الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

كتاب المحلى المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ج1. وج2.

 

 كتاب :1- المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

المجلد الأول
مدخل
خطبة المؤلف و موضوع الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المحلى لابن حزم
الأول
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ رضي الله عنه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ, وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصْحِبَنَا الْعِصْمَةَ مِنْ كُلِّ خَطَإٍ وَزَلَلٍ, وَيُوَفِّقَنَا لِلصَّوَابِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. آمِينَ آمِينَ.
أَمَّا بَعْدُ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِطَاعَتِهِ, فَإِنَّكُمْ رَغِبْتُمْ أَنْ نَعْمَلَ لِلْمَسَائِلِ الْمُخْتَصَرَةِ الَّتِي جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ " بِالْمُحَلَّى " شَرْحًا مُخْتَصَرًا أَيْضًا, نَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْبَرَاهِينِ بِغَيْرِ إكْثَارٍ, لِيَكُونَ مَأْخَذُهُ سَهْلاً عَلَى الطَّالِبِ وَالْمُبْتَدِئِ, وَدَرَجًا لَهُ إلَى التَّبَحُّرِ فِي الْحِجَاجِ وَمَعْرِفَةِ الاِخْتِلاَفِ وَتَصْحِيحِ الدَّلاَئِلِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ وَالإِشْرَافِ عَلَى أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْوُقُوفِ عَلَى جَمْهَرَةِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمْيِيزِهَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ, وَالْوُقُوفِ عَلَى الثِّقَاتِ مِنْ رُوَاةِ الأَخْبَارِ وَتَمْيِيزِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِ الْقِيَاسِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَنَاقُضِ الْقَائِلِينَ بِهِ, فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَمَلِ ذَلِكَ, وَاسْتَعَنْته تَعَالَى عَلَى الْهِدَايَةِ إلَى نَصْرِ الْحَقِّ, وَسَأَلْته التَّأْيِيدَ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ وَتَقْرِيبِهِ, وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا وَفِيهِ مَحْضًا آمِينَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَلْيَعْلَمْ مَنْ قَرَأَ كِتَابَنَا هَذَا أَنَّنَا لَمْ نَحْتَجَّ إلاَّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ مُسْنَدٍ, وَلاَ خَالَفْنَا إلاَّ خَبَرًا ضَعِيفًا فَبَيَّنَّا ضَعْفَهُ, أَوْ مَنْسُوخًا فَأَوْضَحْنَا نَسْخَهُ. وَمَا تَوْفِيقُنَا إلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى.

(1/2)


مسائل التوحيد
مسائل التوحيد
أول مايلزم كل أحد ولا يصح الإسلام إلا به
...
التَّوْحِيدِ
1 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: "رضي الله عنه: أَوَّلُ مَا يَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ, وَلاَ يَصِحُّ الإِسْلاَمُ إلاَّ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَرْءُ بِقَلْبِهِ عِلْمَ يَقِينٍ وَإِخْلاَصٍ لاَ يَكُونُ لِشَيْءٍ مِنْ الشَّكِّ فِيهِ أَثَرٌ وَيَنْطِقَ بِلِسَانِهِ, وَلاَ بُدَّ بِأَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ, حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ, حدثنا رَوْحٌ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَعْقُوبَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" . وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا مُسْنَدًا مُعَاذٌ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُم.ْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} . وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ. وَأَمَّا وُجُوبُ عَقْدِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَالإِخْلاَصُ فِعْلُ النَّفْسِ. وَأَمَّا وُجُوبُ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ, فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ الْمُخْرِجَةُ لِلدَّمِ وَالْمَالِ مِنْ التَّحْلِيلِ إلَى التَّحْرِيمِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ تَكُونُ إلاَّ بِاللِّسَانِ ضَرُورَةً.

(1/2)


2 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: " وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إلَهُ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ دُونَهُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَالَمَ بِكُلِّ مَا فِيهِ ذُو زَمَانٍ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْهُ قَطُّ, وَلاَ يُتَوَهَّمُ, وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْلُوَ الْعَالَمُ, عَنْ زَمَانٍ. وَمَعْنَى الزَّمَانِ هُوَ مُدَّةُ بَقَاءِ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا وَمُدَّةُ وُجُودِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ, وَإِذْ الزَّمَانُ مُدَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَدَدٌ مَعْدُودٌ, وَيَزِيدُ بِمُرُورِهِ وَدَوَامِهِ, وَالزِّيَادَةُ لاَ تَكُونُ أَلْبَتَّةَ إلاَّ فِي ذِي مَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى مَا زَادَ فِيهِ. وَالْعَدَدُ أَيْضًا ذُو مَبْدَأٍ, وَلاَ بُدَّ, وَالزَّمَانُ مُرَكَّبٌ بِلاَ شَكٍّ مِنْ أَجْزَائِهِ, وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ فَهُوَ بِيَقِينٍ ذُو نِهَايَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَمُنْتَهَاهُ وَالْكُلُّ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ أَجْزَائِهِ, وَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا ذَاتُ مَبْدَأٍ, فَهُوَ كُلُّهُ ذُو مَبْدَأٍ ضَرُورَةً, فَلَمَّا كَانَ الزَّمَانُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ مَبْدَأٍ ضَرُورَةً, وَكَانَ الْعَالَمُ كُلُّهُ لاَ يَنْفَكُّ, عَنْ زَمَانٍ وَالزَّمَانُ ذُو مَبْدَأٍ, فَمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ ذَا الْمَبْدَأِ فَهُوَ ذُو مَبْدَأٍ, وَلاَ بُدَّ, فَالْعَالَمُ كُلُّهُ جَوْهَرُهُ وَعَرَضُهُ ذُو مَبْدَأٍ وَإِذْ هُوَ ذُو مَبْدَأٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ, وَالْمُحْدَثُ يَقْتَضِي مُحْدِثًا ضَرُورَةً إذْ لاَ يُتَوَهَّمُ أَصْلاً, وَلاَ يُمْكِنُ مُحْدَثٌ إلاَّ وَلَهُ مُحْدِثٌ, فَالْعَالَمُ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ وَلَهُ خَالِقٌ لَمْ يَزَلْ, وَهُوَ مَلِكُ كُلِّ مَا خَلَقَ, فَهُوَ إلَهُ كُلِّ مَا خَلَقَ وَمُخْتَرِعُهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ.

(1/3)


3 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: " هُوَ اللَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ, وَأَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ, وَلاَ يَزَالُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ, وَأَنَّ لَهُ خَالِقًا وَجَبَ أَنْ لَوْ كَانَ الْخَالِقُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَرَهُمَا الْعَدَدُ, وَكُلُّ مَعْدُودٍ فَذُو نِهَايَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا, وَكُلُّ ذِي نِهَايَةٍ فَمُحْدَثٌ. وَأَيْضًا فَكُلُّ اثْنَيْنِ فَهُمَا غَيْرَانِ, وَكُلُّ غِيَرَيْنِ فَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا مَعْنًى مَا صَارَ بِهِ غَيْرَ الآخَرِ, فَعَلَى هَذَا كَانَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا, وَلاَ بُدَّ مُرَكَّبًا مِنْ ذَاتِهِ وَمِمَّا غَايَرَ بِهِ الآخَرَ, وَإِذَا كَانَ مُرَكَّبًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ مُدَبَّرٌ فَبَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ وَعَادَ الأَمْرُ إلَى وُجُوبِ أَنَّهُ وَاحِدٌ, وَلاَ بُدَّ, وَأَنَّهُ بِخِلاَفِ خَلْقِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ, وَالْخَلْقُ كَثِيرٌ مُحْدَثٌ فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى بِخِلاَفِ ذَلِكَ, وَأَنَّهُ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ, إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ تَعَالَى اللَّهُ, عَنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

(1/3)


4 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لِغَيْرِ عِلَّةٍ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُقَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَ لِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ إمَّا لَمْ تَزَلْ مَعَهُ. وَأَمَّا مَخْلُوقَةً مُحْدَثَةً, وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ, فَلَوْ كَانَتْ لَمْ تَزَلْ مَعَهُ لَوَجَبَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئَانِ مُمْتَنِعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعَهُ تَعَالَى غَيْرَهُ لَمْ يَزَلْ, فَكَانَ يُبْطِلُ التَّوْحِيدَ الَّذِي قَدْ أَبَنَّا بُرْهَانَهُ آنِفًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ إذْ كَانَتْ عِلَّةُ الْخَلْقِ لَمْ تَزَلْ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لَمْ يَزَلْ, لإِنَّ الْعِلَّةَ لاَ تُفَارِقُ الْمَعْلُولَ, وَلَوْ فَارَقَتْهُ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لَهُ, وَقَدْ أَوْضَحْنَا آنِفًا بُرْهَانَ وُجُوبِ حُدُوثِ الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ هَهُنَا عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ لَكَانَ مُضْطَرًّا مَطْبُوعًا أَوْ مُدَبِّرًا مَقْهُورًا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ, وَهَذَا خُرُوجٌ, عَنِ الإِلَهِيَّةِ, وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُحْدَثَةً لَكَانَتْ, وَلاَ بُدَّ إمَّا مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى. وَأَمَّا غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ, فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ أَوْضَحْنَا آنِفًا وُجُوبَ كَوْنِ كُلِّ شَيْءٍ مُحْدَثٍ مَخْلُوقًا, فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً وَجَبَ, وَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ, فَإِنْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً لِعِلَّةٍ أُخْرَى وَجَبَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا أَبَدًا, وَهَذَا يُوجِبُ وُجُوبَ مُحْدِثِينَ لاَ نِهَايَةَ لِعَدَدِهِمْ. وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَبِأَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ إلَى الْفِعْلِ فَقَدْ حَصَرَهُ الْعَدَدُ ضَرُورَةً بِمِسَاحَتِهِ أَوْ بِزَمَانِهِ, وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ مَا حَصَرَهُ الْعَدَدُ فَهُوَ مُتَنَاهٍ. فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ خُلِقَتْ الْعِلَّةُ لاَ لِعِلَّةٍ. سَأَلُوا: مِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَخْلُقَ الأَشْيَاءَ لِعِلَّةٍ وَيَخْلُقَ الْعِلَّةَ لاَ لِعِلَّةٍ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ.

(1/4)


- مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ النَّفْسَ مَخْلُوقَةٌ.
بُرْهَانُ هَذَا: أَنَّنَا نَجِدُ الْجِسْمَ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ لاَ يَحُسُّ شَيْئًا, وَأَنَّ الْمَرْءَ إذَا فَكَّرَ فِي شَيْءٍ مَا فَإِنَّهُ كُلَّمَا تَخَلَّى, عَنِ الْجَسَدِ كَانَ أَصَحَّ لِفَهْمِهِ وَأَقْوَى لاِِدْرَاكِهِ, فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحَسَّاسَ الْعَالِمَ الذَّاكِرَ هُوَ شَيْءٌ غَيْرُ الْجَسَدِ وَنَجِدُ الْجَسَدَ إذَا تَخَلَّى مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا بِكُلِّ أَعْضَائِهِ, وَلاَ حِسَّ لَهُ, وَلاَ فَهْمَ إمَّا بِمَوْتٍ, وَإِمَّا بِإِغْمَاءٍ, وَإِمَّا بِنَوْمٍ.فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَّاسَ الذَّاكِرَ هُوَ غَيْرُ الْجَسَدِ, وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ نَفْسًا وَرُوحًا, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذِكْرُهُ: ْ{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الآُخْرَى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَكَانَتْ النُّفُوسُ كَمَا نَصَّ تَعَالَى كَثِيرَةً, وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهَا نَفْسًا خَبِيثَةً وَأُخْرَى طَيِّبَةً, وَنَفْسًا ذَاتَ شَجَاعَةٍ وَأُخْرَى ذَاتَ جُبْنٍ, وَأُخْرَى عَالِمَةً وَأُخْرَى جَاهِلَةً. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ لِكُلِّ حَيٍّ نَفْسًا غَيْرَ نَفْسِ غَيْرِهِ, فَإِذَا تَيَقَّنَ ذَلِكَ وَكَانَتْ النُّفُوسُ كَثِيرَةً مُرَكَّبَةً مِنْ جَوْهَرِهَا وَصِفَاتِهَا, فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ, وَهِيَ مَا لَمْ يَنْفَكَّ قَطُّ مِنْ زَمَانٍ وَعَدَدٍ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ مُرَكَّبَةٌ, وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُرَكَّبٍ مَخْلُوقٌ. وَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِمَّا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَقَدْ خَالَفَ اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَخَالَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَمَا قَامَ بِهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ".

(1/5)


6 - مَسْأَلَةٌ: وَهِيَ الرُّوحُ نَفْسُهُ,
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ كَمَا ذَكَرْنَا بِأَنَّ هَهُنَا شَيْئًا مُدَبِّرًا لِلْجَسَدِ هِيَ الْحَيُّ الْحَسَّاسُ الْمُخَاطَبُ, وَلَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ قَطُّ بِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ, فَكَانَ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّ الرُّوحَ غَيْرُ النَّفْسِ قَدْ زَعَمَ بِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ وَقَالَ مَا لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِصِحَّتِهِ, وَهَذَا بَاطِلٌ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَمَنْ لاَ بُرْهَانَ لَهُ فَلَيْسَ صَادِقًا.فَصَحَّ أَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ, هُوَ ابْنُ زَيْدٍ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلاَلٍ: "اكْلأْ

(1/5)


لَنَا اللَّيْلَ" فَغَلَبَتْ بِلاَلاً عَيْنَاهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم, وَلاَ بِلاَلٌ, وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا فَقَالَ: "يَا بِلاَلُ فَقَالَ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ" . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} إلَى قَوْلِهِ: {أَجَلٍ مُسَمًّى} . وحدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ هُوَ الْجَهْضَمِيُّ, حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ, حدثنا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ, حدثنا خَالِدُ بْنُ سُمَيْرٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ حَدَّثَنِي أَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ نَوْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ إنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ أَنَّا لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا يَشْغَلُنَا, عَنْ صَلاَتِنَا, وَلَكِنَّ أَرْوَاحَنَا كَانَتْ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَرْسَلَهَا أَنَّى شَاءَ" فَعَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَنْفُسِ وَبِالأَرْوَاحِ, عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ, وَلاَ يَثْبُتُ عَنْهُ عليه السلام فِي هَذَا الْبَابِ خِلاَفٌ لِهَذَا أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ".

(1/6)


7- مَسْأَلَةٌ: وَالْعَرْشُ مَخْلُوقٌ
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وَكُلُّ مَا كَانَ مَرْبُوبًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ.

(1/7)


8 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَلاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ. قَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي هَذَا, وَلَوْ تَمَثَّلَ تَعَالَى فِي صُورَةِ شَيْءٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ مِثْلاً لَهُ وَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

(1/7)


9 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ النُّبُوَّةَ حَقٌّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَا غَابَ عَنَّا أَوْ كَانَ قَبْلَنَا فَلاَ يُعْرَفُ إلاَّ بِالْخَبَرِ عَنْهُ. وَخَبَرُ التَّوَاتُرِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ, وَلاَ بُدَّ, وَلَوْ دَخَلَتْ فِي نَقْلِ التَّوَاتُرِ دَاخِلَةٌ أَوْ شَكٌّ لَوَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّكُّ هَلْ كَانَ قَبْلَنَا خَلْقٌ أَمْ لاَ ; إذْ لَمْ نَعْرِفْ كَوْنَ الْخَلْقِ مَوْجُودًا قَبْلَنَا إلاَّ بِالْخَبَرِ, وَمَنْ بَلَغَ هَهُنَا فَقَدْ فَارَقَ الْمَعْقُولَ وَبِنَقْلِ التَّوَاتُرِ الْمَذْكُورِ صَحَّ أَنَّ قَوْمًا مِنْ النَّاسِ أَتَوْا أَهْلَ زَمَانِهِمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ الْخَلْقِ أَوْحَى إلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِإِنْذَارِ قَوْمِهِمْ بِأَوَامِرَ أَلْزَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا, فَسَأَلُوا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا قَالُوا: "فَأَتَوْا بِأَعْمَالٍ هِيَ خِلاَفٌ لِطَبَائِعِ مَا فِي الْعَالَمِ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ, حَاشَا خَالِقَهَا الَّذِي ابْتَدَعَهَا كَمَا شَاءَ, كَقَلْبِ عَصًا حَيَّةً تَسْعَى, وَشَقِّ الْبَحْرِ لِعَسْكَرٍ جَازُوا فِيهِ وَغَرِقَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ ; وَكَإِحْيَاءِ مَيِّتٍ قَدْ صَحَّ مَوْتُهُ, وَكَإِبْرَاءِ أَكْمَهٍ وُلِدَ أَعْمَى, وَكَنَاقَةٍ خَرَجَتْ مِنْ صَخْرَةٍ, وَكَإِنْسَانٍ رُمِيَ فِي النَّارِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ, وَكَإِشْبَاعِ عَشَرَاتٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ, وَكَنَبَعَانِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ إنْسَانٍ حَتَّى رُوِيَ الْعَسْكَرُ كُلُّهُ. فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ لَهُمْ بِمَا أَظْهَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَصِحْ مَا أَتَوْا بِهِ عَنْهُ وَأَنَّهُ تَعَالَى صَدَّقَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ".

(1/7)


10- مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولُ اللَّهِ إلَى جَمِيعِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ, كَافِرِهِمْ وَمُؤْمِنِهِمْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْمَنْقُولِ إلَيْنَا بِأَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنْ نَقْلِ التَّوَاتُرِ, وَأَنَّهُ دَعَا مَنْ خَالَفَهُ إلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا كُلُّهُمْ, عَنْ ذَلِكَ, وَأَنَّهُ شُقَّ لَهُ الْقَمَرُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}. وَحَنَّ الْجِذْعُ إذْ فَقَدَهُ حَنِينًا سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ حَضَرَهُ, وَهُمْ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ ; وَدَعَا الْيَهُودَ إلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ ; وَأَخْبَر هُمْ أَنَّهُمْ لاَ يَتَمَنَّوْنَهُ فَعَجَزُوا كُلُّهُمْ, عَنْ تَمَنِّيهِ جِهَارًا. وَدَعَا النَّصَارَى إلَى مُبَاهَلَتِهِ فَأَبَوَا كُلُّهُمْ. وَهَذَانِ الْبُرْهَانَانِ مَذْكُورَانِ جَمِيعًا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ, كَمَا ذُكِرَ فِيهِ تَعْجِيزَهُ جَمِيعَ الْعَرَبِ, عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوَّلَهُمْ, عَنْ آخِرِهِمْ ; وَنَبَعَ لَهُمْ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ, وَأَطْعَمَ مِئِينَ مِنْ النَّاسِ مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ وَجَدْيٍ, وَأَذْعَنَ مُلُوكُ الْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ لاَِمْرِهِ لِلآيَاتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَهُمْ عَنْهُ, فَنَزَلُوا, عَنْ مُلْكِهِمْ كُلِّهِمْ طَوْعًا دُونَ رَهْبَةٍ أَصْلاً, وَلاَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمْ, وَلاَ بِرَغْبَةٍ رَغَّبَهُمْ بِهَا, بَلْ كَانَ يَتِيمًا فَقِيرًا. وَهُنَاكَ قَوْمٌ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ كَصَاحِبِ صَنْعَاءَ وَكَصَاحِبِ الْيَمَامَةِ, كِلاَهُمَا أَقْوَى جَيْشًا وَأَوْسَعُ مِنْهُ بِلاَدًا, فَمَا الْتَفَتَ لَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُ قَوْمِهِمَا, وَكَانَ هُوَ أَضْعَفَهُمْ جُنْدًا وَأَضْعَفَهُمْ بَلَدًا وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ بِلاَدِ الْمُلُوكِ دَارًا, فَدَعَا الْمُلُوكَ وَالْفُرْسَانَ الَّذِينَ قَدْ مَلَئُوا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ وَهِيَ نَحْوُ شَهْرَيْنِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ إلَى إقَامَةِ الصَّلاَةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَإِسْقَاطِ الْفَخْرِ وَالتَّجَبُّرِ, وَالْتِزَامِ التَّوَاضُعِ وَالصَّبْرِ لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَهَا مِنْ كُلِّ حَقِيرٍ أَوْ رَفِيعٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَالٌ, وَلاَ عَشِيرَةٌ تَنْصُرُهُ, بَلْ اتَّبَعَهُ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَهُ مُذْعِنًا لِمَا بَهَرَهُمْ مِنْ آيَاتِهِ ; وَلَمْ يَأْخُذْ قَطُّ بَلْدَةً عَنْوَةً وَغَلَبَةً إلاَّ خَيْبَرَ وَمَكَّةَ فَقَطْ وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} .

(1/8)


نسخ الله بملته كل ملة
...
11 - مَسْأَلَةٌ: نَسَخَ عَزَّ وَجَلَّ بِمِلَّتِهِ كُلَّ مِلَّةٍ وَأَلْزَمَ أَهْلَ الأَرْضِ جِنَّهُمْ وَإِنْسَهُمْ اتِّبَاعَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي بَعَثَهُ بِهَا, وَلاَ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهَا ; وَأَنَّهُ عليه السلام خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ ; بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ, عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ" فَجَزَعَ النَّاسُ فَقَالَ: "قَدْ بَقِيَتْ مُبَشِّرَاتٌ وَهُنَّ جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ".

(1/9)


إلا أن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل
...
12 - مَسْأَلَةٌ: إلاَّ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام سَيَنْزِلُ
وَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ عليه السلام أَنْبِيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهُمْ لَمْ يُسَمِّ ; وَالإِيمَانُ بِجَمِيعِهِمْ فَرْضٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ ؛ مَاحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ ; قَالُوا: "حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ, وَ, هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قَالَ: " فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ: لاَ, إنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ, تَكْرِمَةُ اللَّهِ هَذِهِ الآُمَّةِ". وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ آدَمَ وَنُوحًا وَإِدْرِيسَ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَدَاوُدوَسُلَيْمَانَ وَيُونُسَ وَاَلْيَسَع وَإِلْيَاسَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَأَيُّوبَ وَعِيسَى وَهُودًا وَصَالِحًا وَشُعَيْبًا وَلُوطًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا}.

(1/9)


وأن جميع النبيين وعيسى ومحمد عليهم السلام عبيد الله تعالى
...
13 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عليهم السلام عَبِيدًا لِلَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقُونَ ; نَاسٌ كَسَائِرِ النَّاسِ ; مَوْلُودُونَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ; إلاَّ آدَمَ وَعِيسَى ; فَإِنَّ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ ; لاَ مِنْ ذَكَرٍ, وَلاَ مِنْ أُنْثَى ; وَعِيسَى خُلِقَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, عَنِ الرُّسُلِ عليهم السلام أَنَّهُمْ قَالُوا: {إنْ نَحْنُ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} .
وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وَقَالَ تَعَالَى:, عَنْ جِبْرِيلَ عليه السلام, أَنَّهُ قَالَ لِمَرْيَمَ عليها السلام: {إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغْيًا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} .

(1/10)


وأن الجنة حق مخلوقة للمؤمنين
...
14 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ دَارٌ مَخْلُوقَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَلاَ يَدْخُلُهَا كَافِرٌ أَبَدًا ; قَالَ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .

(1/10)


15 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ دَارٌ مَخْلُوقَةٌ لاَ يَخْلُدُ فِيهَا مُؤْمِنٌ.
قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} .

(1/10)


يدخل النار من شاء الله من المسلمين
...
16 - مَسْأَلَةٌ: يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ رَجَحَتْ كَبَائِرُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فأما مَنْ

(1/10)


لاتفنى الجنة ولا النار ولا أحد ممن فيهما أبدا
...
17 - مَسْأَلَةٌ: لاَ تَفْنَى الْجَنَّةُ, وَلاَ النَّارُ, وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ فِيهِمَا أَبَدًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْبِرًا, عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ وَمَنْ فِيهِمَا: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . وَ {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ نَامِي, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ, وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ, فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ, وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ" . ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي رِوَايَتِهِ بَعْدَ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلاَّ الْمَوْتَةَ الآُولَى} وَقَالَ فِي أَهْلِ النَّارِ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا, وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/11)


وأن أهل الجنة يأكلوه ويشربون
...
18- مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ
وَيَطَئُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ, وَلاَ يَرَوْنَ بُؤْسًا أَبَدًا ; وَكُلُّ ذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا فِي الدُّنْيَا ; لَكِنْ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ, وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ; وَحُورُ الْعِينِ حَقٌّ نِسَاءٌ مُطَهَّرَاتٌ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا, وَلاَ يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا سُفْيَانُ, عَنْ أَبِي الزِّنَادِ, عَنِ الأَعْرَجِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ, وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ, وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وبه إلى مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ, حدثنا أَبُو عَاصِمٍ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ ; قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ, وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ, وَلاَ يَتَمَخَّطُونَ, وَلاَ يَبُولُونَ, وَلَكِنَّ طَعَامَهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ, يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ" وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ خِلاَفُ مَا فِي الدُّنْيَا.

(1/12)


وأن أهل النار يعذبون بالسلاسل والأغلال
...
19 - مَسْأَلَةٌ: وَأَهْلُ النَّارِ يُعَذَّبُونَ بِالسَّلاَسِلِ وَالأَغْلاَلِ
وَالْقَطِرَانِ وَأَطْبَاقِ النِّيرَانِ ; أَكْلُهُمْ الزَّقُّومُ وَشُرْبُهُمْ مَاءٌ كَالْمُهْلِ وَالْحَمِيمِ ; نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} .

(1/12)


وكل من كفر بما بلغه وصح عنده عن النبير صلى الله عليه وسلم
...
20 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا بَلَغَهُ وَصَحَّ عِنْدَهُ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَوْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عليه السلام فَهُوَ كَافِرٌ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} .

(1/12)


21 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي فِي الْمَصَاحِفِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أُمِّ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَلاَمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَحْيُهُ أَنْزَلَهُ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ تَعَالَى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . وَكُلُّ مَا رُوِيَ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَأُمَّ الْقُرْآنِ لَمْ تَكُنْ فِي مُصْحَفِهِ فَكَذِبٌ مَوْضُوعٌ لاَ يَصِحُّ ; وَإِنَّمَا صَحَّتْ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ, عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ

(1/13)


وكل مافيه من خبر عن نبي من الأنبياء
...
22 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ خَبَرٍ, عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ
أَوْ مَسْخٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَعِيمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ لاَ رَمْزَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, قَالَ تَعَالَى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَأَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى قَوْمٍ خَالَفُوا هَذَا فَقَالَ تَعَالَى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .

(1/13)


23 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ سِرَّ فِي الدِّينِ عِنْدَ أَحَدٍ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} .

(1/13)


24 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ حَقٌّ ; وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
مُكْرَمُونَ كُلُّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}

(1/13)


خلقوا كهلم من نور وخلق آدم من من ماء وتراب وخلق الجن من نار
...
25 - مَسْأَلَةٌ: خُلِقُوا كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ آدَم مِنْ مَاءٍ وَتُرَابٍ وَخُلِقَ الْجِنُّ مِنْ نَارٍ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, حدثنا مَعْمَرٌ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خُلِقَتْ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَم مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ}.

(1/13)


26 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَلاَئِكَةُ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
لاَ يَعْصِي أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي صَغِيرَةٍ َولاَ كَبِيرَةٍ وَهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ, وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فَهَذَا تَفْضِيلٌ لَهُمْ عَلَى الْمَسِيحِ عليه السلام. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مَنْ خَلَقْنَا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ بَنِي آدَمَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ خَلْقٍ سِوَى الْمَلاَئِكَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْمَلاَئِكَةُ, وَإِسْجَادُهُ تَعَالَى الْمَلاَئِكَةَ لاِدَمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ السَّلاَمُ سُجُودُ تَحِيَّةٍ ; فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ فِي أَنْ يُكَرَّمَ بِأَنْ يُحَيُّوهُ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذَا الْبَابَ فِي كِتَابِ الْفِصَلِ غَايَةَ التَّقَصِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} .

(1/14)


27 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْجِنَّ حَقٌّ وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فِيهِمْ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ ; يَرَوْنَنَا, وَلاَ نَرَاهُمْ ; يَأْكُلُونَ وَيَنْسِلُونَ وَيَمُوتُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} . وَقَالَ تَعَالَى: حَاكِيًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍْ} وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ; قَالَ أَحْمَدُ أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ; وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ ; ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهَنَّادٌ قَالاَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ, عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ عَلْقَمَةَ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسْتَنْجُوا بِالْعِظَامِ, وَلاَ بِالرَّوْثِ فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ" .

(1/14)


28 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ.
وَهُوَ وَقْتٌ يَنْقَضِي فِيهِ بَقَاءُ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا فَيَمُوتُ كُلُّ مَنْ فِيهَا ; ثُمَّ يُحْيِي الْمَوْتَى ; يُحْيِي عِظَامَهُمْ الَّتِي فِي الْقُبُورِ وَهِيَ رَمِيمٌ وَيُعِيدُ الأَجْسَامَ كَمَا كَانَتْ وَيَرُدُّ إلَيْهَا الأَرْوَاحَ كَمَا كَانَتْ ; وَيَجْمَعُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يُحَاسَبُ فِيهِ الْجِنُّ وَالإِنْسُ فَيُوَفَّى كُلُّ أَحَدٍ قَدْرَ عَمَلِهِ. قَالَ للَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا, وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

(1/14)


29 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّ الْوُحُوشَ تُحْشَرُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ, وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ"

(1/15)


30 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ
وَهُوَ طَرِيقٌ يُوضَعُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَيَنْجُو مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَهْلِكُ مَنْ شَاءَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ, حدثنا أَبِي, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ: "وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ". وَقَالَ عليه السلام فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا: "وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ, هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلاَّ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ, تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ, يَعْنِي الْمُوبَقَ ِبعَمَلِهِ, وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ حَتَّى يُنَجَّى وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ".

(1/15)


31 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْمَوَازِينَ حَقٌّ تُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ
نُؤْمِنُ بِهَا, وَلاَ نَدْرِي كَيْفَ هِيَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فأما مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .

(1/16)


32 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْحَوْضَ حَقٌّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا.
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ, عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ, عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ ; آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ, عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إلَى أَيْلَةَ ; مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ" .

(1/16)


33 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ حَقٌّ
فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ, حدثنا مُعَاذٌ يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيَّ, حدثنا أَبِي, عَنْ قَتَادَةَ, حدثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَاهَا لاُِمَّتِهِ وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لاُِمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" . وبه إلى مُسْلِمٍ: حدثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ, عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ هُوَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ, عَنْ أَبِي نَضْرَةَ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لاَ يَمُوتُونَ فِيهَا, وَلاَ يَحْيَوْنَ, وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ, أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ, فَأَمَاتَهُمْ اللَّهُ إمَاتَةً حَتَّى إذَا كَانُوا فَحْمًا أَذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ, ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ".

(1/17)


وأن الصحف التي تكتب فيها أعمال العباد الملائكة حق
...
34 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الصُّحُفَ تَكْتُبُ فِيهَا أَعْمَالَ الْعِبَادِ الْمَلاَئِكَةُ حَقٌّ
نُؤْمِنُ بِهَا, وَلاَ نَدْرِي كَيْفَ هِيَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} , عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ} .

(1/17)


35 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ النَّاسَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَالْمُؤْمِنُونَ الْفَائِزُونَ الَّذِينَ لاَ يُعَذَّبُونَ يُعْطَوْنَهَا بِأَيْمَانِهِمْ ; وَالْكُفَّارُ بِأَشْمَلِهِمْ وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ الْكَبَائِرِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فأما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ, وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .

(1/17)


36 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ حَافِظَيْنِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ
يُحْصِيَانِ أَقْوَالَهُ وَأَعْمَالَهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ, عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .

(1/18)


37 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً
فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ; فَإِنْ تَرَكَهَا بِغَلَبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ, فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ, عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ, فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا, فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا" وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ اُرْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ" وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلاَمَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ, وَكُلُّ سَيِّئَةٍ تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ, عَزَّ وَجَلَّ" .

(1/18)


8 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَمِلَ فِي كُفْرِهِ عَمَلاً سَيِّئًا ثُمَّ أَسْلَمَ
فَإِنْ تَمَادَى عَلَى تِلْكَ الإِسَاءَةِ حُوسِبَ وَجُوزِيَ فِي الآخِرَةِ بِمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي شِرْكِهِ وَإِسْلاَمِهِ ; وَإِنْ تَابَ, عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ مَا عَمِلَ فِي شِرْكِهِ. وَمَنْ عَمِلَ فِي كُفْرِهِ أَعْمَالاً صَالِحَةً ثُمَّ أَسْلَمَ جُوزِيَ فِي الْجَنَّةِ بِمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي شِرْكِهِ وَإِسْلاَمِهِ ; فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ جُوزِيَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ فِي الآخِرَةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ, وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ, وَاللَّفْظُ لَهُ قَالاَ, حدثنا حَجَّاجٌ, وَ, هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا, ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ, وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ, وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ, وَلاَ يَزْنُونَ وَمِنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} فَلَمْ يُسْقِطْ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ, تِلْكَ الأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ إلاَّ بِالإِيمَانِ مَعَ التَّوْبَةِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وبه إلى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا جَرِيرٌ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ أَبِي وَائِلٍ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلاَمِ" .
وبه إلى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا وَكِيعٌ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ أَبِي وَائِلٍ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "قلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

(1/19)


َفقَالَ: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِر" ِ. وبه إلى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ, حدثنا يَعْقُوبُ, هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ, حدثنا عَنْ صَالِحٍ, هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ, أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْت أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَفِيهَا أَجْرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْرٍ" . فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . وَقَوْلَهُ عليه السلام لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ "إنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ, وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" قلنا: إنَّ كَلاَمَهُ عليه السلام لاَ يُعَارِضُ كَلاَمَهُ, وَلاَ كَلاَمَ رَبِّهِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ مِنْ هَذَا لَمَا كَانَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَلَبَطَلَتْ حُجَّةُ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لاَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ, وَلاَ السُّنَّةَ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} فأما قوله تعالى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فَنَعَمْ هَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا: إنَّ مَنْ انْتَهَى غُفِرَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ فَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْفِرُهُ لَهُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالآيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ" فَحَقٌّ وَهُوَ قَوْلُنَا ; لأنَّ الإِسْلاَمَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ, وَالتَّوْبَةُ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ مِنْ الطَّاعَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي الْهِجْرَةِ إنَّمَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, كَمَا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام "الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَر وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, عَنِ النَّبِيِّ

(1/20)


صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ, عَنْ دَاوُد, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ مَسْرُوقٍ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ, فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ قَالَ: "لاَ يَنْفَعُهُ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا مُسْلِمٌ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ, وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحِسَابِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا" .

(1/21)


39 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَمُسَاءَلَةَ الأَرْوَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ
وَلاَ يَحْيَا أَحَدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ غُنْدَرٌ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ, عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قَالَ: "نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ, يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّي اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ" . وبه إلى مُسْلِمٍ, حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, حدثنا بُدَيْلٌ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "إذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِن

(1/21)


40 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَسَنَاتُ تُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ بِالْمُوَازَنَةِ, وَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ السَّيِّئَاتِ وَالْقِصَاصُ مِنْ الْحَسَنَاتِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ

(1/22)


حدثنا إسْمَاعِيلُ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ, وَلاَ مَتَاعَ, فَقَالَ: إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا, فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} .

(1/23)


41 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُصْلَبْ
وَلَكِنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيْهِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: عَنْهُ, أَنَّهُ قَالَ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} فَالْوَفَاةُ قِسْمَانِ: نَوْمٌ وَمَوْتٌ فَقَطْ وَلَمْ يُرِدْ عِيسَى عليه السلام بِقَوْلِهِ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وَفَاةَ النَّوْمِ. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى وَفَاةَ الْمَوْتِ, وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ عليه السلام قُتِلَ أَوْ صُلِبَ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ حَلاَلٌ دَمُهُ وَمَالُهُ لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ وَخِلاَفِهِ الإِجْمَاعَ.

(1/23)


وأنه لايرجع محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم إلا يو م القيامة
...
42 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ, رضي الله عنهم, إلاَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا رَجَّعَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. هَذَا إجْمَاعُ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ الْمُتَّقِينَ قَبْلَ حُدُوثِ الرَّوَافِضِ الْمُخَالِفِينَ لاِِجْمَاعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ الْمُبَدِّلِينَ لِلْقُرْآنِ الْمُكَذِّبِينَ بِصَحِيحِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُجَاهِرِينَ بِتَوْلِيدِ الْكَذِبِ الْمُتَنَاقِضِينَ فِي كَذِبِهِمْ أَيْضًا, وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فَادَّعَوْا مِنْ رُجُوعِ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَا لاَ يَعْجِزُ أَحَدٌ, عَنْ أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَهُ لِعُمَرَ أَوْ لِعُثْمَانَ أَوْ لِمُعَاوِيَةَ, رضي الله عنهم, أَوْ لِغَيْرِ هَؤُلاَءِ: إذَا لَمْ يُبَالِ بِالْكَذِبِ وَالدَّعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ, وَلاَ مِنْ مَعْقُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/23)


43 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الأَنْفُسَ حَيْثُ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ أَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ, عَنْ يَمِينِ آدَمَ عليه السلام, وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاءِ, عَنْ شِمَالِهِ عِنْدَ سَمَاءِ الدُّنْيَا, لاَ تَفْنَى, وَلاَ تَنْتَقِلُ إلَى أَجْسَامٍ أُخَرَ, لَكِنَّهَا بَاقِيَةٌ حَيَّةٌ حَسَّاسَةٌ عَاقِلَةٌ فِي نَعِيمٍ أَوْ نَكَدٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَتُرَدُّ إلَى أَجْسَادِهَا لِلْحِسَابِ وَلِلْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ, حَاشَا أَرْوَاحِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَأَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهَا الآنَ تُرْزَقُ وَتُنَعَّمُ. وَمَنْ قَالَ: "بِانْتِقَالِ الأَنْفُسِ إلَى أَجْسَامٍ أُخَرَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا هَذِهِ الأَجْسَادَ فَقَدْ كَفَرَ. بُرْهَانُ هَذَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى, حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ, هُوَ ابْنُ يَزِيدَ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ". قَالَ: "جِبْرِيلُ عليه السلام لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ, قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ, قَالَ هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ: نَعَمْ مَعِي" مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَأُرْسِلَ إلَيْهِ قَالَ نَعَمْ فَفَتَحَ فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ, عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ

(1/24)


وأن الوحي قد انقطع منذ مات النبي صلى الله عليه وسلم
...
44 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مُذْ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَحْيَ لاَ يَكُونُ إلاَّ إلَى نَبِيٍّ. وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

(1/26)


45 - مَسْأَلَةٌ: وَالدِّينُ قَدْ تَمَّ فَلاَ يُزَادُ فِيهِ,
وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ, وَلاَ يُبَدَّلُ, قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} وَالنَّقْصُ وَالزِّيَادَةُ تَبْدِيلٌ.

(1/26)


46 - مَسْأَلَةٌ: قَدْ بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدِّينَ كُلَّهُ
وَبَيَّنَ جَمِيعَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} .

(1/26)


وحجة الله قد قامت واستبانت لكل من بلغته النذارة
...
47 - مَسْأَلَةٌ: وَحُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ قَامَتْ وَاسْتَبَانَتْ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ النِّذَارَةُ
مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ, عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مِنْ حَيَّ, عَنْ بَيِّنَةٍ} .

(1/26)


48 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ, عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ بِالْيَدِ, فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلِسَانِهِ, فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِقَلْبِهِ, وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ شَيْءٌ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

(1/26)


فمن عجز لجهله أو عتمته عن معرفة كل هذا فلا بد له أن يعتقد بلقبه إلخ
...
49 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ عَجَزَ لِجَهْلِهِ أَوْ عَتَمَتِهِ, عَنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ هَذَا فَلاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ
وَيَقُولَ بِلِسَانِهِ حَسَبَ طَاقَتِهِ بَعْدَ أَنْ يُفَسَّرَ لَهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَكُلُّ دِينٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ, حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ, حدثنا رَوْحٌ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَعْقُوبَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} .

(1/28)


50 - مَسْأَلَةٌ: وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ أَفْضَلَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ الرُّسُلُ ثُمَّ الأَنْبِيَاءُ
عَلَى جَمِيعِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ مِنَّا أَفْضَلُ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ ثُمَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الصَّالِحُونَ. قَالَ تَعَالَى: { جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً}
وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ} , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا مُسَدَّدٌ, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ, حدثنا الأَعْمَشُ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ, وَلاَ نَصِيفَهُ" . حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ وَمُسَدَّدٌ قَالاَ: "حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى, عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ, وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ, وَيَنْذِرُونَ, وَلاَ يُوفُونَ, وَيَحْرُبُونَ, وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ وَيَفْشُو فِيهِمْ السِّمَنُ" . هَكَذَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ " يَحْرُبُونَ " بِحَاءٍ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ وَرَاءٍ مَرْفُوعَةٍ وَبَاءٍ مَنْقُوطَةٍ وَاحِدَةٌ مِنْ أَسْفَلُ وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ " يَخُونُونَ " بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَوَاوٍ بَعْدَهَا نُونٌ, "وَمَنْ خَانَ فَقَدْ حَرَبَ" .

(1/28)


وأن الله خالق كل شيء سواه
...
51 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ
لاَ خَالِقَ سِوَاهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} .

(1/29)


52 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُشْبِهُهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ
فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

(1/29)


وأنه تعالى لا في مكان ولا في زمان إلخ
...
53 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ فِي مَكَان, وَلاَ فِي زَمَانٍ,
بَلْ هُوَ تَعَالَى خَالِقُ الأَزْمِنَةِ وَالأَمْكِنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَهُمَا مَخْلُوقَانِ, قَدْ كَانَ تَعَالَى دُونَهُمَا, وَالْمَكَانُ إنَّمَا هُوَ لِلأَجْسَامِ, وَالزَّمَانُ إنَّمَا هُوَ مُدَّةُ كُلِّ سَاكِنٍ أَوْ مُتَحَرِّكٍ أَوْ مَحْمُولٍ فِي سَاكِنٍ أَوْ مُتَحَرِّكٍ, وَكُلُّ هَذَا مُبْعَدٌ, عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

(1/29)


ولا يحل لأحد أن يسمي الله عز وجل بغير ماسمى به نفسه
...
54 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ
وَلاَ أَنْ يَصِفَهُ بِغَيْرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى, عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} فَمَنَعَ تَعَالَى أَنْ يُسَمَّى إلاَّ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِهَا فَقَدْ أَلْحَدَ. وَالأَسْمَاءُ الْحُسْنَى بِالأَلِفِ وَاللاَّمِ لاَ تَكُونُ إلاَّ مَعْهُودَةً, وَلاَ مَعْرُوفٌ فِي ذَلِكَ إلاَّ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, وَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ كُلِّفَ الْبُرْهَانَ عَلَى مَا ادَّعَى, وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ, وَمَنْ لاَ بُرْهَانَ لَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ.قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

(1/29)


55 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا
مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ, وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى, مَنْ زَادَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ, وَهِيَ الأَسْمَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ, عَنْ أَيُّوبَ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ, قَالَ أَيُّوبُ, عَنِ ابْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَقَالَ هَمَّامٌ:, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا, مِائَةً إلاَّ وَاحِدًا, مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" زَادَ هَمَّامٌ فِي حَدِيثِهِ "إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ" . وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا فَقَطْ, وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْمٌ زَائِدٌ لاَِنَّهُ عليه السلام قَالَ: "مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ" فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَالَى اسْمٌ زَائِدٌ لَكَانَتْ مِائَةَ اسْمٍ, وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ كَذِبًا وَمَنْ أَجَازَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ" وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَدْ تَقَصَّيْنَا كَثِيرًا مِنْهَا بِالأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ فِي كِتَابِ " الإِيصَالِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(1/30)


56 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَشْتَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وَقَالَ: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَقَالَ تَعَالَى: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} , {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} . وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَهُ الْبَنَّاءَ, وَلاَ الْكَيَّادَ, وَلاَ الْمَاكِرَ, وَلاَ الْمُتَجَبِّرَ, وَلاَ الْمُسْتَكْبِرَ, لاَ عَلَى أَنَّهُ الْمُجَازِي بِذَلِكَ, وَلاَ عَلَى وَجْهٍ أَصْلاً, وَمَنْ ادَّعَى غَيْرَ هَذَا فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَتَنَاقَضَ وَقَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْكَذِبَ وَمَا لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/30)


وأن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا
...
57 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَنَزَّلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا
وَهُوَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ حَرَكَةً, وَلاَ نَقْلَةً. بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَرَأْت عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتَنَزَّلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" . قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا يَعْقُوبُ, هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْقَارِيّ, عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ: فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ, فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْر" ُ قَالَ مُسْلِمٌ: وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ, حدثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ, حدثنا الأَوْزَاعِيُّ, حدثنا يَحْيَى, هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ, حدثنا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ", حدثنا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى, هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ, حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: "فَالرِّوَايَةُ, عَنْ أَبِي سَلَمَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ " إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ " وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ " إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ " وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ إلَى أَنْ يُضِيءَ الْفَجْرُ " وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ, وَابْنُ رَاهْوَيْهِ, عَنْ جَرِيرٍ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ, عَنِ الأَغَرِّ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَوْقَاتُ اللَّيْلِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلاَفِ تَقَدُّمِ غُرُوبِ الشَّمْسِ, عَنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ. فَصَحَّ أَنَّهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَبُولِ الدُّعَاءِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ, لاَ حَرَكَةَ, وَالْحَرَكَةُ وَالنَّقْلَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ, حَاشَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا.

(1/31)


58 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ وَعِلْمُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ كَلاَمَهُ هُوَ عِلْمُهُ, وَعِلْمُهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ.

(1/32)


59 - مَسْأَلَةٌ: وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْمَسْمُوعُ مِنْ الْقَارِئِ
وَالْمَحْفُوظُ فِي الصُّدُورِ, وَاَلَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلاَمُهُ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً لاَ مَجَازًا, مَنْ قَالَ: فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْقُرْآنَ, وَلاَ هُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَفَرَ, لِخِلاَفِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ". قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} .وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وَقَالَ تَعَالَى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِينَ} حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا الْقَعْنَبِيُّ, عَنْ مَالِكٍ, عَنْ نَافِعٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَصْرِفَ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلاَمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَجَازِ, عَنِ الْحَقِيقَةِ بِدَعْوَاهُ الْكَاذِبَةِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/32)


وعلم الله تعالى حق لم يزل الله عز وجل عليما
...
60 - مَسْأَلَةٌ: وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ لَمْ يَزَلْ عَزَّ وَجَلَّ عَلِيمًا
بِكُلِّ مَا كَانَ أَوْ يَكُونُ مِمَّا دَقَّ أَوْ جَلَّ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ,وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَالأَخْفَى مِنْ السِّرِّ هُوَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ.

(1/32)


61 - مَسْأَلَةٌ: وَقُدْرَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقُوَّتُهُ حَقٌّ لاَ يَعْجِزُ, عَنْ شَيْءٍ
وَلاَ عَنْ كُلِّ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ السَّائِلُ مِنْ مُحَالٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لاَ يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ, حدثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى, حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاِسْتِخَارَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ, وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ, وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ". وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} وَقَدْ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا لاَ يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَعَالَى كَذَلِكَ لَكَانَ مُتَنَاهِيَ الْقُدْرَةِ, وَلَوْ كَانَ مُتَنَاهِيَ الْقُدْرَةِ لَكَانَ مُحْدَثًا, تَعَالَى اللَّهُ, عَنْ ذَلِكَ, وَهُوَ تَعَالَى مُرَتِّبُ كُلَّ مَا خَلَقَ, وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْوَاجِبَ وَأَمْكَنَ الْمُمْكِنَ وَأَحَالَ الْمُحَالَ, وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى خِلاَفِ مَا فَعَلَهُ, لَمَا أَعْجَزَهُ ذَلِكَ, وَلَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ مُضْطَرًّا لاَ مُخْتَارًا. وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .

(1/33)


62 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِزًّا وَعِزَّةً, وَجَلاَلاً وَإِكْرَامًا
وَيَدًا وَيَدَيْنِ وَأَيْدٍ, وَوَجْهًا وَعَيْنًا وَأَعْيُنًا وَكِبْرِيَاءَ, وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لاَ يُرْجَعُ مِنْهُ, وَلاَ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى وَقَدْرِهِ وَقُوَّتِهِ إلاَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى, لاَ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلاً, مُقِرٌّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ, وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُزَادَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}

(1/33)


وَ {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَ {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ "عَيْنَيْنِ" لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ, وَلاَ أَنْ يُقَالَ " سَمْعٌ وَبَصَرٌ, وَلاَ حَيَاةٌ " لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ, لَكِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَيٌّ قَيُّومٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ, حدثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثَ, حدثنا أَبِي, حدثنا الأَعْمَشُ, حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيُّ, عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الأَغَرِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعِزُّ إزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ" يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى. حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم, أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو, حدثنا أَبُو سَلَمَةَ, هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ "أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ" وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ إمَّا لَمْ يَزَلْ وَأَمَّا مُحْدَثًا, فَلَوْ كَانَ لَمْ يَزَلْ لَكَانَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءُ غَيْرُهُ لَمْ تَزَلْ, وَهَذَا شِرْكٌ مُجَرَّدٌ, وَلَوْ كَانَ مُحْدَثًا لَكَانَ تَعَالَى بِلاَ عِلْمٍ, وَلاَ قُوَّةٍ, وَلاَ قُدْرَةٍ, وَلاَ عِزٍّ, وَلاَ كِبْرِيَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ ذَلِكَ وَهَذَا كُفْرٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا}
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ, وَلاَ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ, وَلاَ أَنْ يُسَمَّى بِشَيْءٍ إلاَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ. وَنَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَكْرًا وَكَيْدًا. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَكُلُّ ذَلِكَ خَلْقٌ لَهُ تَعَالَى. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/34)


63 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِقُوَّةٍ غَيْرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمُئِذٍ نَاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} . حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ هُوَ أَبُو بَكْرٍ, حدثنا جَرِيرٌ, وَوَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ كُلُّهُمْ, عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ, عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ, عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَنَظَرَ إلَى الْقَمَرِ "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ" وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُوَّةُ لَكَانَتْ لاَ تَقَعُ إلاَّ عَلَى الأَلْوَانِ, تَعَالَى اللَّهُ, عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .

(1/35)


64 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام وَمَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} {ِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} .

(1/35)


وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم خليلين
...
65 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَلِيلَيْنِ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارَ الْعَبْدِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي الْهُذَيْلِ يُحَدِّثُ, عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً, وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي, وَقَدْ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلاً" .

(1/35)


وأن محمد صلى الله عليه وسلم أسرى به ربه بجسده وروحه
...
66 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَسْرَى بِهِ رَبُّهُ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ , وَطَافَ فِي السَّمَاوَاتِ سَمَاءٍ سَمَاءٍ, وَرَأَى أَرْوَاحَ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام هُنَالِكَ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ, كَمَا لاَ نُكَذِّبُ نَحْنُ كَافِرًا فِي رُؤْيَا يَذْكُرُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا رُؤْيَتَهُ عليه السلام لِلأَنْبِيَاءِ عليهم السلام قَبْلُ فَأَغْنَى, عَنْ إعَادَتِهِ.

(1/36)


67 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ لاَ يَأْتِي بِهَا أَحَدٌ إلاَّ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} وَقَالَ تَعَالَى: حَاكِيًا, عَنْ مُوسَى عليه السلام, أَنَّهُ قَالَ: أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ
وَقَالَ تَعَالَى: {فذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} . فَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ سَاحِرٌ أَوْ غَيْرُهُ بِمَا يُحِيلُ طَبِيعَةً أَوْ يَقْلِبُ نَوْعًا, لَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا يَأْتِي بِهِ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام بُرْهَانًا لَهُمْ, وَلاَ آيَةً لَهُمْ, وَلاَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَمَّى ذَلِكَ سِحْرًا, وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لَهُمْ عليهم السلام. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ إحَالَةَ الطَّبِيعَةِ لاَ تَكُونُ آيَةً إلاَّ حَتَّى يَتَحَدَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ فَقَدْ كَذَبَ وَادَّعَى مَا لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلاً, لاَ مِنْ عَقْلٍ, وَلاَ مِنْ نَصِّ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ, وَيَجِبُ مِنْ هَذَا أَنَّ حُنَيْنَ الْجِذْعِ وَإِطْعَامَ النَّفَرِ الْكَثِيرِ مِنْ الطَّعَامِ الْيَسِيرِ حَتَّى شَبِعُوا وَهُمْ مِئُونَ مِنْ صَاعِ شَعِيرٍ. وَنَبَعَانَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِرْوَاءَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ قَدَحٍ صَغِيرٍ تَضِيقُ سِعَتُهُ, عَنْ شِبْرٍ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آيَةً لَهُ عليه السلام لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَتَّحِدَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا.

(1/36)


68 - مَسْأَلَةٌ: وَالسِّحْرُ حِيَلٌ وَتَخْيِيلٌ لاَ يُحِيلُ طَبِيعَةً أَصْلاً.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فَصَحَّ أَنَّهَا تَخْيِيلاَتٌ لاَ حَقِيقَةَ لَهَا, وَلَوْ أَحَالَ السَّاحِرُ طَبِيعَةً لَكَانَ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ أَجَازَهُ.

(1/36)


69 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الْقَدَرَ حَقٌّ,
مَا أَصَابَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنَا, وَمَا أَخْطَأَنَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَنَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ, وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}.

(1/37)


70 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَمُوتُ أَحَدٌ قَبْلَ أَجَلِهِ, مَقْتُولاً أَوْ غَيْرَ مَقْتُولٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً, وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ} .

(1/37)


وحتى يستوفي رزفه ويعمل مايسر له
...
71 - مَسْأَلَةٌ: وَحَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ وَيَعْمَلَ بِمَا يُسِّرَ لَهُ,
السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, حدثنا أَبِي وَأَبُو مُعَاوِيَةَ, وَوَكِيعٌ قَالُوا: حدثنا الأَعْمَشُ, عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ, وَأَجَلِهِ, وَعَمَلِهِ, وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ, فَوَاَلَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا, وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" .

(1/37)


وجميع أعمال العباد خير ها وشرها كل ذلك مخلوق
...
72 - مَسْأَلَةٌ: وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ الاِخْتِيَارِ وَالإِرَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي نُفُوسِ عِبَادِهِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وَقَالَ تَعَالَى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} .

(1/37)


لاحجة على الله تعالى ولله الحجة القائمة على كل أحد
...
73 - مَسْأَلَةٌ: لاَ حُجَّةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْقَائِمَةُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
قَالَ تَعَالَى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .

(1/38)


74 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ عُذْرَ لاَِحَدٍ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ
لاَ فِي الدُّنْيَا, وَلاَ فِي الآخِرَةِ, وَكُلُّ أَفْعَالِهِ تَعَالَى عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ. لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاضِعُ كُلِّ مَوْجُودٍ فِي مَوْضِعِهِ, وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لاَ حَاكِمَ عَلَيْهِ, وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .

(1/38)


75 - مَسْأَلَةٌ: الإِيمَانُ وَالإِسْلاَمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هُدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

(1/38)


76 - مَسْأَلَةٌ: كُلُّ ذَلِكَ عَقْدٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ, يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فأما الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا} .حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ, حدثنا أَبِي, حدثنا كَهْمَسٌ التَّمِيمِيُّ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ, وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي, عَنِ الإِسْلاَمِ

(1/38)


77 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ اعْتَقَدَ الإِيمَانَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ بِلِسَانِهِ دُونَ تَقِيَّةٍ فَهُوَ كَافِرٌ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ, وَمَنْ نَطَقَ بِهِ دُونَ أَنْ يَعْتَقِدَهُ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:, عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْلَمُونَ أَبْنَاءَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .

(1/40)


78 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اعْتَقَدَ الإِيمَانَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَقَدْ وُفِّقَ
سَوَاءٌ اسْتَدَلَّ أَوْ لَمْ يَسْتَدِلَّ, فَهُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ, فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ اسْتِدْلاَلاً وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُذْ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى أَنْ قَبَضَهُ يُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُقِرُّوا بِالإِسْلاَمِ وَيَلْتَزِمُوهُ, وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ قَطُّ اسْتِدْلاَلاً, وَلاَ سَأَلَهُمْ هَلْ اسْتَدَلُّوا أَمْ لاَ, وَعَلَى هَذَا جَرَى جَمِيعُ الإِسْلاَمِ إلَى الْيَوْمِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/40)


ومن ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لايكفر
...
79 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ضَيَّعَ الأَعْمَالَ كُلَّهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ عَاصٍ نَاقِصُ الإِيمَانِ لاَ يَكْفُرُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ, حدثنا أَبِي, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ "حَتَّى إذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَضَائِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا, مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ, أَنْ يَرْحَمَهُ, مِمَّنْ يَقُولُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ" .

(1/40)


80 - مَسْأَلَةٌ: وَالْيَقِينُ لاَ يَتَفَاضَلُ
لَكِنْ إنْ دَخَلَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ شَكٍّ أَوْ جَحْدٍ بَطَلَ كُلُّهُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ إثْبَاتُ الشَّيْءِ, وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتٌ أَكْثَرَ مِنْ إثْبَاتٍ, فَإِنْ لَمْ يُحَقِّقْ الإِثْبَاتَ صَارَ شَكًّا.

(1/41)


81 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَعَاصِي كَبَائِرُ فَوَاحِشُ, وَسَيِّئَاتٌ صَغَائِرُ وَلَمَمٌ
وَاللَّمَمُ مَغْفُورٌ جُمْلَةً, فَالْكَبَائِرُ الْفَوَاحِشُ هِيَ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالنَّارِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ اجْتَنَبَهَا غُفِرَتْ لَهُ جَمِيعُ سَيِّئَاتِهِ الصَّغَائِرِ. بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة} ِ وَاللَّمَمُ هُوَ الْهَمُّ بِالشَّيْءِ, وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا الأَثَرَ فِي أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ, حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لاُِمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ" وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . وَبِالضَّرُورَةِ نَعْرِفُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ كَبِيرًا إلاَّ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ, لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا أَصْلاً, فَإِذَا كَانَ الْعِقَابُ بَالِغًا أَشَدَّ مَا يُتَخَوَّفُ فَالْمُوجِبُ لَهُ هُوَ كَبِيرٌ بِلاَ شَكٍّ, وَمَا لاَ تَوَعُّدَ فِيهِ بِالنَّارِ فَلاَ يَلْحَقُ فِي الْعِظَمِ مَا تُوُعِّدَ فِيهِ بِالنَّارِ, فَهُوَ الصَّغِيرُ بِلاَ شَكٍّ, إذْ لاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.

(1/41)


ومن لم يجتنب الكبائر حوسب على كل ماعمل
...
82 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْ الْكَبَائِرَ حُوسِبَ عَلَى كُلِّ مَا عَمِلَ
وَوَازَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَعْمَالِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَبَيْنَ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا, وَلاَ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهَا, فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ, وَكَذَلِكَ مَنْ سَاوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فأما مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} وَمَنْ تَسَاوَتْ فَهُمْ أَهْلُ الأَعْرَافِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الذُّنُوبَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ, أَخْبَرَنِي هُشَيْمٌ, حدثنا خَالِدٌ, عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ, عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ, عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا, وَلاَ نَسْرِقَ, وَلاَ نَزْنِيَ, وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا, وَلاَ يَعْضَهَ بَعْضُنَا بَعْضًا, فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ, وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ" .

(1/42)


83 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ بِحَسَنَاتِهِ فَهُمْ الْخَارِجُونَ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَة} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ, حدثنا أَبِي, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي

(1/42)


حَدِيثٍ طَوِيلٍ: "وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ, فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ, وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إلاَّ الرُّسُلُ, وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ, غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إلاَّ اللَّهُ, عَزَّ وَجَلَّ, تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ يَعْنِي الْمُوبَقَ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ حَتَّى يُنَجَّى" . وبه إلى مُسْلِمٍ, حدثنا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ, وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالاَ, حدثنا مُعَاذٌ, وَ, هُوَ ابْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ أَخْبَرَنَا أَبِي, عَنْ قَتَادَةَ, حدثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً, ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً, ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً" . قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إنَّ اللَّه لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا " إنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ" بِمُعَارِضٍ لِمَا ذَكَرْنَا ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ إلاَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ.
وَهَذَا صَحِيحٌ لاَ شَكَّ فِيهِ, كَمَا أَنَّ قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . وقوله تعالى فِي النَّصَارَى حَاكِيًا, عَنْ عِيسَى عليه السلام, أَنَّهُ قَالَ: { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } لَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ, وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنَّهُ قَدْ يَغْفِرُ, وَلاَ يُعَذِّبُ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ, وَالْمُبَيِّنُ لاَِحْكَامِ هَؤُلاَءِ مِمَّا ذَكَرْنَا هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى سَائِرِ النُّصُوصِ الْمُجْمَلَةِ. وَكَذَلِكَ تَقْضِي هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى كُلِّ نَصٍّ فِيهِ: مَنْ فَعَلَ كَذَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ, وَمَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُخْلِصًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ, وَعَلَى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وَمَعْنَى كُلِّ هَذَا أَنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْهُ, وَيُحَرِّمُ النَّارَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُدَ فِيهَا أَبَدًا, وَخَالِدًا فِيهَا مُدَّةً حَتَّى تُخْرِجَهُ الشَّفَاعَةُ, إذْ لاَ بُدَّ مِنْ جَمْعِ النُّصُوصِ كُلِّهَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/43)


84 - مَسْأَلَةٌ: وَالنَّاسُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
فَأَفْضَلُ النَّاسِ أَعْلاَهُمْ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةً,
بُرْهَانُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الأَفْضَلُ أَنْقَصَ دَرَجَةً لَبَطَلَ الْفَضْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى, وَلاَ رَغِبَ فِيهِ رَاغِبٌ, وَلَيْسَ لِلْفَضْلِ مَعْنًى إلاَّ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعْظِيمِ الأَرْفَعِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْفِيعِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْجَنَّةِ.

(1/44)


85 - مَسْأَلَةٌ: وَهُمْ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ أَزْوَاجُهُمْ ثُمَّ سَائِرُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَجَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَوْ كَانَ لاَِحَدِنَا مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ, وَلاَ نَصِيفَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَعْلاَهُمْ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ, وَلاَ مَنْزِلَةَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام, فَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي دَرَجَتِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ دُونَهُمْ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ لِنِسَائِهِمْ فَقَطْ. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} فَجَاءَ النَّصُّ أَنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحُسْنَى. وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . وَصَحَّ بِالنَّصِّ كُلُّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى, فَإِنَّهُ مُبْعَدٌ, عَنِ النَّارِ لاَ يَسْمَعُ حَسِيسَهَا, وَهُوَ فِيمَا اشْتَهَى خَالِدٌ لاَ يَحْزُنُهُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ. وَهَذَا نَصُّ مَا قلنا, وَلَيْسَ الْمُنَافِقُونَ, وَلاَ سَائِرُ الْكُفَّارِ, مِنْ أَصْحَابِهِ عليه السلام, وَلاَ مِنْ الْمُضَافِينَ إلَيْهِ عليه السلام .

(1/44)


86 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْخِلاَفَةُ إلاَّ فِي قُرَيْشٍ
وَهُمْ وَلَدُ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ, الَّذِينَ يَرْجِعُونَ بِأَنْسَابِ آبَائِهِمْ إلَيْهِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ, حدثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّد بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْ النَّاسِ اثْنَانِ" . قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَفْظَةُ الْخَبَرِ, فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الأَمْرَ فَحَرَامٌ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ فِي غَيْرِهِمْ أَبَدًا, وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَبَرِ كَلَفْظِهِ, فَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ فَلاَ أَمْرَ لَهُ وَإِنْ ادَّعَاهُ, فَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا خَبَرٌ يُوجِبُ مَنْعَ الأَمْرِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ.

(1/44)


ولا يجوز الأمر لغير بالغ ولا مجنون ولا امرأة
...
87 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الأَمْرُ لِغَيْرِ بَالِغٍ, وَلاَ لِمَجْنُونٍ, وَلاَ امْرَأَةٍ
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا إلاَّ إمَامٌ وَاحِدٌ فَقَطْ, وَمَنْ بَاتَ لَيْلَةً وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً, وَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ, وَلاَ يَجُوزُ التَّرَدُّدُ بَعْدَ مَوْتِ الإِمَامِ فِي اخْتِيَارِ الإِمَامِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع, حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا جَرِيرٌ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ, عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ, عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ, وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ" . قَالَ عَلِيٌّ: الإِمَامُ إنَّمَا جُعِلَ لِيُقِيمَ النَّاسُ الصَّلاَةَ وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ وَيُقِيمَ حُدُودَهُمْ

(1/45)


والتوبة من الكفر والزنا وفعل قوم لوط والخمر إلخ
...
88 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالزِّنَى وَفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ وَالْخَمْرِ
وَأَكْلِ الأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: تَكُونُ بِالنَّدَمِ وَالإِقْلاَعِ وَالْعَزِيمَةِ, عَلَى أَنْ لاَ عَوْدَةَ أَبَدًا, وَاسْتِغْفَارِ اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا إجْمَاعٌ لاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ فِي أَعْرَاضِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لاَ تَكُونُ إلاَّ بِرَدِّ أَمْوَالِهِمْ إلَيْهِمْ, وَرَدِّ كُلِّ مَا تَوَلَّدَ مِنْهَا مَعَهَا أَوْ مِثْلِ ذَلِكَ إنْ فَاتَ, فَإِنْ جَهِلُوا فَفِي الْمَسَاكِينِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ مَعَ النَّدَمِ وَالإِقْلاَعِ وَالاِسْتِغْفَارِ, وَتَحَلُّلِهِمْ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَالأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ بُدَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الاِنْتِصَافِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, يَوْمَ يُقْتَصُّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاءِ. وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْقَتْلِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ, وَلاَ تَكُونُ إلاَّ بِالْقِصَاصِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلْيُكْثِرْ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ لِيُرَجِّحَ مِيزَانَ الْحَسَنَاتِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيِّ, حدثنا مَرْوَانُ يَعْنِي بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ, حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ, عَنْ أَبِي ذَرٍّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى, عَنِ اللَّهِ تَعَالَى, أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَه"ُ، وبه إلى مُسْلِمٍ, حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ, وَلاَ مَتَاعَ, فَقَالَ عليه السلام: إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ, وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا, فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ" . قال علي: هذا كُلُّهُ خَبَرٌ مُفَسَّرٌ مُخَصَّصٌ لاَ يَجُوزُ نَسْخُهُ, وَلاَ تَخْصِيصُهُ بِعُمُومِ خَبَرٍ آخَرَ.

(1/48)


89 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ الدَّجَّالَ سَيَأْتِي وَهُوَ كَافِرٌ أَعْوَرُ مُمَخْرَقٌ ذُو حِيَلٍ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ, أَلاَ إنَّهُ أَعْوَرُ. وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ, مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كُفْر" . وبه إلى مُسْلِمٍ, حدثنا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ, حدثنا هُشَيْمٌ, عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ, عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ, عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: "مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْته عَنْهُ, قَالَ وَمَا سُؤَالُكَ عَنْهُ قَالَ: قُلْت: إنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهْرٌ مِنْ مَاءٍ قَالَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِك"َ . حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ, حدثنا جَرِيرٌ, حدثنا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ, عَنْ أَبِي الدَّهْمَاءِ قَالَ: سَمِعْت عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ, فَوَاَللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ, قَالَ هَكَذَا, قَالَ نَعَمْ" .

(1/49)


90 - مَسْأَلَةٌ: وَالنُّبُوَّةُ هِيَ الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَنْ يَعْلَمَ الْمُوحَى إلَيْهِ بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ قَبْلُ. وَالرِّسَالَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ وَزِيَادَةٌ, وَهِيَ بَعْثَتُهُ إلَى خَلْقٍ مَا بِأَمْرٍ مَا هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ وَالْخَضِرُ عليه السلام نَبِيٌّ قَدْ مَاتَ, وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَاكِيًا, عَنِ الْخَضِرِ {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فَصَحَّتْ نُبُوَّتُهُ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

(1/50)


91 - مَسْأَلَةٌ: وَأَنَّ إبْلِيسَ بَاقٍ حَيٌّ قَدْ خَاطَبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ مُصِرًّا عَلَيْهِ مُوقِنًا بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ, وَأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ, وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لاِدَمَ فَامْتَنَعَ وَاسْتَخَفَّ بِآدَمَ فَكَفَرَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَاكِيًا عَنْهُ, أَنَّهُ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وَ, أَنَّهُ قَالَ: {أَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَ, أَنَّهُ قَالَ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} .

(1/50)


مسائل من الأصول
دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
مسائل من الاصول
92 - مَسْأَلَةٌ: دِينُ الإِسْلاَمِ اللاَّزِمُ لِكُلِّ أَحَدٍ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إمَّا بِرِوَايَةِ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الآُمَّةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الإِجْمَاعُ, وَأَمَّا بِنَقْلِ جَمَاعَةٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ نَقْلُ الْكَافَّةِ. وَأَمَّا بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ وَاحِدًا, عَنْ وَاحِدٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام, وَلاَ مَزِيدَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ, عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ, وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِنْ تَعَارَضَ فِيمَا يَرَى الْمَرْءُ آيَتَانِ أَوْ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ, أَوْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَآيَةٌ, فَالْوَاجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا, لإِنَّ طَاعَتَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْوُجُوبِ, فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ مَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ, وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ بِأَنْ يَسْتَثْنِيَ الأَقَلُّ مَعَانِيَ مِنْ الأَكْثَرِ, فَإِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ حُكْمًا لاَِنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وُجُوبُهُ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الْيَقِينِ بِالظُّنُونِ, وَلاَ إشْكَالَ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى دِينَهُ. قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}.

(1/50)


الموقوف والمرسل لاتقوم بهما حجة
...
93 - مَسْأَلَةٌ: الْمَوْقُوفُ وَالْمُرْسَلُ لاَ تَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ
وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَبِحِفْظِهِ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ غَيْرِهِ, سَوَاءٌ كَانَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَوْ لَمْ يَكُنْ, وَالْمُرْسَلُ هُوَ مَا كَانَ بَيْنَ أَحَدِ رُوَاتِهِ أَوْ بَيْنَ الرَّاوِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لاَ يُعْرَفُ, وَالْمَوْقُوفُ هُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
بُرْهَانُ بُطْلاَنِ الْمَوْقُوفِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَِنَّهُ ظَنٌّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} .
وَأَمَّا الْمُرْسَلُ وَمَنْ فِي رُوَاتِهِ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَحِفْظِهِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} فَأَوْجَبَ عَزَّ وَجَلَّ قَبُولَ نِذَارَةِ النَّافِرِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ, وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَلَيْسَ فِي الْعَالِمِ إلاَّ عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ, فَحَرَّمَ تَعَالَى عَلَيْنَا قَبُولَ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْعَدْلُ, وَصَحَّ أَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبُولِ نِذَارَتِهِ.
وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَلَسْنَا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهَا بِقَبُولِ نِذَارَتِهِ, وَهِيَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ, فَلاَ يَحِلُّ لَنَا قَبُولُ نِذَارَتِهِ حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَنَا فِقْهُهُ فِي الدِّينِ وَحِفْظُهُ لِمَا ضَبَطَ, عَنْ ذَلِكَ وَبَرَاءَتُهُ مِنْ الْفِسْقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/51)


94 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقُرْآنُ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ, وَالسُّنَّةُ تَنْسَخُ السُّنَّةَ وَالْقُرْآنَ
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ, عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ: {إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَنِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ, وَالنَّسْخُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَيَانِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

(1/52)


ولا يحل لأحد أن يقول في آية أ, في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت هذا منسوخ
...
95 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي آيَةٍ أَوْ فِي خَبَرٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَابِتٍ: هَذَا مَنْسُوخٌ
وَهَذَا مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ, وَلاَ أَنَّ لِهَذَا النَّصِّ تَأْوِيلاً غَيْرَ مُقْتَضٍ ظَاهِرَ لَفْظِهِ, وَلاَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا مِنْ حِينِ وُرُودِهِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ وَارِدٍ بِأَنَّ هَذَا النَّصَّ كَمَا ذُكِرَ, أَوْ بِإِجْمَاعٍ مُتَيَقِّنٍ بِأَنَّهُ كَمَا ذُكِرَ, أَوْ بِضَرُورَةِ حِسٍّ مُوجِبَةٍ أَنَّهُ كَمَا ذُكِرَ وَإِلاَّ فَهُوَ كَاذِبٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ, عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ} . مُوجِبٌ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ, وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ} مُوجِبٌ طَاعَةَ الْقُرْآنِ, وَمَنْ ادَّعَى فِي آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ نَسْخًا فَقَدْ أَسْقَطَ وُجُوبَ طَاعَتِهِمَا, فَهُوَ مُخَالِفٌ لاَِمْرِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} مُوجِبٌ أَخْذَ كُلِّ نَصٍّ فِي الْقُرْآنِ وَالأَخْبَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمَهُ, وَقَالَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاطِلَ وَخِلاَفَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ بَعْضُ مَا يَقْتَضِيهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لاَ كُلُّ مَا يَقْتَضِيهِ فَقَدْ أَسْقَطَ بَيَانَ النَّصِّ وَأَسْقَطَ وُجُوبَ الطَّاعَةِ لَهُ بِدَعْوَاهُ الْكَاذِبَةِ. وَهَذَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ, وَلَيْسَ بَعْضُ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ بِأَوْلَى بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ مَا يَقْتَضِيهِ. قوله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ, عَنْ أَمْرِهِ مُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ عَلَى مَنْ قَالَ: لاَ تَجِبُ عَلَيَّ مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ, وَمُوجِبٌ أَنَّ جَمِيعَ النُّصُوصِ عَلَى الْوُجُوبِ, وَمَنْ ادَّعَى تَأْخِيرَ الْوُجُوبِ مُدَّةً مَا فَقَدْ أَسْقَطَ وُجُوبَ طَاعَةِ اللَّهِ وَوُجُوبَ مَا أَوْجَبَ

(1/53)


عَزَّ وَجَلَّ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَهَذَا خِلاَفٌ لاَِمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا شَهِدَ لِدَعْوَى مَنْ ادَّعَى بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ, إمَّا بِإِجْمَاعٍ أَوْ نَقْلٍ صَحِيحٍ, فَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ وَوَجَبَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ ضَرُورَةُ الْحِسِّ ; لاَِنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّفُوسِ, وَإِلاَّ فَهِيَ أَقْوَالٌ مُؤَدِّيَةٌ إلَى إبْطَالِ الإِسْلاَمِ وَإِبْطَالِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَإِبْطَالِ جَمِيعِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا, وَكَفَى بِهَذَا فَسَادًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/54)


والإجماع هو ماتيقن أن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفوه إلخ
...
96 - مَسْأَلَةٌ: وَالإِجْمَاعُ هُوَ مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفُوهُ
وَقَالُوا بِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ, كَتَيَقُّنِنَا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ, رضي الله عنهم, صَلَّوْا مَعَهُ عليه السلام الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَمَا هِيَ فِي عَدَدِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا, أَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلاَّهَا مَعَ النَّاسِ كَذَلِكَ, وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ صَامُوا مَعَهُ, أَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَامَ مَعَ النَّاسِ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ الَّتِي تَيَقَّنَتْ مِثْلَ هَذَا الْيَقِينِ. وَاَلَّتِي مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا مَا لاَ يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ إجْمَاعٌ. وَهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ مُؤْمِنَ فِي الأَرْضِ غَيْرُهُمْ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ غَيْرَ هَذَا هُوَ إجْمَاعٌ كُلِّفَ الْبُرْهَانَ عَلَى مَا يَدَّعِي, وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ.

(1/54)


وماصح فيه خلاف من واحد منهم أو لم يتيقن أن كل واحد منهم إلخ
...
97 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا صَحَّ فِيهِ خِلاَفٌ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, رضي الله عنهم, عَرَفَهُ وَدَانَ بِهِ فَلَيْسَ إجْمَاعًا, لإِنَّ مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ هَهُنَا فَقَدْ كَذَبَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ} .

(1/54)


98 - مَسْأَلَةٌ ولو جاز أن يتيقن إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ أَوَّلِهِمْ, عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى حُكْمِ نَصٍّ لاَ يُقْطَعُ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُتَيَقَّنَ إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ أَوَّلِهِمْ, عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى حُكْمِ نَصٍّ لاَ يُقْطَعُ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, لَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَحُجَّةٌ وَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ إجْمَاعًا.
أَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَحُجَّةٌ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَنْ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ". فَصَحَّ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ عَصْرٍ وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى خَطَإٍ, وَلاَ بُدَّ مِنْ قَائِلٍ بِالْحَقِّ فِيهِمْ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ إجْمَاعًا, فَلاَِنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, لَيْسَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا هُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ وَالإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لاَ إجْمَاعُ بَعْضِهِمْ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسَمَّى إجْمَاعًا مَا خَرَجَ, عَنِ

(1/54)


99 - مَسْأَلَةٌ: وَالْوَاجِبُ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ أَوْ نَازَعَ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ
مَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ إلَى شَيْءٍ غَيْرِهِمَا. وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَلاَ غَيْرِهِمْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِْ} فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ الرَّدُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, لإِنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى قَوْلِ إنْسَانٍ دُونَهُ عليه السلام فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ, لاَ سِيَّمَا مَعَ تَعْلِيقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ جَمِيعِهِمْ. وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ, رضي الله عنهم, كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَعُمَّالُهُمْ بِالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَسَائِرِ الْبِلاَدِ وَعُمَّالُ عُمَرَ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا, رضي الله عنهم, طَوَوْا عِلْمَ الْوَاجِبِ وَالْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ, عَنْ سَائِرِ الأَمْصَارِ وَاخْتَصُّوا بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ, فَهَذِهِ صِفَةُ سُوءٍ قَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا, وَقَدْ عَمِلَ مُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ التَّكْبِيرِ مِنْ الصَّلاَةِ وَبِتَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ فِي الْعِيدَيْنِ, حَتَّى فَشَا ذَلِكَ فِي الأَرْضِ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(1/55)


ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا برأي
...
100 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ, وَلاَ بِالرَّأْيِ لإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَحَّ, فَمَنْ رَدَّ إلَى قِيَاسٍ وَإِلَى تَعْلِيلٍ يَدَّعِيه أَوْ إلَى رَأْيٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَلَّقَ بِالإِيمَانِ وَرَدَّ إلَى غَيْرِ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إلَيْهِ, وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. قَالَ عَلِيٌّ: وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . وقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إبْطَالٌ لِلْقِيَاسِ وَلِلرَّأْيِ ; لاَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا مَا دَامَ يُوجَدُ نَصٌّ, وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ شَيْئًا, وَأَنَّ رَسُولَهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ, وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ فَصَحَّ أَنَّ النَّصَّ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ الدِّينِ, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ حَاجَةَ بِأَحَدٍ إلَى قِيَاسٍ, وَلاَ إلَى رَأْيِهِ, وَلاَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.
وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ: هَلْ كُلُّ قِيَاسٍ قَاسَهُ قَائِسٌ حَقٌّ, أَمْ مِنْهُ حَقٌّ وَمِنْهُ بَاطِلٌ فَإِنْ قَالَ كُلُّ قِيَاسٍ حَقٌّ أَحَالَ, لإِنَّ الْمَقَايِيسَ تَتَعَارَضُ وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَقًّا مَعًا, وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ, وَلاَ تَخْصِيصٍ, كَالأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا, وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَإِنْ قَالَ مِنْهَا حَقٌّ وَمِنْهَا بَاطِلٌ, قِيلَ لَهُ فَعَرِّفْنَا بِمَاذَا تَعْرِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ أَبَدًا, وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ الصَّحِيحِ مِنْ الْقِيَاسِ مِنْ الْبَاطِلِ مِنْهُ, فَقَدْ بَطَلَ كُلُّهُ وَصَارَ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَأَلُوا أَيْنَ وَجَدُوا ذَلِكَ, فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} قِيلَ لَهُمْ: إنَّ الاِعْتِبَارَ لَيْسَ هُوَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ إلاَّ التَّعَجُّبَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أيْ لَعَجَبًا
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ

(1/56)


فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} أَيْ عَجَبٌ, وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الاِعْتِبَارِ الْقِيَاسَ, وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا قِيسُوا, ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُ لَنَا مَاذَا نَقِيسُ, وَلاَ كَيْفَ نَقِيسُ, وَلاَ عَلَى مَاذَا نَقِيسُ. هَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْ الدِّينِ إلاَّ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إيَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} . فَإِنْ ذَكَرُوا أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ فِيهَا تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ, وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى وَحَكَمَ بِأَمْرِ كَذَا مِنْ أَجْلِ أَمْرِ كَذَا, قلنا لَهُمْ: كُلُّ مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهُ, وَهُوَ نَصٌّ بِهِ نَقُولُ: وَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ فِي الدِّينِ وَأَنْ تُعَلِّلُوهُ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ رَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام فَهُوَ بَاطِلٌ, وَلاَ بُدَّ وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَهَذَا يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ تَهْوِيلَهُمْ بِذِكْرِ آيَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَ "أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ" {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ} . وَكُلُّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ مَوَّهُوا بِإِيرَادِهِ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ الإِحْكَامِ لاُِصُولِ الأَحْكَامِ وَفِي كِتَابِ النُّكَتِ وَفِي كِتَابِ الدُّرَّةِ وَفِي كِتَابِ النُّبْذَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ عَارَضْنَاهُمْ فِي كُلِّ قِيَاسٍ قَاسُوهُ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ وَأَوْضَحَ مِنْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ لِنُرِيَهُمْ فَسَادَ الْقِيَاسِ جُمْلَةً, فَمَوَّهَ مِنْهُمْ مُمَوِّهُونَ بِأَنْ قَالُوا: أَنْتُمْ دَأَبًا تُبْطِلُونَ الْقِيَاسَ بِالْقِيَاسِ, وَهَذَا مِنْكُمْ رُجُوعٌ إلَى الْقِيَاسِ وَاحْتِجَاجٌ بِهِ, وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَجِّ عَلَى غَيْرِهِ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ لِيُبْطِلَ حُجَّةَ الْعَقْلِ وَبِدَلِيلٍ مِنْ النَّظَرِ لِيُبْطِلَ بِهِ النَّظَرَ قَالَ عَلِيٌّ: َقُلْنَا هَذَا شَغَبٌ سَهْلٌ إفْسَادُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ, وَنَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا, لَكِنْ أَرَيْنَاكُمْ أَنَّ أَصْلَكُمْ الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ يَشْهَدُ بِفَسَادِ جَمِيعِ قِيَاسَاتِكُمْ. وَلاَ قَوْلَ أَظْهَرُ بَاطِلاً مِنْ قَوْلٍ أَكْذَبَ نَفْسَهُ. وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى هَذَا. فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فَلَيْسَ هَذَا تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِمْ إنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَلَكِنْ إلْزَامٌ لَهُمْ مَا يَفْسُدُ بِهِ قَوْلُهُمْ وَلَسْنَا فِي ذَلِكَ كَمَنْ ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي إبْطَالِ حُجَّةِ الْعَقْلِ

(1/57)


بِحُجَّةِ الْعَقْلِ. لَكِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُصَحِّحٌ لِقَضِيَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَلاَ حُجَّةَ لَهُ غَيْرُهَا فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلاَنُ قَوْلِهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَحْتَجَّ قَطُّ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ نُصَحِّحُهُ. لَكِنْ نُبْطِلُ الْقِيَاسَ بِالنُّصُوصِ وَبِبَرَاهِينِ الْعَقْلِ. ثُمَّ نَزِيدُ بَيَانًا فِي فَسَادِهِ مِنْهُ نَفْسِهِ بِأَنْ نُرِيَ تَنَاقُضَهُ جُمْلَةً فَقَطْ وَالْقِيَاسَ الَّذِي نُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَكُمْ. نَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِهِ وَفَسَادِ قِيَاسِكُمْ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ. كَمَا نَحْتَجُّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَقَالَةٍ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَرَافِضَةٍ وَمُرْجِئَةٍ وَخَوَارِج وَيَهُودٍ وَنَصَارَى وَدَهْرِيَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَشْهَدُونَ بِصِحَّتِهَا. فَنُرِيهِمْ تَفَاسُدَهَا وَتَنَاقُضَهَا. وَأَنْتُمْ تَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ مَعَنَا بِذَلِكَ. وَلَسْنَا نَحْنُ, وَلاَ أَنْتُمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِتِلْكَ الأَقْوَالِ الَّتِي نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَا, بَلْ هِيَ عِنْدَنَا فِي غَايَةِ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَاد. وَكَاحْتِجَاجِنَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ كُتُبِهِمْ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ. وَنَحْنُ لاَ نُصَحِّحُهَا. بَلْ نَقُولُ إنَّهَا لَمُحَرَّفَةٌ مُبَدَّلَةٌ. لَكِنْ لِنُرِيَهُمْ تَنَاقُضَ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ. لاَ سِيَّمَا وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ مُخْتَلِفُونَ فِي قِيَاسَاتِهِمْ. لاَ تَكَادُ تُوجَدُ - مَسْأَلَةٌ إلاَّ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَأْتِي بِقِيَاسٍ تَدَّعِي صِحَّتَهُ تُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَ الآُخْرَى. وَهُمْ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا, وَلاَ كُلُّ رَأْيٍ حَقًّا. فَقُلْنَا لَهُمْ: فَهَاتُوا حَدَّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالرَّأْيَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَتَمَيَّزَانِ بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَالرَّأْيِ الْفَاسِدِ. وَهَاتُوا حَدَّ الْعِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لاَ تَقِيسُونَ إلاَّ عَلَيْهَا مِنْ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ فَلَجْلَجُوا.
قال علي: وهذا مَكَانٌ إنْ زُمَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلَى جَوَابٍ يُفْهَمُ سَبِيلٌ أَبَدًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَإِنْ أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِنَصٍّ قلنا النَّصُّ حَقٌّ وَاَلَّذِي تُرِيدُونَ أَنْتُمْ إضَافَتَهُ إلَى النَّصِّ بِآرَائِكُمْ بَاطِلٌ وَفِي هَذَا خُولِفْتُمْ. وَهَكَذَا أَبَدًا. فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّ الصَّحَابَةَ, رضي الله عنهم, أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ قِيلَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ

(1/58)


أَجْمَعُوا عَلَى إبْطَالِهِ. بُرْهَانُ كَذِبِهِمْ أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ حَدِيثٍ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, أَنَّهُ أَطْلَقَ الأَمْرَ بِالْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ أَبَدًا إلاَّ فِي الرِّسَالَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنَّ فِيهَا: وَاعْرِفْ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ وَقِسْ الآُمُورَ وَهَذِهِ رِسَالَةٌ لَمْ يَرْوِهَا إلاَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ, عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَاقِطٌ بِلاَ خِلاَفٍ وَأَبُوهُ أَسَقْطُ مِنْهُ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ فِي السُّقُوطِ, فَكَيْفَ وَفِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ

(1/59)


نَفْسِهَا أَشْيَاءُ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ رضي الله عنه وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِيهَا: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلاَّ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ نَسَبٍ. وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا يَعْنِي جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ حَنَفِيَّهُمْ وَشَافِعِيَّهُمْ وَمَالِكِيَّهُمْ, وَإِنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً, فَقَوْلُهُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ كُلُّهُمْ إلاَّ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حُجَّةً, فَلَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً, لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ وَلَمْ يَصِحَّ.
وَأَمَّا بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, عَلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَفِيهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَفِيهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ, رضي الله

(1/60)


عنهم, يَعْلَمُونَ هَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ, ثُمَّ يَرُدُّونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ. هَذَا مَا لاَ يَظُنُّهُ بِهِمْ ذُو عَقْلٍ, فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ, عَنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه, أَنَّهُ قَالَ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إنْ قُلْتَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي أَوْ بِمَا لاَ أَعْلَمُ, وَصَحَّ, عَنِ الْفَارُوقِ رضي الله عنه, أَنَّهُ قَالَ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ وَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ, وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه فِي فُتْيَا أَفْتَى بِهَا إنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: سَأَقُولُ فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي, فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ, وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ: يُبْتَدَعُ كَلاَمًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ

(1/61)


عَزَّ وَجَلَّ, وَلاَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلاَلَةٌ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كُلُّ رَأْيٍ رُوِيَ, عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, لاَ عَلَى أَنَّهُ إلْزَامٌ, وَلاَ أَنَّهُ حَقٌّ, لَكِنَّهُ إشَارَةٌ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ تَوَرُّعٍ فَقَطْ لاَ عَلَى سَبِيلِ الإِيجَابِ. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي فِيهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي, وَلاَ آلُو, لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلاَّ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ نَدْرِي مَنْ هُوَ, عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ, عَنْ مُعَاذٍ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ كُلَّهَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
حدثنا أحمد بن قاسم حَدَّثَنَا أَبُو قَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ, عَنْ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الآُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلاَلَ" . قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إمَّا

(1/62)


فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ. وَأَمَّا حَرَامٌ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ وَأَمَّا مُبَاحٌ لاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ, وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ. وَهَذَا الْمُبَاحُ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ إمَّا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ, وَلاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ. وَأَمَّا مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ مَنْ تَرَكَهُ, وَلاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ. وَأَمَّا مُطْلَقٌ لاَ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ, وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ, وَلاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ, وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَلاَلٌ إلاَّ مَا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ.
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بْنُ فَتْحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى

(1/63)


حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا, فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلاَثًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ, ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ, عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الدِّينِ, أَوَّلِهَا, عَنْ آخِرِهَا, فَفِيهِ أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ, وَلاَ نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ حَرَامًا, وَلاَ فَرْضًا, وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ, وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ, وَأَنَّ مَا أَمَرَنَا بِهِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ مَا نَسْتَطِيعُ فَقَطْ, وَأَنْ نَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً تُؤَدِّي مَا أَلْزَمَنَا, وَلاَ يَلْزَمُنَا تَكْرَارُهُ, فَأَيُّ حَاجَةٍ بِأَحَدٍ إلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ, وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ.
فإن قال قائل: لاَ يَجُوزُ إبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ إلاَّ حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ الْقَوْلِ بِهِ

(1/64)


نَصًّا فِي الْقُرْآنِ. قلنا لَهُمْ: قَدْ أَوْجَدْنَا لَكُمْ الْبُرْهَانَ نَصًّا بِذَلِكَ وَبِأَنْ لاَ يَرِدَ التَّنَازُعُ إلاَّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ, وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ, وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وَالْقِيَاسُ ضَرْبُ أَمْثَالٍ فِي الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إنْ عَارَضَكُمْ الرَّوَافِضُ بِمِثْلِ هَذَا فَقَالُوا لَكُمْ: لاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِ الإِلْهَامِ, وَلاَ بِإِبْطَالِ اتِّبَاعِ الإِمَامِ إلاَّ حَتَّى تُوجِدُوا لَنَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ نَصًّا, أَوْ قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَقَالَةٍ فِي تَقْلِيدِ كُلِّ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ. بِمَاذَا تَنْفَصِلُونَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ أَوْ أَوْجَبَ إلاَّ بِنَصٍّ فَقَطْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/65)


وأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست فرضا
...
101 - مَسْأَلَةٌ: وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ فَرْضًا
إلاَّ مَا كَانَ مِنْهَا بَيَانًا لاَِمْرٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَمْرٌ, لَكِنَّ الاِئْتِسَاءَ بِهِ عليه السلام فِيهَا حَسَنٌ. وَبُرْهَانُ ذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُنَا شَيْءٌ إلاَّ مَا أَمَرَنَا بِهِ أَوْ نَهَانَا عَنْهُ, وَأَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَعَفْوٌ سَاقِطٌ عَنَّا,وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

(1/65)


ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
...
102 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لَنَا اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ, عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ, وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا, فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ, وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ, وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً" فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ عليهم السلام لَمْ يُبْعَثْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلاَّ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً, فَقَدْ صَحَّ أَنَّ شَرَائِعَهُمْ لَمْ تَلْزَمْ إلاَّ مَنْ بُعِثُوا إلَيْهِ فَقَطْ, وَإِذَا لَمْ يُبْعَثُوا إلَيْنَا فَلَمْ يُخَاطِبُونَا قَطُّ بِشَيْءٍ, وَلاَ أَمَرُونَا, وَلاَ نَهَوْنَا وَلَوْ أَمَرُونَا وَنَهَوْنَا وَخَاطَبُونَا لَمَا كَانَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَضِيلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَبْطَلَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا, فَإِذَا قَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ عليهم السلام لَمْ يُخَاطِبُونَا بِشَيْءٍ, فَقَدْ صَحَّ يَقِينًا أَنَّ شَرَائِعَهُمْ لاَ تَلْزَمُنَا أَصْلاً, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/65)


103 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا, لاَ حَيًّا, وَلاَ مَيِّتًا
وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الاِجْتِهَادِ حَسَبَ طَاقَتِهِ, فَمَنْ سَأَلَ, عَنْ دِينِهِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ مَعْرِفَةَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الدِّينِ, فَفُرِضَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَجْهَلَ الْبَرِيَّةِ أَنْ يَسْأَلَ, عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ مَوْضِعِهِ بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَإِذَا دُلَّ عَلَيْهِ سَأَلَهُ, فَإِذَا أَفْتَاهُ قَالَ لَهُ هَكَذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ فَإِنْ قَالَ لَهُ نَعَمْ أَخَذَ بِذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ أَبَدًا, وَإِنْ قَالَ لَهُ هَذَا رَأْيِي, أَوْ هَذَا قِيَاسٌ, أَوْ هَذَا قَوْلُ فُلاَنٍ, وَذَكَرَ لَهُ صَاحِبًا أَوْ تَابِعًا أَوْ فَقِيهًا قَدِيمًا أَوْ حَدِيثًا, أَوْ سَكَتَ أَوْ انْتَهَرَهُ أَوْ قَالَ لَهُ لاَ أَدْرِي, فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ, وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ غَيْرَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فَلَمْ يَأْمُرْنَا عَزَّ وَجَلَّ قَطُّ بِطَاعَةِ بَعْضِ أُولِي الأَمْرِ, فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا أَوْ جَمَاعَةَ عُلَمَاءَ فَلَمْ يُطِعْ اللَّهَ تَعَالَى, وَلاَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم, وَلاَ أُولِي الأَمْرِ, وَإِذَا لَمْ يَرُدَّ إلَى مَنْ ذَكَرْنَا فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَطُّ بِطَاعَةِ بَعْضِ أُولِي الأَمْرِ دُونَ بَعْضٍ.

(1/66)


وإذا قيل له إذا سأل عن أعلم أهل بلده بالدين
...
No pages

(1/)


105 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ حُكْمَ لِلْخَطَإِ, وَلاَ النِّسْيَانِ إلاَّ حَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ لَهُمَا حُكْمٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .

(1/68)


وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان فإن قدر لزمه
...
106 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ فَرْضٍ كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ, فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ,
وَإِنْ عَجَزَ, عَنْ جَمِيعِهِ سَقَطَ عَنْهُ, وَإِنْ قَوِيَ عَلَى بَعْضِهِ وَعَجَزَ, عَنْ بَعْضِهِ سَقَطَ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَزِمَهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ, سَوَاءٌ أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/68)


107 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ الدِّينِ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ قَبْلَ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ مِنْ وَقْتِهِ وَالآخَرُ مِنْ وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ قَبْلَ وَقْتِهِ, وَلاَ بَعْدَ وَقْتِهِ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه} وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} وَالأَوْقَاتُ حُدُودٌ, فَمَنْ تَعَدَّى بِالْعَمَلِ وَقْتَهُ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ, فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ.
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بْنُ فَتْحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ, هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ, عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ, عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: سَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" .
قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً فِي وَقْتٍ سَمَّاهُ لَهُ فَعَمِلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إمَّا قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَمَّا بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ, وَهُوَ غَيْرُ الْعَمَلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ, فَإِنْ جَاءَ نَصٌّ بِأَنَّهُ يُجْزِئُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَهُوَ وَقْتُهُ أَيْضًا حِينَئِذٍ, وَإِنَّمَا الَّذِي لاَ يَكُونُ وَقْتًا لِلْعَمَلِ فَهُوَ مَا لاَ نَصَّ فِيهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/69)


والمجتهمد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب
...
108 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْمُقَلِّدِ الْمُصِيبِ . هَذَا فِي أَهْلِ الإِسْلاَمِ خَاصَّةً, وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَلاَ عُذْرَ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ, وَلاَ لِلْمُقَلِّدِ, وَكِلاَهُمَا هَالِكٌ.
بُرْهَانُ هَذَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بِإِسْنَادِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَذَمَّ اللَّهُ التَّقْلِيدَ جُمْلَةً, فَالْمُقَلِّدُ عَاصٍ وَالْمُجْتَهِدُ مَأْجُورٌ وَلَيْسَ مَنْ اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَلِّدًا لاَِنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَإِنَّمَا الْمُقَلِّدُ مَنْ اتَّبَعَ مَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَِنَّهُ فَعَلَ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} .

(1/69)


109 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَقُّ مِنْ الأَقْوَالِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَسَائِرُهَا خَطَأٌ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} وَذَمَّ اللَّهُ الاِخْتِلاَفَ فَقَالَ:, {وَلاَ تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وَقَالَ: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} وَقَالَ: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } . فَصَحَّ أَنَّ الْحَقَّ فِي الأَقْوَالِ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ, وَهُوَ وَاحِدٌ لاَ يَخْتَلِفُ, وَأَنَّ الْخَطَأَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الأَقْوَالَ كُلَّهَا حَقٌّ, وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ, فَقَدْ قَالَ قَوْلاً لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ مَعْقُولٌ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ, وَيُبْطِلُهُ أَيْضًا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" فَنَصَّ عليه الصلاة والسلام أَنَّ الْمُجْتَهِدَ قَدْ يُخْطِئُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ النَّاسَ لَمْ يُكَلَّفُوا إلاَّ اجْتِهَادَهُمْ فَقَدْ أَخْطَأَ, بَلْ مَا كُلِّفُوا إلاَّ إصَابَةَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فَافْتَرَضَ عَزَّ وَجَلَّ اتِّبَاعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأَنْ لاَ نَتَّبِعَ غَيْرَهُ وَأَنْ لاَ نَتَعَدَّى حُدُودَهُ, وَإِنَّمَا أُجِرَ الْمُجْتَهِدُ الْمُخْطِئُ أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى نِيَّتِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَقَطْ, وَلَمْ يَأْثَمْ إذَا حُرِمَ الإِصَابَةَ, فَلَوْ أَصَابَ الْحَقَّ أُجِرَ أَجْرًا آخَرَ كَمَا قَالَ عليه السلام: "أَنَّهُ إذَا أَصَابَ أُجِرَ أَجْرًا ثَانِيًا".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ, عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ, عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" .وَلاَ يَحِلُّ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ أَصْلاً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/70)


كتاب الطهارة
مسائل في الوضوء
الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء
...
كِتَابُ الطَّهَارَةِ
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
110 - مَسْأَلَةٌ: الْوُضُوءُ لِلصَّلاَةِ فَرْضٌ لاَ تُجْزِئُ الصَّلاَةُ إلاَّ بِهِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ. هَذَا إجْمَاعٌ لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ, وَأَصْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَاقُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ}.

(1/72)


111 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ إلاَّ بِنِيَّةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا لاَ يُجْزِئُ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخَرِ, وَلاَ صَلاَةٌ دُونَ صَلاَةٍ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ الآيَةُ الْمَذْكُورَةُ. لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِالْوُضُوءِ إلاَّ لِلصَّلاَةِ عَلَى عُمُومِهَا, لَمْ يَخُصَّ تَعَالَى صَلاَةً مِنْ صَلاَةٍ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا, وَلاَ يُجْزِئُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
وقال أبو حنيفة: يُجْزِئُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِلاَ نِيَّةٍ وَبِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ. كَانَ حُجَّتَهُمْ أَنْ قَالُوا: إنَّمَا أُمِرَ بِغَسْلِ جِسْمِهِ أَوْ هَذِهِ الأَعْضَاءِ فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ, وَقَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ بِلاَ نِيَّةٍ, وَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِنِيَّةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ يُجْزِئُ كُلُّ ذَلِكَ بِلاَ نِيَّةٍ, وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي بِئْرٍ لِيُخْرِجَ دَلْوًا مِنْهَا لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجْزِيهِ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِغَسْلِ جِسْمِهِ أَوْ هَذِهِ الأَعْضَاءِ وَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ, فَكَذَّبَ بَلْ مَا أُمِرَ إلاَّ بِغَسْلِهَا بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَنَفَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُونَ أَمَرَنَا بِشَيْءٍ إلاَّ بِعِبَادَتِهِ مُفْرَدِينَ لَهُ نِيَّاتِنَا بِدِينِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِهِ فَعَمَّ بِهَذَا جَمِيعَ أَعْمَالِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ, حدثنا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوِيُّ, حدثنا الْفَرَبْرِيٌّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا الْحُمَيْدِيُّ, حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ, سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَهَذَا أَيْضًا عُمُومٌ لِكُلِّ عَمَلٍ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ بَعْضُ الأَعْمَالِ دُونَ بَعْضٍ بِالدَّعْوَى.

(1/73)


وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ ذَلِكَ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَبَاطِلٌ لاَِنَّهُ قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ قِيَاسُكُمْ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِأَوْلَى مِنْ قِيَاسِكُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ وُضُوءٌ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ أَيْضًا, وَكَمَا قِسْتُمْ التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ وَهُوَ بُلُوغُ الْمَسْحِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلاَّ بِنِيَّةٍ, لإِنَّ كِلَيْهِمَا طُهْرٌ لِلصَّلاَةِ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ قلنا نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا} فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ ذَلِكَ الْغُسْلُ إلاَّ لِلصَّلاَةِ بِنَصِّ الآيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ دَعْوَاهُمْ أَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَةِ يُجْزِئُ بِلاَ نِيَّةٍ بَاطِلٌ لَيْسَ كَمَا قَالُوا, بَلْ كُلُّ تَطْهِيرٍ لِنَجَاسَةٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى صِفَةٍ مَا فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِنِيَّةٍ وَعَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ قَبْلُ, وَكُلُّ نَجَاسَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ بِصِفَةٍ مَا فَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا بِغَيْرِ نَجَاسَةٍ فِي أَجْسَامِهِمْ, وَلاَ فِي ثِيَابِهِمْ, وَلاَ فِي مَوْضِعِ صَلاَتِهِمْ, فَإِذَا صَلَّوْا كَذَلِكَ فَقَدْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ, فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ وَعِظَمُ تَنَاقُضِهِمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَعْمَالِ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَاخْتِلاَفُهُمْ فِي الْجُنُبِ يَنْغَمِسُ فِي الْبِئْرِ كَمَا ذَكَرْنَا بِلاَ دَلِيلٍ.
وقال بعضهم: لَوْ احْتَاجَ الْوُضُوءُ إلَى نِيَّةٍ لاَحْتَاجَتْ النِّيَّةُ إلَى نِيَّةٍ وَهَكَذَا أَبَدًا, قلنا لَهُمْ: هَذَا لاَزِمٌ لَكُمْ فِيمَا أَوْجَبْتُمْ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّيَمُّمِ وَلِلصَّلاَةِ وَهَذَا مُحَالٌ, لإِنَّ النِّيَّةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا لِنَفْسِهَا, لاَِنَّهَا الْقَصْدُ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ فَقَطْ, وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ قَوْلُهُ بِالآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ.
وقولنا في هذا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/74)


112 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ, وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ, لاَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ, وَلاَ التَّيَمُّمُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلاَةِ, وَقَالَ آخَرُونَ: يُجْزِئُ الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ, وَلاَ يُجْزِئُ التَّيَمُّمُ إلاَّ بَعْدَ الْوَقْتِ, وَقَالَ آخَرُونَ: الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ يَجْزِيَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى كُلَّ ذَلِكَ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَافِيَةٌ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: إذَا قُمْتُمْ إلَى صَلاَةِ فَرْضٍ, وَلاَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ صَلاَةِ فَرْضٍ فَقُمْتُمْ إلَيْهَا, بَلْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاَةِ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ, وَالصَّلاَةُ تَكُونُ فَرْضًا وَتَكُونُ تَطَوُّعًا بِلاَ خِلاَفٍ, وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الأَرْضِ قَاطِبَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّطَوُّعِ لاَ تُجْزِئُ إلاَّ بِطَهَارَةٍ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ أَوْ غُسْلٍ, وَلاَ بُدَّ, فَوَجَبَ بِنَصِّ الآيَةِ ضَرُورَةُ أَنَّ الْمَرْءَ إذَا أَرَادَ صَلاَةَ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ وَقَامَ إلَيْهَا أَنْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْتَسِلَ إنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ يَتَيَمَّمَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ لِيُصَلِّ, فَإِنَّ ذَلِكَ نَصُّ الآيَةِ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَتَمَّ الْمَرْءُ غُسْلَهُ أَوْ وُضُوءَهُ أَوْ تَيَمُّمَهُ فَقَدْ طَهُرَ بِلاَ شَكٍّ. وَإِذْ قَدْ صَحَّتْ طَهَارَتُهُ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ طَهَارَتِهِ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الَّتِي قَامَ إلَيْهَا مُهْلَةً مِنْ مَشْيٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ. لإِنَّ الآيَةَ لَمْ تُوجِبْ اتِّصَالَ الصَّلاَةِ بِالطَّهَارَةِ لاَ بِنَصِّهَا, وَلاَ بِدَلِيلٍ فِيهَا. وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَهَارَتِهِ وَبَيْنَ صَلاَتِهِ مُهْلَةٌ فَجَائِزٌ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُهْلَةُ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَمَادِيهَا قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ. وَذَلِكَ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَوْقَاتِ الْفَرْضِ. وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَمَا شَاءَ.
فَصَحَّ بِنَصِّ الآيَةِ جَوَازُ التَّطَهُّرِ بِالْغُسْلِ وَبِالْوُضُوءِ وَبِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ وَقْتِ صَلاَةِ الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا وَجَبَ بِنَصِّ الآيَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ بِنِيَّةِ التَّطَهُّرِ لِلصَّلاَةِ فَقَطْ, وَلاَ مَزِيدَ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الصَّلاَةَ جَائِزَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا, فَإِذَا ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إلاَّ وَقَدْ صَحَّتْ الطَّهَارَةُ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ, وَهَذَا يُنْتِجُ, وَلاَ بُدَّ جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِكُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ.

(1/75)


بُرْهَانٌ آخَرُ, وَهُوَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, عَنْ مَالِكٍ, عَنْ سُمَيٍّ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَرَاحَ فَكَأَنَّمَا قَدَّمَ بَدَنَةً. وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً, فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْر"َ. فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ وَالتَّيَمُّمِ لَهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا, لإِنَّ الإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لاَ بُدَّ ضَرُورَةً مِنْ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ, وَأَيُّ الأَمْرَيْنِ كَانَ فَتَطَهُّرُ هَذَا الرَّائِحِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فِي الرَّائِحِينَ إلَى الْجُمُعَةِ الْمُتَيَمِّمَ فِي السَّفَرِ وَالْمُتَوَضِّئَ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ جَوَازِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَجَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَمَنَعَ مِنْهُ, فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ حُكْمَ الآيَةِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْتِ, وَادَّعَوْا أَنَّ الْوُضُوءَ خَرَجَ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ, وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلاَةِ, وَلَعَلَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَقِيَ يُصَلِّي بِطَهَارَتِهِ مَا لَمْ تُنْتَقَضْ, فَإِذَا هَذَا مُمْكِنٌ فَلاَ دَلِيلَ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/76)


فإن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجز ئه الصلاة بذلك الوضوء
...
113 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ خَلَطَ بِنِيَّةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ نِيَّةً لِتَبَرُّدٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} فَمَنْ مَزَجَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا نِيَّةً لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا, فَلَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ تَعَالَى الْعِبَادَةَ بِدِينِهِ ذَلِكَ, وَإِذَا لَمْ يُخْلِصْ فَلَمْ يَأْتِ بِالْوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, فَلَوْ نَوَى مَعَ وُضُوئِهِ لِلصَّلاَةِ أَنْ يُعَلِّمَ الْوُضُوءَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ أَجْزَأَتْهُ الصَّلاَةُ بِهِ, لإِنَّ تَعْلِيمَ النَّاسِ الدِّينَ مَأْمُورٌ بِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/76)


ولا تجزء النية في ذلك ولا في غيره من الأ‘عمال
...
114 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ, وَلاَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الأَعْمَالِ إلاَّ قَبْلَ الاِبْتِدَاءِ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِأَيِّ عَمَلٍ كَانَ مُتَّصِلَةً بِالاِبْتِدَاءِ بِهِ لاَ يَحُولُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ قَلَّ أَمْ كَثُرَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ لَمَّا صَحَّ أَنَّهَا فَرْضٌ فِي الْعَمَلِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ لاَ يَخْلُو مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَمَلِ, وَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَمَا ذَكَرْنَا فَهِيَ إمَّا أَنْ يَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَمَلِ زَمَانٌ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ بِلاَ نِيَّةٍ, وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ دَقِيقَةٌ لَجَازَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا دَقِيقَتَانِ وَثَلاَثٌ وَأَرْبَعٌ, وَمَا زَادَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الأَمْرُ إلَى عَشَرَاتِ أَعْوَامٍ, وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلنِّيَّةِ فَيَكُونُ أَوَّلُ الْعَمَلِ خَالِيًا مِنْ نِيَّةٍ دَخَلَ فِيهِ بِهَا, لإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْقَصْدُ بِالْعَمَلِ وَالإِرَادَةُ بِهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ, وَهَذَا لاَ يَكُونُ إلاَّ مُعْتَقَدًا قَبْلَ الْعَمَلِ وَمَعَهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/77)


ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الضوء للصلاة
...
115 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ غَمَسَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فِي الْمَاءِ وَنَوَى بِهِ الْوُضُوءَ لِلصَّلاَةِ أَوْ وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى عَمَّهَا الْمَاءُ وَنَوَى بِذَلِكَ الْوُضُوءَ لِلصَّلاَةِ, أَوْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ, أَوْ صَبَّ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ غَيْرُهُ وَنَوَى هُوَ بِذَلِكَ الْوُضُوءَ لِلصَّلاَةِ أَجْزَأَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ اسْمَ " غُسْلٌ " يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ, وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْمَ الْغُسْلِ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى التَّدَلُّكِ بِالْيَدِ فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وَقَوْلُنَا هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُد. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/77)


116 - مَسْأَلَةٌ: وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودُ فِيهِ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزٌ, كُلُّ ذَلِكَ بِوُضُوءٍ وَبِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالسُّجُودَ فِيهِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْعَالُ خَيْرٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا مَأْجُورٌ فَاعِلُهَا, فَمَنْ ادَّعَى الْمَنْعَ فِيهَا فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ كُلِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ. فأما قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي هَذَا لِمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ, وَاخْتَلَفُوا فِي الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تَقْرَأُ الْحَائِضُ, وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ, وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما وَعَنْ غَيْرِهِمَا رُوِيَ أَيْضًا كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَمَّا الْحَائِضُ فَتَقْرَأُ مَا شَاءَتْ مِنْ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْجُنُبُ فَيَقْرَأُ الآيَتَيْنِ وَنَحْوَهُمَا, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وقال بعضهم: لاَ يُتِمُّ الآيَةَ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
فأما مَنْ مَنَعَ الْجُنُبَ مِنْ قِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ, فَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَحْجِزُهُ, عَنِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةُ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ, عَنْ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ, وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام لاَ يُلْزِمُ, وَلاَ بَيَّنَ عليه السلام أَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ الْجَنَابَةِ. وَقَدْ يُتَّفَقُ لَهُ عليه السلام تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ الْجَنَابَةِ, وَهُوَ عليه السلام لَمْ يَصُمْ قَطُّ شَهْرًا كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَانَ, وَلَمْ يَزِدْ قَطُّ فِي قِيَامِهِ عَلَى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً, وَلاَ أَكَلَ قَطُّ عَلَى خِوَانٍ, وَلاَ أَكَلَ مُتَّكِئًا. أَفَيَحْرُمُ أَنْ يُصَامَ شَهْرٌ كَامِلٌ غَيْرُ رَمَضَانَ أَوْ أَنْ يَتَهَجَّدَ الْمَرْءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً, أَوْ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى خِوَانٍ, أَوْ أَنْ يَأْكُلَ مُتَّكِئًا هَذَا لاَ يَقُولُونَهُ, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ فِي نَهْيِ الْجُنُبِ وَمَنْ لَيْسَ عَلَى طُهْرٍ, عَنْ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ, وَلاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ, وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى مَنْ يُبِيحُ لَهُ قِرَاءَةَ الآيَةِ التَّامَّةِ أَوْ بَعْضَ الآيَةِ ; لاَِنَّهَا كُلَّهَا نَهْيٌ, عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يَقْرَأُ الْجُنُبُ الآيَةَ أَوْ نَحْوَهَا, أَوْ قَالَ لاَ يُتِمُّ الآيَةَ, أَوْ أَبَاحَ لِلْحَائِضِ وَمَنَعَ الْجُنُبَ فَأَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ ; لاَِنَّهَا دَعَاوَى لاَ يُعَضِّدُهَا دَلِيلٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ. وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ, لإِنَّ بَعْضَ الآيَةِ وَالآيَةَ قُرْآنٌ بِلاَ شَكٍّ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبَاحَ لَهُ آيَةٌ أَوْ أَنْ يُبَاحَ لَهُ أُخْرَى, أَوْ بَيْنَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ آيَةٍ أَوْ يُمْنَعَ مِنْ أُخْرَى, وَأَهْلُ هَذِهِ الأَقْوَالِ

(1/78)


يُشَنِّعُونَ مُخَالَفَةَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَهُنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. رضي الله عنهم .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ الآيَاتِ مَا هُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلُ {وَالضُّحَى} وَ {مُدْهَامَّتَانِ} وَ {وَالْعَصْرِ} وَ {وَالْفَجْرِ} وَمِنْهَا كَلِمَاتٌ كَثِيرَةٌ كَآيَةِ الدَّيْنِ, فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا. فَإِنَّ فِي إبَاحَتِهِمْ لَهُ قِرَاءَةَ آيَةِ الدَّيْنِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا أَوْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ أَوْ بَعْضَهَا, وَلاَ يُتِمُّهَا, وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ قِرَاءَةِ {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} أَوْ مَنْعِهِمْ لَهُ مِنْ إتْمَامِ {مُدْهَامَّتَانِ} لَعَجَبًا.
وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ بِأَنَّ أَمَدَ الْحَائِضِ يَطُولُ, فَهُوَ مُحَالٌ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهَا لِلْقُرْآنِ حَرَامًا فَلاَ يُبِيحُهُ لَهَا طُولُ أَمَدِهَا, وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَهَا حَلاَلاً فَلاَ مَعْنَى لِلاِحْتِجَاجِ بِطُولِ أَمَدِهَا.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ, عَنْ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ, عَنْ مُوسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ, حدثنا ابْنُ وَهْبٍ, عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ وبه إلى مُوسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ, حدثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ, حدثنا إدْرِيسُ, عَنْ حَمَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, عَنِ الْجُنُبِ هَلْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ: وَكَيْفَ لاَ يَقْرَؤُهُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ وبه إلى يُوسُفَ السَّمْتِيِّ, عَنْ نَصْرٍ الْبَاهِلِيِّ. قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ الْبَقَرَةَ وَهُوَ جُنُبٌ. أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ, حدثنا

(1/79)


قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا غُنْدَرٌ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, عَنِ الْجُنُبِ يَقْرَأُ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا وَقَالَ: أَلَيْسَ فِي جَوْفِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.
وَأَمَّا سُجُودُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ صَلاَةً أَصْلاً, لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنُ بْنُ مَهْدِيٍّ, وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالاَ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا الأَزْدِيَّ وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ ثِقَةٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, أَنَّهُ قَالَ: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام, أَنَّهُ قَالَ: الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" فَصَحَّ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً تَامَّةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ صَلاَةً. وَالسُّجُودُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَيْسَ رَكْعَةً, وَلاَ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ صَلاَةً, وَإِذْ لَيْسَ هُوَ صَلاَةً فَهُوَ جَائِزٌ بِلاَ وُضُوءٍ, وَلِلْجُنُبِ وَلِلْحَائِضِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَسَائِرِ الذِّكْرِ, وَلاَ فَرْقَ, إذْ لاَ يَلْزَمُ الْوُضُوءُ إلاَّ لِلصَّلاَةِ فَقَطْ, إذْ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِهِ لِغَيْرِ الصَّلاَةِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ.
فإن قيل: إنَّ السُّجُودَ مِنْ الصَّلاَةِ, وَبَعْضَ الصَّلاَةِ صَلاَةٌ. قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: هَذَا بَاطِلٌ ; لاَِنَّهُ لاَ يَكُونُ بَعْضُ الصَّلاَةِ صَلاَةً إلاَّ إذَا تَمَّتْ كَمَا أُمِرَ بِهَا الْمُصَلِّي, وَلَوْ أَنَّ امْرَأً كَبَّرَ وَرَكَعَ ثُمَّ قَطَعَ عَمْدًا لَمَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ إنَّهُ صَلَّى شَيْئًا, بَلْ يَقُولُونَ كُلُّهُمْ إنَّهُ لَمْ يُصَلِّ, فَلَوْ أَتَمَّهَا رَكْعَةً فِي الْوِتْرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ وَالسَّفَرِ وَالتَّطَوُّعِ لَكَانَ قَدْ صَلَّى بِلاَ خِلاَفٍ.
ثم نقول لَهُمْ: إنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ الصَّلاَةِ وَالتَّكْبِيرَ بَعْضُ الصَّلاَةِ وَقِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ بَعْضُ الصَّلاَةِ وَالْجُلُوسَ بَعْضُ الصَّلاَةِ, وَالسَّلاَمَ بَعْضُ الصَّلاَةِ, فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ لاَ تُجِيزُوا لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ, وَلاَ أَنْ يُكَبِّرَ, وَلاَ أَنْ يَقْرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ, وَلاَ يَجْلِسَ, وَلاَ يُسَلِّمَ إلاَّ عَلَى وُضُوءٍ, فَهَذَا مَا لاَ يَقُولُونَهُ, فَبَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/80)


فَإِنْ قَالُوا هَذَا إجْمَاعٌ, قلنا لَهُمْ: قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلاَنِ حُجَّتِكُمْ وَإِفْسَادِ عِلَّتِكُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَسُّ الْمُصْحَفِ فَإِنَّ الآثَارَ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مَنْ لَمْ يُجِزْ لِلْجُنُبِ مَسَّهُ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ ; لاَِنَّهَا إمَّا مُرْسَلَةٌ وَأَمَّا صَحِيفَةٌ لاَ تُسْنَدُ وَأَمَّا, عَنْ مَجْهُولٍ وَأَمَّا, عَنْ

(1/81)


ضَعِيفٍ, وَقَدْ تَقَصَّيْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُفَرِّجٍ, حدثنا سَعِيدُ بْنُ السَّكَنِ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ, حدثنا شُعَيْبٌ, عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ هِرَقْلَ فَدَعَا هِرَقْلُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ إلَى عَظِيمِ بُصْرَى, فَدَفَعَهُ إلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ, فَإِذَا

(1/82)


فِيهِ: " بسم الله الرحمن الرحيم, مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ, أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الأَرِيسِيِّينَ" وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ, وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا, وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَعَثَ كِتَابًا وَفِيهِ هَذِهِ الآيَةُ إلَى النَّصَارَى وَقَدْ أَيْقَنَ أَنَّهُمْ يَمَسُّونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا اللَّيْثُ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ يَخَافُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ" فَهَذَا حَقٌّ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ جُنُبٌ, وَلاَ كَافِرٌ. وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ لاَ يَنَالَ أَهْلُ أَرْضِ الْحَرْبِ الْقُرْآنَ فَقَطْ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى هِرَقْلَ آيَةً وَاحِدَةً. قِيلَ لَهُمْ: وَلَمْ يَمْنَعْ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِهَا وَأَنْتُمْ أَهْلُ قِيَاسٍ فَإِنْ لَمْ تَقِيسُوا عَلَى الآيَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا فَلاَ تَقِيسُوا عَلَى هَذِهِ الآيَةِ غَيْرَهَا.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} فَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لاَِنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى لاَ يَقُولُ إلاَّ حَقًّا. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ لَفْظُ الْخَبَرِ إلَى مَعْنَى الأَمْرِ إلاَّ بِنَصٍّ جَلِيٍّ أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ. فَلَمَّا رَأَيْنَا الْمُصْحَفَ يَمَسُّهُ الطَّاهِرُ وَغَيْرُ الطَّاهِرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْنِ الْمُصْحَفَ وَإِنَّمَا عَنَى كِتَابًا آخَرَ. كَمَا أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ, حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ: الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا

(1/83)


ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, حدثنا يَحْيَى بْنُ الْعَلاَءِ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أَتَيْنَا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ كَنِيفٍ لَهُ. فَقُلْنَا لَهُ: لَوْ تَوَضَّأْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأْتَ عَلَيْنَا سُورَةَ كَذَا فَقَالَ سَلْمَانُ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لاَ يَمَسُّهُ إلاَّ الْمَلاَئِكَةُ.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, حدثنا شُعْبَةُ, حدثنا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ: إنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مُصْحَفًا أَمَرَ نَصْرَانِيًّا فَنَسَخَهُ لَهُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الْجُنُبُ الْمُصْحَفَ بِعِلاَقَتِهِ, وَلاَ يَحْمِلُهُ بِغَيْرِ عِلاَقَةٍ. وَغَيْرُ الْمُتَوَضِّئِ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ. وقال مالك: لاَ يَحْمِلُ الْجُنُبُ, وَلاَ غَيْرُ الْمُتَوَضِّئِ الْمُصْحَفَ لاَ بِعِلاَقَةٍ, وَلاَ عَلَى وِسَادَةٍ. فَإِنْ كَانَ فِي خُرْجٍ أَوْ تَابُوتٍ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْجُنُبُ وَغَيْرُ الطَّاهِرِ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ تَفَارِيقُ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ. وَلَئِنْ كَانَ الْخُرْجُ حَاجِزًا بَيْنَ الْحَامِلِ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّ اللَّوْحَ وَظَهْرَ الْوَرَقَةِ حَاجِزٌ أَيْضًا بَيْنَ الْمَاسِّ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ, وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/84)


117 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الآذَانُ وَالإِقَامَةُ يُجْزِئَانِ أَيْضًا بِلاَ طَهَارَةٍ وَفِي حَالِ الْجَنَابَةِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وقال الشافعي: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَيُجْزِئُ إنْ وَقَعَ. وَقَالَ عَطَاءُ: لاَ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ إلاَّ مُتَوَضِّئًا. وقال مالك: يُؤَذِّنُ مَنْ لَيْسَ عَلَى وُضُوءٍ, وَلاَ يُقِيمُ إلاَّ مُتَوَضِّئٌ.
قال علي: هذا فَرْقٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, فَإِنْ قَالُوا إنَّ الإِقَامَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالصَّلاَةِ, قِيلَ لَهُمْ: وَقَدْ لاَ تَتَّصِلُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ مِنْ حَدِيثٍ بَدَأَ فِيهِ الإِمَامُ مَعَ إنْسَانٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ, وَقَدْ يَكُونُ الآذَانُ مُتَّصِلاً بِالإِقَامَةِ وَالصَّلاَةِ, كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا, وَلاَ فَرْقَ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِإِيجَابٍ أَنْ لاَ يَكُونَ الآذَانُ وَالإِقَامَةُ إلاَّ بِطَهَارَةٍ مِنْ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا, فَقَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ خَطَأٌ, لاَِنَّهُ إحْدَاثُ شَرْعٍ مِنْ غَيْرِ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ وَهَذَا بَاطِلٌ. فإن قيل: قَدْ صَحَّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, أَنَّهُ قَالَ: "كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلاَّ عَلَى طُهْرٍ" قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ كَرَاهَةٌ لاَ مَنْعٌ, وَهُوَ عَلَيْكُمْ لاَ لَكُمْ لاَِنَّكُمْ تُجِيزُونَ الآذَانَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ فِي الْخَبَرِ وَأَنْتُمْ لاَ تَكْرَهُونَهُ أَصْلاً, فَهَذَا الْخَبَرُ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ, وَأَمَّا نَحْنُ فَهُوَ قَوْلُنَا, وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى طَهَارَةٍ أَفْضَلُ, وَلاَ نَكْرَهُهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ, لإِنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ مَنْسُوخَةٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(1/85)


118 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْجُنُبِ إذَا أَرَادَ الأَكْلَ أَوْ النَّوْمَ
وَلِرَدِّ السَّلاَمِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ.
فإن قيل: فَهَلاَّ أَوْجَبْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلاَّ عَلَى طُهْر" ٍ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إذْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ" وَلِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ" .
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فِي كَرَاهَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلاَّ عَلَى طُهْرٍ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا صَدَقَةٌ, حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ, حدثنا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ, حدثنا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ, وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ, وَلاَ حَوْلَ, وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاَللَّهِ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي, أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ, فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُه"

قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ إبَاحَةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الاِنْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْوُضُوءِ نَصًّا, وَهِيَ فَضِيلَةٌ, وَالْفَضَائِلُ لاَ تُنْسَخُ لاَِنَّهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وَهَذَا أَمْرٌ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فَهَذَا عُمُومُ ضَمَانٍ لاَ يَخِيسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وَقَدْ أَيْقَنَّا بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ إخْبَارِهِ عليه السلام, أَنَّهُ قَالَ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ" أَنَّ جَمِيعَ

(1/86)


الآُمَّةِ لاَ تُغَيِّرُ أَصْلاً. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الآُمَّةَ كُلَّهَا لاَ تُغَيِّرُ أَبَدًا, فَقَدْ أَيْقَنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُغَيِّرُ نِعَمَهُ عِنْدَ الآُمَّةِ أَبَدًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا أَمْرُهُ عليه السلام بِالْوُضُوءِ فَهُوَ نَدْبٌ, لِمَا حَدَّثَنَاهُ حَمَامٌ قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ مُفَرِّجٍ قَالَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ قَالَ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ جُنُبًا, وَلاَ يَمَسُّ مَاءً" وَهَذَا لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ وَهِيَ, رضي الله عنها, أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِمَبِيتِهِ وَنَوْمِهِ جُنُبًا وَطَاهِرًا.
فإن قيل: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْطَأَ فِيهِ سُفْيَانُ ; لإِنَّ زُهَيْرَ بْنَ مُعَاوِيَةَ خَالَفَهُ فِيهِ قلنا: بَلْ أَخْطَأَ بِلاَ شَكٍّ مِنْ خَطَأِ سُفْيَانَ بِالدَّعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ, وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنْ زُهَيْرٍ بِلاَ شَكٍّ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانَ اللاَّزِمُ لِلْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا: لَمَّا كَانَتْ الصَّلاَةُ وَهِيَ ذِكْرٌ لاَ تُجْزِئُ إلاَّ بِوُضُوءٍ, أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الذِّكْرِ كَذَلِكَ, وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ, وَلاَ يُمْكِنُهُمْ هَهُنَا دَعْوَى الإِجْمَاعِ, لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ

(1/87)


عُثْمَانَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ أَيُّوبَ, عَنْ نَافِعٍ, عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ, وَلاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ, وَلاَ يَذْكُرُ اللَّهَ إلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ.
إلاَّ مُعَاوَدَةَ الْجُنُبِ لِلْجِمَاعِ فَالْوُضُوءُ عَلَيْهِ فَرْضٌ بَيْنَهُمَا. لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ كِلاَهُمَا, عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ, عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءًا" هَذَا لَفْظُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَلَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ "إذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلاَ يَعُودَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْخَبَرِ مَا يُخَصِّصُهُ, وَلاَ مَا يُخْرِجُهُ إلَى النَّدْبِ إلاَّ خَبَرًا ضَعِيفًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ, وَبِإِيجَابِ الْوُضُوءِ فِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ, وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ, وَابْنُ سِيرِينَ.

(1/88)


119 - مَسْأَلَةٌ: وَالشَّرَائِعُ لاَ تَلْزَمُ إلاَّ بِالاِحْتِلاَمِ أَوْ بِالإِنْبَاتِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ احْتِلاَمٌ, أَوْ بِتَمَامِ تِسْعَةَ عَشَرَ عَامًا, كُلُّ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِالْحَيْضِ لِلْمَرْأَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ, عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ, عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ الأَعْمَشُ, عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ, أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَوَمَا تَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ, عَنْ ثَلاَثٍ ;, عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ, وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ"
وَالصَّبِيُّ لَفْظٌ يَعُمُّ الصِّنْفَ كُلَّهُ الذَّكَرَ وَالآُنْثَى فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خُوطِبْنَا. حدثنا حمام

(1/88)


بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ, حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ, عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ قُرَيْظَةَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَنْبَتَ ضُرِبَ عُنُقُهُ, فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَعُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَلَّى عَنِّي.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ مَعْنَى لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْكَامِ الإِنْبَاتِ, فَأَبَاحَ سَفْكَ الدَّمِ بِهِ فِي الآُسَارَى خَاصَّةً, جَعَلَهُ هُنَالِكَ بُلُوغًا, وَلَمْ يَجْعَلْهُ بُلُوغًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ; لإِنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِلُّ دَمَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الرِّجَالِ, وَيَخْرُجُ, عَنِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ قَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, عَنْ قَتْلِهِمْ. وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ رَجُلاً بَالِغًا غَيْرَ رَجُلٍ, وَلاَ بَالِغٍ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا ظُهُورُ الْمَاءِ فِي الْيَقَظَةِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ فَيَصِيرُ بِهِ الذَّكَرُ أَبًا وَالآُنْثَى أُمًّا فَبُلُوغٌ لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَمَّا اسْتِكْمَالُ التِّسْعَةَ عَشَرَ عَامًا فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَدَ الْمَدِينَةَ وَفِيهَا صِبْيَانٌ وَشُبَّانٌ وَكُهُولٌ, فَأَلْزَمَ الأَحْكَامَ مَنْ خَرَجَ, عَنِ الصِّبَا إلَى الرُّجُولَةِ, وَلَمْ يُلْزِمْهَا الصِّبْيَانَ, وَلَمْ يَكْشِفْ أَحَدًا مِنْ كُلِّ مَنْ حَوَالَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ: هَلْ احْتَلَمْتَ يَا فُلاَنُ وَهَلْ أَشْعَرْت وَهَلْ أَنْزَلْت وَهَلْ حِضْتِ يَا فُلاَنَةُ هَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ لاَ شَكَّ فِيهِ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ هَهُنَا سِنًّا إذَا بَلَغَهَا الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ فَهُمَا مِمَّنْ يُنْزِلُ أَوْ يُنْبِتُ أَوْ يَحِيضُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا آفَةٌ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ

(1/89)


كَمَا بِالأَطْلَسِ آفَةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ اللِّحْيَةِ, لَوْلاَهَا لَكَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّحَى بِلاَ شَكٍّ, هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّوَقُّفِ وَبِضَرُورَةِ الطَّبِيعَةِ الْجَارِيَةِ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ أَكْمَلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَخَلَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ فَارَقَ الصِّبَا وَلَحِقَ بِالرِّجَالِ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ وَبَلْدَةٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بِهِ آفَةٌ مَنَعَتْهُ مِنْ إنْزَالِ الْمَنِيِّ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ, وَمِنْ إنْبَاتِ الشَّعْرِ وَمِنْ الْحَيْضِ.
وَأَمَّا الْحَيْضُ فَحدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ, حدثنا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الأَعْرَابِيِّ حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَارُودِ الْقَطَّانُ, حدثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, حدثنا قَتَادَةُ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إلاَّ بِخِمَارٍ" فَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ الْحَائِضَ تَلْزَمُهَا الأَحْكَامُ, وَأَنَّ صَلاَتَهَا تُقْبَلُ عَلَى صِفَةٍ مَا, وَلاَ تُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهَا.
وقال الشافعي: مَنْ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَهُوَ بَالِغٌ, وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(1/90)


صلى الله عليه وسلم عُرِضَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ, وَ, هُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُمَا
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ إنِّي أَجَزْتهمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ عليه السلام مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ, عَنْ نَفْسِهِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُجِيزَهُمَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ, لاَِنَّهُ كَانَ يَوْمَ حِصَارٍ فِي الْمَدِينَةِ نَفْسِهَا, يَنْتَفِعُ فِيهِ بِالصِّبْيَانِ فِي رَمْيِ الْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَلَمْ يُجِزْهُ يَوْمَ أُحُدٍ لاَِنَّهُ كَانَ يَوْمَ قِتَالٍ بَعُدُوا فِيهِ, عَنِ الْمَدِينَةِ فَلاَ يَحْضُرُهُ إلاَّ أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَكْمَلاَ مَعًا خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا لاَ بِنَصٍّ, وَلاَ بِدَلِيلٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ: هَذَا ابْنُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا, فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/91)


مسائل في إزالة النجاسة
وإزالة النجاسة وكل ما أمر الله تعالى بإزالته فهو فرض
...
120 - مَسْأَلَةٌ: وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِزَالَتِهِ فَهُوَ فَرْضٌ .هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا كَثِيرَةً, يَجْمَعُهَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِاجْتِنَابِهِ أَوْ جَاءَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ, أَوْ أَمَرَ كَذَلِكَ بِغَسْلِهِ أَوْ مَسْحِهِ, فَكُلُّ ذَلِكَ فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ خَالَفَهُ, لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ طَاعَتَهُ تَعَالَى وَطَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/92)


فما كان في الخف أو النعل من دم إلخ
...
121 - مَسْأَلَةٌ: فَمَا كَانَ فِي الْخُفِّ أَوْ النَّعْلِ مِنْ دَمٍ
أَوْ خَمْرٍ أَوْ عَذِرَةٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَتَطْهِيرُهُمَا بِأَنْ يُمْسَحَا بِالتُّرَابِ حَتَّى يَزُولَ الأَثَرُ ثُمَّ يُصَلَّى فِيهِمَا, فَإِنْ غَسَلَهُمَا أَجْزَأَهُ إذَا مَسَّهُمَا بِالتُّرَابِ قَبْلَ ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ حَرَامٌ, وَالْحَرَامُ فَرْضٌ اجْتِنَابُهُ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ. حدثنا حمام, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ, حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ الْوَاشِحِيُّ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ أَبِي نَعَامَةَ, عَنْ أَبِي نَضْرَةَ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا, عَنْ يَسَارِهِ, فَخَلَعَ الْقَوْمُ نِعَالَهُمْ, فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا, فَقَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي

(1/92)


فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا" قَالَ عليه السلام: "إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى نَعْلَيْهِ, فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قَذَرٌ أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا" أَبُو نَعَامَةَ هُوَ عَبْدُ رَبِّهِ السَّعْدِيُّ, وَأَبُو نَضْرَةَ هُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكٍ الْعَبْدِيُّ, كِلاَهُمَا ثِقَةٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, عَنِ الأَوْزَاعِيِّ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَمَنْ وَطِئَ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ" .

(1/93)


قَالَ عَلِيٌّ: وَرُوِّينَا, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِيمَنْ أَصَابَ نَعْلَيْهِ الرَّوْثُ, قَالَ يَمْسَحُهُمَا وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ نَعْلَيْهِ مَسْحًا شَدِيدًا وَيُصَلِّي فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: الْغَسْلُ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَسْحٍ, تَقُولُ: مَسَحْتُ الشَّيْءَ بِالْمَاءِ وَبِالدُّهْنِ, فَكُلُّ غُسْلٍ مَسْحٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَسْحٍ غُسْلاً, وَلَكِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, عَنِ الأَوْزَاعِيِّ, عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَطِئَ أَحَدُكُمْ الأَذَى بِخُفِّهِ أَوْ نَعْلِهِ فَلْيُمِسَّهُمَا التُّرَابَ" وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الْمَسْحِ بَيَانًا وَحُكْمًا, فَوَاجِبٌ أَنْ يُضَافَ الزَّائِدُ إلَى الأَنْقَصِ حُكْمًا, فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالاً لِجَمِيعِ الآثَارِ ; لإِنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يُخَالِفْ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ, وَمَنْ اسْتَعْمَلَ خَبَرَ أَبِي سَعِيدٍ خَالَفَ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ: لاَ تُجْزِئُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ حَيْثُ كَانَتْ إلاَّ بِالْمَاءِ حَاشَا الْعَذِرَةِ فِي الْمَقْعَدَةِ خَاصَّةً, وَالْبَوْلِ فِي الإِحْلِيلِ خَاصَّةً فَيُزَالاَنِ بِغَيْرِ الْمَاءِ. وَهَذَا مَكَانٌ تَرَكُوا فِي أَكْثَرِهِ النُّصُوصَ, كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ, وَلَمْ يَقِيسُوا سَائِرَ النَّجَاسَاتِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي الْمَقْعَدَةِ وَالإِحْلِيلِ وَهُمَا أَصْلُ النَّجَاسَاتِ.
قال علي: وهذا خِلاَفٌ لِهَذِهِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ وَلِلْقِيَاسِ.
وقال أبو حنيفة: إذَا أَصَابَ الْخُفَّ أَوْ النَّعْلَ رَوْثُ فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ أَيُّ رَوْثٍ كَانَ, فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلَّى بِهِ, وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُمَا عَذِرَةُ إنْسَانٍ أَوْ دَمٌ أَوْ مَنِيٌّ, فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ أَجْزَأَتْ الصَّلاَةُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا يَابِسًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَحُكَّهُ فَقَطْ ثُمَّ يُصَلِّيَ بِهِ, وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رَطْبًا لَمْ تُجْزِهِ

(1/94)


لصَّلاَةُ بِهِ إلاَّ أَنْ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ, فَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ بَوْلُ إنْسَانٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ بِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ فِيهِ مَسْحٌ أَصْلاً, وَلاَ بُدَّ مِنْ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ كَانَ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا, فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُ, وَلاَ مَسَحَهُ. قَالَ: وَأَمَّا بَوْلُ الْفَرَسِ فَالصَّلاَةُ بِهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا. وَكَذَلِكَ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, وَلَمْ يَحُدَّ فِي الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ مِنْ ذَلِكَ حَدًّا, فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا خُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ, أَوْ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْهَا وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ, فَالصَّلاَةُ بِهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا فَاحِشًا, فَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَسَدِ لَمْ تَجُزْ إزَالَتُهُ إلاَّ بِالْمَاءِ, وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ فَتُجْزِئُ إزَالَتُهُ بِالْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا وَهَذِهِ أَقْوَالٌ يَنْبَغِي حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى السَّلاَمَةِ عِنْدَ سَمَاعِهَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وأعجب مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ, وَلاَ قَاسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ, وَلاَ قَاسُوا النَّجَاسَةَ فِي الْجَسَدِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي الْجَسَدِ وَهِيَ الْعَذِرَةُ فِي الْمَخْرَجِ وَالْبَوْلُ فِي الإِحْلِيلِ, وَلاَ قَاسُوا النَّجَاسَةَ فِي الثِّيَابِ عَلَى الْجَسَدِ, وَلاَ تَعَلَّقُوا فِي أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ قَبْلَهُمْ وَيُسْأَلُونَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَيْنَ وَجَدُوا تَغْلِيظَ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ وَتَخْفِيفَ بَعْضِهَا أَفِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قِيَاسٍ اللَّهُمَّ إلاَّ إنَّ الَّذِي قَدْ جَاءَ فِي إزَالَتِهِ التَّغْلِيظُ قَدْ خَالَفُوهُ, كَالإِنَاءِ يَلَغُ فِيهِ الْكَلْبُ, وَكَالْعَذِرَةِ فِيمَا يُسْتَنْجَى فِيهِ فَقَطْ.

(1/95)


122 - مَسْأَلَةٌ: وَتَطْهِيرُ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالدَّمِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَزُولَ الأَثَرُ أَوْ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ مُتَغَايِرَةٍ فَإِنْ لَمْ يُنَقَّ فَعَلَى الْوِتْرِ أَبَدًا يَزِيدُ كَذَلِكَ حَتَّى يُنَقَّى, لاَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا غَائِطٌ أَوْ بِالتُّرَابِ أَوْ الرَّمْلِ بِلاَ عَدَدٍ, وَلَكِنْ مَا أَزَالَ الأَثَرَ فَقَطْ عَلَى الْوِتْرِ, وَلاَ بُدَّ, وَلاَ يُجْزِئُ أَحَدًا أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِيَمِينِهِ, وَلاَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ, فَإِنْ بَدَأَ بِمَخْرَجِ الْبَوْلِ أَجْزَأَتْ تِلْكَ الأَحْجَارُ بِأَعْيَانِهَا لِمَخْرَجِ الْغَائِطِ, وَإِنْ بَدَأَ بِمَخْرَجِ الْغَائِطِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ تِلْكَ الأَحْجَارِ لِمَخْرَجِ الْبَوْلِ إلاَّ مَا كَانَ لاَ رَجِيعَ عَلَيْهِ فَقَطْ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ

(1/95)


بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ, حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, عَنِ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ, كِلاَهُمَا, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: "قَالَ لَنَا الْمُشْرِكُونَ: إنِّي أَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى يُعَلِّمَكُمْ الْخِرَاءَةَ, فَقَالَ سَلْمَانُ: أَجَلْ, إنَّهُ نَهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ, وَنَهَانَا, عَنِ الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ, وَقَالَ: "لاَ يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ" .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ "أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لَهُ: إنِّي لاََرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ: أَجَلْ, "أُمِرْنَا أَنْ لاَ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ, وَلاَ نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا, وَلاَ نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهِنَّ رَجِيعٌ, وَلاَ عَظْمٌ" .
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ, هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ, حدثنا الأَعْمَشُ, عَنْ إبْرَاهِيمَ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ, عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا أَوْ نَكْتَفِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ" .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, حدثنا أَبِي, حدثنا مَالِكٌ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ

(1/96)


سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلاَءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وعَنَزَةٍ يَسْتَنْجِي بالماء".
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا إسْمَاعِيلُ, هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ, عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا" وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ مُسْنَدًا.
وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ: بِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَنْجَى دُونَ عَدَدٍ فَأَنْقَى أَجْزَأَهُ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَِنَّهُ نَهَى أَنْ يَكْتَفِيَ أَحَدٌ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ وَأَمَرَ بِالْوِتْرِ فِي الاِسْتِجْمَارِ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا إلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَثَرًا فِيهِ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ لَهُ عَظْمٌ أَوْ حَجَرٌ يَسْتَنْجِي بِهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي, وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ ; لاَِنَّهُ شَكٌّ. إمَّا حَجَرٌ وَأَمَّا عَظْمٌ, وَقَدْ خَالَفُوا عُمَرَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَهُ سَلْمَانُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, فَأَخْبَرُوا أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِنْجَاءِ هُوَ مَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلاَّ يُكْتَفَى بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فإن قيل: أَمْرُهُ عليه السلام بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ هُوَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ مَعًا, فَوَقَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ. قلنا: هَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِأَنْ لاَ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ, وَمَسْحُ الْبَوْلِ لاَ يُسَمَّى اسْتِنْجَاءً, فَحَصَلَ النَّصُّ فِي الاِسْتِنْجَاءِ وَالْخِرَاءَةِ أَنْ لاَ يُجْزِئَ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ, وَحَصَلَ النَّصُّ مُجْمَلاً فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ

(1/97)


أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ عَلَى الْبَوْلِ نَفْسِهِ وَعَلَى النَّجْوِ فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ.
وَمَسْحُ الْبَوْلِ بِالْيَمِينِ جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ, عَنْ ذَلِكَ فِي الْبَوْلِ وَإِنَّمَا نَهَى فِي الاِسْتِنْجَاءِ فَقَطْ.
وقال الشافعي: ثَلاَثُ مَسَحَاتٍ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ, وَأَجَازَ الاِسْتِنْجَاءَ بِكُلِّ شَيْءٍ حَاشَا الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ وَالْحُمَمَةِ وَالْقَصَبِ وَالْجُلُودِ الَّتِي لَمْ تُدْبَغْ, وَهَذَا أَيْضًا خِلاَفٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَلاَّ يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الأَحْجَارِ, قلنا لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثًا رَوَاهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ مُسْنَدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا تَغَوَّطَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَمَسَّحْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" قِيلَ: ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ ضَعِيفٌ, وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ تِلْكَ الْمَسَحَاتِ تَكُونُ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ, فَزِيَادَةُ هَذَا لاَ تَحِلُّ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ حَدِيثَ " مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر"ْ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ الثَّلاَثَةِ الأَحْجَارِقلنا هَذَا خَطَأٌ, بَلْ كُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ, فَلاَ يُجْزِئُ مِنْ الأَحْجَارِ

(1/98)


إلاَّ ثَلاَثَةٌ لاَ رَجِيعَ فِيهَا, وَيُجْزِئُ مِنْ التُّرَابِ الْوِتْرُ, وَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لاَ يُسَمَّى أَرْضًا إلاَّ الْمَاءُ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى حَجَرٍ نَجَاسَةٌ غَيْرُ الرَّجِيعِ أَجْزَأَ مَا لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ. وَمِمَّنْ جَاءَ عَنْهُ أَلاَّ يُجْزِئَ إلاَّ ثَلاَثَةُ أَحْجَارٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا.
فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ حَدِيثًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْحُصَيْنِ الْحُبْرَانِيِّ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ أَبِي سَعْدٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا " مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ" فَإِنَّ ابْنَ الْحُصَيْنِ مَجْهُولٌ وَأَبُو سَعِيدٍ أَوْ أَبُو سَعْدٍ الْخَيْرُ كَذَلِكَ.

(1/99)


فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "ابْغِنِي أَحْجَارًا, فَأَتَيْته بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ, فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: "إنَّهَا رِكْسٌ" فَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه السلام اكْتَفَى بِالْحَجَرَيْنِ, وَقَدْ صَحَّ أَمْرُهُ عليه السلام لَهُ بِأَنْ يَأْتِيَهُ بِأَحْجَارٍ, فَالأَمْرُ بَاقٍ لاَزِمٌ لاَ بُدَّ مِنْ إبْقَائِهِ, وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ أَبَا إِسْحَاقَ دَلَّسَهُ, وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ عَلْقَمَةَ وَفِيهِ " أَبْغِنِي ثَالِثًا "
فإن قيل: إنَّمَا نَهَى, عَنِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ لاَِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ. قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا بَلْ هَذَا مُوجِبٌ أَنَّ الْمُسْتَنْجِيَ بِأَحَدِهِمَا عَاصٍ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا خِلاَفُهُ نَصَّ الْخَبَرِ, وَالثَّانِي تَقْذِيرُهُ زَادَ مَنْ نُهِيَ, عَنْ تَقْذِيرِ زَادِهِ, وَالْمَعْصِيَةُ لاَ تُجْزِئُ بَدَلَ الطَّاعَةِ, وَمِمَّنْ قَالَ لاَ يُجْزِئُ بِالْعَظْمِ, وَلاَ بِالْيَمِينِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَغَيْرُهُمَا.

(1/100)


123 - مَسْأَلَةٌ: وَتَطْهِيرُ بَوْلِ الذَّكَرِ
أَيِّ ذَكَرٍ كَانَ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَبِأَنْ يَرُشَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ رَشًّا يُزِيلُ أَثَرَهُ, وَبَوْلُ الآُنْثَى يُغْسَلُ, فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ فِي الأَرْضِ أَيُّ بَوْلٍ كَانَ فَبِأَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ صَبًّا يُزِيلُ أَثَرَهُ فَقَطْ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الدِّينَوَرِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ, حدثنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ, حدثنا يَحْيَى بْنُ الْوَلِيدِ, عَنْ مُحِلِّ

(1/100)


بْنِ خَلِيفَةَ الطَّائِيِّ, حدثنا أَبُو السَّمْحِ قَالَ: "كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ عليه السلام: هَكَذَا يُصْنَعُ, يُرَشُّ مِنْ الذَّكَرِ وَيُغْسَلُ مِنْ الآُنْثَى" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا مَالِكٌ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ: "أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِجْرِهِ, فَبَالَ عَلَى ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا عليه السلام بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ, حدثنا هَمَّامٌ, هُوَ ابْنُ يَحْيَى, حدثنا إِسْحَاقُ, هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ, فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ" .
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِأَكْلِ الصَّبِيِّ الطَّعَامَ مِنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَمِمَّنْ فَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِ الْغُلاَمِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيُّ بْنُ

(1/101)


أَبِي طَالِبٍ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ, وَابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُمْ, إلاَّ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ, عَنِ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ بَوْلِ الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ فِي الرَّشِّ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُغْسَلُ بَوْلُ الصَّبِيِّ كَبَوْلِ الصَّبِيَّةِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلَّقًا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ. نَعَمْ, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ, إلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ, عَنِ النَّخَعِيِّ, وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: الرَّشُّ مِنْ الرَّشِّ وَالصَّبُّ مِنْ الصَّبِّ مِنْ الأَبْوَالِ كُلِّهَا, وَهَذَا نَصٌّ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/102)


124 - مَسْأَلَةٌ: وَتَطْهِيرُ دَمِ الْحَيْضِ أَوْ أَيِّ دَمٍ كَانَ
سَوَاءٌ دَمَ سَمَكٍ كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ أَوْ الْجَسَدِ فَلاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَاءِ, حَاشَا دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَدَمَ الْجَسَدِ فَلاَ يَلْزَمُ تَطْهِيرُهُمَا إلاَّ مَا لاَ حَرَجَ فِي غُسْلِهِ عَلَى الإِنْسَانِ, فَيُطَهِّرُ الْمَرْءُ ذَلِكَ حَسَبَ مَا لاَ مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِيهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا وَكِيعٌ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جاءتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ قَالَ لاَ, إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ, فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ, فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي" وَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ صلى الله عليه

(1/102)


وسلم لِنَوْعِ الدَّمِ, وَلاَ نُبَالِي بِالسُّؤَالِ إذَا كَانَ جَوَابُهُ عليه السلام قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَرْدُودٍ بِضَمِيرٍ إلَى السُّؤَالِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا يَحْيَى, هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ هِيَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ, عَنْ أَسْمَاءَ هِيَ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَتْ: "أتَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَرَأَيْت إحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ: تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ" .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فِي غُسْلِ الْمَحِيضِ شَيْئًا مِنْ مِسْكٍ, حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا يَحْيَى, حدثنا بْنُ عُيَيْنَةَ, عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ, عَنْ أُمِّهِ, عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ. قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي

(1/103)


بِهَا, قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ, تَطَهَّرِي" فَاجْتَبَذْتُهَا إلَيَّ فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ الدَّارِمِيُّ, حدثنا حِبَّانُ, هُوَ ابْنُ هِلاَلٍ, حدثنا وُهَيْبٍ, حدثنا مَنْصُورٌ, هُوَ ابْنُ صَفِيَّةَ, عَنْ أُمِّهِ, عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَغْتَسِلُ عِنْدَ الطُّهْرِ فَقَالَ: "خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي بِهَا" ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ تَتَطَهَّرَ بِالْفِرْصَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَأَنْ تَتَوَضَّأَ بِهَا, وَإِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَمُعَلِّمًا, فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَعَلَّمَهَا عليه السلام كَيْفَ تَتَوَضَّأُ بِهَا أَوْ كَيْفَ تَتَطَهَّرُ, فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِبٍ مَعَ صِحَّةِ الإِجْمَاعِ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ, عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ وَاجِبًا, فَلَمْ تَزَلْ النِّسَاءُ فِي كُلِّ بَيْتٍ وَدَارٍ عَلَى عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتَطَهَّرْنَ مِنْ الْحَيْضِ, فَمَا قَالَ أَحَدٌ إنَّ هَذَا فَرْضٌ, وَيَكْفِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ لَمْ تُسْنَدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ إلاَّ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ وَقَدْ ضُعِّفَ, وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ, فَسَقَطَ هَذَا الْحُكْمُ جُمْلَةً, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكُلُّ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بِالتَّطْهِيرِ أَوْ الْغُسْلِ فَلاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَاءِ, أَوْ بِالتُّرَابِ إنْ عُدِمَ الْمَاءُ, إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَنَقِفُ عِنْدَهُ, لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ

(1/104)


اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ, عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ, وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ, حدثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ هُوَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا, عَنْ أَبِي مَالِكٍ هُوَ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ, عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ, عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ" فَذَكَرَ فِيهَا "وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا, وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ" , وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ غُسْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الدِّينِ فَهُوَ تَطَهُّرٌ وَلَيْسَ كُلُّ تَطَهُّرٍ غُسْلاً. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ طُهْرَ إلاَّ بِالْمَاءِ أَوْ بِالتُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ.
وقال أبو حنيفة: دَمُ السَّمَكِ كَثُرَ أَوْ قَلَّ لاَ يُنَجِّسُ الثَّوْبَ, وَلاَ الْجَسَدَ, وَلاَ الْمَاءَ وَدَمُ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ كَذَلِكَ, وَأَمَّا سَائِرُ الدِّمَاءِ كُلِّهَا فَإِنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا يُفْسِدُ الْمَاءَ, وَأَمَّا فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ: فَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مِنْهُ مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلُّ فَلاَ يُنَجِّسُ وَيُصَلَّى بِهِ, وَمَا كَانَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ, فَإِنْ كَانَ فِي الْجَسَدِ فَلاَ يُزَالُ إلاَّ بِالْمَاءِ, وَإِذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُزَالُ بِالْمَاءِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ, فَإِنْ كَانَ فِي خُفٍّ أَوْ نَعْلٍ, فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أَجْزَأَ فِيهِ الْحَكُّ فَقَطْ, وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَمْ يُجْزِئْ إلاَّ الْغَسْلُ بِأَيِّ شَيْءٍ غُسِلَ.
وقال مالك: إزَالَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ فَرْضًا, وَلاَ يُزَالُ إلاَّ بِالْمَاءِ. وقال الشافعي إزَالَتُهُ فَرْضٌ, وَلاَ يُزَالُ إلاَّ بِالْمَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ, وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْفِكَاكُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ, وَلاَ مِنْ دَمِ الْجَسَدِ, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ غُسْلِهِ إلاَّ مَا لاَ حَرَجَ فِيهِ, وَلاَ عُسْرَ مِمَّا هُوَ فِي الْوُسْعِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ دَمِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَدَمِ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ, وَهَذَا خَطَأٌ لاَِنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَغَيْرِ الْمَسْفُوحِ, وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}

(1/105)


وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } فَعَمَّ تَعَالَى كُلَّ دَمٍ وَكُلَّ مَيْتَةٍ, فَكَانَ هَذَا شَرْعًا زَائِدًا عَلَى الآيَةِ الآُخْرَى, وَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ مَا لَهَا نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِمَّا لاَ نَفْسَ لَهَا.
وَتَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ بِحَدِيثٍ سَاقِطٍ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ عَلَيْهِمْ ; لإِنَّ فِيهِ الإِعَادَةَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ, بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ, وقال بعضهم: قِيسَ عَلَى الدُّبُرِ, فَقِيلَ لَهُمْ فَهَلاَّ قِسْتُمُوهُ عَلَى حَرْفِ الإِحْلِيلِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ, وَحُكْمُهُمَا فِي الاِسْتِنْجَاءِ سَوَاءٌ, وَقَدْ تَرَكُوا قِيَاسَهُمْ هَذَا إذْ لَمْ يَرَوْا إزَالَةَ ذَلِكَ مِنْ الْجَسَدِ بِمَا يُزَالُ بِهِ مِنْ الدُّبُرِ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَ غُسْلَ ذَلِكَ فَرْضًا, فَالسُّنَنُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا مُخَالِفَةٌ لِقَوْلِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/106)


125 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَذْيُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ, يُغْسَلُ مَخْرَجُهُ مِنْ الذَّكَرِ وَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ مَا مَسَّ مِنْهُ الثَّوْبَ. قَالَ مَالِكٌ يُغْسَلُ الذَّكَرُ كُلُّهُ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دُلَيْمٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى, حدثنا مَالِكٌ, عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ, عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الرَّجُلِ إذَا دَنَا مِنْ امْرَأَتِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ, قَالَ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَنْضَحْ فَرْجَهُ بِالْمَاءِ وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ" حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ السَّكَنِ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ, حدثنا زَائِدَةُ, عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ, عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَكَانِ ابْنَتِهِ, فَسَأَلَ فَقَالَ: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ" .
حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ حَدَّثَنَا

(1/106)


بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ, وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ بَكْرٌ, حدثنا مُسَدَّدٌ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ, حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, ثُمَّ اتَّفَقَ حَمَّادٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَزِيدُ كُلُّهُمْ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ, حدثنا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ حَمَّادٌ فِي حَدِيثِهِ كُنْتُ أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً فَكُنْتُ أُكْثِرُ الْغُسْلَ مِنْهُ ثُمَّ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الْمَذْيِ فَقَالَ: يَكْفِيكَ مِنْهُ الْوُضُوءُ, قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ قَالَ: تَأْخُذُ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحُ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: غَسْلُ مَخْرَجِ الْمَذْيِ مِنْ الذَّكَرِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ غُسْلِ الذَّكَرِ, كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ إذَا غَسَلَهُ: غَسَلْتُ ذَكَرِي مِنْ الْبَوْلِ, فَزِيَادَةُ إيجَابِ غُسْلٍ كُلُّهُ شَرْعٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ, وقال بعضهم فِي ذَلِكَ تَقْلِيصٌ فَيُقَالُ لَهُ: فَعَانُوا ذَلِكَ بِالْقَوَابِضِ مِنْ الْعَقَاقِيرِ إذَنْ فَهُوَ أَبْلَغُ.
وهذا الخبر يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَهُ: إنَّ النَّجَاسَاتِ لاَ تُزَالُ مِنْ الْجَسَدِ إلاَّ بِالْمَاءِ وَتُزَالُ مِنْ الثِّيَابِ بِغَيْرِ الْمَاءِ. فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, كَانَتْ تُجِيزُ إزَالَةَ دَمِ الْحَيْضِ مِنْ الثَّوْبِ بِالرِّيقِ, قِيلَ لَهُمْ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُجِيزُ مَسْحَ الدَّمِ مِنْ الْمَحَاجِمِ بِالْحَصَاةِ دُونَ غُسْلٍ, وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .

(1/107)


126 - مَسْأَلَةٌ: وَتَطْهِيرُ الإِنَاءِ إذَا كَانَ لِكِتَابِيٍّ
مِنْ كُلِّ مَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ بِالْمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا سَوَاءٌ عَلِمْنَا فِيهِ نَجَاسَةً أَوْ لَمْ نَعْلَمْ بِالْمَاءِ, فَإِنْ كَانَ إنَاءَ مُسْلِمٍ فَهُوَ طَاهِرٌ, فَإِنْ تَيَقَّنَ فِيهِ مَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَهُ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَحْمَ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ أَوْ وَدَكَهُ أَوْ شَحْمَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُطَهَّرَ إلاَّ بِالْمَاءِ, وَلاَ بُدَّ.
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ, حدثنا أَبُو عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ, حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ, عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ, أَنَّهُ قَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضٍ أَهْلُهَا أَهْلُ كِتَابٍ نَحْتَاجُ فِيهَا إلَى قُدُورِهِمْ وَآنِيَتِهِمْ, فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لاَ تَقْرَبُوهَا مَا وَجَدْتُمْ بُدًّا, فَإِذَا لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا وَاشْرَبُوا" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ, حدثنا حَاتِمٌ, هُوَ ابْنُ إسْمَاعِيلَ, عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ, عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى خَيْبَرَ, ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَهَا عَلَيْهِمْ, فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النِّيرَانُ, عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ قَالُوا عَلَى لَحْمٍ, قَالَ عَلَى أَيِّ لَحْمٍ قَالُوا عَلَى لَحْمِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا, فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ: أَوْ ذَاكَ" .

(1/108)


قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كُلَّ غُسْلٍ أُمِرَ بِهِ فِي الدِّينِ فَهُوَ تَطْهِيرٌ, وَكُلُّ تَطْهِيرٍ فَلاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَاءِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ تَطْهِيرُ الإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ عَلَى تَطْهِيرِهِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ ; لإِنَّ النُّصُوصَ اخْتَلَفَتْ فِي تَطْهِيرِ الآنِيَةِ مِنْ الْكَلْبِ وَمِنْ لَحْمِ الْحِمَارِ فَلَيْسَ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى بَعْضٍ, لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى مَا حَكَمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَحْكُمْ ; لاَِنَّهُ يَكُونُ قَوْلاً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ, أَوْ شَرْعًا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ عليه السلام أَوْلَى مِنْ الْوُقُوفِ عِنْدَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ, وَتِلْكَ الْفُرُوقِ الْفَاسِدَةِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/109)


127 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَلَغَ فِي الإِنَاءِ كَلْبٌ
أَيَّ إنَاءٍ كَانَ وَأَيَّ كَلْبٍ كَانَ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ غَيْرَهُ, صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَالْفَرْضُ إهْرَاقُ مَا فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ ثُمَّ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ, وَلاَ بُدَّ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ, وَلاَ بُدَّ, وَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُطَهَّرُ بِهِ الإِنَاءُ طَاهِرٌ حَلاَلٌ, فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ وَلَمْ يَلَغْ فِيهِ أَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ أَوْ ذَنَبَهُ أَوْ وَقَعَ بِكُلِّهِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ الإِنَاءِ, وَلاَ هَرْقُ مَا فِيهِ أَلْبَتَّةَ وَهُوَ حَلاَلٌ طَاهِرٌ كُلُّهُ كَمَا كَانَ, وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَغَ الْكَلْبُ فِي بُقْعَةٍ فِي الأَرْضِ أَوْ فِي يَدِ إنْسَانٍ أَوْ فِي مَا لاَ يُسَمَّى إنَاءً فَلاَ يَلْزَمُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ هَرْقُ مَا فِيهِ. وَالْوُلُوغُ هُوَ الشُّرْبُ فَقَطْ, فَلَوْ مَسَّ

(1/109)


لُعَابُ الْكَلْبِ أَوْ عَرَقُهُ الْجَسَدَ أَوْ الثَّوْبَ أَوْ الإِنَاءَ أَوْ مَتَاعًا مَا أَوْ الصَّيْدَ, فَفُرِضَ إزَالَةُ ذَلِكَ بِمَا أَزَالَهُ مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ, وَلاَ بُدَّ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا إلاَّ مِنْ الثَّوْبِ فَلاَ يُزَالُ إلاَّ بِالْمَاءِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيُّ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَنَا الأَعْمَشُ, عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ" .
وبه إلى مُسْلِمٍ, حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ, عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ" .
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ, حدثنا شُعْبَةُ, حدثنا أَبُو التَّيَّاحِ, عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ, عَنِ ابْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ وَلَهَا فَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَفِي كَلْبِ الْغَنَمِ. وَقَالَ عليه السلام: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَالثَّامِنَةُ عَفِّرُوهُ بِالتُّرَابِ" .
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَمَرَ عليه السلام بِهَرْقِ مَا فِي الإِنَاءِ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ, وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ, وَلَمْ يَأْمُرْ عليه السلام بِاجْتِنَابِ مَا وَلَغَ فِيهِ فِي غَيْرِ الإِنَاءِ, بَلْ نَهَى, عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِرِوَايَاتٍ شَتَّى, فِي بَعْضِهَا "وَالسَّابِعَةُ بِالتُّرَابِ" وَفِي بَعْضِهَا "إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ" وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ, لإِنَّ الآُولَى هِيَ بِلاَ

(1/110)


شَكٍّ إحْدَى الْغَسَلاَتِ. وَفِي لَفْظَةِ " الآُولَى " بَيَانُ أَيَّتِهِنَّ هِيَ, فَمَنْ جَعَلَ التُّرَابَ فِي أُولاَهُنَّ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي إحْدَاهُنَّ بِلاَ شَكٍّ وَاسْتَعْمَلَ اللَّفْظَتَيْنِ مَعًا, وَمَنْ جَعَلَهُ فِي غَيْرِ أُولاَهُنَّ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُولاَهُنَّ, وَهَذَا لاَ يَحِلُّ, وَلاَ شَكَّ نَدْرِي أَنَّ تَعْفِيرَهُ بِالتُّرَابِ فِي أُولاَهُنَّ تَطْهِيرٌ ثَامِنٌ إلَى السَّبْعِ غَسَلاَتٍ, وَأَنَّ تِلْكَ الْغَسْلَةَ سَابِقَةٌ لِسَائِرِهِنَّ إذَا جُمِعْنَ, وَبِهَذَا تَصِحُّ الطَّاعَةُ لِجَمِيعِ أَلْفَاظِهِ عليه السلام الْمَأْثُورَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَلاَ يُجْزِئُ بَدَلَ التُّرَابِ غَيْرُهُ, لاَِنَّهُ تَعَدٍّ لَحَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَالْمَاءُ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الإِنَاءُ طَاهِرٌ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِاجْتِنَابِهِ, وَلاَ شَرِيعَةَ إلاَّ مَا أَخْبَرَنَا بِهَا عليه السلام, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَالْمَاءُ حَلاَلٌ شُرْبُهُ طَاهِرٌ, فَلاَ يَحْرُمُ إلاَّ بِأَمْرٍ مِنْهُ عليه السلام.
وَأَمَّا مَا أَكَلَ فِيهِ الْكَلْبُ أَوْ وَقَعَ فِيهِ أَوْ دَخَلَ فِيهِ بَعْضُ أَعْضَائِهِ فَلاَ غَسْلَ فِي ذَلِكَ, وَلاَ هَرْقَ ; لاَِنَّهُ حَلاَلٌ طَاهِرٌ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَقِينٍ إنْ كَانَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ فَلاَ يَنْتَقِلُ إلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّنْجِيسِ إلاَّ بِنَصٍّ لاَ بِدَعْوَى.
وَأَمَّا وُجُوبُ إزَالَةِ لُعَابِ الْكَلْبِ وَعَرَقِهِ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَالْكَلْبُ ذُو نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, فَهُوَ حَرَامٌ, وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ بِلاَ شَكٍّ, وَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ بَعْضُهُ فَهُمَا حَرَامٌ, وَالْحَرَامُ فُرِضَ إزَالَتُهُ وَاجْتِنَابُهُ

(1/111)


وَلَمْ يُجْزِ أَنْ يُزَالَ مِنْ الثَّوْبِ إلاَّ بِالْمَاءِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَدْ قلنا إنَّ التَّطْهِيرَ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْمَاءِ, وَبِالتُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا فِي غَسْلِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعًا أَبُو هُرَيْرَةَ, كَمَا حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا أَبِي, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ, حدثنا إسْمَاعِيلُ, هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ " إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ غُسِلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ, أُولاَهُنَّ أَوْ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ", وَالْهِرُّ مَرَّةً. وَرُوِّينَا, عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ " إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ أَهْرِقْهُ وَاغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ" ,.وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وطَاوُوس وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ " إنْ وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءٍ فِيهِ عَشَرَةُ أَقْسَاطِ لَبَنٍ يُهْرَقُ كُلُّهُ وَيُغْسَلُ الإِنَاءُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَإِنْ وَلَغَ فِي مَاءٍ فِي بُقْعَةٍ صَغِيرَةٍ مِقْدَارِ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ طَاهِرٌ, وَيُتَوَضَّأُ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَيُغْسَلُ لُعَابُ الْكَلْبِ مِنْ الثَّوْبِ وَمِنْ الصَّيْدِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا, وَبِهَذَا يَقُولُ يَعْنِي غَسْلَ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَجُمْلَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وقال الشافعي كَذَلِكَ إلاَّ, أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ فِي الإِنَاءِ خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ لَمْ يُهْرَقْ لِوُلُوغِ الْكَلْبِ فِيهِ, وَرَأَى هَرْقَ مَا عَدَا الْمَاءَ وَإِنْ كَثُرَ, وَرَأَى أَنْ يُغْسَلَ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ فِي الإِنَاءِ سَبْعًا كَمَا يُغْسَلُ مِنْ الْكَلْبِ, وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ فِي وُلُوغِ شَيْءٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَلاَ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ أَصْلاً.
قال علي: وهذا خَطَأٌ ; لإِنَّ عُمُومَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَمْرِ بِهَرْقِهِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ وَأَمَّا قِيَاسُ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْكَلْبِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لإِنَّ الْكَلْبَ بَعْضَ السِّبَاعِ

(1/112)


لَمْ يُحَرَّمْ إلاَّ بِعُمُومِ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ فَقَطْ, فَكَانَ قِيَاسُ السِّبَاعِ وَمَا وَلَغَتْ فِيهِ عَلَى الْكَلْبِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهَا وَاَلَّتِي يَجُوزُ أَكْلُ صَيْدِهَا إذَا عُلِمَتْ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْكَلْبِ, وَكَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْخِنْزِيرُ عَلَى الْكَلْبِ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِهِ وَأَكْلِ صَيْدِهِ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخِنْزِيرُ عَلَى الْكَلْبِ فِي عَدَدِ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ, فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وقال مالك فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ: يُتَوَضَّأُ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَتَرَدَّدَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَمَرَّةً لَمْ يَرَهُ وَمَرَّةً رَآهُ, وَقَالَ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ: يُهْرَقُ الْمَاءُ وَيُغْسَلُ الإِنَاءُ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنْ كَانَ لَبَنًا لَمْ يُهْرَقْ وَلَكِنْ يُغْسَلُ الإِنَاءُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيُؤْكَلُ مَا فِيهِ, وَمَرَّةً قَالَ: يُهْرَقُ كُلُّ ذَلِكَ وَيُغْسَلُ الإِنَاءُ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ تَفَارِيقُ ظَاهِرَةُ الْخَطَإِ ; لاَ النَّصُّ اُتُّبِعَ فِي بَعْضِهَا, وَلاَ الْقِيَاسُ اطَّرَدَ فِيهَا, وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ, رضي الله عنهم, قُلِّدَ فِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْهُ, أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لاَِرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُهْرَقَ مِنْ أَجْلِ كَلْبٍ وَلَغَ فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَيُقَالُ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا الْقَوْلِ: أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تُخَالِفَ أَمْرَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ. وَأَعْظَمُ مِمَّا اسْتَعْظَمْتُمُوهُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُهْرَقَ مِنْ أَجْلِ عُصْفُورٍ مَاتَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ بِهَرْقِهِ. فَإِنْ قَالُوا: الْعُصْفُورُ الْمَيِّتُ حَرَامٌ, قلنا: نَعَمْ لَمْ نُخَالِفْكُمْ فِي هَذَا, وَلَكِنَّ الْمَائِعَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ حَلاَلٌ, فَتَحْرِيمُكُمْ الْحَلاَلَ مِنْ أَجْلِ مُمَاسَّتِهِ الْحَرَامَ هُوَ الْبَاطِلُ, إلاَّ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُطَاعُ أَمْرُهُ, وَلاَ يُتَعَدَّى حَدُّهُ, وَلاَ يُضَافُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ.
وقال أبو حنيفة: يُهْرَقُ كُلُّ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ كَثُرَ أَمْ قَلَّ, وَمَنْ تَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَعَادَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَوَاتِ أَبَدًا, وَلاَ يَغْسِلُ الإِنَاءَ مِنْهُ إلاَّ مَرَّةً.

(1/113)


قال علي: وهذا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ أَنَّنَا رُوِّينَا, عَنْ إبْرَاهِيمَ, أَنَّهُ قَالَ فِيمَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ " اغْسِلْهُ " وَقَالَ مَرَّةً " اغْسِلْهُ حَتَّى تُنْقِيَهُ " وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْدِيدًا. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي أَوْرَدْنَا. وَكَفَى بِهَذَا خَطَأً.
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنْ قَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَالَفَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَيُقَالُ لَهُ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ إنَّمَا رَوَى ذَلِكَ الْخَبَرَ السَّاقِطَ عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَلاَ مُجَاهَرَةَ أَقْبَحُ مِنْ الاِعْتِرَاضِ عَلَى مَا رَوَاهُ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ابْنُ عُلَيَّةَ, عَنْ أَيُّوبَ, عَنِ ابْنِ سِيرِينَ النُّجُوم الثَّوَاقِب بِمِثْلِ رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ. وَثَانِيهَا أَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ السَّلاَمِ عَلَى

(1/114)


تَحْسِينِهَا إنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ يُغْسَلُ الإِنَاءُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ, فَلَمْ يَحْصُلُوا إلاَّ عَلَى خِلاَفِ السُّنَّةِ وَخِلاَفِ مَا اعْتَرَضُوا بِهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَلاَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّبَعُوا, وَلاَ أَبَا هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ قَلَّدُوا. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا حَلَّ أَنْ يُعْتَرَضَ بِذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لإِنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هِيَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ سِوَاهُ, لإِنَّ الصَّاحِبَ قَدْ يَنْسَى مَا رَوَى وَقَدْ يَتَأَوَّلُ فِيهِ, وَالْوَاجِبُ إذَا وُجِدَ مِثْلُ هَذَا أَنْ يُضَعَّفَ مَا رُوِيَ, عَنِ الصَّاحِبِ مِنْ قَوْلِهِ, وَأَنْ يُغَلَّبَ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ أَنْ نُضَعِّفَ مَا رُوِيَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنُغَلِّبَ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ, عَنِ الصَّاحِبِ, فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ. وَرَابِعُهَا أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلاَفُ مَا رَوَى وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَ, هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ, وَلَمْ يُخَالِفْ مَا رَوَى.
وقال بعضهم: إنَّمَا كَانَ هَذَا إذْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ, فَلَمَّا نَهَى, عَنْ قَتْلِهَا نُسِخَ ذَلِكَ. قال علي: وهذا كَذِبٌ بَحْتٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا ; لاَِنَّهُ دَعْوَى فَاضِحَةٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَقَفْو مَا لاَ عِلْمَ لِقَائِلِهِ بِهِ, هَذَا حَرَامٌ. وَالثَّانِي أَنَّ ابْنَ مُغَفَّلٍ رَوَى النَّهْيَ, عَنْ قَتْلِ الْكِلاَبِ وَالأَمْرَ بِغَسْلِ الإِنَاء مِنْهَا سَبْعًا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ مَعًا, وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الأَمْرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ, وَإِنَّمَا رَوَى غَسْلَ الإِنَاءِ مِنْهَا سَبْعًا أَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مُغَفَّلٍ, وَإِسْلاَمُهُمَا مُتَأَخِّرٌ.
وقال بعضهم: كَانَ الأَمْرُ بِغَسْلِ الإِنَاءِ سَبْعًا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ.
قَالَ عَلِيٌّ: يُقَالُ لَهُمْ أَبِحَقٍّ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَبِمَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ فِيهِ أَمْ أَمَرَ بِبَاطِلٍ وَبِمَا لاَ مَئُونَةَ فِي مَعْصِيَتِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا بِحَقٍّ وَبِمَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ فِيهِ, فَقَدْ أَسْقَطُوا شَغَبَهُمْ بِذِكْرِ التَّغْلِيظِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الآخَرُ فَالْقَوْلُ بِهِ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ.

(1/115)


وقال بعضهم: قَدْ جَاءَ أَثَرٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهَا, لاَِنَّهَا كَانَتْ تُرَوِّعُ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ لَهُ: لَسْنَا فِي قَتْلِهَا, إنَّمَا نَحْنُ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهَا, مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الأَثَرَ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ ذِكْرُ قَتْلِهَا فَقَطْ, وَهُوَ أَيْضًا مَوْضُوعٌ ; لاَِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيِّ وَهُوَ سَاقِطٌ.
وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ الْمَغْفِرَةُ لِلْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ الْكَلْبَ بِخُفِّهَا. قال علي: وهذا عَجَبٌ جِدًّا ; لإِنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَانَ فِي غَيْرِنَا, وَلاَ تَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا. وَأَيْضًا فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْخُفَّ شُرِبَ فِيهِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ, وَأَنَّهُ لَمْ يُغْسَلْ, وَأَنَّ تِلْكَ الْبَغِيَّ عَرَفَتْ سُنَّةَ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْبَغِيُّ نَبِيَّةً فَيُحْتَجُّ بِفِعْلِهَا, وَهَذَا كُلُّهُ دَفْعٌ بِالرَّاحِ وَخَبْطٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ.
وَيُجْزِئُ غَسْلُ مَنْ غَسَلَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَاحِبِهِ, لِقَوْلِهِ عليه السلام "فَاغْسِلُوهُ" فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ أَنْكَرُوا عَلَيْنَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ مَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا أَكَلَ فِيهِ أَوْ وَقَعَ فِيهِ أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ غَيْرَ لِسَانِهِ. قلنا لَهُمْ: لاَ نَكَرَةَ عَلَى مَنْ قَالَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ مَا لَمْ يَقُلْ عليه السلام, وَلَمْ يُخَالِفْ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَبِيُّهُ عليه السلام, وَلاَ شَرْعَ مَا لَمْ يُشَرِّعْهُ عليه السلام فِي الدِّينِ, وَإِنَّمَا النَّكَرَةُ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ الصَّلاَةَ بِمَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فِي الثَّوْبِ مِنْ دَمِ الدَّجَاجِ فَأَبْطَلَ بِهِ الصَّلاَةَ, وَلَمْ يُبْطِلْ الصَّلاَةَ بِثَوْبٍ غُمِسَ فِي دَمِ السَّمَكِ, وَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلاَةَ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فِي الثَّوْبِ مِنْ خُرْءِ الدَّجَاجِ وَرَوْثِ الْخَيْلِ, وَلَمْ يُبْطِلْهَا بِأَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الْخَيْلِ وَخُرْءِ الْغُرَابِ. وَعَلَى مَنْ أَرَاقَ الْمَاءَ يَلَغُ فِيهِ الْكَلْبُ, وَلَمْ يُرِقْ اللَّبَنَ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ, وَعَلَى مَنْ أَمَرَ بِهَرْقِ خَمْسِمِائَةِ رَطْلٍ غَيْرَ أُوقِيَّةٍ مِنْ مَاءٍ وَقَعَ فِيهِ دِرْهَمٌ مِنْ لُعَابِ كَلْبٍ, فَإِنْ كَانَ خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ وَوَقَعَ فِيهِ رَطْلٌ مِنْ لُعَابِ الْكَلْبِ كَانَ طَاهِرًا لاَ يُرَاقُ مِنْهُ شَيْءٌ, فَهَذِهِ هِيَ النَّكَرَاتُ حَقًّا لاَ مَا قلنا. وَبِاَللَّهِ نَتَأَيَّدُ.

(1/116)


128 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَلَغَ فِي الإِنَاءِ الْهِرُّ لَمْ يُهْرَقْ مَا فِيهِ
لَكِنْ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ أَوْ يُسْتَعْمَلُ, ثُمَّ يُغْسَلُ الإِنَاءُ بِالْمَاءِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ, وَلاَ يَلْزَمُ إزَالَةُ لُعَابِهِ مِمَّا عَدَا الإِنَاءَ وَالثَّوْبَ بِالْمَاءِ لَكِنْ بِمَا أَزَالَهُ وَمِنْ الثَّوْبِ بِالْمَاءِ فَقَطْ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّلْمَنْكِيُّ, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ, حدثنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ, حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ, حدثنا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَالْهِرُّ مَرَّةً" .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ, حدثنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ, عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدِ بْنِ رَافِعٍ, عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ وَلَدِ أَبِي قَتَادَةَ: "أَنَّهَا صَبَّتْ لاَِبِي قَتَادَةَ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ, فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ, فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ, إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ" .
قَالَ عَلِيٌّ: فَوَجَبَ غَسْلُ الإِنَاءِ وَلَمْ يَجِبْ إهْرَاقُ مَا فِيهِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُنَجَّسْ, وَوَجَبَ

(1/117)


َغسْلُ لُعَابِهِ مِنْ الثَّوْبِ, لإِنَّ الْهِرَّ ذُو نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَهُوَ حَرَامٌ, وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ, وَلَيْسَ كُلُّ حَرَامٍ نَجِسًا, وَلاَ نَجِسَ إلاَّ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ نَجِسًا, وَالْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَلَيْسَا بِنَجِسَيْنِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
وقال أبو حنيفة: يُهْرَقُ مَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ, وَلاَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ بِهِ, وَيُغْسَلُ الإِنَاءُ مَرَّةً. وَهَذَا خِلاَفُ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ. وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ: يَتَوَضَّأُ بِمَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ, وَلاَ يَغْسِلُ مِنْهُ الإِنَاءَ, وَهَذَا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِمَّنْ أَمَرَ بِغَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْهِرِّ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وطَاوُوس وَعَطَاءٌ. إلاَّ أَنَّ طَاوُوسًا وَعَطَاءً جَعَلاَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ. وَمِمَّنْ أَبَاحَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ أَبُو قَتَادَةَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَعَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُ فَصَحَّ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَقَوْلِنَا نَصًّا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(1/118)


129 - مَسْأَلَةٌ: وَتَطْهِيرُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ
أَيَّ مَيْتَةٍ كَانَتْ وَلَوْ أَنَّهَا جِلْدُ خِنْزِيرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالدِّبَاغِ بِأَيِّ شَيْءٍ دُبِغَ طَاهِرٌ, فَإِذَا دُبِغَ حَلَّ بَيْعُهُ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ, وَكَانَ كَجِلْدِ مَا ذُكِّيَ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ, إِلاَّ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَذْكُورَ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ بِحَالٍ, حَاشَا جِلْدَ الإِنْسَانِ, فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُدْبَغَ, وَلاَ أَنْ يُسْلَخَ, وَلاَ بُدَّ مِنْ دَفْنِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا. وَصُوفُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا وَرِيشُهَا وَوَبَرُهَا حَرَامٌ قَبْلَ الدِّبَاغِ حَلاَلٌ بَعْدَهُ, وَعَظْمُهَا وَقَرْنُهَا مُبَاحٌ كُلُّهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَيْتَةِ, وَلاَ الأَنْتِفَاعُ بِعَصَبِهَا, وَلاَ شَحْمِهَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ ثنا أَبِي قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ ثنا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ ثنا الْحُمَيْدِيُّ ثنا سُفْيَانُ, هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ وَعْلَةَ الْمِصْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت

(1/118)


رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " .
حدثنا حمام ثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ ثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ ثنا الدَّبَرِيِّ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَاةٍ لِمَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ مَيْتَةٍ فَقَالَ: أَفَلاَ انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا: وَكَيْفَ وَهِيَ مَيْتَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ لَحْمُهَا" .
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنْ مَيْمُونَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَاةٍ مُلْقَاةٍ, فَقَالَ لِمَنْ هَذِهِ, قَالُوا لِمَيْمُونَةَ, قَالَ: مَا عَلَيْهَا لَوْ انْتَفَعَتْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إنَّهَا مَيْتَةٌ. قَالَ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَهَا" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ, وَابْنُ أَبِي عُمَرَ, كُلُّهُمْ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ: فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" .
حدثنا حمام ثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ ثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ ثنا الدَّبَرِيِّ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ, عَنْ عَطَاءٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ أَنَّ شَاةً مَاتَتْ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلاَ دَبَغْتُمْ إهَابَهَا" .
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ

(1/119)


بْنُ سَعِيدٍ ثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي, عَنْ قَتَادَةَ, عَنِ الْحَسَنِ, عَنِ الْجَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ, عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلاَّ فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا" .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَسُورِيُّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الدِّينَوَرِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ثنا هُشَيْمٌ, عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ, عَنِ الْحَسَنِ ثنا جَوْنُ بْنُ قَتَادَةَ التَّمِيمِيُّ قَالَ " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فَإِنَّ دِبَاغَ الْمَيْتَةِ طَهُورُهَا" قَالَ عَلِيٌّ: جَوْنٌ وَسَلَمَةُ لَهُمَا صُحْبَةٌ.

(1/120)


حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ, عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ, عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: "إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ, فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ لاَ. هُوَ حَرَامٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ, إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَ, وَذَكَرَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ ثنا جَرِيرٌ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: "كَتَبَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَّا تَسْتَنْفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ, وَلاَ عَصَبٍ" .
قال علي: هذا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ. بَلْ هُوَ حَقٌّ, لاَ يَحِلُّ أَنْ يُنْتَفَعَ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ إِلاَّ حَتَّى يُدْبَغَ, كَمَا جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ الأُُخَرِ, إذْ ضَمُّ أَقْوَالِهِ عليه السلام بَعْضِهَا لِبَعْضٍ فَرْضٌ, وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ, لأََنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ

(1/121)


مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ, عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} وَرُوِيَ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ أَدِيمٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ: أَنَّهَا دَبَغَتْ جِلْدَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ فَلَمْ تَزَلْ تَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى بَلِيَ, وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي جُلُودِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تَمُوتُ فَتُدْبَغُ: إنَّهَا تُبَاعُ وَتُلْبَسُ. وَعَنِ الأَوْزَاعِيِّ إبَاحَةُ بَيْعِهَا. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ إبَاحَةُ الصَّلاَةِ فِيهَا. وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إبَاحَةُ بَيْعِهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْمَيْتَةِ: دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا, وَأَبَاحَ الزُّهْرِيُّ جُلُودَ النُّمُورِ, وَاحْتَجَّ بِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ, وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة: جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ وَعِظَامُهَا وَعَصَبُهَا وَعَقِبُهَا وَصُوفُهَا وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَقَرْنُهَا لاَ بَأْسَ بِالأَنْتِفَاعِ بِكُلِّ ذَلِكَ, وَبَيْعُهُ جَائِزٌ, وَالصَّلاَةُ فِي جِلْدِهَا إذَا دُبِغَ جَائِزٌ, أَيَّ جِلْدٍ كَانَ حَاشَا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ.
وقال مالك: لاَ خَيْرَ فِي عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ, وَلاَ يُصَلَّى فِي شَيْءٍ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَتْ, وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا, أَيَّ جِلْدٍ كَانَ, وَلاَ يُسْتَقَى فِيهَا, لَكِنَّ جُلُودَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إذَا دُبِغَتْ جَازَ الْقُعُودُ عَلَيْهَا وَأَنْ يُغَرْبَلَ عَلَيْهَا, وَكَرِهَ الأَسْتِقَاءَ فِيهَا بِآخِرَةٍ لِنَفْسِهِ, وَلَمْ يَمْنَعْ, عَنْ ذَلِكَ غَيْرَهُ. وَرَأَى جُلُودَ السِّبَاعِ إذَا دُبِغَتْ مُبَاحَةً لِلْجُلُوسِ وَالْغَرْبَلَةِ. وَلَمْ يَرَ جِلْدَ الْحِمَارِ وَإِنْ دُبِغَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ, وَلَمْ يَرَ اسْتِعْمَالَ قَرْنِ الْمَيْتَةِ, وَلاَ سِنَّهَا, وَلاَ ظِلْفِهَا, وَلاَ رِيشِهَا. وَأَبَاحَ صُوفَ الْمَيْتَةِ وَشَعْرَهَا وَوَبَرَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ أُخِذَتْ مِنْ حَيٍّ.
وقال الشافعي: يُتَوَضَّأُ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ أَيَّ جِلْدٍ كَانَ. إِلاَّ جِلْدَ كَلْبٍ

(1/122)


أَوْ خِنْزِيرٍ. وَلاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لاَ صُوفٌ, وَلاَ شَعْرٌ, وَلاَ وَبَرٌ, وَلاَ عَظْمٌ, وَلاَ قَرْنٌ, وَلاَ سِنٌّ, وَلاَ رِيشٌ. إِلاَّ الْجِلْدَ وَحْدَهُ فَقَطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا إبَاحَةُ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَظْمَ وَالْعَقِبَ مِنْ الْمَيْتَةِ فَخَطَأٌ, لأََنَّهُ خِلاَفُ الأَثَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَوْرَدْنَا أَلَّا نَنْتَفِعَ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ, وَلاَ عَصَبٍ وَجَاءَ الْخَبَرُ بِإِبَاحَةِ الإِهَابِ إذَا دُبِغَ, فَبَقِيَ الْعَصَبُ عَلَى التَّحْرِيمِ, وَالْعَقِبُ عَصَبٌ بِلاَ شَكٍّ, وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالْمَيْتَاتِ وَجِلْدِ الْخِنْزِيرِ خَطَأٌ, لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَيْتَةٌ مُحَرَّمٌ, وَلاَ نَعْلَمُ هَذِهِ التَّفَارِيقَ, وَلاَ هَذَا الْقَوْلَ, عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَيْنَ جِلْدِ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَخَطَأٌ, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَيْتَةَ كَمَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ, وَلاَ فَرْقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} , وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَبْشٍ مَيِّتٍ وَبَيْنَ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ عِنْدَهُ, وَلاَ عِنْدَنَا, وَلاَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ فَرْقُهُ بَيْنَ جِلْدِ الْحِمَارِ وَجِلْدِ السِّبَاعِ خَطَأٌ, لأََنَّ التَّحْرِيمَ جَاءَ فِي السِّبَاعِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَمِيرِ, وَلاَ فَرْقَ, وَالْعَجَبُ أَنَّ أَصْحَابَهُ لاَ يُجِيزُونَ الأَنْتِفَاعَ بِجِلْدِ الْفَرَسِ إذَا دُبِغَ, وَلَحْمُهُ إذَا ذُكِّيَ حَلاَلٌ بِالنَّصِّ, وَيُجِيزُونَ الأَنْتِفَاعَ بِجِلْدِ السَّبُعِ إذَا دُبِغَ, وَهُوَ حَرَامٌ لاَ تُعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ بِالنَّصِّ, وَكَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا إذَا دُبِغَتْ خَطَأٌ ; لأََنَّهُ تَفْرِيقٌ بَيْنَ وُجُوهِ الأَنْتِفَاعِ بِلاَ نَصِّ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ نَعْلَمُ هَذَا التَّفْرِيقَ, عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ جُلُودِ السِّبَاعِ وَجِلْدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَخَطَأٌ, لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَيْتَةٌ حَرَامٌ سَوَاءٌ, وَدَعْوَاهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: إذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ أَنَّ مَعْنَاهُ عَادَ إلَى طَهَارَتِهِ خَطَأٌ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ طَهُرَ, وَلاَ نَعْلَمُ هَذَا التَّفْرِيقَ, عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا كُلُّ مَا كَانَ عَلَى الْجِلْدِ مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ فَهُوَ بَعْدَ الدِّبَاغِ طَاهِرٌ كُلُّهُ لاَ قَبْلَ الدِّبَاغِ ; لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ أَنَّ عَلَى جُلُودِ الْمَيْتَةِ الشَّعْرَ وَالرِّيشَ وَالْوَبَرَ وَالصُّوفَ, فَلَمْ يَأْمُرْ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ, وَلاَ أَبَاحَ اسْتِعْمَالَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الدِّبَاغِ, وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الدِّبَاغِ بَعْضُ الْمَيْتَةِ حَرَامٌ, وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ الدِّبَاغِ طَاهِرٌ لَيْسَ مَيْتَةً, فَهُوَ حَلاَلٌ حَاشَا أَكْلَهُ, وَإِذْ هُوَ حَلاَلٌ فَلِبَاسُهُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا وَبَيْعُ كُلِّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الأَنْتِفَاعِ

(1/123)


الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ أُزِيلَ ذَلِكَ, عَنِ الْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ لَمْ يَجُزْ الأَنْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ, وَهُوَ حَرَامٌ, إذْ لاَ يَدْخُلُ الدِّبَاغُ فِيهِ, وَإِنْ أُزِيلَ بَعْدَ الدِّبَاغِ فَقَدْ طَهُرَ, فَهُوَ حَلاَلٌ بَعْدُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ حَاشَا أَكْلَهُ فَقَطْ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ وَالرِّيشُ وَالْقَرْنُ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْحَيِّ بَعْضُ الْحَيِّ, وَالْحَيُّ مُبَاحٌ مِلْكُهُ وَبَيْعُهُ إِلاَّ مَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَيْتَةِ مَيْتَةٌ, وَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَ الْمَيْتَةِ, وَبَعْضُ الْمَيْتَةِ مَيْتَةٌ, فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَالأَنْتِفَاعُ بِكُلِّ ذَلِكَ جَائِزٌ, لِقَوْلِهِ عليه السلام: إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا فَأَبَاحَ مَا عَدَا ذَلِكَ إِلاَّ مَا حُرِّمَ بِاسْمِهِ مِنْ بَيْعِهَا وَالأَدِّهَانِ بِشُحُومِهَا, وَمِنْ عَصَبِهَا وَلَحْمِهَا.
وَأَمَّا شَعْرُ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمُهُ فَحَرَامٌ كُلُّهُ, لاَ يَحِلُّ أَنْ يُتَمَلَّكَ, وَلاَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ, فَالْخِنْزِيرُ كُلُّهُ رِجْسٌ, وَالرِّجْسُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} حَاشَا الْجِلْدَ فَإِنَّهُ بِالدِّبَاغِ طَاهِرٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام " وأيما إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" .
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا جِلْدُ الإِنْسَانِ فَقَدْ صَحَّ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُثْلَةِ, وَالسَّلْخُ أَعْظَمُ الْمُثْلَةِ, فَلاَ يَحِلُّ التَّمْثِيلُ بِكَافِرٍ, وَلاَ مُؤْمِنٍ, وَصَحَّ أَمْرُهُ عليه السلام بِإِلْقَاءِ قَتْلَى كُفَّارِ بَدْرٍ فِي الْقَلِيبِ, فَوَجَبَ دَفْنُ كُلِّ مَيِّتٍ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/124)


130 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَاءُ الْخَمْرِ إنْ تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ فِيهِ فَقَدْ صَارَ طَاهِرًا
يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَيُشْرَبُ وَإِنْ لَمْ يُغْسَلْ, فَإِنْ أُهْرِقَتْ أُزِيلَ أَثَرُ الْخَمْرِ, وَلاَ بُدَّ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ الطَّاهِرَاتِ أُزِيلَ, وَيَطْهُرُ الإِنَاءُ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ كَانَ فَخَّارًا أَوْ عُودًا أَوْ خَشَبًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَجَرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
أَمَّا الْخَمْرُ فَمُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ, فَوَاجِبٌ اجْتِنَابُهَا. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} فَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ أَوْ خُلِّلَتْ فَالْخَلُّ حَلاَلٌ بِالنَّصِّ طَاهِرٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا

(1/124)


عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ, حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ, عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ, عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ" فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ, وَالْخَلُّ لَيْسَ خَمْرًا, لإِنَّ الْحَلاَلَ الطَّاهِرَ غَيْرُ الْحَرَامِ الرِّجْسِ بِلاَ شَكٍّ, فَإِذَنْ لاَ خَمْرَ هُنَالِكَ أَصْلاً, وَلاَ أَثَرَ لَهَا فِي الإِنَاءِ, فَلَيْسَ هُنَالِكَ شَيْءٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ وَإِزَالَتُهُ. وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ أَثَرُ الْخَمْرِ فِي الإِنَاءِ فَهِيَ هُنَالِكَ بِلاَ شَكٍّ. وَإِزَالَتُهَا وَاجْتِنَابُهَا فَرْضٌ. وَلاَ نَصَّ, وَلاَ إجْمَاعَ فِي شَيْءٍ مَا بِعَيْنِهِ تُزَالُ بِهِ. فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أُزِيلَتْ بِهِ فَقَدْ أَدَّيْنَا مَا عَلَيْنَا مِنْ وَاجِبِ إزَالَتِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَإِذَا أُزِيلَتْ فَالإِنَاءُ طَاهِرٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ شَيْءٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ مِنْ أَجْلِهِ.

(1/125)


فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ كَذِبَ مَنْ تَخَرَّصَ بِلاَ عِلْمٍ وَقَالَ: كَانَتْ تَفْرُكُهُ بِالْمَاءِ.
حدثنا حمام, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ, حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ, عَنْ إبْرَاهِيمَ, عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّي فِيهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ, عَنْ عَائِشَةَ مُسْنَدًا, وَهَذَا تَوَاتُرٌ, وَصَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ, وَصَحَّ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ, هُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّخَامِ وَالْبُزَاقِ امْسَحْهُ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ, وَلاَ تَغْسِلْهُ إنْ شِئْت إلاَّ أَنْ تُقَذِّرَهُ أَوْ تَكْرَهَ أَنْ يُرَى فِي ثَوْبِك, وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ.
وقال مالك: هُوَ نَجِسٌ, وَلاَ يُجْزِئُ إلاَّ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ. وَرُوِّينَا غَسْلَهُ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وقال أبو حنيفة: هُوَ نَجِسٌ, فَإِنْ كَانَ فِي الْجَسَدِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ لَمْ يُجْزِئْ فِي إزَالَتِهِ غَيْرُ الْمَاءِ, فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ أَجْزَأَتْ إزَالَتُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ, فَإِنْ كَانَ فِي الثَّوْبِ أَوْ النَّعْلِ أَوْ الْخُفِّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ, فَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَمْ يَجُزْ إلاَّ غَسْلُهُ بِأَيِّ مَائِعٍ كَانَ, فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أَوْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ وَإِنْ كَانَ رَطْبًا أَجْزَأَ مَسْحُهُ فَقَطْ, وَرُوِّينَا, عَنِ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلْهُ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَحُتَّهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى نَجَاسَةَ الْمَنِيِّ بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ وَكُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم". وَقَالُوا: هُوَ خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ فَيَنْجَسُ لِذَلِكَ وَذَكَرُوا حَدِيثًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَرَّةً قَالَ: عَنِ الأَعْمَشِ, وَمَرَّةً قَالَ: عَنْ مَنْصُورٍ, ثُمَّ اسْتَمَرَّ, عَنْ إبْرَاهِيمَ, عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ

(1/126)


عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَنِيّ:ِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِحَتِّهِ" .
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ. أَمَّا الصَّحَابَةُ, رضي الله عنهم, فَقَدْ رُوِّينَا, عَنْ عَائِشَةَ وَسَعْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا, وَإِذَا تَنَازَعَ الصَّحَابَةُ, رضي الله عنهم, فَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ, بَلْ الرَّدُّ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَسْلِهِ, وَلاَ بِإِزَالَتِهِ, وَلاَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ. وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُهُ. وَأَنَّ عَائِشَةَ تَغْسِلُهُ, وَأَفْعَالُهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ, وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مَالِكُ بْنُ إسْمَاعِيلَ, حدثنا زُهَيْرٌ, هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا حُمَيْدٌ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلاً عِنْدَ خُصُومِنَا عَلَى نَجَاسَةِ النُّخَامَةِ, وَقَدْ يَغْسِلُ الْمَرْءُ ثَوْبَهُ مِمَّا لَيْسَ نَجِسًا. وَأَمَّا حَدِيثُ سُفْيَانَ فَإِنَّمَا انْفَرَدَ بِهِ أَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ النَّهْدِيُّ, بَصْرِيٌّ ضَعِيفٌ مُصَحِّفٌ كَثِيرُ الْخَطَإِ, رَوَى, عَنْ سُفْيَانَ الْبَوَاطِلَ, قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ: هُوَ شِبْهُ لاَ شَيْءَ, كَأَنَّ سُفْيَانَ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْهُ أَبُو حُذَيْفَةَ لَيْسَ سُفْيَانَ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنْهُ النَّاسَ.

(1/127)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ, فَلاَ حُجَّةَ فِي هَذَا, لاَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لِلْبَوْلِ مَا لَمْ يَظْهَرْ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} فَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ مُنَجِّسًا لَهُ, فَسَقَطَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال بعضهم: يَغْسِلُهُ رَطْبًا عَلَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, وَيَحُكُّهُ يَابِسًا عَلَى سَائِرِ الأَحَادِيثِ. قال علي: وهذا بَاطِلٌ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ رَطْبًا, وَلاَ فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَابِسًا, إلاَّ فِي حَدِيثِ الْخَوْلاَنِيِّ وَحْدَهُ, فَحَصَلَ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّحَكُّمِ, إذْ زَادَ فِي الأَخْبَارِ مَا لَيْسَ فِيهَا. قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى كُنْتُ أَفْرُكُهُ أَيْ بِالْمَاءِ.
قال علي: وهذا كَذِبٌ آخَرُ وَزِيَادَةٌ فِي الْخَبَرِ, فَكَيْفَ وَفِي بَعْضِ الأَخْبَارِ كَمَا أَوْرَدْنَا يَابِسًا بِظُفُرِي. قَالَ عَلِيٌّ: وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِهِ, وَلاََخْبَرَهُ كَمَا أَخْبَرَهُ إذْ صَلَّى بِنَعْلَيْهِ وَفِيهِمَا قَذَرٌ فَخَلَعَهُمَا, وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا بِإِسْنَادِهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/128)


132 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أُحْرِقَتْ الْعَذِرَةُ أَوْ الْمَيْتَةُ أَوْ تَغَيَّرَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا أَوْ تُرَابًا, فَكُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ, وَيُتَيَمَّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ,
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ الأَحْكَامَ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِيهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الاِسْمُ الَّذِي بِهِ خَاطَبَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ الاِسْمُ فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ الْحُكْمُ, وَأَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. وَالْعَذِرَةُ غَيْرُ التُّرَابِ وَغَيْرُ الرَّمَادِ, وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ غَيْرُ الْخَلِّ, وَالإِنْسَانُ غَيْرُ الدَّمِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ, وَالْمَيْتَةُ غَيْرُ التُّرَابِ.

(1/128)


133 - مَسْأَلَةٌ: وَلُعَابُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
الْجُنُبِ مِنْهُمْ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهِمَا وَلُعَابُ الْخَيْلِ وَكُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, وَعَرَقُ كُلِّ ذَلِكَ وَدَمْعُهُ, وَسُؤْرُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ مُبَاحٌ الصَّلاَةُ بِهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا يَحْيَى, هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ, حدثنا حُمَيْدٌ, حدثنا بَكْرٌ, عَنْ أَبِي رَافِعٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جُنُبٌ, قَالَ: فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ فَذَهَبْتُ فَاغْتَسَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ, فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ طَاهِرٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} فَكُلُّ حَلاَلٍ هُوَ طَيِّبٌ, وَالطَّيِّبُ لاَ يَكُونُ نَجِسًا بَلْ هُوَ طَاهِرٌ, وَبَعْضُ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ بِلاَ شَكٍّ, لإِنَّ الْكُلَّ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ أَبْعَاضِهِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّاهِرِ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ, كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالرَّجِيعِ, وَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ الطَّاهِرِ, وَيَبْقَى سَائِرُهَا عَلَى الطَّهَارَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/129)


134 - مَسْأَلَةٌ: وَلُعَابُ الْكُفَّارِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْكِتَابِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ نَجِسٌ كُلُّهُ, وَكَذَلِكَ الْعَرَقُ مِنْهُمْ وَالدَّمْعُ, وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْهُمْ, وَلُعَابُ كُلِّ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ طَائِرٍ أَوْ غَيْرِهِ, مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ هِرٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ فَأْرٍ, حَاشَا الضَّبُعَ فَقَطْ, وَعَرَقُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَدَمْعُهُ حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَبِيَقِينٍ يَجِبُ أَنَّ بَعْضَ النَّجَسِ نَجَسٌ ; لإِنَّ الْكُلَّ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ أَبْعَاضِهِ, فإن قيل: إنَّ مَعْنَاهُ نَجَسُ

(1/129)


الدِّينِ, قِيلَ: هَبْكُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ. أَيَجِبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَاهِرُونَ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا وَمَا فُهِمَ قَطُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} مَعَ قَوْلِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَاهِرُونَ, وَلاَ عَجَبَ فِي الدُّنْيَا أَعْجَبُ مِمَّنْ يَقُولُ فِيمَنْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ نَجَسٌ إنَّهُمْ طَاهِرُونَ, ثُمَّ يَقُولُ فِي الْمَنِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْتِ قَطُّ بِنَجَاسَتِهِ نَصٌّ إنَّهُ نَجِسٌ, وَيَكْفِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ سَمَاعُهُ. وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ.
فإن قيل: قَدْ أُبِيحَ لَنَا نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَوَطْؤُهُنَّ, قلنا نَعَمْ, فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ لُعَابَهَا وَعَرَقَهَا وَدَمْعَهَا طَاهِرٌ فإن قيل: إنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ ذَلِكَ. قلنا: هَذَا خَطَأٌ, بَلْ يَفْعَلُ فِيمَا مَسَّهُ مِنْ لُعَابِهَا وَعَرَقِهَا مِثْلَ الَّذِي يَفْعَلُ إذَا مَسَّهُ بَوْلُهَا أَوْ دَمُهَا أَوْ مَائِيَّةُ فَرْجِهَا, وَلاَ فَرْقَ, وَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ, ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَهُمْ ذَلِكَ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ, مِنْ أَيْنَ لَهُمْ طَهَارَةُ رِجَالِهِمْ أَوْ طَهَارَةُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ قَالُوا: قلنا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لإِنَّ أَوَّلَ بُطْلاَنِهِ أَنَّ عِلَّتَهُمْ فِي طَهَارَةِ الْكِتَابِيَّاتِ جَوَازُ نِكَاحِهِنَّ, وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةٌ بِإِقْرَارِهِمْ فِي غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ. وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ, وَهَذِهِ عِلَّةٌ مُفَرِّقَةٌ لاَ جَامِعَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/130)


وَأَمَّا كُلُّ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ فَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ, وَالْحَرَامُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ, وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَبَعْضُ الْوَاجِبِ اجْتِنَابُهُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ, وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ سَمِعْت حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدَ يَقُولُ, عَنِ الدَّجَّالِ ", وَلاَ يُسَخَّرُ لَهُ مِنْ الْمَطَايَا إلاَّ الْحِمَارُ فَهُوَ رِجْسٌ عَلَى رِجْسٍ " وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَرَقُ الْحِمَارِ نَجِسٌ.
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الضَّبُعِ فَلِمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا مُسَدَّدٌ, حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنْ أَبِي بِشْرٍ, عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وبه إلى أَبِي دَاوُد, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ, حدثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ, عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الضَّبُعِ, فَقَالَ: "هُوَ صَيْدٌ" وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ".

(1/131)


وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل مايؤكل لحمه
...
135 - مَسْأَلَةٌ: وَسُؤْرُ كُلِّ كَافِرٍ أَوْ كَافِرَةٍ وَسُؤْرُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ أَوْ دَجَاجٍ مُخَلًّى أَوْ غَيْرِ مُخَلًّى إذَا لَمْ يَظْهَرْ هُنَالِكَ لِلُّعَابِ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَثَرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ, حَاشَا مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ فَقَطْ, وَلاَ يَجِبُ غَسْلُ الإِنَاءِ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ, حَاشَا مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ وَالْهِرُّ فَقَطْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِطَهَارَةِ الطَّاهِرِ وَتَنَجُّسِ النَّجِسِ وَتَحْرِيمِ الْحَرَامِ وَتَحْلِيلِ الْحَلاَلِ, وَذَمَّ أَنْ تُتَعَدَّى حُدُودُهُ, فَكُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَجَّسَ بِمُلاَقَاةِ النَّجِسِ لَهُ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَجِسٌ فَإِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ بِمُلاَقَاةِ الطَّاهِرِ لَهُ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم . وَكُلُّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لاَ يَحْرُمُ بِمُلاَقَاةِ الْحَرَامِ لَهُ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم . وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ بِمُلاَقَاةِ الْحَلاَلِ لَهُ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم . وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الطَّاهِرَ يَتَنَجَّسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجِسِ.
وَأَنَّ الْحَلاَلَ يَحْرُمُ بِمُلاَقَاةِ الْحَرَامِ, وَبَيْنَ مَنْ عَكَسَ الأَمْرَ فَقَالَ: بَلْ النَّجِسُ يَطْهُرُ بِمُلاَقَاةِ الطَّاهِرِ, وَالْحَرَامُ يَحِلُّ بِمُلاَقَاةِ الْحَلاَلِ, كِلاَ الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ, بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ, إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا فِي شَيْءٍ مَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ, وَلاَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ. فَإِذَا شَرِبَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا فِي إنَاءٍ أَوْ أَكَلَ أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ عُضْوًا مِنْهُ أَوْ وَقَعَ فِيهِ فَسُؤْرُهُ حَلاَلٌ طَاهِرٌ, وَلاَ يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِمَّا مَاسَّهُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ النَّجَسِ, إلاَّ أَنْ

(1/132)


يَظْهَرَ بَعْضُ الْحَرَامِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ, وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا قَدَّمْنَا. حَاشَا الْكَلْبَ وَالْهِرَّ, فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقال أبو حنيفة: إنْ شَرِبَ فِي الإِنَاءِ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَهُوَ طَاهِرٌ, وَالْوُضُوءُ بِذَلِكَ الْمَاءِ جَائِزٌ: الْفَرَسُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ سَوَاءٌ,
وَكَذَلِكَ أَسْآرُ جَمِيعِ الطَّيْرِ, وَمَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ مِنْهَا, وَالدَّجَاجِ الْمُخَلَّى وَغَيْرِهِ, فَإِنَّ الْوُضُوءَ بِذَلِكَ الْمَاءِ جَائِزٌ وَأَكْرَهُهُ, وَأَكْلُ أَسْآرِهَا حَلاَلٌ, قَالَ فَإِنْ شَرِبَ فِي الإِنَاءِ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ هِرٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَهُوَ نَجِسٌ: وَلاَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ بِهِ, وَمَنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَعَادَ أَبَدًا.
وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهَا فِي مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ, قَالَ: وَهَذَا وَمَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ, وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ وَأَسْتَحْسِنُ. قال علي: هذا فَرْقٌ فَاسِدٌ. وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُ فَرَّقَ هَذَا الْفَرْقَ: وَلَئِنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَلَقَدْ أَخْطَأَ فِي تَرْكِهِ الْحَقَّ, وَفِي اسْتِحْسَانِ خِلاَفِ الْحَقِّ, وَلَئِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بَاطِلاً, فَلَقَدْ أَخْطَأَ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَاطِلِ حَيْثُ اسْتَعْمَلَهُ وَدَانَ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ: حُكْمُ الْمَائِعِ حُكْمُ اللَّحْمِ الْمُمَاسِّ لَهُ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ, وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ لَهُمَا وَاحِدٌ فِي التَّحْرِيمِ فَقَدْ كَذَبَ, لإِنَّ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ حَرَامٌ, وَهُمْ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا شَرِبَ فِيهِ أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ لِسَانَهُ, وَإِنْ كَانَ أَرَادَ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ, فَمَنْ لَهُ بِنَجَاسَةِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مَا دَامَ حَيًّا, وَلاَ دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ, وَلاَ يَكُونُ نَجِسًا إلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ نَجِسٌ, وَإِلاَّ فَلَوْ كَانَ كُلُّ حَرَامٍ نَجِسًا لَكَانَ ابْنُ آدَمَ نَجِسًا. وقال مالك: سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَكُلِّ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ كَسُؤْرِ غَيْرِهِ, وَلاَ فَرْقَ. قَالَ: وَأَمَّا مَا أَكَلَ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ فَإِنْ شَرِبَ مِنْ مَاءٍ لَمْ يُتَوَضَّأْ بِهِ وَكَذَلِكَ الدَّجَاجُ الَّتِي تَأْكُلُ النَّتِنَ, فَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يُعِدْ إلاَّ فِي الْوَقْتِ, فَإِنْ شَرِبَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي لَبَنٍ, فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي مِنْقَارِهِ قَذَرٌ لَمْ يُؤْكَلْ, وَأَمَّا مَا لَمْ يُرَ فِي مِنْقَارِهِ فَلاَ بَأْسَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ: يَتَوَضَّأُ بِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ وَيَتَيَمَّمُ, إذَا عَلِمَ أَنَّهَا تَأْكُلُ النَّتِنَ. وقال مالك: لاَ بَأْسَ بِلُعَابِ الْكَلْبِ.
قَالَ عَلِيٌّ: إيجَابُهُ الإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ خَطَأٌ عَلَى أَصْلِهِ, لاَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ

(1/133)


أَدَّى الطَّهَارَةَ وَالصَّلاَةَ كَمَا أُمِرَ, أَوْ لَمْ يُؤَدِّهِمَا كَمَا أُمِرَ, فَإِنْ كَانَ أَدَّى الصَّلاَةَ وَالطَّهَارَةَ كَمَا أُمِرَ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرَيْنِ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ, وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّهِمَا كَمَا أُمِرَ فَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ أَبَدًا, وَهِيَ تُؤَدَّى عِنْدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ إذْ سُئِلَ بِهَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: صَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ, فَلَمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ هَذَا ذَكَرَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . قال أبو محمد: “عَلِيٌّ: وَهَذَا الاِحْتِجَاجُ بِالآيَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا أَقْبَحُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُمَوَّهِ لَهُ بِذَلِكَ ; لإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمِ إذْ رَمَى, وَلَكِنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَمَاهَا. فَهَذَا الْبَائِسُ الَّذِي صَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ, مَنْ صَلاَّهَا عَنْهُ فَلاَ بُدَّ لِلصَّلاَةِ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا فَاعِلٌ, كَمَا كَانَ لِلرَّمْيَةِ رَامٍ, وَهُوَ الْخَلاَّقُ عَزَّ وَجَلَّ إذْ وُجُودُ فِعْلٍ لاَ فَاعِلَ لَهُ مُحَالٌ وَضَلاَلٌ, وَلَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ, وَإِنْ كَانَتْ الصَّلاَةُ الَّتِي أُمِرَ بِهَا غَيْرَ مَوْجُودَةٍ مِنْهُ فَلْيُصَلِّهَا عَلَى أَصْلِهِمْ أَبَدًا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا تَأْكُلُ النَّتِنَ فَمُتَنَاقِضٌ, لاَِنَّهُ إمَّا مَاءٌ
وَأَمَّا لَيْسَ مَاءً, فَإِنْ كَانَ مَاءً فَإِنَّهُ لَئِنْ كَانَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ بِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ, فَإِنَّهُ يُجْزِئُ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهُ, لاَِنَّهُ مَاءٌ, وَإِنْ كَانَ لاَ يُجْزِئُ إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ, فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ إنْ كَانَ لَيْسَ مَاءً ; لاَِنَّهُ لاَ يُعَوِّضُ مِنْ الْمَاءِ إلاَّ التُّرَابُ, وَإِدْخَالُ التَّيَمُّمِ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لإِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَحِلُّ مَا دَامَ يُوجَدُ مَاءٌ يُجْزِئُ بِهِ الْوُضُوءُ.
وقال الشافعي: سُؤْرُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ الْحَلاَلِ أَكْلُهُ وَالْحَرَامِ أَكْلُهُ طَاهِرٌ, وَكَذَلِكَ لُعَابُهُ حَاشَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ, وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ هَذَا بَعْضُ أَحْكَامِهِ بِأَنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى أَسْآرِ بَنِي آدَمَ وَلُعَابِهِمْ, فَإِنَّ لُحُومَهُمْ حَرَامٌ, وَلُعَابَهُمْ وَأَسْآرَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لإِنَّ قِيَاسَ سَائِرِ السِّبَاعِ عَلَى الْكَلْبِ الَّذِي لَمْ يُحَرَّمْ إلاَّ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهَا, وَبِعُمُومِ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَقَطْ, فَدَخَلَ الْكَلْبُ فِي جُمْلَتِهَا بِهَذَا النَّصِّ, وَلَوْلاَهُ لَكَانَ حَلاَلاً أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى ابْنِ

(1/134)


آدَمَ الَّذِي لاَ عِلَّةَ تَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ; لإِنَّ بَنِي آدَمَ مُتَعَبِّدُونَ, وَالسِّبَاعُ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ غَيْرُ مُتَعَبِّدَةٍ, وَإِنَاثُ بَنِي آدَمَ حَلاَلٌ لِذُكُورِهِمْ بِالتَّزْوِيجِ الْمُبَاحِ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَاثُ سَائِرِ الْحَيَوَانِ, وَأَلْبَانُ نِسَاءِ بَنِي آدَمَ حَلاَلٌ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَلْبَانُ إنَاثِ السِّبَاعِ وَالآُتُنِ, فَظَهَرَ خَطَأُ هَذَا الْقِيَاسِ بِيَقِينٍ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهَا عَلَى الْهِرِّ, قِيلَ لَهُمْ: وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تَقِيسُوهَا عَلَى الْهِرِّ دُونَ أَنْ تَقِيسُوهَا عَلَى الْكَلْبِ لاَ سِيَّمَا وَقَدْ قِسْتُمْ الْخِنْزِيرَ عَلَى الْكَلْبِ وَلَمْ تَقِيسُوهُ عَلَى الْهِرِّ, كَمَا قِسْتُمْ السِّبَاعَ عَلَى الْهِرِّ, هَذَا لَوْ سُلِّمَ لَكُمْ أَمْرُ الْهِرِّ, فَكَيْفَ وَالنَّصُّ الثَّابِتُ الَّذِي هُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدَةَ, عَنْ كَبْشَةَ وَقَدْ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْهِرِّ, فَهَذِهِ مَقَايِيسُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ كَمَا تَرَى. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ.

(1/135)


136 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ شَيْءٍ مَائِعٍ مِنْ مَاءٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ
أَوْ لَبَنٍ أَوْ مَاءِ وَرْدٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ مَرَقٍ أَوْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, أَيَّ شَيْءٍ كَانَ, إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ شَيْءٌ حَرَامٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ أَوْ مَيْتَةٌ, فَإِنْ غَيَّرَ ذَلِكَ لَوْنَ مَا وَقَعَ فِيهِ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ فَقَدْ فَسَدَ كُلُّهُ وَحُرِّمَ أَكْلُهُ, وَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ, وَلاَ بَيْعُهُ, فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ لَوْنِ مَا وَقَعَ فِيهِ, وَلاَ مِنْ طَعْمِهِ, وَلاَ مِنْ رِيحِهِ, فَذَلِكَ الْمَائِعُ حَلاَلٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَالْوُضُوءُ حَلاَلٌ بِذَلِكَ الْمَاءِ, وَالتَّطَهُّرُ بِهِ فِي الْغُسْلِ أَيْضًا كَذَلِكَ, وَبَيْعُ مَا كَانَ جَائِزًا بَيْعُهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَلاَلٌ, وَلاَ مَعْنَى لِتَبَيُّنِ أَمْرِهِ, وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ مُخَاطٌ أَوْ بُصَاقٌ إلاَّ أَنَّ الْبَائِلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ الَّذِي لاَ يَجْرِي حَرَامٌ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَالاِغْتِسَالُ بِهِ لِفَرْضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ, وَحُكْمُهُ التَّيَمُّمُ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ. وَذَلِكَ الْمَاءُ طَاهِرٌ حَلاَلٌ شُرْبُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ, إنْ لَمْ يُغَيِّرْ الْبَوْلُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ. وَحَلاَلٌ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ بِهِ لِغَيْرِهِ. فَلَوْ أَحْدَثَ فِي الْمَاءِ أَوْ بَالَ

(1/135)


خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ جَرَى الْبَوْلُ فِيهِ فَهُوَ طَاهِرٌ, يَجُوزُ الْوُضُوءُ مِنْهُ وَالْغُسْلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ, إلاَّ أَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ الْبَوْلُ أَوْ الْحَدَثُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ الْمَاءِ, فَلاَ يُجْزِئُ حِينَئِذٍ اسْتِعْمَالُهُ أَصْلاً لَهُ, وَلاَ لِغَيْرِهِ. وَحَاشَا مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يُهْرَقُ, وَلاَ بُدَّ كَمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِهِ, وَحَاشَا السَّمْنَ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ مَيِّتًا أَوْ يَمُوتُ فِيهِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْهُ حَيًّا ذَكَرًا كَانَ الْفَأْرُ أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَائِبًا حِينَ مَوْتِ الْفَأْرِ فِيهِ, أَوْ حِينَ وُقُوعِهِ فِيهِ مَيِّتًا أَوْ خَرَجَ مِنْهُ حَيًّا أُهْرِقَ كُلُّهُ وَلَوْ أَنَّهُ أَلْفُ أَلْفِ قِنْطَارٍ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ وَلَمْ يَحِلَّ الاِنْتِفَاعُ بِهِ جَمَدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجْمُدْ وَإِنْ كَانَ حِينَ مَوْتِ الْفَأْرِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِيهِ مَيِّتًا جَامِدًا وَاتَّصَلَ جُمُودُهُ, فَإِنَّ الْفَأْرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَمَا حَوْلَهُ وَيُرْمَى, وَالْبَاقِي حَلاَلٌ أَكْلُهُ وَبَيْعُهُ وَالاِدِّهَانُ بِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ, وَحَاشَا الْمَاءَ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى وَحَكَمَ فِيهِ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ آخَرُ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ. وَكُلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ نَجَّسَهُ فَهُوَ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ آخَرُ بِإِبَاحَتِهِ أَوْ تَطْهِيرِهِ, وَمَا عَدَا هَذَا فَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى, وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وَصَحَّ بِهَذَا يَقِينًا أَنَّ الطَّاهِرَ لاَ يَنْجَسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجِسِ, وَأَنَّ

(1/136)


النَّجِسَ لاَ يَطْهُرُ بِمُلاَقَاةِ الطَّاهِرِ. وَأَنَّ الْحَلاَلَ لاَ يُحَرَّمُ بِمُلاَقَاةِ الْحَرَامِ وَالْحَرَامَ لاَ يَحِلُّ بِمُلاَقَاةِ الْحَلاَلِ بَلْ الْحَلاَلُ حَلاَلٌ كَمَا كَانَ وَالْحَرَامُ حَرَامٌ كَمَا كَانَ, وَالطَّاهِرُ طَاهِرٌ كَمَا كَانَ وَالنَّجِسُ نَجِسٌ كَمَا كَانَ, إلاَّ أَنْ يَرِدَ نَصٌّ بِإِحَالَةِ حُكْمٍ مِنْ ذَلِكَ فَسَمْعًا وَطَاعَةً. وَإِلاَّ فَلاَ.
وَلَوْ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِمَا يُلاَقِيهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا طَهُرَ شَيْءٌ أَبَدًا, لاَِنَّهُ كَانَ إذَا صُبَّ عَلَى النَّجَاسَةِ لِغَسْلِهَا يَنْجَسُ عَلَى قَوْلِهِمْ, وَلاَ بُدَّ, وَإِذَا تَنَجَّسَ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ, وَهَكَذَا أَبَدًا, وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَنَجَّسَ الْبَحْرُ وَالأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا ; لاَِنَّهُ إذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ وَجَبَ أَنْ يَتَنَجَّسَ الْمَاءُ الَّذِي يُمَاسُّهُ أَيْضًا, ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَتَنَجَّسَ مَا مَسَّهُ أَيْضًا كَذَلِكَ أَبَدًا, وَهَذَا لاَ مَخْلَصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: لاَ يَتَنَجَّسُ. تَرَكُوا قَوْلَهُمْ وَرَجَعُوا إلَى الْحَقِّ وَتَنَاقَضُوا, وَفِي إجْمَاعِهِمْ مَعَنَا عَلَى بُطْلاَنِ ذَلِكَ وَعَلَى تَطْهِيرِ الْمَخْرَجِ وَالدَّمِ فِي الْفَمِ وَالثَّوْبِ وَالْجِسْمِ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لاَ نَجَاسَةَ إلاَّ مَا ظَهَرَتْ فِيهِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ, وَلاَ يُحَرَّمُ إلاَّ مَا ظَهَرَ فِيهِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَقَطْ, وَسَائِرُ قَوْلِهِمْ فَاسِدٌ. فَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَاءِ الْوَارِدِ وَبَيْنَ الَّذِي تَرِدُهُ النَّجَاسَةُ. زَادُوا فِي التَّخْلِيطِ بِلاَ دَلِيلٍ.
وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُ الْحَلاَلِ الطَّاهِرِ بِمَا مَازَجَهُ مِنْ نَجِسٍ أَوْ حَرَامٍ أَوْ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ بِذَلِكَ, أَوْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ بِذَلِكَ, فَإِنَّنَا حِينَئِذٍ لاَ نَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَلاَلِ إلاَّ بِاسْتِعْمَالِ الْحَرَامِ, وَاسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَفِي الصَّلاَةِ حَرَامٌ كَمَا قلنا, وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاِمْتِنَاعُ مِنْهُ, لاَ لإِنَّ الْحَلاَلَ الطَّاهِرَ حُرِّمَ, وَلاَ تَنَجَّسَتْ عَيْنُهُ, وَلَوْ قَدَرْنَا عَلَى تَخْلِيصِ الْحَلاَلِ الطَّاهِرِ مِنْ الْحَرَامِ وَالنَّجَسِ, لَكَانَ حَلاَلاً بِحَسَبِهِ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ أَوْ الْحَرَامُ عَلَى جِرْمٍ طَاهِرٍ فَأَزَلْنَاهَا, فَإِنَّ النَّجِسَ لَمْ يَطْهُرْ وَالْحَرَامُ لَمْ يَحِلَّ, لَكِنَّهُ زَايَلَ الْحَلاَلَ الطَّاهِرَ, فَقَدَرْنَا عَلَى أَنْ نَسْتَعْمِلَهُ حِينَئِذٍ حَلاَلاً طَاهِرًا كَمَا كَانَ.

(1/137)


وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَالَتْ صِفَاتُ عَيْنِ النَّجِسِ أَوْ الْحَرَامِ, فَبَطَلَ عَنْهُ الاِسْمُ الَّذِي بِهِ وَرَدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ, وَانْتَقَلَ إلَى اسْمٍ آخَرَ وَارِدٍ عَلَى حَلاَلٍ طَاهِرٍ, فَلَيْسَ هُوَ ذَلِكَ النَّجِسَ, وَلاَ الْحَرَامَ, بَلْ قَدْ صَارَ شَيْئًا آخَرَ ذَا حُكْمٍ آخَرَ.
وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَالَتْ صِفَاتُ عَيْنِ الْحَلاَلِ الطَّاهِرِ, فَبَطَلَ عَنْهُ الاِسْمُ الَّذِي بِهِ وَرَدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ, وَانْتَقَلَ إلَى اسْمٍ آخَرَ وَارِدٍ عَلَى حَرَامٍ أَوْ نَجِسٍ, فَلَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْحَلاَلَ الطَّاهِرَ, بَلْ قَدْ صَارَ شَيْئًا آخَرَ ذَا حُكْمٍ آخَرَ كَالْعَصِيرِ يَصِيرُ خَمْرًا, أَوْ الْخَمْرِ يَصِيرُ خَلًّا, أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ تَأْكُلُهُ دَجَاجَةٌ يَسْتَحِيلُ فِيهَا لَحْمَ دَجَاجٍ حَلاَلاً وَكَالْمَاءِ يَصِيرُ بَوْلاً, وَالطَّعَامِ يَصِيرُ عَذِرَةً, وَالْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ تُدْهَنُ بِهِمَا الأَرْضُ فَيَعُودَانِ ثَمَرَةً حَلاَلاً, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ, وَكَنُقْطَةِ مَاءٍ تَقَعُ فِي خَمْرٍ أَوْ نُقْطَةِ خَمْرٍ تَقَعُ فِي مَاءٍ, فَلاَ يَظْهَرُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَثَرٌ, وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ, وَالأَحْكَامُ لِلأَسْمَاءِ وَالأَسْمَاءُ تَابِعَةٌ لِلصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ حَدُّ مَا هِيَ فِيهِ الْمُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْوَاعِهِ.
وَأَمَّا إبَاحَةُ بَيْعِهِ وَالاِسْتِصْبَاحِ بِهِ, فَإِنَّمَا بَيْعُ الْجِرْمِ الْحَلاَلِ لاَ مَا مَازَجَهُ مِنْ الْحَرَامِ, وَبَيْعُ الْحَلاَلِ حَلاَلٌ كَمَا كَانَ قَبْلُ. وَمَنْ ادَّعَى خِلاَفَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَمِمَّنْ أَجَازَ بَيْعَ الْمَائِعَاتِ تَقَعُ فِيهَا النَّجَاسَةُ وَالاِنْتِفَاعَ بِهَا: عَلِيٌّ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَعَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ.
فإن قيل: فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يُحَرِّمُ ذَلِكَ, وَلاَ يَسْتَجِيزُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَوْ أُعْطِيَهُ بِلاَ ثَمَنٍ, فَكِتْمَانُهُ ذَلِكَ غِشٌّ, وَالْغِشُّ حَرَامٌ, وَالدِّينُ النَّصِيحَةُ.
قلنا نَعَمْ, كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَسْتَسْهِلُ أَنْ يَأْخُذَ مَائِعًا وَقَعَتْ فِيهِ مَخْطَةُ مَجْذُومٍ, أَوْ أَدْخَلَ فِيهِ يَدَهُ, وَلَوْ أُعْطِيَهُ بِلاَ ثَمَنٍ, وَهَذَا عِنْدَ الْجَامِدِينَ مِنْ خُصُومِنَا لاَ مَعْنَى لَهُ, وَلَيْسَ شَيْءٌ

(1/138)


مِنْ هَذَا غِشًّا, إنَّمَا الْغِشُّ مَا كَانَ فِي الدِّينِ, وَالنَّصِيحَةُ كَذَلِكَ, لاَ فِي الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ الْمُخَالِفَةِ لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
عَلَى أَنَّ فِي الْقَائِلِينَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْبُصَاقَ نَجِسٌ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الأَرْضِ مَمْلُوءَةً مِنْ مِثْلِ مَنْ قَلَّدَهُ هَؤُلاَءِ الْمُتَأَخِّرُونَ, كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ, حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ, عَنْ سَلْمَانَ هُوَ الْفَارِسِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إذَا بَصَقْتَ عَلَى جِلْدِك وَأَنْتَ مُتَوَضِّئٌ فَإِنَّ الْبُصَاقَ لَيْسَ بِطَاهِرٍ فَلاَ تُصَلِّ حَتَّى تَغْسِلَهُ ". قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ, عَنِ التَّيْمِيِّ, عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْبُصَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ, وَلَكِنْ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فأما حُكْمُ الْبَائِلِ فَلِمَا حَدَّثَنَا أحمد بن القاسم حَدَّثَنِي أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ, حدثنا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ, حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, عَنْ أَيُّوبَ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ, عَنْ مُحَمَّدٍ, هُوَ ابْنُ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ". حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, حدثنا أَبِي, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, حدثنا مَعْمَرٌ, عَنْ أَيُّوبَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ" . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, حدثنا أَبِي, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, حدثنا مَعْمَرٌ, عَنْ أَيُّوبَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ" .

(1/139)


فَلَوْ أَرَادَ عليه السلام أَنْ يَنْهَى, عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ الْبَائِلِ لَمَا سَكَتَ, عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا, وَلاَ نِسْيَانًا, وَلاَ تَعْنِيتًا لَنَا بِأَنْ يُكَلِّفَنَا عِلْمَ مَا لَمْ يُبْدِهِ لَنَا مِنْ الْغَيْبِ, فأما أَمْرُ الْكَلْبِ فَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِيهِ.
وَأَمَّا السَّمْنُ فَإِنَّ حُمَامَ بْنَ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1/140)


قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ قَالَ: "إذَا كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ" قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَقَدْ كَانَ مَعْمَرٌ يَذْكُرُهُ أَيْضًا, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَ: وَكَذَلِكَ حَدَّثَنَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْفَأْرَةُ وَالْحَيَّةُ وَالدَّجَاجَةُ وَالْحَمَامَةُ وَالْعِرْسُ أَسْمَاءٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وُقُوعَهُ عَلَى الآُنْثَى, وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا. بُرْهَانٌ بِأَنَّهَا لاَ تَكُونُ إلاَّ مَيِّتَةً, إذْ لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَّةِ.
فإن قيل: فَإِنَّ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ زِيَادٍ رَوَى, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْخَبَرَ فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا أَوْ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ أَوْ قَالَ: انْتَفِعُوا بِهِ قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: عَبْدُ الْوَاحِدِ قَدْ شَكَّ فِي لَفْظَةِ الْحَدِيثِ فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَضْبِطْهُ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ أَحْفَظُ لِحَدِيثِ مَعْمَرٍ. وَأَيْضًا فَلَمْ يُخْتَلَفْ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنْ مَيْمُونَةَ. وَمَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالضَّبْطِ مِمَّنْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي هَذَا فَهُوَ أَنَّ كِلاَ الرِّوَايَتَيْنِ حَقٌّ, فأما رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَمُوَافِقَةٌ لِمَا كُنَّا نَكُونُ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ; لإِنَّ الأَصْلَ إبَاحَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ وَغَيْرِهِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} .
وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَشَرْعٌ وَارِدٌ وَحُكْمٌ زَائِدٌ نَاسِخٌ لِلإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَعَادَ حُكْمَ الْمَنْسُوخِ وَأَبْطَلَ حُكْمَ النَّاسِخِ لَبَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا يَرْفَعُ بِهِ الإِشْكَالَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

(1/141)


{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فَبَطَلَ حُكْمُ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ, حدثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ, عَنْ مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي الْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْ فِيهِ قَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحْهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلْ بَقِيَّتَهُ, وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَهْرِقْهُ. قَالَ عَلِيٌّ: وَالْمَأْخُوذُ مِمَّا حَوْلَهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ وَأَرَقُّهُ غِلَظًا, لإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا حَوْلَهَا, وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ الْمَأْمُورِ بِأَكْلِهِ وَالْمَنْهِيِّ, عَنْ تَضْيِيعِهِ.
فإن قيل: فَقَدْ رُوِيَ: خُذُوا مِمَّا حَوْلَهَا قَدْرَ الْكَفِّ. قِيلَ: هَذَا إنَّمَا جَاءَ مُرْسَلاً مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَابِرٍ الْبَيَاضِيِّ وَهُوَ كَذَّابٌ, عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَطْ, وَمِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ, وَشَرِيكٌ ضَعِيفٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ وَلَوْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ, فَكَيْفَ مِنْ رِوَايَةِ الضُّعَفَاءِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لِغَيْرِ الْفَأْرِ فِي غَيْرِ السَّمْنِ, وَلاَ لِلْفَأْرِ فِي غَيْرِ السَّمْنِ, وَلاَ لِغَيْرِ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ بِحُكْمِ الْفَأْرِ فِي السَّمْنِ, لاَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي غَيْرِ الْفَأْرِ فِي السَّمْنِ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُرِيدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمًا فِي غَيْرِ الْفَأْرِ فِي غَيْرِ السَّمْنِ ثُمَّ يَسْكُتَ عَنْهُ, وَلاَ يُخْبِرَنَا بِهِ, وَيَكِلَنَا إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَالْقَوْلِ بِمَا لاَ نَعْلَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَمَا يَعْجَزُ عليه السلام قَطُّ, عَنْ أَنْ يَقُولَ لَوْ أَرَادَ: إذَا وَقَعَ النَّجِسُ أَوْ الْحَرَامُ فِي الْمَائِعِ فَافْعَلُوا كَذَا, حَاشَا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَدَعَ عليه السلام بَيَانَ مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ. هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الْمَقْطُوعُ عَلَى بُطْلاَنِهِ بِلاَ شَكٍّ.

(1/142)


فإن قيل: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ, عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي وَدَكٍ فَقَالَ عليه السلام: "اطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا إنْ كَانَ جَامِدًا" , قِيلَ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا قَالَ: "فَانْتَفِعُوا بِهِ, وَلاَ تَأْكُلُوهُ" . قلنا: هَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلاَّ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ, وَهُوَ لاَ شَيْءَ, ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ, وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ الْفَأْرُ فِي الْوَدَكِ فَقَطْ, وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَدَكَ فِي اللُّغَةِ لِلسَّمْنِ وَالْمَرَقِ خَاصَّةً وَالدَّسَمَ لِلشَّحْمِ.
وقال أبو حنيفة: إنْ وَقَعَتْ خَمْرٌ أَوْ مَيْتَةٌ أَوْ بَوْلٌ أَوْ عَذِرَةٌ أَوْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ نُجِّسَ كُلُّهُ قَلَّتْ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ, وَوَجَبَ هَرْقُهُ كُلِّهِ وَلَمْ تَجُزْ صَلاَةُ مَنْ تَوَضَّأَ مِنْهُ أَوْ اغْتَسَلَ مِنْهُ, وَلَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ كَثُرَ ذَلِكَ الْمَاءُ أَوْ قَلَّ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ إذَا حَرَّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الآخَرُ, فَإِنَّهُ طَاهِرٌ حِينَئِذٍ, وَجَائِزٌ التَّطَهُّرُ بِهِ وَشُرْبُهُ, فَإِنْ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فِي مَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ حُرِّمَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَجَازَ الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ وَبَيْعُهُ, فَإِنْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ أَوْ الْحَرَامُ فِي بِئْرٍ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عُصْفُورًا فَمَاتَ, أَوْ فَأْرَةً فَمَاتَتْ, فَأُخْرِجَا, فَإِنَّ الْبِئْرَ قَدْ تَنَجَّسَتْ, وَطَهُورُهَا أَنْ يُسْتَقَى مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا وَالْبَاقِي طَاهِرٌ. فَإِنْ كَانَتْ دَجَاجَةً أَوْ سِنَّوْرًا فَأُخْرِجَا حِينَ مَاتَا فَطَهُورُهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا وَالْبَاقِي طَاهِرٌ, فَإِنْ كَانَتْ شَاةً فَأُخْرِجَتْ حِينَ مَاتَتْ أَوْ بَعْدَمَا انْتَفَخَتْ أَوْ تَفَسَّخَتْ, أَوْ لَمْ تُخْرَجْ الْفَأْرَةُ, وَلاَ الْعُصْفُورُ, وَلاَ الدَّجَاجَةُ أَوْ السِّنَّوْرُ إلاَّ بَعْدَ الاِنْتِفَاخِ أَوْ الاِنْفِسَاخِ, فَطَهُورُ الْبِئْرِ أَنْ تُنْزَحَ, وَحَدُّ النَّزْحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَغْلِبَهُ الْمَاءُ, وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِائَتَا دَلْوٍ, فَلَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ سِنَّوْرٌ أَوْ فَأْرٌ أَوْ حَنَشٌ فَأُخْرِجَ ذَلِكَ وَهِيَ أَحْيَاءٌ, فَالْمَاءُ طَاهِرٌ يُتَوَضَّأُ بِهِ, وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا, فَلَوْ وَقَعَ فِيهَا كَلْبٌ أَوْ حِمَارٌ فَأُخْرِجَا حَيَّيْنِ فَلاَ بُدَّ مِنْ نَزْحِ الْبِئْرِ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ الْمَاءُ, فَلَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِي الْبِئْرِ وَجَبَ نَزْحُهَا حَتَّى يَغْلِبَهُمْ, قَلَّ الْبَوْلُ أَوْ كَثُرَ.

(1/143)


وَكَذَلِكَ لَوْ بَالَ فِيهَا بَعِيرٌ عِنْدَهُمْ, فَلَوْ وَقَعَ فِيهَا بَعْرَتَانِ مِنْ بَعْرِ الإِبِلِ أَوْ بَعْرِ الْغَنَمِ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ خُرْءُ حَمَامٍ أَوْ خُرْءُ عُصْفُورٍ لَمْ يَضُرَّهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهَا مَيْتَةً: فَأْرَةً أَوْ دَجَاجَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْفَسِخْ أَعَادَ صَلاَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْفَسَخَتْ أَعَادَ صَلاَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا, فَإِنْ كَانَ طَائِرًا رَأَوْهُ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ, فَإِنْ أُخْرِجَ وَلَمْ يَتَفَسَّخْ لَمْ يُعِيدُوا شَيْئًا وَإِنْ أُخْرِجَ مُتَفَسِّخًا أَعَادُوا صَلاَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا. فَإِنْ رُمِيَ شَيْءٌ مِنْ خَمْرٍ أَوْ دَمٍ فِي بِئْرٍ نُزِحَتْ كُلُّهَا, فَلَوْ رُمِيَ فِي بِئْرٍ عَظْمُ مَيْتَةٍ, فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ أَوْ دَمٌ تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ كُلُّهَا وَوَجَبَ نَزْحُهَا, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ أَوْ لَحْمٌ لَمْ تَتَنَجَّسْ الْبِئْرُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَظْمُ خِنْزِيرٍ أَوْ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ خِنْزِيرٍ, فَإِنَّ الْبِئْرَ كُلَّهَا تَتَنَجَّسُ وَيَجِبُ نَزْحُهَا, كَانَ عَلَيْهِمَا لَحْمٌ أَوْ دَسَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَوْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي مَاءٍ فِي طَسْتٍ وَصُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي بِئْرٍ فَإِنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا فَقَطْ, فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ طَاهِرٌ فِي طَسْتٍ طَاهِرٍ بِمَاءٍ طَاهِرٍ وَصَبَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ, قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَدْ تَنَجَّسَتْ الْبِئْرُ وَتُنْزَحُ كُلُّهَا, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا كَمَا يُنْزَحُ مِنْ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ, فَلَوْ وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي خَابِيَةِ مَاءٍ فَمَاتَتْ, فَصُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي بِئْرٍ, فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا مِثْلُ الْمَاءِ الَّذِي رُمِيَ فِيهَا فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُنْزَحُ الأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ أَوْ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا, وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ مَاتَتْ فَأْرَةٌ فِي خَابِيَةٍ فَرُمِيَتْ الْفَأْرَةُ فِي بِئْرٍ وَرُمِيَ الْمَاءُ فِي بِئْرٍ أُخْرَى, فَإِنَّ الْفَأْرَةَ تُخْرَجُ وَيُخْرَجُ مَعَهَا عِشْرُونَ دَلْوًا فَقَطْ وَيُخْرَجُ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ الآُخْرَى مِثْلُ الْمَاءِ الَّذِي رُمِيَ فِيهَا وَعِشْرُونَ دَلْوًا زِيَادَةً فَقَطْ, فَلَوْ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ وَأُخْرِجَ مَعَهَا عِشْرُونَ دَلْوًا, ثُمَّ رُمِيَتْ الْفَأْرَةُ وَتِلْكَ الْعِشْرُونَ دَلْوًا مَعَهَا فِي بِئْرٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُخْرَجُ الْفَأْرَةُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا فَقَطْ. قَالُوا: فَلَوْ مَاتَ فِي الْمَاءِ ضُفْدَعٌ أَوْ ذُبَابٌ أَوْ زُنْبُورٌ أَوْ عَقْرَبٌ أَوْ خُنْفُسَاءُ أَوْ جَرَادٌ أَوْ نَمْلٌ أَوْ صَرَّارٌ أَوْ سَمَكٌ فَطَفَا أَوْ كُلُّ مَا لاَ دَمَ لَهُ, فَإِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ جَائِزٌ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ, وَالسَّمَكُ الطَّافِي عِنْدَهُمْ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَكَذَلِك

(1/144)


إنْ مَاتَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ أَكْلُهُ, قَالُوا: فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي مَائِعٍ غَيْرِهِ حَيَّةٌ فَقَدْ تَنَجَّسَ ذَلِكَ الْمَاءُ وَذَلِكَ الْمَائِعُ, لإِنَّ لَهَا دَمًا, فَإِنْ ذُبِحَ كَلْبٌ أَوْ حِمَارٌ أَوْ سَبُعٌ ثُمَّ رُمِيَ كُلُّ ذَلِكَ فِي رَاكِدٍ لَمْ يَتَنَجَّسْ ذَلِكَ الْمَاءُ, وَإِنَّ ذَلِكَ اللَّحْمَ حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ الْخِنْزِيرَ وَابْنَ آدَمَ, فَإِنَّهُمَا وَإِنْ ذُبِحَا يُنَجِّسَانِ الْمَاءَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَمَنْ يَقُولُ هَذِهِ الأَقْوَالَ الَّتِي كَثِيرٌ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْمُبَرْسَمُ أَشْبَهُ مِنْهَا أَلاَ يَسْتَحِي مِنْ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ أَوَامِرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُوجِبَاتِ الْعُقُولِ فِي فَهْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَكِنْ مَا رَأَيْنَا سُنَّةً مُضَاعَةً, إلاَّ وَمَعَهَا بِدْعَةٌ مُذَاعَةٌ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لَوْ تُتُبِّعَ مَا فِيهَا مِنْ التَّخْلِيطِ لَقَامَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ سِفْرٌ ضَخْمٌ, إذْ كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا مُصِيبَةٌ فِي التَّحَكُّمِ وَالْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ, وَإِنَّهَا أَقْوَالٌ لَمْ يَقُلْهَا قَطُّ أَحَدٌ قَبْلَهُمْ, وَلاَ لَهَا حَظٌّ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ يُعْقَلُ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ, وَلاَ مِنْ بَاطِلٍ مُطَّرِدٍ, وَلَكِنْ مِنْ بَاطِلٍ مُتَخَاذِلٍ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مَوَّهُوا بِرِوَايَةٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا نَزَحَا زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا, وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ: وَكُلُّ مَا رُوِيَ, عَنْ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةِ وَهَؤُلاَءِ التَّابِعِينَ, رضي الله عنهم, فَمُخَالِفٌ لاَِقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
أَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّنَا رُوِّينَا عَنْهُ, أَنَّهُ قَالَ فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ: إنَّهُ يُنْزَحُ مَاؤُهَا, أَنَّهُ قَالَ فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَقُطِّعَتْ: يُخْرَجُ مِنْهَا سَبْعُ دِلاَءٍ, فَإِنْ كَانَتْ الْفَأْرَةُ كَهَيْئَتِهَا لَمْ تَتَقَطَّعْ يُنْزَحُ مِنْهَا دَلْوٌ أَوْ دَلْوَانِ, فَإِنْ كَانَتْ مُنْتِنَةً يُنْزَحُ مِنْ الْبِئْر

(1/145)


مَا يُذْهِبُ الرِّيحَ, وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ لَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلاً.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما, فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ فَرْضُ نَزْحِ الْبِئْرِ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ, فَكَيْفَ عَمَّنْ دُونَهُ عليه السلام, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا نَزْحَهَا, وَلاَ أَمَرَا بِهِ, وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مِنْهُمَا قَدْ يَفْعَلاَنِهِ, عَنْ طِيبِ النَّفْسِ, لاَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِفِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ أَنَّهُ قِيلَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ غَلَبَتْنَا عَيْنٌ مِنْ جِهَةِ الْحَجَرِ, فَأَعْطَاهُمْ كِسَاءَ خَزٍّ فَحَشَوْهُ فِيهَا حَتَّى نَزَحُوهَا, وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ, لإِنَّ حَدَّ النَّزْحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ الْمَاءُ فَقَطْ, وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِائَتَا دَلْوٍ فَقَطْ, وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ يَقْضِي بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لاَ يَرَاهُ حُجَّةً ثُمَّ يَكُونُ الْمُحْتَجُّ بِهِ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِمَا احْتَجَّ فَكَيْفَ وَلَوْ صَحَّ أَنَّهُمَا رضي الله عنهما أَمَرَا بِنَزْحِهَا لَمَا كَانَ لِلْحَنَفِيِّينَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ, إلاَّ أَنَّ زَمْزَمَ تَغَيَّرَتْ بِمَوْتِ الزِّنْجِيِّ. وَهَذَا قَوْلُنَا, وَيُؤَيِّدُ هَذَا صِحَّةُ الْخَبَرِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَرْبَعٌ لاَ تُنَجَّسُ, الْمَاءُ وَالثَّوْبُ وَالإِنْسَانُ وَالأَرْضُ. وَقَدْ رُوِّينَا, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمَاءَ طَهُورًا.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ الْمَذْكُورُونَ, فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: فِي الْفَأْرَةِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا وَفِي السِّنَّوْرِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا, وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي الدَّجَاجَةِ سَبْعُونَ دَلْوًا, وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي السِّنَّوْرِ ثَلاَثُونَ دَلْوًا, وَفِي الدَّجَاجَةِ ثَلاَثُونَ دَلْوًا. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ فِي الدَّجَاجَةِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا, وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْفَأْرَةِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا, وَقَالَ عَطَاءٌ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ دَلْوًا, وَفِي الشَّاةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ دَلْوًا, فَإِنْ تَفَسَّخَتْ فَمِائَةُ دَلْوٍ أَوْ تُنْزَحُ, وَفِي الْكَلْبِ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ, إنْ أُخْرِجَ مِنْهَا حَيًّا عِشْرُونَ دَلْوًا, فَإِنْ مَاتَ فَأُخْرِجَ حِينَ مَوْتِهِ فَسِتُّونَ دَلْوًا, فَإِنْ تَفَسَّخَ فَمِائَةُ دَلْوٍ أَوْ تُنْزَحُ, فَهَلْ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ قَوْلٌ يُوَافِقُ أَقْوَالَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلاَّ قَوْلَ عَطَاءٍ فِي الْفَأْرَةِ دُونَ أَنْ يُقَسِّمَ تَقْسِيمَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَقَوْلَ إبْرَاهِيمَ فِي السِّنَّوْرِ دُونَ أَنْ يُقَسِّمَ أَيْضًا تَقْسِيمَ أَبِي حَنِيفَةَ, فَلَمْ يَحْصُلُوا إلاَّ عَلَى خِلاَفِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كُلِّهِمْ فَلاَ تَعَلُّقَ بِشَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ أَوْ الْمَقَايِيسِ.

(1/146)


وَمِنْ عَجِيبِ مَا أَوْرَدْنَا عَنْهُمْ قَوْلُهُمْ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ: إنَّ مَاءَ وُضُوءِ الْمُسْلِمِ الطَّاهِرِ النَّظِيفِ أَنْجَسُ مِنْ الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ وَلَوْ أَوْرَدْنَا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ لاََلْزَمْنَاهُمْ ذَلِكَ فِي وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فأما أَنْ يَتْرُكُوا قَوْلَهُمْ, وَأَمَّا أَنْ يَخْرُجُوا, عَنِ الإِسْلاَمِ أَوْ فِي وُضُوءِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ, رضي الله عنهم. وَقَوْلُهُمْ: إنْ حُرِّكَ طَرَفُهُ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الآخَرُ, فَلَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الْحَرَكَةُ بِمَاذَا تَكُونُ أَبِإِصْبَعِ طِفْلٍ, أَمْ بِتَبِنَةٍ, أَوْ بِعُودِ مِغْزَلٍ, أَوْ بِعَوْمِ عَائِمٍ, أَوْ بِوُقُوعِ فِيلٍ, أَوْ بِحَصَاةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرِ مَنْجَنِيقٍ, أَوْ بِانْهِدَامِ جُرْفٍ نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ هَذِهِ التَّخَالِيطِ, لاَ سِيَّمَا فَرْقُهُمْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ, فَإِنْ ادَّعَوْا فِيهِ إجْمَاعًا, قلنا لَهُمْ: كَذَبْتُمْ, هَذَا ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَاءٍ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ فَقَدْ تَنَجَّسَ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ غَدِيرًا إذَا حُرِّكَ وَسَطُهُ لَمْ تَتَحَرَّكْ أَطْرَافُهُ.
وقال مالك فِي الْبِئْرِ تَقَعُ فِيهَا الدَّجَاجَةُ فَتَمُوتُ فِيهَا: إنَّهُ يُنْزَفُ إلاَّ أَنْ تَغْلِبَهُمْ كَثْرَةُ الْمَاءِ, وَلاَ يُؤْكَلُ طَعَامٌ عُجِنَ بِهِ, وَيُغْسَلُ مِنْ الثِّيَابِ مَا غُسِلَ بِهِ, وَيُعِيدُ كُلُّ مَنْ تَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَوْ اغْتَسَلَ بِهِ صَلاَةً صَلاَّهَا مَا كَانَ فِي الْوَقْتِ. قَالَ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ الْوَزَغَةُ أَوْ الْفَأْرَةُ فَمَاتَتَا إنَّهُ يُسْتَقَى مِنْهَا حَتَّى تَطِيبَ, يَنْزِفُونَ مِنْهَا مَا اسْتَطَاعُوا, فَلَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ فَإِنَّ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ, فَلَوْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ, فَإِنْ بُلَّ فِي الْمَاءِ خُبْزٌ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ مِنْهُ, وَأَعَادَ مَنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَبَدًا, فَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ طَاهِرٍ, أَعَادَ مَنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى أَبَدًا, فَلَوْ مَاتَ شَيْءٌ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ فِي مَاءٍ أَوْ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ, وَيُؤْكَلُ كُلُّ ذَلِكَ وَيُشْرَبُ, وَذَلِكَ نَحْوُ الزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ وَالصَّرَّارِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَالسَّرَطَانِ وَالضُّفْدَعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ: قَلِيلُ الْمَاءِ يُفْسِدُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ, وَيَتَيَمَّمُ مَنْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ, فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ لَمْ يُعِدْ إلاَّ فِي الْوَقْتِ.

(1/147)


قَالَ عَلِيٌّ: إنْ كَانَ فَرَّقَ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ مَا مَاتَتْ فِيهِ الْوَزَغَةُ وَالْفَأْرَةُ وَبَيْنَ مَا مَاتَتْ فِيهِ الدَّجَاجَةُ فَهُوَ خَطَأٌ, لاَِنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَإِنْ كَانَ سَاوَى بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ فَقَدْ تَنَاقَضَ قَوْلُهُ, إذْ مَنَعَ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ الْمَعْمُولِ بِذَلِكَ الْمَاءِ, وَإِذْ أَمَرَ بِغَسْلِ مَا مَسَّهُ مِنْ الثِّيَابِ, ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ إلاَّ فِي الْوَقْتِ, وَهَذَا عِنْدَهُ اخْتِيَارٌ لاَ إيجَابٌ, فَإِنْ كَانَتْ الصَّلاَةُ الَّتِي يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي الْوَقْتِ تَطَوُّعًا عِنْدَهُ, فَأَيُّ مَعْنًى لِلتَّطَوُّعِ فِي إصْلاَحِ مَا فَسَدَ مِنْ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فَإِنْ قَالَ إنَّ لِذَلِكَ مَعْنًى, قِيلَ لَهُ: فَمَا الَّذِي يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَمَا الْوَجْهُ الَّذِي رَغَّبْتُمُوهُ مِنْ أَجْلِهِ فِي أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي الْوَقْتِ, وَلَمْ تُرَغِّبُوهُ فِي التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلاَةُ الَّتِي يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا فِي الْوَقْتِ فَرْضًا, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرَيْنِ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَا الَّذِي أَسْقَطَهَا عَنْهُ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الصَّلاَةَ الْفَرْضَ يُؤَدِّيهَا التَّارِكُ لَهَا فَرْضًا, وَلاَ بُدَّ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ.
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ تَفْرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بَيْنَ مَا لاَ دَمَ لَهُ يَمُوتُ فِي الْمَاءِ وَفِي. الْمَائِعَاتِ وَبَيْنَ مَا لَهُ دَمٌ يَمُوتُ فِيهَا وَهَذَا فَرْقٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَلاَ مَعْقُولٌ, وَالْعَجَبُ مِنْ تَحْدِيدِهِمْ ذَلِكَ بِمَا لَهُ دَمٌ وَبِالْعِيَانِ نَدْرِي أَنَّ الْبُرْغُوثَ لَهُ دَمٌ وَالذُّبَابَ لَهُ دَمٌ.
فَإِنْ قَالُوا: أَرَدْنَا مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ, قِيلَ: وَهَذَا زَائِدٌ فِي الْعَجَبِ وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا التَّقْسِيمُ بَيْنَ الدِّمَاءِ فِي الْمَيْتَاتِ وَأَنْتُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا وَمَعَ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَيْتَةٍ فَهِيَ حَرَامٌ, وَبِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ, وَالْبُرْغُوثُ الْمَيِّتُ وَالذُّبَابُ الْمَيِّتُ وَالْعَقْرَبُ الْمَيِّتُ وَالْخُنْفُسَاءُ الْمَيِّتُ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ هَذَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْمَيْتَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَكْلِ الْبَاقِلاَءِ الْمَطْبُوخِ وَفِيهِ الدَّقْشُ الْمَيِّتُ, وَعَلَى أَكْلِ الْعَسَلِ وَفِيه

(1/148)


النَّحْلُ الْمَيِّتُ وَعَلَى أَكْلِ الْخَلِّ وَفِيهِ الدُّودُ الْمَيِّتُ, وَعَلَى أَكْلِ الْجُبْنِ وَالتِّينِ كَذَلِكَ, وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقْلِ الذُّبَابِ فِي الطَّعَامِ.
قِيلَ لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنْ كَانَ الإِجْمَاعُ صَحَّ بِذَلِكَ كَمَا ادَّعَيْتُمْ, وَكَانَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّعَامِ يَمُوتُ فِيهِ الذُّبَابُ كَمَا زَعَمْتُمْ, فَإِنَّ وَجْهَ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَقْتَصِرُوا عَلَى مَا صَحَّ بِهِ الإِجْمَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَجَاءَ بِهِ الْخَبَرُ خَاصَّةً. وَيَكُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ بِخِلاَفِهِ, إذْ أَصْلُكُمْ أَنَّ مَا لاَقَى الطَّاهِرَاتِ مِنْ الأَنْجَاسِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُهَا, وَمَا خَرَجَ, عَنْ أَصْلِهِ عِنْدَكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ سَائِغًا أَوْ تَقِيسُوا عَلَى الذُّبَابِ كُلَّ طَائِرٍ, وَعَلَى الدَّقْشِ كُلَّ حَيَوَانٍ ذِي أَرْجُلٍ, وَعَلَى الدُّودِ كُلَّ مُنْسَابٍ. وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ مَا لاَ دَمَ لَهُ فَأَخْطَأْتُمْ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الذُّبَابَ لَهُ دَمٌ, وَالثَّانِيَةُ اقْتِصَارُكُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لاَ دَمَ لَهُ, دُونَ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى الذُّبَابِ كُلَّ ذِي جَنَاحَيْنِ أَوْ كُلَّ ذِي رُوحٍ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى حَدِيثِ الْفَأْرِ فِي السَّمْنِ. قِيلَ لَهُمْ: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ عُمُومُ الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَى الْفَأْرِ كُلَّ ذِي ذَنَبٍ طَوِيلٍ, أَوْ كُلَّ حَشَرَةٍ مِنْ غَيْرِ السِّبَاعِ وَهَذَا مَا لاَ انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ حُكْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَهُوَ النَّجَسُ, فَيُقَالُ لَهُمْ: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَيْتَةَ وَبَيْنَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّمَ فَمِنْ أَيْنَ جَعَلْتُمْ النَّجَاسَةَ لِلدَّمِ دُونَ الْمَيْتَةِ وَأَغْرَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيْتَةَ لاَ دَمَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ بِكُلِّ وَجْهٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ, لاَِنَّهُ رَأَى التَّيَمُّمَ أَوْلَى مِنْ الْمَاءِ النَّجِسِ. فَوَجَبَ أَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لَهُ لَيْسَ مُتَوَضِّئًا, ثُمَّ لَمْ يَرَ الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ إلاَّ فِي الْوَقْتِ, وَهُوَ عِنْدَهُ مُصَلٍّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ.

(1/149)


وقال الشافعي: إذَا كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ جَارٍ, فَسَوَاءٌ الْبِئْرُ وَالإِنَاءُ وَالْبُقْعَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ رَطْلٍ بِالْبَغْدَادِيِّ, بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ, فَإِنَّهُ يُنَجِّسُهُ كُلُّ نَجَسٍ وَقَعَ فِيهِ وَكُلُّ مَيْتَةٍ, سَوَاءٌ مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ, كُلُّ ذَلِكَ مَيْتَةٌ نَجِسٌ يُفْسِدُ مَا وَقَعَ فِيهِ, فَإِنْ كَانَ خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ إلاَّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ نُجِّسَ كُلُّهُ وَحُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ, كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلاً.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ صَاحِبُهُ: جَمِيعُ الْمَائِعَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ, إذَا كَانَ الْمَائِعُ خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ, إلاَّ أَنْ يُغَيِّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ, فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ رَطْلٍ يُنَجَّسُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْوَاجِبُ, وَلاَ بُدَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ إنَاءً فِيهِ خَمْسُمِائَةِ رَطْلٍ مِنْ مَاءٍ غَيْرَ أُوقِيَّةٍ فَوَقَعَ فِيهِ نُقْطَةُ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ نَجَاسَةٍ مَا فَإِنَّهُ كُلَّهُ نَجِسٌ حَرَامٌ, وَلاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ فِيهِ, وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِذَلِكَ فِيهِ أَثَرٌ, فَلَوْ وَقَعَ فِيهِ رَطْلُ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ نَجَاسَةٍ مَا فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِيهِ أَثَرٌ, فَالْمَاءُ طَاهِرٌ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ بِهِ وَيَجُوزُ شُرْبُهُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَهَرْقِهِ, وَبِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ بِغَسْلِ يَدِهِ ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ, وَبِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم الْبَائِلَ فِي الْمَاءِ أَلاَّ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ, وَلاَ يَغْتَسِلَ, وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ

(1/150)


وَلَمْ يَقْبَلْ الْخَبَثَ". قَالُوا: فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا مَا. قَالُوا فَكَانَتْ الْقُلَّتَانِ حَدًّا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِيمَا لاَ يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ مِنْهُ, وَاحْتَجَّ بِهَذَا أَيْضًا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِمْ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ, فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْقُلَّةُ أَعْلَى الشَّيْءِ فَمَعْنَى الْقُلَّتَيْنِ هَهُنَا الْقَامَتَانِ, وقال الشافعي بِمَا رَوَى, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: إنَّ الْقُلَّتَيْنِ مِنْ قِلاَلِ هَجَرَ, وَإِنَّ قِلاَلَ هَجَرَ الْقُلَّةُ الْوَاحِدَةُ قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ, قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِرْبَةُ مِائَةُ رَطْلٍ, وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ بِذَلِكَ, وَلَمْ يَحُدَّ فِي الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا أَكْثَرَ مِنْ, أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً: الْقُلَّتَانِ أَرْبَعُ قِرَبٍ, وَمَرَّةً قَالَ: خَمْسُ قِرَبٍ, وَلَمْ يَحُدَّهَا بِأَرْطَالٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الْقُلَّتَانِ سِتُّ قِرَبٍ, وَقَالَ وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: الْقُلَّةُ الْجَرَّةُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, أَيَّ جَرَّةٍ كَانَتْ فَهِيَ قُلَّةٌ, وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ, قَالَ مُجَاهِدٌ الْقُلَّةُ الْجَرَّةُ, وَلَمْ يَحُدَّ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُلَّةِ حَدًّا.
وَأَظْرَفُ شَيْءٍ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَغَيْرِ الْجَارِي فَإِنْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ مَضَى وَخَلْفَهُ طَاهِرٌ: فَقَدْ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّ الَّذِي خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ إذَا انْحَدَرَ فَإِنَّمَا يَنْحَدِرُ كَمَا هُوَ, وَهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ تَنَاوَلَهُ فِي انْحِدَارِهِ فَتَطَهَّرَ بِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيَغْتَسِلَ وَيَشْرَبَ, وَالنَّجَاسَةُ قَدْ خَالَطَتْهُ بِلاَ شَكٍّ, فَوَقَعُوا فِي نَفْسِ مَا شَنَّعُوا وَأَنْكَرُوا. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ نَحْتَجَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَغَيْرِ الْجَارِي إلاَّ بِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ, عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ الَّذِي يُبَالُ فِيهِ. قلنا: صَدَقْتُمْ, وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِذَلِكَ الأَمْرِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَرَّقْنَا نَحْنُ بَيْنَ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْبَائِلُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ النَّهْيُ وَهُوَ غَيْرُ الْبَائِلِ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ مَا تَرَكُوا مِنْهُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ قَبُولِ مَا عَدَا الْمَاءَ لِلنَّجَاسَةِ.
قال علي: هذا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, مَا لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلاً غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا, وَكُلُّ هَذِهِ الأَحَادِيثِ صِحَاحٌ ثَابِتَةُ لاَ مَغْمَزَ فِيهَا. وَكُلُّهَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَكُلُّهَا حُجَّةٌ

(1/151)


عَلَيْهِمْ لَنَا, عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَبِهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَقْوَالُهُمْ مُخَالِفَةٌ لِمَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ, وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَا كُلِّهَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا حَدِيثُ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الإِنَاءِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ خَالَفُوهُ جِهَارًا, فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغَسْلِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَقَالُوا هُمْ: لاَ بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ. فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلٍ هُمْ أَوَّلُ مَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَهُ فَتَرَكُوا مَا فِيهِ وَادَّعَوْا فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ وَأَخْطَئُوا مَرَّتَيْنِ.
أَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: لاَ يُهْرَقُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَاءً فَخَالَفَ الْحَدِيثَ أَيْضًا عَلاَنِيَةً وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لاَ يُتَعَدَّى بِهِ إلَى سِوَاهُ وَأَنَّهُ لاَ يُقَاسُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ, وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ إذْ مَنْ ادَّعَى خِلاَفَ هَذَا فَقَدْ زَادَ فِي كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام قَطُّ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي الإِنَاءِ مِنْ الْمَاءِ خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ فَلاَ يُهْرَقُ, وَلاَ يُغْسَلُ الإِنَاءُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ غَيْرَ الْمَاءِ أُهْرِقَ بَالِغًا مَا بَلَغَ. هَذَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلاً لاَ بِنَصٍّ, وَلاَ بِدَلِيلٍ, فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ وَزَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ أَدْخَلَ فِيهِ يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ ذَنَبَهُ أُهْرِقَ وَغُسِلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, وَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي كَلاَمِهِ عليه السلام أَصْلاً, وَقَالَ: إنْ وَلَغَ فِي الإِنَاءِ خِنْزِيرٌ كَانَ فِي حُكْمِهِ حُكْمَ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: يُغْسَلُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. قَالَ فَإِنْ وَلَغَ فِيهِ سَبُعٌ لَمْ يُغْسَلْ أَصْلاً, وَلاَ أُهْرِقَ. فَقَاسَ الْخِنْزِيرَ عَلَى الْكَلْبِ, وَلَمْ يَقِسْ السِّبَاعَ عَلَى الْكَلْبِ وَهُوَ بَعْضُهَا وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْكَلْبُ بِعُمُومِ النَّهْيِ, عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ. فَقَدْ ظَهَرَ خِلاَفُ أَقْوَالِهِمْ لِهَذَا الْخَبَرِ وَمُوَافَقَتُنَا نَحْنُ لِمَا فِيهِ, فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا, وَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ وَبُطْلاَنُهُ, وَأَنَّهُ دَعَاوَى لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَمَّا الْخَبَرُ فِيمَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ فَيَغْسِلُ يَدَهُ ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهٍ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ, فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ, وَقَائِلُونَ إنَّ هَذَا لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ. وَقُلْنَا نَحْنُ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ إنَّ النَّجَاسَاتِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَذِهِ الأَخْبَارِ فِي قَبُولِ الْمَاءِ لَهَا وَفَرَّقُوا بِهَا بَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ

(1/152)


عَلَى الْمَاءِ وَبَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا تُزَالُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ جِهَارًا, لإِنَّ فِي أَحَدِهِمَا تَطْهِيرَ الإِنَاءِ بِسَبْعِ غَسَلاَتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ وَفِي الآخَرِ تَطْهِيرَ الْيَدِ بِثَلاَثِ غَسَلاَتٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا فِي النَّجَاسَاتِ, وَلَوْ كَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ دَلِيلَيْنِ عَلَى قَبُولِ الْمَاءِ لِلنَّجَاسَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا مُسْتَعْمَلاً فِي إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ, فَبَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ جُمْلَةً, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يَكُونَ مَا ظُنَّتْ بِهِ النَّجَاسَةُ مِنْ الْيَدِ لاَ يَطْهُرُ إلاَّ بِثَلاَثِ غَسَلاَتٍ, وَإِذَا تُيُقِّنَتْ النَّجَاسَةُ فِيهَا اُكْتُفِيَ فِي إزَالَتِهَا بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ, فَهَذَا قَوْلُهُمْ الَّذِي لاَ شُنْعَةَ أَشْنَعُ مِنْهُ, وَهُمْ يَدَّعُونَ إنْفَاذَ حُكْمِ الْعُقُولِ فِي قِيَاسَاتِهِمْ, وَلاَ حُكْمَ أَشَدُّ مُنَافَرَةً لِلْعَقْلِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ, وَلَوْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقُلْنَا: هُوَ الْحَقُّ, لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ إطْرَاحُهُ وَالرَّغْبَةُ عَنْهُ, وَأَنْ نُوقِنَ بِأَنَّهُ الْبَاطِلُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ لِلْمُتَنَبِّهِ بِغَسْلِ الْيَدِ ثَلاَثًا خَوْفَ أَنْ تَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ, إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ رِجْلُهُ فِي ذَلِكَ كَيَدِهِ وَلَكَانَ بَاطِنُ فَخْذَيْهِ وَبَاطِنُ أَلْيَتَيْهِ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْ يَدِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَمُوَافِقٌ لَنَا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَيْسَ دَلِيلاً عَلَى قَبُولِ الْمَاءِ لِلنَّجَاسَةِ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ أَيْضًا بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً, وَصَحَّ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَصَحَّ اتِّفَاقُ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ لاَ يُجْعَلاَنِ أَصْلاً لِسَائِرِ النَّجَاسَاتِ, وَأَلاَّ يُقَاسَ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ عَلَى حُكْمِهِمَا, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ نَهْيِ الْبَائِلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ, عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ أَوْ يَغْتَسِلَ, فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ أَيْضًا. أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ بِرْكَةً إذَا حُرِّكَ طَرَفُهَا الْوَاحِدُ لَمْ يَتَحَرَّكْ طَرَفُهَا الآخَرُ. فَإِنَّهُ لَوْ بَالَ فِيهَا مَا شَاءَ أَنْ يَبُولَ فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا وَيَغْتَسِلَ, فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ, وَلاَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهَا, وَلاَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَزَادَ فِي الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِلِ, وَخَالَفَ الْحَدِيثَ فِيمَا فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ كَثْرَةِ الْمَاءِ وَقِلَّتِهِ لِلْبَائِلِ فِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيَغْتَسِلَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ إذَا كَانَ خَمْسَمِائَةِ رَطْلٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ رَطْلٍ فَخَالَفَ

(1/153)


الْحَدِيثَ كَمَا خَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَزَادَ فِيهِ كَمَا زَادَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَمَّا مَالِكٌ فَخَالَفَهُ كُلَّهُ. قَالَ: إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ بِبَوْلِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيَغْتَسِلَ, وَقَالَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ إذَا كَانَ كَثِيرًا. فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً لِمُخَالَفَتِهِمْ لَهُ. وَأَمَّا نَحْنُ فَأَخَذْنَا بِهِ كَمَا وَرَدَ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَأْرِ فِي السَّمْنِ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ خَالَفُوهُ ; لإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ أَبَاحُوا الاِسْتِصْبَاحَ بِهِ, وَفِي الْحَدِيثِ لاَ تَقْرَبُوهُ وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَهُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِجَمِيعِ هَذِهِ الآثَارِ وَصَحَّ خِلاَفُهُمْ لَهَا, وَأَنَّهَا حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ.
فإن قيل: فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الآثَارِ إنْ كَانَتْ لاَ تَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْمَاءِ النَّجَاسَةَ وَمَا فَائِدَتُهَا قلنا: مَعْنَاهَا مَا اقْتَضَاهُ لَفْظُهَا, لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يُقَوِّلَ إنْسَانًا مِنْ النَّاسِ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ كَلاَمُهُ, فَكَيْفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ قَوَّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ.
وَأَمَّا فَائِدَتُهَا فَهِيَ أَعْظَمُ فَائِدَةٍ, وَهِيَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالطَّاعَةِ لَهَا, وَلِيَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً. أُوِّلَ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُدَّ مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا حَدًّا بَيْنَ مَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ وَبَيْنَ مَا لاَ يَقْبَلُهَا لَمَا أَهْمَلَ أَنْ يَحُدَّهَا لَنَا بِحَدٍّ ظَاهِرٍ لاَ يُحِيلُ, وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُوجَبُ عَلَى الْمَرْءِ وَيُوَكَّلُ فِيهِ إلَى اخْتِيَارِهِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَتْ كُلُّ قُلَّتَيْنِ صَغُرَتَا أَوْ كَبِرَتَا حَدًّا فِي ذَلِكَ. فأما أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا: الْقُلَّةُ الْقَامَةُ, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ عَلَى أَنْ نُسَلِّمَ لَهُمْ تَأْوِيلَهُمْ الْفَاسِدَ لإِنَّ الْبِئْرَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا قَامَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ تُنَجَّسُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَيْسَ حَدُّهُ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ حَدِّ غَيْرِهِ مِمَّنْ فَسَّرَ الْقُلَّتَيْنِ بِغَيْرِ تَفْسِيرِهِ وَكُلُّ قَوْلٍ لاَ بُرْهَانَ لَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ بِهَذَا الْخَبَرِ حَقًّا وَنَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ وَلَمْ يَقْبَلْ الْخَبَثَ وَالْقُلَّتَانِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ اسْمُ قُلَّتَيْنِ, صَغُرَتَا أَوْ كَبِرَتَا, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْقُلَّةَ الَّتِي تَسَعُ عَشَرَةَ أَرْطَالِ مَاءٍ تُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ قُلَّةً. وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لِقِلاَلِ هَجَرَ أَصْلاً, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ بِهَجَرَ قِلاَلاً صِغَارًا وَكِبَارًا.

(1/154)


فإن قيل إنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَ قِلاَلَ هَجَرَ فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ. قلنا: نَعَمْ, وَلَيْسَ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَتَى مَا ذَكَرَ قُلَّةً فَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْ قِلاَلِ هَجَرَ, وَلَيْسَ تَفْسِيرُ ابْنِ جُرَيْجٍ لِلْقُلَّتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ الَّذِي قَالَ: هُمَا جَرَّتَانِ, وَتَفْسِيرُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ: إنَّهَا أَيَّ جَرَّةٍ كَانَتْ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا دَلِيلٌ, وَلاَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يُنَجَّسُ وَيَحْمِلُ الْخَبَثَ وَمَنْ زَادَ هَذَا فِي الْخَبَرِ فَقَدْ قَوَّلَهُ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ, فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَا حمام قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَبِي سُكَيْنَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ, حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ أَبُو تَمَّامٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَفِيهَا مَا يُنْجِي النَّاسُ وَالْحَائِضُ وَالْجِيَفُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ, عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ, عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ" وَذَكَرَ صلى الله عليه وسلم فِيهَا "وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ

(1/155)


كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ" فَعَمَّ عليه السلام كُلَّ مَاءٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَاءً مِنْ مَاءٍ". فَقَالُوا: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ الْمَاءَ إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَغَيَّرَتْ لَوْنَهُ وَطَعْمَهُ وَرِيحَهُ فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ, فَقَدْ خَالَفْتُمْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْن. قلنا: مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا أَنْ نَقُولَهُ, بَلْ الْمَاءُ لاَ يُنَجَّسُ أَصْلاً, وَلَكِنَّهُ طَاهِرٌ بِحَسَبِهِ, لَوْ أَمْكَنَنَا تَخْلِيصُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا لاَسْتَعْمَلْنَاهُ, وَلَكِنَّا لَمَّا لَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كَمَا أُمِرْنَا سَقَطَ عَنَّا حُكْمُهُ, وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ كَثَوْبٍ طَاهِرٍ صُبَّ عَلَيْهِ خَمْرٌ أَوْ دَمٌ أَوْ بَوْلٌ, فَالثَّوْبُ طَاهِرٌ كَمَا كَانَ, إنْ أَمْكَنَنَا إزَالَةُ النَّجَسِ عَنْهُ صَلَّيْنَا فِيهِ, وَإِنْ لَمْ يُمْكِنَّا الصَّلاَةُ فِيهِ إلاَّ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَسِ الْمُحَرَّمِ سَقَطَ عَنَّا حُكْمُهُ, وَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلاَةُ لِلِبَاسِ ذَلِكَ الثَّوْبِ, لَكِنْ لاِسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ الَّتِي فِيهِ, وَكَذَلِكَ خُبْزٌ دُهِنَ بِوَدَكِ خِنْزِيرٍ, وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ حَاشَا مَا جَاءَ

(1/156)


النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ بِعَيْنِهِ فَتَجِبُ الطَّاعَةُ لَهُ, كَالْمَائِعِ يَلَغُ فِيهِ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ, وَكَالْمَاءِ الرَّاكِدِ لِلْبَائِلِ, وَكَالسَّمْنِ الذَّائِبِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ الْمَيِّتُ, وَلاَ مَزِيدَ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ بِالدَّمِ لَكَانَ الْمَاءُ طَهُورًا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ يَنْجَسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ لَلَزِمَ إذَا بَالَ إنْسَانٌ فِي سَاقِيَةٍ مَا أَلاَّ يَحِلَّ لاَِحَدٍ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ مَوْضِعِ الْبَائِلِ, لإِنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي فِيهِ الْبَوْلُ أَوْ الْعَذِرَةُ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِلاَ شَكٍّ, وَلَمَا تَطَهَّرَ فَمُ أَحَدٍ مِنْ دَمٍ أَوْ قَيْءٍ فِيهِ, لإِنَّ الْمَاءَ إذَا دَخَلَ فِي الْفَمِ النَّجِسِ تَنَجَّسَ وَهَكَذَا أَبَدًا, وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ فِي ذَلِكَ مُبْطِلٌ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ.
قال أبو محمد: “ عَلِيٌّ: وَأَمَّا تَشْنِيعُهُمْ عَلَيْنَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْبَائِلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِ الْبَائِلِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ, وَبَيْنَ الْفَأْرِ يَقَعُ فِي السَّمْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَبَيْنَ وُقُوعِهِ فِي الزَّيْتِ أَوْ وُقُوعِ حَرَامٍ مَا فِي السَّمْنِ إذْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ فَتَشَنُّعٌ فَاسِدٌ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ, وَلَوْ تَدَبَّرُوا كَلاَمَهُمْ لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَائِلِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَغَيْرِ الْبَائِلِ الَّذِي لاَ نَصَّ فِيهِ, وَهَلْ فَرْقُنَا بَيْنَ الْبَائِلِ وَغَيْرِ الْبَائِلِ إلاَّ كَفَرْقِهِمْ مَعَنَا بَيْنَ الْمَاءِ الرَّاكِدِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرِ الرَّاكِدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ وَإِلاَّ فَلْيَقُولُوا لَنَا مَا الَّذِي أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَغَيْرِ الرَّاكِدِ وَلَمْ يُوجِبْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَائِلِ وَغَيْرِ الْبَائِلِ إلاَّ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لاَ يَتَعَدَّى بِحُكْمِهِ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ بِغَيْرِ نَصٍّ, وَكَفَرْقِهِمْ بَيْنَ الْغَاصِبِ لِلْمَاءِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ شُرْبُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ, وَهُوَ حَلاَلٌ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ لَهُ, وَهَلْ الْبَائِلُ وَغَيْرُ الْبَائِلِ إلاَّ كَالزَّانِي وَغَيْرِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِ السَّارِقِ وَالْمُصَلِّي وَغَيْرِ الْمُصَلِّي لِكُلِّ ذِي اسْمٍ مِنْهَا حُكْمُهُ, وَهَلْ الشُّنْعَةُ وَالْخَطَأُ الظَّاهِرُ إلاَّ أَنْ يَرِدَ نَصٌّ فِي الْبَائِلِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى غَيْرِ الْبَائِلِ وَهَلْ هَذَا إلاَّ كَمَنْ حَمَلَ حُكْمَ السَّارِقِ عَلَى غَيْرِ السَّارِقِ, وَحُكْمَ الزَّانِي عَلَى

(1/157)


غَيْرِ الزَّانِي, وَحُكْمَ الْمُصَلِّي عَلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي, وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
وَلَوْ أَنْصَفُوا أَنْفُسَهُمْ لاََنْكَرَ الْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَفْرِيقَهُمْ بَيْنَ مَسِّ الذَّكَرِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَبَيْنَ مَسٍّ بِظَاهِرِ الْكَفِّ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَلاََنْكَرَ الْمَالِكِيُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَفْرِيقَهُمْ بَيْنَ حُكْمِ الشَّرِيفَةِ وَحُكْمِ الدَّنِيَّةِ فِي النِّكَاحِ, وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ فَرْجَيْهِمَا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالصَّدَاقِ وَالْحَدِّ, وَلاََنْكَرَ الْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ تَفْرِيقَهُمْ بَيْنَ حُكْمِ التَّمْرِ وَحُكْمِ الْبُسْرِ فِي الْعَرَايَا.
وَهَؤُلاَءِ الْمَالِكِيُّونَ يُفَرِّقُونَ مَعَنَا بَيْنَ مَا أَدْخَلَ فِيهِ الْكَلْبُ لِسَانَهُ وَبَيْنَ مَا أَدْخَلَ فِيهِ ذَنَبَهُ الْمَبْلُولَ مِنْ الْمَاءِ, وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ بَوْلِ الْبَقَرَةِ وَبَوْلِ الْفَرَسِ, وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ, بَلْ أَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ خُرْءِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ وَخُرْئِهَا إذَا كَانَتْ مَقْصُورَةً وَبَيْنَ بَوْلِ الشَّاةِ إذَا شَرِبَتْ مَاءً نَجِسًا وَبَيْنَ بَوْلِهَا إذَا شَرِبَتْ مَاءً طَاهِرًا, وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْفُولِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ, فَجَعَلُوهُ فِي الزَّكَاةِ مَعَ الْجُلُبَّانِ صِنْفًا وَاحِدًا, وَجَعَلُوهُمَا فِي الْبُيُوعِ صِنْفَيْنِ, وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ يَدْرِي أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَائِلِ وَالْمُتَغَوِّطِ بِنَصٍّ جَاءَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ أَوْضَحُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفُولِ أَمْسِ وَالْفُولِ الْيَوْمَ, وَبَيْنَ الْفُولِ وَنَفْسِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ, وَلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً.
وَهَؤُلاَءِ الشَّافِعِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْبَوْلِ فِي مَخْرَجِهِ مِنْ الإِحْلِيلِ, فَجَعَلُوهُ يَطْهُرُ بِالْحِجَارَةِ, وَبَيْنَ ذَلِكَ الْبَوْلِ نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ الإِنْسَانِ نَفْسِهِ إذَا بَلَغَ أَعْلَى الْحَشَفَةَ فَجَعَلُوهُ لاَ يَطْهُرُ إلاَّ بِالْمَاءِ, وَفَرَّقُوا بَيْنَ بَوْلِ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ غَائِطِهِ فِي الصَّبِّ وَالْغَسْلِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوا عَلَيْنَا هَهُنَا بِعَيْنِهِ.
وَهَؤُلاَءِ الْحَنَفِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ بَوْلِ الشَّاةِ فِي الْبِئْرِ فَيُفْسِدُهَا, وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ نَفْسِهِ مِنْ بَوْلِهَا بِعَيْنِهَا فِي الثَّوْبِ فَلاَ يُفْسِدُهُ, وَفَرَّقُوا بَيْنَ بَوْلِ الْبَعِيرِ فِي الْبِئْرِ فَيُفْسِدُهُ وَلَوْ أَنَّهُ نُقْطَةً, فَإِنْ وَقَعَتْ بَعْرَتَانِ مِنْ بَعْرِ ذَلِكَ الْجَمَلِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ لَمْ يَفْسُدْ الْمَاءُ, وَهَذَا نَفْسُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْنَا, وَفَرَّقُوا بَيْنَ رَوْثِ الْفَرَسِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَيُفْسِدُ الصَّلاَةَ, وَبَيْنَ بَوْلِ ذَلِكَ الْفَرَسِ نَفْسِهِ يَكُونُ فِي الثَّوْبِ فَلاَ

(1/158)


يُفْسِدُ الصَّلاَةَ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ رُبُعَ الثَّوْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَشِبْرًا فِي شِبْرٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيُفْسِدُهَا حِينَئِذٍ, وَزُفَرُ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ كُلُّهُ وَرَجِيعُهُ نَجَسٌ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوا عَلَيْنَا. وَفَرَّقُوا بَيْنَ مَا يَمْلاَُ الْفَمَ مِنْ الْقَلْسِ وَبَيْنَ مَا لاَ يَمْلاَُ الْفَمَ مِنْهُ, وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْجَسَدِ فَلاَ يُزِيلُهُ إلاَّ الْمَاءُ, وَبَيْنَ الْبَوْلِ فِي الثَّوْبِ فَيُزِيلُهُ غَيْرُ الْمَاءِ.
وَلَوْ تَتَبَّعْنَا سَقَطَاتِهِمْ لَقَامَ مِنْهَا دِيوَانٌ.
فَإِنْ قَالُوا: مَنْ قَالَ بِقَوْلِكُمْ هَذَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَائِلِ وَالْمُتَغَوِّطِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ قَبْلَكُمْ قلنا: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ, وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ إذْ بَيَّنَ لَنَا حُكْمَ الْبَائِلِ وَسَكَتَ, عَنِ الْمُتَغَوِّطِ وَالْمُتَنَخِّمِ وَالْمُتَمَخِّطِ, وَلَكِنْ أَخْبِرُونَا: مَنْ قَالَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ بِفُرُوقِكُمْ هَذِهِ قَبْلَكُمْ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ بَوْلِ الشَّاةِ فِي الْبِئْرِ وَبَوْلِهَا فِي الثَّوْبِ, وَبَيْنَ بَوْلِهَا فِي الْجَسَدِ وَبَوْلِهَا فِي الثَّوْبِ وَبَيْنَ بَوْلِ الشَّاةِ تَشْرَبُ مَاءً نَجِسًا وَبَوْلِهَا إذَا شَرِبَتْ مَاءً طَاهِرًا وَبَيْنَ الْبَوْلِ فِي رَأْسِ الْحَشَفَةِ وَبَيْنَهُ فَوْقَ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُمْ وَلَيْتَهُمْ إذْ قَالُوهُ مُبْتَدِئِينَ قَالُوهُ بِوَجْهٍ يُفْهَمُ أَوْ يُعْقَلُ, وَكَذَلِكَ سَائِرُ فُرُوقِهِمْ الْمَذْكُورَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ الْقَوْلَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ, وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ قَائِلاً مُسَمًّى بِهِ وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَهُ, فَاللَّوَائِمُ لَهُمْ لاَزِمَةٌ لاَ لَنَا, وَإِنَّمَا نُنْكِرُ غَايَةَ الإِنْكَارِ الْقَوْلَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ تَعَالَى قَطُّ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا وَاَللَّهِ هُوَ الْمُنْكَرُ حَقًّا, وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الأَرْضِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَالُوا لَنَا: مَنْ فَرَّقَ قَبْلَكُمْ بَيْنَ السَّمْنِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ وَبَيْنَ غَيْرِ السَّمْنِ فَجَوَابُنَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا بِعَيْنِهِ, فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا, عَنِ ابْنِ عُمَرَ, كَمَا حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ, حدثنا هُشَيْمٌ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ أَبَانَ, عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى قُرَيْشٍ

(1/159)


عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ, عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ مَائِعًا فَأَلْقِهِ كُلَّهُ, وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقِ الْفَأْرَةَ وَمَا حَوْلَهَا وَكُلَّ مَا بَقِيَ. حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلاَهُمَا, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ, عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي عِشْرِينَ فَرْقًا مِنْ زَيْتٍ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: اسْتَسْرِجُوا بِهِ وَادْهُنُوا بِهِ الآُدْمَ. وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: الْفَأْرَةُ تَقَعُ فِي السَّمْنِ الذَّائِبِ فَتَمُوتُ فِيهِ أَوْ فِي الدُّهْنِ, فَتُؤْخَذُ قَدْ تَسَلَّخَتْ أَوْ قَدْ مَاتَتْ وَهِيَ شَدِيدَةٌ لَمْ تَتَسَلَّخْ فَقَالَ سَوَاءٌ إذَا مَاتَتْ فِيهِ, فأما الدُّهْنُ فَيُنَشُّ فَيُدْهَنُ بِهِ إنْ لَمْ تُقَذِّرْهُ, قُلْت: فَالسَّمْنُ أَيُنَشُّ فَيُؤْكَلُ قَالَ لاَ, لَيْسَ مَا يُؤْكَلُ, كَهَيْئَةِ شَيْءٍ فِي الرَّأْسِ يُدْهَنُ بِهِ. قال أبو محمد: “ وَالزَّيْتُ دُهْنٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ: قَالَ تَعَالَى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ غَسْلَ الزَّيْتِ تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ, ثُمَّ يُؤْكَلُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ, عَنْ مَالِكٍ فِي النُّقْطَةِ مِنْ الْخَمْرِ تَقَعُ فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يُشْرَبُ وَذَلِكَ الطَّعَامَ يُؤْكَلُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيُقَالُ لِلْحَنَفِيِّينَ: أَنْتُمْ تُخَالِفُونَ بَيْنَ أَحْكَامِ النَّجَاسَاتِ فِي الشِّدَّةِ وَالْخِفَّةِ بِآرَائِكُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ, وَلاَ قِيَاسٍ

(1/160)


فَبَعْضُهَا عِنْدَكُمْ لاَ يُنَجِّسُ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَالْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْهُ إلاَّ مِقْدَارٌ أَكْبَرُ مِنْ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ وَرُبَّمَا قَلَّ, وَبَعْضُهَا لاَ يُنَجِّسُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ إلاَّ مَا كَانَ رُبُعَ الثَّوْبِ, وَلاَ نَدْرِي مَا قَوْلُكُمْ فِي الْجَسَدِ وَالنَّعْلِ وَالْخُفِّ وَالأَرْضِ, وَبَعْضُهَا تُفَرِّقُونَ بَيْنَ حُكْمِهَا فِي نَفْسِهَا فِي الثَّوْبِ وَالْجَسَدِ وَبَيْنَ حُكْمِهَا فِي نَفْسِهَا فِي الْبِئْرِ, فَتَقُولُونَ: إنَّ قَطْرَةَ خَمْرٍ أَوْ بَوْلٍ تُنَجِّسُ الْبِئْرَ, وَلاَ تُنَجِّسُ الثَّوْبَ, وَلاَ الْجَسَدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ, فَأَخْبِرُونَا, عَنْ غَدِيرٍ إذَا حُرِّكَ طَرَفُهُ الْوَاحِدُ لَمْ يَتَحَرَّكْ الآخَرُ وَقَعَتْ فِيهِ نُقْطَةُ بَوْلِ كَلْبٍ أَوْ نُقْطَةُ بَوْلِ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةٌ مَيِّتَةٌ أَوْ فِيلٌ مَيِّتٌ مُتَفَسِّخٌ, هَلْ كُلُّ هَذَا سَوَاءٌ أَمْ لاَ فَإِنْ سَاوَوْا بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ نَقَضُوا أَصْلَهُمْ فِي تَغْلِيظِ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ دُونَ بَعْضٍ, وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ إنَّ بَعْرَتَيْنِ مِنْ بَعْرِ الإِبِلِ أَوْ بَعْرَتَيْنِ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ لاَ تُنَجِّسُ الْبِئْرَ, وَإِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ سَأَلْنَاهُمْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي السُّخْرِيَةِ وَالتَّخْلِيطِ. قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالُوا لَنَا: مَا قَوْلُكُمْ فِي خَمْرٍ أَوْ دَمٍ أَوْ بَوْلٍ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ فَلَمْ يَظْهَرْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ طَعْمٌ, وَلاَ لَوْنٌ, وَلاَ رِيحٌ, هَلْ صَارَ الْخَمْرُ وَالْبَوْلُ وَالدَّمُ مَاءً أَمْ بَقِيَ كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِهِ فَإِنْ كَانَ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ مَاءً فَكَيْفَ هَذَا وَإِنْ كَانَ بَقِيَ كُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِهِ فَقَدْ أَبَحْتُمْ الْخَمْرَ وَالْبَوْلَ وَالدَّمَ, وَهَذَا عَظِيمٌ وَخِلاَفٌ لِلإِسْلاَمِ قال أبو محمد: “ جَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّ الْعَالَمِ كُلَّهُ جَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ تَخْتَلِفُ أَبْعَاضُهَا بِأَعْرَاضِهَا وَبِصِفَاتِهَا فَقَطْ. وَبِحَسَبِ اخْتِلاَفِ صِفَاتِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعَالَمَ تَخْتَلِفُ أَسْمَاءُ تِلْكَ الأَجْزَاءِ الَّتِي عَلَيْهَا تَقَعُ أَحْكَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدِّيَانَةِ. وَعَلَيْهَا يَقَعُ التَّخَاطُبُ وَالتَّفَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ, فَالْعِنَبُ عِنَبٌ وَلَيْسَ زَبِيبًا, وَالزَّبِيبُ لَيْسَ عِنَبًا, وَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَيْسَ عِنَبًا, وَلاَ خَمْرًا, وَالْخَمْرُ لَيْسَ عَصِيرًا, وَالْخَلُّ لَيْسَ خَمْرًا, وَأَحْكَامُ كُلِّ ذَلِكَ فِي الدِّيَانَةِ تَخْتَلِفُ وَالْعَيْنُ الْحَامِلَةُ وَاحِدَةٌ, وَكُلُّ ذَلِكَ لَهُ صِفَاتٌ, مِنْهَا يَقُومُ

(1/161)


حَدُّهُ, فَمَا دَامَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ فَهِيَ مَاءٌ وَلَهُ حُكْمُ الْمَاءِ. فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ, عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ تَكُنْ مَاءً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمُ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ الدَّمُ وَالْخَمْرُ وَالْبَوْلُ وَكُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ صِفَاتٌ مَا دَامَتْ فِيهِ فَهُوَ خَمْرٌ لَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ, أَوْ دَمٌ لَهُ حُكْمُ الدَّمِ, أَوْ بَوْلٌ لَهُ حُكْمُ الْبَوْلِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْعَيْنُ خَمْرًا, وَلاَ مَاءً, وَلاَ دَمًا, وَلاَ بَوْلاً, وَلاَ الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ الاِسْمُ وَاقِعًا مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ, فَإِذَا سَقَطَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْخَمْرِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ الدَّمِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي الْخَلِّ أَوْ فِي اللَّبَنِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنْ بَطَلَتْ الصِّفَاتُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا سُمِّيَ الدَّمُ دَمًا وَالْخَمْرُ خَمْرًا وَالْبَوْلُ بَوْلاً, وَبَقِيَتْ صِفَاتُ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا بِحَسَبِهَا, فَلَيْسَ ذَلِكَ الْجِرْمُ الْوَاقِعُ يُعَدُّ خَمْرًا, وَلاَ دَمًا, وَلاَ بَوْلاً, بَلْ هُوَ مَاءٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ لَبَنٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ.
فَإِنْ غَلَبَ الْوَاقِعُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَبَقِيَتْ صِفَاتُهُ بِحَسَبِهَا وَبَطَلَتْ صِفَاتُ الْمَاءِ أَوْ اللَّبَنِ أَوْ الْخَلِّ, فَلَيْسَ هُوَ مَاءً بَعْدُ, وَلاَ خَلًّا, وَلاَ لَبَنًا, بَلْ هُوَ بَوْلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ خَمْرٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ دَمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ, فَإِنْ بَقِيَتْ صِفَاتُ الْوَاقِعِ وَلَمْ تَبْطُلْ صِفَاتُ مَا وَقَعَ فَهُوَ فِيهِ مَاءٌ وَخَمْرٌ, أَوْ مَاءٌ وَبَوْلٌ, أَوْ مَاءٌ وَدَمٌ, أَوْ لَبَنٌ وَبَوْلٌ, أَوْ دَمٌ وَخَلٌّ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْحَلاَلِ مِنْ ذَلِكَ لَوْ أَمْكَنَنَا تَخْلِيصُهُ مِنْ الْحَرَامِ, لَكِنَّا لاَ نَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ إلاَّ بِاسْتِعْمَالِ الْحَرَامِ فَعَجَزْنَا عَنْهُ فَقَطْ, وَإِلاَّ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ حَلاَلٌ بِحَسَبِهِ كَمَا كَانَ. وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ فَالدَّمُ يَسْتَحِيلُ لَحْمًا, فَهُوَ حِينَئِذٍ لَحْمٌ وَلَيْسَ دَمًا, وَالْعَيْنُ وَاحِدَةٌ, وَاللَّحْمُ يَسْتَحِيلُ شَحْمًا فَلَيْسَ لَحْمًا بَعْدُ بَلْ هُوَ شَحْمٌ وَالْعَيْنُ وَاحِدَةٌ. وَالزِّبْلُ وَالْبِرَازُ وَالْبَوْلُ وَالْمَاءُ وَالتُّرَابُ يَسْتَحِيلُ كُلُّ ذَلِكَ فِي النَّخْلَةِ وَرَقًا وَرُطَبًا, فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ زِبْلاً, وَلاَ تُرَابًا, وَلاَ مَاءً, بَلْ هُوَ رُطَبٌ حَلاَلٌ طَيِّبٌ, وَالْعَيْنُ وَاحِدَةٌ, وَهَكَذَا فِي سَائِرِ النَّبَاتِ كُلِّهِ, وَالْمَاءُ يَسْتَحِيلُ هَوَاءً مُتَصَعِّدًا وَمِلْحًا جَامِدًا, فَلَيْسَ هُوَ مَاءً بَلْ, وَلاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْعَيْنُ وَاحِدَةٌ, ثُمَّ يَعُودُ ذَلِكَ الْهَوَاءُ وَذَلِكَ الْمِلْحُ مَاءً. فَلَيْسَ حِينَئِذٍ هَوَاءً, وَلاَ مِلْحًا, بَلْ هُوَ مَاءٌ حَلاَلٌ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ.
فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا وَقُلْتُمْ: إنَّهُ وَإِنْ ذَهَبَتْ صِفَاتُهُ فَهُوَ الَّذِي كَانَ نَفْسَهُ لَزِمَكُمْ, وَلاَ بُدَّ إبَاحَةُ الْوُضُوءِ بِالْبَوْلِ, لاَِنَّهُ مَاءٌ مُسْتَحِيلٌ, بِلاَ شَكٍّ, وَبِالْعَرَقِ, لاَِنَّهُ مَاءٌ مُسْتَحِيلٌ. وَلَزِمَكُم

(1/162)


تَحْرِيمُ الثِّمَارِ الْمُغَذَّاةِ بِالزِّبْلِ وَبِالْعَذِرَةِ, وَتَحْرِيمُ لُحُومِ الدَّجَاجِ, لاَِنَّهَا مُسْتَحِيلَةٌ, عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَنَحْنُ نَجِدُ الدَّمَ يُلْقَى فِي الْمَاءِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ الْبَوْلِ فَلاَ يَظْهَرُ لَهُ لَوْنٌ, وَلاَ رِيحٌ, وَلاَ طَعْمٌ فَيُوَاتَرُ طَرْحُهُ فَتَظْهَرُ صِفَاتُهُ فِيهِ. فَهَلاَّ صَارَ الثَّانِي مَاءً كَمَا صَارَ الأَوَّلُ قلنا لَهُمْ: هَذَا السُّؤَالُ لَسْنَا نَحْنُ الْمَسْئُولِينَ بِهِ لَكِنْ جَرَيْتُمْ فِيهِ عَلَى عَادَتِكُمْ الذَّمِيمَةِ فِي التَّعَقُّبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالاِسْتِدْرَاكِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ, وَإِيَّاهُ تَعَالَى تَسْأَلُونَ, عَنْ هَذَا لاَ نَحْنُ, لاَِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحَلَّ الأَوَّلَ وَلَمْ يُحِلَّ الثَّانِيَ كَمَا شَاءَ لاَ نَحْنُ وَجَوَابُهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ يَأْتِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا تَطُولُ عَلَيْهِ نَدَامَةُ السَّائِلِ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ هَذَا السُّؤَالَ إذْ يَقُولُ تَعَالَى {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
ثُمَّ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ قَائِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا افْتَرَضَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا إذْ يَقُولُ: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} فَنَقُولُ لَكُمْ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى مَا خَلَقَ كُلَّهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا شَاءَ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَنَحْنُ نَجِدُ الْمَاءَ يُصَعِّدُهُ الْهَوَاءُ بِالتَّجْفِيفِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ هَوَاءً مُصَعَّدًا وَلَيْسَ مَاءً أَصْلاً. حَتَّى إذَا كَثُرَ الْمَاءُ الْمُسْتَحِيلُ هَوَاءً فِي الْجَوِّ عَادَ مَاءً كَمَا كَانَ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ السَّحَابِ مَاءً. وَهَذَا نَفْسُ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ أَنَّ الدَّمَ يَخْفَى فِي الْمَاءِ وَالْفِضَّةَ تَخْفَى فِي النُّحَاسِ. فَإِذَا تُوبِعَ بِهِمَا ظَهَرَا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا السُّؤَالِ الأَحْمَقِ وَبَيْنَ مَنْ سَأَلَ: لِمَ خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ يُتَوَضَّأُ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ مَاءَ الْوَرْدِ يُتَوَضَّأُ بِهِ وَلِمَ جَعَلَ الصَّلاَةَ إلَى الْكَعْبَةِ وَالْحَجَّ وَلَمْ يَجْعَلْهُمَا إلَى كَسْكَرَ أَوْ إلَى الْفَرَمَا أَوْ الطُّورِ وَلِمَ جَعَلَ الْمَغْرِبَ ثَلاَثًا وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ. وَالظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَلِمَ جَعَلَ الْحِمَارَ طَوِيلَ الآُذُنَيْنِ وَالْجَمَلَ صَغِيرَهُمَا وَالْفَأْرَ طَوِيلَ الذَّنَبَ

(1/163)


وَالثَّعْلَبَ كَذَلِكَ وَالْمِعْزَى قَصِيرَةَ الذَّنَبِ وَالأَرْنَبَ كَذَلِكَ وَلِمَ صَارَ الإِنْسَانُ يُحْدِثُ مِنْ أَسْفَلُ رِيحًا فَيَلْزَمُهُ غَسْلُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ, وَلاَ يَغْسِلُ مَخْرَجَ تِلْكَ الرِّيحِ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ مِنْ سُؤَالِ الْعُقَلاَءِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُشْبِهُ اعْتِرَاضَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ, بَلْ هُوَ سُؤَالُ نَوْكَى الْمُلْحِدِينَ وَحَمْقَى الدَّهْرِيِّينَ الْمُتَحَيِّرِينَ الْجُهَّالِ.
وَإِذَا أَحَلْنَاكُمْ وَسَائِرَ خُصُومِنَا عَلَى الْعِيَانِ وَمُشَاهَدَةِ الْحَوَاسِّ فِي انْتِقَالِ الأَسْمَاءِ بِانْتِقَالِ الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا تَقُومُ الْحُدُودُ, ثُمَّ أَرَيْنَاكُمْ بُطْلاَنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لاَ تَجِبُ تِلْكَ الأَسْمَاءُ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ كُلِّ مَنْ عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى تِلْكَ الأَعْيَانِ إلاَّ بِوُجُودِهَا, ثُمَّ أَحَلْنَاكُمْ عَلَى الْبَرَاهِينِ الضَّرُورِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَمَا شَاءَ, فَاعْتِرَاضُكُمْ كُلُّهُ هَوَسٌ وَبَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى الإِلْحَادِ.
فَقَالُوا: فَمَا تَقُولُونَ فِي فِضَّةٍ خَالَطَهَا نُحَاسٌ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ, وَلاَ غَيْرِهَا, أَتُزَكَّى بِوَزْنِهَا وَتُبَاعُ بِوَزْنِهَا فِضَّةً مَحْضَةً أَمْ لاَ قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْقَوْلُ فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِي الْمَاءِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ, إنْ بَقِيَتْ صِفَاتُ الْفِضَّةِ بِحَسَبِهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لِلنُّحَاسِ فِيهَا أَثَرٌ, فَإِنَّهَا تُزَكَّى بِوَزْنِهَا وَتُبَاعُ بِوَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ, لاَ بِأَقَلَّ, وَلاَ بِأَكْثَرَ, وَلاَ نَسِيئَةً, وَإِنْ غَلَبَتْ صِفَاتُ النُّحَاسِ حَتَّى لاَ يَبْقَى لِلْفِضَّةِ أَثَرٌ, فَهُوَ كُلُّهُ نُحَاسٌ مَحْضٌ لاَ زَكَاةَ فِيهِ أَصْلاً سَوَاءٌ كَثُرَتْ تِلْكَ الْفِضَّةُ الَّتِي اسْتَحَالَتْ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكْثُرْ, وَجَائِزٌ بَيْعُهُ بِالْفِضَّةِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً بِأَقَلَّ مِمَّا خَالَطَهُ مِنْ الْفِضَّةِ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ وَبِأَكْثَرَ, وَإِنْ ظَهَرَتْ صِفَاتُ النُّحَاسِ وَصِفَاتُ الْفِضَّةِ مَعًا فَهُوَ نُحَاسٌ وَفِضَّةٌ, تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ, خَاصَّةً إنْ بَلَغَتْ خَمْسَ أَوَاقٍ وَإِلاَّ فَلاَ, كَمَا لَوْ انْفَرَدَتْ, وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ بِفِضَّةٍ مَحْضَةٍ أَصْلاً لاَ بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ, وَلاَ بِأَقَلَّ, وَلاَ بِأَكْثَرَ, لاَ نَقْدًا, وَلاَ نَسِيئَةً, لاَِنَّنَا لاَ نَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِالْوَزْنِ, وَتُبَاعُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِالذَّهَبِ نَقْدًا لاَ نَسِيئَةً.
فَسَأَلُوا, عَنْ قِدْرٍ طُبِخَتْ بِالْخَمْرِ أَوْ طُرِحَ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ دَمٌ أَوْ عَذِرَةٌ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُنَالِكَ أَثَرٌ أَصْلاً, . فَقُلْنَا: مَنْ طَرَحَ فِي الْقِدْرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا فَهُوَ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, لاَِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْحَرَامَ الْمُفْتَرَضَ اجْتِنَابُهُ, وَأَمَّا إذَا بَطَلَ كُلُّ

(1/164)


ذَلِكَ فَمَا فِي الْقِدْرِ حَلاَلٌ أَكْلُهُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَصْلاً, وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَحَالَهَا إلَى الْحَلاَلِ. ثُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ فِي دَنِّ خَلٍّ رُمِيَ فِيهِ خَمْرٌ فَلَمْ يَظْهَرْ لِلْخَمْرِ أَثَرٌ, فَقَوْلُهُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي فِي الدَّنِّ كُلَّهُ حَلاَلٌ فَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ وَقَوْلٌ مِنْهُمْ بِاَلَّذِي شَنَّعُوا بِهِ فَلَزِمَهُمْ التَّشْنِيعُ, لأَنَّهُمْ عَظَّمُوهُ وَرَأَوْهُ حُجَّةً, وَلَمْ يَلْزَمْنَا, لاَِنَّنَا لَمْ نُعَظِّمْهُ, وَلاَ رَأَيْنَاهُ حُجَّةً. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا مُتَأَخِّرُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى ضَبْطِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِفَسَادِهِ وَسَخَافَتِهِ فَرُّوا إلَى أَنْ قَالُوا: إنَّنَا لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ غَدِيرٍ كَبِيرٍ, وَلاَ بَحْرٍ, وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ, لَكِنَّ الْحُكْمَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَالرَّأْيِ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَيُغْتَسَلُ مِنْهُ, فَإِنْ تَيَقَّنَّا أَوْ غَلَبَ فِي ظُنُونِنَا أَنَّ النَّجَاسَةَ خَالَطَتْهُ حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ وَلَوْ أَنَّهُ مَاءُ الْبَحْرِ, وَإِنْ لَمْ نَتَيَقَّنْ, وَلاَ غَلَبَ فِي ظُنُونِنَا أَنْ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ تَوَضَّأْنَا بِهِ.
قال علي: وهذا الْمَذْهَبُ أَشَدُّ فَسَادًا مِنْ الَّذِي رَغِبُوا عَنْهُ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالظَّنِّ, وَهَذَا لاَ يَحِلُّ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" . وَلاَ أَسْوَأُ حَالاً مِمَّنْ يَحْكُمُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لاَ يُحَقِّقُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: كَمَا تَظُنُّونَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تُخَالِطْهُ فَظُنُّوا أَنَّهَا خَالَطَتْهُ فَاجْتَنِبُوهُ, لإِنَّ الْحُكْمَ بِالظَّنِّ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِكُمْ, فَمَا الَّذِي جَعَلَ إحْدَى جَنْبَتَيْ الظَّنِّ أَوْلَى مِنْ الآُخْرَى وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَكُمْ هَذَا تَحَكُّمٌ مِنْكُمْ بِلاَ دَلِيلٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ نَقُولَ لَهُمْ: عَرِّفُونَا مَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِلْمَاءِ فَلَسْنَا نَفْهَمُهَا, وَلاَ أَنْتُمْ, وَلاَ أَحَدٌ فِي الْعَالَمِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ, فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ قَدْ جَاوَرَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ لاَ مُخَالَطَةٌ, وَهَذَا لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إلاَّ بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ النَّجَاسَةِ كَمِقْدَارِ الْمَاءِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَإِلاَّ فَقَدْ فُضِّلَتْ أَجْزَاءٌ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يُجَاوِرْهَا شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ تَنَجَّسَ كُلُّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُجَاوِرْهُ مِنْ النَّجَاسَةِ شَيْءٌ, قلنا

(1/165)


لَهُمْ: هَذَا لاَزِمٌ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ بِنُقْطَةِ بَوْلٍ تَقَعُ فِيهِ, وَلاَ فَرْقَ, فَإِنْ أَبَوْا مِنْ هَذَا قلنا لَهُمْ: فَعَرِّفُونَا بِالْمِقْدَارِ مِنْ النَّجَاسَةِ الَّذِي إذَا جَاوَزَ مِقْدَارًا مَحْدُودًا أَيْضًا مِنْ الْمَاءِ, وَلاَ بُدَّ نَجَّسَهُ, فَإِنْ أَقْدَمُوا عَلَى تَحْدِيدِ ذَلِكَ زَادُوا فِي الضَّلاَلِ وَالْهَوَسِ, وَإِنْ لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى ذَلِكَ تَرَكُوا قَوْلَهُمْ, كَالْمَيْتَةِ فَسَادًا وَمَجْهُولاً لاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي الدِّينِ.
وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَكُمْ لِغَالِبِ الظَّنِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا فِي قَدَحٍ فِيهِ أُوقِيَّتَانِ مِنْ مَاءٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ مِقْدَارُ الصُّآبَةِ مِنْ بَوْلِ كَلْبٍ, إنَّهُ لَمْ يَنْجَسْ مِنْ الْمَاءِ إلاَّ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ أَنْ تُخَالِطَهُ تِلْكَ النَّجَاسَةُ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ لِمِقْدَارِهَا مِنْ الْمَاءِ فَقَطْ وَيَبْقَى سَائِرُ مَاءِ الْقَدَحِ طَاهِرًا حَلاَلاً شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ. وَهَكَذَا فِي جُبٍّ فِيهِ كَرُّ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ أُوقِيَّةُ بَوْلٍ, فَإِنَّهُ عَلَى أَصْلِكُمْ لاَ يَنْجَسُ إلاَّ مِقْدَارُ مَا مَازَجَتْهُ تِلْكَ الآُوقِيَّةُ, وَبَقِيَ سَائِرُ ذَلِكَ طَاهِرًا مُطَهِّرًا حَلاَلاً, نَحْنُ مُوقِنُونَ وَأَنْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تُمَازِجْ عُشْرَ الْكَرِّ, وَلاَ عُشْرَ عُشْرِهِ, فَإِنْ الْتَزَمْتُمْ هَذَا فَارَقْتُمْ جَمِيعَ مَذَاهِبِكُمْ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ الَّتِي هِيَ أَفْكَارُ سُوءٍ مُفْسِدَةٌ لِلدِّمَاغِ, فَإِنْ رَجَعْتُمْ إلَى أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ النَّجَاسَةِ يَنْجَسُ, لَزِمَكُمْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ أَلْزَمْنَاكُمْ فِي النِّيلِ وَالْجَيْحُونِ, وَفِي كُلِّ مَاءٍ جَارٍ, لاَِنَّهُ يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَيَنْجَسُ جَمِيعُهُ لِمُلاَقَاتِهِ الَّذِي قَدْ تَنَجَّسَ, وَلاَ بُدَّ نَعَمْ وَفِي الْبَحْرِ مِنْ نُقْطَةِ بَوْلٍ تَقَعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ, فَاخْتَارُوا مَا شِئْتُمْ.
فَإِنْ قَالُوا: لَسْنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ النَّهْرَ الْكَبِيرَ أَوْ الْبَحْرَ تَنَجَّسَ, وَلاَ مِنْ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ بِهِ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ مِنْهُ. قلنا لَهُمْ: هَذَا نَفْسُهُ مَوْجُودٌ فِي الْجُبِّ وَالْبِئْرِ وَفِي الْقُلَّةِ وَفِي قَدَحٍ فِيهِ عَشَرَةُ أَرْطَالِ مَاءٍ إذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ فَرْقَ

(1/166)


وَلاَ يَقِينَ فِي أَنَّ كُلَّ مَاءٍ فِيمَا ذَكَرْنَا تَنَجَّسَ, وَلاَ فِي أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مِنْ ذَلِكَ وَالشَّارِبَ تَوَضَّأَ بِنَجِسٍ أَوْ شَرِبَ نَجِسًا, ثُمَّ حَتَّى لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوا لَمَا وَجَبَ أَنْ يَتَنَجَّسَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ الْحَلاَلُ أَوْ الْمَائِعُ لِذَلِكَ لِمُجَاوَرَةِ النَّجِسِ أَوْ الْحَرَامِ لَهُ, مَا لَمْ يَحْمِلْ صِفَاتِ الْحَرَامِ أَوْ النَّجِسِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: رَأَيْت بَعْضَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْفِقْهِ وَيَمِيلُ إلَى النَّظَرِ يَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِيهِ أَثَرٌ فَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا, الْحُكْمُ وَاحِدٌ, وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ كُلِّهِ أَوْ شَرِبَهُ حَاشَا مِقْدَارَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ, فَوُضُوءُهُ جَائِزٌ وَصَلاَتُهُ تَامَّةٌ وَشُرْبُهُ حَلاَلٌ, وَكَذَلِكَ غُسْلُهُ مِنْهُ, إذْ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ نَجَاسَةً, وَلاَ أَنَّهُ شَرِبَ حَرَامًا, فَإِنْ اسْتَوْعَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَلاَ وُضُوءَ لَهُ, وَلاَ طُهْرَ وَهُوَ عَاصٍ فِي شُرْبِهِ ; لاَِنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ نَجَاسَةً وَشَرِبَ حَرَامًا قَالَ: وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَحْرِ فَمَا دُونَهُ, وَلاَ فَرْقَ, قَالَ: فَإِنْ تَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَاسْتَوْعَبَاهُ أَوْ اسْتَوْعَبُوهُ كُلَّهُ بِالْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ أَوْ الشُّرْبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُمْ وُضُوءُهُ جَائِزٌ فِي الظَّاهِرِ, وَكَذَلِكَ غُسْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ, إلاَّ أَنَّ فِيهِمَا أَوْ فِيهِمْ مَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ, وَلاَ غُسْلَ, وَلاَ أَعْرِفُ بِعَيْنِهِ, فَلاَ أُلْزِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ إعَادَةَ وُضُوءٍ, وَلاَ إعَادَةَ صَلاَةٍ بِالظَّنِّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ نَاظَرْت صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ رحمه الله فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, وَأَلْزَمْتُهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ لَهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ, أَنْ يَكُونَ يَأْمُرُ جَمِيعَهُمْ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ, لإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ, بَلْ عَلَى أَصْلِنَا وَأَصْلِ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْحَدَثِ وَعَلَى شَكٍّ مِنْ الطَّهَارَةِ, فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِيَقِينِ الطَّهَارَةِ, وَأَرَيْته أَيْضًا بُطْلاَنَ الْقَوْلِ الأَوَّلِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ اسْتِحَالَةِ الأَحْكَامِ بِاسْتِحَالَةِ الأَسْمَاءِ, وَإِنَّ اسْتِحَالَةَ الأَسْمَاءِ بِاسْتِحَالَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي مِنْهَا تَقُومُ الْحُدُودُ, وَقُلْت لَهُ: فَرِّقْ بَيْنَ مَا أَجَزْت مِنْ هَذَا وَبَيْنَ إنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا مَاءٌ وَفِي الآخَرِ عَصِيرُ بَعْضِ الشَّجَرِ, وَبَيْنَ بِضْعَتَيْ لَحْمٍ إحْدَاهُمَا مِنْ خِنْزِيرٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْ كَبْشٍ, وَبَيْنَ شَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُذَكَّاةٌ وَالآُخْرَى عَقِيرَةُ سَبُعٍ مَيْتَةٌ, وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً.

(1/167)


قَالَ عَلِيٌّ: وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا إنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ, عَنْ جَمِيعِهِمْ, وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ أَخُوهُ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَغَيْرُهُمْ, فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ جَائِزًا, فَتَقْلِيدُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, رضي الله عنهم, أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

(1/168)


137 - مَسْأَلَةٌ: وَالْبَوْلُ كُلُّهُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ إنْسَانٍ أَوْ غَيْرِ إنْسَانٍ
مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ, أَوْ مِنْ طَائِرٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, فَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ إلاَّ لِضَرُورَةِ تَدَاوٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَقَطْ وَفُرِضَ اجْتِنَابُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ إلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ إلاَّ بِحَرَجٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَوَنِيمِ الذُّبَابِ وَنَجْوِ الْبَرَاغِيثِ.
وقال أبو حنيفة: أَمَّا الْبَوْلُ فَكُلُّهُ نَجِسٌ, سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِمَّا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُ أَغْلَظُ نَجَاسَةً مِنْ بَعْضٍ, فَبَوْلُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ فَرَسٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لاَ يُنَجِّسُ الثَّوْبَ, وَلاَ تُعَادُ مِنْهُ الصَّلاَةُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَاحِشًا فَيُنَجِّسُ حِينَئِذٍ وَتُعَادُ مِنْهُ الصَّلاَةُ أَبَدًا. وَلَمْ يَحُدَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الْكَثِيرِ حَدًّا. وَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِأَنْ يَكُونَ شِبْرًا فِي شِبْرٍ. قَالَ: فَلَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِي بِئْرٍ فَقَدْ تَنَجَّسَتْ وَتُنْزَحُ كُلُّهَا. قَالُوا: وَأَمَّا بَوْلُ الإِنْسَانِ وَمَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلاَ تُعَادُ مِنْهُ الصَّلاَةُ, وَلاَ يُنَجِّسُ الثَّوْبَ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ, فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ نَجَّسَ الثَّوْبَ وَأُعِيدَتْ مِنْهُ الصَّلاَةُ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ لَمْ يُنَجِّسْ الثَّوْبَ وَلَمْ تُعَدْ مِنْهُ الصَّلاَةُ, وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبَعْدُ فَالْعَمْدُ عِنْدَهُمْ وَالنِّسْيَانُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَمَّا الرَّوْثُ فَإِنَّهُ سَوَاءٌ كُلَّهُ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِمَّا لاَ

(1/168)


يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ بَقَرٍ كَانَ أَوْ مِنْ فَرَسٍ أَوْ مِنْ حِمَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, إنْ كَانَ فِي الثَّوْبِ مِنْهُ أَوْ النَّعْلِ أَوْ الْخُفِّ أَوْ الْجَسَدِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ: بَطَلَتْ الصَّلاَةُ وَأَعَادَهَا أَبَدًا. وَإِنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ فَأَقَلَّ لَمْ يَضُرَّ شَيْئًا, فَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بَعْرَتَانِ فَأَقَلُّ مِنْ أَبْعَارِ الإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ لَمْ يَضُرَّ شَيْئًا, فَإِنْ كَانَ مِنْ الرَّوْثِ الْمَذْكُورِ فِي الْخُفِّ وَالنَّعْلِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ, فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أَجْزَأَ فِيهِ الْحَكُّ, وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَمْ يُجْزِ فِيهِ إلاَّ الْغَسْلُ, فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّوْثِ بَوْلٌ لَمْ يُجْزِ فِيهِ إلاَّ الْغَسْلُ يَبِسَ أَوْ لَمْ يَيْبَسْ. قَالَ فَإِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ مِنْ خُرْءِ الطَّيْرِ الَّذِي يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يَضُرَّ شَيْئًا, وَلاَ أُعِيدَتْ مِنْهُ الصَّلاَةُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَاحِشًا فَتُعَادُ مِنْهُ الصَّلاَةُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ خُرْءَ دَجَاجٍ, فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ الصَّلاَةَ أَبَدًا, فَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ خُرْءُ حَمَامٍ أَوْ عُصْفُورٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا. وَقَالَ زُفَرُ: بَوْلُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ كَثُرَ أَمْ قَلَّ. وَأَمَّا بَوْلُ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَنَجْوُهُ وَنَجْوُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ نَجَسٌ.
وقال مالك: بَوْلُ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَنَجْوُهُ نَجِسٌ, وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَنَجْوُهُ طَاهِرَانِ إلاَّ أَنْ يَشْرَبَ مَاءً نَجِسًا فَبَوْلُهُ حِينَئِذٍ نَجِسٌ.
وَكَذَلِكَ مَا يَأْكُلُ الدَّجَاجُ مِنْ نَجَاسَاتٍ فَخُرْؤُهَا نَجِسٌ. وَقَالَ دَاوُد: بَوْلُ كُلِّ حَيَوَانٍ وَنَجْوُهُ أُكِلَ لَحْمُهُ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ فَهُوَ طَاهِرٌ, حَاشَا بَوْلَ الإِنْسَانِ وَنَجْوَهُ فَقَطْ فَهُمَا نَجَسَانِ.
وقال الشافعي مِثْلَ قَوْلِنَا الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ التَّخْلِيطِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ, لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِسُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِقِيَاسٍ, وَلاَ بِدَلِيلِ إجْمَاعٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ بِرَأْيٍ سَدِيدٍ, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَسَّمَ النَّجَاسَاتِ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا التَّقْسِيمَ بَلْ نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فِيهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ, فَوَجَبَ إطْرَاحُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الأَشْيَاءُ عَلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أَوْ تَنْجِيسِهِ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. قَالُوا: وَلاَ نَصَّ, وَلاَ إجْمَاعَ فِي تَنْجِيس

(1/169)


بَوْلِ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَجْوِهِ, حَاشَا بَوْلَ الإِنْسَانِ وَنَجْوَهُ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقَالَ بِتَنْجِيسِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ: "أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلاَمِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ, وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ, فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَرَاعٍ, وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا" . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَبِحَدِيثٍ رُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَدِينَةِ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَفِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ" . وَبِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَمَلاٌَ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ وَقَدْ نَحَرُوا جَزُورًا لَهُمْ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيُّكُمْ يَأْخُذُ هَذَا الْفَرْثَ بِدَمِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى يَضَعَ وَجْهَهُ سَاجِدًا فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِهِ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَانْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَأَخَذَ الْفَرْثَ, فَأَمْهَلَهُ, فَلَمَّا خَرَّ سَاجِدًا وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ, فَأُخْبِرَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ تَسْعَى فَأَخَذَتْهُ مِنْ ظَهْرِهِ, فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَبِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ شَابًّا عَزَبًا, وَكَانَتْ الْكِلاَبُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ, عَنِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ, كِلاَهُمَا, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ " صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ عَلَى مَكَان فِيهِ سِرْقِينٌ هَذَا لَفْظُ سُفْيَانَ, وَقَالَ شُعْبَةُ " رَوْثُ الدَّوَابِّ " وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِمَا " وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ, وَقَالَ: هُنَا وَهُنَاكَ سَوَاءٌ " وَعَنْ أَنَسٍ " لاَ بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذَاتِ كِرْشٍ " وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. قَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْته, عَنِ السِّرْقِينِ يُصِيبُ خُفَّ الإِنْسَانِ أَوْ نَعْلَهُ أَوْ قَدَمَهُ قَالَ لاَ بَأْسَ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً قَدْ تَنَحَّى, عَنْ بَغْلٍ يَبُولُ, فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ: مَا عَلَيْك لَوْ أَصَابَك. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُجِيزُ أَكْلَ الْبَغْلِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لاَ بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ أَصَابَ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ يَغْسِلُهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ

(1/170)


السِّرْقِينِ. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إنَّ لِي عُنَيْقًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي.
قال أبو محمد: “ أَمَّا الآثَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا فَكُلُّهَا صَحِيحٌ, إلاَّ أَنَّهَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا:
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَغَيْرُ مُسْنَدٍ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ بِبَوْلِ الْكِلاَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَقَرَّهُ, وَإِذْ لَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ, إذْ لاَ حُجَّةَ إلاَّ فِي قَوْلِهِ عليه السلام أَوْ فِي عَمَلِهِ أَوْ فِيمَا صَحَّ أَنَّهُ عَرَفَهُ فَأَقَرَّهُ, فَسَقَطَ هَذَا الاِحْتِجَاجُ بِهَذَا الْخَبَرِ, لَكِنْ يَلْزَمُ مَنْ احْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: "كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْخَبَرِ ; لاَِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ عَمَلَ بَنِي خُدْرَةَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْمَدِينَةِ, وَيَلْزَمُ مَنْ شَنَّعَ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا, فَلاَ يَرَى أَبْوَالَ الْكِلاَبِ, وَلاَ غَيْرَهَا نَجَسًا, وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيه"ِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْفَرْثَ كَانَ مَعَهُ دَمٌ, وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلاً عِنْدَهُمْ, عَلَى طَهَارَةِ الدَّمِ, فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ دَلِيلاً عَلَى طَهَارَةِ الْفَرْثِ دُونَ طَهَارَةِ الدَّمِ, وَكِلاَهُمَا مَذْكُورَانِ مَعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ وَزَكَرِيَّا بْنَ أَبِي زَائِدَةَ رَوَوْا كُلُّهُمْ هَذَا الْخَبَرَ, عَنِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ, عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, فَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَلَى جَزُورٍ, وَهُمْ أَوْثَقُ وَأَحْفَظُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ, وَرِوَايَتُهُمْ زَائِدَةٌ عَلَى رِوَايَتِهِ, فَإِذَا كَانَ الْفَرْثُ وَالدَّمُ فِي السَّلَى فَهُمَا غَيْرُ طَاهِرَيْنِ, فَلاَ

(1/171)


حُكْمَ لَهُمَا, وَالْقَاطِعُ هَهُنَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ وُرُودِ الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ النَّجْوِ وَالدَّمِ, فَصَارَ مَنْسُوخًا بِلاَ شَكٍّ وَبَطَلَ الاِحْتِجَاجُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ, فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ أَبْوَالِهَا, وَلاَ مِنْ أَبْعَارِهَا. فَقُلْنَا لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهَا لاَ تَخْلُو مِنْ أَبْوَالِهَا, وَلاَ مِنْ أَبْعَارِهَا فَقَدْ يَبُولُ الرَّاعِي أَيْضًا بَيْنَهَا, وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ الإِنْسَانِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كُرَيْبٍ, حدثنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ, عَنْ زَائِدَةَ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُطَيَّبَ وَتُنَظَّفَ. قَالَ عَلِيٌّ: الدُّورُ هِيَ دُورُ السُّكْنَى وَهِيَ أَيْضًا الْمَحَلاَّتِ. تَقُولُ: دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ, وَدَارُ بَنِي النَّجَّارِ, دَارُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ. هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ, فَقَدْ صَحَّ أَمْرُهُ عليه السلام بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا, وَهَذَا يُوجِبُ الْكَنْسَ لَهَا مِنْ كُلِّ بَوْلٍ وَبَعْرٍ وَغَيْرِهِ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ, كِلاَهُمَا, عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ, عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا, فَرُبَّمَا رَأَيْته تَحْضُرُ الصَّلاَةُ فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا" فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِكَنْسِ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَنَضْحِهِ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْر

(1/172)


بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ, عَنِ ابْنِ عَوْنٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ, عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَنَعَ بَعْضُ عُمُومَتِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْكُلَ فِي بَيْتِي وَتُصَلِّيَ فِيهِ فَأَتَاهُ وَفِي الْبَيْتِ فَحْلٌ مِنْ تِلْكَ الْفُحُولِ يَعْنِي حَصِيرًا فَأَمَرَ عليه السلام بِجَانِبٍ مِنْهُ فَكُنِسَ وَرُشَّ فَصَلَّى وَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام بِكَنْسِ مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَرَشِّهِ بِالْمَاءِ, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَابِضُ الْغَنَمِ وَغَيْرُهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ إنَّمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ, عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ, عَنْ أَنَسٍ, وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ, عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ, عَنْ أَنَسٍ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ" فَصَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ قَبْلَ وُرُودِ الأَخْبَارِ بِاجْتِنَابِ كُلِّ نَجْوٍ وَبَوْلٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حدثنا أَبُو عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ, عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا لَمْ تَجِدُوا إلاَّ مَرَابِضَ الْغَنَمِ وَأَعْطَانَ الإِبِلِ, فَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ, وَلاَ تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ" .
حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَنُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ فَقَالَ لاَ, قَالَ: أَنُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَالَ نَعَمْ" .

(1/173)


قَالَ عَلِيٌّ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثِقَةٌ كُوفِيٌّ وَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ.
حدثنا حمام, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ, حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا يُونُسُ, عَنِ الْحَسَنِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَتَيْتُمْ عَلَى مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَصَلُّوا فِيهَا, وَإِذَا أَتَيْتُمْ عَلَى مَبَارِكِ الإِبِلِ فَلاَ تُصَلُّوا فِيهَا, فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ" .
قال أبو محمد: “ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ عليه السلام بِالصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ دَلِيلاً عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا, كَانَ نَهْيُهُ عليه السلام, عَنِ الصَّلاَةِ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ دَلِيلاً عَلَى نَجَاسَةِ أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا, وَإِنْ كَانَ نَهْيُهُ عليه السلام, عَنِ الصَّلاَةِ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ لَيْسَ دَلِيلاً عَلَى نَجَاسَةِ أَبْوَالِهَا, فَلَيْسَ أَمْرُهُ عليه السلام بِالصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ دَلِيلاً عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِهَا وَأَبْعَارِهَا, وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَ ذَلِكَ مُتَحَكِّمٌ بِالْبَاطِلِ, لاَ يَعْجَزُ مَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ, عَنْ أَنْ يَأْخُذَ بِالطَّرَفِ الثَّانِي بِدَعْوَى كَدَعْوَاهُ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّمَا نَهَى, عَنِ الصَّلاَةِ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ, لاَِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ لاَِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ كَمَا قَدْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ, فَخَرَجَتْ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ مِنْ كِلاَ الْخَبَرَيْنِ, فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي أَبْوَالِ الإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ الإِبِلِ وَأَلْبَانِ الإِبِلِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي مِنْ الْمَرَضِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا ابْنُ عُلَيَّةَ, عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أَبِي قِلاَبَةَ, عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَمِ, فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ, فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إبِلِهِ فَتُصِيبُونَ

(1/174)


مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَصَحُّوا, فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَطَرَدُوا الإِبِلَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَاءِ مِنْ السَّقَمِ الَّذِي كَانَ أَصَابَهُمْ, وَأَنَّهُمْ صَحَّتْ أَجْسَامُهُمْ بِذَلِكَ, وَالتَّدَاوِي بِمَنْزِلَةِ ضَرُورَةٍ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَمَا اُضْطُرَّ الْمَرْءُ إلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ,
فإن قيل: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, عَنْ سِمَاكٍ, عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرَ طَارِقُ بْنُ سُوَيْد أَوْ سُوَيْد بْنُ طَارِقٍ: "أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَنَهَاهُ, فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهَا دَوَاءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لاَ, وَلَكِنَّهَا دَاءٌ" . وَحَدِيثَ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ, عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ, عَنْ حَسَّانَ بْنِ الْمُخَارِقِ, عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" . فَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ ; لإِنَّ حَدِيثَ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ إنَّمَا جَاءَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ, شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ

(1/175)


حُجَّةٌ ; لإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ دَوَاءً, وَإِذْ لَيْسَتْ دَوَاءً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَنَا فِي أَنَّ مَا لَيْسَ دَوَاءً فَلاَ يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ إذَا كَانَ حَرَامًا, وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُمْ فِي الدَّوَاءِ, وَجَمِيعُ الْحَاضِرِينَ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, بَلْ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيُّونَ يُبِيحُونَ لِلْمُخْتَنِقِ شُرْبَ الْخَمْرِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُ أَكْلَهُ بِهِ غَيْرَهَا, وَالْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ يُبِيحُونَهَا عِنْدَ شِدَّةِ الْعَطَشِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ فَنَعَمْ وَمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْحَالِ خَبِيثًا, بَلْ هُوَ حَلاَلٌ طَيِّبٌ ; لإِنَّ الْحَلاَلَ لَيْسَ خَبِيثًا.فَصَحَّ أَنَّ الدَّوَاءَ الْخَبِيثَ هُوَ الْقَتَّالُ الْمَخُوفُ, عَلَى أَنَّ يُونُسَ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ "لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" فَبَاطِلٌ لإِنَّ رَاوِيَهُ سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ جَاءَ الْيَقِينُ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلاَكِ مِنْ

(1/176)


الْجُوعِ فَقَدْ جَعَلَ تَعَالَى شِفَاءَنَا مِنْ الْجُوعِ الْمُهْلِكِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ وَنَقُولُ: نَعَمْ إنَّ الشَّيْءَ مَا دَامَ حَرَامًا عَلَيْنَا فَلاَ شِفَاءَ لَنَا فِيهِ, فَإِذَا اُضْطُرِرْنَا إلَيْهِ فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ بَلْ هُوَ حَلاَلٌ, فَهُوَ لَنَا حِينَئِذٍ شِفَاءٌ, وَهَذَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ, وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْه} وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلاَلٌ لاِِنَاثِهَا" وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ" مِنْ الطُّرُقِ الثَّابِتَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ. رَوَى تَحْرِيمَ الْحَرِيرِ عُمَرُ وَابْنُهُ, وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُمْ, ثُمَّ صَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام أَبَاحَ لِعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ لِبَاسَ الْحَرِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي مِنْ الْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ وَالْوَجَعِ, فَسَقَطَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الأَشْيَاءَ عَلَى الإِبَاحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فَصَحِيحٌ, وَهَكَذَا نَقُولُ: إنَّنَا إنْ لَمْ نَجِدْ نَصًّا عَلَى تَحْرِيمِ الأَبْوَالِ جُمْلَةً وَالأَنْجَاءِ جُمْلَةً, وَإِلاَّ فَلاَ يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إلاَّ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ بَوْلِ ابْنِ آدَمَ وَنَجْوِهِ. كَمَا قَالُوا: فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذَلِكَ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ, فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ وَاجِبٌ, فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا ابْنُ سَلاَّمٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَانِ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ عليه السلام: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ, كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ, وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

(1/177)


قال أبو محمد: “ كُلُّ كَبِيرٍ فَهُوَ صَغِيرٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الْقَتْلِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ, حدثنا الأَعْمَشُ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنْ طَاوُوس, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ, أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ, وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ, عَنْ شُعْبَةَ, عَنِ الأَعْمَشِ, وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, عَنِ الأَعْمَشِ, وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ وَشُعْبَةَ, عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ, عَنْ مُجَاهِدٍ.
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغِيثٍ, حدثنا أَبُو عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ, حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْبَوْلِ" وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, عَنِ الأَعْمَشِ بِإِسْنَادِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلاَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ, عَنْ أَبِي حَزْرَةَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ الْقَاصُّ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخُو الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يُصَلَّى بِحَضْرَةِ طَعَامٍ, وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ" يَعْنِي الْبَوْلَ وَالنَّجْوَ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ, عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِإِسْنَادِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ, عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ, عَنْ أَبِي حَزْرَةَ.

(1/178)


قال أبو محمد: “ فَافْتَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ اجْتِنَابَ الْبَوْلِ جُمْلَةً, وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ, وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ بَوْلٌ دُونَ بَوْلٍ, فَيَكُونُ فَاعِلُ ذَلِكَ مُدَّعِيًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ بِالْبَاطِلِ إلاَّ بِنَصٍّ ثَابِتٍ جَلِيٍّ, وَوَجَدْنَاهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَمَّى الْبَوْلَ جُمْلَةً وَالنَّجْوَ جُمْلَةً " الأَخْبَثَيْنِ " وَالْخَبِيثُ مُحَرَّمٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ أَخْبَثَ وَخَبِيثٍ فَهُوَ حَرَامٌ.
فإن قيل: إنَّمَا خَاطَبَ عليه السلام النَّاسَ فَإِنَّمَا أَرَادَ نَجْوَهُمْ وَبَوْلَهُمْ فَقَطْ. قلنا: نَعَمْ إنَّمَا خَاطَبَ عليه السلام النَّاسَ وَلَكِنْ أَتَى بِالاِسْمِ الأَعَمِّ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ جِنْسُ الْبَوْلِ وَالنَّجْوِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّمَا أَرَادَ عليه السلام نَجْوَ النَّاسِ خَاصَّةً وَبَوْلَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ إنَّمَا أَرَادَ عليه السلام بَوْلَ كُلِّ إنْسَانٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً لاَ بَوْلَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ, وَكَذَلِكَ فِي النَّجْوِ فَصَحَّ أَنَّ الْوَاجِبَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَحْتَ الاِسْمِ الْجَامِعِ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ.
فإن قيل: إنَّ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ الْعَذَابُ فِي الْبَوْلِ إنَّمَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ الأَعْمَشِ, عَنْ مُجَاهِدٍ, وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا, وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَرَّةً رَوَاهُ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمَرَّةً, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنْ طَاوُوس, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْعَلاَءِ وَيَحْيَى وَأَبَا سَعِيدٍ الأَشَجَّ رَوَوْهُ, عَنْ وَكِيعٍ, عَنِ الأَعْمَشِ فَقَالُوا فِيهِ كَانَ "لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" وَهَكَذَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ جَرِيرٍ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ.
قال أبو محمد: “ هَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ. أَمَّا رِوَايَةُ الأَعْمَشِ, عَنْ مُجَاهِدٍ فَإِنَّ الإِمَامَيْنِ شُعْبَةَ وَوَكِيعًا ذَكَرَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَمَاعَ الأَعْمَشِ لَهُ مِنْ مُجَاهِدٍ فَسَقَطَ هَذَا الاِعْتِرَاضُ, وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِّينَاهُ آنِفًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الأَعْمَشِ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, فَسَقَطَ التَّعَلُّلُ جُمْلَةً. وَأَمَّا رِوَايَةُ هَذَا الْخَبَرِ مَرَّةً, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَرَّةً, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنْ طَاوُوس, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا قُوَّةٌ لِلْحَدِيثِ, وَلاَ يَتَعَلَّلُ بِهَذَا إلاَّ جَاهِلٌ مُكَابِرٌ لِلْحَقَائِقِ ; لإِنَّ كِلَيْهِمَا إمَامٌ, وَكِلاَهُمَا صَحِبَ ابْنَ عَبَّاسٍ الصُّحْبَةَ الطَّوِيلَةَ, فَسَمِعَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَسَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ طَاوُوس, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ كَذَلِكَ, وَإِلاَّ فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ وَدِدْنَا أَنْ تُبَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ, وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ إلاَّ بِدَعْوَى فَاسِدَةٍ لَهِجَ

(1/179)


بِهَا قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, وَهُمْ فِيهَا مُخْطِئُونَ عَيْنَ الْخَطَأِ, وَمَنْ قَلَّدَهُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى " مِنْ بَوْلِهِ " فَقَدْ عَارَضَهُمْ مَنْ هُوَ فَوْقَهُمْ, فَرَوَى هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ, وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ كُلُّهُمْ, عَنْ وَكِيعٍ فَقَالُوا " مِنْ الْبَوْلِ " وَرَوَاهُ ابْنُ عَوْنٍ, وَابْنُ جَرِيرٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالاَ: " مِنْ الْبَوْلِ " وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ, كِلاَهُمَا, عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالاَ: " مِنْ الْبَوْلِ " وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ كُلُّهُمْ, عَنِ الأَعْمَشِ فَقَالُوا " مِنْ الْبَوْلِ " فَكِلاَ الرِّوَايَتَيْنِ حَقٌّ, وَرِوَايَةُ هَؤُلاَءِ تَزِيدُ عَلَى رِوَايَةِ الآخَرِينَ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ وَاجِبٌ قَبُولُهَا, فَسَقَطَ كُلُّ مَا تَعَلَّلُوا بِهِ, وَصَحَّ فَرْضًا وُجُوبُ اجْتِنَابِ كُلِّ بَوْلٍ وَنَجْوٍ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا جُمْلَةٌ مِنْ السَّلَفِ, كَمَا حَدَّثَنَا حمام, حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي, حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ, حدثنا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ حَدَّثَنِي أَبُو مِجْلَزٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ, عَنْ بَوْلِ نَاقَتِي قَالَ اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ, عَنْ سَلْمِ بْنِ أَبِي الذَّيَّالِ, عَنْ صَالِحٍ الدَّهَّانِ, عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: الأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ, عَنِ الْحَسَنِ قَالَ " الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ " وَعَنْ قَتَادَةَ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ " الرَّشُّ بِالرَّشِّ وَالصَّبُّ بِالصَّبِّ مِنْ الأَبْوَالِ كُلِّهَا " وَعَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الإِبِلِ قَالَ " يُنْضَحُ " وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ أَبِي مُوسَى إسْرَائِيلَ قَالَ " كُنْت مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَسَقَطَ عَلَيْهِ بَوْلُ خُفَّاشٍ فَنَضَحَهُ,

(1/180)


وَقَالَ مَا كُنْت أَرَى النَّضْحَ شَيْئًا حَتَّى بَلَغَنِي, عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَعَنْ وَكِيعٍ, عَنْ شُعْبَةَ قَالَ " سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ, عَنْ بَوْلِ الشَّاةِ, فَقَالَ اغْسِلْهُ. وَعَنْ حَمَّادٍ أَيْضًا فِي بَوْلِ الْبَعِيرِ مِثْلُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ " وَأَمَّا قَوْلُ زُفَرَ فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ, لِمَا نَذْكُرُهُ فِي إفْسَادِ قَوْلِ مَالِكٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّ تَعَلُّقَ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي حَرْبٍ الصَّفَّارُ, عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ, عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ, عَنْ مُطَرِّفٍ, عَنْ أَبِي الْجَهْمِ, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلاَ بَأْسَ بِبَوْلِهِ. قال علي: هذا خَبَرٌ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ ; لإِنَّ سَوَّارَ بْنَ مُصْعَبٍ مَتْرُوكٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ النَّقْلِ, مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ, يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ. فَإِذَا سَقَطَ هَذَا فَإِنَّ زُفَرَ قَاسَ بَعْضَ الأَبْوَالِ عَلَى بَعْضٍ, وَلَمْ يَقِسْ النَّجْوَ عَلَى الْبَوْلِ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَصْحَابُهُ عَلَيْنَا فِي تَفْرِيقِنَا بَيْنَ حُكْمِ الْبَائِلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَبَيْنَ الْمُتَغَوِّطِ فِيهِ, إلاَّ أَنَّنَا نَحْنُ قُلْنَاهُ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ زُفَرُ بِرَأْيِهِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَإِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ إلاَّ أَبْوَالُ الإِبِلِ فَقَطْ, وَاسْتِدْلاَلٌ عَلَى بَوْلِ الْغَنَمِ وَبَعْرِهَا فَقَطْ, فَأَدْخَلَ هُوَ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ أَبْوَالَ الْبَقَرِ وَأَخْثَاءَهَا وَأَبْعَارَ الإِبِلِ وَبَعْرَ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلُهُ.
فَإِنْ قَالُوا فَعَلْنَا ذَلِكَ قِيَاسًا لِمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عَلَى مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, قلنا لَهُمْ فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَى الإِبِلِ وَالْغَنَمِ كُلَّ ذِي أَرْبَعٍ ; لاَِنَّهَا ذَوَاتُ أَرْبَعٍ وَذَوَاتُ أَرْبَعٍ أَوْ كُلَّ حَيَوَانٍ, لاَِنَّهُ حَيَوَانٌ وَحَيَوَانٌ أَوْ هَلاَّ قِسْتُمْ كُلَّ مَا عَدَا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ عَلَى

(1/181)


بَوْلِ الإِنْسَانِ وَنَجْوِهِ الْمُحَرَّمَيْنِ فَهَذِهِ عِلَّةٌ أَعَمُّ مِنْ عِلَّتِكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَقُولُونَ بِالأَعَمِّ فِي الْعِلَلِ, فَإِنْ لَجَأْتُمْ هَهُنَا إلَى الْقَوْلِ بِالأَخَصِّ فِي الْعِلَلِ قلنا لَكُمْ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ مِنْ الأَنْعَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا عَلَى الإِبِلِ وَالْغَنَمِ, وَهِيَ مَا تَكُونُ أُضْحِيَّةً مِنْ الْبَقَرِ فَقَطْ, كَمَا الإِبِلُ وَالْغَنَمُ تَكُونُ أُضْحِيَّةً, أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الْبَقَرِ فَقَطْ, كَمَا يَكُونُ فِي الإِبِلِ وَالْغَنَمِ, أَوْ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ الْبَقَرِ خَاصَّةً, كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الإِبِلِ وَالْغَنَمِ, دُونَ أَنْ تَقِيسُوا عَلَى الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيْرِ فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ عِلَّتِكُمْ, فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ جُمْلَةً يَقِينًا.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا أَبْوَالَ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَأَنْجَاءَهَا عَلَى أَلْبَانِهَا. قلنا لَهُمْ: فَهَلاَّ قِسْتُمْ أَبْوَالَهَا عَلَى دِمَائِهَا فَأَوْجَبْتُمْ نَجَاسَةَ كُلِّ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَلَيْسَ لِلذُّكُورِ مِنْهَا, وَلاَ لِلطَّيْرِ أَلْبَانٌ فَتُقَاسُ أَبْوَالُهَا وَأَنْجَاؤُهَا عَلَيْهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بِإِفْسَادِ عِلَّتِكُمْ هَذِهِ وَإِبْطَالِ قِيَاسِكُمْ هَذَا, لِصِحَّةِ كُلِّ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ تُقَاسَ أَبْوَالُ النِّسَاءِ وَنَجْوُهُنَّ عَلَى أَلْبَانِهِنَّ فِي الطَّهَارَةِ وَالاِسْتِحْلاَلِ. وَهَذَا لاَ مَخْلَصَ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ. وَهَلاَّ قَاسُوا كُلَّ ذِي رِجْلَيْنِ مِنْ الطَّيْرِ فِي نَجْوِهِ عَلَى نَجْوِ الإِنْسَانِ فَهُوَ ذُو رِجْلَيْنِ فَكُلُّ هَذِهِ قِيَاسَاتٌ كَقِيَاسِكُمْ أَوْ أَظْهَرُ, وَهَذَا يَرَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ إبْطَالَ الْقِيَاسِ جُمْلَةً, وَصَحَّ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ, لأَنَّهُمْ لاَ شَيْئًا مِنْ النُّصُوصِ اتَّبَعُوا, وَلاَ شَيْئًا مِنْ الْقِيَاسِ ضَبَطُوا, وَلاَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ تَعَلَّقُوا, لاَ سِيَّمَا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ بَوْلِ مَا شَرِبَ مَاءً نَجِسًا فَقَالَ بِنَجَاسَةِ بَوْلِهِ, وَبَيْنَ بَوْلِ مَا شَرِبَ مَاءً طَاهِرًا فَقَالَ بِطَهَارَةِ بَوْلِهِ, وَهُوَ يَرَى لَحْمَ الدَّجَاجِ حَلاَلاً طَيِّبًا, هَذَا وَهُوَ يَرَاهُ مُتَوَلِّدًا, عَنِ الْمَيْتَاتِ وَالْعَذِرَةِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

(1/182)


138 - مَسْأَلَةٌ: وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالْقَرْنُ وَالسِّنُّ يُؤْخَذُ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَيَّ طَاهِرٌ وَبَعْضُ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ, وَالْحَيُّ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَبَعْضُ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ.

(1/182)


139 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْكَافِرِ نَجِسٌ وَمِنْ الْمُؤْمِنِ طَاهِرٌ,
وَالْقَيْحُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْقَلْسُ وَالْقَصَّةُ الْبَيْضَاءُ وَكُلُّ مَا قُطِعَ مِنْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَلَبَنُ الْمُؤْمِنَةِ, كُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَةِ نَجِسٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ" . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ قَبْلُ, وَبَعْضُ النَّجَسِ نَجَسٌ, وَبَعْضُ الطُّهْرِ طَاهِرٌ, لإِنَّ الْكُلَّ لَيْسَ هُوَ شَيْئًا غَيْرَ أَبْعَاضِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/183)


140 - مَسْأَلَةٌ: وَأَلْبَانُ الْجَلاَّلَةِ حَرَامٌ
وَهِيَ الإِبِلُ الَّتِي تَأْكُلُ الْجُلَّةَ وَهِيَ الْعَذِرَةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ كَذَلِكَ, فَإِنْ مُنِعَتْ مِنْ أَكْلِهَا حَتَّى سَقَطَ عَنْهَا اسْمُ جَلاَّلَةٍ, فَأَلْبَانُهَا حَلاَلٌ طَاهِرَةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلاَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ, حدثنا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَى, عَنْ لَبَنِ الْجَلاَّلَةِ" وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ, عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا" .

(1/183)


141 - مَسْأَلَةٌ: وَالْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ جَائِزٌ
وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ بِهِ لِلْجَنَابَةِ, وَسَوَاءٌ وُجِدَ مَاءٌ آخَرُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ, وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ بِعَيْنِهِ لِفَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ أَوْ اغْتَسَلَ بِهِ بِعَيْنِهِ لِجَنَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا, وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ بِهِ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَعَمَّ تَعَالَى كُلَّ مَاءٍ وَلَمْ يَخُصَّهُ, فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الْمَاءَ فِي وُضُوئِهِ وَغُسْلِهِ الْوَاجِبِ وَهُوَ يَجِدُهُ إلاَّ مَا مَنَعَهُ مِنْهُ نَصٌّ ثَابِتٌ أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" فَعَمَّ أَيْضًا عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ, فَلاَ يَحِلُّ تَخْصِيصُ مَاءٍ بِالْمَنْعِ لَمْ يَخُصُّهُ نَصٌّ آخَرُ أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا مُسَدَّدٌ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد وَهُوَ الْخُرَيْبِيُّ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ, عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بِرَأْسِهِ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ بِيَدِهِ" .
وَأَمَّا مِنْ الإِجْمَاعِ فَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ كُلَّ مُتَوَضِّئٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيَغْسِلُ بِهِ ذِرَاعَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إلَى مِرْفَقِهِ, وَهَكَذَا كُلُّ عُضْوٍ فِي الْوُضُوءِ وَفِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ, وَبِالضَّرُورَةِ وَالْحِسِّ يَدْرِي كُلُّ مُشَاهِدٍ لِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ قَدْ وُضِّئَتْ بِهِ الْكَفُّ وَغُسِلَتْ, ثُمَّ غُسِلَ بِهِ أَوَّلُ الذِّرَاعِ ثُمَّ آخِرُهُ, وَهَذَا مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ بِيَقِينٍ, ثُمَّ إنَّهُ يَرُدُّ يَدَهُ إلَى الإِنَاءِ وَهِيَ تَقْطُرُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي طَهَّرَ بِهِ الْعُضْوَ, فَيَأْخُذُ مَاءً آخَرَ لِلْعُضْوِ الآخَرِ, فَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّهُ لَمْ يُطَهِّرْ الْعُضْوَ الثَّانِي إلاَّ بِمَاءٍ جَدِيدٍ قَدْ مَازَجَهُ مَاءٌ آخَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَطْهِيرِ عُضْوٍ آخَرَ وَهَذَا مَا لاَ مَخْلَصَ مِنْهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ, وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُد وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.

(1/184)


وقال مالك: يَتَوَضَّأُ بِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ, وَلاَ يَتَيَمَّمُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَجُوزُ الْغُسْلُ, وَلاَ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ قَدْ تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ اغْتَسَلَ بِهِ, وَيُكْرَهُ شُرْبُهُ,
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ, وَالأَظْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ, وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ نَصَّا, وَأَنَّهُ لاَ يَنْجَسُ الثَّوْبُ إذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَاحِشًا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ الثَّوْبَ مِنْهُ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ فَقَدْ نَجَّسَهُ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يُنَجِّسْهُ.
وقال أبو حنيفة وَأَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ رَجُلٌ طَاهِرٌ قَدْ تَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ أَوْ لَمْ يَتَوَضَّأْ لَهَا فَتَوَضَّأَ فِي بِئْرٍ فَقَدْ تَنَجَّسَ مَاؤُهَا كُلُّهُ وَتُنْزَحُ كُلُّهَا, وَلاَ يَجْزِيه ذَلِكَ الْوُضُوءُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ, فَإِنْ اغْتَسَلَ فِيهَا أَرْضًا أَنْجَسَهَا كُلَّهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ اغْتَسَلَ وَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ جُنُبٍ فِي سَبْعَةِ آبَارٍ نَجَّسَهَا كُلَّهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُنَجِّسُهَا كُلَّهَا وَلَوْ أَنَّهَا عِشْرُونَ بِئْرًا, وَقَالاَ جَمِيعًا: لاَ يَجْزِيه ذَلِكَ الْغُسْلُ, فَإِنْ طَهَّرَ فِيهَا يَدَهُ أَوْ رِجْلَهُ فَقَدْ تَنَجَّسَتْ كُلُّهَا, فَإِنْ كَانَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ جَبَائِرُ أَوْ عَلَى أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ جَبَائِرُ فَغَمَسَهَا فِي الْبِئْرِ يَنْوِي بِذَلِكَ الْمَسْحَ عَلَيْهَا لَمْ يُجِزْهُ وَتَنَجَّسَ مَاؤُهَا كُلُّهُ, فَلَوْ كَانَ عَلَى أَصَابِعِ يَدِهِ جَبَائِرُ فَغَمَسَهَا فِي الْبِئْرِ يَنْوِي بِذَلِكَ الْمَسْحَ عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ وَلَمْ يُنَجِّسْ مَاؤُهَا الْيَدَ بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَعْضَاءِ, فَلَوْ انْغَمَسَ فِيهَا وَلَمْ يَنْوِ غُسْلاً, وَلاَ وُضُوءًا, وَلاَ تَدَلَّكَ فِيهَا لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ حَتَّى يَنْوِيَ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَطْهُرُ بِذَلِكَ الاِنْغِمَاسُ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَطْهُرُ بِهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنْ غَمَسَ رَأْسه يَنْوِي الْمَسْحَ عَلَيْهِ لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ, وَإِنَّمَا يُنَجِّسُهُ نِيَّةُ تَطْهِيرِ عُضْوٍ يَلْزَمُ فِيهِ الْغُسْلُ, قَالَ فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَ يَدِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ لَمْ يُنَجِّسْ الْمَاءَ حَتَّى يَغْسِلَ الْعُضْوَ بِكَمَالِهِ, فَلَوْ غَمَسَ رَأْسَهُ أَوْ خُفَّهُ يَنْوِي بِذَلِكَ الْمَسْحَ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يُفْسِدْ الْمَاءَ, وَإِنَّمَا يُفْسِدُهُ نِيَّةُ الْغُسْلِ لاَ نِيَّةُ الْمَسْحِ. وَهَذِهِ أَقُولُ هِيَ إلَى الْهَوَسِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى مَا يُعْقَلُ.

(1/185)


وقال الشافعي: لاَ يُجْزِئُ الْوُضُوءُ, وَلاَ الْغُسْلُ بِمَاءٍ قَدْ اغْتَسَلَ بِهِ أَوْ تَوَضَّأَ بِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ, وَأَصْفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ لِيَتَوَضَّأَ فَأَخَذَ الْمَاءَ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَقَدْ حَرُمَ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ الْمَاءِ ; لاَِنَّهُ قَدْ صَارَ مَاء مُسْتَعْمَلاً, وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى يَدِهِ, فَإِذَا وَضَّأَهَا أَدْخَلَهَا حِينَئِذٍ فِي الإِنَاءِ.
قال أبو محمد: “ وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَهْيِهِ الْجُنُبَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ.
قال أبو محمد: “ وَقَالُوا: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنْ ذَلِكَ, لإِنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً, وَقَالَ بَعْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ: بَلْ مَا نَهَى, عَنْ ذَلِكَ عليه السلام إلاَّ خَوْفَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إحْلِيلِهِ شَيْءٌ يُنَجِّسُ الْمَاءَ.
قال أبو محمد: “ وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهِ, وَمِنْ أَنْ نُقَوِّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْ, وَأَنْ نُخْبِرَ عَنْهُ مَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ, عَنْ نَفْسِهِ, وَلاَ فَعَلَهُ, فَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ, فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ, وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" , وَلاَ بُدَّ لِمَنْ قَالَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ مِنْ إحْدَى هَاتَيْنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ لِلْمُتَوَضِّئِ, وَلاَ لِلْمُغْتَسَلِ أَنْ يُرَدِّدَ ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَائِهِ, بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ, وَبِذَلِكَ جَاءَ عَمَلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا بَاطِلٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ, عَنْ تَرْدِيدِ الْمَاءِ عَلَى الأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ, وَلاَ نَهَى عَنْهُ عليه السلام قَطَّ.
وَيُقَالُ لِلْحَنَفِيِّينَ: قَدْ أَجَزْتُمْ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ

(1/186)


نَكَّسَ وُضُوءُهُ, وَلاَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ, فَأَخْذُهُ عليه السلام مَاءً جَدِيدًا لِكُلِّ عُضْوٍ إنَّمَا هُوَ فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام, وَأَفْعَالُهُ عليه السلام لاَ تُلْزَمُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ مَسَحُ رَأْسِهِ الْمُقَدَّسِ بِفَضْلِ مَاءٍ مُسْتَعْمَلٍ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ يُؤْخَذُ لِلرَّأْسِ مَاءٌ جَدِيدٌ. قلنا: إنَّمَا رَوَاهُ دَهْثَمُ بْنُ قِرَانٍ وَهُوَ سَاقِطُ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ, عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَكَيْف وَقَدْ أَبَاحَ عليه السلام غُسْلَ الْجَنَابَةِ بِغَيْرِ تَجْدِيدِ مَاءٍ. كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ, وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كُلُّهُمْ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى, عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ, عَنْ

(1/187)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ, عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ: "إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ" .
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ, حدثنا مَعْمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَامٍ حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لِي جَابِرٌ: "سَأَلَنِي ابْنُ عَمِّكَ فَقَالَ: كَيْفَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقُلْت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ ثَلاَثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ" .
قال أبو محمد: “ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَنَجُّسِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لَمَا صَحَّ طُهْرٌ, وَلاَ وُضُوءٌ, وَلاَ صَلاَةٌ لاَِحَدٍ أَبَدًا, لإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُفِيضُهُ الْمُغْتَسِلُ عَلَى جَسَدِهِ يُطَهِّرُ مَنْكِبَيْهِ وَصَدْرَهُ, ثُمَّ يَنْحَدِرُ إلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ, فَكَانَ يَكُونُ كُلُّ أَحَدٍ مُغْتَسِلاً بِمَاءٍ نَجِسٍ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا, وَهَكَذَا فِي غَسْلِهِ ذِرَاعَهُ وَوَجْهَهُ وَرِجْلَهُ فِي الْوُضُوءِ, لاَِنَّهُ لاَ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ إلاَّ بِالْمَاءِ الَّذِي غَسَلَ بِهِ كَفَّهُ, وَلاَ يَغْسِلُ أَسْفَلَ وَجْهِهِ إلاَّ بِالْمَاءِ الَّذِي قَدْ غَسَلَ بِهِ أَعْلاَهُ وَكَذَلِكَ رِجْلُهُ.
وقال بعضهم: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ مِنْ عَرَقِ الْجِسْمِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ شَيْءٌ فَهُوَ مَاءٌ مُضَافٌ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا غَثٌّ جِدًّا, وَحَتَّى لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا فَكَانَ مَاذَا وَمَتَى حَرُمَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِمَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ طَاهِرٌ لاَ يَظْهَرُ لَهُ فِي الْمَاءِ رَسْمٌ فَكَيْفَ وَهُمْ يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِمَاءٍ قَدْ تَبَرَّدَ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَهَذَا أَكْثَرُ فِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْعَرَقُ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.

(1/188)


وقال بعضهم: قَدْ جَاءَ أَثَرٌ بِأَنَّ الْخَطَايَا تَخْرُجُ مَعَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
قلنا: نَعَمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَكَانَ مَاذَا وَإِنَّ هَذَا لَمِمَّا يَغِيطُ بِاسْتِعْمَالِهِ مِرَارًا إنْ أَمْكَنَ لِفَضْلِهِ, وَمَا عَلِمْنَا لِلْخَطَايَا أَجْرَامًا تَحِلُّ فِي الْمَاءِ.
وقال بعضهم: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ كَحَصَى الْجِمَارِ الَّذِي رَمَى بِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ ثَانِيَةً.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا بَاطِلٌ, بَلْ حَصَى الْجِمَارِ إذَا رَمَى بِهَا فَجَائِزٌ أَخْذُهَا وَالرَّمْيُ بِهَا ثَانِيَةٌ, وَمَا نَدْرِي شَيْئًا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ التُّرَابُ الَّذِي تَيَمَّمَ بِهِ فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ وَالثَّوْبُ الَّذِي سُتِرَتْ بِهِ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلاَةِ جَائِزٌ أَنْ تُسْتَرَ بِهِ أَيْضًا الْعَوْرَةُ فِي صَلاَةٍ أُخْرَى, فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ قِيَاسٍ فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ.
وقال بعضهم: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي طُبِخَ فِيهِ فُولٌ أَوْ حِمَّصٌ.
قال علي: وهذا هَوَسٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ, وَمَا نَدْرِي شَيْئًا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ بِمَاءٍ طُبِخَ فِيهِ فُولٌ أَوْ حِمَّصٌ أَوْ تُرْمُسٌ أَوْ لُوبْيَا, مَا دَامَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ. وقال بعضهم: لَمَّا لَمْ يُطْلَقْ عَلَى الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْمُ الْمَاءِ مُفْرَدًا دُونَ أَنْ يُتْبَعَ بِاسْمٍ آخَرَ وَجَبَ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
قال أبو محمد: “ وَهَذِهِ حَمَاقَةٌ, بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ فَقَطْ, ثُمَّ لاَ فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فَيُوصَفُ بِذَلِكَ, وَبَيْنَ قَوْلِنَا مَاءٌ مُطْلَقٌ فَيُوصَفُ بِذَلِكَ, وَقَوْلِنَا مَاءٌ مِلْحٌ أَوْ مَاءٌ عَذْبٌ, أَوْ مَاءٌ مُرٌّ, أَوْ مَاءٌ سُخْنٌ أَوْ مَاءُ مَطَرٍ, وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ وَالْغُسْلِ.
وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ وَالْمُغْتَسَلِ بِهِ لَبَطَلَ أَكْثَرُ الدِّينِ ; لاَِنَّهُ كَانَ الإِنْسَانُ إذَا اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ لَبِسَ ثَوْبَهُ لاَ يُصَلِّي إلاَّ بِثَوْبٍ نَجِسٍ كُلِّهِ, وَلَلَزِمَهُ أَنْ يُطَهِّرَ أَعْضَاءَهُ مِنْهُ بِمَاءٍ آخَرَ.
وقال بعضهم: لاَ يَنْجَسُ إلاَّ إذَا فَارَقَ الأَعْضَاءَ.
قال أبو محمد: “ وَهَذِهِ جُرْأَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ فِي الدِّينِ بِالدَّعْوَى, وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ تَنَجَّسَ عِنْدَكُمْ إلاَّ بِالاِسْتِعْمَالِ فَلاَ بُدَّ مِنْ نَعَمْ, فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ لاَ يَنْجَسَ فِي الْحَالِ

(1/189)


الْمُنَجَّسَةِ لَهُ ثُمَّ يَنْجَسَ بَعْدَ ذَلِكَ, وَلاَ جُرْأَةَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَاءٌ طَاهِرٌ تُؤَدَّى بِهِ الْفَرَائِضُ, فَإِذَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ فِي أَفْضَلِ الأَعْمَالِ مِنْ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ تَنَجَّسَ أَوْ حَرُمَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ, وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذَا التَّخْلِيطُ.
وقال بعضهم: قَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا اغْتَسَلَ فِي الْحَوْضِ أَفْسَدَ مَاءَهُ, وَهَذَا لاَ يَصِحُّ, بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ, وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّونَ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, عَنْ إبْرَاهِيمَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلاَ نَعْلَمُ مَنْ هُوَ قَبْلَ حَمَّادٍ, وَلاَ نَعْرِفُ لاِِبْرَاهِيمَ سَمَاعًا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالصَّحِيحُ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفُ هَذَا.
قال أبو محمد: “ وَقَدْ ذَكَرْنَا, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَبْلُ خِلاَفَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: أَرْبَعٌ لاَ تَنْجَسُ الْمَاءُ وَالأَرْضُ وَالإِنْسَانُ, وَذَكَرَ رَابِعًا.
وَذَكَرُوا, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَحْرِيمِهِ الصَّدَقَةَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ "إنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ" . وَعَنْ عُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ أَصْلاً, لإِنَّ اللاَّزِمَ لَهُمْ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ لاَ يُحَرَّمَ ذَلِكَ إلاَّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً, فَإِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ, وَلاَ مَنَعَهُ أَحَدًا غَيْرَهُمْ, بَلْ أَبَاحَهُ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ فَإِنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ لأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ فِي أَصْلِ أَقْوَالِهِمْ شُرْبَ ذَلِكَ الْمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ غَيْرُ وُضُوئِهِمْ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ عَجَبَ أَكْثَرُ مِنْ إبَاحَتِهِمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَفِيهَا جَاءَ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا طَاهِرَةٌ, وَتَحْرِيمُهُمْ الْمَاءَ الَّذِي قَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الأَثَرَيْنِ نَهْيٌ عَنْهُ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ, عَنْ مَوَاضِعِهِ.
وَنَسْأَلُ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ عَمَّنْ وَضَّأَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ فَقَطْ يَنْوِي بِهِ الْوُضُوءَ فِي مَاءٍ دَائِمٍ أَوْ غَسَلَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ جُنُبٌ, أَوْ بَعْضَ عُضْوٍ أَوْ بَعْضَ أُصْبُعٍ أَوْ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَوْ مَسَحَ شَعْرَةً مِنْ رَأْسِهِ أَوْ خُفِّهِ أَوْ بَعْضَ خُفِّهِ: حَتَّى نَعْرِفَ أَقْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ صَحَّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَسَقَى إنْسَانًا ذَلِكَ الْوَضُوءَ", وَأَنَّهُ عليه السلام " تَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَنَّهُ عليه السلام كَانَ إذَا تَوَضَّأَ تَمَسَّحَ النَّاسُ بِوَضُوئِهِ", فَقَالُوا بِآرَائِهِمْ الْمَلْعُونَةِ: إنَّ الْمُسْلِمَ الطَّاهِرَ النَّظِيفَ إذَا تَوَضَّأَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ ثُمَّ صَبَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي بِئْرٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ لَوْ صُبَّ فِيهَا فَأْرٌ مَيِّتٌ أَوْ نَجِسٌ, وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.

(1/190)


وونيم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش إن كان لايمكن التحفظ منه
...
142 - مَسْأَلَةٌ: وَوَنِيمُ الذُّبَابِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالنَّحْلِ وَبَوْلُ الْخُفَّاشِ إنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنْهُ
وَكَانَ فِي غَسْلِهِ حَرَجٌ أَوْ عُسْرٌ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ غَسْلِهِ إلاَّ مَا لاَ حَرَجَ فِيهِ, وَلاَ عُسْرَ.
قال أبو محمد: “ قَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَوْلَهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ, وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} . فَالْحَرَجُ وَالْعُسْرُ مَرْفُوعَانِ عَنَّا, وَمَا كَانَ لاَ حَرَجَ فِي غَسْلِهِ, وَلاَ عُسْرَ فَهُوَ لاَزِمٌ غَسْلُهُ, لاَِنَّهُ بَوْلٌ وَرَجِيعٌ. وبالله تعالى التوفيق.

(1/191)


والقيئ من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه
...
143 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقَيْءُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ حَرَامٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِه"ِ وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ الْعَوْدَةِ فِي الْهِبَةِ.

(1/191)


والخمر والميسر والأنصاب والآزلام رجس حرام واحب اجتنابه
...
144 - مَسْأَلَةٌ: وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ
فَمَنْ صَلَّى حَامِلاً شَيْئًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} فَمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ فَلَمْ يُصَلِّ.

(1/191)


ونبيذ البسر والتمر والزهو والرطب والزبيب إلخ
...
145 - مَسْأَلَةٌ: وَنَبِيذُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ
إذَا جُمِعَ نَبِيذُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ إلَى نَبِيذِ غَيْرِهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ, حدثنا أَبَانُ, هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ, حدثنا يَحْيَى, هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ نَهَى, عَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ, وَعَنْ خَلِيطِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ, وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ, وَقَالَ: انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ" وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَلِيطَانِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ حَلاَلٌ مَا لَمْ يُسْكِرْ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ إلاَّ عَمَّا ذَكَرْنَا.

(1/193)


146 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ لاَ فِي بُنْيَانٍ, وَلاَ فِي صَحْرَاءَ, وَلاَ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَقَطْ كَذَلِكَ فِي حَالِ الاِسْتِنْجَاءِ.حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قُلْت لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَذْكُرُ, عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ, عَنْ أَبِي أَيُّوبَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ, وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَوْلٍ, وَلاَ غَائِطٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" قَالَ سُفْيَانُ نَعَمْ.
وَقَدْ رَوَى أَيْضًا النَّهْيَ, عَنْ ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ حَدِيثَ سَلْمَانَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلاَّ يَسْتَنْجِيَ أَحَدٌ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ, فِي بَابِ الاِسْتِنْجَاءِ.
وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوتِ نَصَّا عَنْهُ, وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ أَلاَّ تَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِذَلِكَ, وَعَنِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, رضي الله عنهم, جُمْلَةً, وَعَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَبِقَوْلِنَا فِي ذَلِكَ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ اسْتِقْبَالِهَا لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ, وَكُلُّ هَؤُلاَءِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَارِي وَالْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ, وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَتَانِ بِالْفُرُوجِ, وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
قال أبو محمد: “ لاَ نَرَى ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ, لإِنَّ النَّهْيَ, عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ, وَرُوِّينَا ذَلِكَ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَرُوِّينَا, عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ, عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى, عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ, عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا نُهِيَ, عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ, وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلاَ بَأْسَ, وَرُوِّينَا أَيْضًا هَذَا, عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
فأما مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ جُمْلَةً فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ:

(1/194)


"رَقَيْتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا لِحَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ" وَفِي بَعْضِهَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبُولُ حِيَالَ الْقِبْلَةِ وَفِي بَعْضِهَا: "اطَّلَعْتُ يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ يَقْضِي حَاجَتَهُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِلَبِنٍ فَرَأَيْتُهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ" . وَبِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا" وَبِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ عِنْدَهُ أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ" .
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ, فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ النَّهْيِ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِيهِ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم, عَنْ ذَلِكَ, هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, فَإِذًا لاَ شَكَّ فِي

(1/195)


ذَلِكَ فَحُكْمُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَنْسُوخٌ قَطْعًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, عَنْ ذَلِكَ, هَذَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَرَّمِ تَرْكُ الْيَقِينِ بِالظُّنُونِ, وَأَخْذُ الْمُتَيَقَّنِ نَسْخُهُ وَتَرْكُ الْمُتَيَقَّنِ أَنَّهُ نَاسِخٌ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِحُكْمٍ مَنْسُوخٍ فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ النَّاسِخَ مَنْسُوخًا وَالْمَنْسُوخَ نَاسِخًا, وَلاَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ تِبْيَانًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ, إذْ لَوْ كَانَ هَذَا لَكَانَ الدِّينُ مُشْكِلاً غَيْرَ بَيِّنٍ, نَاقِصًا غَيْرَ كَامِلٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} .
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ذِكْرُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَقَطْ, فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ نَاسِخٌ لَمَا كَانَ فِيهِ نَسْخُ تَحْرِيمِ اسْتِدْبَارِهَا, وَلَكَانَ مَنْ أَقْحَمَ فِي ذَلِكَ إبَاحَةَ اسْتِدْبَارِهَا كَاذِبًا مُبْطِلاً لِشَرِيعَةٍ ثَابِتَةٍ, وَهَذَا حَرَامٌ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَهُوَ سَاقِطٌ ; لاَِنَّهُ رِوَايَةُ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ وَهُوَ ثِقَةٌ, عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ, وَأَخْطَأَ فِيهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَرَوَاه

(1/196)


عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ, عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ, وَهَذَا أَبْطَلُ وَأَبْطَلُ ; لإِنَّ خَالِدًا الْحَذَّاءَ لَمْ يُدْرِكْ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ نَصَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ ; لإِنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَاهُمْ عَنْ

(1/197)


اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ ثُمَّ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ فِي ذَلِكَ, هَذَا مَا لاَ يَظُنُّهُ مُسْلِمٌ, وَلاَ ذُو عَقْلٍ, وَفِي هَذَا الْخَبَرِ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ, فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِلاَ شَكٍّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ إلاَّ إبَاحَةُ الاِسْتِقْبَالِ فَقَطْ, لاَ إبَاحَةُ الاِسْتِدْبَارِ أَصْلاً, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ جُمْلَةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَإِنَّهُ رِوَايَةُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ, وَأَيْضًا

(1/198)


فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ الْقِبْلَةَ عليه السلام كَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَالَ جَابِرٌ, ثُمَّ رَأَيْته, وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ إلاَّ النَّسْخُ لِلاِسْتِقْبَالِ فَقَطْ, وَأَمَّا الاِسْتِدْبَارُ فَلاَ أَصْلاً, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُزَادَ فِي الأَخْبَارِ مَا لَيْسَ فِيهَا, فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَاذِبًا, وَلَيْسَ إذَا نَهَى, عَنْ شَيْئَيْنِ ثُمَّ نُسِخَ أَحَدُهُمَا وَجَبَ نَسْخُ الآخَرِ, فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ, وَسَقَطَ قَوْلُهُمْ لِتَعَرِّيه, عَنِ الْبُرْهَانِ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّحَارِي وَالْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ فَقَوْلٌ لاَ يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلاً, إذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الآثَارِ فَرْقٌ بَيْنَ صَحْرَاءَ وَبُنْيَانٍ, فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ ظَنٌّ, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ, وَلاَ يُغْنِي, عَنِ الْحَقِّ شَيْئًا, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الصَّحَارِي دُونَ الْبُنْيَانِ, وَبَيْنَ آخَرَ قَالَ بَلْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ خَاصَّةً, وَبَيْنَ آخَرَ قَالَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ خَاصَّةً, وَكُلُّ هَذَا تَخْلِيطٌ لاَ وَجْهَ لَهُ.
وقال بعضهم: إنَّمَا كَانَ فِي الصَّحَارِي, لإِنَّ هُنَالِكَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فَيُؤْذَوْنَ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ هَذَا بَاطِلٌ ; لإِنَّ وُقُوعَ الْغَائِطِ كَيْفَمَا وَقَعَ فِي الصَّحْرَاءِ فَمَوْضِعُهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ قِبْلَةً لِجِهَةٍ مَا, وَغَيْرَ قِبْلَةٍ لِجِهَةٍ أُخْرَى, فَخَرَجَ قَوْلُ مَالِكٍ, عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُنَّةٍ أَوْ بِدَلِيلٍ أَصْلاً, وَهُوَ قَوْلٌ خَالَفَ جَمِيعَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, إلاَّ رِوَايَةً, عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُهَا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/199)


وكل ماخالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه
...
147 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ مُبَاحٌ فَظَهَرَ فِيهِ لَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ
إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ, فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ وَالْغُسْلُ بِهِ لِلْجَنَابَةِ جَائِزٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَهَذَا مَاءٌ, سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا أَوْ عَسَلاً أَوْ زَعْفَرَانًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا قَالَتْ: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ, فَوَجَدْتُهُ قَدْ اغْتَسَلَ بِمَاءٍ كَانَ فِي صَحْفَةٍ, إنِّي لاََرَى فِيهَا أَثَرَ الْعَجِينِ, فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي الضُّحَى" .
وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ ابْنِ طَاوُوس, عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ, عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: "نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَأَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فِي جَفْنَةٍ إنِّي لاََرَى أَثَرَ الْعَجِينِ فِيهَا, فَسَتَرَهُ أَبُو ذَرٍّ فَاغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَتَرَ عليه السلام أَبَا ذَرٍّ فَاغْتَسَلَ, ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَذَلِكَ فِي الضُّحَى" .
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا أَبُو عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ الْعُكْلِيِّ, عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ, عَنْ مُجَاهِدٍ, عَنْ أُمِّ هَانِئٍ: "أَنَّ مَيْمُونَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلاَ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ" .
قال علي: وهذا قَوْلُ ثَابِتٍ, عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إذَا غَسَلَ الْجُنُبُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ أَجْزَأَهُ, وَكَذَلِكَ نَصًّا, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا هَذَا, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَثَبَتَ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَعَنْ صَوَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ وَالتَّابِعَاتِ مِنْهُنَّ: أَنَّ الْمَرْأَةَ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ إذَا امْتَشَطَتْ بِحِنَّاءٍ رَقِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهَا مِنْ غَسْلِ رَأْسِهَا لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ, وَلاَ تُعِيدُ غَسْلَهُ, وَثَبَتَ, عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْجُنُبِ: يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِالسِّدْر

(1/200)


وَالْخِطْمِيِّ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ مِنْ غَسْلِ رَأْسِهِ لِلْجَنَابَةِ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُد.
وَرُوِيَ, عَنْ مَالِكٍ نَحْوُ هَذَا أَيْضًا. وَرَوَى سَحْنُونٌ, عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَأَلَ مَالِكًا, عَنِ الْغَدِيرِ تَرِدُهُ الْمَوَاشِي فَتَبُولُ فِيهِ وَتُبْعِرُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ وَرِيحُهُ: أَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ لِلصَّلاَةِ قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُهُ, وَلاَ أُحَرِّمُهُ, كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنْ الْحَلاَلِ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِخِلاَفِ هَذَا, وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَاءِ يُبَلُّ فِيهِ الْخُبْزُ أَوْ يَقَعُ فِيهِ الدُّهُنُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ يُنْقَعُ فِيهِ الْجِلْدُ, وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ الْقَوْلِ, لاَِنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, بَلْ خَالَفُوا فِيهِ ثَلاَثَةً مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَخَالَفُوا فِيهِ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرْنَا, وَمَا نَعْلَمُهُمْ احْتَجُّوا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ مَاءٌ مُطْلَقًا.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا خَطَأٌ, بَلْ هُوَ مَاءٌ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الَّذِي فِيهِ وَبَيْنَ حَجَرٍ يَكُونُ فِيهِ, وَهُمْ يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الَّذِي تَغَيَّرَ مِنْ طِينِ مَوْضِعِهِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ.

(1/201)


وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا حُكْمَ الْمَاءِ لِلْمَاءِ الَّذِي مَازَجَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ لَمْ يُزِلْ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ, وَجَعَلُوا لِلْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ بِالنُّحَاسِ خَلْطًا يُغَيِّرُهَا حُكْمَ الْفِضَّةِ الْمُحْصَنَةِ, وَكَذَلِكَ فِي الذَّهَبِ الْمَمْزُوجِ فَجَعَلُوهُ كَالذَّهَبِ الصِّرْفِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّرْفِ, وَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ وَعَكْسُ الْحَقَائِقِ, لأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الصُّفْرِ الْمُمَازِجِ لِلْفِضَّةِ, وَهَذَا بَاطِلٌ وَأَبَاحُوا صَرْفَ فِضَّةٍ وَصُفْرٍ بِمِثْلِ وَزْنِ الْجَمِيعِ مِنْ فِضَّةٍ مَحْضَةٍ, وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ وَأَمَّا الْوُضُوءُ بِمَاءٍ قَدْ مَازَجَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ وَيَغْتَسِلُ بِالْمَاءِ, وَلاَ يَضُرُّهُ مُرُورُ شَيْءٍ طَاهِرٍ عَلَى أَعْضَائِهِ مَعَ الْمَاءِ.
وقال بعضهم: هُوَ كَمَاءِ الْوَرْدِ. قال أبو محمد: “ وَهَذَا بَاطِلٌ, لإِنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَيْسَ مَاءً أَصْلاً, وَهَذَا مَاءٌ وَشَيْءٌ آخَرُ مَعَهُ فَقَطْ.

(1/202)


148 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ جُمْلَةً, كَالنَّبِيذِ وَغَيْرِهِ, لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ, وَلاَ الْغُسْلُ
وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ التَّيَمُّمُ, وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا, وُجِدَ مَاءٌ آخَرُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" .
وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْمَاءِ لاَ يَقَعُ عَلَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمَاءِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَاءِ الَّتِي مِنْهَا يُؤْخَذُ حَدُّهُ, صَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ مَاءً, وَلاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ, وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَدَاوُد وَغَيْرِهِمْ, وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَرُوِيَ, عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيذَ وَضُوءٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَاءُ, وَلاَ يَتَيَمَّمُ مَعَ وُجُودِهِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ يَتَيَمَّمُ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ مَا دَامَ يُوجَدُ نَبِيذٌ غَيْرُ مُسْكِرٍ, فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا فَلاَ يَتَوَضَّأُ بِهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ صَاحِبُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ: نَبِيذُ التَّمْرِ خَاصَّةً يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ الْمُفْتَرَضُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ, وُجِدَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ, وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَبِيذِ التَّمْرِ, وُجِدَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ.

(1/202)


وقال أبو حنيفة فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ: إنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ خَاصَّةً إذَا لَمْ يُسْكِرْ فَإِنَّهُ يُتَوَضَّأُ بِهِ وَيُغْتَسَلُ فِيمَا كَانَ خَارِجَ الأَمْصَارِ وَالْقُرَى خَاصَّةً عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ, فَإِنْ أَسْكَرَ, فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ كَذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ نِيئًا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ أَصْلاً فِي ذَلِكَ, وَلاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لاَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ, وَلاَ فِي الأَمْصَارِ, وَلاَ فِي الْقُرَى أَصْلاً وَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ, وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ الأَنْبِذَةِ غَيْرَ نَبِيذِ التَّمْرِ لاَ فِي الْقُرَى, وَلاَ فِي غَيْرِ الْقُرَى, وَلاَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ, وَالرِّوَايَةُ الآُخْرَى عَنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِذَةِ يُتَوَضَّأُ بِهَا وَيُغْتَسَلُ, كَمَا قَالَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ سَوَاءً سَوَاءً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يُتَوَضَّأُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَيُتَيَمَّمُ مَعًا.
قال أبو محمد: “ أَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ: مَعَكَ مَاءٌ قَالَ لَيْسَ مَعِي مَاءٌ, وَلَكِنْ مَعِي إدَاوَةً فِيهَا نَبِيذٌ, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ, فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ" وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِه:ِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِنَبِيذٍ وَقَالَ: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ" .
وقال بعضهم: إنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, رَكِبُوا الْبَحْرَ فَلَمْ يَجِدُوا إلاَّ مَاءَ الْبَحْرِ وَنَبِيذًا, فَتَوَضَّئُوا بِالنَّبِيذِ وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا بِمَاءِ الْبَحْرِ. وَذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْسَرَةَ, عَنْ مَزِيدَةَ بْنِ جَابِرٍ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ فَلْتَتَوَضَّأْ بِالنَّبِيذِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنِ خَازِمٍ الضَّرِيرُ, حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ, عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ, عَنِ الْحَارِثِ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: لاَ بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ.
قَالُوا: وَلاَ مُخَالِفَ لِمَنْ ذَكَرْنَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مُخَالِفِينَا.

(1/203)


وَقَالُوا: النَّبِيذُ مَاءٌ بِلاَ شَكٍّ خَالَطَهُ غَيْرُهُ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ.
قال أبو محمد: “ هَذَا كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْغَبُوا بِهِ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فَلَمْ يَصِحَّ ; لإِنَّ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ مَنْ لاَ يُعْرَفُ أَوْ مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ, وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ كَلاَمًا مُسْتَقْصًى فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَمْ تَنْزِلْ آيَةُ الْوُضُوءِ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ أَثَرٌ بِأَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ فَرْضًا بِمَكَّةَ, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ كَلاَ وُضُوءٍ, فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهِ لَوْ صَحَّ.
وَأَمَّا الَّذِي رَوَوْهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ ; لإِنَّ الأَوْزَاعِيَّ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ كُلَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا رُوِيَ, عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ, مُجِيزُونَ لِلْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ, وَلاَ يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ, مَا دَامَ يُوجَدُ مَاءُ الْبَحْرِ, وَكُلُّهُمْ حَاشَا حُمَيْدًا صَاحِبَ الْحَسَنِ بْنُ حَيٍّ لاَ يُجِيزُ الْوُضُوءَ أَلْبَتَّةَ بِالنَّبِيذِ مَا دَامَ يُوجَدُ مَاءُ الْبَحْرِ, وَحُمَيْدٌ صَاحِبُ الْحَسَنِ يُجِيزُ الْوُضُوءَ بِمَاءِ الْبَحْرِ مَعَ وُجُودِ النَّبِيذِ, فَكُلُّهُمْ مُخَالِفٌ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فِي ذَلِكَ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَرَى الْمَرْءُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ مَا لاَ يَرَاهُ حُجَّةً عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الأَثَرُ, عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَيْضًا فَإِنَّ حُمَيْدًا صَاحِبَ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ يُخَالِفُ الرِّوَايَةَ, عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ, لاَِنَّهُ يَرَى الْوُضُوءَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ, وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ عَلِيٍّ, وَيَرَى أَنَّ سَائِرَ الأَنْبِذَةِ لاَ يَحِلُّ بِهَا الْوُضُوءُ أَصْلاً, وَهَذَا خِلاَفُ الرِّوَايَةِ, عَنْ عَلِيٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ فِي النَّبِيذِ مَاءً خَالَطَهُ غَيْرُهُ, فَهُوَ لاَزِمٌ لَهُمْ فِي لَبَنٍ مُزِجَ بِمَاءٍ, وَفِي الْحِبْرِ ; لاَِنَّهُ مَاءٌ مَعَ عَفْصٍ وَزَاجٍ, وَفِي الأَمْرَاقِ ; لاَِنَّهَا مَاءٌ وَزَيْتٌ وَخَلٌّ, أَوْ مَاءٌ

(1/204)


وَزَيْتٌ وَمَرِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ فِي كُلِّ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَبْعَدُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا حُجَّةٌ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ حِينَ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ خَارِجَ مَكَّةَ, فَمِنْ أَيْنَ لَهُ بِتَخْصِيصِ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ خَارِجَ الأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ, لاَ سِيَّمَا وَهُوَ لاَ يَرَى التَّيَمُّمَ فِيمَا يَقْرَبُ مِنْ الْقَرْيَةِ, وَلاَ قَصْرَ الصَّلاَةِ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَحَدَ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا فَصَاعِدًا, وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى دَلِيلٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ وَدَلِيلُهُ فِي ذَلِكَ جَارٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي الَّذِي قَاسَ فِيهِ جَمِيعَ الأَنْبِذَةِ عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ, فَهَلاَّ قَاسَ أَيْضًا دَاخِلَ الْقَرْيَةِ عَلَى خَارِجِهَا وَمَا الْمُجِيزُ لَهُ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وَالْمَانِعُ لَهُ مِنْ الآخَرِ لاَ سِيَّمَا مَعَ مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ: "تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُور"ٌ فَإِذْ هُوَ مَاءٌ طَهُورٌ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ, وَكِلاَهُمَا مَاءٌ طَهُورٌ وَهَذَا مَا لاَ انْفِكَاكَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ لاَ يُجِيزُهُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فَلْيُجِزْهُ لِلْمَرِيضِ فِي الْحَضَرِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ.
وَأَمَّا فِعْلُ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, وَقَوْلُ عَلِيٍّ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ, لاَِنَّهُ لاَ يُجِيزُ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ مَعَ وُجُودِ مَاءِ الْبَحْرِ, وَلاَ يُجِيزُ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ وَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْقُرَى, وَلَيْسَ هَذَا فِي قَوْلِ عَلِيٍّ, وَلَمْ يَخُصَّ عَلِيٌّ نَبِيذَ تَمْرٍ مِنْ غَيْرِهِ, وَأَبُو حَنِيفَةَ يَخُصُّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ, وَلاَ أَمْقُتُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِمَّنْ يُنْكِرُ عَلَى مُخَالِفِهِ تَرْكَ قَوْلٍ هُوَ أَوَّلُ تَارِكٍ لَهُ, وَلاَ سِيَّمَا وَمُخَالِفُهُ لاَ يَرَى ذَلِكَ الَّذِي تَرَكَ حُجَّةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النَّبِيذَ مَاءٌ وَتَمْرٌ فَيَلْزَمُهُمْ هَذَا كَمَا قلنا فِي الأَمْرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ

(1/205)


الأَنْبِذَةِ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِهِ. فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ مَعًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَفَاسِدٌ, لاَِنَّهُ لاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ جَائِزًا فَالتَّيَمُّمُ مَعَهُ فُضُولٌ. أَوْ لاَ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِهِ جَائِزًا فَاسْتِعْمَالُهُ فُضُولٌ. لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ: إنَّهُ إذَا كَانَ فِي ثَوْبِ الْمَرْءِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ مِنْ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْمُجْتَمِعَ عَلَى جَسَدِ الْمُتَوَضِّئِ بِالنَّبِيذِ أَوْ الْمُغْتَسِلِ بِهِ وَفِي ثَوْبِهِ أَكْثَرُ مِنْ دَرَاهِمَ بَغْلِيَّةٍ كَثِيرَةٍ.
فَإِنْ قَالَ مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُ: إنَّا لاَ نَدْرِي أَيَلْزَمُ الْوُضُوءُ بِهِ فَلاَ يُجْزِئُ تَرْكُهُ أَوْ لاَ يَحِلُّ الْوُضُوءُ بِهِ فَلاَ يُجْزِئُ فِعْلُهُ. فَجَمَعَنَا الأَمْرَيْنِ.
قِيلَ لَهُمْ: الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ عِنْدَ وُجُودِهِ, فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَالْوُضُوءُ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُجْزِئُ الْوُضُوءُ بِهِ فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ, وَالْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ عِنْدَكُمْ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ, وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا فَاسْتِعْمَالُهُ لاَ يَلْزَمُ, وَمَا لاَ يَلْزَمُ فَلاَ مَعْنَى لِفِعْلِهِ, وَلَوْ جِئْتُمْ إلَى اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا تَشُكُّونَ فِي وُجُوبِهِ لَعَظُمَ الأَمْرُ عَلَيْكُمْ, لاَ سِيَّمَا وَأَنْتُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ نَجِسٌ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ كَوْنُهُ فِي الثَّوْبِ, وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ الْوُضُوءَ بِالنَّجِسِ الْمُتَيَقَّنِ لاَ يَحِلُّ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ: إنَّ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ لاَ يَحِلُّ. وَهَذَا مَكَانٌ نَقَضُوا فِيهِ هَذَا الأَصْلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ, وَقَدْ نَقَضَ هَهُنَا أَصْلَهُ فِي الْقَوْلِ بِهِ, فَلَمْ يَقِسْ الأَمْرَاقَ, وَلاَ سَائِرَ الأَنْبِذَةِ عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ, وَخَالَفَ أَيْضًا أَقْوَالَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, كَمَا ذَكَرْنَا دُونَ مُخَالِفٍ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ, وَهَذَا أَيْضًا هَادِمٌ لاَِصْلِهِ, فَلْيَقِفْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى تَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ, وَهَدْمِ فُرُوعِهِمْ لاُِصُولِهِمْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
149 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْتَيْقِظٍ مِنْ نَوْمٍ قَلَّ النَّوْمُ أَوْ كَثُرَ, نَهَارًا كَانَ أَوْ لَيْلاً, قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ قَائِمًا. فِي صَلاَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ, كَيْفَمَا نَامَ أَلاَ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي وُضُوئِهِ فِي إنَاءٍ كَانَ وُضُوءَهُ أَوْ مِنْ نَهْرٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ

(1/206)


وَيَسْتَنْشِقَ وَيَسْتَنْثِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجِزْهُ الْوُضُوءُ, وَلاَ تِلْكَ الصَّلاَةُ. نَاسِيًا تَرَكَ ذَلِكَ أَوْ عَامِدًا. وَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَسْتَنْشِقَ كَذَلِكَ ثُمَّ يَبْتَدِيَ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ, وَالْمَاءُ طَاهِرٌ بِحَسَبِهِ. فَإِنْ صَبَّ عَلَى يَدَيْهِ وَتَوَضَّأَ دُونَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَيْهِ فَوُضُوءُهُ غَيْرُ تَامٍّ وَصَلاَتُهُ غَيْرُ تَامَّةٍ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا أَبُو عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِ فَلاَ يَغْمِسُ يَعْنِي يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا, فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" .
قال أبو محمد: “ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الْغُسْلَ خَوْفُ نَجَاسَةٍ تَكُونُ فِي الْيَدِ, وَهَذَا بَاطِلٌ لاَ شَكَّ فِيهِ, لاَِنَّهُ عليه السلام لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمَا عَجَزَ, عَنْ أَنْ يُبَيِّنَهُ, وَلَمَا كَتَمَهُ, عَنْ أُمَّتِهِ, وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَوْفَ نَجَاسَةٍ لَكَانَتْ الرِّجْلُ كَالْيَدِ فِي ذَلِكَ, وَلَكَانَ بَاطِنُ الْفَخِذَيْنِ وَمَا بَيْنَ الأَلْيَتَيْنِ أَوْلَى بِذَلِكَ. وَمِنَ الْعَجَبِ عَلَى أُصُولِهِمْ أَنْ يَكُونَ ظَنُّ كَوْنِ النَّجَاسَةِ فِي الْيَدِ يُوجِبُ غَسْلَهَا ثَلاَثًا, فَإِذَا تَيَقَّنَ كَوْنَ النَّجَاسَةِ فِيهَا أَجْزَأَهُ إزَالَتُهَا بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ, وَإِنَّمَا السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ هُوَ مَا نَصَّ عليه السلام مِنْ مَغِيبِ النَّائِمِ, عَنْ دِرَايَتِهِ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ فَقَطْ, وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ سَبَبًا لِمَا شَاءَ, كَمَا جَعَلَ تَعَالَى الرِّيحَ الْخَارِجَ مِنْ أَسْفَلَ سَبَبًا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الْوَجْهِ وَمَسْحَ الرَّأْسِ وَغَسْلَ الذِّرَاعَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا فِي نَوْمِ اللَّيْلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَادَّعَوْا أَنَّ الْمَبِيتَ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِاللَّيْلِ.

(1/207)


قال أبو محمد: “ وَهَذَا خَطَأٌ, بَلْ يُقَالُ: بَاتَ الْقَوْمُ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ كَذَا, وَإِنْ كَانَ نَهَارًا. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ خَالِدٍ الْهَمْدَانِيُّ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ حَمْزَةَ هُوَ الزُّبَيْرِيُّ, عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ, عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, هُوَ ابْنُ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ, عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" .
كَتَبَ إلَيَّ سَالِمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَتْحٍ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الشَّنْتَجَالِيُّ قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ, حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ, عَنِ ابْنِ الْهَادِ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

(1/208)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" .
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ الْمَكِّيُّ, حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ, حدثنا يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ, عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ" .
قال أبو محمد: “ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ, عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَمَنْ تَوَضَّأَ بِغَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ الْوُضُوءَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَمَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ كَذَلِكَ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ, لاَ سِيَّمَا طَرْدُ الشَّيْطَانِ, عَنْ خَيْشُومِ الْمَرْءِ, فَمَا نَعْلَمُ مُسْلِمًا يَسْتَسْهِلُ الآُنْسَ بِكَوْنِ الشَّيْطَانِ هُنَاكَ.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَالِكِيُّونَ مُتَابَعَةَ الْوُضُوءِ فَرْضًا لاَ يَتِمُّ الْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ إلاَّ بِهِ, وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضًا لاَ تَتِمُّ الصَّلاَةُ إلاَّ بِهِ, وَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الاِسْتِنْشَاقَ وَالْمَضْمَضَةَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَرْضًا لاَ يَتِمُّ الْغُسْلُ وَالصَّلاَةُ إلاَّ بِهِ. وَكُلُّ هَذَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم . فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْكَرَ لاَ فِعْلَ مَنْ أَوْجَبَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَلَمْ يَقُلْ فِيمَا قَالَ لَهُ نَبِيُّهُ عليه السلام: افْعَلْ كَذَا

(1/209)


فَقَالَ هُوَ: لاَ أَفْعَلُ إلاَّ أَنْ أَشَاءَ, وَدَعْوَى الإِجْمَاعِ بِغَيْرِ يَقِينٍ كَذِبٌ عَلَى الآُمَّةِ كُلِّهَا. نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أَسْتَنْشِقَ قَالَ نَعَمْ, قُلْت كَمْ قَالَ ثَلاَثًا, قُلْت عَمَّنْ قَالَ, عَنْ عُثْمَانَ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حدثنا مَعْمَرٌ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ: إنْ كَانَ جُنُبًا فَثَلاَثًا, وَإِنْ كَانَ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَاثْنَتَيْنِ, وَإِنْ كَانَ جَاءَ مِنْ الْبَوْلِ فَوَاحِدَةً. وَرُوِيَ, عَنِ الْحَسَنِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَغْسِلْ يَدَهُ ثَلاَثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي الْوَضُوءِ,وَبِهِ يَقُولُ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا.

(1/210)


ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد
...
بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدِ الأَيْلِيُّ, عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ, عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ, فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً " . فَهَذَا أَبُو هُرَيْرَةَ لاَ يَرَى أَنْ يَغْتَسِلَ الْجُنُبُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ, إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنْ فَعَلَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ, وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ قَبْلُ, وَكَرِهَهُ مَالِكٌ, وَأَجَازَ غُسْلَهُ إنْ اغْتَسَلَ كَذَلِكَ, وَهَذَا خَطَأٌ, لِخِلاَفِهِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا, وَلَوْ أَنَّهُ فَرَاسِخُ فِي فَرَاسِخَ, لاَ يُجْزِئُ الْجُنُبُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخُصَّ مَاءً مِنْ مَاءٍ, وَلَمْ يَنْهَ, عَنِ الْوُضُوءِ فِيهِ, وَلاَ عَنِ الْغُسْلِ لِغَيْرِ الْجُنُبِ فِيهِ, فَهُوَ مُبَاحٌ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .

(1/211)


وكل ماء توضأت منه امرأة حائض أو غير حائض أو اغتسلت منه إلخ
...
151 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَاء تَوَضَّأَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ حَائِضٌ أَوْ غَيْرُ حَائِضٍ أَوْ اغْتَسَلَتْ مِنْهُ
فَأَفْضَلَتْ مِنْهُ فَضْلاً, لَمْ يَحِلَّ لِرَجُلٍ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ, وَلاَ الْغُسْلُ مِنْهُ, سَوَاءٌ وَجَدُوا مَاءً آخَرَ أَوْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ, وَفَرْضُهُمْ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ, وَحَلاَلٌ شُرْبُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, وَجَائِزٌ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ لِلنِّسَاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلاَ يَكُونُ فَضْلاً إلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِمَّا اسْتَعْمَلَتْهُ مِنْهُ, فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ فَضْلاً, وَالْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِهِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَأَمَّا فَضْلُ الرِّجَالِ فَالْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ, إلاَّ أَنْ يَصِحَّ خَبَرٌ فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنْهُ فَنَقِفَ عِنْدَهُ, وَلَمْ نَجِدْهُ صَحِيحًا فَإِنْ تَوَضَّأَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ اغْتَسَلاَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ مَعًا فَذَلِكَ جَائِزٌ, وَلاَ نُبَالِي أَيُّهُمَا بَدَأَ قَبْلُ, أَوْ أَيُّهُمَا أَتَمَّ قَبْلُ.

(1/211)


بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد هُوَ السِّجِسْتَانِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ, عَنْ أَبِي حَاجِبٍ هُوَ سَوَادَةُ بْنُ عَاصِمٍ, عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرو الْغِفَارِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ" .
أَخْبَرَنِي أَصْبَغُ قَالَ, حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعُقَيْلِيِّ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا مَعْلِيُّ بْنُ أَسَدٍ, حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ, عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ" .

(1/212)


وَلَمْ يُخْبِرْ عليه السلام بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ, وَلاَ أَمَرَ غَيْرَ الرِّجَالِ بِاجْتِنَابِهِ, وَبِهَذَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ وَالْحَكَمُ بْنِ عَمْرٍو, وَهُمَا صَاحِبَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ تَقُولُ جُوَيْرِيَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَقَدْ رُوِيَ, عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ بِالدِّرَّةِ مَنْ خَالَفَ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيِّ, عَنِ الْوُضُوءِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ, فَكِلاَهُمَا نَهَانِي عَنْهُ.
وَرَوَى مَالِكٌ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ مَا لَمْ تَكُنْ حَائِضًا أَوْ جُنُبًا. وَقَدْ صَحَّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ مَعَ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مَعًا حَتَّى يَقُولَ: "أَبْقِي لِي" وَتَقُولَ لَهُ: "أَبْقِ لِي" وَهَذَا حَقٌّ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَضْلاً حَتَّى يَتْرُكَهُ. هَذَا حُكْمُ اللُّغَةِ بِلاَ خِلاَفٍ.

(1/213)


وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنِ الثَّوْرِيِّ, عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ, عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَمَّتْ مِنْ جَنَابَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ مِنْ فَضْلِهَا فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي اغْتَسَلْت فَقَالَ: إنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" وَبِحَدِيثٍ آخَرَ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّهْرَانِيِّ, عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ, عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ, مُخْتَصَرٌ قال أبو محمد: “ هَكَذَا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مُخْتَصَرٌ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَانِ حَدِيثَانِ لاَ يَصِحَّانِ, فأما الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فَرِوَايَةُ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ, وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ, شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ, وَهَذِهِ جُرْحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَالثَّانِي أَخْطَأَ فِيهِ الطَّهْرَانِيُّ بِيَقِينٍ ; لإِنَّ هَذَا أَخْبَرَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ

(1/214)


حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمُ, هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ, وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ إِسْحَاقُ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ وَقَالَ ابْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ وَهُوَ الْبُرْسَانِيُّ, حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ, حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: أَكْبَرُ عِلْمِي وَاَلَّذِي يَخْطُرُ عَلَى بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَخْبَرَنِي, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" .
قال أبو محمد: “ فَصَحَّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ شَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَقْطَعْ بِإِسْنَادِهِ, وَهَؤُلاَءِ أَوْثَقُ مِنْ الطَّهْرَانِيِّ وَأَحْفَظُ بِلاَ شَكٍّ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا مَغْمَزٌ لَمَا كَانَتْ فِيهِمَا حُجَّةٌ, لإِنَّ حُكْمَهُمَا هُوَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنْ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ أَوْ أَنْ يَغْتَسِلَ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ, بِلاَ شَكٍّ فِي هَذَا, فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ حُكْمَ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مَنْسُوخٌ قَطْعًا, حِينَ نَطَقَ عليه السلام بِالنَّهْيِ عَمَّا فِيهِمَا, لاَ مِرْيَةَ فِي هَذَا, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِالْمَنْسُوخِ وَتَرْكُ النَّاسِخِ, وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ حُكْمُهُ, وَالنَّاسِخُ قَدْ بَطَلَ رَسْمُهُ, فَقَدْ أَبْطَلَ وَادَّعَى غَيْرَ الْحَقِّ, وَمِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ, وَلاَ يُبَيِّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ الْمُحْتَجَّيْنِ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مُخَالِفَانِ لِمَا فِي أَحَدِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "الْمَاءُ لاَ يَنْجُسُ" وَمِنْ الْقَبِيحِ احْتِجَاجُ قَوْمٍ بِمَا يُقِرُّونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ ثُمَّ يُخَالِفُونَهُ وَيُنْكِرُونَ خِلاَفَهُ عَلَى مَنْ لاَ يَرَاهُ حُجَّةً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا إبَاحَةَ وُضُوءِ الرَّجُلِ مِنْ فَضْلِ الْمَرْأَةِ, عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ فأما الطَّرِيقُ, عَنْ عَائِشَةَ فَفِيهَا الْعَرْزَمِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هِيَ.
وَأَمَّا الطَّرِيقُ, عَنْ عَلِيٍّ فَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ ضُمَيْرَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ, وَهِيَ صَحِيفَةٌ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ لاَ يَحْتَجُّ بِهَا إلاَّ جَاهِلٌ, فَبَقِيَ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ, عَنِ ابْنِ سَرْجِسَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, لاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ, يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/215)


152 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلاَ مِنْ إنَاءٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مَأْخُوذٍ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَلاَ الْغُسْلُ, إلاَّ لِصَاحِبِهِ أَوْ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ, وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدُ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مُسَدَّدٌ, حدثنا بِشْرٌ, هُوَ ابْنُ عُمَرَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ

(1/216)


عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ, عَنْ أَبِيهِ: "قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ فَقَالَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي شَهْرِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا, لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ, فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْه" ُ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ مُسْنَدًا صَحِيحًا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ" .
فَكَانَ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ أَوْ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ اغْتَسَلَ بِهِ أَوْ مِنْ إنَاءٍ كَذَلِكَ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ ذَلِكَ الْمَاءَ وَذَلِكَ الإِنَاءَ فِي غُسْلِهِ وَوُضُوئِهِ حَرَامٌ, وَبِضَرُورَةٍ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّ الْحَرَامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ غَيْرُ الْوَاجِبِ الْمُفْتَرَضِ عَمَلُهُ, فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلَمْ يَتَوَضَّأْ الْوُضُوءَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَاَلَّذِي لاَ تُجْزِئُ الصَّلاَةُ إلاَّ بِهِ, بَلْ هُوَ وُضُوءٌ مُحَرَّمٌ, هُوَ فِيهِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى, وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ, وَالصَّلاَةُ بِغَيْرِ الْوُضُوءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِغَيْرِ الْغُسْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لاَ تُجْزِئُ, وَهَذَا أَمْرٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ.
وَنَسْأَلُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا عَمَّنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ إطْعَامِ مَسَاكِينَ, فَأَطْعَمَهُمْ مَالَ غَيْرِهِ, أَوْ مَنْ عَلَيْهِ صِيَامُ أَيَّامٍ, فَصَامَ أَيَّامَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ, وَمَنْ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَأَعْتَقَ أَمَةَ غَيْرِهِ: أَيُجْزِيهِ ذَلِكَ مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَمَنْ قَوْلُهُمْ: لاَ, فَيُقَالُ لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ مَنَعْتُمْ هَذَا وَأَجَزْتُمْ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ وَإِنَاءٍ مَغْصُوبٍ وَكُلُّ هَؤُلاَءِ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ عَمَلٌ مَوْصُوفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ, مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِإِقْرَارِكُمْ سَوَاءً سَوَاءٌ. وَهَذَا لاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى الاِنْفِكَاكِ مِنْهُ. وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا بَلْ هُوَ

(1/217)


حُكْمٌ وَاحِدٌ دَاخِلٌ تَحْتَ تَحْرِيمِ الأَمْوَالِ, وَتَحْتَ الْعَمَلِ بِخِلاَفِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ" ٌ وَكُلُّ هَؤُلاَءِ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَرْدُودٌ بِحُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فِي هَذَا وَمَنْ قَالَ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الأَمْوَالِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ, وَأَمَّا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ فَلاَ, وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ يُبْطِلُونَ طَهَارَةَ مَنْ تَطَهَّرَ بِمَاءٍ مُسْتَعْمَلٍ, وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّونَ, وَأَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يُبْطِلُونَ طَهَارَةَ مَنْ تَطَهَّرَ بِمَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ, دُونَ نَصٍّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ, وَلاَ حُجَّةَ بِأَيْدِيهِمْ إلاَّ تَشْغِيبٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُ نَهَى, عَنْ هَذَيْنِ الْمَاءَيْنِ ثُمَّ يُجِيزُونَ الطَّهَارَةَ بِمَاءٍ وَإِنَاءٍ, يُقِرُّونَ كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ, وَثَبَتَ تَحْرِيمُهُ وَتَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَيْهِ, وَهَذَا عَجَبٌ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ مِثْلُهُ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ النَّصَّ وَالإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَانِعِينَ مِنْهُ فِي الأَصْلِ, وَخَالَفُوا أَيْضًا الْقِيَاسَ وَمَا تَعَلَّقُوا فِي جَوَازِهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/218)


153 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ, وَلاَ الْغُسْلُ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ, وَلاَ مِنْ إنَاءِ فِضَّةٍ لاَ لِرَجُلٍ, وَلاَ لاِمْرَأَةٍ.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا وَكِيعٌ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, وَقَالَ: هُوَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ" وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّهْيَ, عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ .

(1/218)


فإن قيل: إنَّمَا نَهَى, عَنِ الأَكْلِ فِيهَا وَالشُّرْبِ. قلنا: هَذَانِ الْخَبَرَانِ نَهْيٌ عَامٌّ عَنْهُمَا جُمْلَةً, فَهُمَا زَائِدَانِ حُكْمًا وَشَرْعًا عَلَى الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ, عَنِ الشُّرْبِ فَقَطْ أَوْ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَطْ, وَالزِّيَادَةُ فِي الْحُكْمِ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا.
فإن قيل: فَقَدْ جَاءَ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ: "حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لاِِنَاثِهَا" .
قلنا: نَعَمْ, وَحَدِيثُ النَّهْيِ, عَنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَثْنًى مِنْ إبَاحَةِ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ, لاَِنَّهُ أَقَلُّ مِنْهُ, وَلاَ بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الأَخْبَارِ, وَلاَ يُوصَلُ إلَى اسْتِعْمَالِهَا إلاَّ هَكَذَا, وَهُمْ قَدْ فَعَلُوا هَذَا فِي الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَوْهُ مِنْ إبَاحَةِ الذَّهَبِ لَهُنَّ.
فإن قيل: فَقَدْ صَحَّ, عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ ظَرْفًا لاَ يَحِلُّ شَيْئًا, وَلاَ يُحَرِّمُ شَيْئًا".
قلنا نَعَمْ, هَذَا حَقٌّ وَبِهِ نَقُولُ, وَالْمَاءُ الَّذِي فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ شُرْبُهُ حَلاَلٌ, وَالتَّطَهُّرُ بِهِ حَلاَلٌ, وَإِنَّمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُ الإِنَاءِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ وَفِي التَّطَهُّرِ مِنْهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ اسْتِعْمَالُ الإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ صَارَ فَاعِلُ ذَلِكَ مُجَرْجِرًا فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ بِالنَّصِّ, وَكَانَ فِي حَالِ وُضُوئِهِ وَغُسْلِهِ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ التَّطَهُّرِ نَفْسِهِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ, عَنِ الطَّاعَةِ, وَأَنْ يُجْزِئَ تَطْهِيرٌ مُحَرَّمٌ, عَنْ تَطْهِيرٍ مُفْتَرَضٍ.
ثم نقول لَهُمْ: إنَّ مِنْ الْعَجَبِ احْتِجَاجَكُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَيْنَا, وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَأَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُ, فَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ يُحَرِّمُونَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِمَاءٍ فِي إنَاءٍ كَانَ فِيهِ خَمْرٌ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا فِي الْمَاءِ أَثَرٌ, فَقَدْ جَعَلُوا هَذَا الإِنَاءَ يُحَرِّمُ هَذَا الْمَاءَ, خِلاَفًا لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ النَّبِيذَ الَّذِي فِي الدَّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ, وَهُوَ الَّذِي أَبْطَلَ هَذَا الْخَبَرَ وَفِيهِ وَرَدَ, وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, إبَاحَةُ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ, وَتَحْرِيمُ الإِنَاءِ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عَلَيْهِنَّ. وَهُوَ قَوْلُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/219)


ولا يجوز الوضوء من ماء بئار الحجر وهي أرض ثمود
...
154 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْوُضُوءُ مِنْ مَاءِ بِئَارِ الْحِجْرِ وَهِيَ أَرْضُ ثَمُودَ
وَلاَ الشُّرْبُ, حَاشَا بِئْرَ النَّاقَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْهَا. حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ, حدثنا الْفَرَبْرِيُّ, حدثنا الْبُخَارِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ, حدثنا سُلَيْمَانُ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا, وَلاَ يَسْتَقُوا مِنْهَا, قَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ" .
وبه إلى الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ, حدثنا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَه:ُ "أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ وَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا وَاعْتَجَنُوا, فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا, وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ الْعَجِينَ, وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَة" قال أبو محمد: “ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِتَبُوكَ.

(1/220)


وكل ماء اعتصر من شجر كما الورد وغيره فلا يحل الوضوء به
...
155 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَاءٍ اُعْتُصِرَ مِنْ شَجَرٍ,كَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ, فَلاَ يَحِلُّ الْوُضُوءُ بِهِ
لِلصَّلاَةِ, وَلاَ الْغُسْلُ بِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ مَاءً, وَلاَ طَهَارَةَ إلاَّ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَوْ الصَّعِيدِ عِنْدَ عَدَمِهِ.

(1/220)


156 - مَسْأَلَةٌ: وَالْوُضُوءُ لِلصَّلاَةِ وَالْغُسْلُ لِلْفُرُوضِ جَائِزٌ بِمَاءِ الْبَحْرِ
وَبِالْمَاءِ الْمُسَخَّنِ وَالْمُشَمَّسِ وَبِمَاءٍ أُذِيبَ مِنْ الثَّلْجِ أَوْ الْبَرَدِ أَوْ الْجَلِيدِ أَوْ مِنْ الْمِلْحِ الَّذِي كَانَ أَصْلُهُ مَاءً وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَعْدِنًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وَالْمِلْحُ كَانَ مَاءً ثُمَّ جَمَدَ كَمَا يَجْمُدُ الثَّلْجُ, فَسَقَطَ, عَنْ كُلِّ ذَلِكَ

(1/220)


157 - مَسْأَلَةٌ: الأَشْيَاءُ الْمُوجِبَةُ لِلْوُضُوءِ, وَلاَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ غَيْرُهَا. قَالَ قَوْمٌ: ذَهَابُ الْعَقْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ ذَهَبَ, مِنْ جُنُونٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ سَكِرَ. وَقَالُوا هَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ, وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ بَطَلَتْ حَالُ طَهَارَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا, وَلَوْلاَ صِحَّةُ الإِجْمَاعِ أَنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ لاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: “ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا, أَمَّا دَعْوَى الإِجْمَاعِ فَبَاطِلٌ, وَمَا وَجَدْنَا فِي هَذَا, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَلِمَةً, وَلاَ عَنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ, إلاَّ عَنْ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ: إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ إلَيْهِ وَاهِيَةٌ وَحَمَّادٌ وَالْحَسَنُ فَقَطْ, عَنْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ الْوُضُوءُ وَعَنِ الثَّالِثِ إيجَابُ الْغُسْلِ, رُوِّينَا, عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ, عَنْ سُوَيْد بْنِ سَعِيدِ الْحَدَثَانِيِّ وَهُشَيْمٍ, قَالَ سُوَيْد أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ, عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ: يَتَوَضَّأُ, وَقَالَ هُشَيْمٌ, عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ, عَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: إذَا أَفَاقَ الْمَجْنُونُ تَوَضَّأَ وَضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ, عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ اغْتَسَلَ. فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ لَيْتَ شِعْرِي.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى النَّوْمِ, قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ, لَكِنْ قَدْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُوجِبُ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ الْغُسْلُ, فَقِيسُوا عَلَى سُقُوطِهَا سُقُوطَ الآُخْرَى وَهِيَ الْوُضُوءُ, فَهَذَا قِيَاسٌ, يُعَارِضُ قِيَاسَكُمْ, وَالنَّوْمُ لاَ يُشْبِهُ الإِغْمَاءَ, وَلاَ الْجُنُونَ, وَلاَ السُّكْرَ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ, وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَبْطُلُ إحْرَامُهُ, وَلاَ صِيَامُهُ, وَلاَ شَيْءَ مِنْ عُقُودِهِ, فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ إبْطَالُ وُضُوئِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ الثَّابِتُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, أَنَّهُ عليه السلام فِي عِلَّتِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلصَّلاَةِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ, فَلَمَّا أَفَاقَ اغْتَسَلَ, وَلَمْ تَذْكُرْ وُضُوءًا وَإِنَّمَا كَانَ غُسْلُهُ لِيَقْوَى عَلَى الْخُرُوجِ فَقَطْ.

(1/222)


والنوم في ذاته حدث ينفض الوضوء سواء قل أو كثر
...
158 - مَسْأَلَةٌ: وَالنَّوْمُ فِي ذَاتِهِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ
قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا, فِي صَلاَةٍ أَوْ غَيْرِهَا, أَوْ رَاكِعًا كَذَلِكَ أَوْ سَاجِدًا كَذَلِكَ أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُضْطَجِعًا, أَيْقَنَ مَنْ حَوَالَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ أَوْ لَمْ يُوقِنُوا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالاَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ, حدثنا شُعْبَةُ وَقَالَ قُتَيْبَةُ, حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَقَالَ يَحْيَى, حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُهَيْرُ, هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ وَمَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى, ثُمَّ اتَّفَقَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ وَزُهَيْرٌ, وَابْنُ مِغْوَلٍ, عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ, عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْت صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ, عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَنْ نَمْسَحَ عَلَى خِفَافِنَا, وَلاَ نَنْزِعَهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ إلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ" . وَلَفْظُ شُعْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَلاَ نَنْزِعَهُ ثَلاَثًا إلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ, لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ" فَعَمَّ عليه السلام كُلَّ نَوْمٍ, وَلَمْ يَخُصَّ قَلِيلَهُ مِنْ كَثِيرِهِ, وَلاَ حَالاً مِنْ حَالٍ, وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ, وَهَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي رَافِعٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ.

(1/223)


وَذَهَبَ الأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّ النَّوْمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَيْف كَانَ. وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ, عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ نَذْكُرُ بَعْضَ ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ ; لإِنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا لاَ يَعْرِفُونَهُ, وَلَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى خِلاَفِهِ جَهْلاً وَجُرْأَةً.
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ, حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ, حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُونَ إلَى الصَّلاَةِ " .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ, حدثنا خَالِدٌ, هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ, حدثنا شُعْبَةُ, عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْت أَنَسًا يَقُولُ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ, وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ " فَقُلْت لِقَتَادَةَ: سَمِعْته مِنْ أَنَسٍ قَالَ إي وَاَللَّهِ.
قال أبو محمد: “ لَوْ جَازَ الْقَطْعُ بِالإِجْمَاعِ فِيمَا لاَ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَشِذَّ عَنْهُ أَحَدٌ لَكَانَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ, لاَ لِتِلْكَ الأَكَاذِيبِ الَّتِي لاَ يُبَالِي مَنْ لاَ دِينَ لَهُ بِإِطْلاَقِ دَعْوَى الإِجْمَاعِ فِيهَا.
وَذَهَبَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ إلَى أَنَّ النَّوْمَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ نَوْمَ الْمُضْطَجِعِ فَقَطْ, وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ صَحَّ عَنْهُ, وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَنْ عَطَاءٍ وَاللَّيْثِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لاَ يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوءَ إلاَّ أَنْ يَضْطَجِعَ أَوْ يَتَّكِئَ أَوْ

(1/224)


مُتَوَكِّئًا عَلَى إحْدَى أَلْيَتَيْهِ أَوْ إحْدَى وَرِكَيْهِ فَقَطْ, وَلاَ يَنْقُضُهُ سَاجِدًا أَوْ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا, طَالَ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَامَ سَاجِدًا غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ فَوُضُوءُهُ بَاقٍ, وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَ وُضُوءُهُ, وَهُوَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْغَلَبَةِ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا, وَهُوَ قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ ذَلِكَ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمِ, وَلاَ نَعْلَمُ كَيْفَ قَالاَ.
وقال مالك وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ نَامَ نَوْمًا يَسِيرًا وَهُوَ قَاعِدٌ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ الْقَلِيلُ لِلرَّاكِبِ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ أَيْضًا, وَرَأْيِ أَيْضًا فِيمَا عَدَا هَذِهِ الأَحْوَالِ أَنَّ قَلِيلَ النَّوْمِ وَكَثِيرَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ, وَذُكِرَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ.
وقال الشافعي: جَمِيعُ النَّوْمِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ إلاَّ مِنْ نَامَ جَالِسًا غَيْرَ زَائِلٍ, عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ, فَهَذَا لاَ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ, طَالَ نَوْمُهُ أَوْ قَصُرَ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا التَّقْسِيمَ يَصِحُّ, عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ, إلاَّ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَكَرَ ذَلِكَ, عَنْ طَاوُوس وَابْنِ سِيرِينَ, وَلاَ نُحَقِّقُهُ.
قال أبو محمد: “ احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ النَّوْمَ حَدَثًا بِالثَّابِتِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ, وَلاَ يُعِيدُ وُضُوءًا ثُمَّ يُصَلِّي.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ, لإِنَّ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, ذَكَرَتْ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ: إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ, وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي" فَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام بِخِلاَفِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ, وَصَحَّ أَنَّ نَوْمَ الْقَلْبِ الْمَوْجُودِ مِنْ كُلِّ مَنْ دُونَهُ هُوَ النَّوْمُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَوَجَدْنَا مِنْ حُجَّةِ مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ النَّوْمِ إلاَّ مِنْ الاِضْطِجَاعِ حَدِيثًا رُوِيَ فِيه: "إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ" وَحَدِيثًا

(1/225)


آخَرَ فِيهِ: "أَعَلَيَّ فِي هَذَا وُضُوءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ إلاَّ أَنْ تَضَعَ جَنْبَك" وَحَدِيثًا آخَرَ فِيهِ: "مَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" .
قال أبو محمد: “ وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ.
أَمَّا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ, عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالاَنِيِّ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَبْدُ السَّلاَمِ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ, ضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ, وَالدَّالاَنِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ,
رُوِّينَا, عَنْ شُعْبَةَ, أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إلاَّ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ, لَيْسَ هَذَا مِنْهَا, فَسَقَطَ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

(1/226)


وَالثَّانِي لاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إلاَّ عَلَى بَيَانِ سُقُوطِهِ ; لاَِنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ كُنَيْزٍ السَّقَّاءِ, وَهُوَ لاَ خَيْرَ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَى إطْرَاحِهِ, فَسَقَطَ جُمْلَةً.
وَالثَّالِثُ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ ضَعِيفٌ يُحَدِّثُ بِالْمَنَاكِيرِ فَسَقَطَ هَذَا

(1/227)


الْبَابُ كُلُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثًا فِيهِ: "إذَا نَامَ الْعَبْدُ سَاجِدًا بَاهَى اللَّهُ بِهِ الْمَلاَئِكَةَ" وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ لَمْ يُخْبِرْ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إسْقَاطُ الْوُضُوءِ عَنْه"ُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا, عَنْ عَطَاءٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الصَّلاَةَ حَتَّى نَامَ النَّاسُ ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا ثُمَّ نَامُوا, ثُمَّ اسْتَيْقَظُوا, فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّوْا, وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ تَوَضَّئُوا.
قال أبو محمد: “ وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ, عَنْ أَنَسٍ: "أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلاً, فَلَمْ يَزَلْ يُنَاجِيه حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ, ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى بِهِمْ" وَحَدِيثًا ثَابِتًا مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ, حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ, فَخَرَجَ عليه السلام".
قال أبو محمد: “ وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّائِمِ, وَلاَ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّوْمِ, لاَِنَّهَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ حَالِ مَنْ نَامَ كَيْف نَامَ, مِنْ جُلُوسٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ أَوْ اتِّكَاءٍ أَوْ تَوَرُّكٍ أَوْ اسْتِنَادٍ, وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ النَّوْمِ أَصْلاً, وَمَعَ ذَلِكَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ

(1/228)


رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِنَوْمِ مَنْ نَامَ, وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوُضُوءِ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ إلاَّ فِيمَا عَلِمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَقَرَّهُ, أَوْ فِيمَا أَمَرَ بِهِ, أَوْ فِيمَا فَعَلَهُ, فَكَيْفَ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ: "أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إسْلاَمٌ يَوْمئِذٍ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ, فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَكَانَ حَدِيثُ صَفْوَانَ نَاسِخًا لَهُ ; لإِنَّ إسْلاَمَ صَفْوَانَ مُتَأَخِّرٌ فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ جُمْلَةً, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لِمَنْ ذَهَبَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِعَمَلِ صَحَابَةٍ, وَلاَ بِقَوْلٍ صَحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, وَلاَ بِقِيَاسٍ, وَلاَ بِاحْتِيَاطٍ, وَهِيَ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا تَرَى لَيْسَ لاَِحَدٍ مِنْ مُقَلِّدِيهِمْ أَنْ يَدَّعِيَ عَمَلاً إلاَّ كَانَ لِخُصُومِهِ أَنْ يَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَدْ لاَحَ أَنَّ كُلَّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فَإِنَّمَا هُوَ إيهَامٌ مُفْتَضَحٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ نَامُوا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُسْقِطُونَ الْوُضُوءَ عَمَّنْ نَامَ كَذَلِكَ, فَسَقَطَتْ الأَقْوَالُ كُلُّهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَنِ إلاَّ قَوْلَنَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قال أبو محمد: “ وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو النَّوْمُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ حَدَثًا وَأَمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ حَدَثًا, فَإِنْ كَانَ لَيْسَ حَدَثًا فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ, كَيْفَ كَانَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ, وَإِنْ كَانَ حَدَثًا فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَيْف كَانَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا قَوْلُنَا فَصَحَّ أَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ أَحْوَالِ النَّوْمِ خَطَأٌ وَتَحَكُّمٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَدَعْوَى لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا.

(1/229)


فإن قال قائل: إنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا, وَإِنَّمَا يُخَافُ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ الْمَرْءُ, قلنا لَهُمْ: هَذَا لاَ مُتَعَلِّقَ لَكُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ, لإِنَّ الْحَدَثَ مُمْكِنٌ كَوْنُهُ مِنْ الْمَرْءِ فِي أَخَفِّ مَا يَكُونُ مِنْ النَّوْمِ, كَمَا هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي النَّوْمِ الثَّقِيلِ وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْجَالِسِ كَمَا هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُضْطَجِعِ, وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَثُ مِنْ الْيَقْظَانِ, وَلَيْسَ الْحَدَثُ عَمَلاً يَطُولُ, بَلْ هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ الْكَثِيرُ مِنْ الْمُضْطَجِعِ لاَ حَدَثَ فِيهِ, وَيَكُونُ الْحَدَثُ فِي أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ نَوْمِ الْجَالِسِ, فَهَذَا لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً,
وَأَيْضًا فَإِنَّ خَوْفَ الْحَدَثِ لَيْسَ حَدَثًا, وَلاَ يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ, وَإِنَّمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَقِينُ الْحَدَثِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَإِذْ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ إلاَّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفَ كَوْنِ الْحَدَثِ حَدَثًا, فَقَلِيلُ النَّوْمِ وَكَثِيرُهُ يُوجِبُ نَقْضَ الْوُضُوءِ, لإِنَّ خَوْفَ الْحَدَثِ جَارٍ فِيهِ, وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفَ الْحَدَثِ لَيْسَ حَدَثًا, فَالنَّوْمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَبَطَلَتْ أَقْوَالُ هَؤُلاَءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ وَمِنْهَا مَا لاَ يَصِحُّ, يَجِبُ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ; لإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ" , وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ "لَعَلَّهُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي" وَحَدِيثُ أَنَسٍ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَدْرِيَ مَا يَقْرَأُ" .
قال أبو محمد: “ هَذَانِ صَحِيحَانِ, وَهُمَا حُجَّةٌ لَنَا, لإِنَّ فِيهِمَا أَنَّ النَّاعِسَ لاَ يَدْرِي مَا يَقْرَأُ, وَلاَ مَا يَقُولُ, وَالنَّهْيُ, عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ جُمْلَةً, فَإِذْ النَّاعِسُ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ فَهُوَ فِي حَالِ ذَهَابِ الْعَقْلِ بِلاَ شَكٍّ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ مَنْ ذَهَبَ

(1/230)


عَقْلُهُ بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ كَذَلِكَ.
وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ" . وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ, عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ" .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ: لَوْ صَحَّا لَكَانَا أَعْظَمَ حُجَّةً لِقَوْلِنَا, لإِنَّ فِيهِمَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ جُمْلَةً, دُونَ تَخْصِيصِ حَالٍ مِنْ حَالٍ, وَلاَ كَثِيرَ نَوْمٍ مِنْ قَلِيلِهِ, بَلْ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ نَصًّا, وَلَكِنَّا لَسْنَا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ نَصْرًا لِقَوْلِهِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَانِ أَثَرَانِ سَاقِطَانِ لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِمَا.
أَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فَمِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَرَاوِيهِ أَيْضًا بَقِيَّةُ, عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/231)


والمذي والبول والغائط من أي موضع خرجا إلخ
...
- مَسْأَلَةٌ: وَالْمَذْيُ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ مِنْ أَيْ مَوْضِعٍ خَرَجَا
مِنْ الدُّبُرِ وَالإِحْلِيلِ أَوْ مِنْ جُرْحٍ فِي الْمَثَانَةِ أَوْ الْبَطْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجَسَدِ أَوْ مِنْ الْفَمِ. فأما الْمَذْيُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ تَطْهِيرِ الْمَذْيِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ وَجَدَهُ: "وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَة" . وَأَمَّا الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَأَمَّا قَوْلُنَا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ خَرَجَ فَلِعُمُومِ أَمْرِهِ عليه السلام بِالْوُضُوءِ مِنْهُمَا, وَلَمْ يَخُصَّ خُرُوجَهُمَا مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا, وَهَذَانِ الاِسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام مِنْ حَيْثُ مَا خَرَجَا, وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا هَهُنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ, وَلاَ حُجَّةَ لِمَنْ أَسْقَطَ الْوُضُوءَ مِنْهُمَا إذَا خَرَجَا مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجَيْنِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, بَلْ الْقُرْآنُ جَاءَ بِمَا قُلْنَاهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجَيْنِ, فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى بِالأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ مِنْ ذَلِكَ حَالاً دُونَ حَالٍ, وَلاَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/232)


والريح الخارجة من الدبر خاصة لا غيره
...
160 - مَسْأَلَةٌ: وَالرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ الدُّبُرِ خَاصَّةً لاَ مِنْ غَيْرِهِ
بِصَوْتٍ خَرَجَتْ أَمْ بِغَيْرِ صَوْتٍ. وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ الْفَسْوِ وَالضُّرَاطِ, وَهَذَانِ الاِسْمَانِ لاَ يَقَعَانِ عَلَى الرِّيحِ أَلْبَتَّةَ إلاَّ إنْ خَرَجَتْ مِنْ الدُّبُرِ, وَإِلاَّ فَإِنَّمَا يُسَمَّى جُشَاءً أَوْ عُطَاسًا فَقَطْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/232)


161- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ كَانَ مُسْتَنْكِحًا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا تَوَضَّأَ, وَلاَ بُدَّ لِكُلِّ صَلاَةٍ
فَرْضًا أَوْ نَافِلَةً, ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ أَوْ فِيمَا بَيْنَ وُضُوئِهِ وَصَلاَتِهِ, وَلاَ يُجْزِيه الْوُضُوءُ إلاَّ فِي أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُهُ مِنْ صَلاَتِهِ, وَلاَ بُدَّ لِلْمُسْتَنْكِحِ أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ حَسْبَ طَاقَتِهِ, مِمَّا لاَ حَرَج عَلَيْهِ فِيهِ, وَيَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ عَلَيْهِ الْحَرَجُ مِنْهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ إبْطَالِ الْقِيَاسِ مِنْ صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا, مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله تعالى :{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ, وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فَصَحَّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْ الْحَدَثِ, وَهَذَا كُلُّهُ حَدَثٌ, فَالْوَاجِبُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَطِيعُ, وَمَا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ, وَلاَ عُسْرَ, وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ عَلَى الصَّلاَةِ وَعَلَى الْوُضُوءِ لَهَا, وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا, وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِلاِمْتِنَاعِ مِمَّا يَخْرُجُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ, وَفِيمَا بَيْنَ وُضُوئِهِ وَصَلاَتِهِ, فَسَقَطَ عَنْهُ, وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي غَسْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ. قال أبو محمد: “ وَهَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ.
وقال أبو حنيفة: يَتَوَضَّأُ هَؤُلاَءِ لِكُلِّ وَقْتِ صَلاَةٍ, وَيُبْقُونَ عَلَى وُضُوئِهِمْ إلَى دُخُولِ وَقْتِ صَلاَةٍ آخَرَ فَيَتَوَضَّئُونَ. وقال مالك: لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وقال الشافعي: يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ فَيُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ خَاصَّةً.
قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا قَالُوا كُلَّ هَذَا قِيَاسًا عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ, عَلَى حَسْبِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ

(1/233)


مِنْهُمْ فِيهَا, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً, لإِنَّ الثَّابِتَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ هُوَ غَيْرُ مَا قَالُوهُ لَكِنَّ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَابِ الْمُسْتَحَاضَةِ, وَهُوَ وُجُوبُ الْغُسْلِ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ, أَوْ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثُمَّ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَتَمَةِ. ثُمَّ لِلصُّبْحِ. وَدُخُولُ وَقْتِ صَلاَةٍ مَا لَيْسَ حَدَثًا بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فَلاَ يَنْقُضُ طَهَارَةً قَدْ صَحَّتْ بِلاَ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ, وَإِسْقَاطُ مَالِكٍ الْوُضُوءَ مِمَّا قَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بِالإِجْمَاعِ وَبِالنُّصُوصِ الثَّابِتَةِ خَطَأٌ لاَ يَحِلُّ.
وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِمَا رُوِّينَا, عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْمَذْيِ. قَالَ عُمَرُ: إنِّي لاََجِدُهُ يَنْحَدِرُ عَلَى فَخِذِي عَلَى الْمِنْبَرِ فَمَا أُبَالِيه وَقَالَ سَعِيدٌ مِثْلُ ذَلِكَ, عَنْ نَفْسِهِ فِي الصَّلاَةِ: فَأَوْهَمُوا أَنَّهُمَا رضي الله عنهما كَانَا مُسْتَنْكِحَيْنِ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا كَذِبٌ مُجَرَّدٌ, لاَ نَدْرِي كَيْفَ اسْتَحَلَّهُ مَنْ أَطْلَقَ بِهِ لِسَانَهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الأَثَرِ, وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ نَصٌّ, وَلاَ دَلِيلٌ بِذَلِكَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ هَذَا, وَإِنَّمَا الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ, لإِنَّ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تَبْلُغْ عُمَرَ ثُمَّ بَلَغَتْهُ فَرَجَعَ إلَى إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي دُلَيْمٍ, حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ, حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ, حدثنا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ, عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ, عَنْ أَبِي حَبِيبِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ, عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَيَا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا أُبَيّ وَقَالَ: إنِّي وَجَدْت مَذْيًا فَغَسَلْت ذَكَرِي وَتَوَضَّأْت, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَوَ يُجْزِئُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ.
حدثنا حمام, حدثنا ابْنُ مُفَرِّحٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ أَحَدِنَا مِثْلُ الْجُمَانَةِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ

(1/234)


وَلْيَتَوَضَّأْ, وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَذْيِ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ, فَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ, عَنْ عُمَرَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا خَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لإِنَّ مِنْ الْمُحَالِ الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ مُتَوَضِّئًا طَاهِرًا لِنَافِلَةٍ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ, وَلاَ طَاهِرٍ لِفَرِيضَةِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا, فَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصُّ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ وَجَدُوا لَهُ فِي الآُصُولِ نَظِيرًا, وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ نَظَرٍ وَقِيَاسٍ, وَهَذَا مِقْدَارُ نَظَرِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ, وَبَقِيَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَارِيًّا مِنْ أَنْ تَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ سَقِيمَةٍ أَوْ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ مِنْ قِيَاسٍ أَصْلا.ً

(1/235)


فهذه الوجوه تنققض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة
...
162 - مَسْأَلَةٌ: فَهَذِهِ الْوُجُوهُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَمْدًا كَانَ أَوْ نِسْيَانًا أَوْ بِغَلَبَةٍ
وَهَذَا إجْمَاعٌ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا فِيهِ الْخِلاَفُ, وَقَامَ الْبُرْهَانُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/235)


163 - مَسْأَلَةٌ: وَمَسُّ الرَّجُلِ ذَكَرَ نَفْسِهِ خَاصَّةً عَمْدًا بِأَيِّ شَيْءٍ مَسَّهُ
مِنْ بَاطِنِ يَدِهِ أَوْ مِنْ ظَاهِرِهَا أَوْ بِذِرَاعِهِ حَاشَا مَسِّهِ بِالْفَخِذِ أَوْ السَّاقِ أَوْ الرِّجْلِ مِنْ نَفْسِهِ فَلاَ يُوجِبُ وُضُوءًا وَمَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا عَمْدًا كَذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً سَوَاءً, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ, وَمَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَ غَيْرِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مَيِّتٍ أَوْ حَيٍّ بِأَيِّ عُضْوٍ مَسَّهُ عَمْدًا مِنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ, وَمَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَ غَيْرِهَا عَمْدًا أَيْضًا كَذَلِكَ سَوَاءً سَوَاءً, لاَ مَعْنَى لِلَّذَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثَوْبٍ رَقِيقٍ أَوْ كَثِيفٍ, لِلَذَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِ الْيَدِ, عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ, لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ, وَكَذَلِكَ إنْ مَسَّهُ بِغَلَبَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ حَمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا الدَّبَرِيُّ, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "تَذَاكَرَ هُوَ وَمَرْوَانُ الْوُضُوءَ, فَقَالَ مَرْوَانُ حَدَّثَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ" .

(1/235)


وأكل لحوم الإبل نية ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم لجمل إلخ
...
164 - مَسْأَلَةٌ: وَأَكْلُ لُحُومِ الإِبِلِ نِيئَةً وَمَطْبُوخَةً أَوْ مَشْوِيَّةً عَمْدًا وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ لَحْمُ
جَمَلٍ أَوْ نَاقَةٍ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَكْلُ شُحُومِهَا مَحْضَةً, وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ لَحْمِهَا, فَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى بُطُونِهَا أَوْ رُءُوسِهَا أَوْ أَرْجُلِهَا اسْمُ لَحْمٍ عِنْدَ الْعَرَبِ نَقَضَ أَكْلُهَا الْوُضُوءَ وَإِلاَّ فَلاَ, وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كُلُّ شَيْءٍ مَسَّتْهُ النَّارُ غَيْرَ ذَلِكَ, وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ, وَمِنْ الْفُقَهَاءِ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ.

(1/241)


حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلِ بْنِ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا, قَالَ الْفُضَيْلُ, حدثنا أَبُو عَوَانَةَ, عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَقَالَ الْقَاسِمُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى, عَنْ شَيْبَانَ, عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ وَأَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ كِلاَهُمَا, عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ, عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ قَالَ: إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تَتَوَضَّأْ, قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ قَالَ: نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ" .
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ أَيْمَنَ, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, حدثنا أَبِي, حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ, قَالَ: نَعَمْ" .
قال أبو محمد: “ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ أَبُو جَعْفَرٍ قَاضِي الرَّيِّ ثِقَةٌ.
قال أبو محمد: “ وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ تَعَلَّلَ فِي رَدِّ السُّنَنِ بِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى, وَإِبْطَالِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا الْوُضُوءَ غَسْلُ الْيَدِ, فَأَغْنَى, عَنْ إعَادَتِهِ, وَلَوْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بِهَذَا يُنْكِرُ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلَ

(1/242)


بِالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ يَرَى فِيهَا الْوُضُوءَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ: لَكَانَ أَوْلَى بِهِ.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّتْ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ, رضي الله عنهم,, وَقَالَ بِهِ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا, وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو مَسْعُودٍ, وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ جُمْلَةً وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو مَيْسَرَةَ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَالزُّهْرِيُّ وَسِتَّةٌ مِنْ أَبْنَاءِ النُّقَبَاءِ مِنْ الأَنْصَارِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعْمَرٌ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَغَيْرُهُمْ, وَلَوْلاَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ, حدثنا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ, حدثنا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَصَحَّ نَسْخُ تِلْكَ الأَحَادِيثِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ, حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ, حدثنا أَبُو دَاوُد, حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَثْعَمِيُّ, حدثنا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "قُرِّبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزٌ وَلَحْمٌ فَأَكَلَ ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ طَعَامِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" .
قال أبو محمد: “ الْقَطْعُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا قَوْلٌ بِالظَّنِّ, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ كَمَا وَرَدَا.

(1/243)


قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا كُلُّ حَدِيثٍ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ أَحَادِيثَ إيجَابِ الْوُضُوءِ هِيَ الْوَارِدَةُ بِالْحُكْمِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذِهِ الَّتِي هِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, وَلَوْلاَ حَدِيثُ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَمَا حَلَّ لاَِحَدٍ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ.
قال أبو محمد: “ فإن قيل: لِمَ خَصَّصْتُمْ لُحُومَ الإِبِلِ خَاصَّةً مِنْ جُمْلَةِ مَا نُسِخَ مِنْ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ
قلنا: لإِنَّ الأَمْرَ الْوَارِدَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ فِيهَا خَاصَّةً, سَوَاءٌ مَسَّتْهَا النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهَا النَّارُ, فَلَيْسَ مَسُّ النَّارِ إيَّاهَا إنْ طُبِخَتْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْهَا, بَلْ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ مِنْهَا كَمَا هِيَ, فَحُكْمُهَا خَارِجٌ, عَنِ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ, وَبِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِنْهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا أَكْلُهَا بِنِسْيَانٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمِ أَنَّهُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا, عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَسَوَاءٌ ذَلِكَ وَتَرْكُهُ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ فِي إيجَابِ حُكْمِ النِّسْيَانِ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/244)


165 - مَسْأَلَةٌ: وَمَسُّ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَالْمَرْأَةِ الرَّجُلَ بِأَيِّ عُضْوٍ مَسَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ
إذَا كَانَ عَمْدًا, دُونَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ أَوْ غَيْرُهُ, سَوَاءٌ أُمُّهُ كَانَتْ أَوْ ابْنَتُهُ, أَوْ مَسَّتْ ابْنَهَا أَوْ أَبَاهَا, الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ سَوَاءٌ, لاَ مَعْنَى لِلَّذَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ مَسَّهَا عَلَى ثَوْبٍ لِلَّذَّةِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ, وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الظَّاهِرِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
قال أبو محمد: “ وَالْمُلاَمَسَةُ فِعْلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ, وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَا

(1/244)


مُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ, لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي هَذَا لإِنَّ أَوَّلَ الآيَةِ وَآخِرَهَا عُمُومٌ لِلْجَمِيعِ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لاَزِمٌ لِلرِّجَالِ إذَا لاَمَسُوا النِّسَاءَ, وَالنِّسَاءِ إذَا لاَمَسْنَ الرِّجَالَ, وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَةً مِنْ امْرَأَةٍ, وَلاَ لَذَّةً مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ, فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ اللَّمْسَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ.
قال أبو محمد: “ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَاسًا مِنْ لِمَاسٍ فَلاَ يُبَيِّنُهُ. نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى اللِّمَاسَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ الْجِمَاعُ بِحَدِيثٍ فِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ, وَلاَ يَتَوَضَّأُ" وَهَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ ; لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو رَوْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَمِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ اسْمُهُ عُرْوَةُ الْمُزَنِيّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ, رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ, عَنْ أَصْحَابٍ لَهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ, عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ

(1/245)


وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لإِنَّ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ مَنْسُوخٌ بِيَقِينٍ لاَِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ, وَوَرَدَتْ الآيَةُ بِشَرْعٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَلاَ تَخْصِيصُهُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "الْتَمَسْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ فَلَمْ أَجِدْهُ, فَوَقَعَتْ يَدَيْ عَلَى بَاطِنِ قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ".

(1/246)


قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَاصِدِ إلَى اللَّمْسِ, لاَ عَلَى الْمَلْمُوسِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ هُوَ إلَى فِعْلِ الْمُلاَمَسَةِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُلاَمِسْ, وَدَلِيلٌ آخَرُ, وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ, وَقَدْ يَسْجُدُ الْمُسْلِمُ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ, لإِنَّ السُّجُودَ فِعْلُ خَيْرٍ, وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ وَهَذَا مَا لاَ يَصِحُّ فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ, وَلاَ أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً مُسْتَأْنَفَةً دُونَ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ, فَإِذًا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ أَصْلاً. ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ فِي صَلاَةٍ, وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام تَمَادَى عَلَيْهَا أَوْ صَلَّى غَيْرَهَا دُونَ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ وَهَذَا كُلُّهُ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ مُوَافِقًا لِلْحَالِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَهِيَ حَالٌ لاَ مِرْيَةَ فِي نَسْخِهَا وَارْتِفَاعِ حُكْمِهِ بِنُزُولِ الآيَةِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الأَخْذُ بِمَا قَدْ تُيُقِّنَ نَسْخُهُ وَتَرْكُ النَّاسِخِ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَتَادَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ وَأُمَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ يَضَعُهَا, إذَا سَجَدَ, وَيَرْفَعُهَا إذَا قَامَ" .
قال أبو محمد: “ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا لَمَسَتْ شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهِ عليه السلام, إذْ قَدْ تَكُونُ مُوَشَّحَةً بِرِدَاءٍ أَوْ بِقُفَّازَيْنِ وَجَوْرَبَيْنِ, أَوْ يَكُونُ ثَوْبُهَا سَابِغًا يُوَارِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا, وَهَذَا الأَوْلَى أَنْ يُظَنَّ بِمِثْلِهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَكُونَ كَاذِبًا, وَإِذَا كَانَ مَا ظَنُّوا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ وَمَا قلنا مُمْكِنًا

(1/247)


وَاَلَّذِي لاَ يُمْكِنُ غَيْرُهُ, فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ, وَلَمْ يَحِلَّ تَرْكُ الآيَةِ الْمُتَيَقَّنِ وُجُوبُ حُكْمِهَا لِظَنٍّ كَاذِبٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِمَا أَيَّهُمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ, وَالآيَةُ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ, فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام مَسَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فِي الصَّلاَةِ لَكَانَ مُوَافِقًا لِلْحَالِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ, وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ لَوْ صَحَّ لَهُمْ كَمَا يُرِيدُونَ فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ, وَلاَ يَحِلُّ الرُّجُوعُ إلَى الْمُتَيَقَّنِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَتَرْكُ النَّاسِخِ.
فَصَحَّ أَنَّهُمْ يُوهَمُونَ بِأَخْبَارٍ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا, يَرُومُونَ بِهَا تَرْكَ الْيَقِينِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قُبْلَةٌ, وَلاَ مُلاَمَسَةٌ لِلَذَّةٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَلاَ أَنْ يَقْبِضَ بِيَدِهِ عَلَى فَرْجِهَا كَذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِجَسَدِهِ دُونَ حَائِلٍ وَيَنْعَظُ فَهَذَا وَحْدَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وقال مالك: لاَ وُضُوءَ مِنْ مُلاَمَسَةِ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ, وَلاَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ, إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ, تَحْتَ الثِّيَابِ أَوْ فَوْقَهَا, فَإِنْ كَانَتْ الْمُلاَمَسَةُ لِلَّذَّةِ فَعَلَى الْمُلْتَذِّ مِنْهُمَا الْوُضُوءُ سَوَاءٌ كَانَ فَوْقَ الثِّيَابِ أَوْ تَحْتَهَا, أَنْعَظَ أَوْ لَمْ يُنْعِظْ, وَالْقُبْلَةُ كَالْمُلاَمَسَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وقال الشافعي كَقَوْلِنَا, إلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَسَّ شَعْرِ الْمَرْأَةِ خَاصَّةً لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
قال أبو محمد: “ أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ, وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّعَلُّقُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ فِي الآيَةِ: إنَّ الْمُلاَمَسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا هُوَ الْجِمَاعُ فَقَطْ لاَِنَّهُ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ إذَا كَانَ مَعَهَا إنْعَاظٌ,
وَأَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْقُبْلَةِ يَكُونُ مَعَهَا إنْعَاظٌ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ. وَبَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ يَكُونُ مَعَهَا إنْعَاظٌ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَهَذَا فَرْقٌ لَمْ يُؤَيِّدْهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ, وَمِنْ مُنَاقَضَاتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُبْلَةَ لِشَهْوَةٍ

(1/248)


وَاللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ الشَّهْوَةِ, وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ الشَّهْوَةِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لِشَهْوَةٍ وَاللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ رَجْعَةٌ فِي الطَّلاَقِ, بِخِلاَفِ الْقُبْلَةِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ, وَهَذَا كَمَا تَرَى لاَ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ, وَلاَ التَّعَلُّقَ بِالسُّنَّةِ, وَلاَ طَرْدَ قِيَاسٍ, وَلاَ سَدَادَ رَأْيٍ, وَلاَ تَقْلِيدَ صَاحِبٍ, وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُرَاعَاةِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ, فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ ضَبْطِ قِيَاسٍ, وَلاَ احْتِيَاطٍ, وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ, فَقَوْلٌ لاَ يُعَضِّدُهُ أَيْضًا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ خِلاَفُ ذَلِكَ كُلِّهِ, وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاَثَةُ كَمَا أَوْرَدْنَاهَا لَمْ نَعْرِفْ, أَنَّهُ قَالَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ, عَنِ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ: إذَا قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ لِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَعَنْ حَمَّادٍ: أَيُّ الزَّوْجَيْنِ قَبَّلَ صَاحِبَهُ وَالآخَرُ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ, فَلاَ وُضُوءَ عَلَى الَّذِي لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يَجِدَ لَذَّةً, وَعَلَى الْقَاصِدِ لِذَلِكَ الْوُضُوءُ. قلنا: قَدْ صَحَّ, عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادٍ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ عَلَى الْقَاصِدِ بِكُلِّ حَالٍ, وَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَاللَّذَّةُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ, وَبِهِ نَقُولُ, وَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلَ مَالِكٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ مَالِكًا لاَ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْمُلاَمَسَةِ إلاَّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا شَهْوَةٌ, ثُمَّ لاَ يَرَى الْوُضُوءَ يَجِبُ مِنْ الشَّهْوَةِ دُونَ مُلاَمَسَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لاَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى انْفِرَادِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ إيجَابُ الْوُضُوءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا.

(1/249)


وإيلاج الذكر فيث الفرج يوجب الوضوء كان معه إنزال أو لم يكن
...
166 - مَسْأَلَةٌ: وَإِيلاَجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, كَانَ مَعَهُ إنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ, حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ, حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ, حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ, حدثنا هِشَامٌ, هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ, عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَكْسَلُ, قَالَ: يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا, عَنْ شُعْبَةَ, عَنِ الْحَكَمِ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ ذَكْوَانَ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَالْوُضُوءُ لاَ بُدَّ مِنْهُ مَعَ الْغُسْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

(1/249)


167 - مَسْأَلَةٌ: وَحَمْلُ الْمَيِّتِ فِي نَعْشٍ أَوْ فِي غَيْرِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الأَسَدِيُّ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ, حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ, حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو, عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهَا فَلْيَتَوَضَّأْ" . قال أبو محمد: “ يَعْنِي الْجِنَازَةَ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ إِسْحَاقَ مَوْلَى زَائِدَةَ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِسْحَاقُ مَوْلَى زَائِدَةَ ثِقَةٌ مَدَنِيٌّ وَتَابِعِيٌّ, وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ وَغَيْرُهُ, وَرَوَى, عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِّينَاهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فِي جِنَازَةٍ, فَلَمَّا جِئْنَا دَخَلَ

(1/250)


الْمَسْجِدَ, فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْتَهُ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِي: أَمَا تَوَضَّأْتَ قُلْت: لاَ, فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ إذَا صَلَّى أَحَدُهُمْ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ تَوَضَّأَ, حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْعُو بِالطَّشْتِ فَيَتَوَضَّأُ فِيهَا.
قال أبو محمد: “ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُهُمْ, رضي الله عنهم,, لإِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الْجِنَازَةِ حَدَثٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ إلاَّ إتْبَاعُ السُّنَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَالسُّنَّةُ تَكْفِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ الَّتِي لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُمْ كَثِيرًا, كَالأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ بِبَابَيْنِ, وَكَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَلْسِ دُونَ مَا لاَ يَمْلَؤُهُ مِنْهُ, وَسَائِرُ الأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ, لَمْ يَتَعَلَّقُوا فِيهَا بِقُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ بِقِيَاسٍ, وَلاَ بِقَوْلِ قَائِلٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/251)


وظهور دم الإستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انفطاع الحيض
...
168 - مَسْأَلَةٌ: وَظُهُورُ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ أَوْ الْعِرْقِ السَّائِلِ مِنْ الْفَرْجِ إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ
فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, وَلاَ بُدَّ لِكُلِّ صَلاَةٍ تَلِي ظُهُورَ ذَلِكَ الدَّمِ سَوَاءٌ تَمَيَّزَ دَمُهَا أَوْ لَمْ يَتَمَيَّزْ, عَرَفَتْ أَيَّامَهَا أَوْ لَمْ تَعْرِفْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "اُسْتُحِيضَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ, فَأَدَعُ الصَّلاَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ, فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْك أَثَرَ الدَّمِ وَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ" .
حدثنا عبد الله بن ربيع, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ مِنْ كِتَابِهِ, عَنْ مُحَمَّدٍ, هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ

(1/251)


وَقَّاصٍ, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: "أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا كَانَ الْحَيْضُ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ, فَأَمْسِكِي, عَنِ الصَّلاَةِ, وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي فَإِنَّهُ عِرْقٌ" .
قَالَ عَلِيٌّ: فَعَمَّ عليه السلام كُلَّ دَمٍ خَرَجَ مِنْ الْفَرْجِ بَعْدَ دَمِ الْحَيْضَةِ وَلَمْ يَخُصَّ وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ, لاَِنَّهُ عِرْقٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاَةٍ عَلَى الَّتِي يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ مِنْ فَرْجِهَا مُتَّصِلاً بِدَمِ الْمَحِيضِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ, رضي الله عنها, تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, عَنْ إسْمَاعِيلَ, عَنْ أَبِي خَالِدٍ, عَنِ الشَّعْبِيِّ, عَنْ امْرَأَةِ مَسْرُوقٍ, عَنْ عَائِشَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ شُعْبَةَ, عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ, عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:

(1/252)


الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي الَّتِي يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ إنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ, وَعَنْ شُعْبَةَ, عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ.
قال أبو محمد: “ وقال أبو حنيفة فِي الْمُتَّصِلَةِ الدَّمِ كَمَا ذَكَرْنَا إنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِدُخُولِ كُلِّ وَقْتِ صَلاَةٍ, فَتَكُونُ طَاهِرًا بِذَلِكَ الْوُضُوءِ, حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلاَةٍ أُخْرَى فَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهَا وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لَهَا. وَرَوَى, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, عَنْ أَبِي يُوسُفَ, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ: إذَا تَوَضَّأَتْ إثْرَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصَّلاَةِ أَنَّهَا تَكُونُ طَاهِرًا إلَى خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ, وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ, وَحَكَى أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ طَاهِرًا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَغَلَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ.
قال أبو محمد: “ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. بَلْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَشْبَهُ بِأَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وقال مالك: لاَ وُضُوءَ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الدَّمِ إلاَّ اسْتِحْبَابًا لاَ إيجَابًا, وَهِيَ طَاهِرٌ مَا لَمْ تُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ.
وقال الشافعي وَأَحْمَدُ: عَلَيْهَا فَرْضًا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلاَةِ فَرْضٍ وَتُصَلِّيَ بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا أَحَبَّتْ, قَبْلَ الْفَرْضِ وَبَعْدَهُ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ.
قال أبو محمد: “ أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ, لاَِنَّهُ خِلاَفٌ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُنْقَطِعِ مِنْ الْخَبَرِ إذَا وَافَقَهُمْ, وَهَهُنَا مُنْقَطِعٌ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا أَخَذُوا بِهِ, وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ, عَنْ وَكِيعٍ, عَنِ الأَعْمَشِ, عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ قَالَ لاَ, إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ, فَاجْتَنِبِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ وَصَلِّي, وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ.==

الكتاب : المحلى مجلد 2 .
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

قَالَ: قَالُوا هَذَا عَلَى النَّدْبِ, قِيلَ لَهُمْ: وَكُلُّ مَا أَوْجَبْتُمُوهُ مِنَّا لاِسْتِطْهَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَعَلَّهُ نَدْبٌ, وَلاَ فَرْقَ, وَهَذَا قَوْلٌ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا مَعَ خِلاَفِهِ لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ, عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُتَعَلَّقًا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا, لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ, وَلاَ بِدَلِيلٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ بِقِيَاسٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ أَيْضًا لاَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ, وَمُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ وَلِلْقِيَاسِ, وَمَا وَجَدْنَا قَطُّ طَهَارَةً تَنْتَقِضُ بِخُرُوجِ وَقْتٍ وَتَصِحُّ بِكَوْنِ الْوَقْتِ قَائِمًا, وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِأَنْ قَالُوا: قَدْ وَجَدْنَا الْمَاسِحَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُمَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهُمَا فَنَقِيسُ عَلَيْهِمَا الْمُسْتَحَاضَةَ.
قال أبو محمد: “ الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لاَِنَّهُ قِيَاسٌ خَطَأٌ وَعَلَى خَطَإٍ, وَمَا انْتَقَضَتْ قَطُّ طَهَارَةُ الْمَاسِحِ بِانْقِضَاءِ الأَمَدِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كَمَا كَانَ, وَيُصَلِّي مَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِحَدَثٍ مِنْ الأَحْدَاثِ, وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِمَنْعِهِ مِنْ الاِبْتِدَاءِ لِلْمَسْحِ فَقَطْ, لاَ بِانْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا ذَكَرُوا فِي الْمَاسِحِ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لَكَانَ قِيَاسُهُمْ هَذَا بَاطِلاً لأَنَّهُمْ قَاسُوا خُرُوجَ وَقْتِ كُلِّ صَلاَةٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ عَلَى انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ, وَعَلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ فِي السَّفَرِ. وَهَذَا قِيَاسٌ سَخِيفٌ جِدًّا, وَإِنَّمَا كَانُوا يَكُونُونَ قَائِسِينَ عَلَى مَا ذَكَرُوا لَوْ جَعَلُوا الْمُسْتَحَاضَةَ تَبْقَى بِوُضُوئِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي الْحَضَرِ, وَثَلاَثَةً فِي السَّفَرِ, وَلَوْ فَعَلُوا هَذَا لَوَجَدُوا فِيمَا يُشْبِهُ بَعْضَ ذَلِكَ سَلَفًا, وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, فَقَدْ صَحَّ عَنْهُمْ أَنَّهَا تَغْتَسِلُ مِنْ الظُّهْرِ إلَى الظُّهْرِ, وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هَذَا فَعَارٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ سَلَفٌ, وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ حُجَّةً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ

(1/254)


مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ مَعْقُولٍ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي اُخْتُلِفَ فِيهَا, عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَشْبَهُ بِأُصُولِهِمْ ; لإِنَّ أَثَرَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ هُوَ وَقْتُ صَلاَةِ فَرْضٍ مَارًّا إلَى وَقْتِ الظُّهْرِ, وَهُوَ وَقْتُ تَطَوُّعٍ, فَالْمُتَوَضِّئَةُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ كَالْمُتَوَضِّئَةِ لِصَلاَةِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ, وَلاَ يُجْزِيهَا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فَخَطَأٌ وَمِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ فِي الدِّينِ الَّذِي لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصٌّ, وَلاَ دَلِيلٌ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ طَاهِرًا إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَطَوُّعًا وَمُحْدِثًا غَيْرَ طَاهِرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً, هَذَا مَا لاَ خَفَاءَ بِهِ وَلَيْسَ إلاَّ طَاهِرًا أَوْ مُحْدِثًا, فَإِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَإِنَّهَا تُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ, وَإِنْ كَانَتْ مُحْدِثَةً فَمَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ لاَ فَرْضًا, وَلاَ نَافِلَةً.
وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: مَنْ تَيَمَّمَ لِفَرِيضَةٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ نَافِلَةً قَبْلَ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ, وَلاَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلاَتَيْ فَرْضٍ, فَهَذَا هُوَ نَظَرُهُمْ وَقِيَاسُهُمْ وَأَمَّا تَعَلُّقٌ بِأَثَرٍ, فَالآثَارُ حَاضِرَةٌ وَأَقْوَالُهُ حَاضِرَةٌ.
قال أبو محمد: “, وَهُمْ كُلُّهُمْ يَشْغَبُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ وَجَمِيعُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ قَدْ خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَائِشَةَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ, رضي الله عنهم,, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ الْمَالِكِيُّونَ فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا, فَصَارَتْ أَقْوَالُهُمْ مُبْتَدَأَةً مِمَّنْ قَالَهَا بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/255)


قال علي لا ينقض الوضوء شيء غير ماذكرنا
...
169 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ شَيْءٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا
لاَ رُعَافٌ, وَلاَ دَمٌ سَائِلٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ أَوْ مِنْ الْحَلْقِ أَوْ مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ مِنْ الإِحْلِيلِ أَوْ مِنْ الدُّبُرِ, وَلاَ حِجَامَةٌ, وَلاَ فَصْدٌ, وَلاَ قَيْءٌ كَثُرَ أَوْ قَلَّ, وَلاَ قَلْسٌ, وَلاَ قَيْحٌ, وَلاَ مَاءٌ, وَلاَ دَمٌ تَرَاهُ الْحَامِلُ مِنْ فَرْجِهَا, وَلاَ أَذَى الْمُسْلِمِ, وَلاَ ظُلْمُهُ, وَلاَ مَسُّ الصَّلِيبِ وَالْوَثَنِ, وَلاَ الرِّدَّةُ, وَلاَ الإِنْعَاظُ لِلَذَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَلاَ الْمَعَاصِي مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا, وَلاَ شَيْءَ يَخْرُجُ

(1/255)


مِنْ الدُّبُرِ لاَ عُذْرَةَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدُّودُ وَالْحَجَرُ وَالْحَيَّاتُ, وَلاَ حُقْنَةٌ, وَلاَ تَقْطِيرُ دَوَاءٍ فِي الْمَخْرَجَيْنِ, وَلاَ مَسُّ حَيَا بَهِيمَةٍ, وَلاَ قُبُلَهَا, وَلاَ حَلْقُ الشَّعْرَ بَعْدَ الْوُضُوءِ, وَلاَ قَصُّ الظُّفْرِ, وَلاَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَصَّةٍ بَيْضَاءَ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ كُدْرَةٍ أَوْ كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ أَوْ دَمٍ أَحْمَرَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَيْضٌ, وَلاَ الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ بُرْهَانُ إسْقَاطِنَا الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ وُضُوءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَرَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الإِنْسِ وَالْجِنِّ إلاَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ, وَلاَ شَرْعَ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَتَانَا بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا كَانَ الْمُخَالِفُونَ فِيهِ حَاضِرِينَ, وَنَضْرِبُ عَمَّا قَدْ دَرَسَ الْقَوْلَ بِهِ إلاَّ ذِكْرًا خَفِيفًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ دَمٍ سَائِلٍ أَوْ قَيْحٍ سَائِلٍ أَوْ مَاءٍ سَائِلٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سَالَ مِنْ الْجَسَدِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, فَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يُنْقَضْ الْوُضُوءُ مِنْهُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا فَبَلَغَ إلَى مَوْضِعِ الاِسْتِنْشَاقِ مِنْ الأَنْفِ أَوْ إلَى مَا يَلْحَقُهُ الْغُسْلُ مِنْ دَاخِلِ الآُذُنِ فَالْوُضُوءُ مُنْتَقِضٌ, وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْوُضُوءُ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ مُخَاطٌ أَوْ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ, وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ مِنْ الآُذُنِ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ.
قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْفَمِ أَوْ مِنْ اللِّثَاتِ دَمٌ فَإِنْ كَانَ غَالِبًا عَلَى الْبُزَاقِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَمْلاَْ الْفَمَ, وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْبُزَاقِ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ تَسَاوَيَا فَيُسْتَحْسَنُ فَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْوُضُوءِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دَمٌ فَظَهَرَ وَلَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دُودٌ أَوْ لَحْمٌ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ خَرَجَ الدُّودُ مِنْ الدُّبُرِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَإِنْ عَصَبَ الْجُرْحَ نَظَرَ, فَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, وَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ.

(1/256)


مِنْ الدُّبُرِ لاَ عُذْرَةَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الدُّودُ وَالْحَجَرُ وَالْحَيَّاتُ, وَلاَ حُقْنَةٌ, وَلاَ تَقْطِيرُ دَوَاءٍ فِي الْمَخْرَجَيْنِ, وَلاَ مَسُّ حَيَا بَهِيمَةٍ, وَلاَ قُبُلَهَا, وَلاَ حَلْقُ الشَّعْرَ بَعْدَ الْوُضُوءِ, وَلاَ قَصُّ الظُّفْرِ, وَلاَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِنْ قَصَّةٍ بَيْضَاءَ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ كُدْرَةٍ أَوْ كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ أَوْ دَمٍ أَحْمَرَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَيْضٌ, وَلاَ الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: “ بُرْهَانُ إسْقَاطِنَا الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ وُضُوءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَرَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الإِنْسِ وَالْجِنِّ إلاَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَمَا عَدَاهَا فَبَاطِلٌ, وَلاَ شَرْعَ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَتَانَا بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا كَانَ الْمُخَالِفُونَ فِيهِ حَاضِرِينَ, وَنَضْرِبُ عَمَّا قَدْ دَرَسَ الْقَوْلَ بِهِ إلاَّ ذِكْرًا خَفِيفًا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: كُلُّ دَمٍ سَائِلٍ أَوْ قَيْحٍ سَائِلٍ أَوْ مَاءٍ سَائِلٍ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ سَالَ مِنْ الْجَسَدِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, فَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يُنْقَضْ الْوُضُوءُ مِنْهُ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ أَوْ الآُذُنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَمًا أَوْ قَيْحًا فَبَلَغَ إلَى مَوْضِعِ الاِسْتِنْشَاقِ مِنْ الأَنْفِ أَوْ إلَى مَا يَلْحَقُهُ الْغُسْلُ مِنْ دَاخِلِ الآُذُنِ فَالْوُضُوءُ مُنْتَقِضٌ, وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْتَقِضْ الْوُضُوءُ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الأَنْفِ مُخَاطٌ أَوْ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ, وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ مِنْ الآُذُنِ مَاءٌ فَلاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ.
قَالَ: فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ إلَى الْفَمِ أَوْ مِنْ اللِّثَاتِ دَمٌ فَإِنْ كَانَ غَالِبًا عَلَى الْبُزَاقِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ وَإِنْ لَمْ يَمْلاَْ الْفَمَ, وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْبُزَاقِ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ تَسَاوَيَا فَيُسْتَحْسَنُ فَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْوُضُوءِ, فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دَمٌ فَظَهَرَ وَلَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْجُرْحِ دُودٌ أَوْ لَحْمٌ فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ, فَإِنْ خَرَجَ الدُّودُ مِنْ الدُّبُرِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, فَإِنْ عَصَبَ الْجُرْحَ نَظَرَ, فَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ سَالَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ, وَإِنْ كَانَ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَسِلْ فَلاَ وُضُوءَ.

(1/257)


يُفَرِّقُ بَيْنَ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ وَمَا دُونَ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَيْءِ وَالْقَلْسِ, وَلاَ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَفَّاطَةٍ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَمَا يَسِيلُ مِنْ الأَنْفِ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَلاَ فِيهِ ذِكْرُ دَمٍ خَارِجٍ مِنْ الْجَوْفِ, وَلاَ مِنْ الْجَسَدِ, وَلاَ مِنْ اللَّثَاةِ, وَلاَ مِنْ الْجُرْحِ, وَإِنَّمَا فِيهِمَا الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ وَالرُّعَافُ فَقَطْ فَلاَ عَلَى الْخَبَرَيْنِ اقْتَصَرُوا, كَمَا فَعَلُوا بِزَعْمِهِمْ فِي خَبَرِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ, وَلاَ قَاسُوا عَلَيْهِمَا فَطَرَدُوا قِيَاسَهُمْ, لَكِنْ خَلَّطُوا تَخْلِيطًا خَرَجُوا بِهِ إلَى الْهَوَسِ الْمَحْضِ فَقَطْ, فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَوْ صَحَّ وَقَدْ خَالَفُوهُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ, عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَتَوَضَّأَ" فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقْتَ, أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ, عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ, عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ, عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "اسْتَقَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفْطَرَ وَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ".
قال أبو محمد: “ هَذَا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فِيهِ يَعِيشُ بْنُ الْوَلِيدِ, عَنْ أَبِيهِ وَلَيْسَا مَشْهُورَيْنِ وَالثَّانِي مُدَلِّسٌ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى مِنْ يَعِيشَ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنْ تَقَيَّأَ فَلْيَتَوَضَّأْ" وَلاَ أَنَّ وُضُوءَهُ عليه السلام كَانَ مِنْ أَجْلِ الْقَيْءِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام التَّيَمُّمُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ, وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَمْلاَُ الْفَمَ مِنْ الْقَيْءِ وَبَيْنَ مَا لاَ يَمْلَؤُهُ, وَلاَ فِيهِمَا شَيْءٌ غَيْرَ الْقَيْءِ, فَلاَ عَلَى مَا فِيهِمَا اقْتَصَرُوا, وَلاَ قَاسُوا عَلَيْهِمَا قِيَاسًا مُطَّرِدًا.
وَذَكَرُوا أَيْضًا الْحَدِيثَ الثَّابِتَ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ" وَأَوْجَبَ عليه السلام فِيهِ الْوُضُوءَ, قَالُوا: فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ عِرْقٍ سَائِلٍ.
قال علي: وهذا قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ أَنْ يَقِيسُوا دَمَ الْعِرْقِ الْخَارِجِ مِنْ الْفَرْجِ عَلَى دَمِ الْحَيْضِ الْخَارِجِ

(1/258)


مِنْ الْفَرْجِ, وَكِلاَهُمَا دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ, وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ الْفَرْجِ عَلَى دَمٍ خَارِجٍ مِنْ الْفَرْجِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَاسَ الْقَيْحُ عَلَى الدَّمِ, وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى ادِّعَاءِ إجْمَاعٍ فِي ذَلِكَ, فَقَدْ صَحَّ, عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي مِجْلَزٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَاسَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ النَّفَّاطَةِ عَلَى الدَّمِ وَالْقَيْحِ, وَلاَ يُقَاسُ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ الأَنْفِ وَالآُذُنِ عَلَى الْمَاءِ الْخَارِجِ مِنْ النَّفَّاطَةِ, وَأَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَمُ الْعِرْقِ الْخَارِجُ مِنْ الْفَرْجِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ, قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ, وَيَكُونَ الْقَيْءُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ حَتَّى يَمْلاََ الْفَمَ, ثُمَّ لَمْ يَقِيسُوا الدُّودَ الْخَارِجَ مِنْ الْجُرْحِ عَلَى الدُّودِ الْخَارِجِ مِنْ الدُّبُرِ, وَهَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَجَاسَةٌ قلنا لَهُمْ: قَدْ وَجَدْنَا الرِّيحَ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَيْسَتْ نَجَاسَةً, فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَيْهَا الْجَشْوَةَ وَالْعَطْسَةَ, لاَِنَّهَا رِيحٌ خَارِجَةٌ مِنْ الْجَوْفِ كَذَلِكَ, وَلاَ فَرْقَ وَأَنْتُمْ قَدْ أَبْطَلْتُمْ قِيَاسَكُمْ هَذَا فَنَقَضْتُمْ الْوُضُوءَ بِقَلِيلِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَكَثِيرِهِ, وَلَمْ تَنْقُضُوا الْوُضُوءَ مِنْ الْقَيْحِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْمَاءِ إلاَّ بِمِقْدَارِ مِلْءِ الْفَمِ أَوْ بِمَا سَالَ أَوْ بِمَا غَلَبَ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَرْكٌ لِلْقِيَاسِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رُوِيَ الْوُضُوءُ مِنْ الرُّعَافِ وَمِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ, عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِي الرُّعَافِ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, نَعَمْ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ, رضي الله عنهم, وَعَنْ عَطَاءٍ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَلْسِ وَالْقَيْءِ وَالْقَيْحِ, وَعَنْ قَتَادَةَ فِي الْقَيْحِ, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي الْقَلْسِ, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقَيْءِ, قلنا: نَعَمْ إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِمِلْءِ الْفَمِ, وَلَوْ كَانَ فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفَ

(1/259)


هَؤُلاَءِ نُظَرَاؤُهُمْ. فَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي أَنْفِهِ فَخَرَجَ فِيهَا دَمٌ فَفَتَّهُ بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَصَرَ بَثْرَةً بِوَجْهِهِ فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ فَفَتَّهُ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ وَقَامَ فَصَلَّى, وَعَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الرُّعَافِ وُضُوءًا وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الرُّعَافِ وُضُوءًا, وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الْقَلْسِ وُضُوءًا, وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي الْقَلْسِ وُضُوءًا.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لاَ يَرَوْنَ الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ إذَا خَرَجَ مِنْ الذَّكَرِ لِغَيْرِ لَذَّةٍ, وَهُوَ الْمَنِيُّ نَفْسُهُ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام فِيهِ الْغُسْلَ ثُمَّ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ مِنْ الْقَيْحِ يَخْرُجُ مِنْ الْوَجْهِ قِيَاسًا عَلَى الدَّمِ يَخْرُجُ مِنْ الْفَرْجِ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَهْيِهِ, عَنِ الذَّكِيَّةِ بِالسِّنِّ فَإِنَّهُ عَظْمٌ, فَرَأَوْا الذَّكَاةَ غَيْرَ جَائِزَةٍ بِكُلِّ عَظْمٍ, ثُمَّ أَتَوْا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام فِي وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّهُ عِرْقٌ فَقَاسُوا عَلَى دَمِ الرُّعَافِ وَاللَّثَاةِ وَالْقَيْحِ فَهَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ بِالْقِيَاسِ, وَمِقْدَارُ اتِّبَاعِهِمْ لِلآثَارِ, وَمِقْدَارُ تَقْلِيدِهِمْ مَنْ سَلَفَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ لِلْمَخْرَجِ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْخَارِجِ وَعَظُمَ تَنَاقُضُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا, وَتَعْلِيلُ كِلاَ الرَّجُلَيْنِ مُضَادٌّ لِتَعْلِيلِ الآخَرِ وَمُعَارِضٌ لَهُ, وَكِلاَهُمَا خَطَأٌ ; لاَِنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَدَعْوَى لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
قال أبو محمد: “ وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيَّيْنِ وَالْحَنَفِيِّينَ مَعًا: قَدْ وَجَدْنَا الْخَارِجَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مُخْتَلِفَ الْحُكْمِ, فَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ وَدَمِ النِّفَاسِ, وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ وَالْمَذْيِ, وَمِنْهُ مَا لاَ يُوجِبُ شَيْئًا كَالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ, فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ فَأَوْجَبْتُمْ فِيهِ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ, دُونَ أَنْ تُوجِبُوا فِيهِ الْغُسْلَ قِيَاسًا عَلَى مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ ذَلِكَ, أَوْ دُونَ أَنْ لاَ تُوجِبُوا فِيهِ شَيْئًا قِيَاسًا عَلَى مَا لاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ هَذَا إلاَّ التَّحَكُّمُ بِالْهَوَى الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْحُكْمَ بِهِ وَبِالظَّنِّ الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُغْنِي

(1/260)


مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا, وَمَعَ فَسَادِ الْقِيَاسِ وَمُعَارَضَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَلَمْ يَقِيسُوا هَهُنَا فَوُفِّقُوا, وَلاَ عَلَّلُوا هَهُنَا بِخَارِجٍ, وَلاَ بِمَخْرَجٍ, وَلاَ بِنَجَاسَةٍ فَأَصَابُوا, وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي تَعْلِيلِهِمْ الْمُلاَمَسَةَ بِالشَّهْوَةِ, وَفِي تَعْلِيلِهِمْ النَّهْيَ, عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ, وَالْفَأْرَةُ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ, لَوُفِّقُوا وَلَكِنْ لَمْ يُطَرِّدُوا أَقْوَالَهُمْ. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْنَا. وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ, وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مُرْسَلاَتٍ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَا, وَهَذَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ.
وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِ فَقَدْ
رُوِّينَا, عَنْ عَائِشَةَ, رضي الله عنها, قَالَتْ: يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ, وَلاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا لاَِخِيهِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: لاََنْ أَتَوَضَّأَ مِنْ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَوَضَّأَ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَدَثُ حَدَثَانِ, حَدَثُ الْفَرْجِ وَحَدَثُ اللِّسَانِ وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إنِّي لاَُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ, إلاَّ أَنْ أُحْدِثَ أَوْ أَقُولَ مُنْكَرًا, الْوُضُوءُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ. وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ: الْوُضُوءُ يَجِبُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ دَاوُد بْنِ الْمُحَبَّرِ, عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ قَتَادَةَ, عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَذَى الْمُسْلِمِ".
قَالَ عَلِيٌّ: دَاوُد بْنُ الْمُحَبَّرِ كَذَّابٌ, مَشْهُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ, وَلَكِنْ لاَ فَرْقَ بَيْنَ تَقْلِيدِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الرُّعَافِ وَالْقَيْءِ وَالْقَلْسِ, وَالأَخْذِ بِذَلِكَ الأَثَرِ السَّاقِطِ, وَبَيْنَ تَقْلِيدِ مَنْ ذَكَرْنَا هَهُنَا فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِ, وَالأَخْذِ بِهَذَا الأَثَرِ السَّاقِطِ, بَلْ هَذَا عَلَى أُصُولِهِمْ أَوْكَدُ لإِنَّ الْخِلاَفَ هُنَالِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم, مَوْجُودٌ, وَلاَ مُخَالِفَ يُعْرَفُ هَهُنَا لِعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ, رضي الله عنهم,, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا إلاَّ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ.
وَأَمَّا مَسُّ الصَّلِيبِ وَالْوَثَنِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا, عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ

(1/261)


عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ, عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: " أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه اسْتَتَابَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ, وَأَنَّ عَلِيًّا مَسَّ بِيَدِهِ صَلِيبًا كَانَتْ فِي عُنُقِ الْمُسْتَوْرِدِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ فِي الصَّلاَةِ قَدَّمَ رَجُلاً وَذَهَبَ, ثُمَّ أَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِحَدَثٍ أَحْدَثَهُ, وَلَكِنَّهُ مَسَّ هَذِهِ الأَنْجَاسَ فَأَحَبَّ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهَا وُضُوءًا "
وَرُوِّينَا أَثَرًا مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ, عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ, عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بُرَيْدَةَ وَقَدْ مَسَّ صَنَمًا فَتَوَضَّأَ".
قَالَ عَلِيٌّ: صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يُلْزِمُ مَنْ يُعَظِّمُ خِلاَفَ الصَّاحِبِ وَيَرَى الأَخْذَ بِالآثَارِ الْوَاهِيَةِ مِثْلَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ يَأْخُذَ بِهَذَا الأَثَرِ, فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَأْخُذُونَ بِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ, وَلاَ يُعْرَفُ لِعَلِيٍّ هَهُنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, رضي الله عنهم,, وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا إلاَّ فِي خَبَرٍ ثَابِتٍ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ الْقُرْآنِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ سِيَّمَا وَعَلِيٌّ رضي الله عنه قَدْ قَطَعَ صَلاَةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ, وَمَا كَانَ رضي الله عنه لِيَقْطَعَهَا فِيمَا لاَ يَرَاهُ وَاجِبًا.
فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّ هَذَا اسْتِحْبَابٌ قلنا: وَلَعَلَّ كُلَّ مَا أَوْجَبْتُمْ فِيهِ الْوُضُوءَ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ تَقْلِيدًا لِمَنْ سَلَفَ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَكَذَلِكَ الْمَذْيُ, وَهَذَا كُلُّهُ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوٍ مُخَالِفَةٌ لِلْحَقَائِقِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَاغْتَسَلَتْ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ ارْتَدَّا ثُمَّ رَاجَعَا الإِسْلاَمَ دُونَ حَدَثٍ يَكُونُ مِنْهُمَا, فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ بِأَنَّ الرِّدَّةَ حَدَثٌ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, وَهُمْ يُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لاَ تَنْقُضُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ, وَلاَ غُسْلَ الْحَيْضِ, وَلاَ أَحْبَاسَهُ السَّالِفَةَ, وَلاَ عِتْقَهُ السَّالِفَ, وَلاَ حُرْمَةَ الرَّجُلِ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّهَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قَاسُوا الْوُضُوءَ عَلَى الْغُسْلِ فِي ذَلِكَ, فَكَانَ يَكُونُ أَصَحَّ قِيَاسٍ

(1/262)


لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ صَحِيحًا, فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} قلنا هَذَا عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرًا لاَ عَلَى مَنْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ, عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقوله تعالى: {وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} شَهَادَةٌ صَحِيحَةٌ قَاطِعَةٌ لِقَوْلِنَا, لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ وَمَاتَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ, بَلْ مِنْ الرَّابِحِينَ الْمُفْلِحِينَ, وَإِنَّمَا الْخَاسِرُ مَنْ مَاتَ كَافِرًا, وَهَذَا بَيِّنٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَمَّا الدَّمُ الظَّاهِرُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ, فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أُمِّ عَلْقَمَةَ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ, وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ, وَرُوِّينَا, عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ لاَ حَائِضٌ وَرُوِيَ, عَنْ مَالِكٍ, أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ أَنَّهَا لاَ تُصَلِّي إلاَّ أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ بِهَا فَحِينَئِذٍ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي, وَلَمْ يَحِدَّ فِي الطُّولِ حَدًّا, وَقَالَ أَيْضًا لَيْسَ أَوَّلُ الْحَمْلِ كَآخِرِهِ, وَيَجْتَهِدُ لَهَا, وَلاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ الْحَامِلَ وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي, وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ الزُّهْرِيِّ, وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَدَاوُد وَأَصْحَابِهِمْ: قال أبو محمد: “ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى, عَنْ طَلاَقِ الْحَائِضِ وَأَمَرَ بِالطَّلاَقِ فِي حَالِ الْحَمْلِ, وَإِذَا كَانَتْ حَائِلاً فَصَحَّ أَنَّ حَالَ الْحَائِضِ وَالْحَائِلِ غَيْرُ حَالِ الْحَامِلِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ ظُهُورَ الْحَيْضِ اسْتِبْرَاءٌ وَبَرَاءَةٌ مِنْ الْحَمْلِ, فَلَوْ جَازَ أَنْ تَحِيضَ الْحَامِلُ لَمَا كَانَ الْحَيْضُ بَرَاءَةً مِنْ الْحَمْلِ, وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, وَإِذَا كَانَ لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقَ اسْتِحَاضَةٍ فَهُوَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْغُسْلِ, وَلاَ لِلْوُضُوءِ إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ وَكَذَلِكَ دَمُ

(1/263)


النِّفَاسِ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ, لاَِنَّهُ دَمُ حَيْضٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا بَعْدَ هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الذَّبْحِ وَالْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً, فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَكَذَلِكَ مَنْ مَسَّ الْمَرْأَةَ عَلَى ثَوْبٍ, لاَِنَّهُ إنَّمَا لاَمَسَ الثَّوْبَ لاَ الْمَرْأَةَ, وَكَذَلِكَ مَسُّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ بِغَيْرِ الْفَرْجِ وَمَسُّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَبِغَيْرِ الْفَرْجِ وَالإِنْعَاظُ وَالتَّذَكُّرُ وَقَرْقَرَةُ الْبَطْنِ فِي الصَّلاَةِ وَمَسُّ الإِبْطِ وَنَتْفُهُ وَمَسُّ الآُنْثَيَيْنِ وَالرُّفْغَيْنِ وَقَصُّ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا بَلْ فِي أَكْثَرِهِ بَلْ فِي كُلِّهِ, طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ, فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ قَرْقَرَةِ الْبَطْنِ فِي الصَّلاَةِ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي الإِنْعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ وَالْمَسِّ عَلَى الثَّوْبِ لِشَهْوَةٍ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ, وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوُضُوءِ فِي مَسِّ الإِبْطِ, عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُجَاهِدٍ, وَإِيجَابَ الْغُسْلِ مِنْ نَتْفِهِ, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْوُضُوءُ مِنْ تَنْقِيَةِ الأَنْفِ. وَرُوِّينَا, عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُجَاهِدٍ وَذَرٍّ وَالِدِ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ قَصِّ الأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّعْرِ, وَأَمَّا الدُّودُ وَالْحَجَرُ يَخْرُجَانِ مِنْ الدُّبُرِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْهُ مَالِكٌ, وَلاَ أَصْحَابُنَا, وَقَدْ رُوِّينَا, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رُفْغَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ" وَلَكِنَّهُ مُرْسَلٌ لاَ يُسْنَدُ.
وَأَمَّا الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ وَالدَّمُ الأَحْمَرُ فَسَيُذْكَرُ فِي الْكَلاَمِ فِي الْحَيْضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ حُكْمُهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقًا, فَإِذًا لَيْسَ حَيْضًا, وَلاَ عِرْقًا فَلاَ وُضُوءَ فِيهِ. إذْ لَمْ يُوجِبْ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الضَّحِكُ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّا رُوِّينَا فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَثَرًا وَاهِيًا لاَ يَصِحُّ

(1/264)


لاَِنَّهُ إمَّا مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ وَعَنِ الْحَسَنِ, عَنْ مَعْبَدِ بْنِ صُبَيْحٍ وَمَعْبَدِ الْجُهَنِيِّ, وَأَمَّا مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي الْمَلِيحِ, وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْهُ, عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فأما حَدِيثُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادَةَ التَّتَرِيِّ, عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي حَيْلَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَفِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ, وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِيهِ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ فَفِيهِ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَثَرٍ صَحِيحٍ مُسْنَدٍ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنْ الأَخْبَارِ حَتَّى ادَّعَوْا التَّوَاتُرَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَالْقَائِلِينَ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ وطَاوُوس أَنْ يَقُولُوا بِهَذِهِ الآثَارِ, فَإِنَّهَا أَشَدُّ تَوَاتُرًا مِمَّا ادَّعَوْا لَهُ التَّوَاتُرَ, وَأَكْثَرُ ظُهُورًا فِي عَدَدِ مَنْ أَرْسَلَهُ مِنْ النَّهْيِ, عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ وَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ, وَسَائِرُ مَا قَالُوا بِهِ مِنْ الْمَرَاسِيلِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ الْمُخَالِفِينَ الْخَبَرُ الصَّحِيحَ فِي الْمُصَرَّاةِ وَفِي حَجِّ الْمَرْأَةِ, عَنِ الْهَرِمِ الْحَيِّ وَفِي سَائِرِ مَا تَرَكُوا فِيهِ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ لِلْقِيَاسِ أَنْ يَرْفُضُوا هَذَا الْخَبَرَ الْفَاسِدَ قِيَاسًا عَلَى مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الضَّحِكَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ, فَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ أَنْ يَنْقُضَهُ فِي الصَّلاَةِ, وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَطَّرِدُونَ الْقِيَاسَ, وَلاَ يَتَّبِعُونَ السُّنَنَ, وَلاَ يَلْتَزِمُونَ مَا أَحَلُّوا مِنْ قَبُولِ الْمُرْسَلِ وَالْمُتَوَاتِرِ, إلاَّ رَيْثَمَا

(1/265)


يَأْتِي مُوَافِقًا لاِرَائِهِمْ أَوْ تَقْلِيدِهِمْ, ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ رَافِضِينَ لَهُ إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَآرَاءَهُمْ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.وَيُقَالُ لَهُمْ: فِي أَيِّ قُرْآنٍ أَوْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ أَوْ فِي أَيِّ قِيَاسٍ وَجَدْتُمْ تَغْلِيظَ بَعْضِ الأَحْدَاثِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا, وَتَخْفِيفُ بَعْضِهَا قَدْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلاَّ مِقْدَارًا حَدَّدْتُمُوهُ مِنْهَا وَالنَّصُّ فِيهَا كُلِّهَا جَاءَ مَجِيئًا وَاحِدًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ", وَلاَ يَخْفَى عَلَى ذِي عَقْلٍ أَنَّ بَعْضَ الْحَدَثِ حَدَثٌ, فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ, وَمَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فَكَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ لاَ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(1/266)


المجلد الثاني
المجلد الخامس
تابع كتاب الصلاة
تابع صلاة المسافر
من خرج عن بيوت مدينته أو قريته أو موضع سكناه فمشى ميلا فصاعدا
...
بِسْمِ اللََّهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
513 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ خَرَجَ، عَنْ بُيُوتِ مَدِينَتِهِ, أَوْ قَرْيَتِهِ, أَوْ مَوْضِعِ سُكْنَاهُ فَمَشَى مِيلاً فَصَاعِدًا:
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ بُدَّ إذَا بَلَغَ الْمِيلَ, فَإِنْ مَشَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ: صَلَّى أَرْبَعًا.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه كَتَبَ: إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً يَخْرُجُونَ إمَّا لِجِبَايَةٍ, وَأَمَّا لِتِجَارَةٍ, وَأَمَّا لِجَشَرٍ1 ثُمَّ لاَ يُتِمُّونَ الصَّلاَةَ, فَلاَ تَفْعَلُوا, فَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
مَنْ كَانَ شَاخِصًا, أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ2.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ: لاَ يُصَلِّي3 الرَّكْعَتَيْنِ جَابٍ, وَلاَ تَاجِرٌ, وَلاَ تَانٍ, إنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ كَانَ مَعَهُ4 الزَّادُ وَالْمَزَادُ5.
قَالَ عَلِيٌّ: الثَّانِي هُوَ صَاحِبُ الضَّيْعَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَكَذَا فِي كِتَابِي وَصَوَابُهُ عِنْدِي: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ.
ـــــــ
1 بفتح الجيم والشين المعجمة قال في اللسان "وفي حديث عثمان ضي الله عنه أنه قال: لا يغرنكم جشركم من صلاتكم فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو يحضره عدو, قال أبو عبيد: الجشر القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى وبتيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت وربما رأوه سفرا فقصروا الصلاة ف4نهاهم عن ذلك لأن المقام في المرعى وإن طال فليس بسفر" ا هـ وفي النسخة رقم "16" "لجش" وهو تصحيف وخطأ.
2 انظر الطحاوي "ج 1 ص 247".
3 في النسخة رقم "45" "لا يصل".
4 في النسخة رقم "16" "مع" وهو خطأ.
5 انظر الطحاوي "ج 1 ص 247".

(5/2)


وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاَ يَغُرَّنَّكُمْ سَوَادُكُمْ هَذَا مِنْ صَلاَتِكُمْ, فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَأْذَنْته أَنْ آتِيَ أَهْلِي بِالْكُوفَةِ, فَأَذِنَ لِي وَشَرَطَ عَلَيَّ أَنْ لاَ أُفْطِرَ، وَلاَ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ إلَيْهِ, وَبَيْنَهُمَا نَيِّفٌ وَسِتُّونَ مِيلاً.
وَهَذِهِ أَسَانِيدُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنْ لاَ يَقْصُرَ إلَى السَّوَادِ, وَبَيْنَ الْكُوفَةِ وَالسَّوَادِ: سَبْعُونَ مِيلاً1.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ, وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: لاَ يَطَأُ أَحَدُكُمْ بِمَاشِيَتِهِ أَحْدَابَ الْجِبَالِ, وَبُطُونَ الأَوْدِيَةِ, وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَفَرٌ, لاَ، وَلاَ كَرَامَةَ, إنَّمَا التَّقْصِيرُ فِي السَّفَرِ الْبَاتُّ, مِنْ الآُفُقِ إلَى الآُفُقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِم، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ: الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ شُقَيْقِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ قَصْرِ الصَّلاَةِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى وَاسِطَ.
فَقَالَ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي ذَلِكَ, وَبَيْنَهُمَا مِائَةُ مِيلٍ وَخَمْسُونَ مِيلاً.
فَهُنَا قَوْلٌ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ أَدْنَى مَا يُقْصِرُ الصَّلاَةَ إلَيْهِ: مَالٌ لَهُ بِخَيْبَرَ, وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلاَثٍ فَوَاصِلٌ2 لَمْ يَكُنْ يُقْصِرُ فِيمَا دُونَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَحُمَيْدٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقْصِرُ الصَّلاَةَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَخَيْبَرَ, وَهِيَ كَقَدْرِ الأَهْوَازِ مِنْ الْبَصْرَةِ, لاَ يَقْصُرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَخَيْبَرَ كَمَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ, وَالأَهْوَازِ: وَهُوَ مِائَةُ مِيلٍ وَاحِدَةٌ غَيْرُ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ.
ـــــــ
1 الكلمة تقرأ في الأصل "سبعون" تقرأ "تسعون" لإهمالها واشتباه رسمها.
2 هكذا في النسخة رقم "16" وفي النسخة رقم "45" "قواصد" بدون نقط وكلاهما ظاهر أنه خطأ والظن أن الكلمة محرفة فيحرر.

(5/3)


وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, ثُمَّ، عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ:، أَنَّهُ قَالَ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلِّ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلاً, كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ, وَبَغْدَادَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيِّ1 الأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنْ تَقْصِيرِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: حَاجٌّ, أَوْ مُعْتَمِرٌ, أَوْ غَازٍ قُلْت: لاَ, وَلَكِنَّ أَحَدَنَا تَكُونُ لَهُ الضَّيْعَةُ بِالسَّوَادِ, فَقَالَ: تَعْرِفُ السُّوَيْدَاءَ قُلْت: سَمِعْت بِهَا وَلَمْ أَرَهَا, قَالَ: فَإِنَّهَا ثَلاَثٌ وَلَيْلَتَانِ2 وَلَيْلَةٌ لِلْمُسْرِعِ, إذَا خَرَجْنَا إلَيْهَا قَصَرْنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى السُّوَيْدَاءِ: اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا.
َهَذِهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى يَقُولُ: سَمِعْت سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ يَقُولُ: إذَا سَافَرْت ثَلاَثًا فَاقْصُرْ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, كِلاَهُمَا، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ فِي قَصْرِ الصَّلاَةِ, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَتِهِ: مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ: إلَى نَحْوِ الْمَدَائِنِ يَعْنِي مِنْ الْكُوفَةِ, وَهُوَ نَحْوُ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, لاَ يَتَجَاوَزُ ثَلاَثَةً وَسِتِّينَ، وَلاَ يَنْقُصُ، عَنْ وَاحِدٍ وَسِتِّينَ.
وَبِهَذَيْنِ التَّحْدِيدَيْنِ جَمِيعًا يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الثَّلاَثِ: سَيْرُ الأَقْدَامِ وَالثِّقَلِ وَالإِبِلِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ, وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ تَحْدِيدَ الثَّلاَثِ.
َعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَصْرِ الصَّلاَةِ: فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ: حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ لَيْلَتَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ إلاَّ فِي لَيْلَتَيْنِ, وَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ3 تَحْدِيدَ اللَّيْلَتَيْنِ.
ـــــــ
1 في النسخةرقم "16" "علي بن ربيعة الرأي" وهو خطأ غريب.
2 كذا في الأصل بنصب لبلتبن.
3 في النسخة رقم "16" "عنده" وهو خطأ.

(5/4)


وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ, قَالَ: وَبِهِ يَأْخُذُ قَتَادَةُ.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ وَلَمْ نَجِدْ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلاَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَحْدِيدَ الْيَوْمَيْنِ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا سَافَرْت يَوْمًا إلَى الْعِشَاءِ فَأَتِمَّ, فَإِنْ زِدْت فَقَصْرٌ.
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ: حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، عَنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ, إلاَّ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ1 فِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ2، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى عَرَفَةَ قَالَ: لاَ, وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ, فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلاً.
وَعَنْ مَعْمَرٍ أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.
َهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَبِهَذَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ, وَمَالِكٌ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِهِ عَنْهُ. وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ أَرْضٌ لاَ أَمْيَالَ فِيهَا فَلاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلثِّقَلِ قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ إلَيَّ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا. وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي أَرْبَعِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا.
وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ مِيلاً فَصَاعِدًا ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَبْسُوطِ. وَرَأَى لاَِهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً فِي الْحَجِّ خَاصَّةً: أَنْ يَقْصُرُوا الصَّلاَةَ إلَى مِنًى فَمَا فَوْقَهَا, وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ:، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ خَرَجَ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ كَالرِّعَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَتَأَوَّلَ فَأَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ فَقَطْ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "اختلفوا".
2 الغاز: بالغين المعجمة والزاي وبينهما ألف, والجرشي: بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة. وفي النسخة رقم "16" "هشام بن ربيعة أبو الغاز الجرشي" وفي النسخة رقم "45" "هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي" وكلاهما خطأ والصواب ما ذكرنا.

(5/5)


وَرُوِّينَا، عَنِ الشَّافِعِيِّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً بِالْهَاشِمِيِّ.
وَهَهُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ شُبَيْلٍ1، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى الآُبُلَّةِ قَالَ: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فِي يَوْمٍ قُلْت: نَعَمْ, قَالَ: لاَ, إلاَّ يَوْمٌ مُتَاحٌ.
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ, قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَقْصُرُ إلَى مِنًى أَوْ عَرَفَةَ قَالَ: لاَ, وَلَكِنْ إلَى الطَّائِفِ, أَوْ جُدَّةَ, أَوْ عُسْفَانَ, فَإِذَا وَرَدْت عَلَى مَاشِيَةٍ لَك, أَوْ أَهْلٍ: فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ عُسْفَانَ إلَى مَكَّةَ بِتَكْسِيرِ الْحُلَفَاءِ2 اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِيلاً. وَأَخْبَرَنَا الثِّقَاتُ أَنَّ مِنْ جُدَّةَ إلَى مَكَّةَ: أَرْبَعِينَ مِيلاً3.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ إلاَّ فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَعَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَافَرَ إلَى رِيمٍ فَقَصَرَ الصَّلاَةَ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَهِيَ عَلَى ثَلاَثِينَ مِيلاً مِنْ الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: إذَا خَرَجْتَ فَبِتَّ فِي غَيْرِ أَهْلِكَ فَاقْصُرْ, فَإِنْ أَتَيْتَ أَهْلَكَ فَأَتْمِمْ.
وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي يَوْمٍ تَامٍّ وَلَمْ نَجِدْ، عَنْ هَؤُلاَءِ تَحْدِيدَ الْيَوْمِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَدَ إلَى ذَاتِ النُّصْبِ, وَكُنْت أُسَافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ الْبَرِيدَ فَلاَ يَقْصُرُ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ذَاتُ النُّصْبِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ4 بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى ذَاتِ النُّصْبِ وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَلَمَّا أَتَاهَا قَصَرَ الصَّلاَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ
ـــــــ
1 شبيل بضم الشين المعجمة وهو ابن عزرة بن عمير الضبعي وشيخه أبو جمرة – بالجيم والراء- اسمهلا نصر ابن عمران الصبعي وفي النسخة رقم "16" "شبيل بن جمرة" وهو خطأ.
2 كذا في الأصلين.
3 ما بين جدة ومكة من سبعين إلى ثمانين ألف متر تقريبا فهو أكثر من أربعين ميلا.
4 بالخاء المعجمة مصغر.

(5/6)


سَبْرَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَرَجَ إلَى النُّخَيْلَةِ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ, وَالْعَصْرَ: رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ, وَقَالَ: "أَرَدْت أَنْ أُعَلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ1، حدثنا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: خَرَجْت مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى أَرْضِهِ بِبَذْقِ سِيرِينَ وَهِيَ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى بِنَا الْعَصْرَ فِي سَفِينَةٍ, وَهِيَ تَجْرِي بِنَا فِي دَجْلَةَ قَاعِدًا عَلَى بِسَاطٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبَزَّازِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ ابْنِ السِّمْطِ هُوَ شُرَحْبِيلُ أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا يُقَالُ لَهَا "دَوْمِينُ" مِنْ حِمْصٍ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلاً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, فَقُلْت لَهُ: أَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يُصَلِّي بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ, وَقَالَ: "أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ"2.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ السِّمْطِ هُوَ شُرَحْبِيلُ إلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا "دَوْمِينُ" مِنْ حِمْصٍ عَلَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ مِيلاً, فَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ, وَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُصَلِّي بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: "أَفْعَلُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى شُرَحْبِيلَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ3.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَمْ يَسْأَلْهُ، وَلاَ أُنْكِرُ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْوَرْدِ بْنِ ثُمَامَةَ4، عَنِ اللَّجْلاَجِ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ فَيَتَجَوَّزُ فِي الصَّلاَةِ فَيُفْطِرُ5 وَيَقْصُرُ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من طريق حماد بن زيد" بدون نقط وهو خطأ.
2 كلمة "يفعل" سقطت من النسخة رقم "16".
3 في النسخة رقم "16" "عن ابن عمير".
4 في النسخة رقم "45" "عن أبي الورد عن ثمامة" وهو خطأ.
5 في النسخة رقم "16" "فيفطر" وما هنا أحسن.

(5/7)


وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْت مُيَسَّرَ1 بْنَ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ2 مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ رَدِيفُهُ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ, فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ, وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا مُيَسَّرُ بْنُ عِمْرَانَ, وَأَبُوهُ عِمْرَانُ بْنُ عُمَيْرٍ شَاهِدٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: عُمَيْرٌ هَذَا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا طَائِيٌّ وَلاَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ, مَشْهُورٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرٌ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ, يَعْنِي الصَّلاَةَ.
مُحَارِبٌ هَذَا سُدُوسِيٌّ قَاضِي الْكُوفَةِ, مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ, أَحَدُ الأَئِمَّةِ, وَمِسْعَرٌ أَحَدُ الأَئِمَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْتُ مِيلاً قَصَرْت الصَّلاَةَ.
جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ تَابِعٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ كِلاَهُمَا، عَنْ غُنْدَرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ3 قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنْ قَصْرِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاَثَةِ فَرَاسِخَ شَكَّ شُعْبَةُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ أَنَسٌ إذَا سُئِلَ إلاَّ بِمَا يَقُولُ بِهِ
ـــــــ
1 بضم الميم وفتح الياء المثناة وكسر السين المهملة المشددة وآخره راء.
2 كلمة "خرج" سقطت من النسخة رقم "16" خطأ.
3 بضم الهاء وفتح النون وكسر الهمزة.

(5/8)


وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ: أَنَّ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ أَفْطَرَ فِي مَسِيرٍ لَهُ مِنْ الْفُسْطَاطِ إلَى قَرْيَةٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ مِنْهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ: حدثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَتْ لِي أَرْضٌ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ فَلَمْ أَدْرِ أَأَقْصُرُ الصَّلاَةَ إلَيْهَا أَمْ أُتِمُّهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ: أَأَقْصُرُ الصَّلاَةَ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ: نَعَمْ, وَهَذَا إسْنَادٌ كَالشَّمْسِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَمْعَةَ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ هُوَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: يُقْصَرُ فِي مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت إلَى دَيْرِ الثَّعَالِبِ لَقَصَرْت.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمٍ أَنَّهُمَا أَمَرَا رَجُلاً مَكِّيًّا بِالْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى, وَلَمْ يَخُصَّا حَجًّا مِنْ غَيْرِهِ, وَلاَ مَكِّيًّا مِنْ غَيْرِهِ.
وَصَحَّ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ هَانِئٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ, وَقَبِيصَةِ بْنِ ذُؤَيْبٍ: الْقَصْرُ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلاً1. وَبِكُلِّ هَذَا نَقُولُ, وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي السَّفَرِ: إذَا كَانَ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا فِي حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ جِهَادٍ, وَفِي الْفِطْرِ, فِي كُلِّ سَفَرٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهِمَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, وَدِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأَنَسٌ, وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَالشَّعْبِيُّ, وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ, وَكُلْثُومُ بْنُ هَانِئٍ, وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ, وَغَيْرُهُمْ. وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَيَدْخُلُ فِيمَنْ قَالَ بِهَذَا: مَالِكٌ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ, عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الْمُفْطِرِ مُتَأَوِّلاً, وَفِي الْمَكِّيِّ يَقْصُرُ بِمِنًى وَعَرَفَةَ.
ـــــــ
1 البضع في العدد بكسر الباء بعض العرب يفتحها وهو ما بين الثلاث إلى التسع, والميل بكسر اللام منتهى مد البصر والفرسخ ثلاثة أميال ا هـ الجوهري.

(5/9)


قَالَ عَلِيٌّ: وَإِنَّمَا تَقَصَّيْنَا الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الأَبْوَابِ, لاَِنَّنَا وَجَدْنَا الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ قَدْ أَخَذُوا يُجَرِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلِهِمْ بَلْ قَدْ هَجَمَ عَلَى ذَلِكَ كَبِيرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ وَكَبِيرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَمْ أَجِدْ أَحَدًا قَالَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقَصْرِ فِيمَا قلنا بِهِ, فَهُوَ إجْمَاعٌ وَقَالَ الآخَرُ: قَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ فَاحْتَسَبْنَا الأَجْرَ فِي إزَالَةِ ظُلْمَةِ كَذِبِهِمَا، عَنِ الْمُغْتَرِّ بِهِمَا, وَلَمْ نُورِدْ إلاَّ رِوَايَةً مَشْهُورَةً ظَاهِرَةً عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّقْلِ, وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ صِبْيَانِ الْمُحَدِّثِينَ, فَكَيْفَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ1.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْدِيدِ مَا يُقْصَرُ فِيهِ بِالسَّفَرِ, مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ, وَحَيْثُ يُحْمَلُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَفِي سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً, وَفِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلاً, وَفِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً, وَفِي ثَلاَثَةٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, أَوْ فِي أَحَدٍ وَسِتِّينَ مِيلاً, أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ أَرْبَعِينَ مِيلاً, أَوْ سِتَّةٍ وَثَلاَثِينَ مِيلاً: فَمَا لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلا، وَلاَ مُتَعَلِّقَ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ لاَ مُخَالِفٍ لَهُ مِنْهُمْ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهِ.
ثُمَّ نَسْأَلُ مَنْ حَدَّ مَا فِيهِ الْقَصْرُ, وَالْفِطْرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ أَيِّ مِيلٍ هُوَ ثُمَّ نَحُطُّهُ
ـــــــ
1 هذه الكتب التي كانت متداولة عند صبيان المحدثين في عصر ابن حزم – القرن الخامس ومن أهمها مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق واختلاف العلماء لابن المنذر -: صارت في عصرنا هذا بل وقبله بقرون من النوادر الغالية التي لا يسمع اسمها إلا الخواص من كبار المطلعين على كتب السنة, وعامة المشتغلين بالحديث لا يعرفونها, وأصولها فقدت تقريبا من المكاتب الإسلامية وبقيت منها قطع قليلة, وقد علمنا أن مصنف ابن أبي شيبة يوجد منه نسختان بمكاتب الاستانة ولا ندري ماذا يفعل بهما الأتراك وبغيرهما من كتب الإسلام النادرة بعد أن أعلنوا خروجهم على الدين وأبدوا صفحتهم في عداء الإسلا؟ وسمعنا أيضا أن مصنف عبد الرزاق موجود في الأقطار اليمنية حفظها الله با هذا المحلى نفسه نلقي كل مشقة في سبيل تصحيح أصوله بعد أن كادت نسخة تفقد من بلاد الإسلام, لولا أن قيض الله لاحيائه الستاذ الشيخ "محمد منير الدمشقي" مدير إدارة الطباعة المنيرية حفظه الله وجزاه عم المسلمين أحسن الجزاء ة. ولعل ناشري الكتب في العالم الإسلامي يهتمون بنشر ما يجدون من آثار لعلمائتا لو كانت في أمة من الأمم الأخرىلطاروا بها. والله الههدي إلى سواء السبيل.

(5/10)


مِنْ الْمِيلِ عَقْدًا أَوْ فَتَرًا أَوْ شِبْرًا, وَلاَ نَزَالُ نَحُطُّهُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ, أَوْ تَرْكِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَسَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ التَّحْدِيدُ بِالأَمْيَالِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا, وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمَا أَشَدُّ الاِخْتِلاَفِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَحُمَيْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ, وَوَافَقَهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً.
وَرَوَى مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْصُرُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ, وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْقَصْرِ فِي أَقَلَّ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّامِّ وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُقْصَرُ فِي الْبَرِيدِ. وقال مالك: ذَاتُ النُّصْبِ, وَرِيمٌ: كِلْتَاهُمَا مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.
وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيُّ: لاَ قَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ثَلاَثِينَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ أَخِيهِ حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ وَأَعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ قَصَرَ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً.
وَرَوَى عَنْهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ, وَجَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ وَكُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ: الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ, وَفِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ, وَفِي مِيلٍ وَاحِدٍ, وَفِي سَفَرِ سَاعَةٍ. وَأَقْصَى مَا يَكُونُ سَفَرُ السَّاعَةِ مِنْ مِيلَيْنِ إلَى ثَلاَثَةٍ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ: الْقَصْرَ إلَى عُسْفَانَ, وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِيلاً, وَإِذَا وَرَدْت عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَأَتِمَّ, وَلاَ تَقْصُرْ إلَى عَرَفَةَ، وَلاَ مِنًى.
وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ: لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ, لَكِنْ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَرَوَى عَنْهُ أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ: لاَ قَصْرَ إلاَّ فِي يَوْمٍ مُتَاحٍ1.
وَقَدْ خَالَفَهُ مَالِكٌ فِي أَمْرِهِ عَطَاءً: أَنْ لاَ يَقْصُرَ إلَى مِنًى، وَلاَ إلَى عَرَفَةَ, وَعَطَاءٌ مَكِّيٌّ, فَمِنْ
ـــــــ
1 بتشديد التاء المثناة من فوق أي يوم يمتد سيره من أول النهار إلى خره ومتح النهار إذا طال وامتد.

(5/11)


الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ قَوْلِهِ حُجَّةً وَجُمْهُورُ قَوْلِهِ لَيْسَ حُجَّةً!!
وَخَالَفَهُ أَيْضًا مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: إذَا قَدِمْت عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
فَحَصَلَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: خَارِجًا، عَنْ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُ تَحْدِيدُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَلاَ وُجِدَ بَيِّنًا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ حَدَّ مَا فِيهِ الْقَصْرُ بِذَلِكَ. وَلَعَلَّ التَّحْدِيدَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ دُونِ عَطَاءٍ, وَهُوَ هِشَامُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَنَعَ الْقَصْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَسَقَطَتْ أَقْوَالُ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِالأَمْيَالِ الْمَذْكُورَةِ سُقُوطًا مُتَيَقَّنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى قَوْلِ مَنْ حَدَّ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ يَوْمَيْنِ, أَوْ يَوْمٍ وَشَيْءٍ زَائِدٍ, أَوْ يَوْمٍ تَامٍّ, أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ: فَلَمْ نَجِدْ لِمَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقًا أَصْلاً, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
فَنَظَرْنَا فِي الأَقْوَالِ الْبَاقِيَةِ1 فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُتَعَلِّقًا إلاَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ: فِي بَعْضِهَا: "ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "لَيْلَتَيْنِ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ". فَتَعَلَّقَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّا ذَكَرْنَا.
فأما مَنْ تَعَلَّقَ بِلَيْلَتَيْنِ, أَوْ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ: فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ أَصْلاً; لاَِنَّهُ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ بِيَوْمٍ, وَجَاءَ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, فَلاَ مَعْنَى لِلتَّعَلُّقِ بِالْيَوْمَيْنِ, وَلاَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ, دُونَ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ الآخَرَيْنِ أَصْلاً. وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْغَبَ هَاهُنَا بِالتَّعَلُّقِ بِالأَكْثَرِ مِمَّا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ, أَوْ بِالأَقَلِّ مِمَّا ذُكِرَ فِيهِ وَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِعَدَدٍ قَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَقَلَّ مِنْهُ, أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ, فَلاَ وَجْهَ لَهُ أَصْلاً, فَسَقَطَ هَذَانِ الْقَوْلاَنِ أَيْضًا.
فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالثَّلاَثِ, أَوْ بِالْيَوْمِ: فَكَانَ مِنْ شَغَبِ مَنْ تَعَلَّقَ بِالْيَوْمِ أَنْ قَالَ: هُوَ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ, فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي مَا دُونَهُ بِخِلاَفِهِ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا لِمَا يُقْصَرُ فِيهِ قَالُوا: وَكَانَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِّنَا قَدْ اسْتَعْمَلَ حُكْمَ اللَّيْلَتَيْنِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالثَّلاَثِ, وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ حُكْمِ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ شَيْئًا: وَهَذَا أَوْلَى مِمَّنْ أَسْقَطَ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "الثابتة" وهو خطأ.

(5/12)


قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: تَأْتُوا بِشَيْءٍ فَإِنْ كُنْتُمْ إنَّمَا تَعَلَّقْتُمْ بِالْيَوْمِ; لاَِنَّهُ أَقَلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ, وَقَدْ جَهِلْتُمْ أَوْ تَعَمَّدْتُمْ!
فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ لَيْلَةً إلاَّ وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا".
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "أَنْ تُسَافِرَ بَرِيدًا" وَسَعِيدٌ أَدْرَكَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعَ مِنْهُ.
فَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, ثُمَّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ, وَعَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِ، وَلاَ اُخْتُلِفَ عَنْهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ, هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ, وَلاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
فَعَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ كُلَّ سَفَرٍ دُونَ الْيَوْمِ وَدُونَ الْبَرِيدِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا, وَكُلُّ سَفَرٍ

(5/13)


قَلَّ أَوْ طَالَ فَهُوَ عَامٌّ لِمَا فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ وَكُلُّ مَا فِي سَائِرِ الأَحَادِيثِ فَهُوَ بَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فَهُوَ الْمُحْتَوِي عَلَى جَمِيعِهَا, وَالْجَامِعُ لَهَا كُلِّهَا, وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى مَا فِيهِ إلَى غَيْرِهِ, فَسَقَطَ قَوْلُ مَنْ تَعَلَّقَ بِالْيَوْمِ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِالثَّلاَثِ فَوَجَدْنَاهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِذِكْرِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَبِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْحِ: "لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثًا بِلَيَالِيِهِنَّ, وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً" لَمْ نَجِدْهُمْ مَوَّهُوا بِغَيْرِ هَذَا أَصْلاً.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالُوا: مَنْ تَعَلَّقَ بِالثَّلاَثِ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الصَّوَابِ1, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ عليه السلام ذَكَرَ نَهْيَهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا قَبْلَ نَهْيِهِ، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ: فَالْخَبَرُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْيَوْمُ هُوَ الْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ, وَيَبْقَى نَهْيُهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ, بَلْ ثَابِتٌ كَمَا كَانَ. وَإِنْ كَانَ ذُكِرَ نَهْيُهُ، عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا بَعْدَ نَهْيِهِ، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ: فَنَهْيُهُ عَنِ السَّفَرِ ثَلاَثًا هُوَ النَّاسِخُ لِنَهْيِهِ إيَّاهَا عَنِ السَّفَرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ قَالُوا: فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ حُكْمِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ ثَلاَثًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَعَلَى شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ النَّهْيِ لَهَا عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْيَقِينُ لِلشَّكِّ!!
قال علي: وهذا تَمْوِيهٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّهْيُ أَنْ تُسَافِرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ2 فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَوَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إلاَّ وَمَعَهَا أَخُوهَا أَوْ أَبُوهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ ابْنُهَا, أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا".
فَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الثَّلاَثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مُخْرِجًا لِمَا دُونَ الثَّلاَثِ, مِمَّا3 قَدْ ذُكِرَ أَيْضًا
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من الصلوات" وما هنا أحسن وأصح.
2 في النسخة رقم "45" "لا تسافر امرأة".
3 في النسخة رقم "45" "لما" وهو خطأ.

(5/14)


فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ, عَنْ حُكْمِ الثَّلاَثِ: فَإِنَّ ذِكْرَ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُخْرِجٌ لِلثَّلاَثِ أَيْضًا, وَإِنْ ذُكِرَتْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ حُكْمِ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ, وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ مُتَحَكِّمُونَ بِالْبَاطِلِ.
وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ حُكْمِ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ وَبَقَائِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ, وَعَلَى شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ بَقَاءِ النَّهْيِ، عَنِ الثَّلاَثِ, كَمَا قَالُوا فِي الثَّلاَثِ وَفِيمَا دُونَهَا سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ.
فَقَالُوا: لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الثَّلاَثِ وَبَيْنَ مَا فَوْقَ الثَّلاَثِ فَقِيلَ لَهُمْ: قُلْتُمْ بِالْبَاطِلِ, قَدْ صَحَّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ حَدَّ مَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ لاَ بِثَلاَثٍ.
فَكَيْفَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلٌ قَالَه رَجُلاَنِ مِنْ التَّابِعِينَ, وَرَجُلاَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ, وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ فَمَا يَعُدُّهُ إجْمَاعًا إلاَّ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ حَيَاءَ!!
فَكَيْفَ وَإِذْ قَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَدَّ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً إلَى السُّوَيْدَاءِ مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ, فَإِنَّ تَحْدِيدَهُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ: أَنْ لاَ قَصْرَ فِيمَا دُونَهُ لِسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلاً: مُوجِبٌ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثٍ, لإِنَّ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِيلاً, وَمُحَالٌ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ ثَلاَثًا مُسْتَوِيَةً!!
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ حَدَّ بِالْيَوْمِ الْوَاحِدِ, وَقَوْلُهُمْ: نَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صِحَّةِ اسْتِعْمَالِنَا نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا وَاحِدًا مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وَنَهْيَهَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ سَفَرِهَا ثَلاَثًا هُوَ الأَوَّلُ أَوْ هُوَ الآخِرُ, فَإِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ أَيْضًا، عَنِ الْيَوْمِ, وَلَيْسَ تَأْخِيرُ نَهْيِهَا، عَنِ الثَّلاَثِ بِنَاسِخٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عليه السلام عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, وَأَنْتُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ لِنَهْيِهِ عليه السلام لَهَا عَمَّا دُونَ الثَّلاَثِ, وَخِلاَفُ أَمْرِهِ عليه السلام بِغَيْرِ يَقِينٍ لِلنَّسْخِ لاَ يَحِلُّ, فَتَعَارَضَ الْقَوْلاَنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا قَاضٍ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ, وَكُلُّهَا بَعْضُ مَا فِيهِ, فَلاَ يَجُوزُ1 أَنْ يُخَالِفَ مَا فِيهِ أَصْلاً لإِنَّ مَنْ عَمِلَ بِهِ فَقَدْ عَمِلَ بِجَمِيعِ الأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ, وَمَنْ عَمِلَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ دُونَ سَائِرِهَا فَقَدْ خَالَفَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "فلا يجب" وما هنا أصح.

(5/15)


صلى الله عليه وسلم, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ لَوْ لَمْ تَتَعَارَضْ الرِّوَايَاتُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ نَهْيُ الْمَرْأَةِ، عَنْ سَفَرِ مُدَّةٍ مَا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ مُدَّةُ مَسْحِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ ذِكْرٌ أَصْلاً لاَ بِنَصّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا وَيُفْطِرُ, وَلاَ يَقْصُرُ, وَلاَ يُفْطِرُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْقَصْرَ فِي الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ مَعَ الْخَوْفِ. وَذَكَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَذَكَرَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ فَجَعَلَ هَؤُلاَءِ حُكْمَ نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَحُكْمُ مَسْحِ الْمُسَافِر: دَلِيلٌ عَلَى مَا يَقْصُرُ فِيهِ وَيُفْطِرُ, دُونَ مَا لاَ قَصْرَ فِيهِ، وَلاَ فِطْرَ, وَلَمْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلاً عَلَى السَّفَرِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ فِيهِ مِنْ السَّفَرِ الَّذِي لاَ يُتَيَمَّمُ فِيهِ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, وَمَا لاَ تُقْصَرُ فِيهِ عَلَى مَا تُسَافِرُ فِيهِ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَمَا لاَ تُسَافِرُهُ, وَعَلَى مَا يَمْسَحُ فِيهِ الْمُقِيمُ, وَمَا لاَ يَمْسَحُ.
قلنا لَهُمْ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ هَذَا وَمَا الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ أَوْ مَا الشَّبَهُ بَيْنَهُمَا وَهَلاَّ قِسْتُمْ الْمُدَّةَ الَّتِي إذَا نَوَى إقَامَتَهَا الْمُسَافِرُ أَتَمَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَمَا يَعْجِزُ أَحَدٌ أَنْ يَقِيسَ بِرَأْيِهِ حُكْمًا عَلَى حُكْمٍ آخَرَ وَهَلاَّ قِسْتُمْ مَا يَقْصُرُ فِيهِ عَلَى مَا لاَ يَتَيَمَّمُ فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا, أَوْ عَلَى مَا أَبَحْتُمْ فِيهِ لِلرَّاكِبِ التَّنَفُّلَ عَلَى دَابَّتِهِ.
ثم نقول لَهُمْ: أَخْبِرُونَا، عَنْ قَوْلِكُمْ: إنْ سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَصَرَ وَأَفْطَرَ, وَإِنْ سَافَرَ أَقَلَّ لَمْ يَقْصُرْ وَلَمْ يُفْطِرْ: مَا هَذِهِ الثَّلاَثَةُ الأَيَّامُ أَمِنْ أَيَّامِ حُزَيْرَانَ أَمْ مِنْ أَيَّامِ كَانُونَ الأَوَّلِ فَمَا بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي قُلْتُمْ, أَسَيْرُ الْعَسَاكِرِ أَمْ سَيْرُ الرِّفَاقِ عَلَى الإِبِلِ, أَوْ عَلَى الْحَمِيرِ, أَوْ عَلَى الْبِغَالِ, أَمْ سَيْرُ الرَّاكِبِ الْمُجِدِّ أَمْ سَيْرُ الْبَرِيدِ أَمْ مَشْيُ الرَّجَّالَةِ. وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ مَشْيَ الرَّاجِلِ الشَّيْخِ الضَّعِيفِ فِي وَحْلٍ وَوَعِرٍ, أَوْ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ: خِلاَفُ مَشْيِ الرَّاكِبِ عَلَى الْبَغْلِ الْمُطِيقِ فِي الرَّبِيعِ فِي السَّهْلِ, وَأَنَّ هَذَا يَمْشِي فِي يَوْمٍ مَا لاَ يَمْشِيهِ الآخَرُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الأَيَّامِ: كَيْفَ هِيَ أَمَشْيًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ أَمْ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ, أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ قَلِيلاً, أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ قَلِيلاً أَمْ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ مَعًا أَمْ كَيْفَ هَذَا؟!
وَأَخْبِرُونَا: كَيْفَ جَعَلْتُمْ هَذِهِ الأَيَّامَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ مِيلاً عَلَى وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ؟

(5/16)


وَلَمْ تَجْعَلُوهَا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِيلاً عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلاَثِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ أَوْ خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ تَمْشِيهَا الرِّفَاقُ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى تَحْدِيدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا دُونَ سَائِرِهِ إلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ. وَهَكَذَا يُقَالُ لِمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ, أَوْ بِلَيْلَةٍ, أَوْ بِيَوْمٍ, أَوْ بِيَوْمَيْنِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الاِعْتِرَاضُ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تُدْخِلُوهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ الْمَرْأَةَ أَنْ لاَ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ لَيْلَتَيْنِ, أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَفِي تَحْدِيدِهِ عليه السلام مَسْحَ الْمُسَافِرِ ثَلاَثًا وَالْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
قلنا، وَلاَ كَرَامَةَ لِقَائِلِ هَذَا مِنْكُمْ: بَلْ بَيْنَ تَحْدِيدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْدِيدِكُمْ أَعْظَمُ الْفَرْقِ, وَهُوَ أَنَّكُمْ لَمْ تَكِلُوا الأَيَّامَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا حَدًّا لِمَا يَقْصُرُ فِيهِ وَمَا يُفْطِرُ, أَوْ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ كَذَلِكَ, الَّتِي جَعَلَهَا مِنْكُمْ مَنْ جَعَلَهَا حَدًّا: إلَى مَشْيِ الْمُسَافِرِ الْمَأْمُورِ بِالْقَصْرِ أَوْ الْفِطْرِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ جَعَلَتْ لِذَلِكَ حَدًّا مِنْ مِسَاحَةِ الأَرْضِ لاَ يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ; لاَِنَّكُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَشَى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً, أَوْ عِشْرِينَ مِيلاً لاَ يَقْصُرُ, فَإِنْ مَشَى يَوْمًا وَلَيْلَةً ثَلاَثِينَ مِيلاً فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ. وَاتَّفَقْتُمْ أَنَّهُ مَنْ مَشَى ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ بَرِيدًا غَيْرُ شَيْءٍ أَوْ جَمَعَ ذَلِكَ الْمَشْيَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لاَ يَقْصُرُ وَاتَّفَقْتُمْ مَعْشَرَ الْمُمَوِّهِينَ بِذِكْرِ الثَّلاَثِ لَيَالِي فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَشَى مِنْ يَوْمِهِ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ مِيلاً فَإِنَّهُ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَلَوْ لَمْ يَمْشِ إلاَّ بَعْضَ يَوْمٍ وَهَذَا مُمْكِنٌ جِدًّا, كَثِيرٌ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ بِأَنْ لاَ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ يَوْمًا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. وَأَمْرُهُ عليه السلام الْمُسَافِرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ بِالْمَسْحِ ثُمَّ يَخْلَعُ, لإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ مَوْكُولَةٌ إلَى حَالَةِ الْمُسَافِرِ وَالْمُسَافِرَةِ, عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام الَّذِي لَوْ أَرَادَ غَيْرَهُ لَبَيَّنَهُ لاُِمَّتِهِ. فَلَوْ أَنَّ مُسَافِرَةً خَرَجَتْ تُرِيدُ سَفَرَ مِيلٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَهُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا سَافَرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَمْيَالٍ يَمْشِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِيلاً لَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ وَلَوْ سَافَرَ يَوْمًا وَأَقَامَ آخَرَ وَسَافَرَ ثَالِثًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ الأَيَّامَ الثَّلاَثَةَ كَمَا هِيَ. وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ عليه السلام إلاَّ خَبَرُ الثَّلاَثِ فَقَطْ لَكَانَ الْقَوْلُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ خَرَجَتْ فِي سَفَرٍ مِقْدَارَ قُوَّتِهَا فِيهِ أَنْ لاَ تَمْشِيَ إلاَّ مِيلَيْنِ مِنْ نَهَارِهَا

(5/17)


أَوْ ثَلاَثَةً: لَمَا حَلَّ, لَهَا إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ. فَلَوْ كَانَ مِقْدَارُ قُوَّتِهَا أَنْ تَمْشِيَ خَمْسِينَ مِيلاً كُلَّ يَوْمٍ لَكَانَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَسَافَةَ مِائَةِ مِيلٍ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ1 لَكِنْ وَحْدَهَا. وَاَلَّذِي حَدَّهُ عليه السلام فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ مَضْبُوطٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِسَاحَةٍ مِنْ الأَرْضِ لاَ تَتَعَدَّى, بَلْ بِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْمَ سَفَرِ ثَلاَثٍ أَوْ سَفَرِ يَوْمٍ, وَلاَ مَزِيدَ وَاَلَّذِي حَدَّدْتُمُوهُ أَنْتُمْ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلاَ مَفْهُومٍ، وَلاَ مَضْبُوطٍ أَصْلاً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَظَهَرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ قَوْلِكُمْ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَتَبَيَّنَ فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ, وَأَنَّهَا لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا، وَلاَ لِشَيْءٍ2 مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِإِجْمَاعٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِمَعْقُولٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ نَفْسِهِ, فَكَيْفَ أَنْ لاَ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ.
فَإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ حَقٌّ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَاهَا, مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْهَا خَالَفَ الْحَقَّ, لاَ سِيَّمَا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ خُرُوجِ الْمَكِّيِّ إلَى مِنًى وَإِلَى عَرَفَةَ فِي الْحَجِّ فَيَقْصُرُ: وَبَيْنَ سَائِرِ جَمِيعِ بِلاَدِ الأَرْضِ يَخْرُجُونَ هَذَا الْمِقْدَارَ فَلاَ يَقْصُرُونَ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّفْرِيقُ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ قَبْلَهُ.
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنْ قَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ" وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ: بِمِنًى.
قال علي: وهذا لاَ يَصِحُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْلاً, وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ لَهُمْ, لاَِنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُمْ إذْ أَخْرَجُوا حُكْمَ أَهْلِ مَكَّةَ بِمِنًى، عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الأَسْفَارِ مِنْ أَجْلِ مَا ذَكَرُوا: أَنْ يَقْصُرَ أَهْلُ مِنًى بِمِنًى وَبِمَكَّةَ; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَقُلْ لاَِهْلِ مِنًى: أَتِمُّوا.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ عُرِفَ أَنَّ الْحَاضِرَ لاَ يَقْصُرُ قِيلَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ, وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الأَسْفَارِ لَهُ حُكْمُ الإِقَامَةِ فَإِنَّهُمْ لاَ يَقْصُرُونَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى مِنْ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَتِلْكَ الْمَسَافَةُ فِي جَمِيعِ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ, إذْ لَيْسَ
ـــــــ
1 في نسخة رقم "16" "إلا مع ذي محرم" وهو خطأ ظاهر.
2 في الأصلين "ولا بشيء" وهو خطأ ظاهر.

(5/18)


إلاَّ سَفَرٌ أَوْ إقَامَةٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَقَدْ حَدَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ الْمَشَقَّةَ تَخْتَلِفُ, فَنَجِدُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشْيُ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ حَتَّى لاَ يَبْلُغَهَا إلاَّ بِشِقِّ النَّفْسِ, وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا, يَكَادُ أَنْ يَكُونَ الأَغْلَبَ, وَنَجِدُ مَنْ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ فِي عِمَارِيَّةٍ فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ مُرَفَّهًا مَخْدُومًا شَهْرًا وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ, فَبَطَلَ هَذَا التَّحْدِيدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلْنَقُلْ الآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ عَلَى بَيَانِ السَّفَرِ الَّذِي يَقْصُرُ فِيهِ وَيُفْطِرُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ:
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقَالَ عُمَرُ, وَعَائِشَةُ, وَابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ الْمُسْلِمُونَ بِأَجْمَعِهِمْ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ, فَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَخُصَّهُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ.
فإن قيل: بَلْ لاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ فِي سَفَرٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقَصْرِ فِيهِ وَالْفِطْرِ.
قلنا لَهُمْ: فَلاَ تَقْصُرُوا، وَلاَ تُفْطِرُوا إلاَّ فِي حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ جِهَادٍ, وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُكُمْ, وَلَوْ قُلْتُمُوهُ لَكُنْتُمْ قَدْ خَصَّصْتُمْ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَلَزِمَكُمْ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا أَنْ لاَ تَأْخُذَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ إلاَّ حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْهَا, وَفِي هَذَا هَدْمُ مَذَاهِبِكُمْ كُلِّهَا, بَلْ فِيهِ الْخُرُوجُ عَلَى الإِسْلاَمِ, وَإِبَاحَةِ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينِ كُلِّهِ, إلاَّ حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَهَذَا نَفْسُهُ خُرُوجٌ، عَنِ الإِجْمَاعِ.
وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ حَتَّى يَصِحَّ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ أَوْ مَنْسُوخٌ, فَيُوقَفُ عِنْدَ مَا صَحَّ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم لِيُطَاعَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وَلَمْ يَبْعَثْهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُعْصَى حَتَّى يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى طَاعَتِهِ, بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ قَبْلَ أَنْ يُطِيعَهُ أَحَدٌ. وَقَبْلَ أَنْ يُخَالِفَهُ أَحَدٌ, لَكِنْ سَاعَةَ يَأْمُرُ بِالأَمْرِ, هَذَا مَا لاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ خِلاَفَهُ, حَتَّى نَقَضَ مَنْ نَقَضَ وَالسَّفَرُ: هُوَ الْبُرُوزُ، عَنْ مَحَلَّةِ الإِقَامَةِ, وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ فِي الأَرْضِ, هَذَا الَّذِي لاَ يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خُوطِبْنَا وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ سِوَاهُ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ

(5/19)


عَنْ هَذَا الْحُكْمِ إلاَّ مَا صَحَّ النَّصُّ بِإِخْرَاجِهِ ثُمَّ وَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ إلَى الْبَقِيعِ لِدَفْنِ الْمَوْتَى, وَخَرَجَ إلَى الْفَضَاءِ لِلْغَائِطِ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَلَمْ يَقْصُرُوا، وَلاَ أَفْطَرُوا, وَلاَ أَفْطَرَ، وَلاَ قَصَرَ فَخَرَجَ هَذَا، عَنْ أَنْ يُسَمَّى سَفَرًا, وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ, فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُوقِعَ اسْمَ سَفَرٍ وَحُكْمَ سَفَرٍ إلاَّ عَلَى مَنْ سِمَاهُ مَنْ هُوَ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ سَفَرًا, فَلَمْ نَجِدْ ذَلِكَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ. فَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ خَرَجْت مِيلاً لَقَصَرْت الصَّلاَةَ, فَأَوْقَعْنَا اسْمَ السَّفَرِ وَحُكْمَ السَّفَرِ فِي الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ عَلَى الْمِيلِ فَصَاعِدًا, إذْ لَمْ نَجِدْ عَرَبِيًّا، وَلاَ شَرِيعِيًّا عَالِمًا أَوْقَعَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ اسْمَ سَفَرٍ, وَهَذَا بُرْهَانٌ صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَعَلْتُمْ الثَّلاَثَةَ الأَمْيَالَ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ حَدًّا لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ, إذْ لَمْ تَجِدُوا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَصَرَ، وَلاَ أَفْطَرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
قلنا: وَلاَ وَجَدْنَا عليه السلام مَنْعًا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ, بَلْ وَجَدْنَاهُ عليه السلام أَوْجَبَ، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا, وَجَعَلَ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ مُطْلَقًا.
فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَالْمِيلُ: هُوَ مَا سُمِّيَ عِنْدَ الْعَرَبِ مِيلاً, وَلاَ يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْ ذِرَاعٍ.
فإن قيل: لَوْ كَانَ هَذَا مَا خَفِيَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلاَ عَلَى عُثْمَانَ, وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ, فَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
قلنا: قَدْ عَرَفَهُ عُمَرُ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَالتَّابِعِينَ.
ثُمَّ نَعْكِسُ عَلَيْكُمْ قَوْلَكُمْ: فَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَقًّا مَا خَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ, وَلاَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ, وَلاَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يَعْرِفُ قَوْلَكُمْ, كَمَالِكٍ, وَاللَّيْثِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَغَيْرِهِمْ, مِمَّنْ لاَ يَقُولُ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
وَنَقُولُ لِلْمَالِكِيِّينَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا مَا خَفِيَ عَلَى كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ, وَهُوَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى.
إلاَّ أَنَّ هَذَا الإِلْزَامَ لاَزِمٌ لِلطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ لاَ لَنَا; لأَنَّهُمْ يَرَوْنَ هَذَا الإِلْزَامَ حَقًّا, وَمَنْ حَقَّقَ شَيْئًا لَزِمَهُ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نُحَقِّقُ هَذَا الإِلْزَامَ الْفَاسِدَ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا وَسْوَاسٌ وَضَلاَلٌ, وَإِنَّمَا حَسْبُنَا اتِّبَاعُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام, عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ, وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ, وَمَا مِنْ شَرِيعَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا إلاَّ قَدْ عَلِمَهَا بَعْضُ السَّلَفِ وَقَالَ بِهَا, وَجَهِلَهَا بَعْضُهُمْ

(5/20)


فَلَمْ يَقُلْ بِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ مِنْ الْعَجَبِ تَرْكَ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْعَظِيمَةِ, وَهِيَ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَيُفْطَرُ فِيهِ فِي رَمَضَانَ.
فَقُلْنَا: هَذَا أَعْظَمُ بُرْهَانٍ, وَأَجَلُّ دَلِيلٍ, وَأَوْضَحُ حُجَّةٍ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَتَمْيِيزٍ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لِذَلِكَ أَصْلاً إلاَّ مَا سُمِّيَ سَفَرًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَهُمْ عليه السلام, إذْ لَوْ كَانَ لِمِقْدَارِ السَّفَرِ حَدٌّ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا لَمَا أَغْفَلَ عليه السلام بَيَانَهُ أَلْبَتَّة, وَلاَ أَغْفَلُوا هُمْ سُؤَالَهُ عليه السلام عَنْهُ, وَلاَ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ نَقْلِ تَحْدِيدِهِ فِي ذَلِكَ إلَيْنَا, فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ, وَلاَحَ بِذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْهُمْ قَنَعُوا بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ, وَإِنَّ كُلَّ مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَإِنَّمَا هُوَ وَهْمٌ أَخْطَأَ فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ وَهُوَ يُرِيدُ إمَّا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَأَمَّا أَرْبَعَةَ بُرُدٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ. فَنَسْأَلُهُمْ: أَهُوَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ أَمْ لَيْسَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْدُ, لَكِنَّهُ يُرِيدُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْدُ, وَلاَ يَدْرِي أَيَبْلُغُهُ أَمْ لاَ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ بَعْد, وَلَكِنَّهُ يُرِيدُهُ, وَلاَ يَدْرِي أَيَبْلُغُهُ أَمْ لاَ, أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أَبَاحُوا لَهُ الْقَصْرَ, وَهُوَ فِي غَيْرِ سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, مِنْ أَجْلِ نِيَّتِهِ فِي إرَادَتِهِ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, وَلَزِمَهُمْ أَنْ يُبِيحُوا لَهُ الْقَصْرَ فِي مَنْزِلِهِ وَخَارِجِ مَنْزِلِهِ بَيْنَ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ, مِنْ أَجْلِ نِيَّتِهِ فِي إرَادَتِهِ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: عَطَاءٌ, وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَغَيْرُهُمَا, إلاَّ أَنَّ هَؤُلاَءِ يُقِرُّونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي سَفَرٍ, ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ بِالْقَصْرِ, وَهَذَا لاَ يَحِلُّ أَصْلاً.
وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ هَدَمُوا كُلَّ مَا بَنَوْا, وَأَبْطَلُوا أَصْلَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ, وَأَقَرُّوا بِأَنَّ قَلِيلَ السَّفَرِ وَكَثِيرَهُ: تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, لاَِنَّهُ قَدْ يَنْصَرِفُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمِقْدَارَ الَّذِي فِيهِ الْقَصْرُ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ مَا دُونَ الْمِيلِ مِنْ آخِرِ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ لَهُ حُكْمُ الْحَضَرِ, فَلاَ يُقْصَرُ فِيهِ، وَلاَ يُفْطَرُ, فَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ فَحِينَئِذٍ صَارَ فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَيُفْطَرُ فِيهِ, فَمِنْ حِينَئِذٍ

(5/21)


يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ, وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فَكَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ فَإِنَّهُ يُتِمُّ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي سَفَرٍ يَقْصُرُ فِيهِ بَعْدُ.

(5/22)


حكم المسافر لا فرق بين سفر بر أو بحر أو نهر
...
514 - مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ سَافَرَ فِي بَرٍّ, أَوْ بَحْرٍ, أَوْ نَهْرٍ ,
كُلُّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا, لاَِنَّهُ سَفَرٌ، وَلاَ فَرْقَ.

(5/22)


إذا أقام المسافر لحج أو عمرة أو جهاد في مكان واحد
...
515 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ سَافَرَ الْمَرْءُ فِي جِهَادٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَسْفَارِ:
فَأَقَامَ فِي مَكَان وَاحِدٍ عِشْرِينَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا: قَصَرَ, وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ: أَتَمَّ وَلَوْ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ ثَبَتْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ سَفَرَ الْجِهَادِ, وَسَفَرَ الْحَجِّ, وَسَفَرَ الْعُمْرَةِ, وَسَفَرَ الطَّاعَةِ, وَسَفَرَ الْمَعْصِيَةِ, وَسَفَرَ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً: كُلُّ ذَلِكَ سَفَرٌ, حُكْمُهُ كُلُّهُ فِي الْقَصْرِ وَاحِدٌ. وَإِنَّ مَنْ أَقَامَ فِي شَيْءٍ عِشْرِينَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا فَأَقَلَّ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ، وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ نَوَى إقَامَتَهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ إقَامَتَهَا, فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ إقَامَةَ مُدَّةِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْثَرَ: أَتَمَّ، وَلاَ بُدَّ, هَذَا فِي الصَّلاَةِ خَاصَّةً.
وَأَمَّا فِي الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ فَبِخِلاَفِ ذَلِكَ, بَلْ إنْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي خِلاَلِ السَّفَرِ لَمْ يُسَافِرْ فِيهِمَا: فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ1 وَكَذَلِكَ إنْ نَزَلَ وَنَوَى إقَامَةَ لَيْلَةٍ وَالْغَدِ, فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ وَيَصُومَ.
فَإِنْ وَرَدَ عَلَى ضَيْعَةٍ لَهُ, أَوْ مَاشِيَةٍ, أَوْ دَارٍ, فَنَزَلَ هُنَالِكَ: أَتَمَّ, فَإِذَا رَحَلَ مِيلاً فَصَاعِدًا: قَصَرَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَجْمَعَ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلاَةَ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حدثنا عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ عَشَرَةَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَقَامَ سَبْعَ عَشَرَةَ بِمَكَّةَ قَصَرَ, وَمَنْ أَقَامَ فَزَادَ أَتَمَّ.
وَرُوِيَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: إذَا أَجْمَعَ إقَامَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً: أَتَمَّ, فَإِنْ نَوَى أَقَلَّ: قَصَرَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَجْمَعْتَ إقَامَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا أَقَمْت عَشْرًا فَأَتِمَّ الصَّلاَةَ. وَبِهِ يَأْخُذُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ,
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "لما يستأنف".

(5/22)


من ابتدأ صلاة و هو مقيم ثم نوى فيها أن يقيم
...
516 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَدَأَ صَلاَةً وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ نَوَى فِيهَا السَّفَرَ, أَوْ ابْتَدَأَهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ ثُمَّ نَوَى فِيهَا أَنْ يُقِيمَ:
أَتَمَّ فِي كِلاَ الْحَالَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الإِقَامَةَ غَيْرُ السَّفَرِ وَأَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ، عَنْ حُكْمِ الإِقَامَةِ مِمَّا هُوَ إقَامَةٌ إلاَّ مَا أَخْرَجَهُ نَصٌّ. فَهُوَ إذَا نَوَى فِي الصَّلاَةِ سَفَرًا فَلَمْ يُسَافِرْ بَعْدُ, بَلْ هُوَ مُقِيمٌ, فَلَهُ حُكْمُ الإِقَامَةِ. وَإِذَا افْتَتَحَهَا وَهُوَ مُسَافِرٌ فَنَوَى فِيهَا الإِقَامَةَ فَهُوَ مُقِيمٌ بَعْدُ لاَ مُسَافِرٌ, فَلَهُ أَيْضًا حُكْمُ الإِقَامَةِ. إذْ إنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ بِالنَّصِّ الْمُخْرِجِ لِتِلْكَ الْحَالِ، عَنْ حُكْمِ الإِقَامَةِ, فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الْحَالُ بِبُطْلاَنِ نِيَّتِهِ صَارَ فِي حَالِ الإِقَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/30)


من ذكر و هو في سفر صلاة نسيها أو نام عنها في إقامتها
...
517 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَكَرَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ صَلاَةً نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا فِي إقَامَتِهِ
صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْحَضَرِ صَلاَةً نَسِيَهَا فِي سَفَرٍ صَلاَّهَا أَرْبَعًا، وَلاَ بُدَّ.
وقال الشافعي: يُصَلِّيهَا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: أَرْبَعًا.
وقال مالك: يُصَلِّيهَا إذَا نَسِيَهَا فِي السَّفَرِ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ: رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ صَلاَّهَا: أَرْبَعًا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الأَصْلَ الإِتْمَامُ, وَإِنَّمَا الْقَصْرُ رُخْصَةٌ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَوْ أَرَدْنَا مُعَارَضَتَهُ لَقُلْنَا: بَلْ الأَصْلُ الْقَصْرُ, كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، رضي الله عنها، "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحَالَةِ الآُولَى". وَلَكِنَّا لاَ نَرْضَى بِالشَّغَبِ, بَلْ نَقُولُ: إنَّ صَلاَةَ السَّفَرِ أَصْلٌ, وَصَلاَةَ الإِقَامَةِ أَصْلٌ, لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا فَرْعًا لِلآُخْرَى, فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ الصَّلاَةَ إنَّمَا تُؤَدَّى كَمَا لَزِمَتْ إذَا فَاتَتْ.
قال علي: وهذا أَيْضًا دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ خَطَأٌ, وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا الأَصْلَ وَيَهْدِمُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إلاَّ هُنَا فَإِنَّهُ تَنَاقُضٌ, وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ صَلَوَاتٌ كَانَ حُكْمُهَا لَوْ صَلاَّهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُومِئًا فَذَكَرَهَا فِي صِحَّتِهِ: فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ قَائِمًا. وَمَنْ ذَكَرَ فِي حَالِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ صَلاَةً فَاتَتْهُ فِي صِحَّتِهِ كَانَ حُكْمُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا قَائِمًا فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّيهَا إلاَّ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا. وَمَنْ صَلَّى فِي حَالِ خَوْفٍ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا صَلاَةً نَسِيَهَا فِي حَالِ الأَمْنِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا. وَمَنْ

(5/30)


518 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِصَلاَةِ إمَامٍ مُقِيمٍ
قَصَرَ، وَلاَ بُدَّ, وَإِنْ صَلَّى مُقِيمٌ بِصَلاَةِ مُسَافِرٍ أَتَمَّ، وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ أَحَدٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ, وَإِمَامَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلآخَرِ جَائِزَةٌ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ قُلْتُ: كَيْفَ تَرَى وَنَحْنُ هَهُنَا بِمِنًى قَالَ: وَيْحَك سَمِعْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنْتَ بِهِ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ وَهَذَا بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَمْرِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسَافِرَ1 أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ فَقَطْ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "بيان جلى من ابن عمر للمسافر" الخ.

(5/31)


وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ1. قَالَ: كَانَ أَبِي إذَا أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِ رَكْعَةً وَهُوَ مُسَافِرٌ صَلَّى إلَيْهَا أُخْرَى, وَإِذَا أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ اجْتَزَأَ بِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: تَمِيمُ بْنُ حَذْلَمٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَطَرِ بْنِ فِيلٍ2، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَأَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ اعْتَدَّ بِهِمَا.
وَعَنْ شُعْبَة، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا وَسَأَلْته، عَنْ مُسَافِرٍ أَدْرَكَ مِنْ صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ قَالَ: تُجْزِيَانِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَصَلاَةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ"3 وَنِصْفَ الصَّلاَةِ وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مَأْمُومًا مِنْ إمَامٍ مِنْ مُنْفَرِدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْعَجَبُ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ, وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الْمُقِيمَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ يُتِمُّ، وَلاَ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ إمَامِهِ فِي التَّقْصِير, وَإِنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ إمَامِهِ فِي الإِتْمَامِ. وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ فِي الْعَالَمِ لَكَانَ هَذَا أَصَحَّ قِيَاسٍ يُوجَدُ, وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَالْقِيَاسَ.
وَمَا وَجَدْت لَهُمْ حُجَّةً إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى فِي صَلاَتِهِ الإِقَامَةَ لَزِمَهُ إتْمَامُهَا, وَالْمُقِيمُ إذَا نَوَى فِي صَلاَتِهِ السَّفَرَ لَمْ يَقْصُرْهَا, قَالَ: فَإِذَا خَرَجَ بِنِيَّتِهِ إلَى الإِتْمَامِ فَأَحْرَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الإِتْمَامِ بِحُكْمِ إمَامِهِ
قال علي: وهذا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ لاَ نِسْبَةَ، وَلاَ شَبَهَ بَيْنَ صَرْفِ النِّيَّةِ مِنْ سَفَرٍ إلَى إقَامَةٍ وَبَيْنَ الاِئْتِمَامِ بِإِمَامٍ مُقِيمٍ, بَلْ التَّشْبِيهُ بَيْنَهُمَا هَوَسٌ ظَاهِرٌ
ـــــــ
1 بفتح الحاء المهملة وإسكان الذال المعجمة وفتح اللام.
2 كذا في جميع الأصول, وضبط في النسخة رقم "14" بالقلم بكسر الفاء ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا في شيء من الكتب.
3 في النسخة رقم "16" "الصوم" زما هنا هو الموافق للنسخة رقم "14 و45" وللنسائي "ج 1 ص 315.

(5/32)


وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" فقُلْنَا لَهُمْ: فَقُولُوا لِلْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ: أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ إذَنْ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: قَدْ جَاءَ: "أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ". فَقُلْنَا: لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ عَلَيْكُمْ; لإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْمُسَافِرَ لاَ يُتِمُّ, وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَأْمُومٍ، وَلاَ إمَامٍ, فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُسَافِرَ جُمْلَةً يَقْصُرُ, وَالْمُقِيمَ جُمْلَةً يُتِمّ, وَلاَ يُرَاعِي أَحَدٌ مِنْهُمَا حَالَ إمَامِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/33)


صلاة الخوف
من حضره خوف من عدو ظالم كافر أو باغ من المسلمين أو غير ذلك و هم ثلاثة فصاعدا
...
صلاة الخوف
519 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَضَرَهُ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ ظَالِمٍ كَافِرٍ, أَوْ بَاغٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, أَوْ مِنْ سَيْلٍ, أَوْ مِنْ نَارٍ, أَوْ مِنْ حَنَشٍ, أَوْ سَبُعٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُمْ فِي ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا:
فَأَمِيرُهُمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا, كُلُّهَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَّاهَا غَايَةَ الْبَيَانِ وَالتَّقَصِّي فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَإِنَّمَا كَتَبْنَا كِتَابَنَا هَذَا لِلْعَامِّيِّ وَالْمُبْتَدِئِ وَتَذْكِرَةً لِلْعَالِمِ, فَنَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ, مِمَّا يَقْرُبُ حِفْظُهُ وَيَسْهُلُ فَهْمُهُ, وَلاَ يَضْعُفُ فِعْلُهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ, فَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمُوا, ثُمَّ تَأْتِي طَائِفَةٌ أُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ, وَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, وَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ, وَإِنْ كَانَتْ الْمَغْرِبُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ, الآُولَى فَرْضُ الإِمَامِ, وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ لَهُ.
وَإِنْ شَاءَ فِي السَّفَرِ أَيْضًا صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ تُسَلِّمُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ وَيُجْزِئُهُمَا, وَإِنْ شَاءَ هُوَ سَلَّمَ, وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُسَلِّمْ, وَيُصَلِّي بِالآُخْرَى رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ وَيُجْزِئُهُمْ. وَإِنْ شَاءَتْ الطَّائِفَةُ أَنْ تَقْضِيَ الرَّكْعَةَ وَالإِمَامُ وَاقِفٌ فَعَلَتْ, ثُمَّ تَفْعَلُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الآُولَى رَكْعَةً ثُمَّ وَقَفَ، وَلاَ بُدَّ وَقَضَوْا رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا, ثُمَّ تَأْتِي الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً, ثُمَّ سَلَّمَ وَيُسَلِّمُونَ فَإِنْ كَانَتْ الْمَغْرِبُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الآُولَى رَكْعَتَيْنِ, فَإِذَا جَلَسَ قَامُوا فَقَضَوْا رَكْعَةً وَسَلَّمُوا وَتَأْتِي الآُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ, فَإِذَا قَعَدَ صَلُّوا رَكْعَةً ثُمَّ جَلَسُوا وَتَشَهَّدُوا, ثُمَّ صَلَّوْا الثَّالِثَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيُسَلِّمُونَ.
فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ, أَوْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُجْزِئُهُ وَأَمَّا الصُّبْحُ.

(5/33)


فَاثْنَتَانِ، وَلاَ بُدَّ, وَالْمَغْرِبُ ثَلاَثٌ، وَلاَ بُدَّ, وَفِي الْحَضَرِ أَرْبَعٌ، وَلاَ بُدَّ.
سَوَاءٌ هَهُنَا الْخَائِفُ مِنْ طَلَبٍ1 بِحَقٍّ, أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} فَهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي بِعُمُومِهَا الصِّفَاتِ الَّتِي قلنا نَصًّا.
ثُمَّ كُلُّ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَرْغَبَ، عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْ مِلَّتِهِ, وَمِلَّتُهُ هِيَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ فِي بَابِ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَوَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ يُصَلِّي صَلاَةً أُخْرَى فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَجَابِرٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فِي الْخَوْفِ ثُمَّ سَلَّمَ, وَبِطَائِفَةٍ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ". وَذَكَرْنَا مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ, فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ, وَهَذَا آخِرُ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; لإِنَّ أَبَا بَكَرَةَ شَهِدَهُ مَعَهُ وَلَمْ يُسْلِمْ إلاَّ يَوْمَ الطَّائِفِ, وَلَمْ يَغْزُ عليه السلام بَعْدَ الطَّائِفِ غَيْرَ تَبُوكَ فَقَطْ. فَهَذِهِ أَفْضَلُ صِفَاتِ صَلاَةِ الْخَوْفِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا, وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ ":
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمَ قَالَ: "كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِطَبَرِسْتَانَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْخَوْفِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا, فَقَامَ حُذَيْفَةُ وَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ صَفًّا خَلْفَهُ وَصَفًّا مُوَازِيَ الْعَدُوِّ, فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً, وَانْصَرَفَ هَؤُلاَءِ إلَى مَكَانِ هَؤُلاَءِ, وَجَاءَ أُولَئِكَ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا ". قَالَ سُفْيَانُ: وَحَدَّثَنِي الرُّكَيْنُ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "45" "من طلب".

(5/34)


ابْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ صَلاَةِ حُذَيْفَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: الأَسْوَدُ بْنُ هِلاَلٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ, وَثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ أَحَدُ الصَّحَابَةِ حَنْظَلِيٌّ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مِنْهُ وَرَوَى عَنْهُ.
وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ, وَأَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِير، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ جَابِرٌ أَنَّ الْقَصْرَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ هُوَ هَذَا لاَ كَوْنُ الصَّلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.
وَصَحَّ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ, وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورٌ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِيَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَيَّامَ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ, لاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ, وَعَنْ جَابِرٍ, وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى بِمَنْ مَعَهُ صَلاَةَ الْخَوْفِ, فَصَلاَّهَا بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ، وَلاَ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُومِئُ بِرَكْعَةٍ عِنْدَ الْقِتَالِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ صَلَّى فِي الْخَوْفِ رَكْعَةً.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْمُسَايَفَةُ فَإِنَّمَا هِيَ رَكْعَةٌ يُومِئُ إيمَاءً حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ, رَاكِبًا كَانَ أَوْ مَاشِيًا.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ فِي صَلاَةِ الْمُطَارَدَةِ: رَكْعَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: إذَا لَمْ يَقْدِرْ الْقَوْمُ عَلَى أَنْ يُصَلُّوا1 عَلَى الأَرْضِ صَلُّوا عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا فَرَكْعَةٌ وَسَجْدَتَانِ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا أَخَّرُوا حَيْثُ يَأْمَنُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَأْخِيرُهَا، عَنْ وَقْتِهَا فَلاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَأْخِيرِهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَجْلاَنَ الأَفْطَسُ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: كَيْف يَكُونُ قَصْرٌ وَهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ, يُومِئُ بِهَا حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على أن لا يصلوا" وهو خطأ.

(5/35)


وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ1 هُوَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ غُرَابٍ2 كُنَّا مَصَافِّي الْعَدُوِّ3 بِفَارِسَ, وَوُجُوهُنَا إلَى الْمَشْرِقِ, فَقَالَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ: لِيَرْكَعْ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْكُمْ رَكْعَةً تَحْتَ جُنَّتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ, وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَقَتَادَةَ، عَنْ صَلاَةِ الْمُسَايَفَةِ فَقَالُوا: رَكْعَةٌ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ مِثْلُ قَوْلِ الْحَكَمِ, وَحَمَّادٍ, وَقَتَادَةَ.
وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} قَالَ: فِي الْعَدُوِّ يُصَلِّي رَاكِبًا وَرَاجِلاً يُومِئُ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ, وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِئُهُ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ
قال علي: وهذانِ الْعَمَلاَنِ أَحَبُّ الْعَمَلِ إلَيْنَا, مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرْغَبَ، عَنْ سَائِرِ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا. لَكِنْ مِلْنَا إلَى هَذَيْنِ لِسُهُولَةِ الْعَمَلِ فِيهِمَا عَلَى كُلِّ جَاهِلٍ, وَعَالِمٍ, وَلِكَثْرَةِ مَنْ رَوَاهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَلِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِمُوَافَقَتِهِمَا الْقُرْآنَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ لاَ يُبَالِي بِالْكَذِبِ, عَصَبِيَّةً لِتَقْلِيدِهِ الْمُهْلِكِ لَهُ: الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ قَضَوْا!.
قال علي: هذا انْسِلاَخٌ مِنْ الْحَيَاءِ جُمْلَةً, وَقَصْدٌ إلَى الْكَذِبِ جِهَارًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ أَتَمُّوا أَرْبَعًا!
وَقَالَ: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ صَلاَةً مِنْ رَكْعَةٍ.
وَقُلْنَا لَهُمْ: وَلاَ وَجَدْتُمْ فِي الآُصُولِ صَلاَةَ الإِمَامِ بِطَائِفَتَيْنِ, وَلاَ صَلاَةً إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ, وَلاَ صَلاَةً يَقْضِي فِيهَا الْمَأْمُومُ مَا فَاتَهُ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ, وَلاَ صَلاَةً يَقِفُ الْمَأْمُومُ فِيهَا لاَ هُوَ يُصَلِّي مَعَ إمَامِهِ، وَلاَ هُوَ يَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَتِهِ, وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَكُمْ جَائِزٌ فِي الْخَوْفِ, وَلاَ وَجَدْتُمْ شَيْئًا
ـــــــ
1 بفتح الميم وإسكان السين وفي النسخة رقم "ذ6" "عن أبي سلمة" وهو خطأ.
2 كذا في أكثر الأصول ولم أجد له ترجمة وضبط في النسخة رقم "14" "غزاب" بالغين والزاي المعجمتين ووضع عليه علامة التصحيح وما أظنه صحيحا فإن الذهبي لم يذكر في المشتبه "غزاب" ولن يذكر شرح القاموس مادة "غ ز ب".
3 أي نصف وجاه العدو وعذا هو الصواب الذي في النسخة رقم "14" وفي باقي الأصول "نصلي في العدو" وهو خطأ ظاهر.

(5/36)


مِنْ الدِّيَانَةِ حَتَّى جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالآُصُولُ لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَضَاءِ رَكْعَةٍ.
قلنا: هَذَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ, وَهُوَ سَاقِطٌ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا مُنِعَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْضُوا, بَلْ كَانَ يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزًا.
وقال بعضهم: قَدْ رُوِيَ، عَنْ حُذَيْفَةَ صَلاَةُ الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ1 وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ.
قلنا: هَذَا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ شَرِيكٍ, وَهُوَ مُدَلِّسٌ, وَخَدِيجٍ, وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ مَقْصُودًا بِهِ صَلاَةُ إمَامِهِمْ بِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمِ بْنِ صُلَيْعٍ2 السَّلُولِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدٍ: مُرْ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِك فَيُصَلُّونَ مَعَكَ, وَطَائِفَةً خَلْفَكُمْ, فَتُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَهَكَذَا نَقُولُ: فِي صَلاَةِ الإِمَامِ بِهِمْ.
وقال بعضهم: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى".
قلنا: نَعَمْ, إلاَّ مَا جَاءَ نَصٌّ فِيهِ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ مَثْنَى, كَالْوِتْرِ, وَصَلاَةِ الْخَوْفِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَثْنَى, كَالظُّهْرِ, وَالْعَصْرِ, وَالْعِشَاءِ.
وقال بعضهم: قَدْ نُهِيَ، عَنْ "الْبُتَيْرَاءِ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ كِذْبَةٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ. وَمَا نَدْرِي "الْبُتَيْرَاءَ" فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وقال بعضهم: أَنْتُمْ تُجِيزُونَ لِلإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ إنْ شَاءَ رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ, وَإِنْ شَاءَ وَصَلَهَا بِأُخْرَى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ, وَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّ مَا كَانَ لِلْمَرْءِ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ لاَ فَرْضٌ, وَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُحَالٌ أَنْ يَصِلَ فَرْضَهُ بِتَطَوُّعٍ لاَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا سَلاَمٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرُوا فِيمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, وَأَمَّا إذَا جَاءَ النَّصُّ فَالنَّظَرُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, لاَ يَحِلُّ بِهِ مُعَارِضَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم نقول لَهُمْ: أَلَيْسَ مُصَلِّي الْفَرْضَ مِنْ إمَامٍ أَوْ مُنْفَرِدٍ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَنَا مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ مَعَ "أُمِّ الْقُرْآنِ" سُورَةً إنْ شَاءَ طَوِيلَةً وَإِنْ شَاءَ قَصِيرَةً وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى "أُمِّ الْقُرْآنِ" فَقَطْ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ تَسْبِيحَةً تَسْبِيحَةً وَإِنْ شَاءَ طَوَّلَهُمَا فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ, فَقُلْنَا لَهُمْ: فَقَدْ أَبَحْتُمْ هَهُنَا مَا قَدْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ مَنْ صِلَتُهُ3
ـــــــ
1 كذا في الأصلين.
2 سليم بالسين وصليع بالصاد المهملة وبالتصغير فيهما.
3 أي من وصل الفرض بالتطوع ردا على من أنكر صلاة الإمام رعة فريضة بالطائفة. الأولى ثم صلاته أخرى تطكوعا بالطائفة الثانية موصولة بالأولى من غير فصل بالسلام وهكذا رسم في الأصلين "صلته" على هذا المعنى على الصواب وظن ناسخا الأصلين أن صوابه "صلاته" وهو ظن خطأبل الصواب ما ذكرنا.

(5/37)


فَرِيضَةٌ بِمَا هُوَ عِنْدَكُمْ تَطَوُّعٌ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا, بَلْ كُلُّ هَذَا خَيْرٌ فِيهِ الْبِرُّ, فَإِنَّ طَوَّلَ فَفَرْضٌ أَدَّاهُ, وَإِنْ لَمْ يُطَوِّلْ فَفَرْضٌ أَدَّاهُ, وَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْخَوْفِ فَهِيَ فَرْضُهُ, وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَهُمَا فَرْضُهُ. كَمَا فَعَلَ عليه السلام وَكَمَا أَمَرَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
قَالَ عَلِيٌّ: وَسَائِرُ الْوُجُوهِ الصِّحَاحِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرُ أَخَذَ بِبَعْضِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ, وَابْنُ عُمَرَ, وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، رضي الله عنهم.
وَهَهُنَا أَقْوَالٌ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ أَصْلاً, وَلَكِنْ رُوِيَتْ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ, وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَسْرُوقٌ, وَمِنْ الْفُقَهَاءِ: الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَحُمَيْدُ الرُّؤَاسِيُّ صَاحِبُهُ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ, رَجَعَ مَالِكٌ إلَى الْقَوْلِ بِهِ, بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي صَحَّتْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ: أَنْ يَصُفَّ الإِمَامُ أَصْحَابَهُ طَائِفَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا خَلْفَهُ, وَالثَّانِيَةُ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوَّ, فَيُصَلِّي الإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا, فَإِذَا قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ وَاقِفًا وَأَتَمَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ لاَِنْفُسِهَا الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا, ثُمَّ سَلَّمَتْ وَنَهَضَتْ فَوَقَفَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَالإِمَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاقِفٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ, وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَتَصُفَّ خَلْفَ الإِمَامِ وَتُكَبِّرُ, فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَتَيْهَا, هِيَ لَهُمْ أُولَى, وَهِيَ لِلإِمَامِ ثَانِيَةٌ, ثُمَّ يَجْلِسُ الإِمَامُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ, فَإِذَا سَلَّمَ قَامَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَقَضَتْ الرَّكْعَةَ الَّتِي لَهَا.
قال علي: وهذا الْعَمَلُ الْمَذْكُورُ قَضَاءُ الطَّائِفَةِ الآُولَى وَالإِمَامُ وَاقِفٌ, وَقَضَاءُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّمَ الإِمَامُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ جَمْعُ هَذَيْنِ الْقَضَاءَيْنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْلاً. وَهُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ; لاَِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وَلاَِنَّ الطَّائِفَةَ لَمْ تُصَلِّ بَعْضَ صَلاَتِهَا مَعَهُ, وَمَا كَانَ خِلاَفًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ دُونَ نَصٍّ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ, وَلَيْسَ يُوجِبُ هَذَا الْقَوْلَ قِيَاسٌ, وَلاَ

(5/38)


نَظَرٌ. وَلَيْسَ تَقْلِيدُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه بِأَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ, مِمَّنْ قَدْ ذَكَرْنَاهُ: كَعَمْرٍو, وَابْنِ عَمْرٍو, وَأَبِي مُوسَى, وَجَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو, وَحُذَيْفَةَ, وَثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ, وَأَنَسٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ, وَغَيْرِهِمْ.
فإن قيل: إنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ رَوَى بَعْضَ تِلْكَ الأَعْمَالِ وَخَالَفَهُ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ خَالَفَ مَا حَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ لاَِمْرٍ عَلِمَهُ هُوَ نَاسِخٌ لِمَا رَوَاهُ.
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ, وَحُكْمٌ بِالظَّنِّ, وَتَرْكٌ لِلْيَقِينِ, وَإِضَافَةٌ إلَى الصَّاحِبِ رضي الله عنه مَا لاَ يَحِلُّ أَنْ يُظَنَّ بِهِ, مِنْ أَنَّهُ رَوَى لَنَا الْمَنْسُوخَ وَكَتَمَ النَّاسِخَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكُمْ هَذَا وَبَيْنَ مِنْ قَالَ: لاَ يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى, فَالدَّاخِلَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا رُوِيَ مِنْهُ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ, لاَ فِيمَا رَوَاهُ هُوَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَسْنَا نَقُولُ: بِشَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ, بَلْ نَقُولُ: إنَّ الْحَقَّ أَخْذُ رِوَايَةِ الرَّاوِي, لاَ أَخْذُ رَأْيِهِ, إذْ قَدْ يَتَأَوَّلُ فِيهِمْ, وَقَدْ يَنْسَى, وَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكْتُمَ النَّاسِخَ وَيَرْوِي الْمَنْسُوخَ.
وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُوهَمُوا هَهُنَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ; لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ, وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ, وَالزُّهْرِيَّ: مُخَالِفُونَ لاِخْتِيَارِ مَالِكٍ, وَمَا وَجَدْنَا مَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ إلاَّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, أَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْهُ: وَهُوَ أَنْ يَصُفَّهُمْ الإِمَامُ صَفَّيْنِ: طَائِفَةٌ خَلْفَهُ, وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ: فَيُصَلِّي بِاَلَّتِي خَلْفَهُ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا, فَإِذَا قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَقَفَ, وَنَهَضَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ, وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ بَعْدُ. ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَتُكَبِّرُ خَلْفَ الإِمَامِ, وَيُصَلِّي بِهِمْ الإِمَامُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ لَهُ وَهِيَ لَهُمْ الآُولَى, فَإِذَا جَلَسَ وَتَشَهَّدَ: سَلَّمَ, وَتَنْهَضُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي صَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ, وَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ, فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ صَلَّتْ مَعَ الإِمَامِ الرَّكْعَةَ الآُولَى فَتَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ, فَتَقْضِي فِيهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهَا, وَتُسَلِّمُ, ثُمَّ تَأْتِي فَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. وَتَرْجِعُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ, فَتَقْضِي فِيهِ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهَا. إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ زَادَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ زِيَادَةً لاَ تُعْرَفُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ قَبْلَهُ: وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ: تَقْضِي الطَّائِفَةُ الآُولَى

(5/39)


الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بِلاَ قِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِيهَا. وَتَقْضِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا، وَلاَ بُدَّ.
قال علي: وهذا عَمَلٌ لَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ مِمَّا قَدْ يُخَالِفُ كُلَّ أَثَرٍ جَاءَ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ, تَأْخِيرُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا إتْمَامَ الرَّكْعَةِ الْبَاقِيَةِ لَهُمَا إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الإِمَامُ, فَتَبْتَدِئُ أُولاَهُمَا بِالْقَضَاءِ, ثُمَّ لاَ تَقْضِي الثَّانِيَةُ إلاَّ حَتَّى تُسَلِّمَ الآُولَى. وَفِيهِ أَيْضًا مِمَّا يُخَالِفُ كُلَّ أَثَرٍ رُوِيَ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: مَجِيءُ كُلِّ طَائِفَةٍ لِلْقَضَاءِ خَاصَّةً إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّتْ فِيهِ مَعَ الإِمَامِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ عَنْهُ إلَى مُوَاجِهَةِ الْعَدُوِّ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
قلنا: قُلْتُمْ الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ, إنَّمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ خَبَرٌ فِيهِ ابْتِدَاءُ الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا بِالصَّلاَةِ مَعًا مَعَ الإِمَامِ, وَأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي صَلَّتْ آخِرًا هِيَ بَدَأَتْ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ الثَّانِيَةِ, وَلَيْسَ هَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ, لاَ سِيَّمَا إذَا لَمْ يُرْوَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تَخَيَّرْنَا ابْتِدَاءَ طَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ اتِّبَاعًا لِلآيَةِ.
قلنا: فَقَدْ خَالَفْتُمْ الآيَةَ فِي إيجَابِكُمْ صَلاَةَ كُلِّ طَائِفَةٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ تَمَامِ صَلاَةِ الإِمَامِ, وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {فلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فَخَالَفْتُمْ الْقُرْآنَ, وَجَمِيعَ الآثَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا, وَجَمِيعَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ نَظَرٍ، وَلاَ قِيَاسٍ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِنَادِرَةٍ, وَهِيَ:، أَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ الإِمَامُ الْعَدْلَ بَيْنَهُمْ, فَكَمَا صَلَّتْ الطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ أَوَّلاً فَكَذَلِكَ تَقْضِي أَوَّلاً!
قال علي: وهذا بَاطِلٌ, بَلْ هُوَ الْجَوْرُ وَالْمُحَابَاةُ, بَلْ الْعَدْلُ وَالتَّسْوِيَةُ هُوَ أَنَّهُ إذَا صَلَّتْ الْوَاحِدَةُ أَوَّلاً أَنْ تَقْضِيَ الثَّانِيَةُ أَوَّلاً, فَتَأْخُذَ كُلُّ طَائِفَةٍ بِحَظِّهَا مِنْ التَّقَدُّمِ وَبِحَظِّهَا مِنْ التَّأَخُّرِ.
وقال بعضهم: لَمْ نَرَ قَطُّ مَأْمُومًا بَدَأَ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ.
فَقِيلَ لَهُمْ: وَلاَ رَأَيْتُمْ قَطُّ مَأْمُومًا يَتْرُكُ صَلاَةَ إمَامِهِ وَيَمْضِي إلَى شُغْلِهِ وَيَقِفُ بُرْهَةً طَوِيلَةً بَعْدَ تَمَامِ صَلاَةِ إمَامِهِ لاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْهَا, وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: بِهَذَا بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ قِيَاسٍ, ثُمَّ تَعِيبُونَ مِنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ لاَ سِيَّمَا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَضَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا بِقِرَاءَةٍ وَالآُخْرَى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ, فَمَا عُرِفَ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ يُؤَيِّدُهُ رَأْيٌ سَدِيدٌ, وَلاَ قِيَاسٌ.

(5/40)


وَمِنْهَا قَوْلٌ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ اللُّؤْلُؤِيِّ, وَهُوَ: أَنْ لاَ تُصَلَّى صَلاَةُ الْخَوْفِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال علي: وهذا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
قَالَ عَلِيٌّ: إلاَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ النِّكَاحَ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ خَاصٌّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّلاَةَ جَالِسًا كَذَلِكَ: لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ هَهُنَا.
وَمِنْهَا قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, وَهُوَ: أَنَّ تَكْبِيرَتَيْنِ فَقَطْ تُجْزِئَانِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ, وَمُجَاهِدٍ: تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ وَهَذَا خَطَأٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قال قائل: كَيْف تَقُولُونَ بِصَلاَةِ الْخَوْفُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, وَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلاَةَ الْخَوْفِ مَرَّةً, لَمْ يُصَلِّ بِنَا قَبْلَهَا، وَلاَ بَعْدَهَا؟!
قلنا: هَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْكُمْ; لاَِنَّهُ يُقَالُ لَكُمْ: مِنْ أَيْنَ كَانَ لَكُمْ بِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي اخْتَرْتُمُوهُ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي عَمِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ صَلاَّهَا لاَ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُعْتَرِضُ بِهَذَا حَنَفِيًّا أَوْ مَالِكِيًّا لإِنَّ اخْتِيَارَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ لَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَيْف وَهَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ, وَهُوَ ضَعِيفٌ, عَنْ شَرِيكٍ الْقَاضِي, وَهُوَ مُدَلِّسٌ لاَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ, فَكَيْف يَسْتَحِلُّ ذُو دِينٍ أَنْ يُعَارِضَ بِهَذِهِ السَّوْءَةِ أَحَادِيثَ الْكَوَافِّ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَجْمَعِينَ: إنَّهُمْ شَهِدُوا صَلاَةَ الْخَوْفِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّاتٍ: مَرَّةً بِذِي قَرَدٍ, وَمَرَّةً بِذَاتِ الرِّقَاعِ, وَمَرَّةً بِنَجْدٍ, وَمَرَّةً بَيْنَ ضَجَنَانَ وَعُسْفَانَ, وَمَرَّةً بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ, وَمَرَّةً بِنَخْلٍ, وَمَرَّةً بِعُسْفَانَ, وَمَرَّةً يَوْمَ مُحَارَبٍ وَثَعْلَبَةَ, وَمَرَّةً إمَّا بِالطَّائِفِ وَأَمَّا بِتَبُوكَ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ, وَرَوَى ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ وَالثِّقَاتُ الأَثْبَاتُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَن.
قَالَ عَلِيٌّ: وَإِنَّمَا قلنا: بِالصَّلاَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ خَوْفٍ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فُرِضَتْ الصَّلاَةُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا, وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ, وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً" وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ حُكْمِهِ عليه السلام بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/41)


لا يجوز أن يصلي صلاة الخوف من خاف بطالب له بحق
...
520 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَتَيْنِ مَنْ خَافَ مِنْ طَالِبٍ

(5/41)


لَهُ بِحَقٍّ, وَلاَ أَنْ يُصَلِّيَ أَصْلاً بِثَلاَثِ طَوَائِفَ فَصَاعِدًا,
لإِنَّ فِي صَلاَتِهَا بِطَائِفَتَيْنِ عَمَلاً لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي صَلاَتِهَا هِيَ مَنْهِيَّةٌ عَنْهُ إنْ كَانَتْ بَاغِيَةً وَمَنْ عَمِلَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ, إذْ لَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى رَاكِبًا, أَوْ مَاشِيًا, أَوْ مُحَارَبًا, أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ, أَوْ قَاعِدًا خَوْفَ طَالِبٍ لَهُ بِحَقٍّ; لاَِنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَمِلَ عَمَلاً قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي صَلاَتِهِ, وَهُوَ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ عَامِلٌ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ عَمَلاً أُبِيحَ لَهُ فِي صَلاَتِهِ تِلْكَ.
وَلَمْ يُصَلِّ عليه السلام قَطُّ بِثَلاَثِ طَوَائِفَ, وَلَوْلاَ صَلاَتُهُ عليه السلام بِطَائِفَتَيْنِ لَمَا جَازَ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ عَمِلَ فِي الصَّلاَةِ, وَلاَ يَجُوزُ عَمَلٌ فِي الصَّلاَةِ, إلاَّ مَا أَبَاحَهُ النَّصُّ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلاً".
وَالْوَاحِدُ مَعَ الإِمَامِ طَائِفَةٌ وَصَلاَةُ جَمَاعَةٍ.
وَمَنْ صَلَّى كَمَا ذَكَرْنَا هَارِبًا، عَنْ كَافِرٍ أَوْ، عَنْ بَاغٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ أَيْضًا, إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ فِي مَشْيِهِ ذَلِكَ تَحَرُّفًا لِقِتَالٍ أَوْ تَحَيُّزًا إلَى فِئَةٍ فَتُجْزِئُهُ صَلاَتُهُ حِينَئِذٍ. لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} فَمَنْ وَلِيَ الْكُفَّارَ ظَهْرَهُ وَالْبُغَاةَ الْمُفْتَرَضُ قِتَالُهُمْ لاَ يَنْوِي تَحَيُّزًا، وَلاَ تَحَرُّفًا: فَقَدْ عَمِلَ فِي صَلاَتِهِ عَمَلاً مُحَرَّمًا عَلَيْهِ, فَلَمْ يُصَلِّ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْفَارُّ، عَنِ السِّبَاعِ, وَالنَّارِ, وَالْحَنَشِ, وَالْمَجْنُونِ, وَالْحَيَوَانِ الْعَادِي, وَالسَّيْلِ وَخَوْفِ عَطَشٍ, وَخَوْفِ فَوْتِ الرُّفْقَةِ, أَوْ فَوْتِ مَتَاعِهِ, أَوْ ضَلاَلِ الطَّرِيقِ: فَصَلاَتُهُ تَامَّةٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي ذَلِكَ إلاَّ مَا أُمِرَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/42)


صلاة الجمعة
الجمعة: هي ظهر يوم الجمعة و لا يجوز أن تصلى إلا بعد الزوال
...
صلاة الجمعة
521 - مَسْأَلَةٌ: الْجُمُعَةُ, هِيَ ظُهْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُصَلَّى إلاَّ بَعْدَ الزَّوَالِ,
وَآخِرُ وَقْتِهَا: آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الأَيَّامِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلاَنَ1 قَالَ: شَهِدْت الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَخُطْبَتَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ شَهِدْت الْجُمُعَةَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَضَى صَلاَتَهُ وَخُطْبَتَهُ مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ.
ـــــــ
1 بكسر السين النهنلة وإسكان الياء المثناة التحتية.

(5/42)


وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ مَسْعُودٍ الْجُمُعَةَ ضُحًى, وَقَالَ: إنَّمَا عَجَّلْت بِكُمْ خَشْيَةَ الْحَرِّ عَلَيْكُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت أَرَى طَنْفَسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تُطْرَحُ إلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ, فَإِذَا غَشَّى الطَّنْفَسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَصَلَّى, ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُقِيلُ قَائِلَةَ الضُّحَى. قال علي: هذا يُوجِبُ أَنَّ صَلاَةَ عُمَرَ رضي الله عنه الْجُمُعَةَ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ, لإِنَّ ظِلَّ الْجِدَارِ مَا دَامَ فِي الْغَرْبِ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ, فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ صَارَ الظِّلُّ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَلاَ بُدَّ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ1 قَالَ ابْنُ أَبِي سَلِيطٍ: وَكُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَ عُثْمَانَ وَنَنْصَرِفُ وَمَا لِلْجِدَارِ ظِلٌّ.
قَالَ عَلِيٌّ: بَيْنَ الْمَدِينَةِ, وَمَلَلٍ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِيلاً, وَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْطُبَ وَيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ يَمْشِيَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَبْلَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ إلاَّ مَنْ طَرَقَ طَرْقَ السَّرَايَا2 أَوْ رَكَضَ رَكْضَ الْبَرِيدِ الْمُؤَجَّلِ3 وَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ هَذَا.
وَقَدْ. روِّينَا أَيْضًا هَذَا، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُلُّ عِيدٍ حِينَ يَمْتَدُّ الضُّحَى: الْجُمُعَةُ, وَالأَضْحَى, وَالْفِطْرُ, كَذَلِكَ بَلَغَنَا.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلُّ عِيدٍ فَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ. قَالَ عَلِيٌّ: أَيْنَ الْمُمَوِّهُونَ إنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ عَمَلَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَجْمَعِينَ الْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَهَذَا عَمَلُ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ الزُّبَيْرِ, وَطَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لاَ يُبَالُونَ مَا قَالُوا فِي نَصْرِ تَقْلِيدِهِمْ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَالْحُجَّةُ عِنْدَنَا فِيمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ
ـــــــ
1 بفتح الميم واللام وآخره لام ثانية – بلفظ الملل من الملال – وهو منزل على طريق المدينة إلى مكة عن ثمانية وعشرين ميلا من المدينة قاله ياقوت.
2 الطرق – بإسكان الراء – هو سرعة المشي.
3 ضبط هذا الحرف في النسخة رقم "14" بكسر الجيم الكشددة, وما أدري وجه ذلك ولعل الكلمة مصحفة أو محرفة.

(5/43)


ابْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حدثنا حَسَنُ بْنُ عَيَّاشِ1، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُرِيحُ نَوَاضِحَنَا, قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ". وَبِهِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ وَرَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً, فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إلَى الْجُمُعَةِ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ مَثَلُ مَنْ يُهْدِي شَاةً, ثُمَّ مَثَلُ مَنْ يُهْدِي دَجَاجَةً, ثُمَّ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي عُصْفُورًا, ثُمَّ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي بَيْضَةً, فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ فَجَلَسَ طُوِيَتْ الصُّحُفُ".
وَرُوِّينَا نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: فَضْلُ التَّبْكِيرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الْمَسْجِدِ لاِنْتِظَارِ الْجُمُعَةِ وَبُطْلاَنُ قَوْلِ مِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ كُلَّهَا إنَّمَا هِيَ لِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهَا سَاعَاتٍ مُتَغَايِرَاتٍ2 ثَانِيَةً, وَثَالِثَةً, وَرَابِعَةً, وَخَامِسَةً, فَلاَ يَحِلَّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ دَرَجَ الْفَضْلِ يَنْقَطِعُ بِخُرُوجِ الإِمَامِ, وَخُرُوجُهُ إنَّمَا هُوَ قَبْلَ النِّدَاءِ, وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ مَعَ النِّدَاءِ, فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ
ـــــــ
1 هو أخو أبي بكر بن عياش وهو ثقة حجة مات سنة 172 هـ.
2 في النسخة رقم "14" "متغايرة".

(5/44)


وَفِيهِمَا: أَنَّ الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ; لإِنَّ مَالِكًا، عَنْ سُمَيٍّ ذَكَرَ خَمْسَ سَاعَاتٍ. وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَاللَّيْثِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَاعَةً سَادِسَةً وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ بِخُرُوجِ الإِمَامِ تُطْوَى الصُّحُفُ.فَصَحَّ أَنَّ خُرُوجَهُ بَعْدَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ, وَهُوَ أَوَّلُ الزَّوَالِ, وَوَقْتُ الظُّهْرِ.
فإن قيل: "قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَرْجِعُ وَمَا نَجِدُ لِلْحِيطَانِ ظِلًّا نَسْتَظِلُّ بِهِ".
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَنْفِ سَلَمَةُ الظِّلَّ جُمْلَةً, إنَّمَا نَفَى ظِلًّا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ, وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قِصَرِ الْخُطْبَةِ, وَتَعْجِيلُ الصَّلاَةِ فِي أَوَّلِ الزَّوَالِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: "وَمَا كُنَّا نُقِيلُ، وَلاَ نَتَغَدَّى إلاَّ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ" لَيْسَ, فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَخَطَبَ يَعْنِي, لِلْجُمُعَةِ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: شَهِدْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إذَا زَالَتْ, الشَّمْسُ.
وَفَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ آخِرِ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَبَيْنَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ, عَلَى أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَنَا فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ, وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَإِذْ هِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ آخِرِ وَقْتِهَا مِنْ أَجْلِ اخْتِلاَفِ الأَيَّامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
522 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجُمُعَةُ إذَا صَلاَّهَا اثْنَانِ فَصَاعِدًا رَكْعَتَانِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ. وَمِنْ صَلاَّهُمَا وَحْدَهُ صَلاَّهُمَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يُسِرُّ فِيهَا كُلَّهَا, لاَِنَّهَا الظُّهْرُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ وُجُوبِ قَصْرِ الصَّلاَةِ مِنْ كِتَابِنَا حَدِيثَ عُمَرَ: "صَلاَةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ, وَصَلاَةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ, تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ, عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم"1.
قال أبو محمد: وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ لِلْفَذِّ وَلِلْجَمَاعَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, لاَِنَّهُ الْجُمُعَةُ: اسْمٌ إسْلاَمِيٌّ لِلْيَوْمِ, لَمْ يَكُنْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, إنَّمَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ "الْعُرُوبَةُ" فَسُمِّيَ فِي الإِسْلاَمِ "يَوْمَ الْجُمُعَةِ "; لاَِنَّهُ يُجْتَمَعُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ اسْمًا مَأْخُوذًا مِنْ الْجَمْعِ, فَلاَ تَكُونُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ إلاَّ فِي جَمَاعَةٍ وَإِلاَّ فَلَيْسَتْ صَلاَةَ جُمُعَةٍ, إنَّمَا هُمَا ظُهْرٌ, وَالظُّهْرُ أَرْبَعٌ كَمَا قَدَّمْنَا2.
ـــــــ
1 ذكرها المصنف في المسألة 512 "ج 4 ص 265".
2 هنا بحاشية النسخة رقم "14" ما نصه "حكى أبو عنر بن عبد البر أن داود بن علي يرة أن الجمعة على واحد يعني يصلي ركعتين فقط وحكى عنه أبو محمد خلاف هذا" ا هـ وأقزل: لم يحك ابن حزم شيئا

(5/45)


وَقَدْ ثَبَتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِيهَا, وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ, نَقْلُ كَوَافٍ مِنْ عَهْدِهِ عليه السلام إلَى الْيَوْمِ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِهَا.
وَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي يُصَلِّيه الإِمَامُ فِيهِ جُمُعَةٍ رَكْعَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
فَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْجُمُعَةُ تَكُونُ بِخَمْسِينَ رَجُلاً فَصَاعِدًا.
وقال الشافعي: لاَ جُمُعَةَ إلاَّ بِأَرْبَعِينَ رَجُلاً: أَحْرَارًا, مُقِيمِينَ, عُقَلاَءَ, بَالِغِينَ فَصَاعِدًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ النَّاسِ: ثَلاَثِينَ رَجُلاً.
وَعَنْ غَيْرِهِ: عِشْرِينَ رَجُلاً.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: سَبْعَةَ رِجَالٍ لاَ أَقَلَّ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَزُفَرَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: إذَا كَانَ ثَلاَثَةُ رِجَالٍ وَالإِمَامُ رَابِعُهُمْ صَلَّوْا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ, وَلاَ تَكُونُ بِأَقَلَّ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إذَا كَانَ رَجُلاَنِ وَالإِمَامُ ثَالِثُهُمَا صَلَّوْا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ, وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: إذَا كَانَ وَاحِدٌ مَعَ الإِمَامِ صَلَّيَا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةِ رَكْعَتَيْنِ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا, وَبِهِ نَقُولُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَنْ حَدَّ خَمْسِينَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا حَدِيثًا فِيهِ: "عَلَى الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ إمَامٌ". وَهَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ, وَالْقَاسِمُ هَذَا ضَعِيفٌ.

(5/46)


وَأَمَّا مَنْ حَدَّ بِثَلاَثِينَ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا خَبَرًا مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُحَمَّدٍ الأَزْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ "إذَا اجْتَمَعَ ثَلاَثُونَ رَجُلاً فَلْيُؤَمِّرُوا رَجُلاً يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ".
وَأَمَّا مِنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَاللَّيْثِ: فَذَكَرُوا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيَّةِ وَقَدْ أَدْرَكَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلاَّ أَرْبَعَةٌ".
وَهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِهِ; لإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَحْيَى, وَمُعَاوِيَةَ بْنَ سَعِيدٍ: مَجْهُولاَنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا الْخَبَرَ, لاَِنَّهُ لاَ يَرَى الْجُمُعَةَ فِي الْقُرَى, لَكِنْ فِي الأَمْصَارِ فَقَطْ.
فَكُلُّ هَذِهِ آثَارٌ لاَ تَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْجُمُعَةِ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ سَاقِطٌ، عَنْ رَوْحِ بْنِ غُطَيْفٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ "لَمَّا بَلَغُوا مِائَتَيْنِ جَمَّعَ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم", فَإِنْ أَخَذُوا بِالأَكْثَرِ فَهَذَا الْخَبَرُ هُوَ الأَكْثَرُ, وَإِنْ أَخَذُوا بِالأَقَلِّ فَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَدِيثًا فِيهِ أَقَلُّ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ نِدَاءَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ, فَسَأَلَهُ ابْنُهُ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ حُرَّةُ بَنِي بَيَاضَةَ, فِي نَقِيعٍ يُعْرَفُ بِنَقِيعِ الْخَضِمَاتِ وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلاً.

(5/47)


قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لمْ يَقُلْ: إنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ, نَعَمْ وَالْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ بِأَرْبَعِينَ رَجُلاً وَبِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَبِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُبَيْعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانِ، عَنْ هِشَامٍ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ, وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لمْ يَقُلْ: إنَّهُ لاَ تَكُونُ جَمَاعَةٌ، وَلاَ جُمُعَةٌ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ.
وَأَمَّا حُجَّتُنَا فَهِيَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ: قَالَ لَهُ: "إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا, وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا فَجَعَلَ عليه السلام لِلاِثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلاَةِ".
فإن قال قائل: إنَّ الاِثْنَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ثَالِثٌ فَإِنَّ حُكْمَ الإِمَامِ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَلَى يَمِينِ الإِمَامِ, فَإِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً فَقَدْ قِيلَ: يَقِفَانِ، عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ وَيَسَارِهِ وَقَدْ قِيلَ: بَلْ خَلْفَ الإِمَامِ, وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الأَرْبَعَةِ: أَنَّ الثَّلاَثَةَ يَقِفُونَ خَلْفَ الإِمَامِ, فَوَجَدْنَا حُكْمَ الأَرْبَعَةِ غَيْرَ حُكْمِ الاِثْنَيْنِ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا نَعَمْ, هُوَ كَمَا تَقُولُونَ: فِي مَوَاضِعِ الْوُقُوفِ, إلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ وَاجِبٌ لَهُمَا بِإِقْرَارِكُمْ, وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اخْتِلاَفِ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ الْجُمُعَةِ أَصْلاً وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بأن صَلاَةَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ، عَنْ هَذَا الأَمْرِ وَعَنْ هَذَا الْحُكْمِ أَحَدٌ إلاَّ مَنْ جَاءَ نَصٌّ جَلِيٌّ أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْهُ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ الْفَذَّ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ ابْتَدَأَهَا إنْسَانٌ، وَلاَ أَحَدَ مَعَهُ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ أَوْ أَكْثَرُ, فَسَوَاءٌ أَتَوْهُ إثْرَ تَكْبِيرِهِ فَمَا بَيْنَ

(5/48)


ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْكَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ الآُولَى: يَجْعَلُهَا جُمُعَةً وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ, لاَِنَّهَا قَدْ صَارَتْ صَلاَةَ جُمُعَةٍ, فَحَقُّهَا أَنْ تَكُونَ رَكْعَتَيْنِ, وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ, وَهِيَ ظُهْرُ يَوْمِهِ. فَإِنْ جَاءَهُ بَعْدَ أَنْ رَكَعَ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ: فَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ وَيَبْتَدِئُهَا صَلاَةَ جُمُعَةٍ, لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ رَكْعَتَيْنِ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ بِقَطْعِ صَلاَتِهِ الَّتِي قَدْ بَطَلَ حُكْمُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/49)


سواء المسافر و العبد و الحر و المقيم و غيرهم في وجوب الجمعة
...
523 - مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ, وَالْعَبْدُ, وَالْحُرُّ, وَالْمُقِيمُ,
وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا يَكُونُ إمَامًا فِيهَا, رَاتِبًا وَغَيْرَ رَاتِبٍ, وَيُصَلِّيهَا الْمَسْجُونُونَ, وَالْمُخْتَفُونَ رَكْعَتَيْنِ فِي جَمَاعَةٍ بِخُطْبَةٍ كَسَائِرِ النَّاسِ, وَتُصَلَّى فِي كُلِّ قَرْيَةٍ صَغُرَتْ أَمْ كَبُرَتْ, كَانَ هُنَالِكَ سُلْطَانٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ, وَإِنْ صُلِّيَتْ الْجُمُعَةُ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي الْقَرْيَةِ فَصَاعِدًا: جَازَ ذَلِكَ.
وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: أَنْ لاَ جُمُعَةَ عَلَى عَبْدٍ, وَلاَ مُسَافِرٍ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ مَنْ قَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ بِآثَارٍ وَاهِيَةٍ لاَ تَصِحُّ: أَحَدُهَا مُرْسَلٌ, وَالثَّانِي فِيهِ هُرَيْمٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّالِثُ فِيهِ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو, وَضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو, وَهُمَا مَجْهُولاَنِ، وَلاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا.

(5/49)


وَلَوْ شِئْنَا لَعَارَضْنَاهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بِأَصْحَابِهِ فِي سَفَرٍ, وَخَطَبَهُمْ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا", وَلَكِنَّنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فِي غِنًى بِالصَّحِيحِ عَمَّا لاَ يَصِحُّ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَجْهَرْ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ, وَكَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَا رَوَى قَطُّ أَحَدٌ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا, وَالْقَاطِعُ بِذَلِكَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَفَا مَا لاَ عِلْمَ له بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: إنْ وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ جُمُعَةٍ جَهَرَ الإِمَامُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام خَطَبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهَذِهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ, وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ أَصْلاً, لإِنَّ الْجَهْرَ لَيْسَ فَرْضًا, وَمَنْ أَسَرَّ فِي صَلاَةِ جَهْرٍ, أَوْ جَهَرَ فِي صَلاَةِ سِرٍّ, فَصَلاَتُهُ تَامَّةٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَلَجَأَ بَعْضُهُمْ إلَى دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا مَكَانٌ هَانَ فِيهِ الْكَذِبُ عَلَى مُدَّعِيهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ كَذَبَ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ: قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ: وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ثُمَّ اتَّفَقَ وَكِيعٌ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ كِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ كَتَبُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُونَهُ، عَنِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: أَنْ جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ وَقَالَ وَكِيعٌ: إنَّهُ كَتَبَ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَنْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ قَالَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ.
وَعَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ وَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ, عَلَى مَنْ تَجِبُ الْجُمُعَةُ قَالَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ.
فَعَمَّمَ سَعِيدُ, وَعَمْرٌو: كُلُّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ, وَلَمْ يَخُصَّا عَبْدًا, وَلاَ مُسَافِرًا, مِنْ غَيْرِهِمَا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ، حدثنا صَالِحُ بْنُ سَعْدٍ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مُتَبَدٍّ بِالسُّوَيْدَاءِ فِي إمَارَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ, فَحَضَرَتْ الْجُمُعَةُ, فَهَيَّئُوا

(5/50)


لَهُ مَجْلِسًا مِنْ الْبَطْحَاءِ, ثُمَّ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ, فَخَرَجَ إلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, فَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ, ثُمَّ أَذَّنُوا أَذَانًا آخَرَ, ثُمَّ خَطَبَهُمْ, ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ, فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَأَعْلَنَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ, ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إنَّ الإِمَامَ يَجْمَعُ حَيْثُمَا كَانَ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ, إذَا سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ قَرْيَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ فِيهَا قَالَ: إذَا سَمِعَ الأَذَانَ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إذَا كَانُوا سَبْعَةً فِي سَفَرٍ فَجَمَعُوا يُحْمَدُ اللَّهُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ وَيُخْطَبُ فِي الْجُمُعَةِ, وَالأَضْحَى وَالْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: أَيُّمَا عَبْدٍ كَانَ يُؤَدِّي الْخَرَاجَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَرَاجٌ أَوْ شَغَلَهُ عَمَلُ سَيِّدِهِ فَلاَ جُمُعَةَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْفَرْقُ بَيْنَ عَبْدٍ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ, وَبَيْنَ عَبْدٍ لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِ: دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ.
فَلَجَئُوا إلَى أَنْ قَالُوا: رُوِيَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: لاَ جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ بِنِيسَابُورَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لاَ يَجْمَعُ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ كَانَ بِكَابُلَ شِتْوَةً أَوْ شِتْوَتَيْنِ فَكَانَ لاَ يَجْمَعُ.
قَالَ عَلِيٌّ: حَصَلْنَا مِنْ دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى ثَلاَثَةٍ قَدْ خَالَفْتُمُوهُمْ أَيْضًا; لإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ, وَأَنَسًا رضي الله عنهما كَانَا لاَ يَجْمَعَانِ, وَهَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ مَعَ النَّاسِ وَيُجْزِئُهُ. وَرَأَى عَلِيٌّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بِالنَّاسِ مَنْ يُصَلِّي بِضُعَفَائِهِمْ صَلاَةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: بِهَذَا. وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرَى الْجُمُعَةَ عُمُومًا.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذَا خِطَابٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مُسَافِرٌ، وَلاَ عَبْدٌ بِغَيْرِ نَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُهُ وَفِعْلُهُ أَنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ.
وَأَمَّا إمَامَةُ الْمُسَافِرِ, وَالْعَبْدِ فِي الْجُمُعَةِ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ, وَأَبَا سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابَهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ ذَلِكَ, وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ: وَهُوَ خَطَأٌ. أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ الْمُسَافِرَ وَالْعَبْدَ إذَا حَضَرَا الْجُمُعَةَ كَانَتْ لَهُمَا جُمُعَةٌ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ إمَامَتِهِمَا فِيهَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" وَ "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ" فَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام جُمُعَةً

(5/51)


مِنْ غَيْرِهَا, وَلاَ مُسَافِرًا, وَلاَ عَبْدًا مِنْ حُرٍّ مُقِيمٍ, وَلاَ جَاءَ قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْعُ الْعَبْدِ مِنْ الإِمَامَةِ فِيهِمَا, بَلْ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عَبْدٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه أَسْوَدُ مَمْلُوكٌ أَمِيرًا لَهُ عَلَى الرَّبَذَةَ يُصَلِّي خَلْفَهُ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا; لإِنَّ الرَّبَذَةَ بِهَا جُمُعَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: كَانَ هُنَالِكَ سُلْطَانٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَالْحَاضِرُونَ مِنْ مُخَالِفِينَا مُوَافِقُونَ لَنَا فِي ذَلِكَ إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ وَقَدْ قلنا: لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّجْمِيعِ بِغَيْرِ نَصٍّ جَلِيٍّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا وَبَيْنَ الإِمَامِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ رَدُّ الْجُمُعَةِ خَاصَّةً إلَى السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهَا؟
وَأَمَّا قَوْلُنَا: تُصَلَّى الْجُمُعَةُ فِي أَيِّ قَرْيَةٍ صَغُرَتْ أَمْ كَبُرَتْ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لاَ جُمُعَةَ، وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ, وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلاَفَ عُمَرَ لِذَلِكَ, وَخِلاَفَهُمْ لِعَلِيٍّ فِي غَيْرِ مَا قِصَّةٍ.
وقال مالك: لاَ تَكُونُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةِ الْبُنْيَانِ.
قال علي: هذا تَحْدِيدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ, وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ, لإِنَّ ثَلاَثَةَ دُورٍ قَرْيَةٌ مُتَّصِلَةُ الْبُنْيَانِ, وَإِلاَّ فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَحْدِيدِ الْعَدَدِ الَّذِي لاَ يَقَعُ اسْمُ قَرْيَةٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ, وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ النَّقْلُ بِهِ مُتَّصِلاً فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ, حَتَّى قَطَعَهُ الْمُقَلِّدُونَ بِضَلاَلِهِمْ، عَنِ الْحَقِّ, وَقَدْ شَاهَدْنَا جَزِيرَةَ "مَيُورْقَةَ" يَجْمَعُونَ فِي قُرَاهَا, حَتَّى قَطَعَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ لِمَالِكٍ, وَبَاءَ بِإِثْمِ النَّهْيِ، عَنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ.
وَرُوِّينَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمُرُّ عَلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ وَهُمْ يَجْمَعُونَ فَلاَ يَنْهَاهُمْ، عَنْ ذَلِكَ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ الْمِيَاهِ أَنْ يَجْمَعُوا, وَيَأْمُرُ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ لاَ يَنْتَقِلُونَ بِأَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرٌ يَجْمَعُ بِهِمْ.

(5/52)


وَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ كَانَ قَوْلُكُمْ حَقًّا وَصَوَابًا لَجَاءَ بِهِ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ, وَلَمَا جَازَ أَنْ يَجْهَلَهُ ابْنُ عُمَرَ, وَقَبْلَهُ أَبُوهُ عُمَرُ, وَالزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ الْجُمُعَةَ جَائِزَةٌ فِي مَسْجِدَيْنِ فَصَاعِدًا فِي الْقَرْيَةِ: فَإِنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَمُوا، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمِصْرِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ جَانِبَانِ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ, فَيُجْزِئُ أَنْ يَجْمَعَ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمَا.
وَرَوَوْا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا: أَنَّ الْجُمُعَةَ تُجْزِئُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمِصْرِ, وَلاَ تُجْزِئُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ.
وَكِلاَ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ السُّخْفِ حَيْثُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ لاَِنَّهُ لاَ يُعَضِّدُهُمَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ.
وَقَدْ رَوَوْا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْمِصْرِ.
فَإِنْ قَالُوا: صَلَّى عَلِيٌّ الْعِيدَ فِي الْمُصَلَّى وَاسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِالضُّعَفَاءِ فِي الْمَسْجِدِ, فَهُمَا مَوْضِعَانِ وَهَذَا لاَ يُقَالُ: رَأْيًا.
قلنا لَهُمْ: فَقُولُوا: إنَّهُ لاَ تُجْزِئُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي الْمُصَلَّى. وَفِي الْجَامِعِ فَقَطْ, وَإِلاَّ فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ, كَمَا خَالَفْتُمُوهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, إذْ أَمَرَ رضي الله عنه الَّذِي اسْتَخْلَفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْعِيدَ أَرْبَعًا.
فَقُلْتُمْ: هَذَا شَاذٌّ فَيُقَالُ لَكُمْ: بَلْ الشَّاذُّ هُوَ الَّذِي أَجَزْتُمْ, وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى آرَاءَكُمْ قِيَاسًا عَلَى الآُمَّةِ, وَلاَ عِيَارًا فِي دِينِهِ وَهَلاَّ قُلْتُمْ, فِي هَذَا الْخَبَرِ كَمَا تَقُولُونَ فِي خَبَرِ الْمُصَرَّاةِ وَغَيْرِهِ: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الآيَةِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِافْتِرَاضِ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ, فَصَارَ تَخْصِيصُهُ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقُرْآنِ بِخَبَرٍ شَاذٍّ غَيْرِ قَوِيِّ النَّقْلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجِبُ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ؟!
وَمَنَعَ مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: مِنْ التَّجْمِيعِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْمِصْرِ.
وَرَأَيْنَا الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَالِكٍ يَحُدُّونَ فِي أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَ الْجَامِعِينَ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ, وَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا التَّحْدِيدُ، وَلاَ كَيْف دَخَلَ فِي عَقْلِ ذِي عَقْلٍ حَتَّى يَجْعَلَهُ دِينًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} فَلَمْ يَقُلْ عَزَّ وَجَلَّ: فِي مَوْضِعٍ، وَلاَ مَوْضِعَيْنِ، وَلاَ أَقَلَّ, وَلاَ أَكْثَرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.

(5/53)


فَإِنْ قَالُوا: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعَوَالِي يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ.
قلنا: نَعَمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ ذِي الْحُلَيْفَةِ يَجْمَعُونَ مَعَهُ أَيْضًا عليه السلام, رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَلاَ يَلْزَمُ هَذَا عِنْدَكُمْ, وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ عليه السلام سَائِرَ الصَّلَوَاتِ, وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ سَائِرَ قَوْمِهِمْ لاَ يُصَلُّونَ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَجْمَعُونَ سَائِرَ قَوْمِهِمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ, وَلاَ يَحُدُّونَ هَذَا أَبَدًا.
وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ فِي الْقُرْآنِ السَّعْيَ إلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى نَحْوِ نِصْفِ مِيلٍ, أَوْ ثُلُثَيْ مِيلٍ لاَ يُدْرِكُ الصَّلاَةَ أَصْلاً إذَا رَاحَ إلَيْهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّوَاحِ إلَيْهَا. فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْمَعُونَ فِيهِ إذَا رَاحُوا إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرُوا بِالرَّوَاحِ إلَيْهِ فِيهِ أَدْرَكُوا الْخُطْبَةَ وَالصَّلاَةَ, وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّوَاحَ حِينَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَإِيجَابُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَدِينَةَ وَإِنَّمَا هِيَ قُرًى صِغَارٌ مُفَرَّقَةٌ, بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَتِهِمْ حَوَالِي دُورِهِمْ أَمْوَالُهُمْ وَنَخْلُهُمْ, وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فِي دَارِهِمْ كَذَلِكَ, وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ, وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ, وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ, وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ, وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ, وَبَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ كَذَلِكَ, وَسَائِرِ بُطُونِ الأَنْصَارِ كَذَلِكَ, فَبَنَى مَسْجِدَهُ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ, وَجَمَعَ فِيهِ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَتْ بِالْكَبِيرَةِ, وَلاَ مِصْرَ هُنَالِكَ. فَبَطَل قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنْ لاَ جُمُعَةَ إلاَّ فِي مِصْرٍ, وَهَذَا أَمْرٌ لاَ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ لاَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ كَافِرٌ, بَلْ هُوَ نَقْلُ الْكَوَافِّ مِنْ شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, "حَيْثُمَا كُنْتُمْ" إبَاحَةٌ لِلتَّجْمِيعِ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ تُجْمَعُ فِيهِ لِلصَّلاَةِ فَلْتُصَلَّ فِيهِ الْجُمُعَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَرَأَيْت أَهْلَ الْبَصْرَةِ لاَ يَسَعُهُمْ الْمَسْجِدُ الأَكْبَرُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ قَالَ: لِكُلِّ قَوْمٍ مَسْجِدٌ يَجْمَعُونَ فِيهِ ثُمَّ يُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ.

(5/54)


524 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ عَبْدِهِ مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ,
لاَِنَّهُ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَدْعُوٌّ إلَيْهَا فَسَعْيُهُ إلَيْهَا فَرْضٌ, كَمَا أَنَّ الصَّلاَةَ فَرْضٌ، وَلاَ فَرْقَ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِهِ

(5/54)


قَالَ تَعَالَى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ".

(5/55)


لا جمعة على معذور بمرض أو خوف أو غير ذلك من الأعذار و لا على النساء
...
525 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ جُمُعَةَ عَلَى مَعْذُورٍ بِمَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَعْذَارِ, وَلاَ عَلَى النِّسَاءِ,
فَإِنْ حَضَرَ هَؤُلاَءِ صَلُّوهَا رَكْعَتَيْنِ.
لإِنَّ الْجُمُعَةَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ تَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُسْقِطُ الإِجَابَةَ مِنْ الأَعْذَارِ مَا يُسْقِطُ الإِجَابَةَ إلَى غَيْرِهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ حَضَرَهَا الْمَعْذُورُ فَقَدْ سَقَطَ الْعُذْرُ, فَصَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَهِيَ رَكْعَتَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ صَلاَّهَا الرَّجُلُ الْمَعْذُورُ بِامْرَأَتِهِ صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلاَّهَا النِّسَاءُ فِي جَمَاعَةٍ.

(5/55)


و يلزم المجيء إلى الجمعة من كان منها
...
526 - مَسْأَلَةٌ: وَيَلْزَمُ الْمَجِيءُ إلَى الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ مِنْهَا
بِحَيْثُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَقَدْ تَوَضَّأَ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ الطَّرِيقَ إثْرَ أَوَّلِ الزَّوَالِ وَمَشَى مُتَرَسِّلاً وَيُدْرِكُ مِنْهَا وَلَوْ السَّلاَمَ, سَوَاءٌ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ, فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إنْ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا، وَلاَ السَّلاَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَجِيءُ إلَيْهَا, سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ, وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ.
وَالْعُذْرُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا كَالْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ، عَنْ سَائِرِ صَلَوَاتِ الْفَرْضِ, كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَأْمُرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ أَهْلَ فَاءَيْنِ فَمَنْ دُونَهَا بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ, وَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلاً مِنْ دِمَشْقَ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ مَنْ كَانَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ نعه.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ الْجَامِعِ بِمِقْدَارِ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ, وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تُؤْتَى الْجُمُعَةُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَنَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَالْحَكَمِ, وَعَطَاءٍ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ, وَأَبِي ثَوْرٍ: تُؤْتَى الْجُمُعَةُ مِنْ حَيْثُ إذَا صَلاَّهَا ثُمَّ خَرَجَ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي مَنْزِلِهِ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ, وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَكُونُ مِنْ الطَّائِفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلاَ

(5/55)


و يبتدئ الإمام بعد الأذان و تمامه بالخطبة فيخطب واقفا خطبتين يجلس بينهما جلسة
...
527 - مَسْأَلَةٌ: وَيَبْتَدِئُ الإِمَامُ بَعْدَ الأَذَانِ وَتَمَامِهِ بِالْخُطْبَةِ فَيَخْطُبُ وَاقِفًا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً.
وَلَيْسَتْ الْخُطْبَةُ فَرْضًا, فَلَوْ صَلاَّهَا إمَامٌ دُونَ خُطْبَةٍ صَلاَّهَا رَكْعَتَيْنِ جَهْرًا، وَلاَ بُدَّ.
وَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهُمَا عَلَى أَعْلَى الْمِنْبَرِ مُقْبِلاً عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ, يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى, وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُذَكِّرُ النَّاسَ بِالآخِرَةِ, وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَمَا خَطَبَ بِهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ, وَلَوْ خَطَبَ بِسُورَةٍ يَقْرَؤُهَا: فَحَسَنٌ.
فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى النَّاسِ إذْ دَخَلَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا يُسَلِّمَانِ إذَا قَعَدَا عَلَى الْمِنْبَرِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ

(5/57)


هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ, ثُمَّ يَقُومُ, كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ".
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُثْمَانَ, وَمُعَاوِيَةَ, أَنَّهُمَا كَانَا يَخْطُبَانِ جَالِسَيْنِ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَإِنَّمَا لَنَا الاِئْتِسَاءُ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِعْلُهُ فَرْضًا.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ فَقَالاَ: الْخُطْبَةُ فَرْضٌ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ إلاَّ بِهَا, وَالْوُقُوفُ فِي الْخُطْبَةِ فَرْضٌ, وَاحْتَجَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ تَنَاقَضَا فَقَالاَ: إنْ خَطَبَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ, وَإِنْ خَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ, وَإِنْ لَمْ يَخْطُبْ لَمْ يُجْزِهِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَخْبَرَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ".
قال أبو محمد: مِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ فِعْلِهِ عليه السلام فَرْضًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ فَرْضٍ.
وقال الشافعي: إنْ خَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ. ثُمَّ تَنَاقَضَ فَأَجَازَ الْجُمُعَةَ لِمَنْ خَطَبَ قَاعِدًا, وَالْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَالْقَوْلِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ فِي إجَازَتِهِمَا الْجُمُعَةَ بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ فَرْقَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يُصَلِّهَا إلاَّ أَرْبَعًا, لإِنَّ الْخُطْبَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْخُشَنِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ الْمَكِّيِّ قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً يَقُولاَنِ: مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ صَلَّى أَرْبَعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعْت مُجَاهِدًا يَقُولُ: إذَا لَمْ تُدْرِكْ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَصَلِّ أَرْبَعًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: الْخُطْبَةُ مَوْضِعُ الرَّكْعَتَيْنِ, فَمَنْ فَاتَتْهُ الْخُطْبَةُ صَلَّى أَرْبَعًا.
قال أبو محمد: الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ وَأَقْوَى, فَيَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِقَوْلِ عُمَرَ هَهُنَا, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
قال أبو محمد: مَنْ احْتَجَّ فِي إيجَابِ فَرْضِ الْخُطْبَةِ بِأَنَّهَا جُعِلَتْ بَدَلاً، عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ هَؤُلاَءِ, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضَ.

(5/58)


وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي إيجَابِ الْخُطْبَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً}.
قال أبو محمد: وَهَذَا الاِحْتِجَاجُ لاَ مَنْفَعَةَ لَهُمْ فِيهِ فِي تَصْوِيبِ قَوْلِهِمْ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ قَائِمًا, وَهَكَذَا نَقُولُ, وَإِنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ تَرَكُوهُ عليه السلام قَاعِدًا, وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ, وَلَيْسَ فِي إنْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَرْكِهِمْ لِنَبِيِّهِ عليه السلام قَائِمًا: إيجَابٌ لِفَرْضِ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ, وَلاَ لِفَرْضِ الْخُطْبَةِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُونَ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ، وَلاَ لَهُمْ, وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ, فَظَهَرَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِالآيَةِ عَلَيْهِمْ, وَأَنَّهَا مُبْطِلَةٌ لاَِقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَلَى إيجَابِ الْقِيَامِ, وَلَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَلَى إيجَابِ الْخُطْبَةِ, إنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْخُطْبَةَ تَكُونُ قِيَامًا فَقَطْ.
فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا تُعْجَلُ مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: مَنْ لَمْ يَخْطُبْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَدْ قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ سِيرِينَ:
وَقَدْ أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ بِجَارِي عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إنَّمَا مُرَادُهُ إلَى الْخُطْبَةِ وَجَعَلَ هَذَا حُجَّةً فِي إيجَابِ فَرْضِهَا قال أبو محمد: وَمَنْ لِهَذَا الْمُقْدِمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الْخُطْبَةَ بَلْ أَوَّلُ الآيَةِ وَآخِرُهَا يُكَذِّبَانِ ظَنَّهُ الْفَاسِدَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا افْتَرَضَ السَّعْيَ إلَى الصَّلاَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا, وَأَمَرَ إذَا قُضِيَتْ بِالاِنْتِشَارِ وَذَكَرَهُ كَثِيرًا. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِالسَّعْيِ لَهُ هُوَ الصَّلاَةُ, وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ, وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّمْجِيدِ, وَالْقِرَاءَةِ, وَالتَّشَهُّدِ لاَ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ هَذَا الْجَاهِلُ لَكَانَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهَا وَأَدْرَكَ الصَّلاَةَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ السَّعْيِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا, وَقَدْ قَالَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ, فَلاَ يَكْذِبُونَ ثَانِيَةً فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ مُمَوِّهِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُصَلِّهَا عليه السلام قَطُّ إلاَّ بِخُطْبَةٍ.
قلنا: وَلاَ صَلاَّهَا عليه السلام قَطُّ إلاَّ بِخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا, فَاجْعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ فَرْضًا لاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلاَّ بِهِ, وَلاَ صَلَّى عليه السلام قَطُّ إلاَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الآُولَى

(5/59)


فَأَبْطِلُوا الصَّلاَةَ بِتَرْكِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ فَاقْتِدَاءٌ بِظَاهِرِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: تُجْزِئُ تَكْبِيرَةٌ, وَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لاِِيجَابِهِ الْخُطْبَةَ فَرْضًا, لإِنَّ التَّكْبِيرَةَ لاَ تُسَمَّى خُطْبَةً, وَيُقَالُ لَهُمْ: إذَا جَازَ هَذَا عِنْدَكُمْ فَلِمَ لاَ أَجْزَأَتْ، عَنِ الْخُطْبَةِ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ فَهِيَ ذِكْرٌ؟
وقال مالك: الْخُطْبَةُ: كُلُّ كَلاَمٍ ذِي بَالٍ.
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا حَدًّا لِلْخُطْبَةِ, وَهُوَ يَرَاهَا فَرْضًا, وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضًا فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ تَحْدِيدُهُ, حَتَّى يَعْلَمَهُ مُتَّبِعُوهُ عِلْمًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ, وَإِلاَّ فَقَدْ جَهِلُوا فَرْضَهُمْ.
وَأَمَّا خُطْبَتُهَا عَلَى أَعْلَى الْمِنْبَرِ فَهَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّتْ بِذَلِكَ الآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا أَيْضًا فَرْضًا, لاَِنَّهُ مُذْ عُمِلَ الْمِنْبَرُ لَمْ يَخْطُبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ إلاَّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ خَطَبَ بِسُورَةٍ يَقْرَؤُهَا: فَحَسَنٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ ابْنَةٍ لِحَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: "مَا حَفِظْت (ق) إلاَّ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ, وَكَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا".

(5/60)


و لا تجوز إطالة الخطبة فإن قرأ آية سجدة يستحب له أن ينزل و يسجد و الناس
...
528 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ إطَالَةُ الْخُطْبَةِ, فَإِنْ قَرَأَ فِيهَا بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ أَوْ آيَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ فَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيَسْجُدَ وَالنَّاسُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حَرَجَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ, فَلَمَّا نَزَلَ قلنا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ, لَقَدْ أَبْلَغْت وَأَوْجَزْت فَلَوْ كُنْت تَنَفَّسْت فَقَالَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرِ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ, فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ, فَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَحْسِنُوا هَذِهِ الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا هَذِهِ الْخُطَبَ.
قال أبو محمد: شَهِدْت ابْنَ مَعْدَان فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ قَدْ أَطَالَ الْخُطْبَةَ, حَتَّى أَخْبَرَنِي بَعْضُ

(5/60)


وُجُوهِ النَّاسِ أَنَّهُ بَالَ فِي ثِيَابِهِ. وَكَانَ قَدْ نَشِبَ فِي الْمَقْصُورَةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ السَّلِيمِ الْقَاضِي، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ "ص" فَلِمَا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْبَصْرَةِ فَسَجَدَ بِالنَّاسِ سَجْدَتَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ فَسَجَدُوا مَعَهُ, ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الآُخْرَى فَتَهَيَّئُوا لِلسُّجُودِ, فَقَالَ عُمَرُ عَلَى رِسْلِكُمْ, إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَشَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَدِيرِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ, حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ, حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا, حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إنَّمَا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ, فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ, وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشِ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثُمَّ نَزَلَ فَسَجَدَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ يَخْطُبُ فَقَرَأَ "ص" وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ, لاَ يُنْكِرُ ذَلِكَ أَحَدٌ بِالْمَدِينَةِ, وَالْبَصْرَةِ, وَالْكُوفَةِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, وَقَدْ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ الْمَشْهُورَةِ, فَأَيْنَ دَعْوَاهُمْ اتِّبَاعَ عَمَلِ الصَّحَابَةِ؟

(5/61)


فرض على كل من حضر الجمعة أن لا يتكلم مدة خطبة الإمام بشيء البتة
...
529 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ سَمِعَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ مُدَّةَ خُطْبَةِ الإِمَامِ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ,
إلاَّ التَّسْلِيمَ إنْ دَخَلَ حِينَئِذٍ, وَرَدَّ السَّلاَمَ عَلَى

(5/61)


مَنْ سَلَّمَ مِمَّنْ دَخَلَ حِينَئِذٍ, وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى إنْ عَطَسَ, وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ إنْ حَمِدَ اللَّهَ, وَالرَّدَّ عَلَى الْمُشَمِّتِ, وَالصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَالتَّأْمِينَ عَلَى دُعَائِهِ, وَابْتِدَاءَ مُخَاطَبَةِ الإِمَامِ فِي الْحَاجَةِ تَعِنُّ, وَمُجَاوَبَةَ الإِمَامِ مِمَّنْ ابْتَدَأَهُ الإِمَامُ بِالْكَلاَمِ فِي أَمْرٍ مَا فَقَطْ.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ حِينَئِذٍ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ: انْصِتْ, وَلَكِنْ يُشِيرُ إلَيْهِ أَوْ يَغْمِزُهُ, أَوْ يَحْصِبُهُ.
وَمَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا ذَاكِرًا عَالِمًا بِالنَّهْيِ فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ.
فَإِنْ أَدْخَلَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ مِنْ الدُّعَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْكَلاَمُ مُبَاحٌ حِينَئِذٍ, وَكَذَلِكَ إذَا جَلَسَ الإِمَامُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَالْكَلاَمُ حِينَئِذٍ مُبَاحٌ, وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ وَابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ أَيْضًا, وَلاَ يَجُوزُ الْمَسُّ لِلْحَصَى مُدَّةَ الْخُطْبَةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ زِيَادِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ الْقَرْثَعِ الضَّبِّيِّ وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاءِ الأَوَّلِينَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا أُمِرَ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلاَتَهُ إلاَّ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَا فَقَدْ لَغَا"
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ ثنا

(5/62)


يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ".
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ سُورَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لاُِبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: مَتَى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أُبَيٌّ, فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ لاَِبِي ذَرٍّ: مَا لَكَ مِنْ صَلاَتِكَ إلاَّ مَا لَغَوْتَ, فَدَخَلَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ:" صَدَقَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ".
وَبِهِ إلَى حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ كَانَ بِمَكَّةَ فَجَاءَ كريه وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَقَالَ لَهُ: حَبَسْت الْقَوْمَ قَدْ ارْتَحَلُوا, فَقَالَ لَهُ: لاَ تَعْجَلْ حَتَّى نَنْصَرِفَ, فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا صَاحِبُك فَحِمَارٌ, وَأَمَّا أَنْت فَلاَ جُمُعَةَ لَك!
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيع، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ رَجُلاً اسْتَفْتَحَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ آيَةً وَالإِمَامُ يَخْطُبُ, فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَذَا حَظُّك مِنْ صَلاَتِك.
قال أبو محمد: فَهَؤُلاَءِ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ, كُلُّهُمْ يُبْطِلُ صَلاَةَ مَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا فِي الْخُطْبَةِ. وَبِهِ نَقُولُ, وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ, لاَِنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا وَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ: مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بَطَلَ أَجْرُهُ!
قال أبو محمد: وَإِذَا بَطَلَ أَجْرُهُ فَقَدْ بَطَلَ عَمَلُهُ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَصَبَ رَجُلَيْنِ كَانَا يَتَكَلَّمَانِ

(5/63)


يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَأَنَّهُ رَأَى سَائِلاً يَسْأَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَصَبَهُ, وَأَنَّهُ كَانَ يُومِئُ إلَى الرَّجُلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْ اُسْكُتْ.
وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ الإِمَامُ فِي خُطْبَتِهِ مَدْحَ مَنْ لاَ حَاجَةَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى مَدْحِهِ, أَوْ دُعَاءً فِيهِ بَغْيٌ وَفُضُولٌ مِنْ الْقَوْلِ, أَوْ ذَمَّ مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ: فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْخُطْبَةِ, فَلاَ يَجُوزُ الإِنْصَاتُ لِذَلِكَ, بَلْ تَغْيِيرُهُ وَاجِبٌ إنْ أَمْكَنَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُجَالِدٍ قَالَ: رَأَيْت الشَّعْبِيَّ, وَأَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيَّ يَتَكَلَّمَانِ وَالْحَجَّاجُ يَخْطُبُ حِينَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ وَلَعَنَ اللَّهُ, فَقُلْت: أَتَتَكَلَّمَانِ فِي الْخُطْبَةِ فَقَالاَ: لَمْ نُؤْمَرْ بِأَنْ نُنْصِتَ لِهَذَا.
وَعَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: رَأَيْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَتَكَلَّمُ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ زَمَنَ الْحَجَّاجِ.
قال أبو محمد: كَانَ الْحَجَّاجُ وَخُطَبَاؤُهُ يَلْعَنُونَ عَلِيًّا, وَابْنَ الزُّبَيْرِ، رضي الله عنهم، وَلُعِنَ لاَعِنُهُمْ.
قال أبو محمد: وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفًا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ لاَ نَقُولُ بِهِ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ نَائِلٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالْكَلاَمِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ.
وَأَمَّا ابْتِدَاءُ السَّلاَمِ وَرَدُّهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رُبَيْعٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حدثنا بِشْرٌ، هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ, فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ, فَلَيْسَتْ الآُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الآخِرَةِ" وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
وَأَمَّا حَمْدُ الْعَاطِسِ وَتَشْمِيتُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رُبَيْعٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ, وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ, وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِمْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ".

(5/64)


وَقَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ وَبَيْنَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ: خَالِدَ بْنَ عَرْفَجَةَ وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد: حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ, وَيَقُولُ هُوَ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ".
قال أبو محمد: فإن قيل: قَدْ صَحَّ النَّهْيُ، عَنِ الْكَلاَمِ وَالأَمْرُ بِالإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ, وَصَحَّ الأَمْرُ بِالسَّلاَمِ وَرَدِّهِ, وَبِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْعُطَاسِ وَتَشْمِيتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَرَدِّهِ, فَقَالَ قَوْمٌ: إلاَّ فِي الْخُطْبَةِ, وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بِالإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَةِ إلاَّ عَنِ السَّلاَمِ وَرَدِّهِ وَالْحَمْدِ وَالتَّشْمِيتِ وَالرَّدِّ, فَمَنْ لَكُمْ بِتَرْجِيحِ اسْتِثْنَائِكُمْ وَتَغْلِيبِ اسْتِعْمَالِكُمْ لِلأَخْبَارِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ غَيْرِكُمْ وَاسْتِعْمَالِهِ لِلأَخْبَارِ, لاَ سِيَّمَا وَقَدْ أَجْمَعْتُمْ مَعَنَا عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي الصَّلاَةِ؟!
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: قَدْ جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاَةِ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ وَالْقِيَاسُ لِلْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ بَاطِلٌ, إذْ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا الْخُطْبَةَ يَجُوزُ فِيهَا ابْتِدَاءُ الْخَطِيبِ بِالْكَلاَمِ وَمُجَاوَبَتِهِ, وَابْتِدَاءُ ذِي الْحَاجَةِ لِلَّهِ بِالْمُكَالَمَةِ وَجَوَابِ الْخَطِيبِ لَهُ, عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا, وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ هُوَ فَرْضًا, بَلْ هُوَ مُبَاحٌ. وَيَجُوزُ فِيهَا ابْتِدَاءُ الدَّاخِلِ بِالصَّلاَةِ تَطَوُّعًا. فَصَحَّ أَنَّ الْكَلاَمَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُغَلَّبٌ عَلَى الإِنْصَاتِ فِيهَا, لاَِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ جَوَازُهُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ الْمُبَاحُ جَائِزًا فِيهَا وَيَكُونُ الْكَلاَمُ الْفَرْضُ الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَرْكُهُ فِيهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا أَبُو عَمْرٍو هُوَ الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلَكَ الْمَالُ, وَجَاعَ الْعِيَالُ, فَادْعُ اللَّهَ لَنَا, فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ, وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ

(5/65)


ابْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حدثنا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ: "انْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ، عَنْ دِينِهِ, لاَ يَدْرِي مَا دِينُهُ, فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ, وَأَتَى بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا, فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَتَى إلَى خُطْبَتِهِ فَأَتَمَّ آخِرَهَا".
قال أبو محمد: أَبُو رِفَاعَةَ هَذَا تَمِيمُ الْعَدَوِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا الْبَابِ فِي الْمُتَّصِلِ بِهِ كَلاَمَ عُمَرَ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ فَرْضًا. وَذَكَرْنَا قَبْلُ كَلاَمَ عُمَرَ مَعَ عُثْمَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَكَلاَمَ عُثْمَانَ مَعَهُ وَعُمَرُ يَخْطُبُ فِي أَمْرِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَإِنْكَارِ تَرْكِهِ, لاَ يُنْكِرُ الْكَلاَمَ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, حَتَّى نَشَأَ مَنْ لاَ يَعْتَدُّ بِهِ مَعَ مَنْ ذَكَرْنَا.
وَالْعَجِيبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ بِزَعْمِهِمْ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا قَبْلَ نَسْخِ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ قَالَ: فِي الْخُطْبَةِ!
فَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ وَجَدَ نَسْخَ الْكَلاَمِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْخُطْبَةِ وَمَا الَّذِي أَدْخَلَ الصَّلاَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهَا شَيْءٌ فِي أَحْكَامِهَا. وَلَوْ خَطَبَ الْخَطِيبُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَمَا ضَرَّ ذَلِكَ خُطْبَتَهُ, وَهُوَ يَخْطُبُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ, فَأَيْنَ الصَّلاَةُ مِنْ الْخُطْبَةِ لَوْ عَقَلُوا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ وَالدِّينُ لاَ يُؤْخَذُ بِـ "لَعَلَّ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دَلْهَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ يُسَلِّمُ, وَيَرُدُّ السَّلاَمَ, وَيُشَمِّتُ الْعَاطِسَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُهُ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالاَ: رُدَّ السَّلاَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْمَعْ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، عَنْ رَجُلٍ جَاءَ

(5/66)


يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ فَقَالاَ جَمِيعًا: يُسَلِّمُ وَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ, وَإِنْ عَطَسَ شَمَّتُوهُ, وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إذَا عَطَسَ الرَّجُلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى, أَوْ سَلَّمَ وَأَنْت تَسْمَعُهُ وَتَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَشَمِّتْهُ فِي نَفْسِك, وَرُدَّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِك, فَإِنْ كُنْت لاَ تَسْمَعُ الْخُطْبَةَ فَشَمِّتْهُ وَأَسْمِعْهُ, وَرُدَّ عَلَيْهِ, وَأَسْمِعْهُ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ قَالاَ جَمِيعًا فِي الرَّجُلِ يُسَلِّمُ وَهُوَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ أَنَّهُ يَرُدُّ وَيُسْمِعُهُ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ زِيَادٍ الأَعْلَمِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ وَيَرُدَّ السَّلاَمَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِمْ.

(5/67)


و الاحتباء جائز يوم الجمعة و لإمام يخطب و كذلك شرب الماء و إعطاء الصدقة
...
530 - مَسْأَلَةٌ: وَالاِحْتِبَاءُ جَائِزٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ, وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمَاءِ, وَإِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ, وَمُنَاوَلَةُ الْمَرْءِ أَخَاهُ حَاجَتَهُ,
لإِنَّ كُلَّ هَذَا أَفْعَالُ خَيْرٍ لَمْ يَأْتِ، عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا نَهْيٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وَلَوْ كُرِهَتْ أَوْ حَرُمَتْ لَبَيَّنَّ ذَلِكَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ، عَنِ الاِحْتِبَاءِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَرْحُومٍ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ.
وَأَبُو مَرْحُومٍ هَذَا مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ إلاَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي أَيُّوبَ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَبِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ, وَكَذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشُرَيْحٌ, وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَمَكْحُولٌ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَنُعَيْمُ بْنُ سَلاَمَةَ, وَلَمْ يَبْلُغْنَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ كَرَّهَهُ, إلاَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ وَحْدَهُ, وَلَمْ تُرْوَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(5/67)


وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس إبَاحَةَ شُرْبِ الْمَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ.
وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ شَرِبَ الْمَاءَ فَسَدَتْ جُمُعَتُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/68)


من دخل يوم الجمعة و لإمام يخطب فليصل ركعتين قبل أن يجلس
...
531 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَوْ قَدْ خَرَجَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فَقَالَ: "إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ".
قال أبو محمد: هَذَا أَمْرٌ لاَ حِيلَةَ لِمُمَوِّهٍ فِيهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا قُتَيْبَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَصَلَّيْتَ" قَالَ: لاَ, قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ". هَذَا لَفْظُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ فِي حَدِيثِهِ "رَكْعَتَيْنِ". وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالاَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ, فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "أَصَلَّيْتَ شَيْئًا" قَالَ: لاَ, قَالَ: "صَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا".
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ الْعَبْقَسِيُّ،

(5/68)


حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيُّ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "أَنَّهُ جَاءَ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَقَامَ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ, فَأَجْلَسُوهُ, فَأَبَى, وَقَالَ: أَبَعْدَ مَا صَلَّيْتُمُوهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"؟!
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِأَصَحِّ أَسَانِيدَ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ, وَصَلاَّهُمَا أَبُو سَعِيدٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَلاَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ, إلاَّ شُرَطُ مَرْوَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِالْبَاطِلِ وَعَمِلُوا الْبَاطِلَ فِي الْخُطْبَةِ, فَأَظْهَرُوا بِدْعَةً وَرَامُوا إمَاتَةَ سُنَّةٍ وَإِطْفَاءَ حَقٍّ, فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَقْتَدِي بِهِمْ وَيَدَعُ الصَّحَابَةَ وَقَدْ رَوَى النَّاسُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ". فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَخُصَّ إلاَّ مَا خَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ يَجِدُ الإِمَامَ يُقِيمُ لِصَلاَةِ الْفَرْضُ, أَوْ قَدْ دَخَلَ فِيهَا وَسُبْحَانَ مَنْ يَسَّرَ هَؤُلاَءِ لِعَكْسِ الْحَقَائِقِ, فَقَالُوا: مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلاَ يَرْكَعْ, وَمَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يُصَلِّي الْفَرْضَ وَلَمْ يَكُنْ أَوْتَرَ، وَلاَ رَكَعَ رَكْعَتِي الْفَجْرِ فَلْيَتْرُكْ الْفَرِيضَةَ وَلْيَشْتَغِلْ بِالنَّافِلَةِ فَعَكَسُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَكْسًا.
وَلَوْلاَ الْبُرْهَانُ الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ بِأَنْ لاَ فَرْضَ إلاَّ الْخَمْسُ لَكَانَتْ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ فَرْضًا, وَلَكِنَّهُمَا فِي غَايَةِ التَّأْكِيدِ, لاَ شَيْءَ مِنْ السُّنَنِ أَوْكَدُ مِنْهُمَا, لِتَرَدُّدِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ: حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَهِيكٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّلاَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ فَعَلُوهُ كَانَ حَسَنًا.
وَعَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ: حدثنا بَرِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ قَالَ: رَأَيْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ يَخْطُبُ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي مُؤَخَّرِ

(5/69)


الْمَسْجِدِ ثُمَّ جَلَسَ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: إذَا جِئْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الإِمَامُ فَإِنْ شِئْت صَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ, وَمَكْحُولٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئِ, وَالْحُمَيْدِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمَا وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ كَانَ صَلاَّهُمَا فِي بَيْتِهِ جَلَسَ, وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّهِمَا فِي بَيْتِهِ رَكَعَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُصَلِّ, قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ شَرَعَ فِيهِمَا فَلْيُتِمَّهُمَا.
قال أبو محمد: إنْ كَانَتَا حَقًّا فَلِمَ لاَ يَبْتَدِئُ بِهِمَا فَالْخَيْرُ يَنْبَغِي الْبِدَارُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتَا خَطَأً وَغَيْرَ جَائِزَتَيْنِ فَمَا يَجُوزُ التَّمَادِي عَلَى الْخَطَأِ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمَا بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ" . قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَهُمَا, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَكَعَهُمَا ثُمَّ تَخَطَّى, وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَكُونَ رَكَعَهُمَا, فَإِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ لاَ أَنَّهُ رَكَعَ, وَلاَ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ: فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلاَ عَلَيْهِمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدَ الْكَذَّابِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ, وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ: لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ, وَمُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ, فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ لَهُمْ، وَلاَ عَلَيْهِمْ.

(5/70)


وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْخَبَرُ وَصَحَّ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ. وَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَمْرِهِ عليه السلام مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ بِأَنْ يَرْكَعَ, وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ: لِمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّنَا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمَا فَرْضٌ, وَإِنَّمَا قلنا: إنَّهُمَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا, وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ، عَنْ صَلاَتِهِمَا.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْفَاسِدِ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ, وَبَقِيَ أَمْرُهُ عليه السلام بِصَلاَتِهِمَا لاَ مُعَارِضَ لَهُ.
وَتَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ " فَذَكَر الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَفْطُنَ لَهُ رَجُلٌ فَيَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ" قَالُوا: فَإِنَّمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّكْعَتَيْنِ لِيُفْطَنَ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَلاَتِهِمَا, وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ اعْتِرَاضٌ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَفِيهِ قَوْلُهُ عليه السلام: "مِنْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ أَوْ قَدْ خَرَجَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ".
ثم نقول لَهُمْ: قُولُوا لَنَا: هَلْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ بِحَقٍّ أُمّ بِبَاطِلٍ فَإِنْ قَالُوا: بِبَاطِلٍ, كَفَرُوا. وَإِنْ قَالُوا: بِحَقٍّ أَبْطَلُوا مَذْهَبَهُمْ, وَلَزِمَهُمْ الأَمْرُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّ أَنَّهُمَا حَقٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ, إذْ لاَ يَأْمُرُ عليه السلام بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلاَّ بِحَقٍّ.
ثم نقول لَهُمْ: إذْ قُلْتُمْ هَذَا فَتَقُولُونَ أَنْتُمْ بِهِ فَتَأْمُرُونَ مَنْ دَخَلَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ لِيُفْطَنَ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَمْ لاَ تَرَوْنَ ذَلِكَ إنْ قَالُوا: نَأْمُرُهُ بِذَلِكَ تَرَكُوا مَذْهَبَهُمْ. وَإِنْ قَالُوا: لَسْنَا نَأْمُرُهُ بِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي تَوْجِيهِكُمْ لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ وُجُوهًا أَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهَا, وَعَاصُونَ لِلْخَبَرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهَلْ هَهُنَا إلاَّ إيهَامُ الضُّعَفَاءِ الْمُغْتَرِّينَ الْمَحْرُومِينَ أَنَّكُمْ أَبْطَلْتُمْ حُكْمَ الْخَبَرِ وَصَحَّحْتُمْ بِذَلِكَ قَوْلَكُمْ وَالأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِالضِّدِّ, بَلْ هُوَ عَلَيْكُمْ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وقال بعضهم: لَمَّا لَمْ يَجُزْ ابْتِدَاءُ التَّطَوُّعِ لِمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ.

(5/71)


قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا, وَلاَ قَضَاهَا رَسُولُهُ عليه السلام, بَلْ قَدْ فَرَّقَ عليه السلام بَيْنَهُمَا, بِأَنْ أَمَرَ مَنْ حَضَرَ بِالإِنْصَاتِ وَالاِسْتِمَاعِ, وَأَمَرَ الدَّاخِلَ بِالصَّلاَةِ, فَالْمُعْتَرِضُ عَلَى هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عليه السلام, فَالْمُتَطَوِّعُ جَائِزٌ لِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَمْ يَبْدَأْ الإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ وَلِمَنْ دَخَلَ مَا لَمْ تَقُمْ الإِقَامَةُ لِلصَّلاَةِ.

(5/72)


الكلام مباح لكل واحد ما دام المؤذن يؤذن يوم الجمعة ما لم يبدأ الخطبة
...
532 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكَلاَمُ مُبَاحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مَا دَامَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَا لَمْ يَبْدَأْ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ.
وَالْكَلاَمُ جَائِزٌ بَعْدَ الْخُطْبَةِ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ الإِمَامُ. وَالْكَلاَمُ جَائِزٌ فِي جِلْسَةِ الإِمَامِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ, لإِنَّ الْكَلاَمَ بِالْمُبَاحِ مُبَاحٌ إلاَّ حَيْثُ مَنَعَ مِنْهُ النَّصُّ, وَلَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ إلاَّ مِنْ الْكَلاَمِ فِي خُطْبَةِ الإِمَامِ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَسْلَمَ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ, فَيُكَلِّمُهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى الْمُصَلَّى فَيُصَلِّي".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمَّا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ لَهُ بِلاَلٌ: يَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ: لَبَّيْكَ, قَالَ: أَعْتَقْتَنِي لِلَّهِ أَمْ لِنَفْسِك قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلْ لِلَّهِ تَعَالَى, قَالَ: فَأْذَنْ لِي أُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, فَأَذِنَ لَهُ, فَذَهَبَ إلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا رضي الله عنه.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ بُرْدِ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: كَلاَمُ الإِمَامِ يَقْطَعُ الْكَلاَمَ: فَلَمْ يَرَ عُمَرُ الْكَلاَمَ يَقْطَعُهُ إلاَّ كَلاَمُ الإِمَامِ.
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي الصَّعْبَةِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِرَجُلٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ: هَلْ اشْتَرَيْت لَنَا وَهَلْ أَتَيْتنَا بِهَذَا يَعْنِي الْحَبَّ.
وَعَنْ هُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَالِسًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ وَعُثْمَانُ يَسْأَلُ النَّاسَ، عَنْ أَسْعَارِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ.
وَعَنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَلاَمُ الإِمَامِ يَقْطَعُ الْكَلاَمَ.

(5/72)


وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ: قَالَ لِي حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: كَيْفَ أَصْبَحْت وَعَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: لاَ بَأْسَ بِالْكَلاَمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الإِمَامُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ مِثْلُهُ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِثْلُهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ بِالْكَلاَمِ فِي جُلُوسِ الإِمَامِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ.

(5/73)


من رعف و الإمام يخطب و احتاج إلى الخروج فليخرج كذلك من عرض له ما يدعوه إلى الخروج
...
533 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ رَعَفَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ وَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَلْيَخْرُجْ وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا يَدْعُوهُ إلَى الْخُرُوجِ.
وَلاَ مَعْنَى لاِسْتِئْذَانِ الإِمَامِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِإِيجَابِ اسْتِئْذَانِ الإِمَامِ فِي ذَلِكَ.
وَيُقَالُ لِمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الإِمَامُ, أَتَرَاهُ يَبْقَى بِلاَ وُضُوءٍ أَوْ هُوَ يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ بِالدَّمِ أَوْ يُضَيِّعُ مَا لاَ يَجُوزُ لَهُ تَضْيِيعُهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا.

(5/73)


من ذكر في الخطبة صلاة فرض نسيها أو نام عنها فليقم و ليصلها
...
534 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَكَرَ فِي الْخُطْبَةِ صَلاَةَ فَرْضٍ نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيَقُمْ وَلْيُصَلِّهَا,
سَوَاءٌ كَانَ فَقِيهًا أَوْ غَيْرَ فَقِيهٍ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرهَا" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ قَبْلُ.
وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ نَظَرٌ, وَلاَ مَعْقُولٌ, بَلْ الْحُجَّةُ أَلْزَمُ لِلْفَقِيهِ فِي أَنْ لاَ يُضَيِّعَ دِينَهُ مِنْهَا لِغَيْرِهِ.
فإن قيل: يَرَاهُ الْجَاهِلُ فَيَظُنُّ الصَّلاَةَ تَطَوُّعًا جَائِزَةً حِينَئِذٍ.
قلنا: لاَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ لِنَفْسِهِ مُخَالَفَةَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَضْيِيعَ فَرْضِهِ خَوْفَ أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَلَعَلَّ غَيْرَهُ لاَ يَظُنُّ ذَلِكَ أَوْ يَظُنُّ, فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.

(5/73)


من لم يدرك مع الإمام من صلاة الجمعة إلا ركعة واحد أو الجلوس فقط فليدخل معه و ليقض
...
535 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الإِمَامِ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ إلاَّ رَكْعَةً وَاحِدَةً, أَوْ الْجُلُوسَ فَقَطْ فَلْيَدْخُلْ مَعَهُ وَلْيَقْضِ
إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ إلاَّ الْجُلُوسَ

(5/73)


536 - مَسْأَلَةٌ: وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلْيَوْمِ لاَ لِلصَّلاَةِ
وَكَذَلِكَ الطِّيبُ

(5/75)


إن ضاق المسجد صليت الجمعة و غيرها في الدور و البيوت و الدكاكين المتصلة بالصفوف
...
537 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ أَوْ امْتَلاََتْ الرِّحَابُ وَاتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ صُلِّيَتْ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا فِي الدُّورِ, وَالْبُيُوتِ, وَالدَّكَاكِينِ الْمُتَّصِلَةِ بِالصُّفُوفِ,
وَعَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ, بِحَيْثُ يَكُونُ مُسَامِتًا لِمَا خَلْفَ الإِمَامِ, لاَ لِلإِمَامِ، وَلاَ لِمَا أَمَامَ الإِمَامِ أَصْلاً وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِمَامِ وَالصُّفُوفِ نَهْرٌ عَظِيمٌ أَوْ صَغِيرٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ حَائِطٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, وَصَلَّى الْجُمُعَةَ بِصَلاَةِ الإِمَامِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ سَلاَّمٍ، حدثنا عَبْدَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ, وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ, فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
قال أبو محمد: حُكْمُ الإِمَامَةِ سَوَاءٌ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا, وَالنَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَحْوَالِ الإِمَامَةِ فِي ذَلِكَ, وَلاَ جَاءَ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنْ الاِئْتِمَامِ بِالإِمَامِ إذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ, فَلاَ يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا, فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ" فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَوْضِعٍ إلاَّ مَوْضِعًا جَاءَ النَّصُّ بِالْمَنْعِ مِنْ الصَّلاَةِ فِيهِ, فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
رُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله تعالى عنها: أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي بَيْتِهَا بِصَلاَةِ الإِمَامِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ, إذْ صَلَّتْ فِي بَيْتِهَا بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ

(5/76)


من زوحم يوم الجمعة أو غيره فإن قدر على السجود كيف أمكنه و لو إيماء و على الركوع كذلك
...
538 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ زُوحِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ كَيْفَ أَمْكَنَهُ وَلَوْ إيمَاءً وَعَلَى الرُّكُوعِ كَذَلِكَ:
أَجْزَأَهُ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَصْلاً وَقَفَ كَمَا هُوَ, فَإِذَا خَفَّ الأَمْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَجْزَأَهُ. لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهَ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْعَجْزِ، عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِمَرَضٍ أَوْ بِخَوْفٍ أَوْ بِمَنْعِ زِحَامٍ وَقَدْ صَلَّى السَّلَفُ الْجُمُعَةَ إيمَاءً فِي الْمَسْجِدِ, إذْ كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ إلَى قُرْبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ.

(5/78)


و إن جاء اثنان فصاعدا و قد فاتت الجمعة صلوها جمعة
...
539 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ جَاءَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَقَدْ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ صَلَّوْهَا جُمُعَةً,
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْجَمَاعَةِ.

(5/78)


540 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ بِالْمِصْرِ فَرَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَحَسَنٌ,
لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ, فَإِنْ كَانَ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا صَلَّى فِي مَوْضِعِهِ, وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَجِيءُ إلَى الْمَسْجِدِ إلاَّ مَسْجِدَ مَكَّةَ, وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ, وَمَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَاصَّةً, فَالْمَجِيءُ إلَيْهَا عَلَى بُعْدٍ: فَضِيلَةٌ.
لِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حدثنا رَوْحٌ، هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ،

(5/78)


و الصلاة على المقصورة جائزة
...
541 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّلاَةُ فِي الْمَقْصُورَةِ جَائِزَةٌ,
وَالإِثْمُ عَلَى الْمَانِعِ لاَ عَلَى الْمُطْلَقِ لَهُ دُخُولُهَا, بَلْ الْفَرْضُ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ دُخُولُهَا أَنْ يَصِلَ الصُّفُوفَ فِيهَا, لإِنَّ إكْمَالَ الصُّفُوفِ فَرْضٌ كَمَا قَدَّمْنَا فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ فَحَقُّهُ أَطْلَقَ لَهُ, وَحَقٌّ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ, وَمَنْ مُنِعَ فَحَقُّهُ مُنِعَ مِنْهُ وَالْمَانِعُ مِنْ الْحَقِّ ظَالِمٌ, وَلاَ إثْمَ عَلَى الْمَمْنُوعِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.

(5/79)


و لا يحل البيع من أثر استواء الشمس و من أول أخذها في الزوال و الميل إلى أن تقضى صلاة الجمعة
...
542 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ مِنْ أَثَرِ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ, وَمِنْ أَوَّلِ أَخْذِهَا فِي الزَّوَالِ وَالْمَيْلِ إلَى أَنْ تُقْضَى صَلاَةُ الْجُمُعَةِ
فَإِنْ كَانَتْ قَرْيَةٌ قَدْ مُنِعَ أَهْلُهَا الْجُمُعَةَ أَوْ كَانَ سَاكِنًا بَيْنَ الْكُفَّارِ, وَلاَ مُسْلِمَ مَعَهُ: فَإِلَى أَنْ يُصَلِّيَ ظُهْرَ يَوْمِهِ, أَوْ يُصَلُّوا ذَلِكَ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ, فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ: فَإِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ أَبَدًا إنْ وَقَعَ، وَلاَ يُصَحِّحُهُ خُرُوجُ الْوَقْتِ, سَوَاءٌ كَانَ التَّبَايُعُ مِنْ مُسْلِمِينَ, أَوْ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ, أَوْ مِنْ كَافِرِينَ. وَلاَ يَحْرُمُ حِينَئِذٍ: نِكَاحٌ, وَلاَ إجَازَةٌ, وَلاَ سَلَمٌ, وَلاَ مَا لَيْسَ بَيْعًا.
وقال مالك كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ مُسْلِمٌ, وَفِي النِّكَاحِ, وَعَقْدِ الإِجَارَةِ, وَالسَّلَمِ, وَأَبَاحَ الْهِبَةَ, وَالْقَرْضَ, وَالصَّدَقَةَ.
وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ: الْبَيْعُ, وَالنِّكَاحُ وَالإِجَارَةُ, وَالسَّلَمُ: جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ

(5/79)


صلاة العيدين
تعريف العيدين و بيان وقتهما و حكم فعلهما
...
صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ
543 - مَسْأَلَةٌ: هُمَا عِيدُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ,
وَهُوَ: أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ, وَيَوْمُ الأَضْحَى: وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ, لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدٌ غَيْرُهُمَا, إلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الأَضْحَى; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ عِيدًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي ذَلِكَ, وَلاَ يَحْرُمُ الْعَمَلُ, وَلاَ الْبَيْعُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ: لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ خِلاَفَ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي هَذَا.
وَسُنَّةُ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ: أَنْ يَبْرُزَ أَهْلُ كُلِّ قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ إلَى فَضَاءٍ وَاسِعٍ بِحَضْرَةِ مَنَازِلِهِمْ ضَحْوَةً إثْرَ ابْيِضَاضِ الشَّمْسِ, وَحِينَ ابْتِدَاءِ جَوَازِ التَّطَوُّعِ. وَيَأْتِي الإِمَامُ فَيَتَقَدَّمُ بِلاَ أَذَانٍ، وَلاَ إقَامَةٍ, فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ, وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ "أُمُّ الْقُرْآنِ" وَسُورَةٌ, وَتُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ فِي الآُولَى "ق". وَفِي الثَّانِيَةِ {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} أو

(5/81)


{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}. وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وَمَا قَرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَهُ. وَيُكَبِّرُ فِي الرَّكْعَةِ الآُولَى إثْرَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ: سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ مُتَّصِلَةٍ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُمِّ الْقُرْآنِ وَيُكَبِّرُ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ إثْرَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ: خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ. يَجْهَرُ بِجَمِيعِهِنَّ قَبْلَ قِرَاءَتِهِ أُمَّ الْقُرْآنِ. وَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلاَّ حَيْثُ يَرْفَعُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَقَطْ. وَلاَ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ إلاَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فَقَطْ. فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً, فَإِذَا أَتَمَّهُمَا افْتَرَقَ النَّاسُ. فَإِنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلَيْسَتْ خُطْبَةً, وَلاَ يَجِبُ الإِنْصَاتُ لَهُ, كُلُّ هَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ إلاَّ فِي مَوَاضِعَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مِنْهَا: مَا يُقْرَأُ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَفِي صِفَةِ التَّكْبِيرِ وَأَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ: تَأْخِيرَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ, وَتَقْدِيمَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَالأَذَانِ وَالإِقَامَةِ.
فأما الَّذِي يُقْرَأُ مَعَ "أُمِّ الْقُرْآنِ ": فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ بِعَيْنِهَا. وَشَاهَدْنَا الْمَالِكِيِّينَ لاَ يَقْرَءُونَ مَعَ "أُمِّ الْقُرْآنِ" "إلاَّ" {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}, {وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}. وَهَذَانِ الاِخْتِيَارَانِ: فَاسِدَانِ, وَإِنْ كَانَتْ الصَّلاَةُ كَذَلِكَ جَائِزَةً. وَإِنَّمَا نُنْكِرُ اخْتِيَارَ ذَلِكَ, لاَِنَّهُمَا خِلاَفُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: "مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِطْرِ, وَ الأَضْحَى؟ فَقَالَ: "كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بـ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَ {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ}".
قال أبو محمد: عُبَيْدُ اللَّهِ أَدْرَكَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ وَسَمِعَ مِنْهُ, وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ, وَلَمْ يَصِحَّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا.
وَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ, وَسُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ كِلاَهُمَا، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: "أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}".
وَاخْتِيَارُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ

(5/82)


وَمِنْهَا التَّكْبِيرُ, فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: يُكَبِّرُ لِلإِحْرَامِ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ يَجْهَرُ بِهَا, وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ, ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, فَإِذَا قَامَ بَعْدَ السُّجُودِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلإِحْرَامِ ثُمَّ قَرَأَ, فَإِذَا أَتَمَّ السُّورَةَ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ كَبَّرَ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ جَهْرًا, يَرْفَعُ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ يَدَيْهِ, ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ.
وقال مالك: سَبْعًا فِي الآُولَى بِتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ, وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ، عَنِ السَّلَفِ، رضي الله عنهم.
فَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى, وَالاِسْتِسْقَاءِ سَبْعًا فِي الآُولَى, وَخَمْسًا فِي الآخِرَةِ, وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ, وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ. وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى, وَهُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ عَلِيًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَبَّرَ فِي الآُولَى سَبْعًا, وَفِي الآُخْرَى خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَهَذَا سَنَدٌ كَالشَّمْسِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا وَعِنْدَهُ حُذَيْفَةُ, وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ, فَسَأَلَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، عَنِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا ثُمَّ يَقْرَأُ, ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعُ, ثُمَّ يَقُومُ فِي الثَّانِيَةِ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ, وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، هُوَ ابْنُ نَوْفَلٍ قَالَ: كَبَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الآُولَى أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ كَبَّرَ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الصَّلاَةِ.
وَهَذَانِ إسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَبِهَذَا تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ.
قال أبو محمد: أَيْنَ وُجِدَ لِهَؤُلاَءِ، رضي الله عنهم، أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مَا قَالَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَوَّذَ إثْرَ الآُولَى ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلاَثًا, وَأَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَهُنَّ فَبَطَلَ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِصَاحِبٍ.
وَأَطْرَفُ ذَلِكَ أَمْرُهُ بِرَفْعِ الأَيْدِي فِي التَّكْبِيرِ, الَّذِي لَمْ يَصِحَّ قَطُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(5/83)


صلى الله عليه وسلم رَفَعَ فِيهِ يَدَيْهِ, وَنَهْيُهُ، عَنْ رَفْعِ الأَيْدِي فِي التَّكْبِيرِ فِي الصَّلاَةِ حَيْثُ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَهَكَذَا فَلْيَكُنْ عَكْسَ الْحَقَائِقِ, وَخِلاَفَ السُّنَنِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ قَالَ: يُكَبِّرُ تِسْعًا أَوْ إحْدَى عَشَرَةَ, أَوْ ثَلاَثَ عَشَرَةَ وَهَذَا سَنَدٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: التَّكْبِيرُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَةِ الآُولَى أَرْبَعًا, وَفِي الآخِرَةِ ثَلاَثًا, وَالتَّكْبِيرُ سَبْعٌ سِوَى تَكْبِيرِ الصَّلاَةِ إلاَّ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ قال أبو محمد: وَفِي هَذَا آثَارٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا.
مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى, فِي الآُولَى: سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ, وَفِي الثَّانِيَةِ: خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الآُولَى وَخَمْسٌ فِي الآخِرَةِ, وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَاهُمَا". وَهَذَا كُلُّهُ لاَ يَصِحُّ, وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَحْتَجَّ بِمَا لاَ يَصِحُّ كَمَنْ يَحْتَجُّ بِابْنِ لَهِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إذَا وَافَقَا هَوَاهُ, كَفِعْلِهِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَيَرُدُّ رِوَايَتَهُمَا إذَا خَالَفَا هَوَاهُ هَذَا فِعْلُ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ, وَلاَ يُبَالِي بِأَنْ يَضِلَّ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُضِلَّ.
وَمِنْهَا خَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَكْحُولٍ أَخْبَرَنِي أَبُو عَائِشَةَ جَلِيسُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَضَرَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ سَأَلَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ, وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ فِي الأَضْحَى, وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: "كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا, تَكْبِيرُهُ عَلَى الْجَنَائِزِ", قَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ, قَالَ أَبُو مُوسَى كَذَلِكَ كُنْت أُكَبِّرُ بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ ثَوْبَانَ ضَعِيفٌ وَأَبُو عَائِشَةَ مَجْهُولٌ, لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَلاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، وَلاَ تَصِحُّ رِوَايَةٌ عَنْهُ لاَِحَدٍ, وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّينَ حُجَّةٌ,

(5/84)


لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقُولُونَ مِنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ فِي الآُولَى بِتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ, وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ, وَلاَ أَنَّ الآُولَى يُكَبِّرُ فِيهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ, وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ, بَلْ ظَاهِرُهُ أَرْبَعٌ فِي كِلْتَا الرَّكْعَتَيْنِ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا, كَمَا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ. وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ تَكْبِيرَ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ فَقَطْ, وَهُمْ يَقُولُونَ: بِسِتٍّ فِي كِلْتَا الرَّكْعَتَيْنِ دُونَ تَكْبِيرَتَيْ الإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ وَالْقِيَامِ, أَوْ بِعَشْرِ تَكْبِيرَاتٍ إنْ عَدُّوا فِيهَا تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ, وَالْقِيَامِ, وَالرُّكُوعِ, وَلَيْسَ فِيهِ رَفْعُ الأَيْدِي كَمَا زَعَمُوا, فَظَهَرَ تَمْوِيهُهُمْ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الآُولَى سَبْعًا بِتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ, وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ دُونَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ, وَهَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا, لاَِنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ, وَالتَّكْبِيرُ خَيْرٌ, وَلِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ, فَلاَ يُحَقِّرُهَا إلاَّ مَحْرُومٌ, وَلَوْ وَجَدْنَا مَنْ يَقُولُ: بِأَكْثَرَ لَقُلْنَا بِهِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وَالتَّكْبِيرُ خَيْرٌ بِلاَ شَكٍّ. وَاخْتِيَارُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَمِنْهَا: مَا أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلاَةِ, وَإِحْدَاثِ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ, وَتَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ, وَيَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ. قَالَ أَبُو عَاصِمٍ:، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حدثنا أَبُو أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَابْنُ عُمَرَ كِلاَهُمَا يَقُولُ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ", قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَعُثْمَانُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْت الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, كُلُّهُمْ يُصَلِّي ثُمَّ يَخْطُبُ.
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا هِشَامُ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ جَمِيعًا: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَلاَ يَوْمَ الأَضْحَى.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ أَذَانَ، وَلاَ إقَامَةَ لِغَيْرِ الْفَرِيضَةِ, وَالأَذَانُ وَالإِقَامَةُ فِيهِمَا الدُّعَاءُ إلَى

(5/85)


الصَّلاَةِ, فَلَوْ أُمِرَ عليه السلام بِذَلِكَ لَصَارَتْ تِلْكَ الصَّلاَةُ فَرِيضَةً بِدُعَائِهِ إلَيْهَا.
وَاعْتَلُّوا: بِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا إذَا صَلُّوا تَرَكُوهُمْ وَلَمْ يَشْهَدُوا الْخُطْبَةَ, وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْعَنُونَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه, فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَفِرُّونَ, وَحُقَّ لَهُمْ, فَكَيْفَ وَلَيْسَ الْجُلُوسُ لِلْخُطْبَةِ وَاجِبًا.
حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْكَرْمَانِيُّ، حدثنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ فَصَلَّى, ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "قَدْ قَضَيْنَا الصَّلاَةَ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ, وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ".
قال أبو محمد: إنْ قِيلَ: إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الصَّبَّاحِ أَرْسَلَهُ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى.
قلنا: نَعَمْ, فَكَانَ مَاذَا الْمُسْنِدُ زَائِدٌ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُرْسِلِ, فَكَيْفَ وَخُصُومُنَا أَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ سَوَاءٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ, قَالَ: لَيْسَ حَقًّا عَلَى النَّاسِ حُضُورُ الْخُطْبَةِ, يَعْنِي فِي الْعِيدَيْنِ وَالآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.

(5/86)


و يصليهما العبد و الحر و الحاضر و المسافر و المنفرد و المرأة و النساء
...
544 - مَسْأَلَةٌ: وَيُصَلِّيهِمَا, الْعَبْدُ, وَالْحُرُّ, وَالْحَاضِرُ, وَالْمُسَافِرُ, وَالْمُنْفَرِدُ, وَالْمَرْأَةُ وَالنِّسَاءُ:
وَفِي كُلِّ قَرْيَةٍ, صَغُرَتْ أَمْ كَبُرَتْ, كَمَا ذَكَرْنَا, إلاَّ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لاَ يَخْطُبُ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ فِي الْبُرُوزِ إلَى الْمُصَلَّى صَلُّوا جَمَاعَةً فِي الْجَامِعِ.
لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي كَلاَمِنَا فِي الْقَصْرِ فِي صَلاَةِ السَّفَرِ وَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدِ رَكْعَتَانِ, فَكَانَ هَذَا عُمُومًا, لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وَالصَّلاَةُ خَيْرٌ.
وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا, إلاَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ لاَ تُصَلَّى إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ إلاَّ شَيْئًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ: لاَ جُمُعَةَ، وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه حُجَّةً فِي هَذَا فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ

(5/86)


أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يُصَلِّيَ بِضَعَفَةِ النَّاسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ
فَإِنْ ضَعَّفُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ قِيلَ لَهُمْ: هِيَ أَقْوَى مِنْ الَّتِي تَعَلَّقْتُمْ بِهَا عَنْهُ أَوْ مِثْلُهَا, وَلاَ فَرْقَ, وَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ تُصَلَّى حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْجُمُعَةِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلاَتِهَا فِي الْمَوَاطِنِ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا صَلَّيَا الْعِيدَ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَطَرٍ وَقَعَ يَوْمَ الْعِيدِ, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْرُزُ إلَى الْمُصَلَّى لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ, فَهَذَا أَفْضَلُ, وَغَيْرُهُ يُجْزِئُ, لاَِنَّهُ فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/87)


يخرج إلى المصلى النساء حتى الأبكار و الحيض و غير الحيض
...
545 - مَسْأَلَةٌ: وَيَخْرُجُ إلَى الْمُصَلَّى: النِّسَاءُ حَتَّى الأَبْكَارُ, وَالْحُيَّضُ وَغَيْرُ الْحُيَّضِ,
وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى, وَأَمَّا الطَّوَاهِرُ فَيُصَلِّينَ مَعَ النَّاسِ, وَمَنْ لاَ جِلْبَابَ لَهَا فَلْتَسْتَعِرْ جِلْبَابًا وَلْتَخْرُجْ, فَإِذَا أَتَمَّ الإِمَامُ الْخُطْبَةَ فَنَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُنَّ يَعِظُهُنَّ وَيَأْمُرْهُنَّ بِالصَّدَقَةِ, وَتُسْتَحَبُّ لَهُنَّ الصَّدَقَةُ يَوْمَئِذٍ بِمَا تَيَسَّرَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ جَوَارِينَا أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ الْعِيدِ, فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ أَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لِتَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ" أَوْ قَالَ: "وَذَوَاتُ الْخُدُورِ" شَكَّ أَيُّوبُ وَالْحُيَّضُ, "فَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى, وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حدثنا هِشَامُ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ, وَذَوَاتَ الْخُدُورِ فأما الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاَةَ, وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إحْدَانَا لاَ يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا".
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،

(5/87)


أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى, فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ, ثُمَّ خَطَبَ, فَلَمَّا فَرَغَ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ, وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلاَلٍ وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ, تُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ صَدَقَةً". وَقُلْت لِعَطَاءٍ: أَتَرَى حَقًّا عَلَى الإِمَامِ ذَلِكَ, يَأْتِيَهُنَّ وَيُذَكِّرَهُنَّ قَالَ: إنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ, وَمَا لَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ.
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ صَلاَةَ الْفِطْرِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ, فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ, فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يَجْلِسُ الرِّجَالُ بِيَدِهِ, ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ, حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا} فَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ, ثُمَّ قَالَ: "أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا مِنْهُنَّ: نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ, قَالَ: "فَتَصَدَّقْنَ", فَبَسَطَ بِلاَلٌ ثَوْبَهُ, ثُمَّ قَالَ: "هَلُمَّ فِدًى لَكُنَّ أَبِي وَأُمِّي", فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ.
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّهُ عليه السلام رَأَى حُضُورَ النِّسَاءِ الْمُصَلَّى, وَأَمَرَ بِهِ, فَلاَ وَجْهَ لِقَوْلِ غَيْرِهِ إذَا خَالَفَهُ.
وَلاَ مُتَعَلِّقَ لِلْمُخَالِفِ إلاَّ رِوَايَةٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَنَعَهُنَّ, وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلاَفُهَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِابْنِ عُمَرَ إلاَّ أَنَّهُ إذْ مَنَعَهُنَّ لَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا بَلَغَهُ رَجَعَ إلَى الْحَقِّ كَمَا فَعَلَ إذْ سَبَّ ابْنَهُ أَشَدَّ السَّبِّ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ: نَمْنَعُ النِّسَاءَ الْمَسَاجِدَ لَيْلاً.
وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ ادَّعَى امْرُؤٌ الإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْعِيدَيْنِ, وَأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُنَّ: لَصُدِّقَ, لاَِنَّنَا لاَ نَشُكُّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَوْ بَلَغَهُ مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرْ: فَقَدْ سَلَّمَ وَرَضِيَ وَأَطَاعَ, وَالْمَانِعُ مِنْ هَذَا مُخَالِفٌ لِلإِجْمَاعِ وَلِلسُّنَّةِ.

(5/88)


يستحب السير إلى إلى العيد على طريق و الرجوع على الآخر
...
546 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ السَّيْرَ إلَى الْعِيدِ عَلَى طَرِيقٍ وَالرُّجُوعَ عَلَى آخَرَ,
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلاَ حَرَجَ, لاَِنَّهُ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالْقَوِيَّةِ

(5/88)


و إذا اجتمع عيد في يوم جمعة صلي للعيد ثم للجمعة
...
547 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ: صُلِّيَ لِلْعِيدِ, ثُمَّ لِلْجُمُعَةِ،
وَلاَ بُدَّ, وَلاَ يَصِحُّ أَثَرٌ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
لإِنَّ فِي رُوَاتِهِ: إسْرَائِيلَ, وَعَبْدَ الْحُمَيْدِ بْنَ جَعْفَرٍ, وَلَيْسَا بِالْقَوِيَّيْنِ, وَلاَ مُؤْنَةَ عَلَى خُصُومِنَا مِنْ الاِحْتِجَاجِ بِهِمَا إذَا وَافَقَ مَا رَوَيَاهُ تَقْلِيدَهُمَا, وَهُنَا خَالَفَا رِوَايَتَهُمَا.
فأما رِوَايَةُ إسْرَائِيلَ, فَإِنَّهُ رَوَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: "أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ, ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ".
وَرَوَى عَبْدُ الْحُمَيْدِ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: "اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ, ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ فَأَطَالَ, ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْجُمُعَةَ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصَابَ السُّنَّةَ".
قال أبو محمد: الْجُمُعَةُ فَرْضٌ وَالْعِيدُ تَطَوُّعٌ, وَالتَّطَوُّعُ لاَ يُسْقِطُ الْفَرْضَ.

(5/89)


و التكبير ليلة عيد الفطر فرض
...
548 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّكْبِيرُ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ: فَرْضٌ,
وَهُوَ فِي لَيْلَةِ عِيدِ الأَضْحَى: حَسَنٌ. قَالَ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ صَوْمَ رَمَضَانَ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. فَبِإِكْمَالِ عِدَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَجَبَ التَّكْبِيرُ, وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَةٌ. وَأَمَّا لَيْلَةُ الأَضْحَى وَيَوْمُهُ, وَيَوْمُ الْفِطْرِ: فَلَمْ يَأْتِ بِهِ أَمْرٌ, لَكِنَّ التَّكْبِيرَ فِعْلُ خَيْرٍ وَأَجْرٍ.

(5/89)


و يستحب الأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى
...
549 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الأَكْلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ إلَى الْمُصَلَّى,
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حَرَجَ, مَا لَمْ يَرْغَبْ، عَنِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ أَكَلَ يَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ غُدُوِّهِ إلَى الْمُصَلَّى فَلاَ بَأْسَ, وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ فَحَسَنٌ, وَلاَ يَحِلُّ صِيَامُهَا أَصْلاً.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ

(5/89)


و التنفل قبلهما في المصلى حسن
...
550 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّنَفُّلُ قَبْلَهُمَا فِي الْمُصَلَّى حَسَنٌ,
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حَرَجَ, لإِنَّ التَّنَفُّلَ فِعْلُ خَيْرٍ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا, وَلاَ بَعْدَهُمَا.
قلنا: نَعَمْ; لاَِنَّهُ عليه السلام كَانَ الإِمَامَ, وَكَانَ مَجِيئُهُ إلَى التَّكْبِيرِ لِصَلاَةِ الْعِيدِ بِلاَ فَصْلٍ, وَلَمْ يَنْهَ عليه السلام قَطُّ لاَ بِإِيجَابٍ، وَلاَ بِكَرَاهَةٍ، عَنِ التَّنَفُّلِ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ صَلاَةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا, وَلَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لِبَيْنِهَا عليه السلام. وَقَدْ صَحَّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ قَطُّ فِي لَيْلَةٍ عَلَى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً", أَفَتَكْرَهُونَ الزِّيَادَةَ أَوْ تَمْنَعُونَ مِنْهَا فَمِنْ قَوْلِهِمْ: لاَ, فَيُقَالُ لَهُمْ: فُرِّقُوا، وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ, وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَالْحَسَنُ, وَأَخُوهُ سَعِيدٌ, وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ يُصَلُّونَ قَبْلَ خُرُوجِ الإِمَامِ وَبَعْدَهُ: يَعْنِي فِي الْعِيدَيْنِ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ قَالَ: رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالْحَسَنَ يُصَلِّيَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الْعِيدِ.
وَعَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَالْحَسَنَ, وَأَخَاهُ سَعِيدًا, وَأَبَا الشَّعْثَاءِ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ: يُصَلُّونَ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ خُرُوجِ الإِمَامِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَتَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ, فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لاَ أَكُونُ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى

(5/90)


و التكبير أثر كل صلاة و في الأضحى و في أيام التشريق و يوم عرفة حسن كله
...
551 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّكْبِيرُ إثْرَ كُلِّ صَلاَةٍ, وَفِي الأَضْحَى, وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ, وَيَوْمِ عَرَفَةَ: حَسَنٌ كُلُّهُ;
لإِنَّ التَّكْبِيرَ فِعْلُ خَيْر, وَلَيْسَ هَهُنَا أَثَرٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْصِيصِ الأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَرُوِّينَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَأَبِي وَائِلٍ, وَأَبِي يُوسُفُ, وَمُحَمَّدٍ: اسْتِحْبَابَ التَّكْبِيرِ غَدَاةَ عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْعَصْرِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُكَبِّرُ صَلاَةَ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ فِي رِوَايَتِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ, اللَّهُ أَكْبَرُ, لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ, اللَّهُ أَكْبَرُ, اللَّهُ أَكْبَرُ, الْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ مِثْلُ هَذَا, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى صَلاَةِ الصُّبْحِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
قال أبو محمد: مَنْ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى تَكْبِيرِ أَيَّامِ مِنًى فَقَدْ أَخْطَأَ, لاَِنَّهُ قَاسَ مَنْ لَيْسَ بِحَاجٍّ عَلَى الْحَاجِّ, وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ لاَ يَقِيسُونَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ, فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّكْبِيرِ.
وَلاَ مَعْنَى لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ فِي الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}. وَقَالَ: إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ وَمَا بَعْدَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى فَاسِدَةٌ, وَمَا حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ ذِكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَيَّامِ.
وَلاَ مَعْنَى لِمَنْ اقْتَصَرَ بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ; لإِنَّ النَّصَّ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} وَقَدْ صَحَّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ لَيْسَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَأَنَّ مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ هُوَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ, فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/91)


و من لم يخرج يوم الفطر و لا يوم الأضحى لصلاة العيدين خرج لصلاتهما في اليوم الثاني
...
552 – مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَلاَ يَوْمَ الأَضْحَى لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ خَرَجَ لِصَلاَتِهِمَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي,
وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ غُدْوَةً خَرَجَ مَا لَمْ تَزُلْ الشَّمْسُ, لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ,

(5/91)


وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْحَوْضِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلاَلَ بِالأَمْسِ, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وَإِذَا أَصْبَحُوا يَغْدُوا إلَى مُصَلاَّهُمْ".
قال أبو محمد: هَذَا مُسْنَدٌ صَحِيحٌ, وَأَبُو عُمَيْرٍ مَقْطُوعٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَامِهِ مَنْ صَحَّتْ صُحْبَتُهُ مِمَّنْ لَمْ تَصِحَّ صُحْبَتُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا عِلَّةً مِمَّنْ يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا, وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، رضي الله عنهم،, لِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ.
فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِي الثَّانِي مِنْ الأَضْحَى وَخَرَجَ فِي الثَّالِثِ فَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَهُوَ فِعْلُ خَيْرٍ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ.

(5/92)


و الغناء و اللعب و الزفن في أيام العيدين حسن في المسجد و غيره
...
553 - مَسْأَلَةٌ: وَالْغِنَاءُ وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ حَسَنٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنَا عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ - أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ هُوَ يَتِيمُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "دَخَلْ عَلَيّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءٍ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "دَعْهَا" فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا, وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ, يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ, فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا قَالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ, خَدِّي عَلَى خَدِّهِ, وَهُوَ يَقُولُ: "دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ" حَتَّى إذَا مَلِلْتُ قَالَ: "حَسْبُكِ"؟

(5/92)


قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: فَاذْهَبِي".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَُيْلِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ, وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ, فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ, فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَقَالَ: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ". وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ:، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيد - عَنْ هِشَامٍ- هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ, فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ, فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ, حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِحِرَابِهِمْ إذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, فَأَهْوَى إلَيْهِمْ لِيَحْصِبَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ", قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَيْنَ يَقَعُ إنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ إنْكَارِ سَيِّدَيْ هَذِهِ الأُُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا صلى الله عليه وسلم- أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ رضي الله عنهما-؟! وَقَدْ أَنْكَرَ عليه السلام عَلَيْهِمَا إنْكَارَهُمَا, فَرَجَعَا عَنْ رَأْيِهِمَا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام.

(5/93)


صلاة الاستسقاء
إن قحط الناس أو اشتد المطر حتى يؤذي فليدع المسلمون
...
صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ
554 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: إنْ قَحَطَ النَّاسُ أَوْ أَشْتَدَّ الْمَطَرُ حَتَّى يُؤْذِيَ فَلْيَدْعُ الْمُسْلِمُونَ
فِي إدْبَارِ صَلَوَاتِهِمْ وَسُجُودِهِمْ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ, وَيَدْعُو الإِمَامُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم}. قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}. فَإِنْ أَرَادَ الإِمَامُ الْبُرُوزَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ خَاصَّةً لاَ فِيمَا سِوَاهُ فَلْيَخْرُجْ مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا إلَى مَوْضِعِ الْمُصَلَّى وَالنَّاسُ مَعَهُ, فَيَبْدَأُ فَيَخْطُبُ بِهِمْ خُطْبَةً يُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الاِسْتِغْفَارِ, وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ, فَيَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى رَافِعًا يَدَيْهِ, ظُهُورُهُمَا إلَى السَّمَاءِ, ثُمَّ يَقْلِبُ رِدَاءَهُ أَوْ ثَوْبَهُ الَّذِي يَتَغَطَّاهُ, فَيَجْعَلُ بَاطِنَهُ ظَاهِرَهُ, وَأَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ, وَمَا عَلَى مَنْكِبٍ مِنْ مَنْكِبَيْهِ عَلَى الْمَنْكِبِ الآخَرِ, وَيَفْعَلُ النَّاسُ كَذَلِكَ. ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ, كَمَا قلنا فِي صَلاَةِ الْعِيدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ, بِلاَ أَذَانٍ، وَلاَ إقَامَةٍ, إلاَّ أَنَّ

(5/93)


صَلاَةَ الاِسْتِسْقَاءِ يَخْرُجُ فِيهَا الْمِنْبَرُ إلَى الْمُصَلَّى, وَلاَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدَيْنِ, فَإِذَا سَلَّمَ انْصَرَفَ وَانْصَرَفَ النَّاسُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو, ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ, ثُمَّ صَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حدثنا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي كِنَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاِسْتِسْقَاءِ فَقَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا, فَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ, لَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي التَّضَرُّعِ, وَالدُّعَاءِ, وَالتَّكْبِيرِ, وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ".
قال أبو محمد: أَمَّا الاِسْتِغْفَارُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}. وَتَحْوِيلُ الرِّدَاءِ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وقال مالك: بِتَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ.
وقال الشافعي: صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ كَصَلاَةِ الْعِيدِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ السَّلَفِ خِلاَفَ هَذَا, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ هُوَ الْخِطْمِيُّ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ, فَخَرَجَ فَاسْتَسْقَى بِالنَّاسِ, وَفِيهِمْ: الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ, فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ.
قال أبو محمد: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ هَذَا صُحْبَةٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَعَلِيٍّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ, وَالْفِطْرِ, وَالأَضْحَى سَبْعًا فِي الآُولَى, وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ, وَيُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَيَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ, وَلَكِنْ فِي الطَّرِيقِ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى, وَهُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ.
وَرُوِّينَا: أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَدَعَا فِي الاِسْتِسْقَاءِ, ثُمَّ انْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ.
قال أبو محمد: وَلاَ يُمْنَعُ الْيَهُودُ, وَلاَ الْمَجُوسُ, وَلاَ النَّصَارَى: مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الاِسْتِسْقَاءِ لِلدُّعَاءِ فَقَطْ, وَلاَ يُبَاحُ لَهُمْ إخْرَاجُ نَاقُوسٍ، وَلاَ شَيْءَ يُخَالِفُ دِينَ الإِسْلاَمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/94)


صلاة الكسوف
صلاة الكسوف على وجوه و بيانها مفصلة و ذكر الأدلة على أنواعها
...
صَلاَةُ الْكُسُوف
555 - مَسْأَلَةٌ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ التَّطَوُّعِ, وَهَذَا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ, وَفِي كُسُوفِ الْقَمَرِ أَيْضًا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو مَعْمَرٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ, حَتَّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ, فَثَابَ النَّاسَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ, فَانْجَلَتْ الشَّمْسُ, فَقَالَ: "إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ, وَإِنَّهُمَا لاَ يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ", وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ, يُقَالُ لَهُ: إبْرَاهِيمُ, فَقَالَ نَاسٌ فِي ذَلِكَ"
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ, فَقَامَ إلَى الْمَسْجِدِ يَجُرُّ رِدَاءَهُ مِنْ الْعَجَلَةِ, فَقَامَ إلَيْهِ النَّاسُ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ, فَلَمَّا انْجَلَتْ خَطَبَنَا, فَقَالَ: "إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَإِنَّهُمَا لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفَ أَحَدِهِمَا فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ".
وَرُوِّينَا نَحْوَ هَذَا أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّ فِيهِ تَطْوِيلَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ.
فَأَخَذَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ

(5/95)


كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
فإن قيل: قَدْ خَطَّأَهُ أَخُوهُ عُرْوَةُ.
قلنا: عُرْوَةُ أَحَقُّ بِالْخَطَأِ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ صَاحِبٌ, وَعُرْوَةَ لَيْسَ بِصَاحِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَمِلَ بِعِلْمٍ, وَأَنْكَرَ عُرْوَةُ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا الْوَجْهُ يُصَلَّى لِكُسُوفِ الشَّمْسِ, وَلِكُسُوفِ الْقَمَرِ فِي جَمَاعَةٍ, وَلَوْ صَلَّى ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ تَظْهَرُ مِنْ زَلْزَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لَكَانَ حَسَنًا, لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَإِنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ, ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ, هَكَذَا حَتَّى يَنْجَلِيَ الْكُسُوفُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ, وَالآيَاتُ كَمَا ذَكَرْنَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حدثنا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: "كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ" .
وَرُوِّينَا أَيْضًا قَوْلَهُ عليه السلام فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ, كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَأَبِي مَسْعُودٍ, بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَالَ الرَّبِيعُ: عَنِ الْحَسَنِ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ قَالاَ

(5/96)


جَمِيعًا فِي الْكُسُوفِ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ, وَإِنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَا بَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا, فَإِذَا انْجَلَى الْكُسُوفُ قَرَأَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ هَذَا فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالآيَاتِ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُنْتُ أَرْمِي بِأَسْهُمٍ لِي فِي الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ كَسَفَتْ الشَّمْسُ, فَنَبَذْتُهَا, وَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لاََنْظُرَنَّ إلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ, قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلاَةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ, فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَحْمَدُ وَيُهَلِّلُ, وَيُكَبِّرُ, وَيَدْعُو حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا, فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
وَإِنْ شَاءَ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ خَاصَّةً إنْ كُسِفَتْ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَإِنْ كُسِفَتْ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الظُّهْرِ إلَى أَخْذِهَا فِي الْغُرُوبِ: صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, كَصَلاَةِ الظُّهْرِ, أَوْ الْعَصْرِ.
وَفِي كُسُوفِ الْقَمَرِ خَاصَّةً: إنْ كُسِفَ بَعْدَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ إلَى أَنْ تُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ: صَلَّى ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ. وَإِنْ كُسِفَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَتَمَةِ إلَى الصُّبْحِ: صَلَّى أَرْبَعًا: كَصَلاَةِ الْعَتَمَةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، حدثنا خَالِدُ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: "انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزِعًا, حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ, فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي بِنَا حَتَّى انْجَلَتْ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَالَ: "إنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ إلاَّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ الْعُظَمَاءِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ, إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ, وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِنَّ

(5/97)


اللَّهَ إذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلاَةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ".
فإن قيل: إنَّ أَبَا قِلاَبَةَ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ قَبِيصَةَ الْعَامِرِيِّ قلنا: نَعَمْ, فَكَانَ مَاذَا وَأَبُو قِلاَبَةَ قَدْ أَدْرَكَ النُّعْمَانَ فَرَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنْهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ آخَرَ فَحَدَّثَ بِكِلْتَا رِوَايَتَيْهِ, وَلاَ وَجْهَ لِلتَّعَلُّلِ بِمِثْلِ هَذَا أَصْلاً، وَلاَ مَعْنًى لَهُ.
وَإِنْ شَاءَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ خَاصَّةً: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ, فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَانِ, يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ, فَيَقْرَأُ. ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ. ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ أُخْرَى, فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَانِ, كَمَا وَصَفْنَا, ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي ثَوْرٍ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "انْخَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ, ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً, ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ, ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ, ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ, ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ, ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ, ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ". وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَهُ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها.
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ خَاصَّةً رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ, يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ: ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ أَيْضًا رَكْعَةً فِيهَا ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ يَرْفَعُ ثُمَّ يَسْجُدُ, ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ.

(5/98)


وَقَدْ رُوِّينَا مَا يُظَنُّ فِيهِ هَذَا الْفِعْلُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ, قَامَ بِالنَّاسِ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَكَعَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا, ثُمَّ قَرَأَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ, ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ فِي الزَّلْزَلَةِ فَأَطَالَ الْقُنُوتَ, ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقُنُوتَ, ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقُنُوتَ, ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ سَجَدَ, ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ كَذَلِكَ, فَصَارَ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ. وَقَالَ: هَكَذَا صَلاَةُ الآيَاتِ قَالَ قَتَادَةُ: صَلَّى حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ بِأَصْحَابِهِ مِثْلَ صَلاَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآيَاتِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ, وَفَعَلَ فِي الآُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: صَلاَةُ الآيَاتِ سِتُّ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ.
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ خَاصَّةً رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ, يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ أَيْضًا سَوَاءً بِسَوَاءٍ, ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَسَفَتْ الشَّمْسُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ".
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، حدثنا حَبِيبُ، هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ, قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ, ثُمَّ سَجَدَ" , قَالَ: وَالآُخْرَى مِثْلُهَا.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ فَعَلَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ, وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ.

(5/99)


رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلَ أَخْبَرَهُ أَنَّ طَاوُوسًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ: صَلَّى إذْ كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى ظَهْرِ صِفَةِ زَمْزَمَ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ, فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ, كَمَا رَوَى.
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ خَاصَّةً رَكْعَتَيْنِ, فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَ رَكَعَاتٍ, يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ, ثُمَّ يَرْفَعُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ يَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ فِي صَلاَةِ الآيَاتِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مُبَيَّنًا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ بِصِفَةِ الْعَمَلِ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فُضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَلَّى فِي كُسُوفٍ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ.
قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّنْ عَمِلَ بِهِ مِنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ.
وَرُوِيَ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ زِيَادٍ الْعَدَوِيِّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ أَنَّ صِفَةَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ: أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ يَرْكَعَ فَإِنْ لَمْ تَنْجَلِ رَكَعَ ثُمَّ رَفَعَ, فَقَرَأَ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى تَنْجَلِيَ, فَإِذَا انْجَلَتْ سَجَدَ ثُمَّ رَكَعَ الثَّانِيَةَ. وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ نَحْوَ هَذَا

(5/100)


قال أبو محمد: لاَ يَحِلُّ الاِقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الآثَارِ دُونَ بَعْضٍ; لاَِنَّهَا كُلَّهَا سُنَنٌ, وَلاَ يَحِلُّ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السُّنَنِ.
فأما مَالِكٌ: فَإِنَّهُ فِي اخْتِيَارِهِ بَعْضِ مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما وَتَقْلِيدُ أَصْحَابِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ: هَادِمُونَ أَصْلاً لَهُمْ كَبِيرًا, وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفُ مَا رَوَيَا مِمَّا اخْتَارَهُ مَالِكٌ كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا. وَمِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الصَّاحِبَ إذَا صَحَّ عَنْهُ خِلاَفَ مَا رَوَى كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى نَسْخِهِ; لاَِنَّهُ لاَ يَتْرُكُ مَا رَوَى إلاَّ لإِنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا بِسُنَّةٍ هِيَ أَوْلَى مِنْ الَّتِي تَرَكَ, وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ قَلَّدَهُ: فَإِنَّهُمْ عَارَضُوا سَائِرَ مَا رُوِيَ بِأَنْ قَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ صِفَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا ضَلاَلٌ يُؤَدِّي إلَى الاِنْسِلاَخِ مِنْ الإِسْلاَمِ لأَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنْ لاَ يُؤْخَذَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ, وَلاَ يُطَاعَ لَهُ أَمْرٌ: إلاَّ حَتَّى يُوجَدَ فِي سَائِرِ الدِّيَانَةِ حُكْمٌ آخَرُ مِثْلُ هَذَا الَّذِي خَالَفُوا, وَمَعَ هَذَا فَهُوَ حُمْقٌ مِنْ الْقَوْلِ.
وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ لاَ تُؤْخَذَ لِلَّهِ شَرِيعَةٌ إلاَّ حَتَّى تُوجَدَ أُخْرَى مِثْلُهَا وَإِلاَّ فَلاَ وَمَا نَدْرِي هَذَا يَجِبُ, لاَ بِدَيْنٍ، وَلاَ بِعَقْلٍ, وَلاَ بِرَأْيٍ سَدِيدٍ, وَلاَ بِقَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ, وَمَا هُمْ بِأَوْلَى مِنْ آخَرَ, قَالَ: بَلْ لاَ آخُذُ بِهَا حَتَّى أَجِدَ لَهَا نَظِيرَيْنِ أَوْ مِنْ ثَالِثٍ قَالَ: لاَ حَتَّى أَجِدَ لَهَا ثَلاَثَ نَظَائِرَ وَالزِّيَادَةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ عَقْلَ، وَلاَ حَيَاءَ!
ثُمَّ نَقَضُوا هَذَا فَجَوَّزُوا صَلاَةَ الْخَوْفِ كَمَا جَوَّزُوهَا, وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا فِي الآُصُولِ نَظِيرًا, فِي أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهَا مُخْتَارًا لِلْوُقُوفِ, لاَ يُصَلِّي بِصَلاَةِ إمَامِهِ, وَلاَ يُتِمُّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ.
وَجَوَّزُوا الْبِنَاءَ فِي الْحَدَثِ, وَلَمْ يَجِدُوا فِي الآُصُولِ لَهَا نَظِيرًا, أَنْ يَكُونَ فِي صَلاَتِهِ بِلاَ طَهَارَةٍ, ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ عَمَلَ صَلاَتِهِ, وَلاَ هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا, وَالْقَوْمُ لاَ يُبَالُونَ بِمَا قَالُوا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يَجْهَرُ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ وَقَالَ مَنْ احْتَجَّ لَهُمْ: لَوْ جَهَرَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعُرِفَ بِمَا قَرَأَ.
قال أبو محمد: هَذَا احْتِجَاجٌ فَاسِدٌ, وَقَدْ عُرِفَ مَا قَرَأَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ

(5/101)


ابْنُ مِهْرَانَ- هُوَ الرَّازِيّ -، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا ابْنُ نِمْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَانِ سَمِعَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنِي أَبِي، حدثنا الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً فَجَهَرَ بِهَا فِي صِفَتِهَا لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ".
قال أبو محمد: قَطْعُ عَائِشَةَ, وَعُرْوَةَ, وَالزُّهْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ بِأَنَّهُ عليه السلام جَهَرَ فِيهَا: أَوْلَى مِنْ ظُنُونِ هَؤُلاَءِ الْكَاذِبَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ مِنْ صَلاَةِ الْكُسُوفِ سُورَةً مِنْ الطُّوَلِ".
فإن قيل: إنَّ سَمُرَةَ رَوَى فَقَالَ: "إنَّهُ عليه السلام صَلَّى فِي الْكُسُوفِ لاَ نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا".
قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ, وَهُوَ مَجْهُولٌ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ وَإِنَّمَا فِيهِ لاَ نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا وَصَدَقَ سَمُرَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ, وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعْهُ لَسَمِعَهُ كَمَا سَمِعَتْهُ عَائِشَةُ، رضي الله عنها، الَّتِي كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ الْقِبْلَةِ فِي حُجْرَتِهَا, وَكِلاَهُمَا صَادِقٌ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ فِيهِ "لَمْ يَجْهَرْ" لَكَانَ خَبَرُ عَائِشَةَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي خَبَرِ سَمُرَةَ, وَالزَّائِدُ أَوْلَى, أَوْ لَكَانَ كِلاَ الأَمْرَيْنِ جَائِزًا لاَ يُبْطِلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ, فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؟
قال أبو محمد: وَلاَ نَعْلَمُ اخْتِيَارَ الْمَالِكِيِّينَ رُوِيَ عَمَلُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِبَيَانِ اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ.
فإن قيل: كَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ الأَعْمَالُ صِحَاحًا كُلُّهَا وَإِنَّمَا صَلاَّهَا عليه السلام مَرَّةً وَاحِدَةً إذْ مَاتَ إبْرَاهِيمُ.
قلنا: هَذَا هُوَ الْكَذِبُ وَالْقَوْلُ بِالْجَهْلِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُمْرَةَ، عَنْ عَائِشَة:َ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(5/102)


صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي كُسُوفٍ فِي صِفَةِ زَمْزَمَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ".
فَهَذِهِ صَلاَةُ كُسُوفٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ سِوَى الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ, وَمَا رَوَوْا قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ الْكُسُوفَ إلاَّ مَرَّةً ". وَكُسُوفُ الشَّمْسِ يَكُونُ مُتَوَاتِرًا, بَيْنَ كُلِّ كُسُوفَيْنِ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ قَمَرِيَّةٍ, فَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي أَنْ يُصَلِّيَ عليه السلام فِيهِ عَشْرَاتٍ مِنْ الْمَرَّاتِ فِي نُبُوَّتِهِ؟

(5/103)


وَأَمَّا اقْتِصَارُنَا عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي صَلاَةِ كُسُوفِ الْقَمَرِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى", فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةً إلاَّ مَثْنَى مَثْنَى, إلاَّ صَلاَةٌ جَاءَ نَصٌّ جَلِيٌّ صَحِيحٌ بِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ مَثْنَى أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَثْنَى, كَمَا جَاءَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ, فَيُوقَفُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلاَ تُضْرَبُ الشَّرَائِعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ, بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ.
وَإِنَّمَا قلنا بِصَلاَةِ الْكُسُوفِ الْقَمَرِيِّ, وَالآيَاتِ فِي جَمَاعَةٍ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْمُنْفَرِدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ". وَيُصَلِّيهَا: النِّسَاءُ, وَالْمُنْفَرِدُ, وَالْمُسَافِرُونَ, كَمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/105)


سجود القرآن
في القرآن أربع عشرة سجدة
...
سُجُودُ الْقُرْآنِ
556 – مَسْأَلَةٌ: فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً:
أَوَّلُهَا: فِي آخِرِ خَاتِمَةِ سُورَةِ الأَعْرَافِ ثُمَّ فِي الرَّعْدِ ثُمَّ فِي النَّحْلِ ثُمَّ فِي "سُبْحَانَ" ثُمَّ فِي "كهيعص" ثُمَّ فِي الْحَجِّ فِي الآُولَى وَلَيْسَ قُرْبُ آخِرِهَا سَجْدَةٌ ثُمَّ فِي الْفُرْقَانِ ثُمَّ فِي النَّمْلِ ثُمَّ فِي "الم تَنْزِيلُ" ثُمَّ فِي "ص" ثُمَّ فِي "حم" فُصِّلَتْ ثُمَّ فِي

(5/105)


{وَالنَّجْمِ} فِي آخِرِهَا. ثُمَّ فِي {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} عِنْدَ قوله تعالى: {لاَ يَسْجُدُونَ} ثُمَّ فِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فِي آخِرِهَا.
وَلَيْسَ السُّجُودُ فَرْضًا لَكِنَّهُ فَضْلٌ وَيَسْجُدُ لَهَا فِي الصَّلاَةِ الْفَرِيضَةِ وَالتَّطَوُّعِ, وَفِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ, وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَاسْتِوَائِهَا إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَعَلَى طَهَارَةٍ وَعَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ.
فأما السَّجَدَاتُ الْمُتَّصِلَةُ إلَى {الم تَنْزِيلُ} فَلاَ خِلاَفَ فِيهَا, وَلاَ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ مِنْهَا, إلاَّ فِي سُورَةِ النَّمْلِ, فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَالُوا: مَوْضِعُ السَّجْدَةِ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِ قِرَاءَتِك {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ, بَلْ فِي تَمَامِ قِرَاءَتِك {وَمَا تُعْلِنُونَ} وَبِهَذَا نَقُولُ, لاَِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَوْضِعِ ذِكْرِ السُّجُودِ وَالأَمْرِ بِهِ, وَالْمُبَادَرَةُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَوْلَى. قَالَ تَعَالَى: {سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ ثَانِيَةٌ قُرْبَ آخِرِهَا, عِنْدَ قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا فِي الصَّلاَةِ أَلْبَتَّةَ, لاَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي الصَّلاَةِ سُجُودٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ نَصٌّ, وَالصَّلاَةُ تَبْطُلُ بِذَلِكَ, وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَهُوَ حَسَنٌ, لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ.
وَإِنَّمَا لَمْ نُجِزْهُ فِي الصَّلاَةِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا سُنَّةٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أَجْمَعَ عَلَيْهَا, وَإِنَّمَا جَاءَ فِيهَا أَثَرٌ مُرْسَلٌ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: السُّجُودُ فِيهَا وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ يَقُولُ: صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَجَدَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.
وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ: رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَجَدَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وَأَبَاهُ عُمَرَ كَانَا يَسْجُدَانِ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ سَجَدْت فِيهَا وَاحِدَةً لَكَانَتْ السَّجْدَةُ فِي الآخِرَةِ أَحَبَّ إلَيَّ.
وَقَالَ عُمَرُ: إنَّهَا فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ سَجَدَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.

(5/106)


وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبِي مُوسَى, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
قال أبو محمد: أَيْنَ الْمُهَوِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ بِتَعْظِيمِ خِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ خَالَفُوا هَهُنَا فِعْلَ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَمَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا, وَمَعَهُمْ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ, وَطَوَائِفُ مِنْ التَّابِعِينَ وَمِنْ بَعْدِهِمْ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا إلاَّ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا خِلاَفٌ.
قلنا: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ, إنَّمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السُّجُودُ عَشْرٌ, وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ: لَيْسَ فِي "ص" سَجْدَةٌ فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ عَنْهُ خِلاَفٌ فِي هَذَا. بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ السُّجُودُ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ.
وَاخْتُلِفَ: أَفِي "ص" سَجْدَةٌ أَمْ لاَ؟
وَإِنَّمَا قلنا: بِالسُّجُودِ فِيهَا; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السُّجُودُ فِيهَا, وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا فِي سُجُودِ الْخَطِيبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ.
وَاخْتُلِفَ فِي السُّجُودِ فِي "حم". فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: السَّجْدَةُ عِنْدَ تَمَامِ قوله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَبِهِ نَأْخُذُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الآيَةَ الَّتِي يَسْجُدُ عِنْدَهَا قَبْلَ الآُخْرَى, وَالْمُسَارَعَةُ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ, وَالثَّانِي أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ وَاتِّبَاعُ الأَمْرِ أَوْلَى.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِلصَّوَابِ: وَجَدْنَا السُّجُودَ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لاَ فِي مَوْضِعِ الأَمْرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُ لاَِنَّهُ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ يَسْجُدُونَ فِي الْفُرْقَانِ فِي قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} وَهَذَا أَمْرٌ لاَ خَبَرٌ وَفِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيّ وَهِيَ إحْدَى الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ: {أَلاَ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ, بِتَخْفِيفِ "أَلاَّ "بِمَعْنَى: أَلاَ يَا قَوْمُ اُسْجُدُوا, وَهَذَا أَمْرٌ وَفِي النَّحْلِ عِنْدَ قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.

(5/107)


وَقَدْ وَجَدْنَا ذِكْرَ السُّجُودِ بِالْخَيْرِ لاَ سُجُودَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ. وَهُوَ قوله تعالى فِي آلِ عِمْرَانَ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. وَفِي قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} فَصَحَّ أَنَّ الْقَوْمَ فِي تَخْلِيطٍ لاَ يُحَصِّلُونَ مَا يَقُولُونَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْجُدُونَ بِالآُولَى مِنْ الآيَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يَرَيَانِ عَزَائِمَ السُّجُودِ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إلاَّ "الم" وَ "حم" وَكَانَا يَرَيَانِهِمَا أَوْكَدُ مِنْ سِوَاهُمَا.
وقال مالك: لاَ سُجُودَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَخَالَفَهُمَا آخَرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ, كَمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, بَعْدَ أَنْ نَقُولَ: صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السُّجُودُ فِيهَا, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ، وَلاَ مَعَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ سَمِعْت الأَسْوَدَ بْنَ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأ: {وَ النَّجْمِ} فَسَجَدَ فِيهَا. حدثنا حمام بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي، حدثنا مُسَدَّدٌ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {وَ النَّجْمِ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
وَبِهِ يَأْخُذُ جُمْهُورُ السَّلَفِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ لَهُمْ {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} فَسَجَدَ فِيهَا, ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى, وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ بِالْمُسْلِمِينَ.
وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَرَأَ فِي صَلاَةِ الْعِشَاءِ بِـ {وَ النَّجْمِ} فَسَجَدَ فِي

(5/108)


آخِرِهَا, ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فَرَكَعَ وَسَجَدَ, فَقَرَأَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "الْعَزَائِمُ أَرْبَعٌ: {الم تَنْزِيلُ} و {حم} السَّجْدَةُ {وَ النَّجْمُ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ, عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَزَائِمُ السُّجُودِ أَرْبَعٌ: {الم تَنْزِيلُ} و {حم} و {وَ النَّجْمُ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ". وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا قَرَأَ بِ {النَّجْمِ} سَجَدَ.
وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: "سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْمِ وَلَمْ أَسْجُدْ- وَكَانَ مُشْرِكًا حِينَئِذٍ- قَالَ: فَلَنْ أَدَعَ السُّجُودَ فِيهَا أَبَدًا" أَسْلَمَ الْمُطَّلِبُ يَوْمَ الْفَتْحِ.
فَهَذَا عُمَرُ, وَعُثْمَانُ, وَعَلِيٌّ, بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ أَقَلَّ مِنْ هَذَا. وَبِالسُّجُودِ فِيهَا يَقُولُ: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي لَيْلَى, وَسُفْيَانُ, وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَدَاوُد, وَغَيْرُهُمْ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ الْمُقَلِّدُونَ لِمَالِكٍ بِخَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: "قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا". قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا, فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ سُجُودَ فِيهَا", وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ السُّجُودَ فَرْضٌ فَقَطْ. وَهَكَذَا نَقُولُ: إنَّ السُّجُودَ لَيْسَ فَرْضًا, لَكِنْ إنْ سَجَدَ فَهُوَ أَفْضَلُ, وَإِنْ تَرَكَ فَلاَ حَرَجَ, مَا لَمْ يَرْغَبْ، عَنِ السُّنَّةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْخَبَرِ قَدْ صَحَّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَ، هُوَ ابْنُ قُسَيْطٍ فَالآنَ صَارَتْ رِوَايَتُهُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ السُّنَنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا يَدَّعُونَهُ.
وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْجُدُ بِمَكَّةَ بِالنَّجْمِ

(5/109)


فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ رَأَى أَبُو سَعِيدٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّهُ يَكْتُبُ سُورَةَ ص, فَلَمَّا أَتَى عَلَى السَّجْدَةِ: سَجَدَتْ الدَّوَاةُ, وَالْقَلَمُ, وَالشَّجَرُ, وَمَا حَوْلَهُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَجَدَ فِيهَا, وَتَرَكَ النَّجْمَ.
فَهَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ; لإِنَّ بَكْرًا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِمَّنْ سَمِعَهُ, إلاَّ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ بُطْلاَنُ هَذَا الْخَبَرِ بِلاَ شَكٍّ لِمَا رُوِّينَاهُ آنِفًا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِهِمْ فِي النَّجْمِ", وَأَبُو هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الإِسْلاَمِ, وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ, وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ فِيهَا كَانَ إثْرَ قُدُومِهِ عليه السلام الْمَدِينَةَ, وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَمَوَّهُوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ يَذْكُرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ مُذْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ".
وَهَذَا بَاطِلٌ بَحْتٌ, لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَلِمَا نَذْكُرُهُ إثْرَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِلَّةُ هَذَا الْخَبَرِ هُوَ أَنَّ مَطَرًا سَيِّئُ الْحِفْظِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنْ النَّافِي, وَلاَ عَمَلَ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَذَكَرُوا أَحَادِيثَ مُرْسَلَةً سَاقِطَةً, لاَ وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ, وَمُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالاَ: حدثنا هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَجَدَ فِي إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ, فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ قَالَ: "لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ لَمْ أَسْجُدْ بِهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمِثْلِهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {َاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} ".

(5/110)


قال أبو محمد: هَذَا يُكَذِّبُ رِوَايَةَ مَطَرٍ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ كَالشَّمْسِ, اكْتَفَيْنَا مِنْهَا بِهَذَا.
وَبِهَذَا يَأْخُذُ عَامَّةُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَالْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ كُلُّهُمْ قَالَ: حدثنا قُرَّةُ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "سَجَدَ: أَبُو بَكْرٍ, وَعُمَرُ فِي: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمَا" زَادَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ, وَالْمُعْتَمِرُ" وَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}". وَهَذَا أَثَرٌ كَالشَّمْسِ صِحَّةً.
وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ مَسْعُودٍ آنِفًا: عَزَائِمُ السُّجُودِ: {الم} وَ {حُمَّ} {وَالنَّجْمُ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}".
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: قَرَأَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَهُوَ يَخْطُبُ, فَنَزَلَ فَسَجَدَ.
وَعَنِ الثِّقَاتِ: أَيُّوبَ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ فِي: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}".
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَشُرَيْحٍ, وَالشَّعْبِيِّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَدَاوُد, وَأَصْحَابِهِمْ, وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا سُجُودُهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ, وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَيْفَ مَا يُمْكِنُ فَلاَِنَّهَا لَيْسَتْ صَلاَةً, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى", فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِأَنَّهُ صَلاَةٌ, كَرَكْعَةِ الْخَوْفِ, وَالْوِتْرِ, وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ, وَلاَ نَصَّ فِي أَنَّ سَجْدَةَ التِّلاَوَةِ: صَلاَةٌ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُثْمَانَ رضي الله تعالى عنه, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: تُومِئُ الْحَائِضُ بِالسُّجُودِ قَالَ سَعِيدُ: وَتَقُولُ: رَبِّ لَك سَجَدْت. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: جَوَازُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ

(5/111)


سجود الشكر
سجود الشكر حسن و الدليل على ذلك و أقوال العلماء فيه
...
سُجُودُ الشُّكْرِ
557 - مَسْأَلَةٌ: سُجُودُ الشُّكْرِ حَسَنٌ,
إذَا وَرَدَتْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَرْءِ نِعْمَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ السُّجُودُ, لإِنَّ السُّجُودَ فِعْلُ خَيْرٍ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} . وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
بَلْ قَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْت الأَوْزَاعِيَّ قَالَ: حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ، حدثنا مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ, أَوْ قُلْتُ: مَا أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى, فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا دَرَجَةً, وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً" قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ.
قال أبو محمد: الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِفَضْلِهِ وَعَمَلِهِ, وَبَاقِي الإِسْنَادِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُمْ.
وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا السُّجُودَ إنَّمَا هُوَ سُجُودُ الصَّلاَةِ خَاصَّةً, وَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى هَذَا فَقَدْ قَالَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ, بَلْ كَذَبَ عَلَيْهِ, إذْ أَخْبَرَ، عَنْ مُرَادِهِ بِالْغَيْبِ وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ: سَجَدَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ ذُو الثِّدْيَةِ فِي الْقَتْلَى: سَجَدَ, إذْ عَرَفَ أَنَّهُ فِي الْحِزْبِ الْمُبْطِلِ, وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحِقُّ.
وَصَحَّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ تَخَلُّفِهِ، عَنْ تَبُوكَ أَنَّهُ لَمَّا تِيبَ عَلَيْهِ: سَجَدَ.
وَلاَ مُخَالِفَ لِهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَصْلاً, وَلاَ مَغْمَزَ فِي خَبَرِ كَعْبٍ أَلْبَتَّةَ.

(5/112)


كتاب الجنائز
صلاة الجنائز و حكم الموتى
غسل المسلم الذكر و الأنثى و تكفينهما فرض و كذلك الصلاة عليه و دليل ذلك
...
كِتَابُ الْجَنَائِزِ
صَلاَةُ الْجَنَائِزِ وَحُكْمُ الْمَوْتَى
558 - مَسْأَلَةٌ: غُسْلُ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ وَالآُنْثَى وَتَكْفِينُهُمَا: فَرْضٌ,
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ إلاَّ حَسَنًا عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَكَذَلِكَ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: "دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ, فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ", وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَأَمَرَ عليه السلام بِغُسْلِهَا, وَأَمْرُهُ فَرْضٌ, مَا لَمْ يُخْرِجْهُ، عَنِ الْفَرْضِ نَصٌّ آخَرُ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَإِيجَابُ الْغُسْلِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَدَاوُد.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ لاَ يَرَى غُسْلَ الْمَيِّتِ فَرْضًا وَهُوَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ, وَعَمَلُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مُذْ أَوَّلِهِ إلَى الآنَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ, فَقَالَ: "إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ".
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي حُلَّةٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ وَلِيَ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ, فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ: لاَ تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ, اشْتَرُوا لِي ثَوْبَيْنِ نَقِيَّيْنِ.

(5/113)


قال أبو محمد: هَذَا تَحْسِينٌ لِلْكَفَنِ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الْمُغَالاَةَ فَقَطْ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ لاَِنَسٍ, وَابْنِ عُمَرَ وَلِغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم احْمِلُونِي عَلَى قَطِيفَةٍ قَيْصُرَانِيَّةٍ, وَأَجْمِرُوا عَلَيَّ أُوقِيَّةَ مِجْمَرٍ وَكَفِّنُونِي فِي ثِيَابِي الَّتِي أُصَلِّي فِيهَا, وَفِي قُبْطِيَّةٍ فِي الْبَيْتِ مَعَهَا.
وَاَلَّذِي رُوِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه فِي أَنْ يُغْسَلَ الثَّوْبُ الَّذِي عَلَيْهِ وَيُكَفَّنَ فِيهِ وَفِي ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ: تَحْسِينٌ لِلْكَفَنِ, وَحَتَّى لَوْ كَانَ خِلاَفٌ لَوَجَبَ الرَّدُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(5/114)


و من لم يغسل و لا كفن حتى دفن وجب إخراجه حتى يغسل و يكفن
...
559 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يُغَسَّلْ، وَلاَ كُفِّنَ حَتَّى دُفِنَ: وَجَبَ إخْرَاجُهُ حَتَّى يُغَسَّلَ وَيُكَفَّنَ، وَلاَ بُدّ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ, فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ, فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتِهِ, وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ, وَأَلْبَسَهُ قَمِيصًا".
قال أبو محمد: أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْغُسْلِ وَالْكَفَنِ لَيْسَ مَحْدُودًا بِوَقْتٍ, فَهُوَ فَرْضٌ أَبَدًا, وَإِنْ تَقَطَّعَ الْمَيِّتُ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَقَطُّعِهِ بِالْبِلَى وَبَيْنَ تَقَطُّعِهِ بِالْجِرَاحِ, وَالْجُدَرِيِّ, لاَ يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ.

(5/114)


560 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ أَحَدٌ لَيْلاً إلاَّ عَنْ ضَرُورَةٍ،
وَلاَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ, وَلاَ حِينَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ حَتَّى تَأْخُذَ فِي الزَّوَالِ, وَلاَ حِينَ ابْتِدَاءِ أَخْذِهَا فِي الْغُرُوبِ, وَيَتَّصِلُ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي, وَالصَّلاَةُ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ كُلِّهَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ إنْسَانٌ لَيْلاً إلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ".
قال أبو محمد: كُلُّ مَنْ دُفِنَ لَيْلاً مِنْهُ عليه السلام, وَمِنْ أَزْوَاجِهِ, وَمِنْ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ, مِنْ خَوْفِ زِحَامٍ, أَوْ خَوْفِ الْحَرِّ عَلَى مَنْ

(5/114)


و الصلاة على موتى المسلمين فرض
...
561 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّلاَةُ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ: فَرْضٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ, فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ, فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَهَذَا أَمْرٌ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ عُمُومًا. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْغَالِّ.

(5/115)


المقتول بأيدي المشركين خاصة في سبيل الله في المعركة لا يغسل و لا يكفن
...
562 - مَسْأَلَةٌ: حَاشَا الْمَقْتُولِ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَعْرَكَةِ خَاصَّةً, فَإِنَّهُ لاَ يُغَسَّلُ، وَلاَ يُكَفَّنُ,
لَكِنْ يُدْفَنُ بِدَمِهِ وَثِيَابِهِ, إلاَّ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلاَحُ فَقَطْ, وَإِنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ: فَحَسَنٌ, وَإِنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ: فَحَسَنٌ, فَإِنْ حُمِلَ، عَنِ الْمَعْرَكَةِ وَهُوَ حَيٌّ فَمَاتَ: غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَتْلَى أُحُدٍ وَقَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ, وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ".

(5/115)


إعماق حفير القبر و دفن المسلم فرض و جواز دفن الاثنين و الثلاثة في قبر واحد
...
563 - مَسْأَلَةٌ: وَإِعْمَاقُ حَفِيرِ الْقَبْرِ: فَرْضٌ, وَدَفْنُ الْمُسْلِمِ: فَرْضٌ وَجَائِزٌ دَفْنُ الاِثْنَيْنِ, وَالثَّلاَثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ,
وَيُقَدَّمُ أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حدثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حدثنا أَبِي قَالَ: سَمِعْت حُمَيْدًا، هُوَ ابْنُ هِلاَلٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مَنْ أُصِيبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, فَأَصَابَ النَّاسَ جِرَاحَاتٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا, وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ, وَالثَّلاَثَةَ فِي الْقَبْرِ, وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا".
وَبِهِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إنْسَانٍ: شَدِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ فِي قَبْرٍ

(5/116)


وَاحِدٍ وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا فَلَمْ يَعْذُرْهُمْ عليه السلام فِي الإِعْمَاقِ فِي الْحَفْر".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ, ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ" فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ".

(5/117)


و دفن الكافر الحربي و غيره فرض
...
564- مَسْأَلَةٌ: وَدَفْنُ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ: فَرْضٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ".
وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ عليه السلام، عَنِ الْمُثْلَةِ. وَتَرْكُ الإِنْسَانِ لاَ يُدْفَنُ: مُثْلَةٌ. وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ إذْ قَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَنْ تُحْفَرَ خَنَادِقُ وَيُلْقَوْا فِيهَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَمَنْ يُوَارِيهِ قَالَ: "اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: رَجُلٌ فِينَا مَاتَ نَصْرَانِيًّا وَتَرَكَ ابْنَهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ وَيَدْفِنَهُ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يُحَدِّثُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ أُمَّ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مَاتَتْ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ, فَشَيَّعَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(5/117)


565 - مَسْأَلَةٌ: وَأَفْضَلُ الْكَفَنِ لِلْمُسْلِمِ: ثَلاَثَةُ أَثْوَابٍ بِيضٍ لِلرَّجُلِ,
يُلَفُّ فِيهَا,

(5/117)


من مات و عليه دين يستغرق كل ما ترك
...
566 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ مَا تَرَكَ:
فَكُلُّ مَا تَرَكَ لِلْغُرَمَاءِ, وَلاَ يَلْزَمُهُمْ كَفَنُهُ دُونَ سَائِرِ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ مِيرَاثًا، وَلاَ وَصِيَّةً إلاَّ فِيمَا يُخَلِّفُهُ الْمَرْءُ بَعْدَ دَيْنِهِ.فَصَحَّ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ, وَأَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِي مِقْدَارِ دَيْنِهِ مِمَّا يَتَخَلَّفُهُ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَحَقُّ تَكْفِينِهِ إذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ مِنْ غَرِيمٍ, أَوْ غَيْرِ غَرِيمٍ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولي أخاه فليحسن كفنه" وقد ذكرناه قبل بإسناده, فكل من ولي فهو مأمور بإحسان كفنه, ولا يحل أن يخص بذلك الغرماء دون غيرهم وهو قول أبي سليمان وأصحابه.
فإن فَضَلَ، عَنِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَالْكَفَنُ مُقَدَّمٌ فِيهِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ: لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّنَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه فِي بُرْدَةٍ لَهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا غَيْرَهَا, فَلَمْ يَجْعَلْهَا لِوَارِثِهِ.

(5/121)


و كل ما ذكرنا أنه فرض على الكفاية
...
567 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ
فَمَنْ قَامَ بِهِ سَقَطَ، عَنْ سَائِرِ النَّاسِ, كَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ, وَلاَِنَّ تَكْلِيفَ مَا عَدَا هَذَا دَاخِلٌ فِي الْحَرَجِ وَالْمُمْتَنِعِ, قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

(5/121)


568 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الْغُسْلِ
أَنْ يَغْسِلَ جَمِيعَ جَسَدِ الْمَيِّتِ وَرَأْسَهُ بِمَاءٍ قَدْ رُمِيَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ سِدْرٍ، وَلاَ بُدَّ, إنْ وُجِدَ, فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَبِالْمَاءِ وَحْدَهُ: ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ بُدَّ, يُبْتَدَأُ بِالْمَيَامِنِ, وَيُوَضَّأُ: فَإِنْ أَحَبُّوا الزِّيَادَةَ فَعَلَى الْوِتْرِ أَبَدًا إمَّا ثَلاَثُ مَرَّاتٍ, وَأَمَّا خَمْسُ مَرَّاتٍ, وَأَمَّا سَبْعُ مَرَّاتٍ وَيَجْعَلُ فِي آخِرِ غَسَلاَتِهِ إنْ غُسِّلَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، وَلاَ بُدَّ فَرْضًا, فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلاَ حَرَجَ, لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ كُلِّهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا, أَوْ خَمْسًا, أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ,

(5/121)


569 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ عُدِمَ الْمَاءُ يُمِّمَ الْمَيِّتُ،
وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ".

(5/122)


570 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ تَكْفِينُ الرَّجُلِ فِيمَا لاَ يَحِلُّ لِبَاسُهُ,
مِنْ حَرِيرٍ, أَوْ مُذَهَّبٍ, أَوْ مُعَصْفَرٍ. وَجَائِزٌ تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَرِيرِ, وَالذَّهَبِ :"إنَّهُمَا حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لاِِنَاثِهَا".
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُعَصْفَرِ: إذْ نَهَى عليه السلام الرِّجَالَ عَنْهُ.

(5/122)


كفن المرأة و حفر قبرها من رأس مالها
...
571 - مَسْأَلَةٌ: وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ وَحَفْرُ قَبْرِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهَا,
وَلاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ زَوْجَهَا, لإِنَّ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ إلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ

(5/122)


صفة الصلاة على الميت
...
572 - مَسْأَلَةٌ: وَيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ بِإِمَامٍ يَقِفُ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ, وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ صُفُوفٌ,
وَيَقِفُ مِنْ الرَّجُلِ عِنْدَ رَأْسِهِ, وَمِنْ الْمَرْأَةِ عِنْدَ وَسَطِهَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّجَاشِيِّ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي, أَوْ الثَّالِثِ".
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا صَلاَةُ قِيَامٍ, لاَ رُكُوعَ فِيهَا, وَلاَ سُجُودَ, وَلاَ قُعُودَ, وَلاَ تَشَهُّدَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى عَلَى أُمِّ كَعْبٍ, مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهَا وَسَطَهَا".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ بِإِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ كُلُّهُمْ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ بِإِسْنَادِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا دَاوُد بْنُ مُعَاذٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّيْتُ عَلَى جِنَازَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ, وَصَلَّى عَلَيْهِ بِنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَنَا خَلْفَهُ, فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ, فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ, لَمْ يُطِلْ وَلَمْ يُسْرِعْ, ثُمَّ ذَهَبَ يَقْعُدُ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ, الْمَرْأَةُ الأَنْصَارِيَّةُ فَقَرَّبُوهَا وَعَلَيْهَا نَعْشٌ أَخْضَرُ, فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا, فَصَلَّى عَلَيْهَا نَحْوَ صَلاَتِهِ عَلَى الرَّجُلِ, ثُمَّ جَلَسَ, فَقَالَ لَهُ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ, هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ كَصَلاَتِكَ, يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا, وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ, وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي غَالِبٍ, فَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ

(5/123)


هَذَا, وَفِي آخِرِهِ: أَنَّ الْعَلاَءَ بْنَ زِيَادٍ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "احْفَظُوا".
فَدَلَّ هَذَا عَلَى مُوَافَقَةِ كُلِّ مَنْ حَضَرَ لَهُ, وَهُمْ تَابِعُونَ كُلُّهُمْ.
وَبِهَذَا يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَدَاوُد, وَأَصْحَابُهُمْ, وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, بِخِلاَفِ هَذَا, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً إلاَّ دَعْوَى فَاسِدَةً, وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ إذْ لَمْ تَكُنْ النُّعُوشُ وَهَذَا كَذِبٌ مِمَّنْ قَالَهُ; لإِنَّ أَنَسًا صَلَّى كَذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ فِي نَعْشٍ أَخْضَرَ.
وقال بعضهم: كَمَا يَقُومُ الإِمَامُ مُوَازٍ وَسَطَ الصَّفِّ خَلْفَهُ كَذَلِكَ يَقُومُ مُوَازٍ وَسَطَ الْجِنَازَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَاطِلٌ, وَقِيَاسٌ فَاسِدٌ; لاَِنَّهُ إمَامُ الصَّفِّ, وَلَيْسَ إمَامًا لِلْجِنَازَةِ, وَلاَ مَأْمُومًا لَهَا, وَاَلَّذِي اقْتَدَيْنَا بِهِ فِي وُقُوفِهِ إزَاءَ وَسَطِ الصَّفِّ هُوَ الَّذِي اقْتَدَيْنَا بِهِ إزَاءَ وَسَطِ الْمَرْأَةِ, وَإِزَاءَ رَأْسِ الرَّجُلِ, وَهُوَ النَّبِيُّ عليه السلام, الَّذِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُ حُكْمِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/124)


يكبر الإمام و المأمومون بتكبير الإمام على الجنازة خمس تكبيرات
...
573 - مَسْأَلَةٌ: وَيُكَبِّرُ الإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ بِتَكْبِيرِ الإِمَامِ عَلَى الْجِنَازَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ,
لاَ أَكْثَرَ, فَإِنْ كَبَّرُوا أَرْبَعًا فَحَسَنٌ, وَلاَ أَقَلَّ, وَلاَ تُرْفَعُ الأَيْدِي إلاَّ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ فَقَطْ, فَإِذَا انْقَضَى التَّكْبِيرُ الْمَذْكُورُ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَسَلَّمُوا كَذَلِكَ, فَإِنْ كَبَّرَ سَبْعًا كَرِهْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ, وَكَذَلِكَ إنْ كَبَّرَ ثَلاَثًا, فَإِنْ كَبَّرَ أَكْثَرَ لَمْ نَتَّبِعْهُ, وَإِنْ كَبَّرَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ لَمْ نُسَلِّمْ بِسَلاَمِهِ, بَلْ أَكْمَلْنَا التَّكْبِيرَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالاَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: "قَالَ كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا, وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا, فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا".
وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَبَّرَ أَيْضًا أَرْبَعًا, كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ, فَقَالُوا: كَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا وَخَمْسًا وَأَرْبَعًا, فَجَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ كَأَطْوَلِ الصَّلاَةِ".

(5/124)


وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ فَذَكَرَهُ.
قَالُوا: فَهَذَا إجْمَاعٌ, فَلاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, أَوَّلَ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَبَرَ لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ شَقِيقٍ فَلاَ يُدْرَى فِي الْعَالَمِ مَنْ هُوَ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَشِيرَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي إحْدَاثِ فَرِيضَةٍ بِخِلاَفِ مَا فَعَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لِلْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ مَا فَعَلَهُ عليه السلام, وَمَاتَ وَهُوَ مُبَاحٌ, فَيُحَرِّمُ بَعْدَهُ, لاَ يَظُنُّ هَذَا بِعُمَرَ إلاَّ جَاهِلٌ بِمَحَلِّ عُمَرَ مِنْ الدِّينِ وَالإِسْلاَمِ, طَاعِنٌ عَلَى السَّلَفِ، رضي الله عنهم.
وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ, أَرْبَعًا وَخَمْسًا, فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَرْبَعٍ, يَعْنِي التَّكْبِيرَ عَلَى الْجِنَازَةِ.
وَبِهِ إلَى شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ, فَصَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ, فَكَبَّرَ عَلَيْهَا خَمْسًا, فَضَحِكُوا مِنْهُ, فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ, قَدْ كُنَّا نُكَبِّرُ أَرْبَعًا, وَخَمْسًا, وَسِتًّا, وَسَبْعًا, فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَرْبَعٍ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ

(5/125)


الْخَطَّابِ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ: أَرْبَعٌ, وَخَمْسٌ يَعْنِي التَّكْبِيرَ عَلَى الْجِنَازَةِ. قَالَ سَعِيدٌ: فَأَمَرَ عُمَرُ النَّاسَ بِأَرْبَعٍ.
قَالُوا: فَهَذَا إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: هَذَا الْكَذِبُ لإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ. وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَسَعِيدٌ لَمْ يَحْفَظْ مِنْ عُمَرَ إلاَّ نَعْيَهُ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَطْ, فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ أَوْ ضَعِيفٌ.
وَلَوْ صَحَّ, لَكَانَ مَا رَوَوْهُ مِنْ ذَلِكَ مُكَذِّبًا لِدَعْوَاهُمْ فِي الإِجْمَاعِ; لإِنَّ صَاحِبَ مُعَاذٍ الْمَذْكُورَ كَبَّرَ خَمْسًا, وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ كَبَّرَ بَعْدَ عُمَرَ خَمْسًا.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَلَّى عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ سِتًّا, ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ: إنَّهُ بَدْرِيٌّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَقَدِمَ عَلْقَمَةُ مِنْ الشَّامِ فَقَالَ لاِبْنِ مَسْعُودٍ: إنَّ إخْوَانَك بِالشَّامِ يُكَبِّرُونَ عَلَى جَنَائِزِهِمْ خَمْسًا, فَلَوْ وَقَّتُّمْ لَنَا وَقْتًا نُتَابِعُكُمْ عَلَيْهِ فَأَطْرَقَ عَبْدُ اللَّهِ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: اُنْظُرُوا جَنَائِزَكُمْ, فَكَبِّرُوا عَلَيْهَا مَا كَبَّرَ أَئِمَّتُكُمْ, لاَ وَقْتَ، وَلاَ عَدَدَ.
قال أبو محمد: ابْنُ مَسْعُودٍ مَاتَ فِي حَيَاةِ عُثْمَانَ رضي الله عنهما, فَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ عَلْقَمَةُ مَا ذَكَرَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الَّذِينَ بِالشَّامِ, وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ; لإِنَّ الشَّعْبِيَّ أَدْرَكَ عَلْقَمَةَ وَأَخَذَ عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ

(5/126)


زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ مِنْ بَلْعَدَانَ فَخْذٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا.
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا.
وَبِهِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلاَثًا.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا مَعْبَدٍ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُكَبِّرُ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلاَثًا. وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْبَرَنِي شَيْبَةُ بْنُ أَيْمَنَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَبَّرَ ثَلاَثًا.
وَبِهِ إلَى حَمَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قِيلَ لاَِنَسٍ: إنَّ فُلاَنًا كَبَّرَ ثَلاَثًا, يَعْنِي عَلَى جِنَازَةٍ فَقَالَ أَنَسٌ: وَهَلْ التَّكْبِيرُ إلاَّ ثَلاَثًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إنَّمَا كَانَ التَّكْبِيرُ ثَلاَثًا فَزَادُوا وَاحِدَةً يَعْنِي عَلَى الْجِنَازَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَلاَلِ الْعَتَكِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ أَبَا الشَّعْثَاءِ أَمَرَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَنْ يُكَبِّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثَلاَثًا.
قال أبو محمد: أُفٍّ لِكُلِّ إجْمَاعٍ يُخْرَجُ عَنْهُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَالصَّحَابَةُ بِالشَّامِ، رضي الله عنهم،, ثُمَّ التَّابِعُونَ بِالشَّامِ, وَابْنُ سِيرِينَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَيَدَّعِي الإِجْمَاعَ بِخِلاَفِ هَؤُلاَءِ بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ, فَمَنْ أَجْهَلُ مِمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ فَمَنْ أَخْسَرُ صَفْقَةً مِمَّنْ يَدْخُلُ فِي عَقْلِهِ أَنَّ

(5/127)


إجْمَاعًا عَرَفَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَخَفِيَ عِلْمُهُ عَلَى: عَلِيٍّ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, حَتَّى خَالَفُوا الإِجْمَاعَ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ كَبَّرَ أَرْبَعًا, وَعَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى ابْنِ الْمُكَفِّفِ أَرْبَعًا, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَبَّرَ عَلَى أُمِّهِ أَرْبَعًا, وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى كَبَّرَ عَلَى ابْنَتِهِ أَرْبَعًا, وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا, وَأَنَسًا كَبَّرَ أَرْبَعًا: فَكُلُّ هَذَا حَقٌّ وَصَوَابٌ, وَلَيْسَ مِنْ هَؤُلاَءِ أَحَدٌ صَحَّ عَنْهُ إنْكَارُ تَكْبِيرِ خَمْسٍ أَصْلاً, وَحَتَّى لَوْ وُجِدَ لَكَانَ مُعَارِضًا لَهُ قَوْلُ مَنْ أَجَازَهَا, وَوَجَبَ الرُّجُوعُ حِينَئِذٍ إلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّدَّ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ, مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ, وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَبَّرَ خَمْسًا وَأَرْبَعًا, فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ أَحَدِ عَمَلَيْهِ لِلآخَرِ.
وَلَمْ نَجِدْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَئِمَّةِ تَكْبِيرًا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعٍ, وَلاَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ, فَمَنْ زَادَ عَلَى خَمْسٍ وَبَلَغَ سِتًّا أَوْ سَبْعًا فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً لَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ, فَكَرِهْنَاهُ لِذَلِكَ, وَلَمْ يَنْهَ عليه السلام عَنْهُ فَلَمْ نَقُلْ: بِتَحْرِيمِهِ لِذَلِكَ, وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ: فِيمَنْ كَبَّرَ ثَلاَثًا.
وَأَمَّا مَا دُونَ الثَّلاَثِ وَفَوْقَ السَّبْعِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ عَلِمْنَا أَحَدًا قَالَ بِهِ, فَهُوَ تَكَلُّفٌ, وَقَدْ نُهِينَا أَنْ نَكُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ, إلاَّ حَدِيثًا سَاقِطًا وَجَبَ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِ, وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ رضي الله عنه يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ صَلاَةً وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا رَفْعُ الأَيْدِي فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَفَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ تَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ إلاَّ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ فَقَطْ, فَلاَ يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ عَمَلٌ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, وَإِنَّمَا جَاءَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ, وَلَيْسَ فِيهَا رَفْعٌ، وَلاَ خَفْضٌ.
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: بِرَفْعِ الأَيْدِي فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْعِهِ مِنْ رَفْعِ الأَيْدِي فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا التَّسْلِيمَتَانِ فَهِيَ صَلاَةٌ, وَتَحْلِيلُ الصَّلاَةِ: التَّسْلِيمُ, وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ ذِكْرٌ وَفِعْلُ خَيْرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/128)


574 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا كَبَّرَ الآُولَى قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ،
وَلاَ بُدَّ, وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ دَعَا لِلْمُسْلِمِينَ فَحَسَنٌ, ثُمَّ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ فِي بَاقِي الصَّلاَةِ.
أَمَّا قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا صَلاَةً بِقَوْلِهِ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". وَقَالَ عليه السلام: " لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَعْدٍ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: "صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِنَازَةٍ, فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ, قَالَ الضَّحَّاكُ, وَأَبُو أُمَامَةَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرِ مُخَافَتَةً, ثُمَّ يُكَبِّرَ, وَالتَّسْلِيمُ عِنْدَ الآخِرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى الْجِنَازَةِ بِ أُمِّ الْكِتَابِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: يَقْرَأُ مَا بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ الآُولَيَيْنِ: فَاتِحَةَ الْكِتَابِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ: أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فَقَرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الآُولَى فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً قَصِيرَةً, رَفَعَ بِهِمَا صَوْتَهُ, فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لاَ أَجْهَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلاَةُ عَجْمَاءَ, وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أُعَلِّمَكُمْ أَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً.

(5/129)


قال أبو محمد: فَرَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ, وَالْمِسْوَرُ: الْمُخَافَتَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَدْعُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ بَعْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ الثَّلاَثِ فِي الْجِنَازَةِ, ثُمَّ يُكَبِّرُونَ وَيَنْصَرِفُونَ، وَلاَ يَقْرَءُونَ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ يُحَدِّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ أَنْ تُكَبِّرَ, ثُمَّ تَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ تُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تُخْلِصَ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ, وَلاَ تَقْرَأُ إلاَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الآُولَى, ثُمَّ يُسَلِّمُ فِي نَفْسِهِ، عَنْ يَمِينِهِ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الصَّلاَةِ فِي التَّكْبِيرَةِ الآُولَى.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ: يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءً.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمَا.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا بِأَنْ قَالُوا: رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ".
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ, مَا رُوِيَ قَطُّ مِنْ طَرِيقٍ يُشْتَغَلُ بِهَا ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا مَنَعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي إخْلاَصِ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ نَهْيٌ، عَنِ الْقِرَاءَةِ, وَنَحْنُ نُخْلِصُ لَهُ الدُّعَاءَ وَنَقْرَأُ كَمَا أُمِرْنَا

(5/130)


وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَذَكَرَ دُعَاءً وَلَمْ يَذْكُرْ قِرَاءَةً.
وَعَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيَقْرَأُ فِي الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: لاَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ.
قال أبو محمد: فَقُلْنَا لَيْسَ، عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَنَعَمْ, نَحْنُ نَقُولُ: لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلاَّ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَلاَ يَصِحُّ خِلاَفٌ بَيْنَ هَؤُلاَءِ وَبَيْنَ مَنْ صَرَّحَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, كَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْمِسْوَرِ, وَالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَأَنَسٍ, لاَ سِيَّمَا وَأَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَذْكُرْ تَكْبِيرًا، وَلاَ تَسْلِيمًا. فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهِ مُتَعَلَّقٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْجِنَازَةِ, فَكَيْفَ وَلَوْ صَحَّ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ لَوَجَبَ الرَّدُّ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ إلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ".
وَقَالُوا: لَعَلَّ هَؤُلاَءِ قَرَءُوهَا عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ.
فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ; لأَنَّهُمْ ثَبَتَ عَنْهُمْ الأَمْرُ بِقِرَاءَتِهَا, وَأَنَّهَا سُنَّتُهَا, فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لَعَلَّهُمْ قَرَءُوهَا عَلَى أَنَّهَا دُعَاءٌ: كَذِبٌ بَحْتٌ.
ثُمَّ لاَ نَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَتِهَا حَتَّى يَتَقَحَّمُوا فِي الْكَذِبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الضَّعِيفَةِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهَا صَلاَةٌ, وَيُوجِبُونَ فِيهَا: التَّكْبِيرَ, وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ, وَالإِمَامَةَ لِلرِّجَالِ, وَالطَّهَارَةَ, وَالسَّلاَمَ, ثُمَّ يُسْقِطُونَ الْقِرَاءَةَ؟
فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا سَقَطَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالْجُلُوسُ: سَقَطَتْ الْقِرَاءَةُ.
قلنا: وَمِنْ أَيْنَ يُوجَبُ هَذَا الْقِيَاسُ دُونَ قِيَاسِ الْقِرَاءَةِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ بَلْ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ قِيَاسُ الْقِرَاءَةِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْقِرَاءَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَسَدِ, وَلَكِنْ هَذَا عِلْمُهُمْ بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَنِ.
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْعَمَلِ بِالْمَدِينَةِ, وَهَهُنَا أَرَيْنَاهُمْ عَمَلَ الصَّحَابَةِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي أُمَامَةَ, وَالزُّهْرِيِّ, عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَخَالَفُوهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/131)


بيان أحب الدعاء إلينا على الجنازة و دليل ذلك
...
575 - مَسْأَلَةٌ: وَأَحَبُّ الدُّعَاءِ إلَيْنَا عَلَى الْجِنَازَةِ
هُوَ مَا: حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،

(5/131)


حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ, وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ, وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ, وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ, وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ, وَثَلْجٍ, وَبَرَدٍ, وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ, وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ, وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ, وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ, وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ, وَعَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ".
وَمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الرَّقِّيُّ، حدثنا شُعَيْبٌ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا, وَمَيِّتِنَا, وَصَغِيرِنَا, وَكَبِيرِنَا, وَذَكَرِنَا, وَأُنْثَانَا, وَشَاهِدِنَا, وَغَائِبِنَا, اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ, وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلاَمِ اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ, وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ".
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَلْيَقُلْ "اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك" لِلأَثَرِ الَّذِي صَحَّ أَنَّ الصِّغَارَ مَعَ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ. وَمَا دَعَا بِهِ فَحَسَنٌ.

(5/132)


و نستحب اللحد و هم أحب إلينا من الضريح
...
576 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ اللَّحْدَ,
وَهُوَ الشَّقُّ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْقَبْرِ, وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الضَّرِيحِ, وَهُوَ الشَّقُّ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ.
وَنَسْتَحِبُّ اللَّبِنَ أَنْ تُوضَعَ عَلَى فَتْحِ اللَّحْدِ, وَنَكْرَهُ الْخَشَبَ, وَالْقَصَبَ, وَالْحِجَارَةَ. وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمِسْوَرِيُّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ أَبَاهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ "أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا, وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا, كَمَا صُنِعَ

(5/132)


بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"

(5/133)


لا يحل أن يبنى القبر و لا أن يجصص و لا أن يزاد على ترابه شيء
...
577 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبْنَى الْقَبْرُ, وَلاَ أَنْ يُجَصَّصَ, وَلاَ أَنْ يُزَادَ عَلَى تُرَابِهِ شَيْءٌ, وَيُهْدَمُ كُلُّ ذَلِكَ,
فَإِنْ بُنِيَ عَلَيْهِ بَيْتٌ أَوْ قَائِمٌ: لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ نَقَشَ اسْمَهُ فِي حَجَرٍ: لَمْ نَكْرَهْ ذَلِكَ رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيٍّ حَدَّثَهُ قَالَ: "كُنَّا مَعَ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ, فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا, فَأَمَرَ فُضَالَةُ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ, وَقَالَ: "سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إلاَّ طَمَسْتَهُ, وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَهُ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ, وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا, وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا".
قال أبو محمد: قَدْ أَنْذَرَ عليه السلام بِمَوْضِعِ قَبْرِهِ بِقَوْلِهِ مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَأَعْلَمَ أَنَّهُ فِي بَيْتِهِ بِذَلِكَ. وَلَمْ يُنْكِرْ عليه السلام كَوْنَ الْقَبْرِ فِي بَيْتٍ, وَلاَ نَهَى، عَنْ بِنَاءٍ قَائِمٍ, وَإِنَّمَا نَهَى، عَنْ بِنَاءٍ عَلَى الْقَبْرِ قُبَّةٍ فَقَطْ.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ أَوْ تُطَيَّنَ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَفِيرِهَا.
وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: تَسْوِيَةُ الْقُبُورِ مِنْ السُّنَّةِ.
وَعَنْ عُثْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ, وَأَنْ تُرْفَعَ مِنْ الأَرْضِ شِبْرًا.

(5/133)


وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَقَطَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسُتِرَ, ثُمَّ بُنِيَ, فَقُلْت لِلَّذِي سَتَرَهُ: ارْفَعْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ حَتَّى أَنْظُرَ إلَيْهِ, فَنَظَرْت إلَيْهِ, فَإِذَا عَلَيْهِ جَبُوبٌ وَرَمْلٌ, كَأَنَّهُ مِنْ رَمْلِ الْعَرْصَةِ.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْت: يَا أُمَّهُ, اكْشِفِي لِي، عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي، عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ, لاَ لاَطِئَةٍ، وَلاَ مُشْرِفَةٍ, مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ, فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمًا, وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ, وَرِجْلاَهُ بَيْنَ كَتِفَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَأَيْت عُمَرَ عِنْدَ رِجْلَيْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما.

(5/134)


و لا يحل لأحد أن يجلس على القبر
...
578 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ,
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَيْنَ يَجْلِسُ فَلْيَقِفْ

(5/134)


حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ, وَلَوْ اسْتَوْفَزَ وَلَمْ يَقْعُدْ لَمْ يَبْنِ أَنَّهُ يُحْرَجُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ". وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ, كِلاَهُمَا: عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيَ، عَنِ الْقُعُودِ عَلَى الْقَبْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلاَ تُصَلُّوا إلَيْهَا".
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، رضي الله عنهم،, مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَالِمٍ الْبَرَّادِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاََنْ أَطَأَ عَلَى رَضْفٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرٍ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لاََنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تَبْرُدَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَعَمَّدَ وَطْءَ قَبْرٍ لِي عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ.

(5/135)


وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لاََنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تَبْرُدَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَطَأَ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
فَقَالَ قَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ, وَحَمَلُوا الْجُلُوسَ الْمُتَوَعَّدَ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِلْغَائِطِ خَاصَّةً.
وَهَذَا بَاطِلٌ بَحْتٌ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَصَرْفٌ لِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ وَجْهِهِ, وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا وَثَانِيهَا أَنَّ لَفْظَ الْخَبَرِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ قَطْعًا, بِقَوْلِهِ عليه السلام: "لاََنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ". وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ: أَنَّ الْقُعُودَ لِلْغَائِطِ لاَ يَكُونُ هَكَذَا أَلْبَتَّةَ, وَمَا عَهِدْنَا قَطُّ أَحَدًا يَقْعُدُ عَلَى ثِيَابِهِ لِلْغَائِطِ إلاَّ مَنْ لاَ صِحَّةَ لِدِمَاغِهِ.
وَثَالِثُهَا أَنَّ الرُّوَاةَ لِهَذَا الْخَبَرِ لَمْ يَتَعَدَّوْا بِهِ وَجْهَهُ مِنْ الْجُلُوسِ الْمَعْهُودِ, وَمَا عَلِمْنَا قَطُّ فِي اللُّغَةِ جَلَسَ فُلاَنٌ بِمَعْنَى تَغَوَّطَ, فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْرِيمَ الصَّلاَةِ إلَى الْقَبْرِ وَعَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَحْمُودٌ.

(5/136)


و لا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بنعلين سبتيتين
...
579 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَمْشِيَ بَيْنَ الْقُبُورِ بِنَعْلَيْنِ سِبْتِيَّتَيْنِ؛
وَهُمَا اللَّتَانِ لاَ شَعْرَ فِيهِمَا, فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا شَعْرٌ: جَازَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا بِشَعْرٍ, وَالآُخْرَى بِلاَ شَعْرٍ: جَازَ الْمَشْيُ فِيهِمَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ شَعْبَانَ وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَمِيرٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ بَشِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَ، هُوَ ابْنُ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

(5/136)


صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلاً يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ فِي نَعْلَيْهِ, فَقَالَ: "يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِهِمَا".
وَحَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سُمَيْرٍ أَخْبَرَنِي بَشِيرُ بْنُ نَهِيكٍ أَخْبَرَنِي بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زَحْمٌ, فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشِيرًا قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي بَيْنَ الْمَقَابِرِ وَعَلَيَّ نَعْلاَنِ, إذْ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ, يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ, إذَا كُنْت فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ", قَالَ: فَخَلَعْتُهُمَا.
قال أبو محمد:فإن قيل فَهَلاَّ مَنَعْتُمْ مِنْ كُلِّ نَعْلٍ, لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ".
قلنا: مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا دَعَا صَاحِبَ سِبْتِيَّتَيْنِ, بِنَصِّ كَلاَمِهِ, ثُمَّ أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ.
وَالثَّانِي مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، حدثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حدثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عليه السلام بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ, وَأَنَّ النَّاسَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَيَلْبَسُونَ النِّعَالَ فِي مَدَافِنِ الْمَوْتَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, عَلَى عُمُومِ إنْذَارِهِ عليه السلام بِذَلِكَ, وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ, وَالأَخْبَارُ لاَ تُنْسَخُ أَصْلاً. فَصَحَّ إبَاحَةُ لِبَاسِ النِّعَالِ فِي الْمَقَابِرِ, وَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ السِّبْتِيَّةِ مِنْهَا, لِنَصِّهِ عليه السلام عَلَيْهَا.
قال أبو محمد: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ لاَ يُبَالِي بِمَا أَطْلَقَ بِهِ لِسَانَهُ فَقَالَ: لَعَلَّ تَيْنِكَ النَّعْلَيْنِ كَانَ فِيهِمَا قَذَرٌ.
قال أبو محمد: مَنْ قَطَعَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ قَوَّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ, وَمَنْ لَمْ يَقْطَعْ بِذَلِكَ فَقَدْ حَكَمَ بِالظَّنِّ, وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَكِلاَهُمَا خُطَّتَا خَسْفٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا.

(5/137)


ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فَهَبْكَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَتَقُولُونَ: بِهَذَا أَنْتُمْ فَتَمْنَعُونَ مِنْ الْمَشْيِ, بَيْنَ الْقُبُورِ بِنَعْلَيْنِ فِيهِمَا قَذَرٌ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: لاَ فَيُقَالُ لَهُمْ: فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي دَعْوَى كَاذِبَةٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لِمَ تَقُولُوا بِهَا, وَلَبَقِيتُمْ مُخَالِفِينَ لِلْخَبَرِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: وَلَعَلَّ الْبِنَاءَ فِي الرُّعَافِ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّمِ الأَسْوَدِ لِشَبَهِهِ بِدَمِ الْحَيْضِ, وَلَعَلَّ فَسَادَ صَلاَةِ الرَّجُلِ إلَى جَنْبِ الْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَتْ شَابَّةً خَوْفَ الْفِتْنَةِ, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.

(5/138)


و يصلى على ما وجد من الميت المسلم و يغسل و يكفن و يصلى على الغائب
...
580 - مَسْأَلَةٌ: وَيُصَلَّى عَلَى مَا وُجِدَ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ, وَلَوْ أَنَّهُ ظُفْرٌ أَوْ شَعْرٌ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ, وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ,
إلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَهِيدٍ فَلاَ يُغَسَّلُ, لَكِنْ يُلَفُّ وَيُدْفَنُ.
وَيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لاَ يُوجَدُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمَيِّتِ عُضْوٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا غُسِّلَ أَيْضًا, وَكُفِّنَ, وَدُفِنَ, وَلاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ ثَانِيَةً, وَهَكَذَا أَبَدًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ وُجُوبَ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ.فَصَحَّ بِذَلِكَ غُسْلُ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَسَتْرُ جَمِيعِهَا بِالْكَفَنِ وَالدَّفْنِ, فَذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ وَاجِبٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ. فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَوَاجِبٌ عَمَلُهُ فِيمَا أَمْكَنَ عَمَلُهُ فِيهِ, بِالْوُجُودِ مَتَى وُجِدَ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ فِي الأَعْضَاءِ الْمُفَرَّقَةِ بِلاَ بُرْهَانٍ.
وَيَنْوِي بِالصَّلاَةِ عَلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ الصَّلاَةُ عَلَى جَمِيعِهِ: جَسَدِهِ, وَرُوحِهِ.
وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: إنْ وُجِدَ نِصْفُ الْمَيِّتِ الَّذِي فِيهِ الرَّأْسُ, أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرَّأْسُ: غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ الرَّأْسُ, أَوْ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي فِيهِ الرَّأْسُ: لَمْ يُغَسَّلْ, وَلاَ كُفِّنَ, وَلاَ صُلِّيَ عَلَيْهِ!
قال أبو محمد: وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيَك بِهِ!!
وَقِيلَ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى أَكْثَرِهِ وَاجِبَةٌ, وَعَلَى نِصْفِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنْتُمْ قَدْ جَعَلْتُمْ الرُّبْعَ فِيمَا أَنْكَشَفَ مِنْ بَطْنِ الْحُرَّةِ وَشَعْرِهَا كَثِيرًا فِي حُكْمِ الْكُلِّ, وَجَعَلْتُمْ الْعُشْرَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِكُمْ أَيْضًا فِي حُكْمِ الْكُلِّ وَهُوَ مِنْ حَلْقِ عُشْرِ رَأْسِهِ, أَوْ عُشْرِ لِحْيَتِهِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, فَمِنْ أَيْنَ هَذِهِ الأَحْكَامُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنهما: أَنَّهُمَا

(5/138)


صَلَّيَا عَلَى رِجْلِ, إنْسَانٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ, أَنَّهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَأْسٍ.
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى الْغَائِبِ فَقَدْ جَاءَ بِهِ نَصٌّ قَاطِعٌ, أَغْنَى، عَنِ النَّظَرِ, وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ تَجِبُ بِهِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ; لإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" عُمُومٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَائِبُ وَالْحَاضِرُ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا, بَلْ فَرْضٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ دُفِنَ بِغَيْرِ صَلاَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, لاَِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ, وَهِيَ فِيمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ نَدْبٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا".
وَبِهِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ, فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ, فَصَفَفْنَا, فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ".
وَبِهِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ". قَالَ جَابِرٌ: فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ قَوِيَّةٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَلُهُ وَعَمَلُ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ, فَلاَ إجْمَاعَ أَصَحُّ مِنْ هَذَا, وَآثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَمَنَعَ مِنْ هَذَا: مَالِكٌ, وَأَبُو حَنِيفَةَ, وَادَّعَى أَصْحَابُهُمَا الْخُصُوصَ لِلنَّجَاشِيِّ, وَهَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا: هَلْ فَعَلَ هَذَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قلنا لَهُمْ: وَهَلْ جَاءَ قَطُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ زَجَرَ، عَنْ هَذَا أَوْ أَنْكَرَهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ تَعَالَى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.

(5/139)


و الصلاة جائزة على القبر
...
581 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّلاَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الْقَبْرِ
وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِّيَ عَلَى الْمَدْفُونِ فِيهِ

(5/139)


وقال أبو حنيفة: إنْ دُفِنَ بِلاَ صَلاَةٍ: صُلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ مَا بَيْنَ دَفْنِهِ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ, وَإِنْ دُفِنَ بَعْدَ أَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ عَلَى قَبْرِهِ.
وقال مالك: لاَ يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ, وَرَوَى ذَلِكَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وقال الشافعي, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِّيَ عَلَى الْمَدْفُونِ فِيهِ, وَقَدْ رُوِيَ هَذَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.
وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى شَهْرٍ, وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ: يُصَلِّي الْغَائِبُ عَلَى الْقَبْرِ إلَى شَهْرٍ, وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْحَاضِرُ إلَى ثَلاَثٍ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا, فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ, فَقَالُوا: مَاتَ, فَقَالَ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ, فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ, فَدَلُّوهُ, فَصَلَّى عَلَيْهَا, ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا, وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاَتِي عَلَيْهِمْ".
فَادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ هَذَا الْكَلاَمَ مِنْهُ عليه السلام دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خُصُوصٌ لَهُ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا, وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْكَلاَمِ بَرَكَةُ صَلاَتِهِ عليه السلام وَفَضِيلَتُهَا عَلَى صَلاَةِ غَيْرِهِ فَقَطْ, وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيُ غَيْرِهِ، عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ أَصْلاً, بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلاَنِ دَعْوَى الْخُصُوصِ هَهُنَا مَا رُوِّينَاهُ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: "انْتَهَيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى قَبْرٍ رَطْبٍ, فَصَلَّى عَلَيْهِ, وَصَفُّوا خَلْفَهُ, وَكَبَّرَ أَرْبَعًا", قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: قُلْت لِعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ: مَنْ حَدَّثَك قَالَ: الثِّقَةُ

(5/140)


مَنْ شَهِدَهُ, ابْنُ عَبَّاسٍ. فَهَذَا أَبْطَلَ الْخُصُوصَ, لإِنَّ أَصْحَابَهُ عليه السلام, وَعَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ صَلَّوْا مَعَهُ عَلَى الْقَبْرِ, فَبَطَلَتْ دَعْوَى الْخُصُوصِ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُرْعُرَةَ السَّامِيِّ، حدثنا غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ لاَ يَسَعُ الْخُرُوجُ عَنْهَا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَبْرِهِ.
قال أبو محمد: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، نَهَى، عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ, وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ فِعْلُ خَيْرٍ, وَالدَّعْوَى بَاطِلٌ إلاَّ بِبُرْهَانٍ.
وقال بعضهم: نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الصَّلاَةِ إلَى الْقَبْرِ وَعَلَى الْقَبْرِ مَانِعٌ مِنْ هَذَا!
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ مَا مِثْلُهُ عَجَبٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا عَكَسَ الْحَقَّ عَكْسًا; لاَِنَّهُ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ, أَوْ إلَيْهِ. أَوْ فِي الْمَقْبَرَةِ, وَعَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ, فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: كُلُّ هَذَا مُبَاحٌ وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ, فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ، عَنِ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا فِي مَنْعِهِ مِنْ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عَلَى الْقَبْرِ, وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ فِي إبَاحَتِهِ الْحَرَامَ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَقْبَرَةِ, وَإِلَى الْقَبْرِ, وَعَلَيْهِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ..
وقال بعضهم: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي عَلَى الْقَبْرِ قلنا: نَعَمْ, كَانَ لاَ يُصَلِّي سَائِرَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْقَبْرِ, وَيُصَلِّي صَلاَةَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْقَبْرِ أَبَدًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَدْ صَحَّ مَا يُعَارِضُهُ, وَهُوَ أَنَّهُ رضي الله عنه صَلَّى صَلاَةَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْقَبْرِ, ثُمَّ لَوْ لَمْ يَأْتِ هَذَا عَنْهُ لَكَانَ قَدْ عَارَضَهُ مَا صَحَّ، عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ, فَكَيْفَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ يَصِحُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إلاَّ مَا ذَكَرْنَاهُ.

(5/141)


وَرُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ, فَحَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ مَكَّةَ فَدَفَنَّاهُ, فَقَدِمَتْ عَلَيْنَا عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: أَيْنَ قَبْرُ أَخِي فَدَلَلْنَاهَا عَلَيْهِ, فَوَضَعَتْ فِي هَوْدَجِهَا عِنْدَ قَبْرِهِ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَدِمَ وَقَدْ مَاتَ أَخُوهُ عَاصِمٌ, فَقَالَ: أَيْنَ قَبْرُ أَخِي فَدُلَّ عَلَيْهِ, فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ.
قال أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ, لاَ الدُّعَاءُ فَقَطْ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَمَرَ قَرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ الأَنْصَارِيَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى قَبْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ بِقَوْمٍ جَاءُوا بَعْدَمَا دُفِنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَمَا صُلِّيَ عَلَيْهَا.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حدثنا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَمَا صُلِّيَ عَلَيْهَا.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إبَاحَةُ ذَلِكَ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَمَا صُلِّيَ عَلَيْهَا.
وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ عَلَى الْجِنَازَةِ صَلَّى عَلَيْهَا.
فَهَذِهِ طَوَائِفُ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ.
وَأَمَّا أَمْرُ تَحْدِيدِ الصَّلاَةِ بِشَهْرٍ أَوْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَخَطَأٌ لاَ يُشْكِلُ, لاَِنَّهُ تَحْدِيدٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَدَّ بِهَذَا, أَوْ مَنْ حَدَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ.

(5/142)


و من تزوج كافرة فحملت منه و هو مسلم
...
582 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَزَوَّجَ كَافِرَةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ
وَمَاتَتْ حَامِلاً: فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ: دُفِنَتْ مَعَ أَهْلِ دِينِهَا, وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالرُّوحُ قَدْ نُفِخَ فِيهِ: دُفِنَتْ فِي طَرَفِ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ; لإِنَّ عَمَلَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ يُدْفَنَ مُسْلِمٌ مَعَ مُشْرِكٍ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَمِيرٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ بَشِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَ، هُوَ ابْنُ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ عَلَى

(5/142)


قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ: "لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلاَءِ شَرًّا كَثِيرًا", ثُمَّ مَرَّ عَلَى قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: "لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلاَءِ خَيْرًا كَثِيرًا".
فَصَحَّ بِهَذَا تَفْرِيقُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ، عَنْ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْحَمْلُ مَا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّمَا هُوَ بَعْضُ جِسْمِ أُمِّهِ, وَمِنْ حَشْوَةِ بَطْنِهَا, وَهِيَ مَدْفُونَةٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ, فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَهُوَ خَلْقٌ آخَرُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}, فَهُوَ حِينَئِذٍ إنْسَانٌ حَيٌّ غَيْرُ أُمِّهِ, بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى، وَ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ فَلَهُ حُكْمُ الإِسْلاَمِ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ, وَهِيَ كَافِرَةٌ, فَلاَ تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ, فَوَجَبَ أَنْ تُدْفَنَ بِنَاحِيَةٍ لاَِجْلِ ذَلِكَ.
رُوِّينَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَنَ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ حُبْلَى مِنْ مُسْلِمٍ: فِي مَقْبَرَةٍ لَيْسَتْ بِمَقْبَرَةِ النَّصَارَى, وَلاَ بِمَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ ذَلِكَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهَا تُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ وَلَدِهَا.

(5/143)


و الصغير يسبى فيموت فإنه يدفن على مع المسلمين و يصلى عليه
...
583 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّغِيرُ يُسْبَى مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ دُونَهُمَا فَيَمُوتُ: فَإِنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ,
قَالَ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ, إلاَّ مَنْ أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفْرِ, وَلَيْسَ إلاَّ مَنْ وُلِدَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ كَافِرَيْنِ, أَوْ حَرْبِيَّيْنِ كَافِرَيْنِ, وَلَمْ يُسْبَ حَتَّى بَلَغَ, وَمَا عَدَا هَذَيْنِ فَمُسْلِمٌ.

(5/143)


أحق الناس بالصلاة على الميت و الميتة الأولياء
...
584 - مَسْأَلَةٌ: وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتَةِ: الأَوْلِيَاءُ,
وَهُمْ الأَبُ وَآبَاؤُهُ, وَالاِبْنُ وَأَبْنَاؤُهُ, ثُمَّ الإِخْوَةُ الأَشِقَّاءُ, ثُمَّ الَّذِينَ لِلأَبِ, ثُمَّ بَنُوهُمْ, ثُمَّ الأَعْمَامُ لِلأَبِ وَالآُمِّ, ثُمَّ لِلأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ, ثُمَّ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ, فَهُوَ أَوْلَى. ثُمَّ الزَّوْجُ, ثُمَّ الأَمِيرُ أَوْ الْقَاضِي, فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا أَجْزَأَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَهَذَا

(5/143)


585 - مَسْأَلَةٌ: وَأَحَقُّ النَّاسِ بِإِنْزَالِ الْمَرْأَةِ فِي قَبْرِهَا مَنْ لَمْ يَطَأْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ,
وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا, حَضَرَ زَوْجُهَا أَوْ أَوْلِيَاؤُهَا أَوْ لَمْ يَحْضُرُوا, وَأَحَقُّهُمْ بِإِنْزَالِ الرَّجُلِ أَوْلِيَاؤُهُ أَمَّا الرَّجُلُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وَهَذَا عُمُومٌ, لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلاَّ بِنَصٍّ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ،

(5/144)


حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمُسْنَدِيُّ، حدثنا أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ، حدثنا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ, فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ, فَقَالَ: "هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؟" فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا, قَالَ: "فَانْزِلْ" فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حدثنا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَلَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ ابْنَتُهُ، رضي الله عنها: "لاَ يَدْخُلْ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ", فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ.
قال أبو محمد: الْمُقَارَفَةُ الْوَطْءُ, لاَ مُقَارَفَةُ الذَّنْبِ. وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَزَكَّى أَبُو طَلْحَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأنهُ لَمْ يُقَارِفْ ذَنْبًا. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَطَأْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى مِنْ الأَبِ وَالزَّوْجِ وَغَيْرِهِمَا.

(5/145)


يصلى على الميت الموصى و لو كان غير ولي و لا زوج
...
586 بَقِيَّةٌ مِنْ الْمَسْأَلَةِ: الَّتِي قَبْلَ هَذِه.
قال أبو محمد: وَاسْتَدْرَكْنَا الْوَصِيَّةَ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمُوصِي غَيْرُ الْوَلِيِّ وَغَيْرُ الزَّوْجِ, وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرَ وَصِيَّةَ الْمُحْتَضَرِ قَالَ: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْد مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله تعالى عنها أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ أَمِيرٍ، وَلاَ وَلِيٍّ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا، وَلاَ مِنْ قَوْمِهَا, وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: أَنَّ أَبَا مَيْسَرَةَ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ شُرَيْحٌ وَلَيْسَ مِنْ قَوْمِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ: أَنَّ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيَّ أَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ.

(5/145)


587 - مَسْأَلَةٌ: وَتَقْبِيلُ الْمَيِّتِ جَائِزٌ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ

(5/145)


و يسجى الميت بثوب و يجعل على بطنه ما يمنع انتفاخه
...
588 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسَجَّى الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ وَيُجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ مَا يَمْنَعُ انْتِفَاخَهُ.
أَمَّا التَّسْجِيَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ مَا فُعِلَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَقٌّ, لقوله تعالى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} وَهَذَا عُمُومٌ, لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلاَّ بِنَصٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: يُوضَعُ عَلَى بَطْنِهِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَكُلُّ مَا فِيهِ رِفْقٌ بِالْمُسْلِمِ وَدَفْعٌ لِلْمَثُلَةِ عَنْهُ, فَهُوَ بِرٌّ وَتَقْوَى.

(5/146)


الصبر واجب و البكاء مباح ما لم يكن نوح
...
589 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّبْرُ وَاجِبٌ, وَالْبُكَاءُ مُبَاحٌ, مَا لَمْ يَكُنْ نَوْحٌ,
فَإِنَّ النَّوْحَ حَرَامٌ, وَالصِّيَاحَ, وَخَمْشَ الْوُجُوهِ وَضَرْبَهَا, وَضَرْبَ الصَّدْرِ, وَنَتْفَ الشَّعْرِ وَحَلْقَهُ لِلْمَيِّتِ: كُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ, وَكَذَلِكَ الْكَلاَمُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي هُوَ تَسَخُّطٌ لاَِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى, وَشَقُّ الثِّيَابِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ, فَقَالَ: "اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي".
وَبِهِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الآُولَى".
وَبِهِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنِي قُرَيْشٌ، هُوَ ابْنُ حَيَّانَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ, فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ, فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ, إنَّهَا رَحْمَةٌ, الْعَيْنُ تَدْمَعُ, وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ, وَلاَ نَقُولُ إلاَّ مَا يُرْضِي رَبَّنَا, وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".

(5/146)


إذا مات المحرم ما بين أن يحرم إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر إن كان حاجا أو أن يتم طوافه و سعيه إن كان معتمرا فالفرض أن يغسل
...
590 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إنْ كَانَ حَاجًّا, أَوْ أَنْ يُتِمَّ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ, إنْ كَانَ مُعْتَمِرًا:
فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ فَقَطْ إنْ وُجِدَ السِّدْرُ. وَلاَ يُمَسُّ بِكَافُورٍ، وَلاَ بِطَيِّبٍ, وَلاَ يُغَطَّى وَجْهُهُ, وَلاَ رَأْسُهُ، وَلاَ يُكَفَّنُ إلاَّ فِي ثِيَابِ إحْرَامِهِ فَقَطْ, أَوْ فِي ثَوْبَيْنِ غَيْرَ ثِيَابِ إحْرَامِهِ. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَكَذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ رَأْسَهَا تُغَطَّى وَيُكْشَفُ وَجْهُهَا, وَلَوْ أُسْدِلَ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَلاَ بَأْسَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَنَّعَ.
فَمَنْ مَاتَ مِنْ مُحْرِمٍ, أَوْ مُحْرِمَةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَسَائِرِ الْمَوْتَى, رَمَى الْجِمَارَ أَوْ لَمْ يَرْمِهَا.

(5/148)


وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: هُمَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي كُلِّ ذَلِك.
بُرْهَانُ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ سَمِعْت أَبَا بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ، عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ, خَارِجَ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ, فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ملبدا".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الْحَفْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَاتَ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "غَسِّلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثِيَابِهِ, وَلاَ تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلاَ رَأْسَهُ, فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ, إذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ, وَلاَ تُحَنِّطُوهُ, وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ, فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حدثنا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ, وَلاَ تَمَسُّوهُ طِيبًا, وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ, فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّدًا".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ, فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ، وَلاَ تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا, فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ".

(5/149)


فَهَذَا لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ, لاَِنَّهُ كَالشَّمْسِ صِحَّةً, رَوَاهُ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ, وَأَبُو عَوَانَةَ, وَمَنْصُورٌ, وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. وَرَوَاهُ قَبْلَهُمْ أَبُو بِشْرٍ, وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ, وَالْحَكَمُ, وَأَيُّوبُ, وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَهِدَ الْقِصَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ, آخِرَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْخَبَرِ كُلُّهَا, فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهَا, وَأَمَرَ عليه السلام بِذَلِكَ فِي مُحْرِمٍ سُئِلَ عَنْهُ, وَالْمُحْرِمُ يَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ, وَالْبَعْثُ وَالتَّلْبِيَةُ يَجْمَعُهُمَا, وَبِهِمَا جَاءَ الأَثَرُ, وَالسَّبَبُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ.
فإن قيل: إنَّكُمْ تُجِيزُونَ لِلْمُحْرِمِ الْحَقَّ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ, وَتَمْنَعُونَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ.
قلنا: نَعَمْ, لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ, وَلاَ يَحِلُّ الاِعْتِرَاضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَأْمُرْ الْمُحْرِمَ الْحَيَّ بِكَشْفِ وَجْهِهِ, وَأَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ, فَوَقَفْنَا عِنْدَ أَمْرِهِ عليه السلام, {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ لاَ يُفَرِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ حُكْمِ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ وَالْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ أَمْ فِي أَيِّ سُنَّةٍ وَجَدُوا ذَلِكَ أَمْ فِي أَيِّ دَلِيلِ عَقْلٍ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ قَائِلِينَ بِهَذَا نَفْسِهِ, فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ حُكْمِ الْمُحْرِمِ الْحَيِّ وَالْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ, وَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم هَذَا: خُصُوصٌ لِذَلِكَ الْمُحْرِمِ.
فَقُلْنَا: هَذَا الْكَذِبُ مِنْكُمْ; لإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَفْتَى بِذَلِكَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ إذْ سُئِلَ عَنْهُ, كَمَا أَفْتَى فِي الْمُسْتَحَاضَةِ, وَكَمَا أَفْتَى أُمَّ سَلَمَةَ فِي أَنْ لاَ تَحِلَّ ضَفْرَ رَأْسِهَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ

(5/150)


وَسَائِرِ مَا اُسْتُفْتِيَ فِيهِ عليه السلام فَأَفْتَى فِيهِ فَكَانَ عُمُومًا.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا أَنَّهُمْ أَتَوْا إلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّدًا" "وَيُلَبِّي" "وَيُهِلُّ" فَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ, وَأَوْقَفُوهُ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ, وَأَتَوْا إلَى مَا خَصَّهُ عليه السلام مِنْ الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ, وَالْمِلْحِ, وَالذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ: فَتَعَدَّوْا بِحُكْمِهَا إلَى مَا لَمْ يَحْكُمْ عليه السلام قَطُّ بِهَذَا الْحُكْمِ فِيهِ فَإِنَّمَا أَوْلَعُوا بِمُخَالَفَةِ الأَوَامِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
وقال بعضهم: قَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ: تَحْنِيطُ الْمُحْرِمِ إذَا مَاتَ, وَتَطْيِيبُهُ, وَتَخْمِيرُ رَأْسِهِ.
قلنا: وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ, وَغَيْرِهِ خِلاَفُ ذَلِكَ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ مُعْتَمِرًا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ, فَمَاتَ بِالسُّقْيَا وَهُوَ مُحْرِمٌ, فَلَمْ يُغَيِّبْ عُثْمَانُ رَأْسَهُ, وَلَمْ يُمْسِسْهُ طِيبًا, فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حدثنا أَبِي قَالَ: تُوُفِّيَ عُبَيْدُ بْنُ يَزِيدَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَمْ يُغَيِّبْ الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ رَأْسَهُ فِي النَّعْشِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ, يُغْسَلُ رَأْسُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ, وَلاَ يُغَطَّى رَأْسُهُ, وَلاَ يَمَسُّ طِيبًا.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ, وَهُمْ يَدَّعُونَ الإِجْمَاعَ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا كَدَعْوَاهُمْ فِي الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ, ثَمَانِينَ, وَغَيْرَ ذَلِكَ.
فإن قيل: قَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ عُثْمَانَ بَعْدَ ذَلِكَ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا.
قلنا: وَقَدْ خَالَفَ: عُثْمَانُ, وَعَلِيٌّ, وَالْحَسَنُ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: فِي حَدِّ الْخَمْرِ بَعْدَ عُمَرَ, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا.
وَإِذَا تَنَازَعَ السَّلَفُ فَالْفَرْضُ عَلَيْنَا رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لاَ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُمَا.

(5/151)


وَمِنْ طَرَائِفِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ فِي هَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمِّرُوا وُجُوهَهُمْ, وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ".
وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ لَوْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُحْرِمِ أَصْلاً, بَلْ كَانَ يَكُونُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى.
وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ عليه السلام أَصْلاً; لاَِنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ, وَالْيَهُودُ لاَ تَكْشِفُ وُجُوهَ مَوْتَاهَا. فَصَحَّ أَنَّهُ بَاطِلٌ, سَمِعَهُ عَطَاءٌ مِمَّنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ أَوْ مِمَّنْ وَهَمَ وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مُسْنَدًا فِي الْمُحْرِمِينَ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لإِنَّ خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الآخَرُ بِلاَ شَكٍّ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ عليه السلام فِي أَمْرٍ أَمَرَ بِهِ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَنْهَى، عَنِ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ, ثُمَّ يَأْمُرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ, لاَ تَشَبُّهًا بِهِمْ كَمَا قَالَ عليه السلام فِي قَوْلِ الْيَهُودِيَّةِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ, ثُمَّ أَتَاهُ الْوَحْيُ بِصِحَّةِ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ: "إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ, وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ, وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ".
وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ, وَهَكَذَا نَقُولُ, وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَمَلُ غَيْرِهِ فِيهِ, بَلْ غَيْرُهُ مَأْمُورٌ فِيهِ بِأَعْمَالٍ مُفْتَرَضَةٍ, مِنْ غُسْلٍ, وَصَلاَةٍ, وَدَفْنٍ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَهَذَا الْعَمَلُ لَيْسَ هُوَ عَمَلُ الْمُحْرِمِ الْمَيِّتِ, إنَّمَا هُوَ عَمَلُ الأَحْيَاءِ فَظَهَرَ تَخْلِيطُهُمْ وَتَمْوِيهُهُمْ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}.
وَهَذِهِ إحَالَةٌ مِنْهُمْ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَلَمْ نَقُلْ قَطُّ: إنَّ هَذَا مِنْ سَعْيِ الْمَيِّتِ, وَلَكِنَّهُ مِنْ سَعْيِ الأَحْيَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمَيِّتِ كَمَا أُمِرْنَا بِأَنْ لاَ نُغَسِّلَ الشَّهِيدَ، وَلاَ نُكَفِّنَهُ, وَأَنْ نَدْفِنَهُ فِي ثِيَابِهِ, وَلَيْسَ هُوَ عَمَلُ الشَّهِيدِ، وَلاَ سَعْيُهُ, لَكِنَّهُ عَمَلُنَا فِيهِ وَسَعْيُنَا لاَِنْفُسِنَا الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَالْقَوْلُ مُتَحَكِّمُونَ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَلاَ مَزِيدَ إلاَّ إنْ كَانُوا يَحُومُونَ حَوْلَ أَنْ يَعْتَرِضُوا

(5/152)


بِهَذَا كُلِّهِ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّدً ا" "يُلَبِّي" وَ "يُهِلُّ" فَهَذَا رِدَّةٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام: "إنَّ الْمُحْرِمَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي" وَ "يُهِلُّ" وَ "مُلَبِّدًا" وَبَيْنَ قَوْلِهِ عليه السلام: "إنَّ مَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَثْعَبُ دَمًا, اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ, وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". وَكُلُّ هَذِهِ فَضَائِلُ لاَ تُنْسَخُ، وَلاَ تُرَدُّ, وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, فَهَلاَّ قَالُوا: الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَالْمَيِّتُ مُحْرِمًا: كِلاَهُمَا مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, وَحُكْمُ أَحَدِهِمَا خِلاَفُ حُكْمِ الْمَوْتَى, فَكَذَلِكَ الآخَرُ وَلَكِنَّهُمْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ, وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الشَّبَهَ بَيْنَ الْجِهَادِ, وَالْحَجِّ أَقْرَبُ مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَ السَّرِقَةِ, وَالنِّكَاحِ.

(5/153)


و نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء و إن كانت جنازة كافر
...
591 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْقِيَامَ لِلْجِنَازَةِ إذَا رَآهَا الْمَرْءُ وَإِنْ كَانَتْ جِنَازَةَ كَافِرٍ
حَتَّى تُوضَعَ أَوْ تَخْلُفَهُ, فَإِنْ لَمْ يَقُمْ فَلاَ حَرَجَ.
لمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الْجِنَازَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يَخْلُفَهَا أَوْ تَخْلُفَهُ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْلُفَهُ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ, وَابْنِ جُرَيْجٍ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ, كُلِّهِمْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُسْنَدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حدثنا مُسْلِمٌ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا, فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حدثنا مُعَاذُ بْنُ فُضَالَةَ، حدثنا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ مَرَّ بِنَا جِنَازَةٌ, فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا بِهِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ قَالَ: " فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا".
وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو سَعِيدٍ وَيَرَاهُ وَاجِبًا، وَابْنُ عُمَرَ, وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ, وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ

(5/153)


وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ, وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ, وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ, وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ, وَقَتَادَةُ, وَابْنُ سِيرِينَ, وَالنَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هُوَ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَعَدَ" يَعْنِي لِلْجِنَازَةِ.
فَكَانَ قُعُودُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْقِيَامِ مُبَيِّنًا أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ, وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَسْخًا; لاَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَرْكُ سُنَّةٍ مُتَيَقَّنَةٍ إلاَّ بِيَقِينِ نَسْخٍ, وَالنَّسْخُ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالنَّهْيِ, أَوْ بِتَرْكٍ مَعَهُ نَهْيٌ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: قُمْت إلَى جَنْبِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي جِنَازَةٍ, فَقَالَ لِي: حَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقِيَامِ. ثُمَّ أَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ" فَهَلاَّ قَطَعْتُمْ بِالنَّسْخِ بِهَذَا الْخَبَرِ.
قلنا: كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ, لَوْلاَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الأَعْوَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالاَ جَمِيعًا: "مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ جِنَازَةً قَطُّ فَجَلَسَ حَتَّى تُوضَعَ". فَهَذَا عَمَلُهُ عليه السلام الْمُدَاوِمُ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ مَا فَارَقَاهُ عليه السلام حَتَّى مَاتَ.فَصَحَّ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْجُلُوسِ إبَاحَةٌ وَتَخْفِيفٌ, وَأَمْرَهُ بِالْقِيَامِ وَقِيَامَهُ نَدْبٌ.
وَمِمَّنْ كَانَ يَجْلِسُ: ابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.

(5/154)


592 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجِبُ الإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ,
وَنَسْتَحِبُّ أَنْ لاَ يَزُولَ عَنْهَا مَنْ صَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى تُدْفَنَ, فَإِنْ انْصَرَفَ قَبْلَ الدَّفْنِ فَلاَ حَرَجَ, وَلاَ مَعْنَى لاِنْتِظَارِ إذْنِ وَلِيِّ الْجِنَازَةِ.
أَمَّا وُجُوبُ الإِسْرَاعِ, فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حدثنا أَبُو الطَّاهِرِ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ, فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَرَّبْتُمُوهَا إلَى الْخَيْرِ,

(5/154)


وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ شَرًّا تَضَعُونَهُ، عَنْ رِقَابِكُمْ".
وَهُوَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ وَهُشَيْمٍ كِلاَهُمَا، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا لَنَكَادُ نَرْمُلُ بِالْجِنَازَةِ رَمَلاً".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ, فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ الْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مُغَفَّلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا صَحِيحًا.
قال أبو محمد: الإِسْرَاعُ بِهَا أَمْرٌ, وَهَذَا الآخَرُ نَدْبٌ, وَفِي إبَاحَتِهِ عليه السلام لِمَنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ أَنْ لاَ يَشْهَدَ دَفْنَهَا وَجُعِلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ قِيرَاطُ أَجْرٍ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ: بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَنَّهُ لاَ مَعْنَى لاِِذْنِ صَاحِبِ الْجِنَازَةِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: إذَا صَلَّيْت عَلَى الْجِنَازَةِ فَقَدْ قَضَيْت الَّذِي عَلَيْك, فَخَلِّهَا وَأَهْلَهَا, وَكَانَ يَنْصَرِفُ، وَلاَ يَسْتَأْذِنُهُمْ وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْصَرِفُ، وَلاَ يَنْتَظِرُ إذْنَهُمْ, يَعْنِي فِي الْجِنَازَةِ وَبِهِ يَأْخُذُ مَعْمَرٌ. قَالَ مَعْمَرٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ. وَصَحَّ، عَنِ الْقَاسِمِ, وَسَالِمٍ, وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

(5/155)


و يقف الإمام إذا صلى على الجنازة من الرجل قبالة رأسه و من المرأة قبالة و سطها
...
593 - مَسْأَلَةٌ: وَيَقِفُ الإِمَامُ إذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ قُبَالَةَ رَأْسِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ قُبَالَةَ وَسَطِهَا
قَالَ مَالِكٌ, وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقِفُ مِنْ الرَّجُلِ قُبَالَةَ وَسَطِهِ, وَمِنْ الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْكِبِهَا. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا: يَقِفُ قُبَالَةَ الصَّدْرِ مِنْ كِلَيْهِمَا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا دَاوُد بْنُ مُعَاذٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ نَافِعٍ قَالَ: "شَهِدْت جِنَازَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ, فَصَلَّى عَلَيْهَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَنَا خَلْفَهُ, فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ, ثُمَّ قَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ, الْمَرْأَةُ الأَنْصَارِيَّةُ

(5/155)


فَقَرَّبُوهَا وَعَلَيْهَا نَعْشٌ أَخْضَرُ, فَقَامَ عَلَيْهَا عِنْدَ عَجِيزَتِهَا, فَصَلَّى عَلَيْهَا نَحْوَ صَلاَتِهِ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ لَهُ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ, هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ كَصَلاَتِكَ, يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا, وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ قَالَ: نَعَمْ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا, وَفِي آخِرِهِ: فَأَقْبَلَ الْعَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: احْفَظُوا.
قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ أُصُولَهُمْ; لأَنَّهُمْ يُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَهَذَا صَاحِبٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ, وَقَدْ خَالَفُوهُ.
وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ.
وَلاَ نَعْلَمُ لِمَنْ قَالَ: يَقِفُ فِي كِلَيْهِمَا عِنْدَ الْوَسَطِ: حُجَّةً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى وُقُوفِ الإِمَامِ مُقَابِلَ وَسَطِ الصَّفِّ خَلْفَهُ, وَهَذَا أَسْخَفُ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ; لإِنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مَأْمُومًا لِلإِمَامِ فَيَقِفُ وَسَطَهُ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يَقِفُ عِنْدَ الصَّدْرِ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ اتِّخَاذِ النُّعُوشِ, فَيَسْتُرُ الْمَرْأَةَ مِنْ النَّاسِ وَهَذَا بَاطِلٌ, وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. ثُمَّ مَعَ كَذِبِهِ بَارِدٌ بَاطِلٌ, لاَِنَّهُ وَإِنْ سَتَرَ عَجِيزَتَهَا، عَنِ النَّاسِ لَمْ يَسْتُرْهَا، عَنْ نَفْسِهِ, وَهُوَ وَالنَّاسُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.

(5/156)


و لا يحل سب الأموات على القصد بالأذى
...
594 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ سَبُّ الأَمْوَاتِ عَلَى الْقَصْدِ بِالأَذَى,
وَأَمَّا تَحْذِيرٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ مِنْ عَمَلٍ فَاسِدٍ: فَمُبَاحٌ, وَلَعْنُ الْكُفَّارِ مُبَاحٌ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا آدَم، حدثنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا".
وَقَدْ سَبَّ اللَّهُ تَعَالَى أَبَا لَهَبٍ, وَفِرْعَوْنَ, تَحْذِيرًا مِنْ كُفْرِهِمَا وَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وَأَخْبَرَ عليه السلام

(5/156)


أَنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غَلَّهَا مِدْعَمٌ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا, وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.

(5/157)


يجب تلقين الميت الذي يموت في ذهنه شهادة الإسلام
...
595 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجِبُ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الَّذِي يَمُوتُ فِي ذِهْنِهِ وَلِسَانُهُ مُنْطَلِقٌ أَوْ غَيْرُ مُنْطَلِقٍ شَهَادَةَ الإِسْلاَمِ,
وَهِيَ "لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حدثنا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حدثنا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ". وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: لَقِّنُونِي لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَسْرِعُوا بِي إلَى حُفْرَتِي.
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ فِي ذِهْنِهِ فَلاَ يُمْكِنُ تَلْقِينُهُ, لاَِنَّهُ لاَ يَتَلَقَّنُ.
وَأَمَّا مَنْ مُنِعَ الْكَلاَمَ فَيَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ, نَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَقَامِ.

(5/157)


596 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ إذَا قَضَى.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ". وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَغْمِيضِ أَعْيُنِ الْمَوْتَى.

(5/157)


يستحب أن يقال المصاب "إنا لله و إنا إليه راجعون اللهم أجرني من مصيبتي و أخلف لي خيرا منها"
...
597 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُصَابُ "إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ آجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا".
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ سَمِعْتُ ابْنَ سَفِينَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ,

(5/157)


598 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الصَّلاَةَ عَلَى الْمَوْلُودِ يُولَدُ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ
اسْتَهَلَّ أَوْ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَيْسَ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَرْضًا مَا لَمْ يَبْلُغْ.
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا فِعْلُ خَيْرٍ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ.
أَمَّا تَرْكُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فَلِما رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "مَاتَ إبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَ، هُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا, فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ وَلَكِنْ إنَّمَا فِيهِ تَرْكُ الصَّلاَةِ, وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْهَا, وَقَدْ جَاءَ أَثَرَانِ مُرْسَلاَنِ بِأَنَّهُ عليه السلام صَلَّى عَلَيْهِ, وَالْمُرْسَلُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا, وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ".
وَبِهَذَا يَأْخُذُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: أَحَقُّ مَنْ صَلَّيْنَا عَلَيْهِ أَطْفَالُنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَنْفُوسٍ إنْ عَمِلَ خَطِيئَةً قَطُّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا

(5/158)


و لا نكره اتباع النساء الجنازة و لا نمنعهن من ذلك
...
599 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ نَكْرَهُ اتِّبَاعَ النِّسَاءِ الْجِنَازَةَ, وَلاَ نَمْنَعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ.
جَاءَتْ فِي النَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ آثَارٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَصِحُّ, لاَِنَّهَا إمَّا مُرْسَلَةً, وَأَمَّا، عَنْ مَجْهُولٍ, وَأَمَّا عَمَّنْ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ.
وَأَشْبَهَ مَا فِيهِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: "نُهِينَا، عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ, وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا".
وَهَذَا غَيْرُ مُسْنَدٍ; لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَنْ هَذَا النَّاهِي وَلَعَلَّهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, بَلْ كَانَ يَكُونُ كَرَاهَةً فَقَطْ.
بَلْ قَدْ صَحَّ خِلاَفُهُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً, فَصَاحَ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهَا يَا عُمَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ, وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ, وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ".
وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ.

(5/160)


نستحب زيارة القبور و هو فرض و لو مرة
...
600 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ, وَهُوَ فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً،
وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَزُورَ الْمُسْلِمُ قَبْرَ حَمِيمِهِ الْمُشْرِكِ, وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَوَاءٌ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ هُوَ ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ, عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(5/160)


ما يستحب أن يقال عند زيارة القبور
...
601 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ لِمَنْ حَضَرَ عَلَى الْقُبُورِ أَنْ يَقُولَ:
مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ, فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ".

(5/161)


نستحب أن يصلى على الميت مائة فصاعدا
...
602 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مِائَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَصَاعِدًا.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، حدثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيعِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ: إلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ". قَالَ: فَحَدَّثْت بِهِ شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: "يُصَلِّي عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ" , رَوَاهُ شُرَيْكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: الشَّفِيعُ يَكُونُ بَعْدَ الْعِقَابِ, إلاَّ أَنَّهُ مُخَفِّفٌ مَا قَدْ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْلاَ الشَّفَاعَةُ

(5/161)


إدخال الموتى في المساجد و الصلاة عليهم فيها حسن كله
...
603 - مَسْأَلَةٌ: وَإِدْخَالُ الْمَوْتَى فِي الْمَسَاجِدِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِمْ حَسَنٌ كُلُّهُ,
وَأَفْضَلُ مَكَان صُلِّيَ فِيهِ عَلَى الْمَوْتَى فِي دَاخِلَ الْمَسَاجِدِ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حدثنا بَهْزُ، هُوَ ابْنُ أَسَدٍ، حدثنا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، هُوَ ابْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمُرُّوا بِجِنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ, فَفَعَلُوا, فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ, وَقَالُوا: مَا كَانَتْ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِالْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ, وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إلاَّ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ!؟"
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِم: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَا عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ سُهَيْلٍ, وَأَخِيهِ فِي الْمَسْجِدِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّاسَ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِيُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ, فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ مَا صُلِّيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إلاَّ فِي الْمَسْجِدِ".
وَمِنْ طَرِيق ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ.

(5/162)


604 - مَسْأَلَةٌ، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُبْسَطَ فِي الْقَبْرِ تَحْتَ الْمَيِّتِ ثَوْبٌ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "بُسِطَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ".
وَرَوَاهُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَكِيعٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ, وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ شُعْبَةَ بِإِسْنَادِهِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُكْسَاهُ الْمَيِّتُ فِي كَفَنِهِ, وَقَدْ تَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْعَمَلَ فِي دَفْنِ رَسُولِهِ الْمَعْصُومِ مِنْ النَّاسِ. وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ, وَفَعَلَهُ خِيَرَةُ أَهْلِ الأَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ, لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَالِكِيُّونَ, وَهُمْ يَدَعُونَ فِي أَقَلِّ مِنْ هَذَا عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ تَرَكُوا عَمَلَهُمْ هُنَا, وَفِي الصَّلاَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ, وَفِي حَدِيثِ صَخْرٍ أَنَّهُ عَمَلُهُمْ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

(5/164)


حكم تشييع الجنازة أن يكون الركبان خلفها و الماشي حيث شاء
...
605 - مَسْأَلَةٌ: وَحُكْمُ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ الرُّكْبَانُ خَلْفَهَا, وَأَنْ يَكُونَ الْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ,
عَنْ يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا أَوْ أَمَامِهَا أَوْ خَلْفِهَا, وَأَحَبُّ ذَلِكَ إلَيْنَا خَلْفُهَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا رُوِّينَا آنِفًا فِي بَابِ الصَّلاَةِ عَلَى الطِّفْلِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ, وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا".
وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: سَمِعْت مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْد بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ".
قال أبو محمد: فَلَفْظُ الاِتِّبَاعِ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى التَّالِي, وَلاَ يُسَمَّى الْمُتَقَدِّمُ تَابِعًا, بَلْ هُوَ مَتْبُوعٌ, فَلَوْلاَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا, وَالْخَبَرُ الَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، حدثنا أَبِي، حدثنا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، حدثنا سُفْيَانُ وَمَنْصُورٌ

(5/164)


من بلع درهما أم دينارا أو لؤلؤة شق بطنه عنها
...
606 – مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ بَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً: شُقَّ بَطْنُهُ عَنْهَا,
لِصِحَّةِ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى أَخْذِ غَيْرِ عَيْنِ مَالِهِ, مَا دَامَ عَيْنُ مَالِهِ مُمْكِنًا, لإِنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَلَوْ بَلَعَهُ وَهُوَ حَيٌّ حُبِسَ حَتَّى يَرْمِيَهُ, فَإِنْ رَمَاهُ نَاقِصًا ضَمِنَ مَا نَقَصَ, فَإِنْ لَمْ يَرْمِهِ: ضَمِنَ مَا بَلَعَ، وَلاَ يَجُوزُ شَقُّ بَطْنِ الْحَيِّ, لإِنَّ فِيهِ قَتْلَهُ, وَلاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلاَ يَحِلُّ شَقُّ بَطْنِ الْمَيِّتِ بِلاَ مَعْنًى; لاَِنَّهُ تَعَدٍّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا}.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا".
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ نَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُرِيدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّهْيَ، عَنْ غَيْرِ كَسْرِ الْعَظْمِ فَلاَ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ كَسْرَ الْعَظْمِ, وَلَوْ أَنَّ امْرَأً شَهِدَ عَلَى مَنْ شَقَّ بَطْنَ آخَرَ بِأَنَّهُ كَسَرَ عَظْمَهُ لَكَانَ شَاهِدَ زُورٍ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الاِحْتِجَاجِ, وَلِهَذَا الْقِيَاسِ, فَلاَ يَرَوْنَ الْقَوَدَ, وَلاَ الأَرْشَ عَلَى كَاسِرِ عَظْمِ الْمَيِّتِ بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ فِي عَظْمِ الْحَيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/166)


لو ماتت امرأة حامل و الولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولا و يخرج الولد
...
607 - مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ حَامِلٌ وَالْوَلَدُ حَيٌّ يَتَحَرَّكُ قَدْ تَجَاوَزَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُهَا طُولاً وَيُخْرَجُ الْوَلَدُ,
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وَمَنْ تَرَكَهُ عَمْدًا حَتَّى يَمُوتَ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ. وَلاَ مَعْنَى لِقَوْلِ أَحْمَدَ رحمه الله: تُدْخِلُ

(5/166)


608 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَخَبَّابٍ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ يُوسُفَ عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} فَلَيْسَ هَذَا عَلَى اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ, لَكِنْ عَلَى الدُّعَاءِ بِأَنْ لاَ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا تَوَفَّاهُ إلاَّ مُسْلِمًا, وَهَذَا ظَاهِرُ الآيَةِ الَّذِي لاَ تَزَيُّدَ فِيهِ.

(5/167)


609 - مَسْأَلَةٌ: وَيُحْمَلُ النَّعْشُ كَمَا يَشَاءُ الْحَامِلُ,
إنْ شَاءَ مِنْ أَحَدِ قَوَائِمِهِ, وَإِنْ شَاءَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: يَحْمِلُهُ مِنْ قَوَائِمِهِ الأَرْبَعِ.
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَلِيٍّ الأَزْدِيِّ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ فِي جِنَازَةٍ فَحَمَلَ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الأَرْبَعِ, ثُمَّ تَنَحَّى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَة: حدثنا حُمَيْدٍ، عَنْ مِنْدَلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنْ اسْتَطَعْت فَابْدَأْ بِالْقَائِمَةِ الَّتِي تَلِي يَدَهُ الْيَمِينَ, ثُمَّ أَطِفْ بِالسَّرِيرِ, وَإِلاَّ فَكُنْ قَرِيبًا مِنْهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نِسْطَاسَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي أَبَاهُ: مَنْ تَبِعَ

(5/167)


يصلى على الميت الغائب بإمام و جماعة
...
610 - مَسْأَلَةٌ: وَيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ بِإِمَامٍ وَجَمَاعَةٍ.
قَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّجَاشِيِّ رضي الله عنه وَمَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَصَلَّى مَعَهُ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ صُفُوفًا, وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ.

(5/169)


و يصلى على كل مسلم بر أو فاجر
...
611 - مَسْأَلَةٌ: وَيُصَلَّى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, بَرٍّ, أَوْ فَاجِرٍ, مَقْتُولٍ فِي حَدٍّ, أَوْ فِي حِرَابَةٍ, أَوْ فِي بَغْيٍ,
وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ الإِمَامُ, وَغَيْرُهُ وَلَوْ أَنَّهُ شَرُّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ, إذَا مَاتَ مُسْلِمًا لِعُمُومِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ" وَالْمُسْلِمُ صَاحِبٌ لَنَا. قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. فَمَنْ مَنَعَ مِنْ الصَّلاَةِ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَدْ قَالَ قَوْلاً عَظِيمًا, وَإِنَّ الْفَاسِقَ لاََحْوَجُ إلَى دُعَاءِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْفَاضِلِ الْمَرْحُومِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى "مَاعِزٍ".
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ نَقُلْ إنَّ فَرْضًا عَلَى الإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ رُجِمَ, إنَّمَا قلنا: لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَوْتَى, وَلَهُ أَنْ يُتْرَكَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى, وَلاَ فَرْقَ وَقَدْ أَمَرَهُمْ عليه السلام بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَرْجُمْهُ مِمَّنْ رَجَمَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ-

(5/169)


612 - مَسْأَلَةٌ: وَعِيَادَةُ مَرْضَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ
وَلَوْ مَرَّةً عَلَى الْجَارِ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ عِيَادَتُهُ, وَلاَ نَخُصُّ مَرَضًا مِنْ مَرَضٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حدثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي, سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ, وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ, وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ, وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ, وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حدثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: "عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي".
وَقَدْ "عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ

(5/172)


عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ غُلاَمًا مِنْ الْيَهُودِ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ, فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ, فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ!", فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ! فَأَسْلَمَ, فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".
فَعِيَادَةُ الْكَافِرِ فِعْلٌ حَسَنٌ.

(5/173)


613 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَهْرُبَ أَحَدٌ، عَنِ الطَّاعُونِ إذَا وَقَعَ فِي بَلَدٍ هُوَ فِيهِ
وَمُبَاحٌ لَهُ الْخُرُوجُ لِسَفَرِهِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ الطَّاعُونُ، وَلاَ يَحِلُّ الدُّخُولُ إلَى بِلاَدٍ فِيهِ الطَّاعُونُ لِمَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُ حَتَّى يَزُولَ.
وَالطَّاعُونُ هُوَ الْمَوْتُ الَّذِي كَثُرَ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ كَثْرَةً خَارِجَةً، عَنِ الْمَعْهُودِ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ, وَإِذَا وَقَعَ فِي أَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ".
قال أبو محمد: فَلَمْ يَنْهَ عليه السلام، عَنِ الْخُرُوجِ إلاَّ بِنِيَّةِ الْفِرَارِ مِنْهُ فَقَطْ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، إبَاحَةَ الْفِرَارِ عَنْهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(5/173)


نستحب تأخير الدفن و لو يوما و ليلة ما لم يخف على الميت التغيير
...
614 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَ الدَّفْنِ وَلَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً, مَا لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمَيِّتِ التَّغْيِيرُ،
لاَ سِيَّمَا مَنْ تَوَقَّعَ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ. وَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاِثْنَيْنِ ضَحْوَةً, وَدُفِنَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الأَرْبِعَاءِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ الْخَيَّاطِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُنْتَظَرُ بِالْمَصْعُوقِ ثَلاَثًا.

(5/173)


615 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ الْيَمِينِ,
وَوَجْهُهُ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ, وَرَأْسُهُ وَرِجْلاَهُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ, وَيَسَارِهَا, عَلَى هَذَا جَرَى عَمَلُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا, وَهَكَذَا كُلُّ مَقْبَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ.

(5/173)


616 - مَسْأَلَةٌ: وَتَوْجِيهُ الْمَيِّتِ إلَى الْقِبْلَةِ حَسَنٌ,
فَإِنْ لَمْ يُوَجَّهْ فَلاَ حَرَجَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

(5/173)


جائز أن تغسل المرأة زوجها و أم الولد سيدها
...
617 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ تُغَسِّلَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا, وَأُمُّ الْوَلَدِ سَيِّدَهَا,
وَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوِلاَدَةِ, مَا لَمْ تُنْكَحَا, فَإِنْ نُكِحَتَا لَمْ يَحِلَّ لَهُمَا غُسْلُهُ إلاَّ كَالأَجْنَبِيَّاتِ.
وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَ امْرَأَتَهُ, وَأُمَّ وَلَدِهِ, وَأَمَتَهُ, مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ حَرِيمَتَهَا, أَوْ يَسْتَحِلَّ حَرِيمَتَهَا بِالْمِلْكِ, فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ غَسْلُهَا.
وَلَيْسَ لِلأَمَةِ أَنْ تُغَسِّلَ سَيِّدَهَا أَصْلاً, لإِنَّ مِلْكَهَا بِمَوْتِهِ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}: فَسَمَّاهَا زَوْجَةً بَعْدَ مَوْتِهَا وَهِيَ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ امْرَأَتُهُ فِي الْجَنَّةِ وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِهِ, وَأَمَتُهُ, وَكَانَ حَلاَلاً لَهُ رُؤْيَةُ أَبْدَانِهِنَّ فِي الْحَيَاةِ وَتَقْبِيلُهُنَّ وَمَسُّهُنَّ, فَكُلُّ ذَلِكَ بَاقٍ عَلَى التَّحْلِيلِ فَمَنْ ادَّعَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَقَوْلٌ بَاطِلٍ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ حَرِيمَتَهَا, أَوْ تَمَلَّكَهَا, أَوْ تَزَوَّجَتْ هِيَ: فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الاِطِّلاَعُ عَلَى بَدَنَيْهِمَا مَعًا, لاَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ التَّلَذُّذُ بِرُؤْيَةِ بَدَنِ رَجُلَيْنِ مَعًا.
وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: تُغَسِّلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا; لاَِنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُ, وَلاَ يُغَسِّلُهَا هُوَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيِّ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِغُسْلِ امْرَأَتِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ: إنِّي لاَُغَسِّلُ نِسَائِي, وَأَحُولُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهِنَّ وَبَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ.

(5/174)


لو مات رجل بين نساء لا رجل معهن أو مات امرأة بين رجال لا نساء معهن غسل النساء الرجل و الرجال المرأة على ثوب كثيف
...
618 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نِسَاءٍ لاَ رَجُلَ مَعَهُنَّ, أَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ لاَ نِسَاءَ مَعَهُمْ: غَسَّلَ النِّسَاءُ الرَّجُلَ وَغَسَّلَ الرِّجَالُ الْمَرْأَةَ عَلَى ثَوْبٍ كَثِيفٍ,
يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْيَدِ, لإِنَّ الْغُسْلَ فَرْضٌ كَمَا قَدَّمْنَا, وَهُوَ مُمْكِنٌ كَمَا ذَكَرْنَا بِلاَ مُبَاشَرَةٍ, فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُهُ, وَلاَ كَرَاهَةَ فِي صَبِّ الْمَاءِ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَوِّضَ التَّيَمُّمَ مِنْ الْغُسْلِ إلاَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ..
وَرُوِّينَا أَثَرًا فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُيَمَّمَانِ" وَهَذَا مُرْسَلٌ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ, فَهُوَ سَاقِطٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ قَالاَ جَمِيعًا: تُغَسَّلُ وَعَلَيْهَا الثِّيَابُ, يَعْنِيَانِ فِي الْمَرْأَةِ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ لاَ امْرَأَةَ مَعَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ, وَزِيَادٍ الأَعْلَمِ, وَالْحَجَّاجِ: قَالَ حُمَيْدٍ, وَزِيَادٌ: عَنِ الْحَسَنِ, وَقَالَ الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, قَالاَ جَمِيعًا فِي الْمَرْأَةِ تَمُوتُ مَعَ رِجَالٍ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ: أَنَّهَا يُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ مِنْ وَرَاءِ الثِّيَابِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَائِلِينَ أَنَّهَا تُيَمَّمُ: فَرُّوا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ خَلْفَ ثَوْبٍ وَأَبَاحُوهَا عَلَى الْبَشَرَةِ وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/176)


619 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُرْفَعُ الْيَدَانِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إلاَّ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ فَقَطْ;
لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِرَفْعِ الأَيْدِي فِيمَا عَدَا ذَلِكَ نَصٌّ وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِنَا هَذَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفْعُ الأَيْدِي لِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ, وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَرْفَعَهَا فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ قِيَاسًا عَلَى التَّكْبِيرَةِ الآُولَى

(5/176)


إن كانت أظفار الميت وافرة أو شاربه وافية أو عانته أخذ كل ذلك
...
620 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَيِّتِ وَافِرَةً, أَوْ شَارِبُهُ وَافِيًا, أَوْ عَانَتُهُ: أَخَذَ كُلَّ ذَلِكَ;
لإِنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ وَصَحَّ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْفِطْرَةِ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجَهَّزَ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى إلاَّ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حَلَقَ عَانَةَ مَيِّتٍ.
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مُخَالَفَةَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَهَذَا صَاحِبٌ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: فِي شَعْرِ عَانَةِ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ وَافِرًا, قَالَ: يُؤْخَذُ مِنْهُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: فَإِنْ كَانَ أَقْلَفَ أَيُخْتَنُ؟
قلنا: نَعَمْ, فَكَانَ مَاذَا وَالْخِتَانُ مِنْ الْفِطْرَةِ.
فإن قيل: فَأَنْتُمْ لاَ تَرَوْنَ أَنْ يُطَهَّرَ لِلْجَنَابَةِ إنْ مَاتَ مُجْنِبًا, وَلاَ لِلْحَيْضِ إنْ مَاتَتْ حَائِضًا, وَلاَ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَمَا الْفَرْقُ؟
قلنا: الْفَرْقُ أَنَّ هَذِهِ الأَغْسَالَ مَأْمُورٌ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ, وَلاَ تَلْزَمُ مَنْ لاَ يُخَاطَبُ: كَالْمَجْنُونِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ, وَالصَّغِيرِ. وَقَدْ سَقَطَ الْخِطَابُ، عَنِ الْمَيِّتِ.
وَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ, وَحَلْقُ الْعَانَةِ, وَالإِبْطِ, وَالْخِتَانِ: فَالنَّصُّ جَاءَنَا بِأَنَّهَا مِنْ الْفِطْرَةِ, وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ, بَلْ الْكُلُّ مَأْمُورُونَ بِهَا, فَيَعْمَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَجْنُونِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ, وَالصَّغِيرِ.

(5/177)


621 - مَسْأَلَةٌ: وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ كَيْفَ أَمْكَنَ,
إمَّا مِنْ الْقِبْلَةِ, أَوْ مِنْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ

(5/177)


أَوْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ, إذْ لاَ نَصَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُكَفَّفِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ.
وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ.
وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَدْخَلَ الْحَارِثَ الْخَارِفِيَّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ.
وَرَوَى قَوْمٌ مُرْسَلاَتٍ لاَ تَصِحُّ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ عليه السلام أُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ. وَعَنْ رَبِيعَةَ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ, وَأَبِي الزِّنَادِ, وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ عليه السلام أُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ.
وَكُلُّ هَذَا لَوْ صَحَّ لَمْ تَقُمْ بِهِ حُجَّةٌ فِي الْوُجُوبِ, فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِمَّا سِوَاهُ.

(5/178)


622 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّزَاحُمُ عَلَى النَّعْشِ,
لاَِنَّهُ بِدْعَةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ, وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّفْقِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، حدثنا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّحَامَ عَلَى السَّرِيرِ, وَكَانَ إذَا رَآهُمْ يَزْدَحِمُونَ قَالَ: أُولَئِكَ الشَّيَاطِينُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ:، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْت جِنَازَةً فِيهَا أَبُو السِّوَارِ هُوَ حُرَيْثُ بْنُ حَسَّانَ الْعَدَوِيُّ فَازْدَحَمُوا عَلَى السَّرِيرِ, فَقَالَ أَبُو السِّوَارِ: أَتَرَوْنَ هَؤُلاَءِ أَفْضَلَ أَوْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إذَا رَأَى مَحْمَلاً حَمَلَ, وَإِلاَّ اعْتَزَلَ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا.

(5/178)


623 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرَاتِ عَلَى الْجِنَازَةِ كَبَّرَ سَاعَةَ يَأْتِي,
وَلاَ يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَ الإِمَامِ, فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ أَتَمَّ هُوَ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرِ, يَدْعُو بَيْنَ تَكْبِيرَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَعَ الإِمَامِ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ أَتَى إلَى الصَّلاَةِ "أَنْ يُصَلِّيَ مَا أَدْرَكَ وَيُتِمَّ مَا فَاتَهُ", وَهَذِهِ صَلاَةٌ, وَمَا عَدَا هَذَا فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/179)


كتاب الاعتكاف
يجوز اعتكاف يوم دون ليلة و ليلة دون يوم و ما أحب الرجل أو المرأة
...
كِتَابُ الاِعْتِكَافِ
الاِعْتِكَافُ: هُوَ الإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً فَمَا فَوْقَهَا, لَيْلاً, أَوْ نَهَارًا.
624 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجُوزُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ دُونَ لَيْلَةٍ, وَلَيْلَةٍ دُونَ يَوْمٍ, وَمَا أَحَبَّ الرَّجُلُ, أَوْ الْمَرْأَةُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, وَأَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ".
فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ, وَبِالْعَرَبِيَّةِ خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالاِعْتِكَافُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الإِقَامَةُ, قَالَ تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} بِمَعْنَى مُقِيمُونَ مُتَعَبِّدُونَ لَهَا. فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا, فَكُلُّ إقَامَةٍ فِي مَسْجِدٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ: اعْتِكَافٌ, وَعُكُوفٌ فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا, فَالاِعْتِكَافُ يَقَعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِمَّا قَلَّ مِنْ الأَزْمَانِ أَوْ كَثُرَ, إذْ لَمْ يَخُصَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ, وَلاَ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ, وَمُدَّعِي ذَلِكَ مُخْطِئٌ; لاَِنَّهُ قَائِلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
وَالاِعْتِكَافُ: فِعْلٌ حَسَنٌ, قَدْ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ، رضي الله عنهم، بَعْدَهُ وَالتَّابِعُونَ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِمِثْلِ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدٍ الْبُصَيْرِيُّ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ طَاهِرٌ فَهُوَ عَاكِفٌ فِيهِ, مَا لَمْ يُحْدِثْ: وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ، عَنْ يَعْلَى

(5/179)


ابْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: إنِّي لاََمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ سَاعَةً وَمَا أَمْكُثُ إلاَّ لاَِعْتَكِفَ. قَالَ عَطَاءٌ: حَسِبْت أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَنِيهِ قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ اعْتِكَافٌ مَا مَكَثَ فِيهِ, وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ احْتِسَابَ الْخَيْرِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ, وَإِلاَّ فَلاَ.
قال أبو محمد: يَعْلَى صَاحِبٌ, وَسُوَيْدٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ, أَفْتَى أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, لاَ يُعْرَفُ لِيَعْلَى فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
فإن قيل: قَدْ جَاءَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِقَوْلِ يَعْلَى.
قلنا: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ عَمَّنْ ذَكَرْت: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ كَامِلٍ, إنَّمَا جَاءَ عَنْهُمْ: أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ فِي حَالِ الاِعْتِكَافِ فَقَطْ, وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْتَكِفَ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا سَاعَةً فِي يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, فَبَطَلَ مَا أَوْهَمْتُمْ بِهِ.
وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى مُدَّةً مِنْ مُدَّةٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ". فَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ عليه السلام بِالأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ فِي الاِعْتِكَافِ, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مُدَّةً مِنْ مُدَّةٍ, فَبَطَلَ قَوْلٌ خَالَفَ قَوْلَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقُلْنَا: هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
وقال مالك: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ. وَلَهُ قَوْلٌ: لاَ اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ لَيَالٍ, مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَكُلُّ هَذَا قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ.
فإن قيل: لَمْ يَعْتَكِفْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ.
قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَعْتَكِفْ قَطُّ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ, فَلاَ تُجِيزُوا الاِعْتِكَافَ فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِ عليه السلام, وَلاَ اعْتَكَفَ قَطُّ إلاَّ فِي رَمَضَانَ, وَشَوَّالٍ, فَلاَ تُجِيزُوا الاِعْتِكَافَ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ.
وَالاِعْتِكَافُ فِي فِعْلِ خَيْرٍ, فَلاَ يَجُوزُ الْمَنْعُ مِنْهُ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ بِالْمَنْعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى مَسْجِدِهِ عليه السلام سَائِرَ الْمَسَاجِدِ.

(5/180)


قِيلَ لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَى اعْتِكَافِهِ عَشْرًا, أَوْ عِشْرِينَ: مَا دُونَ الْعَشْرِ. وَمَا فَوْقَ الْعِشْرِينَ, إذْ لَيْسَ مِنْهَا سَاعَةٌ، وَلاَ يَوْمٌ إلاَّ وَهُوَ فِيهِ مُعْتَكِفٌ.

(5/181)


625 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ,
لَكِنْ إنْ شَاءَ الْمُعْتَكِفُ صَامَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَ اعْتِكَافُ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَضْحَى, وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ: حَسَنٌ. وَكَذَلِكَ اعْتِكَافُ: لَيْلَةٍ بِلاَ يَوْمٍ, وَيَوْمٍ بِلاَ لَيْلَةٍ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِي اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَأَظُنُّهُ قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: لَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا فَقَالَ طَاوُوس كَانَ فُلاَنٌ لاَ يَرَى عَلَيْهَا صِيَامًا إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ عَلَيْهَا صِيَامٌ إلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا لَيْثٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ: أَنَّ عَلِيًّا, وَابْنَ مَسْعُودٍ قَالاَ جَمِيعًا: الْمُعْتَكِفُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُحَمَّدٌ الْقَلَعِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّوَّافُ، حدثنا بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحِ بْنِ عُمَيْرَةَ، حدثنا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، حدثنا أَبُو سُهَيْلِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا، وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِي اعْتِكَافُ ثَلاَثٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لاَ يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلاَّ بِصَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ. قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَمِنْ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ. قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: فَانْصَرَفْت فَلَقِيت طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, فَسَأَلْتهمَا، عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ طَاوُوس: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيِي.

(5/181)


وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ إنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ لاَ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.
وقال أبو حنيفة, وَسُفْيَانُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَمَالِكٌ, وَاللَّيْثُ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ. وَصَحَّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ طَاوُوس وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَصَحَّ عَنْهُمَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ.
كَتَبَ إلَى دَاوُد بْنِ بَابْشَاذَ بْنِ دَاوُد الْمَصْرِيِّ قَالَ: حدثنا عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ، حدثنا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَّةَ الرُّعَيْنِيُّ، حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ، حدثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ
وَرُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ.
قال أبو محمد: شَغِبَ مَنْ قَلَّدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ بِأَنْ قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. قَالُوا: فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الاِعْتِكَافَ إثْرَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ إلاَّ بِصَوْمٍ.
قال أبو محمد: مَا سُمِعَ بِأَقْبَحَ مِنْ هَذَا التَّحْرِيفِ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالإِقْحَامِ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ وَمَا عَلِمَ قَطُّ ذُو تَمْيِيزٍ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى شَرِيعَةً إثْرَ ذِكْرِهِ أُخْرَى مُوجِبَةٌ عَقْدَ إحْدَاهُمَا بِالآُخْرَى.، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ لَمَّا ذَكَرَ الصَّوْمَ ثُمَّ الاِعْتِكَافَ: وَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ صَوْمٌ إلاَّ بِاعْتِكَافٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ.
قلنا: فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلاَنِ حُجَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّ ذِكْرَ شَرِيعَةٍ مَعَ ذِكْرِ أُخْرَى لاَ يُوجِبُ أَنْ لاَ تَصِحَّ إحْدَاهُمَا إلاَّ بِالآُخْرَى.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خُصُومَنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ هُوَ بِاللَّيْلِ مُعْتَكِفٌ كَمَا هُوَ بِالنَّهَارِ, وَهُوَ بِاللَّيْلِ غَيْرُ صَائِمٍ. فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الاِسْتِدْلاَل لَوَجَبَ أَنْ لاَ يُجْزِئَ الاِعْتِكَافُ إلاَّ

(5/182)


بِالنَّهَارِ الَّذِي لاَ يَكُونُ الصَّوْمُ إلاَّ فِيهِ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِإِيرَادِ هَذِهِ الآيَةِ, حَيْثُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيم، حدثنا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ, فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "اعْتَكِفْ وَصُمْ".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُدَيْلٍ مَجْهُولٌ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُسْنَدِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَصْلاً, وَمَا نَعْرِفُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلاَّ ثَلاَثَةً, لَيْسَ, هَذَا مِنْهَا: أَحَدُهَا: فِي الْعُمْرَةِ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْحَجِّ. وَالثَّالِثُ: "لاَ تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ". فَسَقَطَ عَنَّا هَذَا الْخَبَرُ, لَبُطْلاَنِ سَنَدِهِ.
ثُمَّ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ فِي الاِعْتِكَافِ وَمُخَالَفَتُهُمْ إيَّاهُ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرَهُ الْمَرْءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَهَذِهِ عَظِيمَةٌ لاَ يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ "فِي الْجَاهِلِيَّةِ" أَيْ أَيَّامِ ظُهُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ إسْلاَمِهِ.
قلنا لِمَنْ قَالَ هَذَا: إنْ كُنْت تَقُولُ هَذَا قَاطِعًا بِهِ فَأَنْتَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ, لِقَطْعِك بِمَا لاَ دَلِيلَ لَك عَلَيْهِ, وَلاَ وَجَدْت قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ, وَإِنْ كُنْت تَقُولُهُ ظَنًّا, فَإِنَّ الْحَقَائِقَ لاَ تُتْرَكُ بِالظُّنُونِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ".
فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ كَذِبُ هَذَا الْقَوْلِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: "نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أَسْلَمْتُ, فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي".
وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, لاَ كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ الذَّاهِبِ فِي الرِّيَاحِ.

(5/183)


فَهَلْ سَمِعَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَزَالُونَ يَأْتُونَ بِالْخَبَرِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ يُصَحِّحُهُ فِيمَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفِينَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِيمَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ: فَكَيْفَ يَصْعَدُ مَعَ هَذَا عَمَلٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ, فَعَادَ خَبَرُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لاَ عَلَيْنَا, وَلَوْ صَحَّ, وَرَأَيْنَاهُ حُجَّةً لَقُلْنَا: بِهِ.
وَمَوَّهُوا بِأَنَّ هَذَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ. قَالُوا: وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ.
فَقُلْنَا: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ. فَصَحَّ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ: عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ سَمِعْت عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ يَقُولُ: إنَّ أُمَّنَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا اعْتِكَافٌ, فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اعْتَكِفْ عَنْهَا وَصُمْ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةً فِي إيجَابِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَصِرْ حُجَّةً فِي إيجَابِهِ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ الاِعْتِكَافِ، عَنِ الْمَيِّتِ وَهَلاَّ قُلْتُمْ هَاهُنَا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ: بِالرَّأْيِ وَعَهِدْنَاهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَ فُلاَنٍ صَحِيحًا مَا تَرَكَهُ. أَوْ يَقُولُونَ: لَمْ يَتْرُكْ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ لِمَا هُوَ أَصَحُّ عِنْدَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عَطَاءٍ آنِفًا أَنَّهُ لَمْ يَرَ الصَّوْمَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ, وَسَمِعَ طَاوُوسًا يَذْكُرُ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَهَلاَّ قَالُوا: لَمْ يَتْرُكْ عَطَاءٌ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ إلاَّ لِمَا هُوَ عِنْدَهُ أَقْوَى مِنْهُ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلاَعِبُونَ.
وَأَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ أَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا "قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لاَ يَعُودُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ جِنَازَةً, وَلاَ يَمَسُّ امْرَأَةً، وَلاَ يُبَاشِرُهَا, وَلاَ يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ إلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلاَ اعْتِكَافَ

(5/184)


إلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ.
فَمِنْ أَيْنَ صَارَ قَوْلُهَا فِي إيجَابِ الاِعْتِكَافَ حُجَّةً, وَلَمْ يَصِرْ قَوْلُهَا "لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ" حُجَّةً.
وَرُوِّينَا عَنْهَا، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, وَمَعْمَرٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ: أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ جِوَارًا فِي جُودِ ثَبِيرٍ مِمَّا يَلِي مِنًى. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ حِرَاءَ, وَثَبِيرٍ, فَكُنَّا نَأْتِيهَا هُنَالِكَ.
فَخَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا أَيْضًا, وَهَذَا عَجَبٌ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَحَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ ضَرَبَ فُسْطَاطًا, أَوْ خِبَاءً يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ, وَلاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حُجَّةً فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ بِصَوْمٍ, وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَكَفَ لاَ يُظِلُّهُ سَقْفُ بَيْتٍ.
فَصَحَّ أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا يُمَوِّهُونَ بِذِكْرِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ إيهَامًا; لأَنَّهُمْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلاَفِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَافِقْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَأَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً إلاَّ إذَا وَافَقَتْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ فَقَطْ, وَفِي هَذَا مَا فِيهِ. فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ, لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا, وَمِنْ الْهَوَسِ قَوْلُهُمْ: لَمَّا كَانَ الاِعْتِكَافُ لُبْثًا فِي مَوْضِعٍ: أَشْبَهَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ, وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لاَ يَصِحُّ إلاَّ مُحْرِمًا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَصِحَّ الاِعْتِكَافُ إلاَّ بِمَعْنًى آخَرَ, وَهُوَ الصَّوْمُ.

(5/185)


فَقِيلَ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ اللُّبْثُ بِعَرَفَةَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الاِعْتِكَافُ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ.
قال أبو محمد: مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا اعْتِكَافُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ, فَلاَ يَخْلُو صَوْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِرَمَضَانَ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ هُوَ فَحَصَلَ الاِعْتِكَافُ مُجَرَّدًا، عَنْ صَوْمٍ يَكُونُ مِنْ شَرْطِهِ, وَإِذَا لَمْ يَحْتَجْ الاِعْتِكَافُ إلَى صَوْمٍ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ شُرُوطِ الاِعْتِكَافِ وَصَحَّ أَنَّهُ جَائِزٌ بِلاَ صَوْمٍ, وَهَذَا بُرْهَانُ مَا قَدَرُوا عَلَى اعْتِرَاضِهِ إلاَّ بِوَسَاوِسَ لاَ تُعْقَلُ. وَلَوْ قَالُوا: إنَّهُ عليه السلام صَامَ لِلاِعْتِكَافِ لاَ لِرَمَضَانَ, أَوْ لِرَمَضَانَ, وَالاِعْتِكَافِ لَمْ يَبْعُدُوا، عَنِ الاِنْسِلاَخِ مِنْ الإِسْلاَمِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الاِعْتِكَافَ هُوَ بِاللَّيْلِ كَهُوَ بِالنَّهَارِ, وَلاَ صَوْمَ بِاللَّيْلِ.فَصَحَّ أَنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَحْتَاجُ إلَى صَوْمٍ.
فَقَالَ مُهْلِكُوهُمْ هَهُنَا: إنَّمَا كَانَ الاِعْتِكَافُ بِاللَّيْلِ تَبَعًا لِلنَّهَارِ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ إنَّمَا كَانَ بِالنَّهَارِ تَبَعًا لِلَّيْلِ, وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ.
فَقَالُوا: إنَّمَا قلنا: إنَّ الاِعْتِكَافَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ صَوْمٍ.
فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَلَمَّا كَانَ الاِعْتِكَافُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ لاَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ يَنْوِي بِهِ الاِعْتِكَافَ صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ الاِعْتِكَافَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ, وَلاَ مِنْ صِفَاتِهِ, وَلاَ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ صَوْمٌ, وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ صَحِيحٌ بِقَوْلِنَا.
كَأَنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ كِلاَهُمَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ", قَالَتْ: "وَإِنَّهُ أَرَادَ مَرَّةً أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ", قَالَتْ: "فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ أَمَرْتُ بِبِنَائِي فَضُرِبَ, وَأَمَرَ غَيْرِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبِنَائِهِنَّ فَضُرِبَ, فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ إلَى الأَبْنِيَةِ, فَقَالَ: مَا هَذَا آلْبِرَّ تُرِدْنَ فَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فَقُوِّضَ",

(5/186)


وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَقَوَّضْنَ ثُمَّ أَخَّرَ الاِعْتِكَافَ إلَى الْعَشْرِ الآُوَلِ, يَعْنِي مِنْ شَوَّالٍ".
قال أبو محمد: فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الآُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ وَفِيهَا يَوْمُ الْفِطْرِ, وَلاَ صَوْمَ فِيهِ.
وَمَالِكٌ يَقُولُ: لاَ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ اعْتِكَافِهِ إلاَّ حَتَّى يَنْهَضَ إلَى الْمُصَلَّى. فَنَسْأَلُهُمْ: أَمُعْتَكِفٌ هُوَ مَا لَمْ يَنْهَضْ إلَى الْمُصَلَّى, أَمْ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مُعْتَكِفٌ, تَنَاقَضُوا, وَأَجَازُوا الاِعْتِكَافَ بِلاَ صَوْمٍ بُرْهَةً مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ. وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ مُعْتَكِفًا قلنا: فَلِمَ مَنَعْتُمُوهُ الْخُرُوجَ إذَنْ.

(5/187)


لا يحل للرجل مباشر المرأة و لا للمرأة مباشرة الرجل في حال الاعتكاف بشيء من الجسم
...
626 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ, وَلاَ لِلْمَرْأَةِ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ فِي حَالِ الاِعْتِكَافِ بِشَيْءٍ مِنْ الْجِسْمِ,
إلاَّ فِي تَرْجِيلِ الْمَرْأَةِ لِلْمُعْتَكِفِ خَاصَّةً, فَهُوَ مُبَاحٌ, وَلَهُ إخْرَاجُ رَأْسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلتَّرْجِيلِ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. فَصَحَّ أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ عُمُومِ الْمُبَاشَرَةِ ذَاكِرًا لاِعْتِكَافِهِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ كَمَا أُمِرَ, فَلاَ اعْتِكَافَ لَهُ, فَإِنْ كَانَ نَذْرًا قَضَاهُ, وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, فَحُرِّمَتْ الْمُبَاشَرَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ, فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ". فَخَرَجَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ عُمُومِ نَهْيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(5/187)


جائز للمعتكف أن يشترط ما شاء من المباح و الخروج له
...
627 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا شَاءَ مِنْ الْمُبَاحِ وَالْخُرُوجِ لَهُ,
لاَِنَّهُ بِذَلِكَ إنَّمَا الْتَزَمَ الاِعْتِكَافَ فِي خِلاَلِ مَا اسْتَثْنَاهُ, وَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ, أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا شَاءَ, وَيَتْرُكَ إذَا شَاءَ, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ طَاعَةٌ, وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ, فَإِنْ أَطَاعَ أُجِرَ, وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَقْضِ.
وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرَ مِمَّنْ لاَ يُجِيزُ هَذَا الشَّرْطَ وَالنُّصُوصُ كُلُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُوجِبَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ يَقُولُ: بِلُزُومِ الشُّرُوطِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ, مِنْ اشْتِرَاطِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ إنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا, أَوْ تَسَرَّى فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا, وَالدَّاخِلَةُ بِنِكَاحٍ

(5/187)


و كل فرض على المسلم فإن الاعتكاف لا يمنع منه
...
628 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّ الاِعْتِكَافَ لاَ يَمْنَعُ مِنْهُ,
وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ, وَلاَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِاعْتِكَافِهِ, وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ, مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ, وَغُسْلِ الاِحْتِلاَمِ, وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ, وَمِنْ الْحَيْضِ, إنْ شَاءَ فِي حَمَّامٍ أَوْ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ. وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ تَمَامِ غُسْلِهِ, وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ, فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لاِبْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ وَلاَِهْلِهِ مِنْهُ, مِنْ الأَكْلِ وَاللِّبَاسِ, وَلاَ يَتَرَدَّدُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنْ تَرَدَّدَ بِلاَ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ, وَلَهُ أَنْ يُشَيِّعَ أَهْلَهُ إلَى مَنْزِلِهَا. وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ: خُرُوجُهُ لِمَا لَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُحَمَّدٌ، حدثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ, رَدُّ السَّلاَمِ, وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ, وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ, وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ, وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ".
وَأَمَرَ عليه السلام مَنْ دُعِيَ إنْ كَانَ مُفْطِرًا: فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ, بِمَعْنَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}. وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}. فَهَذِهِ فَرَائِضُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا لِلاِعْتِكَافِ, وَبِلاَ شَكٍّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدَّى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.
فَفَرَضَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ مَرَّةً وَاحِدَةً, يَسْأَلُ، عَنْ حَالِهِ وَاقِفًا وَيَنْصَرِفُ لإِنَّ مَا زَادَ، عَنْ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا هُوَ تَطْوِيلٌ, فَهُوَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِشُهُودِ الْجِنَازَةِ, فَإِذَا صَلَّى عَلَيْهَا انْصَرَفَ, لاَِنَّهُ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ, وَمَا زَادَ فَلَيْسَ فَرْضًا, وَهُوَ بِهِ خَارِجٌ، عَنِ الاِعْتِكَافِ.

(5/188)


وَفَرْضٌ عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إذَا دُعِيَ, فَإِنْ كَانَ صَائِمًا بَلَغَ إلَى دَارِ الدَّاعِي وَدَعَا وَانْصَرَفَ, وَلاَ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَفَرْضٌ عَلَيْهِ: أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ بِمِقْدَارِ مَا يُدْرِكُ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ, فَإِذَا سَلَّمَ رَجَعَ, فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ الاِعْتِكَافِ, فَإِنْ خَرَجَ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ رَأَى أَنَّ فِي الْوَقْتِ فُسْحَةً فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ ثُمَّ خَرَجَ أَدْرَكَ الْخُطْبَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ, وَإِلاَّ فَلْيَتَمَادَ, وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حَرَجٌ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ لِلشَّهَادَةِ إذَا دُعِيَ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الشُّهَدَاءَ بِأَنْ لاَ يَأْبَوْا إذَا دُعُوا, وَلَمْ يَشْتَرِطْ مَنْ يَقْبَلُ مِمَّا لاَ يَقْبَلُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} إذَا أَدَّاهَا رَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، وَلاَ يَتَرَدَّدُ, فَإِنْ تَرَدَّدَ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَدْ الْجُمُعَةَ وَلْيَحْضُرْ الْجِنَازَةَ وَلْيَعُدْ الْمَرِيضَ وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ يَأْمُرُهُمْ بِحَاجَتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيدٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَعَانَ ابْنَ أُخْتِهِ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَطَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خَادِمًا, فَقَالَ: إنِّي كُنْت مُعْتَكِفًا, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا عَلَيْك لَوْ خَرَجَتْ إلَى السُّوقِ فَابْتَعْت؟
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ: حدثنا هُشَيْمٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ

(5/189)


لاَ تَعُودُ الْمَرِيضَ مِنْ أَهْلِهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَكِفَةً إلاَّ وَهِيَ مَارَّةٌ.
وَبِهِ إلَى سَعِيد: حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ هَذِهِ الْخِصَالَ وَهُنَّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ: عِيَادَةَ الْمَرِيضِ, وَلاَ يَدْخَلُ سَقْفًا, وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ, وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيَخْرُجُ إلَى الْحَاجَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَلاَ يَدْخَلُ الْمُعْتَكِفُ سَقِيفَةً إلاَّ لِحَاجَةٍ.
وَبِهِ إلَى هُشَيْمٍ: أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ, وَيُجِيبُ الإِمَامَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلْمُعْتَكِفِ: أَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ, وَيَعُودَ الْمَرِيضَ، وَلاَ يَجْلِسَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَدْخَلُ الْبَابَ فَيُسَلِّمُ، وَلاَ يَقْعُدُ, يَعُودُ الْمَرِيضَ وَكَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا إذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِحَاجَتِهِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ فَيُسَائِلُهُ.
قال أبو محمد: إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ, أَوْ سَأَلَهُ، عَنْ سُنَّةٍ مِنْ الدِّينِ, وَإِلاَّ فَلاَ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ, وَيَتْبَعَ الْجِنَازَةَ, وَيَأْتِيَ إلَى الْجُمُعَةِ, وَيُجِيبَ الدَّاعِيَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: إنْ نَذَرَ جِوَارًا أَيَنْوِي1 فِي نَفْسِهِ أَنْ لاَ يَصُومَ, وَأَنَّهُ يَبِيعُ وَيَبْتَاعُ, وَيَأْتِي الأَسْوَاقَ, وَيَعُودُ الْمَرِيضَ, وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ وَإِنْ كَانَ مَطَرٌ فَإِنِّي أَسْتَكِنُ فِي الْبَيْتِ. وَإِنِّي أُجَاوِرُ جِوَارًا مُنْقَطِعًا, أَوْ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ وَيَأْتِيَ الْبَيْتَ بِاللَّيْلِ قَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ مَا كَانَتْ, ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُعْتَكِفُ يَعُودُ الْمَرْضَى2 وَيَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ, وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَعُرْوَةَ, وَالزُّهْرِيِّ: لاَ يَعُودُ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا, وَلاَ يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَاللَّيْثِ.
قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "ينوي" بدون الهمزة.
2 في النسخة رقم "16" "للمعتكف أن يعود المريض".

(5/190)


قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ صَحَّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ مَا أَوْرَدْنَا, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً, فَحَدَّثْتُهُ, ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ, فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فِي هَذَا كِفَايَةٌ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا حُجَّةً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ.
وَنَسْأَلُهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَابْتِيَاعِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَبَيْنَ خُرُوجِهِ لِمَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ الْمَرِيضَ, وَلاَ أَنْ يَشْهَدَ الْجِنَازَةَ, وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ بِمِقْدَارِ مَا يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْخُطْبَةِ, وَلَهُ أَنْ يَبْقَى فِي الْجَامِعِ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي سِتَّ رَكَعَاتٍ, فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرَ, أَوْ خَرَجَ لاَِكْثَرَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, فَإِنْ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ, أَوْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِكُلِّ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ لُبْثِهِ فِي خُرُوجِهِ لِذَلِكَ نِصْفَ يَوْمٍ فَأَقَلَّ لَمْ يَضُرَّ اعْتِكَافَهُ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ: بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
قال أبو محمد: إنَّ فِي هَذِهِ التَّحْدِيدَاتِ لَعَجَبًا وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْمَحُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يُشَرِّعَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْفَاسِدَةَ فَيَصِيرُ مُحَرِّمًا مُحَلِّلاً مُوجِبًا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ إلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ, قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ كَثُرَ أَوْ مَا جَاءَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ حَرَامٌ قَلَّ أَمَدُهُ أَوْ كَثُرَ أَوْ مَا جَاءَ النَّصُّ بِإِيجَابِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَحْدِيدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَسَمْعًا وَطَاعَةً.

(5/191)


و يعمل المعتكف في المسجد كل ما أبيح له
...
629 - مَسْأَلَةٌ: وَيَعْمَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ مَا أُبِيحَ لَهُ
مِنْ مُحَادَثَةٍ فِيمَا لاَ يَحْرُمُ, وَمِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ, وَمِنْ خِيَاطَةٍ, وَخِصَامٍ فِي حَقٍّ, وَنَسْخٍ, وَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ, وَتَزَوُّجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لاَ يَتَحَاشَ شَيْئًا, لإِنَّ الاِعْتِكَافَ: هُوَ الإِقَامَةُ كَمَا ذَكَرْنَا, فَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتْرُكْ الاِعْتِكَافَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ لاَ صَحِيحَةٍ، وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ مِنْ التَّابِعِينَ, وَلاَ قِيَاسٍ, وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وأعجب مِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ عَائِشَةُ، رضي الله عنها، تُرَجِّلُ شَعْرَهُ الْمُقَدَّسَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ, وَكُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ مَعْصِيَةً, لَكِنَّهُ إمَّا طَاعَةً وَأَمَّا سَلاَمَةً.

(5/192)


و لا يبطل الاعتكاف شيء إلا خروجه عن المسجد لغير حاجة عامدا ذاكرا
...
630 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ شَيْءٌ إلاَّ خُرُوجُهُ، عَنِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَامِدًا ذَاكِرًا,
لاَِنَّهُ قَدْ فَارَقَ الْعُكُوفَ وَتَرَكَهُ, وَمُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ التَّرْجِيلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد}. وَتَعَمُّدُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ, لإِنَّ الْعُكُوفَ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ هُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ عَلَى مَعْصِيَةٍ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعُكُوفَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَمَنْ عَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَقَدْ تَرَكَ الْعُكُوفَ عَلَى الطَّاعَةِ فَبَطَلَ عُكُوفُهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وقال مالك: الْقُبْلَةُ تُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُبْطِلُ الاِعْتِكَافَ مُبَاشَرَةٌ، وَلاَ قُبْلَةٌ إلاَّ أَنْ يَنْزِلَ, وَهَذَا تَحْدِيدٌ فَاسِدٌ, قِيَاسٌ لِلْبَاطِلِ عَلَى الْبَاطِلِ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.

(5/192)


و من عصى ناسيا أو خرج ناسيا أو مكرها أو باشر أو جامع ناسيا أو مكرها فالاعتكاف تام
...
631 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَصَى نَاسِيًا, أَوْ خَرَجَ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا, أَوْ بَاشَرَ, أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا: فَالاِعْتِكَافُ تَامٌّ
لاَ يَكْدَحُ كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا, لاَِنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ إبْطَالَ اعْتِكَافِهِ

(5/192)


و يؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه و يصعد على ظهر المسجد
...
632 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَذِّنُ فِي الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي صَحْنِهِ, وَيَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ,
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسْجِدِ, فَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يَبْطُلُ.
وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخُرُوجَ، عَنِ الْمَسْجِدِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُفَارَقَةٌ لِلْعُكُوفِ وَتَرْكٌ لَهُ, وَالتَّحْدِيدُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ خُطْوَةٍ وَخُطْوَتَيْنِ إلَى مِائَةِ أَلْفِ خُطْوَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(5/193)


و الاعتكاف جائز في كل مسجد
...
633 - مَسْأَلَةٌ: وَالاِعْتِكَافُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
جُمِعَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ أَوْ لَمْ تُجْمَعْ, سَوَاءٌ كَانَ مُسْقَفًا أَوْ مَكْشُوفًا, فَإِنْ كَانَ لاَ يُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً، وَلاَ لَهُ إمَامٌ: لَزِمَهُ فَرْضًا الْخُرُوجُ لِكُلِّ صَلاَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ تُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً إلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ بُعْدًا يَكُونُ عَلَيْهِ فِيهِ حَرَجٌ فَلاَ يَلْزَمُهُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْجَمَاعَةِ فَتَعْتَكِفُ فِيهِ، وَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ. وَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ, وَلاَ لِلرَّجُلِ: أَنْ يَعْتَكِفَا أَوْ أَحَدُهُمَا فِي مَسْجِدِ دَارِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَعَمَّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا".
قلنا: نَعَمْ, بِمَعْنَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهِ, وَإِلاَّ فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ وَالإِجْمَاعُ بِأَنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ جَائِزٌ فِيمَا عَدَا الْمَسْجِدَ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَا عَدَا الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ طَاعَةَ فِي إقَامَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَصَحَّ أَنْ لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدٍ, وَهَذَا يُوجِبُ مَا قلنا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ اعْتِكَافَ إلاَّ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(5/193)


إذا حاضت معنكفة أقامت في المسجد كما هي تذكر الله تعالى
...
634 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ أَقَامَتْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا هِيَ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى,
وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ, فَإِنَّهَا إنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ خَرَجَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ إذَا قَدَرَتْ.
لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْحَائِضَ تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ, وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهَا مِنْهُ إذْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ لَهَا مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ

(5/196)


رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا قُتَيْبَةُ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ, فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ, فَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي".

(5/197)


من مات و عليه نذر اعتكاف قضاه عنه وليه
...
635 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ اعْتِكَافٍ: قَضَاهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ,
أَوْ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ, لاَ بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
وَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْضِهِ عَنْهَا" وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ طَاعَةٍ, فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ هَلْ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ أَمْ لاَ, قَبْلَ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَضَاءِ نَذْرِ الاِعْتِكَافِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ قَالَ: "اعْتَكَفَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَخِيهَا بَعْدَ مَا مَاتَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ اعْتِكَافٌ: اعْتَكَفَ عَنْهُ وَلِيُّهُ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُطْعِمُ قَالَ: وَمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فَمَاتَ: صَلاَّهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: يَعْتَكِفُ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَيُصَلِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ إذَا نَذَرَ صَلاَةً أَوْ اعْتِكَافًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الإِطْعَامُ عَنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ

(5/197)


قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ.
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ, وَمَا لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الاِعْتِكَافِ.
وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَقَدْ خَالَفُوا هَهُنَا عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
وَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ, بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يَصِحَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ وَهُوَ صَحِيحٌ فَلَمْ يَعِشْ إثْرَ نَذْرِهِ إلاَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعَمُ عَنْهُ ثَلاَثُونَ مِسْكِينًا, وَقَدْ لَزِمَهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ. قَالَ: فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ يَوْمٌ بِلاَ لَيْلَةٍ. فَإِنْ قَالَ عَلِيٌّ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ يَوْمَانِ وَمَعَهُمَا لَيْلَتَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَتَيْنِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ يَوْمَانِ وَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ, كَمَا لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
فَهَلْ فِي التَّخْلِيطِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.

(5/198)


636 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ مُسَمَّاةٍ, أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ,
وَيَخْرُجُ إذَا غَابَ جَمِيعُ قُرْصِ الشَّمْسِ, سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ.
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ أَوْ لَيَالٍ مُسَمَّاةٍ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا: فَإِنَّهُ يَدْخُلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ.
لإِنَّ مَبْدَأَ اللَّيْلِ إثْرَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, وَتَمَامُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ, وَمَبْدَأُ الْيَوْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ, وَتَمَامُهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ كُلِّهَا, وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ إلاَّ مَا الْتَزَمَ أَوْ مَا نَوَى.
فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ أَرَادَهُ تَطَوُّعًا: فَمَبْدَأُ الشَّهْرِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَيَدْخُلُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ غُرُوبُ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ, وَيَخْرُجُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ كُلُّهَا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ, سَوَاءٌ رَمَضَانُ وَغَيْرُهُ.
لإِنَّ اللَّيْلَةَ الْمُسْتَأْنَفَةَ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ الَّذِي نَذَرَ اعْتِكَافَهُ أَوْ نَوَى اعْتِكَافَهُ.

(5/198)


فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ: دَخَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ عَشْرَ.
لإِنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً, فَلاَ يَصِحُّ لَهُ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ إلاَّ كَمَا قلنا, وَإِلاَّ فَإِنَّمَا اعْتَكَفَ تِسْعَ لَيَالٍ فَقَطْ, فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ عَلِمَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ لَيْلَةً زَائِدَةً, وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ اعْتِكَافَ اللَّيْلَةِ الآخِرَةِ لِيَفِيَ بِنَذْرِهِ, إلاَّ مَنْ عَلِمَ بِانْتِقَالِ الْقَمَرِ, فَيَدْخُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْرِي أَنَّهُ يَفِي بِنَذْرِهِ.
وَاَلَّذِي قلنا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ هَارُونَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: "اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ هُوَ الزُّبَيْدِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ, والدَّراوَرْدِيُّ, كِلاَهُمَا، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ, فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَيَسْتَقْبِلُ إحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إلَى مَسْكَنِهِ, وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ".
وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, إلاَّ أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَبْقَى يَوْمَهُ إلَى أَنْ يُمْسِيَ وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنَّهُ تَنَفُّلٌ مِنْهُ عليه السلام. وَأَمَّا أَنَّهُ عليه السلام نَوَى أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ اللَّيَالِيَ بِعَشْرَةِ أَيَّامِهَا.
وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, فَوَقَعَ فِي لَفْظِهِ تَخْلِيطٌ وَإِشْكَالٌ لَمْ يَقَعَا فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ إلاَّ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمَا فِي الْمَعْنَى.
وَهُوَ أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:

(5/199)


"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ, فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ, فَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا, وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا, فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ, وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ, فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ, وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ, فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ".
قال أبو محمد: مِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ عليه السلام يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَيُنْذِرُ بِسُجُودِهِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ, وَيَكُونَ ذَلِكَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ الَّتِي مَضَتْ.فَصَحَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي, "حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ" أَرَادَ اسْتِقْبَالَ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَبِهَذَا تَتَّفِقُ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مَعَ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ, كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ, وَرِوَايَةُ الدَّرَاوَرْدِيِّ, وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ, وَمَالِكٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُه"ُ.
قال أبو محمد: هَذَا تَطَوُّعٌ مِنْهُ عليه السلام, وَلَيْسَ أَمْرًا مِنْهُ وَمَنْ زَادَ فِي الْبِرِّ زَادَ خَيْرًا. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ وَالْمُعْتَكِفَةِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَحَدٍ خِبَاءٌ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ, ائْتِسَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب الاعتكاف وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والحمد لله رب العالمين

(5/200)


كتاب الزكاة
على من و فيما تجب الزكاة
الزكاة فرض كالصلاة هذا إجماع متيقن
...
كِتَابُ الزَّكَاةِ
637 - مَسْأَلَةٌ: الزَّكَاةُ فَرْضٌ كَالصَّلاَةِ, هَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى سَبِيلَ أَحَدٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ تَعَالَى, وَيَتُوبَ، عَنِ الْكُفْرِ, وَيُقِيمَ الصَّلاَةَ, وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ..
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ, حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ".
قال أبو محمد: وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ الزَّكَاةِ, وَمِنْ أَيِّ الأَمْوَالِ تُؤْخَذُ, وَفِي أَيِّ وَقْتٍ تُؤْخَذُ, وَمَنْ يَأْخُذُهَا, وَأَيْنَ تُوضَعُ؟

(5/201)


الزكاة فرض على الرجال و النساء الأحرار و منهم و الحرائر و العبيد و الإماء و الكبار و الصغار و العقلاء و المجانين من المسلمين
...
638 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الأَحْرَارِ مِنْهُمْ وَالْحَرَائِرُ وَالْعَبِيدُ, وَالإِمَاءُ, وَالْكِبَارُ وَالصِّغَارِ, وَالْعُقَلاَءُ, وَالْمَجَانِينُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ كَافِرٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. فَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ تَعَالَى لِكُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ, مِنْ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى: لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ, وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى طُهْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَتَزْكِيَتِهِ إيَّاهُمْ, وَكُلُّهُمْ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ،

(5/201)


حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَأَعْلِمْهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ, تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ, وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ غَنِيٍّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ وَالأَمَةُ إذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فَقَالاَ: زَكَاةُ مَالِ الْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ: لإِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَذَانِ فَقَدْ وَافَقَا أَهْلَ الْحَقِّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي: هَلْ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَالَهُ أَمْ لاَ وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ الْكَلاَمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; وَحَسْبُنَا أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ مَعَنَا فِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْعَبْدِ.
وقال مالك: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْعَبْدِ, لاَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا, لِخِلاَفِهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الْعَبْدُ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ. فَقُلْنَا: أَمَّا تَامُّ الْمِلْكِ فَكَلاَمٌ لاَ يُعْقَلُ.
لَكِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ لاَ رَابِعَ لَهَا.
إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ, وَهَذَا قَوْلُنَا, وَإِذَا كَانَ لَهُ فَهُوَ مَالِكُهُ, وَهُوَ مُسْلِمٌ, فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَيُزَكِّيهِ سَيِّدُهُ; لاَِنَّهُ مُسْلِمٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُمَا مَعًا.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لاَ لِلْعَبْدِ، وَلاَ لِلسَّيِّدِ; فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ. فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ

(5/202)


وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ الإِمَامُ, فَيَضَعُهُ حَيْثُ يَضَعُ كُلَّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ رَبٌّ. وَهَذَا لاَ يَقُولُونَ بِهِ, لاَ سِيَّمَا مَعَ تَنَاقُضِهِمْ فِي إبَاحَتِهِمْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى بِإِذْنِ سَيِّدِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَالِكٌ لِمَالِهِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْءُ فَرْجٍ لاَ يَمْلِكُهُ أَصْلاً, وَلَكَانَ زَانِيًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَالِكًا مِلْكَ يَمِينِهِ لَكَانَ عَادِيًا إذَا تَسَرَّى. وَهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ عَلَى: السَّفِيهِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يَنْفُذُ أَمْرُهُمَا فِي أَمْوَالِهِمَا; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَالِ الْعَبْدِ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
فَقُلْنَا: هَذَا الْبَاطِلُ, وَمَا رُوِيَ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ، عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ مِنْ بَيْنِ صَاحِبٍ وَتَابِعٍ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْمُكَاتَبَ: عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَصَحَّ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ; فَالزَّكَاةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاجِبَةٌ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَهَذَا مَكَانٌ تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.
وَاحْتَجَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ بَعْدُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ; لاَِنَّهُمَا مُجْمِعَانِ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَلْسًا بِغَيْرِ إذْنِهِ, أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ; ، وَأَنَّ مَالَهُ بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ, مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ, وَكِسْوَةٍ, وَبَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ, تَصَرُّفَ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ; فَلَوْلاَ أَنَّهُ مَالُهُ وَمِلْكُهُ مَا حَلَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِيهِ.
وَهُمْ كَثِيرًا يُعَارِضُونَ السُّنَنَ بِأَنَّهَا خِلاَفُ الآُصُولِ, كَقَوْلِهِمْ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَحَدِيثِ الْعِتْقِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ بِالْقُرْعَةِ وَحَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, فَلَيْتَ شِعْرِي. فِي أَيِّ الآُصُول وَجَدُوا مَالاً مَحْكُومًا بِهِ لاِِنْسَانٍ مَمْنُوعًا مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ مُطْلَقَةً عَلَيْهِ يَدُهُ فِي بَيْعٍ وَابْتِيَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى; وَهُوَ لَيْسَ لَهُ. أَمْ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَجَدُوا هَذَا. أَمْ فِي أَيِّ الْقُرْآنِ. أَمْ فِي غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَمِمَّنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ: أَبُو ثَوْرٍ, وَغَيْرُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ; وَالشَّافِعِيَّ: مُجْمِعَانِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ, عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ; فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطَا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِهِ دُونَ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ.
وَأَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِ الْمُكَاتَبِ, وَمَالِ الْعَبْدِ.

(5/203)


وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتَبُ, فَمَالُهُ لَهُ وَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَنْ يَرِقَّ, فَمَالُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ كَانَ عِنْدَهُمَا لِسَيِّدِهِ; فَزَكَاتُهُ عَلَى السَّيِّدِ.
وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِرِوَايَاتٍ رُوِيَتْ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رضي الله عنهم، لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ, وَالْمُكَاتَبُ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ فَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَاتِ, فَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا بَعْضُهُ حُجَّةٌ وَبَعْضُهُ خَطَأٌ; فَهَذَا هُوَ التَّحَكُّمُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ: قَدْ خَالَفَ مَنْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ هُوَ التُّسْتَرِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَنِي جَابِرٌ الْحَذَّاءُ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ قُلْت عَلَى الْمَمْلُوكِ زَكَاةٌ. قَالَ: أَلَيْسَ مُسْلِمًا. قُلْت: بَلَى; قَالَ: فَإِنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ.
فَالزَّكَاةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ: لاُِقَاتِلَنِّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ. وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ عَلَى مَا أَوْجَبَهُمَا النَّصُّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ:، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْعَبْدُ.

(5/204)


وَبِهِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ:، أَنَّهُ قَالَ فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ, قَالَ: يُزَكِّيهِ الْمَمْلُوكُ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ حُجَيْرٍ: أَنَّ طَاوُوسًا كَانَ يَقُولُ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ الْمُرَادِيُّ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَمْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فِي مَالِ الْعَبْدِ زَكَاةٌ.
وَبِهِ إلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا غُنْدَرٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعَبْدِ هَلْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ صَلاَةٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا نَحْوَ هَذَا، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
قال أبو محمد: وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, كَقَوْلِهِمَا جَمِيعًا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَالُ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ; فَإِنَّ مَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ بِقَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ, وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِ.
وقال أبو حنيفة: لاَ زَكَاةَ فِي أَمْوَالِهِمَا مِنْ النَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ خَاصَّةً, وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ثِمَارِهِمَا وَزُرُوعِهِمَا.
وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَهُ إلَى هَذَا التَّقْسِيمِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ زَكَاةَ فِي ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ وَالْمَوَاشِي فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَشُرَيْحٌ, فَقَالاَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالِهِ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَسَقَطُ كَلاَمٍ وَأَغَثُّهُ لَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَوْ أَنَّ عَاكِسًا عَكَسَ قَوْلَهُمْ, فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي ذَهَبِهِمَا وَفِضَّتِهِمَا وَمَاشِيَتِهِمَا وَأَسْقَطَهَا، عَنْ زَرْعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا, أَكَانَ يَكُونُ بَيْنَ

(5/205)


التَّحَكُّمَيْنِ فَرْقٌ فِي الْفَسَادِ.
قال أبو محمد: إنْ مَوَّهَ مُمَوِّهٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لاَ صَلاَةَ عَلَيْهِمَا.
قِيلَ لَهُ: قَدْ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلاَةُ وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّلاَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ذِي الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ; فَإِنْ سَقَطَ الْمَالُ: سَقَطَتْ الزَّكَاةُ, وَلَمْ تَسْقُطْ الصَّلاَةُ; وَإِنْ سَقَطَ الْعَقْلُ أَوْ الْبُلُوغُ: سَقَطَتْ الصَّلاَةُ وَلَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ; لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ يَسْقُطُ فَرْضٌ مِنْ أَجْلِ سُقُوطِ فَرْضٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ, بِلاَ نَصِّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ أَسْقَطُوا الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ; لِسُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنْهُمَا, وَلاَِنَّهُمَا لاَ يَحْتَاجَانِ إلَى طَهَارَةٍ فَلِيُسْقِطَاهَا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا مِنْ زَرْعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَلاَ فَرْقَ; وَلِيُسْقِطَا أَيْضًا عَنْهُمَا زَكَاةَ الْفِطْرِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ.
فَإِنْ قَالُوا: النَّصُّ جَاءَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ.
قلنا: وَالنَّصُّ جَاءَ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ, فَأَسْقَطْتُمُوهَا، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ بِآرَائِكُمْ, وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ, إذْ لَمْ يَقِيسُوا زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ وَالنَّاضِّ عَلَى زَكَاةِ الزَّرْعِ, وَالْفِطْرِ أَوْ فَلْيُوجِبُوهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ; لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ, وَلاَ فَرْقَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الأَرْضِ, يَجِبُ بِأَوَّلِ خُرُوجِهِمَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ كَذَبَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ وُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَوَاشِي مِنْ حِينِ اكْتِسَابِهَا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَيْنَ وُجُوبِهِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إلَى حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِيهَا, وَالزَّكَاةُ سَاقِطَةٌ بِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ، عَنْ يَدِ مَالِكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ, وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ. وَإِنَّمَا

(5/206)


الْحَقُّ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لاَ عَلَى الأَرْضِ, وَلاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ أَصْلاً, إنَّمَا هِيَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}. فَظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ وَفَسَادُ قَوْلِهِ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ كَانَتْ الزَّكَاةُ عَلَى الأَرْضِ لاَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ لَوَجَبَ أَخْذُهَا فِي مَالِ الْكَافِرِ مِنْ زَرْعِهِ وَثِمَارِهِ, فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى النِّسَاءِ كَهِيَ عَلَى الرِّجَالِ.
وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَرَضُونَ كَثِيرَةٌ لاَ حَقَّ فِيهَا مِنْ زَكَاةٍ، وَلاَ مِنْ خَرَاجٍ كَأَرْضِ مُسْلِمٍ جَعَلَهَا قَصَبًا وَهِيَ تُغِلُّ الْمَالَ الْكَثِيرَ, أَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا شَيْئًا, وَكَأَرْضِ ذِمِّيٍّ صَالَحَ عَلَى جِزْيَةٍ رَأْسِهِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَأَشْهَبُ, وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ الْخَرَاجِيَّ الْكَافِرَ إذَا ابْتَاعَ أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ خَرَاجَ فِيهَا، وَلاَ عُشْرَ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ بِالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ كَانَتْ لَهُمَا أَرَضُونَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عليه السلام فِيهَا عُشْرًا، وَلاَ خَرَاجًا.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثَةٍ" فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ, وَالْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ
قلنا: فَأَسْقَطُوا عَنْهُمَا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ, وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ, الَّتِي هِيَ سَاقِطَةٌ بِهَا بِلاَ شَكٍّ, وَلَيْسَ فِي سُقُوطِ الْقَلَمِ سُقُوطُ حُقُوقِ الأَمْوَالِ, وَإِنَّمَا فِيهِ سُقُوطُ الْمَلاَمَةِ, وَسُقُوطُ فَرَائِضِ الأَبْدَانِ فَقَطْ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قَالُوا لاَ نِيَّةَ لِمَجْنُونٍ, وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ, وَالْفَرَائِضُ لاَ تُجْزِئُ إلاَّ بِنِيَّةٍ.
قلنا: نَعَمْ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَخْذِهَا الإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ, بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَإِذَا أَخَذَهَا مَنْ أُمِرَ بِأَخْذِهَا بِنِيَّةِ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ أَجْزَأَتْ، عَنِ الْغَائِبِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ, وَمَنْ لاَ نِيَّةَ لَهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَحْفُوظَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ

(5/207)


الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَمِعُوا الْقَاسِمَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يَقُولُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُزَكِّي أَمْوَالَنَا وَنَحْنُ أَيْتَامٌ فِي حِجْرِهَا; زَادَ يَحْيَى: وَإِنَّهُ لِيَتَّجِرَ بِهَا فِي الْبَحْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ هُوَ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ عِنْدِي مَالَ يَتِيمٍ قَدْ كَادَتْ الصَّدَقَةُ أَنْ تَأْتِيَ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَلِي مَالَ الْيَتِيمِ, قَالَ: يُعْطِي زَكَاتَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: بَاعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَرْضًا لَنَا بِثَمَانِينَ أَلْفًا, وَكُنَّا يَتَامَى فِي حِجْرِهِ; فَلَمَّا قَبَضْنَا أَمْوَالَنَا نَقَصَتْ. فَقَالَ: إنِّي كُنْت أُزَكِّيهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: احْصِ مَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ زَكَاةٍ, فَإِذَا بَلَغَ, فَإِنْ آنَسْت مِنْهُ رُشْدًا فَأَخْبِرْهُ, فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ إلاَّ رِوَايَةً ضَعِيفَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ.
وَقَدْ حدثنا حمام، عَنِ ابْنِ مُفَرِّجٍ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ، عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتِيمِ لاَ تَأْكُلْهُ الزَّكَاةُ".
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا الْمُرْسَلَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(5/208)


لا يجوز أخذ الزكاة من كافر
...
639- مَسْأَلَةٌ– ولا يجوز الزكاة من كافر.
قال أبو محمد: هي واجبة عليه وهو معذب علي منعها, إلا أنها لا تجزيء عنه إلا أن

(5/208)


يسلم وكذلك العلاة ولافرق, فاذا اسلم فقد تفضل عز وجل باسقاط ما سلف عنه من كل ذلك قال الله تعالي: {عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وقال تعالي: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
قال ابو محمد: ولا خلاف في كل هذا, الا في وجوب الشرائع علي الكفار, فان طائفة عندت عن القان والسنن, وخالفوا في ذلك.

(5/209)


640 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إلاَّ فِي ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ مِنْ الأَمْوَالِ فَقَطْ وَهِيَ:
الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ, وَالْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالتَّمْرُ, وَالإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا وَمَاعِزُهَا فَقَطْ.
قال أبو محمد: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الأَنْوَاعِ, وَفِيهَا جَاءَتْ السُّنَّةُ, عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; وَاخْتَلَفُوا فِي أَشْيَاءَ مِمَّا عَدَاهَا.

(5/209)


لا زكاة في شيء من الثمار و لا من الزرع و لا شيء من المعادن غير ما ذكرنا
...
641 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ, وَلاَ مِنْ الزَّرْعِ, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَادِنِ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ فِي الْخَيْلِ, وَلاَ فِي الرَّقِيقِ, وَلاَ فِي الْعَسَلِ, وَلاَ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ, لاَ عَلَى مُدِيرٍ، وَلاَ غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمْ الزَّكَاةَ فِيهَا, وَلَمْ يُوجِبْهَا بَعْضُهُمْ وَاتَّفَقُوا فِي أَصْنَافٍ سِوَى هَذِهِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهَا.
فَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ كُلُّ مَا اُكْتُسِبَ لِلْقُنْيَةِ لاَ لِلتِّجَارَةِ, مِنْ جَوْهَرٍ, وَيَاقُوتٍ, وَوِطَاءٍ, وَغِطَاءٍ, وَثِيَابٍ, وَآنِيَةِ نُحَاسٍ; أَوْ حَدِيدٍ, أَوْ رَصَاصٍ, أَوْ قَزْدِيرٍ, وَسِلاَحٍ, وَخَشَبٍ, وَدُرُوعٍ وَضِيَاعٍ, وَبِغَالٍ, وَصُوفٍ, وَحَرِيرٍ; وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كُلُّ مَا عُمِلَ مِنْهُ خُبْزٌ أَوْ عَصِيدَةٌ: فَفِيهِ الزَّكَاةُ; وَمَا لَمْ يُؤْكَلْ إلاَّ تَفَكُّهًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

(5/209)


لا زكاة في تمر و لا بر و لا شعير حتى يبلغ ما يصيبه المرء الواحد من الصنف الواحد منها خمسة أوسق
...
642 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي تَمْرٍ, وَلاَ بُرٍّ, وَلاَ شَعِيرٍ: حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُصِيبُهُ الْمَرْءُ الْوَاحِدُ مِنْ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ; وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا; وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالْمُدُّ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ إلَى رَطْلٍ وَرُبْعٍ عَلَى قَدْرِ رَزَانَةِ الْمُدِّ وَخِفَّتِهِ, وَسَوَاءٌ زَرَعَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ فِي أَرْضٍ لِغَيْرِهِ بِغَصْبِ أَوْ بِمُعَامَلَةٍ جَائِزَةٍ, أَوْ غَيْرِ جَائِزَةٍ, إذَا كَانَ النَّذْرُ غَيْرَ مَغْصُوبٍ, سَوَاءٌ أَرْضَ خَرَاجٍ كَانَتْ أَوْ أَرْضَ عُشْرٍ.
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ, وَبِهِ يَقُولُ: مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: يُزَكَّى مَا قَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا كَثُرَ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ فَلاَ زَكَاةَ

(5/240)


فِيمَا أُصِيبَ فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ مُسْتَأْجَرَةً فَالزَّكَاةُ عَلَى رَبِّ الأَرْضِ لاَ عَلَى الزَّارِعِ, فَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ, فَإِنْ قُضِيَ لِصَاحِبِ الأَرْضِ بِمَا نَقَصَهَا الزَّرْعَ فَالزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ, وَإِنْ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِشَيْءٍ فَالزَّكَاةُ عَلَى الزَّارِعِ قَالَ: وَالْمُدُّ رَطْلاَنِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ خَالَفَ فِيهَا الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ ثَمَرٍ صَدَقَةٌ".
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَخْطَأَ فِي هَذَا, لاَِنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذَا الْخَبَرَ وَعَصَى الآخَرَ وَهَذَا لاَ يَحِلُّ.
وَنَحْنُ أَطَعْنَا مَا فِي الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا, وَهُوَ قَدْ خَالَفَ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا, إذْ خَصَّ مِمَّا سَقَتْ السَّمَاءُ كَثِيرًا بِرَأْيِهِ, كَالْقَصَبِ, وَالْحَطَبِ, وَالْحَشِيشِ, وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَمَا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ, وَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَلِفَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُطَاقُ كَمَا قَدَّمْنَا وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ مَا أُصِيبَ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ, وَهَذِهِ تَخَالِيطُ لاَ نَظِيرَ لَهَا.
وَأَمَّا أَبُو سُلَيْمَانَ فَقَالَ: مَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَمَا كَانَ لاَ يَحْتَمِلُ التَّوْسِيقَ فَالزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ قَبْلُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَاحِبُ قِيَاسٍ, وَهُوَ لَمْ يَرَ فِيمَا يُزَكَّى شَيْئًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَهَلاَّ قَاسَ الزَّرْعَ عَلَى الْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ. فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعَ, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدَ.
وَأَمَّا الْمُدُّ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَعَ الأَثَرِ الصَّحِيحِ فِي أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ شَرِيكًا مُطَّرِحٌ, مَشْهُورٌ بِتَدْلِيسِ الْمُنْكَرَاتِ إلَى الثِّقَاتِ, وَقَدْ أَسْقَطَ حَدِيثَهُ الإِمَامَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ; وَتَاللَّهِ لاَ أَفْلَحَ مَنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْجُرْحَةِ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لاَ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّ رَطْلاَنِ, وَقَدْ صَحَّ

(5/241)


أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِثُلُثَيْ الْمُدِّ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ يُعَيِّرُ لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ لاَ يَزِيدُ، وَلاَ يَنْقُصُ.
أَيْضًا فَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ رَطْلاَنِ", مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ أَقَلُّ, وَهُمْ أَوَّلُ مُوَافِقٍ لَنَا فِي هَذَا, فَمَنْ تَوَضَّأَ عِنْدَهُمْ بِنِصْفِ رِطْلٍ أَجْزَأَهُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الأَثَرِ.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ: كُنْت عِنْدَ مُجَاهِدٍ فَأَتَى بِإِنَاءٍ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ تِسْعَةَ أَرْطَالٍ, عَشَرَةَ أَرْطَالٍ, فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا", مَعَ الأَثَرِ الثَّابِتِ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ مُوسَى قَدْ شَكَّ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ إلَى عَشَرَةٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاعَ يَزِيدُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ، وَلاَ فَلْسًا.
وَأَيْضًا فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام اغْتَسَلَ هُوَ وَعَائِشَة، رضي الله عنها، جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ يَسَعُ ثَلاَثَةَ أَمْدَادٍ; وَأَيْضًا مِنْ إنَاءٍ هُوَ الْفَرْقُ, وَالْفَرْقُ: اثْنَا عَشَرَ مُدًّا, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ أَمْدَادٍ, وَأَيْضًا بِخَمْسَةِ مَكَاكِيَّ. وَكُلُّ هَذِهِ الآثَارِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَالإِسْنَادِ الْوَثِيقِ الثَّابِتِ الْمُتَّصِلِ, وَالْخَمْسَةُ مَكَاكِيَّ: خَمْسُونَ مُدًّا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُعَيِّرْ لَهُ الْمَاءَ لِلْغُسْلِ بِكَيْلٍ كَكَيْلِ الزَّيْتِ, وَلاَ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ بِإِنَاءَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ بَلْ قَدْ تَوَضَّأَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَر بِلاَ مُرَاعَاةٍ لِمِقْدَارِ الْمَاءِ. هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا التَّحْدِيدِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ اغْتَسَلَ نِصْفَ صَاعٍ لاََجْزَأهُ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآثَارِ الْوَاهِيَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَتَيْنِ وَاهِيَتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّ الْقَفِيزَ الْحَجَّاجِيَّ قَفِيزُ عُمَرَ أَوْ صَاعُ عُمَرَ.

(5/242)


وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْقَفِيزُ الْحَجَّاجِيُّ صَاعُ عُمَرَ.
وَبِرِوَايَةٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: عَيَّرْنَا صَاعَ عُمَرَ فَوَجَدْنَاهُ حَجَّاجِيًّا. وَبِرِوَايَةٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: "كَانَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ, وَمُدُّهُ رَطْلَيْنِ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ, وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ.
أَمَّا حَدِيثُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ فَبَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَبَيْنَهُ مَنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ; وَمُجَالِدٌ ضَعِيفٌ, أَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا انْتَفَعُوا بِهِ; لاَِنَّنَا لَمْ نُنَازِعْهُمْ فِي صَاعِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَلاَ فِي قَفِيزِهِ, إنَّمَا نَازَعْنَاهُمْ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَسْنَا نَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ لِعُمَرَ: صَاعٌ, وَقَفِيزٌ, وَمُدٌّ. رَتَّبَهُ لاَِهْلِ الْعِرَاقِ لِنَفَقَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ; كَمَا بِمِصْرَ الْوَيْبَةُ وَالإِرْدَبُّ; وَبِالشَّامِ الْمُدُّ وَكَمَا كَانَ لِمَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلِهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ مُدٌّ اخْتَرَعَهُ, وَلاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُ إبْرَاهِيمَ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُدِّهِ: فَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ فِي الرَّغْبَةِ عَنْهُمَا إذَا خَالَفَا الصَّوَابَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيّ، حدثنا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ, فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ".
وَرُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي مَكِيلَةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالْمُدِّ الأَصْغَرِ مُدُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْهُ أَيْضًا فِي زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالزَّيْتُونِ بِالصَّاعِ الأَوَّلِ صَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(5/243)


وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ بِمُدِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُدِّ الأَوَّلِ.
فَصَحَّ أَنَّ بِالْمَدِينَةِ صَاعًا, وَمُدًّا غَيْرَ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلَوْ كَانَ صَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَا نُسِبَ إلَى عُمَرَ أَصْلاً دُونَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ, وَلاَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا دُونَ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ مُدَّ هِشَامٍ إنَّمَا رَتَّبَهُ هِشَامٌ, وَأَنَّ صَاعَ عُمَرَ إنَّمَا رَتَّبَهُ عُمَرُ. هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ صَاعٌ يُقَالُ لَهُ "صَاعُ عُمَرَ" فَإِنَّ صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّهُ مَنْسُوبَانِ إلَيْهِ لاَ إلَى غَيْرِهِ, بَاقِيَانِ بِحَسَبِهِمَا.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الصَّاعِ الْحَجَّاجِيِّ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ: صَاعِي هَذَا صَاعُ عُمَرَ أَعْطَتْنِيهِ عَجُوزٌ بِالْمَدِينَةِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِرِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فَرِوَايَتُهُ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, وَهَذَا أَصْلُ صَاعِ الْحَجَّاجِ, فَلاَ كَثُرَ، وَلاَ طِيبَ، وَلاَ بُورِكَ فِي الْحَجَّاجِ، وَلاَ فِي صَاعِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: الصَّاعُ يَزِيدُ عَلَى الْحَجَّاجِيِّ مِكْيَالاً.
فَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الْبَاطِلِ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ, قَالَ إِسْحَاقُ، عَنِ الْمُلاَئِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمِكْيَالُ

(5/244)


عَلَى مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَالْوَزْنُ عَلَى وَزْنِ أَهْلِ مَكَّةَ".
فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ مِكْيَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِقْدَارِهِ عِنْدَهُمْ, وَلاَ عَنْ مَوَازِينِ أَهْلِ مَكَّةَ, وَوَجَدْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لاَ يَخْتَلِفُ مِنْهُمْ اثْنَانِ فِي أَنَّ مُدَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بِهِ تُؤَدَّى الصَّدَقَاتُ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ رَطْلٍ وَنِصْفٍ, وَلاَ أَقَلَّ مِنْ رَطْلٍ وَرُبْعٍ". وقال بعضهم: رَطْلٌ وَثُلُثٌ, وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلاَفًا; لَكِنَّهُ عَلَى حَسَبِ رَزَانَةِ الْمَكِيلِ مِنْ الْبُرِّ, وَالتَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: "أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ الصَّدَقَاتِ: رَطْلٌ وَنِصْفٌ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: صَاعُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَهُوَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي أَنَّهُ عَيَّرَ مُدَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِنْطَةِ فَوَجَدَهَا رَطْلاً وَثُلُثًا فِي الْبُرِّ, قَالَ: وَلاَ يَبْلُغُ مِنْ التَّمْرِ هَذَا الْمِقْدَارُ.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَسْعُودٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ دُحَيْمٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: دَفَعَ إلَيْنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ الْمُدَّ, وَقَالَ هَذَا مُدُّ مَالِكٍ, وَهُوَ عَلَى مِثَالِ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْت بِهِ إلَى السُّوقِ, وَخُرِطَ لِي عَلَيْهِ مُدٌّ وَحَمَلْته مَعِي إلَى الْبَصْرَةِ, فَوَجَدْته نِصْفَ كَيْلَجَةٍ بِكَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ, يَزِيدُ عَلَى كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ شَيْئًا يَسِيرًا خَفِيفًا, إنَّمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالرُّجْحَانِ الَّذِي لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الأَجْزَاءِ, وَنِصْفُ كَيْلَجَةِ الْبَصْرَةِ هُوَ رُبْعُ كَيْلَجَةِ بَغْدَادَ فَالْمُدّ: رُبْعُ الصَّاعِ, وَالصَّاعُ مِقْدَارُ كَيْلَجَةٍ بَغْدَادِيَّةٍ يَزِيدُ الصَّاعُ عَلَيْهَا شَيْئًا يَسِيرًا.
قال أبو محمد: وَخُرِطَ لِي مُدٌّ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُدِّ الْمُتَوَارَثِ عِنْدَ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ

(5/245)


وَهُوَ عِنْدَ أَكْبَرِهِمْ لاَ يُفَارِقُ دَارِهِ, أُخْرِجُهُ إلَى ثِقَتِي الَّذِي كَلَّفْته ذَلِكَ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مُدُّ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَبِي جَدِّهِ أَخَذَهُ وَخَرَطَهُ عَلَى مُدِّ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ, وَأَخْبَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّهُ خَرَطَهُ عَلَى مُدِّ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, الَّذِي أَعْطَاهُ إيَّاهُ ابْنُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى, وَخَرَطَهُ يَحْيَى عَلَى مُدِّ مَالِكٍ, وَلاَ أَشُكُّ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ صَحَّحَهُ أَيْضًا عَلَى مُدِّ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ بِالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ كِلْته بِالْقَمْحِ الطَّيِّبِ, ثُمَّ وَزَنْته فَوَجَدَتْهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ رَطْلٍ بِالْفُلْفُلِيِّ, لاَ يَزِيدُ حَبَّةً, وَكِلْته بِالشَّعِيرِ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالطَّيِّبِ; فَوَجَدْتُهُ رَطْلاً وَاحِدًا وَنِصْفَ أُوقِيَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ مَنْقُولٌ نَقْلَ الْكَافَّةِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ, وَصَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ, وَعَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ, وَحَرَائِرِهِمْ وَإِمَائِهِمْ, كَمَا نَقَلَ أَهْلُ مَكَّةَ مَوْضِعَ الصَّفَا, وَالْمَرْوَةِ, وَالاِعْتِرَاضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ كَالْمُعْتَرِضِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَوْضِعِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَمَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَقِيعِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الدِّيَانَةِ وَالْمَعْقُولِ.
قال أبو محمد: وَبَحَثْت أَنَا غَايَةَ الْبَحْثِ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وَثِقْت بِتَمْيِيزِهِ, فَكُلٌّ اتَّفَقَ لِي عَلَى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ: اثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاَثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ بِالْحَبِّ مِنْ الشَّعِيرِ الْمُطْلَقِ, وَالدِّرْهَمَ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الْمِثْقَالِ; فَوَزْنُ الدِّرْهَمِ الْمَكِّيِّ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ حَبَّةً وَسِتَّةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ وَعُشْرُ حَبَّةٍ, فَالرَّطْلُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاحِدَةٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالدِّرْهَمِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَوَقَفَ عَلَى أَمْدَادِ أَهْلِهَا.
وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ الْوَسْقُ; لاَِنَّهُ مِنْ وَسْقِ الْبَعِيرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا طَرِيفٌ فِي الْهُوجِ جِدًّا وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَهَلاَّ قَالَ: لاَِنَّهُ وَسْقُ الْحِمَارِ.
ثُمَّ أَيْضًا فَإِنَّ الْوِسْقَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ عِنْدَهُمْ: سِتَّةَ عَشَرَ رُبْعًا بِالْقُرْطُبِيِّ, وَحِمْلُ الْبَعِيرِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْمِقْدَارِ بِنَحْوِ نِصْفِهِ.
وَأَمَّا إسْقَاطُهُمْ الزَّكَاةَ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ مِنْ بُرٍّ, وَتَمْرٍ, وَشَعِيرٍ; فَفَاحِشٌ جِدًّا, وَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ. وَإِسْقَاطٌ لِلزَّكَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ.

(5/246)


وَمَوَّهُوا فِي هَذَا بِطَوَامَّ, مِنْهَا: أَنْ قَالَ قَائِلُهُمْ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَمْوِيهٌ بَارِدٌ; لإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه إنَّمَا ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ, وَلاَ زَكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. فَإِنْ ادَّعَى: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ الزَّكَاةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَقَدْ كَذَبَ جِدًّا, وَلاَ يَجِدُ هَذَا أَبَدًا; وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ عُمَرَ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ كَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ عَنْهُمْ، وَلاَ فَرْقَ.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا, وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّيْهَا وَدِينَارَهَا, وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا, وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ", شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ, قَالُوا: فَأَخْبَرَ عليه السلام بِمَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ, وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّ فِيهَا زَكَاةً; وَلَوْ كَانَ فِيهَا زَكَاةٌ لاََخْبَرَ بِهَا.
قال أبو محمد: مِثْلُ هَذَا لَيْسَ لاِِيرَادِهِ وَجْهٌ; إلاَّ لِيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى مَنْ سَمِعَهُ عَلَى خَلاَصِهِ مِنْ عَظِيمِ مَا اُبْتُلُوا بِهِ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ, وَمُعَارَضَةِ الْحَقِّ بِأَغَثِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَلاَمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ مَعْقُولٍ وَجَدُوا أَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهِيَ سَاقِطَةٌ. وَهَلْ يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ التَّمْيِيزِ. وَهَلْ بَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ لاَِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَرْقٌ, وَبَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الصَّلاَةَ وَالْحَجَّ لاَِنَّهُمَا لَمْ يُذْكَرَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بِهَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ مَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَرَضِينَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ هَذَا فَهُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا كَانَ فِي ذَلِكَ إسْقَاطُ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ أَهْلِهَا. وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ انْتَظَمَ ذِكْرَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا, نَعَمْ, وَلاَ سُورَةٌ أَيْضًا.
وَإِنَّمَا قَصَدَ عليه السلام فِي هَذَا الْحَدِيثِ الإِنْذَارَ بِخَلاَءِ أَيْدِي الْمُفْتَتِحِينَ لِهَذِهِ الْبِلاَدِ مِنْ أَخْذِ طَعَامِهَا وَدَرَاهِمِهَا وَدَنَانِيرِهَا فَقَطْ; وَقَدْ ظَهَرَ مَا أَنْذَرَ بِهِ عليه السلام.
وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا زَعَمُوا; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ, وَكَانَ أَرْبَابُ أَرَاضِي الشَّامِ, وَمِصْرَ, وَالْعِرَاقِ مُسْلِمِينَ; فَمَنْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ كَمَا

(5/247)


بَدَءُوا وَمِنْ الْمَانِعِ مَا ذَكَرَ مَنْعَهُ. هَذَا تَخْصِيصٌ مِنْهُمْ بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ, وَلَوْ قِيلَ لَهُمْ: بَلْ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ وَبُطْلاَنِهِ, إذْ لَوْ كَانَ فِيهَا خَرَاجٌ لَذَكَرَهُ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ أَيْضًا إسْقَاطُهُمْ الْجِزْيَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ فَأَسْقَطُوا فَرْضَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الإِسْلاَمِ بِرَأْيِ صَاحِبٍ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَخَالَفُوا ذَلِكَ الصَّاحِبَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الْجِزْيَةِ مَعَ الْخَرَاجِ; فَمَرَّةً يَكُونُ فِعْلُهُ حُجَّةً يُخَالِفُ بِهَا الْقُرْآنَ, وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَاذِبُونَ عَلَيْهِ, فَمَا رُوِيَ عَنْهُ قَطُّ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ; وَمَرَّةً لاَ يَرَوْنَهُ حُجَّةً أَصْلاً وَمَعَهُ الْحَقُّ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ.
قِيلَ لَهُمْ: وَالصَّحَابَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ قَبْلَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَرَاجِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِنْ إيجَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إذَا مَلَكَهَا, وَإِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنْهُ, وَإِيجَابُهُ الزَّكَاةَ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا مَلَكَا أَرْضَ الْعُشْرِ, وَإِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَنْهُمَا وَفَاعِلُ هَذَا مُتَّهَمٌ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ.
وَقَالُوا: لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
قال أبو محمد: كَذَبُوا وَأَفِكُوا بَلْ تَجْتَمِعُ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَلَوْ أَنَّهَا أَلْفُ حَقٍّ, وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ حَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ; وَهُمْ يُوجِبُونَ الْخُمْسَ فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّكَاةِ أَيْضًا; إمَّا عِنْدَ الْحَوْلِ,وَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ كَانَ بَلَغَ حَوْلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ; وَيُوجِبُونَ أَيْضًا الْخَرَاجَ فِي أَرْضِ الْمَعْدِنِ إنْ كَانَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَغْلِيبُهُمْ الْخَرَاجَ عَلَى الزَّكَاةِ فَأَسْقَطُوهَا بِهِ, ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمَاشِيَةِ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; ثُمَّ غَلَّبُوا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ, فَأَسْقَطُوهَا بِهَا; فَمَرَّةً رَأَوْا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْكَدَ مِنْ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ,

(5/248)


وَمَرَّةً رَأَوْا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَوْلَى مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.
وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يَرَى أَنْ يُزَكَّى مَا زُرِعَ لِلتِّجَارَةِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لاَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةِ. وَذَكَرْنَا هَذَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا فِي ذَلِكَ إجْمَاعًا, فَهَذَا أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّ تَنَاقُضَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ لَظَاهِرٍ فِي إسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ، عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِبْقَائِهِمْ إيَّاهَا مَعَ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَاقَضَ الْحَنِيفِيُّونَ إذْ أَثْبَتُوا الإِجَارَةَ وَالزَّكَاةَ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَابْنُ أَبِي لَيْلَى, وَابْنُ شُبْرُمَةَ, وَشُرَيْكٌ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ, وَأَحْمَدُ: إنْ فَضَلَ بَعْدَ الْخَرَاجِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ تَمْوِيهِهِمْ بِالثَّابِتِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ إذْ أَسْلَمَتْ دِهْقَانَةُ نَهَرَ الْمَلِكِ إنْ اخْتَارَتْ أَرْضَهَا أَوْ أَدَّتْ مَا عَلَى أَرْضِهَا فَخَلُّوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِهَا, وَإِلاَّ فَخَلُّوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْضِهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُ هَذَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ إنْكَارُ الدُّخُولِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لِلْمُسْلِمِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ عَقَلَ ذُو عَقْلٍ قَطُّ أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا إسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَمَّا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. وَهَذَا مَكَانٌ لاَ يُقَابَلُ إلاَّ بِالتَّعَجُّبِ, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ" فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الرَّافِعِ لاَ عَلَى الأَرْضِ إجْمَاعُ الآُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ الَّذِي أَصَابَ فِي تِلْكَ الأَرْضِ لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ; وَلَمْ

(5/249)


يَجُزْ إجْبَارُهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مِنْ عَيْنِ مَا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ. فَصَحَّ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ الرَّافِعِ; لاَ فِي الأَرْضِ.

(5/250)


و كذلك ما أصيب في الأرض المغصوبة إذا كان البذر للغاصب و دليل ذلك
...
643 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ فِي الأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ لِلْغَاصِبِ;
لإِنَّ غَصْبَهُ الأَرْضِ لاَ يُبْطِلُ مِلْكَهُ، عَنْ بَذْرِهِ; فَالْبَذْرُ إذَا كَانَ لَهُ فَمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ فَلَهُ; وَإِنَّمَا عَلَيْهِ حَقُّ الأَرْضِ فَقَطْ; فَفِي حِصَّتِهِ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَمِلْكٌ صَحِيحٌ.
وَكَذَلِكَ الأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ, أَوْ الْمَأْخُوذَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا, أَوْ الْمَمْنُوحَةُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ".
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مَغْصُوبًا فَلاَ حَقَّ لَهُ، وَلاَ حُكْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ; سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِهِ نَفْسِهِ أَمْ فِي غَيْرِهَا, وَهُوَ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ غَاصِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا أَخَذَهُ بِالْبَاطِلِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ بَذْرٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَكْلُهُ, وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ بِلاَ خِلاَفٍ, وَلَيْسَ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِمُبِيحٍ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ "الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ".
فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ وَرَدَ فِي عَبْدٍ بِيعَ بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ; وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلاَلِ, لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا; فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلاَدَ الْمَغْصُوبَةِ مِنْ الإِمَاءِ وَالْحَيَوَانِ لِلْغَاصِبِ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ.

(5/250)


إذا بلغ الصنف الواحد من البر أو التمر أو الشعير خمسة أوسق فصاعدا الخ
...
644 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ - مِنْ الْبُرِّ, أَوْ التَّمْرِ, أَوْ الشَّعِيرِ – خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا,
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ, أَوْ عَيْنٍ, أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَإِنْ كَانَ يُسْقَى بِسَاقِيَةٍ, أَوْ نَاعُورَةٍ, أَوْ دَلْوٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ, فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ - مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ, أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ, وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ قَوْلِهِ عليه السلام: "وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ, مِنْ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ".
فَصَحَّ أَنَّ مَا نَقَصَ عَنِ الْخَمْسَةِ الأَُوْسُقِ نُقْصَانًا - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ تَغْلِيبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَبَرَ: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ", عَلَى حَدِيثِ الأَُوْسُقِ الْخَمْسَةِ, وَغَلَّبَ قَوْلَهُ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقِيَّ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ, وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةٌ" عَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", وَعَلَى قَوْلِهِ عليه السلام: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا" وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق