كتاب (الفتن والملاحم) --
خبر الأبلة ابن كثير
خبر الأبلة: قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى، ثنا إبراهيم بن صالح بن درهم، سمعت
أبي يقول: انطلقنا حاجين، فإذا رجل، فقال لنا: من أين جئتم؟ [ص:6] فقلنا: من بلد
كذا وكذا. فقال: إن بجنبكم قرية يقال لها: الأبلة؟ فقلنا: نعم. فقال: من يضمن أن
يصلي لي في مسجد العشار ركعتين أو أربعا، ويقول: هذه لأبي هريرة؟ فإني سمعت رسول
الله - ﷺ يقول: «إن الله يبعث من مسجد العشار شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم».
وقال ﷺ فيما ثبت عنه في « الصحيحين»: «إذا هلك قيصر فلا قيصر
بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل
الله». وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء، في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان; انزاحت
يد قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل - عن بلاد الشام والجزيرة، وثبت ملكه مقصورا على
بلاد الروم فقط، والعرب إنما كانوا يسمون قيصر لمن ملك بلاد الروم مع الشام
والجزيرة. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لأهل الشام; وهو أن يد ملك الروم لا تعود إليها أبد
الآبدين. وسنورد هذا الحديث قريبا بإسناده ومتنه إن شاء الله تعالى. وأما كسرى
فإنه سلب عامة ملكه في زمن عمر بن الخطاب، ثم استؤصل باقيه في خلافة عثمان، وقتل
في سنة ثنتين وثلاثين، ولله الحمد والمنة، وقد بسطنا ذلك مطولا فيما سلف، وقد دعا
على كسرى رسول الله ﷺ حين بلغه أنه مزق كتابه، بأن يمزق ملكه كل ممزق، فوقع الأمر
كذلك.
وثبت في « الصحيحين» من حديث الأعمش، وجامع بن أبي راشد،
عن [ص:7] شقيق بن سلمة، عن حذيفة، قال: كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب، فقال: أيكم
يحفظ حديث رسول الله ﷺ في الفتنة؟ قلت: أنا. قال: هات إنك لجريء. فقلت: ذكر فتنة الرجل
في أهله وماله وولده وجاره، يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر. فقال: ليس هذا أعني، إنما أعني التي تموج موج البحر. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن بينك
وبينها بابا مغلقا. فقال: ويحك ! أيفتح الباب أم يكسر؟ قلت: بل يكسر. قال: إذا لا
يغلق أبدا. قلت: أجل. فقلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم; إني حدثته
حديثا ليس بالأغاليط. قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله.
فسأله، فقال: هو عمر. وهكذا وقع الأمر سواء بعد مقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين; وقعت
الفتن بين الناس بعد مقتله، وكان ذلك سبب انتشارها بينهم.
وأخبر ﷺ عن عثمان بن عفان أنه من أهل الجنة، على بلوى
تصيبه، فوقع الأمر كذلك; حصر وقتل صابرا محتسبا شهيدا، رضي الله عنه، وقد ذكرنا
عند مقتله الأحاديث التي وردت بالإنذار بذلك، والإعلام به قبل كونه; فوقع طبق ذلك
سواء بسواء. وذكرنا ما ورد من الأحاديث في الجمل وصفين، فوقع الأمر كذلك. وكذلك
الإخبار بمقتل عمار. وما ورد في [ص:8] الأحاديث بمقتل الخوارج الذين قتلهم علي بن
أبي طالب رضي الله عنه، وصفتهم، ونعت ذي الثدية منهم. كل ذلك قد حررناه فيما سلف،
ولله الحمد والمنة. وذكرنا عند مقتل علي الحديث الوارد في ذلك بطرقه، وألفاظه،
وتقدم الحديث الذي رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي
وحسنه، من طريق سعيد بن جمهان، عن سفينة، أن رسول الله ﷺ
قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا». وقد اشتملت هذه الثلاثون سنة على
خلافة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان الشهيد، وعلي بن أبي طالب الشهيد أيضا،
وكان تمامها وختامها بستة أشهر وليها الحسن بن علي بعد أبيه، وعند تمام الثلاثين
نزل عن الأمر لمعاوية بن أبي سفيان، وأصفقت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة،
وقد بسطنا ذلك فيما تقدم. وروى البخاري عن أبي بكرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول - والحسن
بن علي إلى جانبه على المنبر -: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين
عظيمتين من المسلمين». وهكذا وقع.
وثبت في « الصحيحين» عن أم حرام بنت ملحان أن ناسا من
هذه الأمة يغزون البحر مرتين، وأنها تكون مع الأولين، فكان الأمر كذلك في سنة سبع
وعشرين، مع معاوية في خلافة عثمان، حين استأذن عثمان في غزو قبرس، [ص:9] فأذن له
فركب المسلمون المراكب إليها وفتحوها قسرا، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة، وكانت
أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت، وكان مع معاوية في هذه الغزوة زوجته فاختة بنت
قرظة. وأما غزوة البحر الثانية فكانت في سنة ثنتين وخمسين في أيام معاوية أيضا،
غزاها ابنه يزيد ومعه الجنود فدخلوا إلى القسطنطينية، وكان معه في هذا الجيش جماعة
من أعيان الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، رضي الله عنه، فمات هنالك
وأوصى إلى يزيد بن معاوية، أن يدفنه تحت سنابك الخيل، وأن يوغل به إلى أقصى ما
يمكن أن ينتهي به إلى نحو جهة العدو، ففعل ذلك.
وتفرد البخاري بما رواه من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمير بن
الأسود العنسي، عن أم حرام، أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر
قد أوجبوا». قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله، أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم». ثم قال
النبي ﷺ: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم». قلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا».
=======
[ص:10] ذكر قتال الهند
قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا البراء، عن الحسن، عن أبي
هريرة، قال: حدثني خليلي الصادق رسول الله ﷺ أنه قال: « يكون في هذه الأمة بعث إلى
السند والهند». فإن أنا أدركته فاستشهدت فذاك، وإن أنا - فذكر كلمة - رجعت، فأنا أبو
هريرة المحرر; قد أعتقني من النار. ورواه أحمد أيضا، عن هشيم، عن سيار، عن جبر بن عبيدة، عن أبي هريرة، قال:
وعدنا رسول الله ﷺ غزوة الهند، فإن استشهدت، كنت من خير الشهداء، وإن رجعت فأنا
أبو هريرة المحرر. ورواهالنسائي
من حديث هشيم وزيد بن أبي أنيسة، عن سيار، عن جبر -
ويقال: جبير - عن أبي هريرة، فذكره. وقد غزا المسلمون الهند في سنة أربع وأربعين،
في إمارة معاوية أيضا، فجرت هنالك أمور قد ذكرناها مبسوطة فيما تقدم، وقد غزاها الملك
السعيد المحمود محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وما والاها، في حدود أربعمائة، ففعل
هنالك أفعالا مشهورة، وأمورا مشكورة؟ كسر الصنم الأعظم المسمى بسومنات، وأخذ
قلائده وجواهره وذهبه وشنوفه، وأخذ من الأموال ما لا [ص:11] يحصى، ورجع إلى بلاده سالما مؤيدا
منصورا.
وقد كان نواب بني أمية يقاتلون الأتراك، في أقصى بلاد
السند والصين، وقهروا ملكهم القان الأعظم، ومزقوا عساكره، واستحوذوا على أمواله
وحواصله، وقد وردت الأحاديث بذكر صفتهم ونعتهم، ولنذكر شيئا من ذلك على سبيل
الإيجاز: قال البخاري:
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، أخبرنا أبو الزناد، عن
الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم
الشعر، وحتى تقاتلوا الترك; صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان
المطرقة، وتجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر، حتى يدخل فيه، والناس معادن;
خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه
من أن يكون له مثل أهله وماله». تفرد به البخاري.
ثم قال: حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام
بن منبه، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان
من الأعاجم، حمر الوجوه فطس الأنوف، كأن [ص:12] وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر».
ورواه أحمد عن عبد الرزاق.
وقال أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، يبلغ
به النبي ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم
الشعر»، وأخرجه الجماعة سوىالنسائي، من حديث سفيان بن عيينة به.
ورواه البخاري عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة. ورواه مسلم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن قيس بن أبي حازم،
عن أبي هريرة، فذكر نحوه. قال سفيان بن عيينة: وهم أهل البارز. كذا قال سفيان، ولعله:
البازر، وهو سوق الفسوق الذي لهم.
حديث عمرو بن تغلب: وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير بن حازم، سمعت الحسن، حدثنا عمرو بن
تغلب، سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما نعالهم الشعر»
أو: « ينتعلون الشعر» - وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه، كأن وجوههم
المجان المطرقة ". ورواه البخاري من حديث جرير بن حازم.
[ص:13] وقد روي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي. قال أحمد: ثنا أبو نعيم، ثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة،
عن أبيه قال: كنت جالسا عند النبي ﷺ فسمعته يقول: « إن أمتي يسوقها قوم صغار الأعين،
كأن وجوههم الحجف، ثلاث مرار» حتى يلحقوهم بجزيرة العرب; أما السياقة الأولى فينجو
من هرب منهم، أما الثانية فينجو بعض ويهلك بعض، وأما الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي
منهم «. قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال:» الترك، والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم
بسواري مسجد المسلمين «. قال: فكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع بعد ذلك
للهرب; لما سمع من رسول الله ﷺ من البلاء في الترك. ورواه أبو داود
في كتاب الملاحم من» سننه « عن جعفر بن مسافر، عن خلاد بن
يحيى، عن بشير بن المهاجر. ورواه أبو يعلى عنه، به، وفيه:» قوم صغار العيون، عراض
الوجوه، كأن وجوههم الحجف، يلحقون أهل الإسلام بمنابت [ص:14] الشيح ثلاث مرات; أما
المرة الأولى فينجو من هرب، وأما المرة الثانية فينجو بعض، وأما الثالثة فيهلكون
جميعا، كأني أنظر إليهم وقد ربطوا خيولهم بسواري المسجد «. قيل: من هم يا رسول
الله؟ قال:» هم الترك ".
حديث أبي بكرة الثقفي في ذلك:
قال الإمام أحمد:
ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا الحشرج بن نباتة
القيسي الكوفي، ثنا سعيد بن جمهان، ثنا عبد الله بن أبي بكرة، حدثني أبي في هذا
المسجد مسجد البصرة، قال: قال رسول الله ﷺ: « لتنزلن طائفة من أمتي أرضا يقال لها: البصرة. فيكثر
بها عددهم ونخلهم، ثم يجيء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار العيون، حتى ينزلوا على
جسر لهم يقال له: دجلة. فيفترق المسلمون ثلاث فرق؟ فأما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل
فتلحق بالبادية، فهلكت، وأما فرقة فتأخذ على أنفسها، فكفرت، فهذه وتلك سواء، وأما
فرقة فيجعلون عيالهم خلف ظهورهم ويقاتلون، فقتلاهم شهداء، ويفتح الله على بقيتهم».
ورواه أبو داود
في الملاحم، عن محمد بن يحيى بن فارس، عن [ص:15] عبد
الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن سعيد بن جمهان، ثنا مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه،
أن رسول الله ﷺ قال: « ينزل أناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له:
دجلة. يكون عليه جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين - وفي لفظ: المسلمين - فإذا كان في آخر
الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق
المهاجرون ثلاث فرق، فرقة تأخذ بأذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم
وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، ويقاتلونهم، وهم الشهداء».
وتقدم حديث أنس في ذكر البصرة، التي مصرت في زمان عمر بن
الخطاب.
وروى مسلم وأبو داود
والنسائي، عن قتيبة، عن
يعقوب الإسكندراني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله،
قال: « لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوما كأن وجوههم المجان المطرقة،
يلبسون الشعر». وهذا لفظ أبي داود.
[ص:16] وقد روي من حديث أبي سعيد، فقال أحمد ثنا عمار بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا
قوما صغار الأعين، عراض الوجوه، كأن أعينهم حدق الجراد، وكأن وجوههم المجان
المطرقة، ينتعلون الشعر، ويتخذون الدرق حتى يربطوا خيولهم بالنخل». تفرد به أحمد.
=====
حديث معاوية بن أبي سفيان في قتال الترك: قال أبو يعلى:
ثنا محمد بن يحيى البصري، ثنا محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني إسحاق بن
إبراهيم بن الغمر، مولى سموك، ثنا أبي، عن جدي، سمعت معاوية بن حديج يقول: كنت عند
معاوية بن أبي سفيان إذ جاءه كتاب عامله يخبر أنه أوقع بالترك وهزمهم، وبكثرة من
قتل منهم وكثرة ما غنم منهم، فغضب معاوية من ذلك، ثم أمر أن يكتب إليه: قد فهمت ما
ذكرت مما قتلت وغنمت فلا أعلمن أنك عدت إلى شيء من ذلك، ولا تقاتلهم حتى يأتيك
[ص:17] أمري. فقلت له: ولم أمير المؤمنين؟ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" إن الترك
تحارب العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم". فأكره قتالهم لذلك. طريق
أخرى عن معاوية: قال الطبراني:
ثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا أبو صالح الحراني، ثنا
ابن لهيعة، عن كعب بن علقمة التنوخي، ثنا حسان بن كريب الحميري، سمعت ابن ذي
الكلاع يقول: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" اتركوا
الترك. ما تركوكم". وروى الطبراني، عن إبراهيم بن أبي حاتم، عن
نعيم بن حماد في كتاب" الملاحم"، ثنا يحيى بن سعيد العطار وأبو المغيرة،
عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن كعب الأحبار قال: ينزل الترك آمد
ويشربون من نهر الدجلة والفرات، سبعون ألفا، ويسعون في الجزيرة وأهل الإسلام، في
الحيرة، لا يستطيعون لهم شيئا، فيبعث الله عليهم ثلجا بغير كيل فيه صر من ريح
شديدة وجليد، فإذا هم خامدون. فيرجعون فيقولون: إن الله قد أهلكهم وكفاكم العدو،
ولم يبق منهم أحد، قد هلكوا من عند آخرهم. والمقصود: أن الترك قاتلهم الصحابة،
فهزموهم، وغنموهم، وسبوا نساءهم وأبناءهم، وظاهر هذه الأحاديث أن قتالهم يكون من أشراط
الساعة، [ص:18] وأشراطها لا تكون إلا بين يديها قريبا منها، فقد يكون هذا واقعا
مرة أخرى عظيمة بين المسلمين والترك، حتى يكون آخر ذلك قتالهم مع الدجال، ويأجوج
ومأجوج، كما سيأتي ذكر ذلك، وإن كان أشراط الساعة أعم من أن يكون بين يديها قريبا
منها، أو يكون مما يقع في الجملة، حتى ولو تقدم قبلها بدهر طويل، إلا أنه مما يقع
بعد زمن النبي ﷺ، وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب، كما
ترى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. وقد ذكرنا ما ورد في مقتل الحسين بن
علي بكربلاء، في أيام يزيد بن معاوية، كما سلف. وما ورد من الأحاديث في ذكر خلفاء
بني أمية وأغيلمة بني عبد المطلب; قال أحمد: حدثنا روح، حدثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص،
أخبرني جدي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:"
هلكة أمتي على يدي غلمة". فقال مروان، وهو معنا في الحلقة قبل أن يلي شيئا:
لعنة الله عليهم غلمة. قال أبو هريرة: أما والله لو أشاء أن أقول بني فلان، وبني
فلان لفعلت. قال: فكنت أخرج مع أبي وجدي إلى بني مروان بعد ما ملكوا، فإذا هم
يبايعون [ص:19] الصبيان، ومنهم من يبايع له وهو في خرقة. قال لنا: هل عسى أصحابكم
هؤلاء أن يكونوا الذين سمعت أبا هريرة يذكر أن هذه الملوك يشبه بعضها بعضا. ورواه البخاري بنحوه عن أبي هريرة. والأحاديث في هذا كثيرة جدا، وقد حررناها
في دلائل النبوة.
وتقدم الحديث في ذكر الكذاب والمبير من ثقيف، فالكذاب هو
المختار بن أبي عبيد الذي ظهر بالكوفة أيام عبد الله بن الزبير، وكان رافضيا
خبيثا،. بل كان ينسب إلى الزندقة، وادعى أنه يوحى إليه، وقد قتله مصعب بن الزبير،
وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قتل عبد الله بن الزبير، وكان ناصبيا
جبارا عنيدا، عكس الأول في الرفض. وتقدم حديث الرايات السود التي جاء بها بنو
العباس من خراسان لما استلبوا الملك من أيدي بني أمية، وذلك في سنة ثنتين وثلاثين
ومائة، أخذوا الخلافة من مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص ويعرف بمروان
الحمار الجعدي; لاشتغاله على الجعد بن درهم المعتزلي، وكان آخر خلفاء بني أمية،
فصارت الخلافة إلى السفاح أول خلفاء بني العباس، وقد صرح باسمه في الحديث الذي
رواه أحمد، وقد تقدم ذلك.
وقال أبو داود
الطيالسي: حدثنا جرير بن حازم، عن ليث، عن [ص:20] عبد
الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، عن
النبي ﷺ قال:" إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا
ملكا عضوضا، وكائنا عزة وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج، والخمور، والحرير،
وينصرون على ذلك، ويرزقون أبدا، حتى يلقوا الله". وروى البيهقي من حديث عبد الله بن الحارث بن محمد بن حاطب الجمحي، عن سهيل
بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ:" يكون بعد
الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله، ويعدلون في عباد الله، ثم يكون من بعد الخلفاء
ملوك يأخذون بالثأر، ويقتلون الرجال، ويصطفون الأموال، فمغير بيده، ومغير بلسانه،
ومغير بقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان شيء".
وثبت في" صحيح البخاري"
من حديث شعبة، عن فرات القزاز، عن [ص:21] أبي حازم، عن
أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال:" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء; كلما هلك
نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما
تأمرنا يا رسول الله؟ قال:" فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم; فإن الله
سائلهم عما استرعاهم".
وفي" صحيح مسلم" من حديث أبي رافع، عن عبد
الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ:" ما كان نبي إلا كان له حواريون يهدون
بهديه، ويستنون بسنته، ثم يكون من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون".
وثبت في" الصحيحين" من رواية عبد الملك بن
عمير، عن جابر بن سمرة، عن النبي ﷺ قال:" يكون اثنا عشر خليفة كلهم من
قريش". ورواه أبو داود
من طريق أخرى، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله ﷺ
يقول:" لا يزال هذا الدين قائما حتى يكون اثنا عشر خليفة". وفي
رواية:" لا تزال هذه الأمة مستقيما أمرها، ظاهرة على عدوها، حتى يمضي منهم
اثنا عشر خليفة كلهم من قريش". قالوا: ثم يكون ماذا؟ قال:" يكون الهرج".
فهؤلاء الخلفاء المبشر بهم في هذا الحديث ليسوا بالاثني
عشر الذين تزعمهم [ص:22] الروافض، فإن ذلك كذب وبهتان منهم، لأن أكثر أولئك لم يل
أحد منهم شيئا من أعمال هذه الأمة في خلافة، بل ولا في بلد من البلدان، وإنما ولى
منهم علي وابنه الحسن، وليس المراد من هؤلاء الاثني عشر الذين تتابعت ولايتهم سردا
إلى أثناء دولة بني أمية; لأن حديث سفينة:" الخلافة بعدي ثلاثون سنة".
يمنع من هذا المسلك، وإن كان البيهقي قد رجحه، وقد بحثنا معه في كتاب دلائل النبوة من كتابنا هذا
بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد، ولكن هؤلاء الأئمة الاثني عشر وجد منهم الأئمة الأربعة:
أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وابنه الحسن بن علي أيضا، ومنهم عمر بن عبد
العزيز، كما هو عند كثير من الأئمة، وجمهور الأمة، وكذلك وجد منهم طائفة من بني
العباس، وسيوجد بقيتهم فيما يستقبل من الزمان، حتى يكون منهم المهدي المبشر به في
الأحاديث الواردة فيه، كما سيأتي بيانها، وبالله المستعان، وعليه التكلان، وقد نص
على هذا الذي قلناه غير واحد، كما قررنا ذلك.
=============
حديث عبادة فيما يتعلق بما بعد المائة سنة ابن كثير ←حديث
فيما بعد المائتين من الهجرة
حديث عبادة فيما يتعلق بما بعد المائة سنة: قال أحمد: ثنا الحكم بن نافع، ثنا إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن سعيد، عن
أبي عطاء يزيد بن عطاء السكسكي، عن معاذ بن شقراء، عن جنادة بن أبي أمية، أنه سمع عبادة
بن الصامت يذكر أن رجلا أتى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، ما مدة أمتك في الرخاء؟
فلم يرد عليه شيئا، حتى سأله ثلاث مرار، كل ذلك لا يجيبه، ثم انصرف الرجل، ثم إن
النبي ﷺ قال: "أين السائل "؟ فردوه عليه، فقال: [ص:23] "سألتني عن شيء ما سألني
عنه أحد من أمتي; مدة أمتي من الرخاء مائة سنة ". قالها مرتين أو ثلاثا، فقال
الرجل: يا رسول الله، فهل لذلك من أمارة أو علامة أو آية؟ فقال: "نعم، الخسف
والرجف وإرسال الشياطين المجلبة على الناس ". وفي "مسند أبي يعلى
"، و البزار من حديث مصعب بن مصعب، ولا أعرفه إلا عن الزهري، عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: "ترفع زينة الدنيا سنة
خمس وعشرين ومائة ". هذا حديث غريب جدا. //
حديث فيما بعد المائتين من الهجرة قال ابن ماجه:
حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا عون بن عمارة، حدثني
عبد الله بن المثنى بن ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك، عن أبيه، عن جده، عن
أنس، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله ﷺ: "الآيات بعد المائتين ". ثم
أورده ابن ماجه
من وجهين آخرين، عن أنس، عن النبي ﷺ بنحوه، ولا يصح، ولو
صح فهو محمول على ما وقع من الفتنة بسبب القول بخلق القرآن، ومحنة الإمام [ص:24]
أحمد وأصحابه من أئمة الحديث، كما بسطنا ذلك هنالك. وروى رواد بن الجراح - وهو منكر
الرواية - عن سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة مرفوعا: "خيركم بعد
المائتين خفيف الحاذ ". قالوا: وما خفيف الحاذ يا رسول الله؟ قال: "من
لا أهل له، ولا مال ولا ولد ". وهذا منكر.
وثبت في "الصحيحين " من حديث شعبة، عن أبي جمرة، عن
زهدم بن مضرب، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: "خير أمتي قرني، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". قال عمران: فلا أدري ذكر بعد قرنه قرنين،
أو ثلاثة: "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون،
وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن ".
لفظ البخاري.
=========
ذكر سنة خمسمائة
قال أبو داود:
حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان،
عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي ﷺ أنه قال: [ص:25] " إني
لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم ". قيل لسعد: وكم نصف يوم؟
قال: خمسمائة سنة. تفرد به أبو داود.
وأخرج أحمد بن حنبل، عن أبي ثعلبة الخشني من قوله مثل
ذلك. وهذا التحديد بهذه المدة لا ينفي ما يزيد عليها، إن صح رفع الحديث. والله
أعلم.
فأما ما يورده كثير من العامة أن النبي ﷺ قال: لا يؤلف
تحت الأرض. فهو من قولهم وكلامهم، وليس له أصل ولا ذكر في كتب الحديث المعتمدة،
ولا سمعناه في شيء من المبسوطات، والأجزاء المختصرات، ولا ثبت في حديث عن رسول
الله ﷺ أنه حد الساعة بمدة محصورة، وإنما ذكر شيئا من أشراطها وأماراتها
وعلاماتها، على ما سنذكره إن شاء الله.//
[ص:26] ذكر الخبر الوارد في ظهور نار من أرض الحجاز
أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى من أرض الشام، وذلك في سنة أربع وخمسين وستمائة
قال البخاري:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، قال: قال سعيد
بن المسيب، أخبرني أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من
أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى».
ورواه مسلم من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، به.
وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني، ومن خطه نقلت من طريق أبي
عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، عن عيسى بن علي الأنصاري، عن رافع بن بشر
السلمي، عن أبيه، قال رسول الله ﷺ: «تخرج نار تضيء أعناق الإبل ببصرى، تسير سير
بطيئة الإبل، تسير النهار وتقيم الليل، تغدو وتروح، فيقال: أيها الناس، قد غدت النار
فاغدوا. أو: قالت النار أيها الناس فقيلوا. غدت النار أيها الناس فروحوا. من
أدركته أكلته». هكذا رواه أبو نعيم، وهو [ص:27] في " مسند أحمد " من رواية
رافع بن بشر السلمي، عن أبيه، عن رسول الله ﷺ بدون هذه الزيادة إلى: «تضيء أعناق
الإبل ببصرى». وهو الصواب; فإن هذه النار التي ذكر أبو نعيم هي النار التي تسوق
الناس إلى أرض المحشر، كما سيأتي بيان ذلك قريبا.
وقال الإمام أحمد:
ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، سمعت الأعمش يحدث عن عمرو بن
مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن حبيب بن حماز، عن أبي ذر قال: أقبلنا مع رسول الله
ﷺ، فنزلنا ذا الحليفة فتعجلت رجال منا إلى المدينة، وبات رسول الله، فلما أصبح سأل
عنهم، فقيل: تعجلوا إلى المدينة. فقال: «تعجلوا إلى المدينة والنساء، أما إنهم
سيدعونها أحسن ما كانت». ثم قال: «ليت شعري، متى تخرج نار من اليمن من جبل الوراق
تضيء لها أعناق الإبل بروكا ببصرى كضوء النهار». وهذا الإسناد لا بأس به، وكأنه
مما اشتبه على بعض الرواة، فإن النار التي تخرج من قعر عدن من اليمن، هي التي تسوق
الناس الموجودين في آخر الزمان إلى المحشر، وأما النار التي تضيء لها أعناق الإبل،
فتلك تخرج من أرض المدينة النبوية، كما تقدم بيان ذلك.
وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة - وكان شيخ المحدثين
في زمانه، [ص:28] وأستاذ المؤرخين في أوانه - أن في سنة أربع وخمسين وستمائة في
يوم الجمعة خامس جمادى الآخرة منها ظهرت نار بأرض الحجاز في أرض المدينة النبوية،
في بعض تلك الأودية، طول أربعة فراسخ وعرض أربعة أميال، تسيل الصخر، حتى يبقى مثل
الآنك، ثم يصير مثل الفحم الأسود، وأن الناس كانوا يسيرون على ضوئها بالليل إلى
تيماء، وأنها استمرت شهرا، وقد ضبط ذلك أهل المدينة، وعملوا فيها أشعارا، وقد
ذكرناها فيما تقدم.
وأخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم
الحنفي، قاضيهم بدمشق، عن والده الشيخ صفي الدين مدرس الحنفية ببصرى، أنه أخبره
غير واحد من الأعراب صبيحة تلك الليلة، ممن كان بحاضرة بلد بصرى، أنهم شاهدوا
أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز، وقد تقدم بسط ذلك سنة أربع
وخمسين وستمائة بما فيه كفاية عن إعادته هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق