّ كَالْقَوْلِ فِي خَبَرِ عِمْرَانَ، فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ مُرْسَلٌ، وَعَنْ مَجْهُولٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ أَيْضًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فَبَاطِلٌ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّ الْقَاسِمَ بْنَ

(9/358)


عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ لأََبِيهِ إذْ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه سِتُّ سِنِينَ فَكَيْفَ ابْنُهُ ثُمَّ هُوَ أَيْضًا، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ هَالِكٌ أَوْ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنِ الْقَاسِمِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ: فَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ هَالِكٌ ثُمَّ هِيَ مُرْسَلَةٌ، لأََنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ كَلِمَةً فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفُ قَوْلِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(9/359)


كتاب الامامة
لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين ليس في عنقه لامام بيعه
...
كِتَابُ الإِمَامَةِ
1768 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ لَيْسَ فِي عُنُقِهِ لأَِمَامٍ بَيْعَةٌ لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ " سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. فإن قيل: قَدْ مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَعَلَ الْخِلاَفَةَ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، رضي الله عنهم، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَشَاوَرُوا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي أَيِّهِمْ يُوَلَّى. قلنا: نَعَمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلاَفٌ لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ رضي الله عنه اسْتَخْلَفَ أَحَدَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ فَعُثْمَانُ هُوَ الْخَلِيفَةُ مِنْ حِينِ مَوْتِ عُمَرَ وَالنَّاسُ تِلْكَ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَعُدَ، عَنْ بَلَدِ الْخَلِيفَةِ فَلَمْ يَعْلَمْهُ بِاسْمِهِ، وَلاَ بِعَيْنِهِ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ فَهُوَ مُعْتَقِدٌ لأَِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ بِاسْمِهِ، وَلاَ بِنَسَبِهِ، وَلاَ بِعَيْنِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/359)


1769 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ الْخِلاَفَةُ إِلاَّ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ صَلِيبَةً، مِنْ وَلَدِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قِبَلِ آبَائِهِ.، وَلاَ تَحِلُّ لِغَيْرِ بَالِغٍ وَإِنْ كَانَ قُرَشِيًّا، وَلاَ لِحَلِيفٍ لَهُمْ، وَلاَ لِمَوْلًى لَهُمْ، وَلاَ لِمَنْ أُمُّهُ مِنْهُمْ وَأَبُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبُ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ كَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".

(9/359)


ولا يحل أن يكون في الدنيا الا أمام واحد والأمر للاول البيعة
...
1771 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ إمَامٌ وَاحِدٌ، وَالأَمْرُ لِلأَوَّلِ بَيْعَةٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلاَهُمَا سَمِعَ جَرِيرًا، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ الصَّائِدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ " إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: "وَمَنْ بَايَعَ إمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطْعِمْهُ إنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَرْفَجَةَ، هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ" .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتِهِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا". وبه إلى مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ.

(9/360)


1772 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ، عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إنْ قَدَرَ بِيَدِهِ فَبِيَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِلِسَانِهِ فَبِقَلْبِهِ، وَلاَ بُدَّ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ إيمَانَ لَهُ. وَمَنْ خَافَ الْقَتْلَ أَوْ الضَّرْبَ، أَوْ ذَهَابَ الْمَالِ، فَهُوَ عُذْرٌ يُبِيحُ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ بِقَلْبِهِ فَقَطْ وَيَسْكُتَ، عَنِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَعَنِ النَّهْيِ، عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَطْ. وَلاَ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ: الْعَوْنُ بِلِسَانٍ، أَوْ بِيَدٍ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُنْكَرِ أَصْلاً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ، عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْعَلاَءِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، كِلاَهُمَا، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلَمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ طَارِقٌ، وَرَجَاءٌ، كِلاَهُمَا: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالُوا كُلُّهُمْ: ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، هُوَ ابْنُ الْفُضَيْلِ الْخِطْمِيُّ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ يَحْدُثُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَةَ". وبه إلى أَبِي دَاوُد،

(9/361)


حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً فَسَلَحْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ سَيْفًا فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ مَا لاَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَعْجَزْتُمْ إذْ بَعَثْتُ رَجُلاً فَلَمْ يَمْضِ لأََمْرِي أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لأََمْرِي ".
قال أبو محمد: عُقْبَةُ صَحِيحُ الصُّحْبَةِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْهُ صَاحِبٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، فَإِذَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ صُحْبَتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَقْطُوعٌ بِعَدَالَتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ. قَالَ عَلِيٌّ: [ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ ] وَكُلِّ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَكُلِّ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمُعَاوِيَةَ، وَكُلِّ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ، عَنْ جَمِيعِهِمْ وَكُلِّ مَنْ قَامَ فِي الْحَرَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا الأَحَادِيثُ نَاسِخَةٌ لِلأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا خِلاَفُ هَذَا، لأََنَّ تِلْكَ مُوَافِقَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الدِّينُ قَبْلَ الأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَلأََنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ، عَنِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ مُفْتَرَضٌ لَمْ يُنْسَخْ، فَهُوَ النَّاسِخُ لِخِلاَفِهِ بِلاَ شَكٍّ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/362)


1777 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، مُسْتَتِرًا بِالصَّغَائِرِ، عَالِمًا بِمَا يَخُصُّهُ، حَسَنُ السِّيَاسَةِ، لأََنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كُلِّفَ، وَلاَ مَعْنَى لاََنْ يُرَاعَى أَنْ يَكُونَ غَايَةَ الْفَضْلِ، لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَإِنْ قَامَ عَلَى الإِمَامِ الْقُرَشِيِّ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ دُونَهُ: قُوتِلُوا كُلُّهُمْ مَعَهُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا. فَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَقَامَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ دُونُهُ: قُوتِلَ مَعَهُ الْقَائِمُ، لأََنَّهُ مُنْكَرٌ زَائِدٌ ظَهَرَ، فَإِنْ قَامَ عَلَيْهِ أَعْدَلُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يُقَاتَلَ مَعَ الْقَائِمِ، لأََنَّهُ تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ. وَأَمَّا الْجَوَرَةُ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَاتَلَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، لأََنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَهْلُ مُنْكَرٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ أَقَلَّ جَوْرًا فَيُقَاتَلُ مَعَهُ مَنْ هُوَ أَجْوَرُ مِنْهُ، لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/362)


كتاب الاقضية
ولا يحل الحكم الا بما أنزل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
...
كِتَابُ الأَقْضِيَةِ
1778 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ إِلاَّ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْحَقُّ وَكُلُّ مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ لاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ بِهِ وَيُفْسَخُ أَبَدًا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}

(9/362)


ولا يحل أن بلى القضاء والحكم في شيء من أمور المسلمين وأهل الذمة الا مسلم بالغ عاقل ......
...
1775 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ: إِلاَّ مُسْلِمٌ، بَالِغٌ، عَاقِلٌ، عَالِمٌ بِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَاسِخِ كُلِّ ذَلِكَ، وَمَنْسُوخِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ النُّصُوصِ مَخْصُوصًا بِنَصٍّ آخَرَ صَحِيحٍ، لأََنَّ الْحُكْمَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ إِلاَّ بِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ إذَا كَانَ جَاهِلاً بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَرَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا ثُمَّ يَحْكُمَ بِقَوْلِهِ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَفْتَاهُ بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَمَنْ أَخَذَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فَقَدْ قَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَعَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ مِنْ الْعَامَّةِ تَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ فَيَسْأَلُ مَنْ يُوصِفُ لَهُ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُكَلَّفٌ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ عَمَلاً مَا قَدْ افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُفْسَحْ لَهُ فِي إهْمَالِهِ فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ بَلَغَ وُسْعُهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . وَأَمَّا الْحَاكِمُ فَبِضِدِّ هَذَا، لأََنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مَا لاَ يَدْرِي مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

(9/363)


ولا يحل حكم بقياس ولا برأي ولا بالاستحسان
...
1776 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِالرَّأْيِ، وَلاَ بِالأَسْتِحْسَانِ، وَلاَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَنْ يُوَافِقَ قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً صَحِيحَةً، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِغَالِبِ الظَّنِّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" . فإن قيل: فَإِنَّكُمْ فِي أَخْذِكُمْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُتَّبِعُونَ لِلظَّنِّ.
قلنا: كَلًّا، بَلْ لِلْحَقِّ الْمُتَيَقَّنِ، قَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . فإن قيل: فَإِنَّكُمْ فِي الْحُكْمِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ حَاكِمُونَ بِالظَّنِّ. قلنا: كَلًّا، بَلْ بِيَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ نَصًّا وَمَا عَلَيْنَا مِنْ مَغِيبِ الأَمْرِ شَيْءٌ إذْ لَمْ نُكَلَّفْهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ، أَوْ مَا قِيلَ بِرَأْيٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ أَوْ تَقْلِيدِ قَائِلٍ مِنْ أَحَدِ، أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ لاَ رَابِعَ لَهَا ضَرُورَةً إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِقُرْآنٍ أَوْ لِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا إنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَعْنَى لِطَلَبِ قِيَاسٍ، أَوْ رَأْيٍ، أَوْ قَوْلِ قَائِلٍ مُوَافِقٍ لِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا حَتَّى يُوَافِقَ ذَلِكَ قِيَاسٌ، أَوْ رَأْيٌ، أَوْ

(9/363)


1777 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ".

(9/365)


1778 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْوَكَالَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ إِلاَّ عَلَى جَلْبِ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى طَلَبِ

(9/365)


ولا يجوز التوكل على الاقرار والانكار أصلا ولا يقبل أنكار
...
1779 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ عَلَى الإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ أَصْلاً، وَلاَ يُقْبَلُ إنْكَارُ أَحَدٍ، عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ إقْرَارُ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ نَفْسِهِ أَوْ إنْكَارِهِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وَقَدْ صَحَّ إجْمَاعُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ عَلَى أَنْ لاَ يُصَدَّقَ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ عَلَى حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ، ثُمَّ نَقَضَ مَنْ نَقَضَ فَأَنْفَذَ إقْرَارُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَأَخَذَهُ بِهِ فِي الدَّمِ، وَالْمَالِ، وَالْفَرْجِ، وَهَذَا أَمْرٌ يُوقَنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ، وَلاَ جَازَ، وَلاَ عُرِفَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ حَقًّا خِلاَفُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَخِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/366)


1780 - مَسْأَلَةٌ: وَيُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ كَمَا يُقْضَى عَلَى الْحَاضِرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: لاَ يُقْضَى عَلَى غَائِبٍ إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وقال مالك: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي الأَرْضِينَ، وَالدُّورِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا غَيْبَةً طَوِيلَةً قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كَمَا بَيْنَ مِصْرَ وَالأَنْدَلُسِ
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ بِلاَ برهان، وَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عَقَارِ غَيْرِهِ إِلاَّ كَاَلَّذِي حَرَّمَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَقَارِ، وَلاَ فَرْقَ، بَلْ الْعَقَارُ كَانَ أَوْلَى فِي الرَّأْيِ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ، لأََنَّهُ لاَ يُنْقَلُ، وَلاَ يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَفُوتُ، بَلْ يُسْتَدْرَكُ الْخَطَأُ فِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الأَمْوَالِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْغَائِبِ غَيْبَةً طَوِيلَةً وَغَيْبَةً غَيْرَ طَوِيلَةٍ، فَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ برهان، وَتَفْرِيقٌ فَاسِدٌ، وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ غَيْبَةٌ إِلاَّ وَهِيَ طَوِيلَةٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقْصَرُ مِنْهَا فِي الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَهِيَ أَيْضًا قَصِيرَةٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَمَنْ غَابَ عَامَيْنِ إلَى الْعِرَاقِ فَقَدْ غَابَ غَيْبَةً طَوِيلَةً بِالإِضَافَةِ إلَى مَنْ غَابَ نِصْفَ عَامٍ إلَى مِصْرَ، وَقَدْ غَابَ غَيْبَةً قَصِيرَةً بِالإِضَافَةِ إلَى مَنْ غَابَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ إلَى الْهِنْدِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَان. ثُمَّ تَحْدِيدُ ابْنِ الْقَاسِمِ خَطَأٌ ثَالِثٌ: وَهَذَا قَوْلٌ مَا نَعْلَمُهُ لأََحَدٍ مِنْ

(9/366)


وكل من قضي عليه ببينة عدل بغرامة أوغيرها
...
1781 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ بِغَرَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، ثُمَّ أَتَى هُوَ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَدَّى ذَلِكَ الْحَقَّ أَوْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ: رُدَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ غَرِمَ، وَفُسِخَ عَنْهُ الْقَضَاءُ الأَوَّلُ، لأََنَّهُ حَقٌّ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي شَهِدَتْ أَوَّلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(9/371)


1782 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى عَلَى أَحَدٍ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلِّفَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ، أَوْ قَالَ: لاَ أَعْرِفُ لِنَفْسِي بَيِّنَةً، أَوْ قَالَ: لاَ بَيِّنَةَ لِي قِيلَ لَهُ: إنْ شِئْت فَدَعْ تَحْلِيفَهُ حَتَّى تُحْضِرَ بَيِّنَتَك أَوْ لَعَلَّك تَجِدُ بَيِّنَةً، وَإِنْ شِئْت حَلَفْته وَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَتِك الْغَائِبَةِ جُمْلَةً، فَلاَ يُقْضَى لَك بِهَا أَبَدًا، وَسَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَةٍ تَأْتِي بِهَا بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِ، لَيْسَ لَك إِلاَّ هَذَا فَقَطْ، فَأَيُّ الأَمْرَيْنِ اخْتَارَ قُضِيَ لَهُ بِهِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ لَهُ إلَى بَيِّنَةٍ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى بَعْدَهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ تَوَاتُرٌ يُوجِبُ صِحَّةَ الْعِلْمِ وَيَقِينَهُ أَنَّهُ حَلَفَ كَاذِبًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ أَوْ يُقِرُّ بَعْدَ أَنْ [ يَكُونَ ] حَلَفَ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ يَسْتَحْلِفُ الرَّجُلَ مَعَ بَيِّنَتِهِ وَيَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَيَقُولُ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَحَقُّ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ. وَبِالْحُكْمِ عَلَى الْحَالِفِ إذَا أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وقال مالك: إنْ عَرَفَ الطَّالِبُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَاخْتَارَ تَحْلِيفَ الْمَطْلُوبِ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ بَيِّنَتِهِ، وَلاَ يُقْضَى بِهَا لَهُ إنْ جَاءَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَاخْتَارَ تَحْلِيفَ الْمَطْلُوبِ فَحَلَفَ، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً، فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ قَالَ الطَّالِبُ: إنَّ لَهُ بَيِّنَةً بَعِيدَةً وَلَكِنْ أَحْلِفْهُ لِي الآنَ، ثُمَّ إنْ حَضَرَتْ

(9/371)


1783 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ وَأَبَى الْمَطْلُوبُ مِنْ الْيَمِينِ: أُجْبِرَ عَلَيْهَا

(9/372)


أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ بِالأَدَبِ، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ أَصْلاً، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ أَلْبَتَّةَ. وَلاَ تَرُدُّ يَمِينٌ أَصْلاً، إِلاَّ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ فَقَطْ: وَهِيَ الْقَسَامَةُ: فِيمَنْ وُجِدَ مَقْتُولاً، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ تَكُنْ لأََوْلِيَائِهِ بَيِّنَةٌ حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ، وَاسْتَحَقُّوا الْقِصَاصَ أَوْ الدِّيَةَ، فَإِنْ أَبَوْا حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَبَرِئُوا، فَإِنْ نَكَلُوا أُجْبِرُوا عَلَى الْيَمِينِ أَبَدًا وَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ الطَّالِبُونَ، فَإِنْ نَكَلُوا رُدَّ عَلَى الْمَطْلُوبِينَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: الْوَصِيَّةُ فِي السَّفَرِ، لاَ يَشْهَدُ عَلَيْهَا إِلاَّ كُفَّارٌ، وَأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ يَحْلِفَانِ مَعَ شَهَادَتِهَا، فَإِنْ نَكَلاَ لَمْ يُقْضَ بِشَهَادَتِهَا، فَإِنْ قَامَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِ حَلَفَ اثْنَانِ مِنْهُمْ مَعَ شَهَادَتِهِمَا، وَحُكِمَ بِهَا، وَفُسِخَ مَا شَهِدَ بِهِ الأَوَّلاَنِ، فَإِنْ نَكَلاَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهَا، وَبَقِيَ الْحُكْمُ الأَوَّلُ كَمَا حُكِمَ بِهِ فَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ الشُّهُودُ لاَ الطَّالِبُ، وَلاَ الْمَطْلُوبُ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: مَنْ قَامَ لَهُ بِدَعْوَاهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ امْرَأَتَانِ عَدْلَتَانِ، فَيَحْلِفُ وَيُقْضَى لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ، فَإِنْ نَكَلَ أُجْبِرَ عَلَى الْيَمِينِ أَبَدًا، فَهَذَا مَكَانٌ يَحْلِفُ فِيهِ الطَّالِبُ فَإِنْ نَكَلَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ. وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا اخْتِلاَفٌ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَنِ الْيَمِينِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الطَّالِبِ دُونَ أَنْ يَحْلِفَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ يُقْضَى عَلَيْهِ إِلاَّ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَيُقْضَى لَهُ حِينَئِذٍ، فَالْقَائِلُونَ يُقْضَى عَلَى الْمَطْلُوبِ بِنُكُولِهِ دُونَ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ. فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ هَارُونَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بَاعَ عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ خَاصَمَ فِيهِ ابْنَ عُمَرَ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ عُثْمَانُ لأَبْنِ عُمَرَ: احْلِفْ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْته وَمَا بِهِ مِنْ دَاءٍ عَلِمْته فَأَبَى ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَنْ يَحْلِفَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ الْعَبْدَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَحْلِفَ، فَأَلْزَمَهَا ذَلِكَ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، قَالَ: نَكَلَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ، عَنِ الْيَمِينِ، فَقَضَى عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ فَقَالَ شُرَيْحٌ: قَدْ مَضَى قَضَائِي. وَبِهَذَا يَأْخُذُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وقال أبو حنيفة: يُقْضَى عَلَى النَّاكِلِ، عَنِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، حَاشَا الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ فَلاَ يُقْضَى فِيهِ بِنُكُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلاَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ، لَكِنْ يُسْجَنُ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ. وَقَالَ زُفَرُ: أَقْضِي فِي النُّكُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا. وَقَالاَ مَرَّةً أُخْرَى: يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَاشَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الأَرْشُ وَالدِّيَةُ بِالنُّكُولِ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق