الكتاب
:3.
المحلى |
لا
يضم قمح إلى شعير و لا تمر إليهما
...
645 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يُضَمُّ قَمْحٌ إلَى شَعِيرٍ, وَلاَ تَمْرٌ إلَيْهِمَا.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ, وَأَبُو يُوسُفَ: يُضَمُّ كُلُّ مَا أَخْرَجَتْ
الأَرْضُ: مِنْ الْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ وَالآُرْزُ, وَالذُّرَةِ, وَالدَّخَنِ,
وَجَمِيعِ الْقَطَانِيِّ, بَعْضُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ
كُلِّ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا ذَكَرْنَا, وَإِلاَّ
فَلاَ.
وقال مالك: الْقَمْحُ, وَالشَّعِيرُ, وَالسُّلْتُ: صِنْفٌ وَاحِدٌ, يُضَمُّ
بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ, فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا
خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ; وَيُجْمَعُ الْحِمَّصُ, وَالْفُولُ,
وَاللُّوبِيَا, وَالْعَدَسُ, وَالْجُلُبَّانُ وَالْبَسِيلَةُ, بَعْضُهَا إلَى
بَعْضٍ. وَلاَ يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ
(5/251)
وَلاَ
إلَى السُّلْتِ. قَالَ: وَأَمَّا الآُرْزُ, وَالذُّرَةُ, وَالسِّمْسِمُ, فَهِيَ
أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ, لاَ يُضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَيَّ شَيْءٍ
أَصْلاً.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْعَلَسِ, فَمَرَّةٌ قَالَ: يُضَمُّ إلَى الْقَمْحِ,
وَالشَّعِيرِ; وَمَرَّةٌ قَالَ: لاَ يُضَمُّ إلَى شَيْءٍ أَصْلاً.
وَرَأَى الْقَطَانِيَّ فِي الْبُيُوعِ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً, حَاشَا
اللُّوبِيَا, وَالْحِمَّصَ; فَإِنَّهُ رَآهُمَا فِي الْبُيُوعِ صِنْفًا وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ; فَظَاهِرُ الْخَطَأِ جُمْلَةً, لاَ
يَحْتَاجُ مِنْ إبْطَالِهِ إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا
عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ, وَلاَ جَمَعَ هَذَا الْجَمْعَ,
وَلاَ فَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ، وَلاَ بَعْدَهُ, إلاَّ
مَنْ قَلَّدَهُ, وَمَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ
صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ
تَابِعٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْرَفُ لَهُ وَجْهُ, وَلاَ مِنْ
احْتِيَاطٍ أَصْلاً.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى جَمْعَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ فَيُمْكِنُ أَنْ
يَتَعَلَّقُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ".
قال أبو محمد: وَلَوْ لَمْ يَأْتِ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ هَذَا هُوَ
الْقَوْلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. لَكِنْ قَدْ خَصَّهُ مَا حَدَّثَنَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنِ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، حدثنا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حدثنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ
يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحِلُّ فِي الْبُرِّ
وَالتَّمْرِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَلاَ يَحِلُّ فِي
الْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ، وَلاَ يَحِلُّ فِي الإِبِلِ
زَكَاةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ ذَوْد"ٍ.
فَنَفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يَبْلُغْ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ الْبُرِّ, فَبَطَل بِهَذَا إيجَابُ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلَى
كُلِّ حَالٍ; مَجْمُوعًا إلَى شَعِيرٍ أَوْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ.
قال أبو محمد: وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنْ لاَ يُجْمَعَ التَّمْرُ إلَى
الزَّبِيبِ, وَمَا نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ إلاَّ كَنِسْبَةِ الْبُرِّ
مِنْ الشَّعِيرِ; فَلاَ النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا, وَلاَ
خِلاَفَ
(5/252)
بَيْنَ كُلِّ مَنْ يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ فَصَاعِدًا لاَ فِي أَقَلَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ التَّمْرُ إلَى الْبُرِّ, وَلاَ إلَى الشَّعِيرِ.
(5/253)
و
أما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض
...
646 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَيُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ;
وَكَذَلِكَ تُضَمُّ أَصْنَافُ الشَّعِيرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ; وَكَذَلِكَ
أَصْنَافُ التَّمْرِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ الْعَجْوَةُ, وَالْبَرْنِيُّ,
وَالصَّيْحَانِيُّ وَسَائِرُ أَصْنَافِهِ. وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ;
لإِنَّ اسْمَ بُرٍّ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الْبُرِّ; وَاسْمَ تَمْرٍ يَجْمَعُ
أَصْنَافَ التَّمْرِ; وَاسْمَ شَعِيرٍ يَجْمَعُ أَصْنَافَ الشَّعِيرِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/253)
من
كانت له أرضون شتى في قرية واحدة أو في قرى شتى الخ
...
647 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُونَ شَتَّى فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ;
أَوْ فِي قُرًى شَتَّى
فِي عَمَلِ مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي أَعْمَالٍ شَتَّى وَلَوْ أَنَّ إحْدَى
أَرْضَيْهِ فِي أَقْصَى الصِّينِ, وَالآُخْرَى إلَى أَقْصَى الأَنْدَلُسِ:
فَإِنَّهُ يَضُمُّ كُلَّ قَمْحٍ أَصَابَ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ;
وَكُلَّ شَعِيرٍ أَصَابَهُ فِي جَمِيعِهَا بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ, فَيُزَكِّيهِ;
لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالزَّكَاةِ فِي ذَاتِهِ, مُرَتَّبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَنِ فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ, دُونَ أَنْ يَخُصَّ اللَّهَ تَعَالَى; أَوْ
رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ مَا كَانَ فِي طُسُوجٍ وَاحِدًا, أَوْ
رُسْتَاقٍ وَاحِدٍ: مِمَّا فِي طُسُّوجَيْنِ, أَوْ رُسْتَاقَيْنِ; وَتَخْصِيصُ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ بَاطِلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/253)
من
لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا و من الشعير كذلك فعليه الزكاة
فيها
...
648 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَقَطَ السُّنْبُلَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ الْبُرِّ
خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا, وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ
فِيهَا,
الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ, أَوْ بِالنَّهْرِ أَوْ بِالْعَيْنِ, أَوْ
بِالسَّاقِيَّةِ, وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ، وَلاَ زَكَاةَ
عَلَى مَنْ الْتَقَطَ مِنْ التَّمْرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَبِإِيجَابِ الزَّكَاةِ
فِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ.
(5/253)
649
- مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ أَزْهَى التَّمْرُ فِي مِلْكِهِ
وَالإِزْهَاءُ: هُوَ احْمِرَارُهُ فِي ثِمَارِهِ وَعَلَى مَنْ مَلَكَ الْبُرَّ,
وَالشَّعِيرَ قَبْلَ دِرَاسِهِمَا, وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا مِنْ التِّبْنِ
وَكَيْلِهِمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَ ذَلِكَ, مِنْ مِيرَاثٍ, أَوْ هِبَةٍ, أَوْ
ابْتِيَاعٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ زَكَاةَ
عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ التَّمْرِ قَبْلَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى
مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ الإِزْهَاءِ, وَلاَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَ مِلْكُهُ، عَنِ
الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ, قَبْلَ دِرَاسِهِمَا وَإِمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا
وَكَيْلِهِمَا;، وَلاَ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمَا بَعْدَ إمْكَانِ تَصْفِيَتِهِمَا
وَكَيْلِهِمَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ
فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ، وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ" فَلَمْ
يُوجِبْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَبِّ صَدَقَةٌ إلاَّ بَعْدَ
إمْكَانِ تَوْسِيقِهِ; فَإِنَّ صَاحِبَهُ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِكَيْلِهِ
وَإِخْرَاجِ صَدَقَتِهِ; فَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ الْكَيْلَ وَهُوَ لَهُ مُمْكِنٌ
بِمُسْقِطٍ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى التَّوْسِيقِ
الَّذِي بِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الدِّرَاسِ أَصْلاً; فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ
قَبْلَ الدِّرَاسِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْهَا، وَلاَ رَسُولَهُ صلى
الله عليه وسلم. فَمَنْ سَقَطَ مُلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الدِّرَاسِ بِبَيْعٍ أَوْ
هِبَةٍ, أَوْ إصْدَاقٍ: أَوْ مَوْتٍ, أَوْ جَائِحَةٍ, أَوْ نَارٍ, أَوْ غَرَقٍ,
أَوْ غَصْبٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا, وَلاَ
وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْكَيْلُ
وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ الَّذِي خُوطِبَ بِزَكَاتِهِ; فَمَنْ مَلَكَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ
التَّمْرُ كَذَلِكَ; لإِنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ إذَا
بَدَا طِيبُهُ, كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(5/254)
أما
النخل إذا أزهى خرص و ألزم الزكاة
...
650 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا النَّخْلُ فَإِنَّهُ إذَا أَزْهَى خُرِصَ وَأُلْزِمَ
الزَّكَاةَ
كَمَا ذَكَرْنَا, وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ يَفْعَلُ بِهِ مَا شَاءَ;
وَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ
سَعِيدِ الْقَطَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ قَالَ:
سَمِعْت خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: أَتَانَا سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ
دَعُوا الثُّلُثَ; فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوا فَدَعُوا الرُّبُعَ" شَكَّ
شُعْبَةُ فِي لَفْظَةِ "تَأْخُذُوا" وَ "تَدَعُوا".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ
قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ رَوَاحَةَ إلَى الْيَهُودِ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ أَوَّلُ
الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ
(5/255)
يُؤْكَلَ, ثُمَّ يُخَيِّرُونَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهَا بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُوهَا إلَيْهِمْ بِذَلِكَ" وَإِنَّمَا كَانَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَرْصِ لِكَيْ تُحْصَى الزَّكَاةُ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتَفْتَرِقُ.
(5/256)
إذا
خرص فسواء باع الثمرة أو أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو أجيح فيها كل ذلك لا
يسقط الزكاة عنه
...
651 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا خُرِصَ كَمَا ذَكَرْنَا فَسَوَاءٌ بَاعَ الثَّمَرَةَ
صَاحِبُهَا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ أَطْعَمَهَا أَوْ أَجِيحَ
فِيهَا: كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عَنْهُ;
لاَِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ, وَأَطْلَقَ عَلَى الثَّمَرَةِ وَأَمْكَنَهُ
التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ, كَمَا لَوْ وَجَدَهَا, وَلاَ فَرْقَ.
(5/256)
652
- مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا غَلِطَ الْخَارِصُ أَوْ ظَلَمَ فَزَادَ أَوْ نَقَصَ: رَدَّ
الْوَاجِبَ إلَى الْحَقِّ,
فَأُعْطِيَ مَا زِيدَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا نَقَصَ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَارِصِ
ظُلْمٌ لِصَاحِبِ الثَّمَرَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ
تَعْتَدُوا} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صَاحِبِ الثَّمَرَةِ إلاَّ
الْعُشْرَ, لاَ أَقَلُّ، وَلاَ أَكْثَرُ, أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ, لاَ أَقَلُّ،
وَلاَ أَكْثَرُ, وَنُقْصَانُ الْخَارِصِ ظُلْمٌ لاَِهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِسْقَاطٌ
لِحَقِّهِمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ.
(5/256)
إن
ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا بالبينة
...
653 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَارِصَ ظَلَمَهُ أَوْ أَخْطَأَ؟ لَمْ
يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
إنْ كَانَ الْخَارِصُ عَدْلًا عَالِمًا, فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ جَائِرًا
فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ؟
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَائِرًا فَهُوَ فَاسِقٌ فَخَبَرُهُ مَرْدُودٌ.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَتَعَرُّضُ الْجَاهِلِ لِلْحُكْمِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ
بِمَا لَا يَدْرِي جُرْحَةٌ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ;
فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَتَوْلِيَتُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ".
(5/256)
654
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ خَرْصُ الزَّرْعِ أَصْلاً;
لَكِنْ إذَا حُصِدَ, وَدُرِسَ, فَإِنْ جَاءَ الَّذِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ
حِينَئِذٍ فَقَعَدَ عَلَى الدُّرُوسِ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْكَيْلِ فَلَهُ ذَلِكَ,
وَلاَ نَفَقَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ.
(5/256)
655
- مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ زَرْعٌ عِنْدَ حَصَادِهِ أَنْ
يُعْطِيَ مِنْهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ
مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ; وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ قَبْلُ فِي بَابِ مَا تَجِبُ
فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/257)
من
ساقى حائط نخل أو زارع أرضه بجزء مما يخرج منها فأيهما وقع في سهمه خمسة أوسق
فصاعدا فعليه الزكاة
...
656 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَاقَى حَائِطَ نَخْلٍ أَوْ زَارِعَ أَرْضِهِ بِجُزْءٍ
مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَيُّهُمَا وَقَعَ فِي سَهْمِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ
فَصَاعِدًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ كَذَلِكَ مِنْ بُرٍّ, أَوْ
شَعِيرٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ,
وَإِلاَّ فَلاَ, وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فَصَاعِدًا فِي زَرْعٍ أَوْ
فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ بِحَبْسٍ, أَوْ ابْتِيَاعٍ, أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ الْعُمْيَانِ, أَوْ الْمَجْذُومِينَ,
أَوْ فِي السَّبِيلِ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِأَهْلِهِ
أَوْ عَلَى مَسْجِد, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ: فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ.
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ
أَوْسُقٍ مِمَّا ذَكَرْنَا; وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَى شَرِيكٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِّ
زَرْعِهِ إلَى زَرْعِ شَرِيكِهِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَتَعَيَّنُ فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لاَِحَدِهِمْ
خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَلاَ زَكَاةَ إلاَّ عَلَى مُسْلِمٍ يَقَعُ لَهُ مِمَّا
يُصِيبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ.
وقال أبو حنيفة: فِي كُلِّ ذَلِكَ الزَّكَاةُ.
وَهَذَا خَطَأٌ, لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ شَرِيعَةَ عَلَى أَرْضٍ,
وَإِنَّمَا الشَّرِيعَةُ عَلَى النَّاسِ, وَالْجِنِّ; وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا
لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي أَرَاضِي الْكُفَّارِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْخَرَاجُ نَابَ عَنْهَا.
قلنا: كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ خَرَاجَ عَلَيْهِمْ,
فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِكُمْ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِيمَا أَخْرَجَتْ
أَرْضُهُمْ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ,
وَبِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وقال الشافعي: إذَا اجْتَمَعَ لِلشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ
فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ وَسَنَذْكُرُ
(5/257)
657
- مَسْأَلَةٌ:- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ الَّذِي لَهُ الزَّرْعُ أَوْ التَّمْرُ
مَا أَنْفَقَ فِي حَرْثٍ أَوْ حَصَادٍ, أَوْ جَمْعٍ,
أَوْ دَرْسٍ, أَوْ تَزْبِيلٍ أَوْ جِدَادٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
-:فَيُسْقِطُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَسَوَاءٌ تَدَايَنَ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ
يَتَدَايَنْ, أَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ الزَّرْعِ أَوْ الثَّمَرِ
أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ.
حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ
أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ - عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, فِي الرَّجُلِ
يُنْفِقُ عَلَى ثَمَرَتِهِ, قَالَ أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا, وَقَالَ الآخَرُ:
يَرْفَعُ النَّفَقَةَ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ يَسْقُطُ مِمَّا أَصَابَ النَّفَقَةَ, فَإِنْ بَقِيَ
مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّى, وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّمْرِ
وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ: الزَّكَاةُ جُمْلَةً إذَا بَلَغَ الصِّنْفُ مِنْهَا
خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا; وَلَمْ يُسْقِطْ الزَّكَاةَ عَنْ ذَلِكَ بِنَفَقَةِ
الزَّارِعِ وَصَاحِبِ النَّخْلِ; فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقٍّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِغَيْرِ نَصِّ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِنَا,
إلَّا أَنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
تَنَاقَضُوا وَأَسْقَطُوا الزَّكَاةَ عَنِ الأَُمْوَالِ الَّتِي أَوْجَبَهَا
اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا إذَا
(5/258)
كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُهَا أَوْ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا; فَأَسْقَطُوهَا عَنْ مِقْدَارِ مَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مِنْهَا.
(5/259)
لا
يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل و أهله
...
658 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُدَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فِي
الزَّكَاةِ مَا أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ
فَرِيكًا أَوْ سَوِيقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ السُّنْبُلَ الَّذِي يَسْقُطُ
فَيَأْكُلُهُ الطَّيْرُ أَوْ الْمَاشِيَةُ أَوْ يَأْخُذُهُ الضُّعَفَاءُ, وَلاَ
مَا تَصَدَّقَ بِهِ حِينَ الْحَصَادِ; لَكِنْ مَا صُفِّيَ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ حِينَ
إمْكَانِ الْكَيْلِ, فَمَا خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ
قَبْلَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ. وقال الشافعي: وَاللَّيْثُ, كَذَلِكَ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُعَدُّ عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ, وَقَدْ يَسْقُطُ مِنْ السُّنْبُلِ
مَا لَوْ بَقِيَ لاََتَمَّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ, وَهَذَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ،
وَلاَ الْمَنْعُ مِنْهُ أَصْلاً. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.
(5/259)
فرض
على الخارص أن يترك له ما يأكل هو و أهله رطبا على السعة
...
659 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا التَّمْرُ: فَفَرْضٌ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ
لَهُ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ رُطَبًا عَلَى السَّعَةِ,
لاَ يُكَلَّفُ عَنْهُ زَكَاةٌ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ.
وقال مالك, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَتْرُكُ لَهُ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الَّذِي
ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا
خَرَصْتُمْ فَخُذُوا أَوْ دَعُوا الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ"، وَلاَ
يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ
إجْمَاعُهُمْ الإِجْمَاعُ الْمُتَّبَعُ فِي أَنَّ هَذَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ
إلَى الأَكْلِ رُطَبًا.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا هُشَيْمٌ, وَزَيْدٌ
كِلاَهُمَا: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ
قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ عَلَى
خَرْصِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ: إذَا وَجَدْت الْقَوْمَ فِي نَخْلِهِمْ
قَدْ خَرَفُوا فَدَعْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ, لاَ تَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ.
(5/259)
إن
كان زرع أو نخل يسقى بعض العام بعين أو ساقية من نهر أو بماء السماء ..الخ
...
660 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ زَرْعٌ, أَوْ نَخْلٌ يُسْقَى بَعْضَ الْعَامِ
بِعَيْنٍ, أَوْ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِمَاءِ السَّمَاءِ,
وَبَعْضَ الْعَامِ بِنَضْحٍ, أَوْ سَانِيَةٍ, أَوْ خَطَّارَةٍ, أَوْ دَلْوٍ,
فَإِنْ كَانَ النَّضْحُ زَادَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً ظَاهِرَةً وَأَصْلَحَهُ:
فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ; وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا،
وَلاَ أَصْلَحَ فَزَكَاتُهُ الْعُشْرُ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: يُزَكِّي عَلَى الأَغْلَبِ مِنْ
ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلٌ رُوِّينَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ.
حدثنا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ: فِي الْمَالِ يَكُونُ
عَلَى الْعَيْنِ أَوْ بَعْلاً عَامَّةَ الزَّمَانِ, ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى
الْبِئْرِ يُسْقَى بِهَا فَقَالَ: إنْ كَانَ يُسْقَى بِالْعَيْنِ أَوْ الْبَعْلِ
أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالدَّلْوِ: فَفِيهِ الْعُشْرُ, وَإِنْ كَانَ يُسْقَى
بِالدَّلْوِ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْقَى بِالْبَعْلِ: فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ قَالَ
أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَعُبَيْدَ بْنَ
عُمَيْرٍ يَقُولاَنِ هَذَا الْقَوْلَ.
وقال مالك مَرَّةً: إنَّ زَكَاتَهُ بِاَلَّذِي غَذَّاهُ بِهِ وَتَمَّ بِهِ, لاَ
أُبَالِي بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ أَكْثَرَ سَقْيِهِ فَزَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ
مَرَّةً أُخْرَى: يُعْطِي نِصْفَ زَكَاتِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُهَا نِصْفُ
الْعُشْرِ, وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
قال أبو محمد: قَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا سُقِيَ
بِالنَّضْحِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ السَّمَاءَ تَسْقِيه
وَيُصْلِحُهُ مَاءُ السَّمَاءِ; بَلْ قَدْ شَاهَدْنَا جُمْهُورَ السِّقَاءِ
بِالْعَيْنِ وَالنَّضْحِ إنْ لَمْ
(5/260)
يَقَعْ عَلَيْهِ مَاءٌ السَّمَاءِ تَغَيَّرَ، وَلاَ بُدَّ, فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام لِذَلِكَ حُكْمًا, فَصَحَّ أَنَّ النَّضْحَ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِلزَّرْعِ أَوْ النَّخْلِ فَزَكَاتُهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ.
(5/261)
661
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ زَرَعَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ أَوْ
أَكْثَرَ,
أَوْ حَمَلَتْ نَخْلَةٌ بَطْنَيْنِ فِي السَّنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ الْبُرَّ
الثَّانِي، وَلاَ الشَّعِيرَ الثَّانِي، وَلاَ التَّمْرَ الثَّانِي إلَى
الأَوَّلِ; وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ
يُزَكِّهِ; وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ
بِانْفِرَادِهِ لَمْ يُزَكِّهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ
الزَّرْعَيْنِ وَالتَّمْرَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَامَانِ أَوْ
أَكْثَرُ; وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَإِذْ صَحَّ نَفْيُ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ عَمَّا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَقَدْ صَحَّ
أَنَّهُ رَاعَى الْمُجْتَمَعَ, لاَ زَرْعًا مُسْتَأْنَفًا لاَ يُدْرَى أَيَكُونُ
أَمْ لاَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/261)
إن
كان قمح بكير أو شعير بكير أو تمر بكير و آخر من جنس كل واحد منها مؤخر
...
662 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ قَمْحُ بِكِيرٍ أَوْ شَعِيرُ بِكِيرٍ أَوْ تَمْرُ
بِكِيرٍ وَآخَرُ مِنْ جِنْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُؤَخَّرٌ,
فَإِنْ يَبِسَ الْمُؤَخَّرُ أَوْ أَزْهَى قَبْلَ تَمَامِ وَقْتِ حَصَادِ
الْبَكِيرِ وَجِدَادِهِ فَهُوَ كُلُّهُ زَرْعٌ وَاحِدٌ وَتَمْرٌ وَاحِدٌ, يَضُمُّ
بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ, وَتُزَكَّى مَعًا, إنْ لَمْ يَيْبَسْ الْمُؤَخَّرُ، وَلاَ
أَزْهَى إلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ حَصَادِ الْبَكِيرِ فَهُمَا زَرْعَانِ
وَتَمْرَانِ, يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الآخَرِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
حُكْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ زَرْعٍ وَكُلَّ تَمْرٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ
يَتَقَدَّمُ بَعْضًا فِي الْيُبْسِ وَالإِزْهَاءِ; وَإِنَّ مَا زُرِعَ فِي
تَشْرِينَ الأَوَّلِ يَبْدَأُ يُبْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ مَا زُرِعَ فِي
شُبَاطَ, إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقَضِي وَقْتُ حَصَادِ الأَوَّلِ حَتَّى
يُسْتَحْصَدَ الثَّانِي; لاَِنَّهَا صِيفَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَلِكَ التَّمْرُ
وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَجْتَمِعُ وَقْتُ حَصَادِهِمَا، وَلاَ يَتَّصِلُ وَقْتُ
إزْهَائِهِمَا فَهُمَا زَمَنَانِ اثْنَانِ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَبْكَرُ مَا صَحَّ عِنْدَنَا يَقِينًا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَنْ يُزْرَعَ فِي
بِلاَدٍ مِنْ شِنْتَ بَرِيَّةَ, وَهِيَ مِنْ
(5/261)
663
- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حُصِدَ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ ثُمَّ أُخْلِفَ فِي أُصُولِهِ
زَرْعٌ
فَهُوَ زَرْعٌ آخَرُ, لاَ يُضَمُّ إلَى الأَوَّلِ; لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/262)
664
- مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ لاَ فِي
عَيْنِ الْمَالِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذَا.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: هُوَ أَنْ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
الآُمَّةِ مِنْ زَمَنِنَا إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ
فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ فَأَعْطَى زَكَاتَهُ
الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ
التَّمْرِ وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الذَّهَبِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْفِضَّةِ وَمِنْ
غَيْرِ تِلْكَ الإِبِلِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْبَقَرِ وَمِنْ غَيْرِ تِلْكَ
الْغَنَمِ: فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لَهُ, بَلْ
سَوَاءٌ أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ, أَوْ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهَا,
أَوْ مِمَّا يَشْتَرِي, أَوْ مِمَّا يُوهَبُ, أَوْ مِمَّا يُسْتَقْرَضُ. فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي الْعَيْنِ إذْ لَوْ كَانَتْ فِي
الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ
(5/262)
كل
مال وجبت فيه زكاة من الأموال التي ذكرنا فسواء تلف ذلك أو بعضه فالزكاة كلها
واجبة في ذمة صاحبه
...
665 - مَسْأَلَةٌ: فَكُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي
ذَكَرْنَا, فَسَوَاءٌ تَلَفَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ
أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ إثْرِ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ, إثْرِ وُجُوبِ
الزَّكَاةِ بِمَا قَلَّ مِنْ الزَّمَنِ أَوْ كَثُرَ, بِتَفْرِيطٍ تَلَفَ أَوْ
بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ: فَالزَّكَاةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ كَمَا
كَانَتْ لَوْ لَمْ يَتْلَفْ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ
فِي الذِّمَّةِ لاَ فِي عَيْنِ الْمَالِ.
وَإِنَّمَا قلنا: إثْرَ إمْكَانِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لاَِنَّهُ إنْ
أَرَادَ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِ الْمَالِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ لَمْ
يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ, وَالإِبِلُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ, إلاَّ
أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُزَكَّى بِالْغَنَمِ وَلَهُ غَنَمٌ حَاضِرَةٌ فَهَذَا
تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْحَاضِرَةِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْطُلَ
بِالزَّكَاةِ حَتَّى يَبِيعَ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
(5/263)
و
كذلك لو أخرج الزكاة و عزلها ليدفعها إلى المصدق فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه
إعادتها
...
666 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَعَزَلَهَا لِيَدْفَعَهَا
إلَى الْمُصَدِّقِ أَوْ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَضَاعَتْ الزَّكَاةُ كُلُّهَا
أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كُلِّهَا،
وَلاَ بُدَّ, لِمَا ذَكَرْنَا; وَلاَِنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوَصِّلَهَا
إلَى مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيصَالِهَا إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي
بَعْضِ أَقْوَالِهِ.
وقال أبو حنيفة: إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَحُدَّ لِذَلِكَ
مُدَّةً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ بِأَيِّ وَجْهٍ هَلَكَ فَلَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ
فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ فَقَطْ, قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ
فِيمَا تَلَفَ, فَإِنْ كَانَ هُوَ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ.
(5/263)
667
مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ بُرٍّ أَعْطَى, أَوْ أَيُّ شَعِيرٍ: فِي زَكَاتِهِ كَانَ
أَدْنَى مِمَّا أَصَابَ أَوْ أَعْلَى: أَجْزَأَهُ,
مَا لَمْ يَكُنْ فَاسِدًا بِعَفَنٍ, أَوْ تَآكُلٍ, فَلاَ يُجْزِئُ، عَنْ صَحِيحٍ,
أَوْ مَا كَانَ رَدِيئًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ بِالنَّصِّ عُشْرُ مَكِيلَةِ مَا
أَصَابَ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا إذَا كَانَتْ
(5/264)
و
كذلك القول في زكاة التمر, أي تمر أخرج أجزأه
...
668 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ التَّمْرِ, أَيِّ تَمْرٍ
أَخْرَجَ أَجْزَأَهُ,
سَوَاءٌ مِنْ جِنْسِ تَمْرِهِ, أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ, أَدْنَى مِنْ تَمْرِهِ
أَوْ أَعْلَى, مَا لَمْ يَكُنْ رَدِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا, أَوْ مَعْفُونًا أَوْ
مُتَآكِلاً, أَوْ الْجُعْرُورُ, أَوْ لَوْنُ الْحُبَيْقِ فَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَسَوَاءٌ كَانَ تَمْرُهُ كُلُّهُ مِنْ هَذَيْنِ
النَّوْعَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِتَمْرٍ سَالِمٍ
غَيْرِ رَدِيءٍ, وَلاَ مِنْ هَذَيْنِ اللَّوْنَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}.
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حدثنا أَبُو
الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، حدثنا الزُّهْرِيُّ،
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لَوْنَيْنِ مِنْ التَّمْرِ:
الْجُعْرُورُ, وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ, وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ
ثِمَارِهِمْ فَيُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ; فَنُهُوا، عَنْ ذَلِكَ,
وَنَزَلَتْ، {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
(5/265)
زكاة
الغنم
تعريف الغنم في اللغة التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم
...
زَكَاةُ الْغَنَمِ.
669 - مَسْأَلَةٌ: الْغَنَمُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْمٌ
يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ, فَهِيَ مَجْمُوعٌ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي
الزَّكَاةِ. وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْمَاعِزِ وَالضَّأْنِ, كَضَأْنِ بِلاَدِ
السُّودَانِ وَمَاعِزِ الْبَصْرَةِ وَالنَّفَدِ وَبَنَاتِ حَذَفٍ وَغَيْرِهَا.
وَكَذَلِكَ الْمَقْرُونُ الَّذِي نِصْفُهُ خِلْقَةُ مَاعِزٍ, وَنِصْفُهُ ضَأْنٍ,
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَنَمِ, وَالذُّكُورِ وَالإِنَاثِ سَوَاءٌ. وَاسْمُ
الشَّاءِ أَيْضًا: وَاقِعٌ عَلَى الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي
اللُّغَةِ. وَلاَ وَاحِدَ لِلْغَنَمِ مِنْ لَفْظِهِ, إنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ:
شَاةٌ, أَوْ مَاعِزَةٌ, أَوْ ضَانِيَةٌ, أَوْ كَبْشٌ, أَوْ تَيْسٌ: هَذَا مَا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(5/267)
670
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْلِمُ
الْوَاحِدُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ رَأْسًا حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً عَرَبِيًّا
قَمَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا, وَسَنَذْكُرُهُ فِي زَكَاةِ الْفَوَائِدِ,
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ
الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلَمْ يَحُدَّ وَقْتًا، وَلاَ نَدْرِي مِنْ هَذَا
الْعُمُومِ مَتَى تَجِبُ الزَّكَاةُ, إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا عليه السلام
فِي كُلِّ يَوْمٍ, وَلاَ فِي كُلِّ شَهْرٍ, وَلاَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ
فَصَاعِدًا, هَذَا مَنْقُولٌ بِإِجْمَاعٍ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ لاَ
شَكَّ فِي أَنَّهَا مَرَّةٌ فِي الْحَوْلِ, فَلاَ يَجِبُ فَرْضٌ إلاَّ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ
فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ, أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ بِنَقْلِ آحَادٍ، وَلاَ بِنَقْلِ
تَوَاتُرٍ، وَلاَ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ, وَوَجَدْنَا مَنْ أَوْجَبَهَا بِانْقِضَاءِ
الْحَوْلِ قَدْ صَحَّ وُجُوبُهَا بِنَقْلِ الإِجْمَاعِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم حِينَئِذٍ بِلاَ شَكٍّ; فَالآنُ وَجَبَتْ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
(5/267)
إذا
تمت في ملكه عاما ففيها شاة سواء كانت كلها ضأنا أو كلها ماعزا أو بعضها
...
671 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا تَمَّتْ فِي مِلْكِهِ عَامًا كَمَا ذَكَرْنَا, سَوَاءٌ
كَانَتْ كُلُّهَا مَاعِزًا, أَوْ بَعْضُهَا أَكْثَرُهَا أَوْ أَقَلُّهَا ضَأْنًا,
وَسَائِرُهَا كَذَلِكَ مِعْزَى:- فَفِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ
لاَ نُبَالِي ضَانِيَةً كَانَتْ أَوْ مَاعِزَةً, كَبْشًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى
مِنْ كِلَيْهِمَا, كُلُّ رَأْسٍ تُجْزِئُ مِنْهُمَا، عَنِ الضَّأْنِ, وَعَنِ
الْمَاعِزِ; وَهَكَذَا مَا زَادَتْ حَتَّى تَتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ كَمَا
ذَكَرْنَا.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ لَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً كَمَا
ذَكَرْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا قلنا, إلَى أَنْ تَتِمَّ مِائَتَيْ شَاةٍ.
فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ وَلَوْ بَعْضَ شَاةٍ كَذَلِكَ عَامًا كَامِلاً
وَصَفْنَا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا حَدَّدْنَا وَهَكَذَا إلَى أَنْ تُتِمَّ
أَرْبَعمِائَةِ شَاةٍ كَمَا وَصَفْنَا فَإِذَا أَتَمَّتْهَا كَذَلِكَ عَامًا
كَامِلاً كَمَا ذَكَرْنَا فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ.
وَأَيَّ شَاةٍ أَعْطَى صَاحِبُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ، وَلاَ لاَِهْلِ
الصَّدَقَاتِ رَدُّهَا, مِنْ غَنَمِهِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِ غَنَمِهِ, مَا
لَمْ تَكُنْ هَرِمَةً أَوْ مَعِيبَةً; فَإِنْ أَعْطَاهُ هَرِمَةً; أَوْ مَعِيبَةً
فَالْمُصَدِّقُ مُخَيَّرٌ, إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ, وَإِنْ شَاءَ
رَدَّهَا وَكَلَّفَهُ فَتِيَّةً سَلِيمَةً, وَلاَ نُبَالِي كَانَتْ تُجْزِئُ فِي
الأَضَاحِيِّ أَوْ لاَ تُجْزِئُ.
وَالْمُصَدِّقُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ أَوْ
أَمِيرُهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَاتِ،
(5/268)
وَلاَ
يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ تَيْسًا ذَكَرًا إلاَّ أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ
الْغَنَمِ; فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ;، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ
أَفْضَلَ الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي تَرْبَى أَوْ السَّمِينَةُ لَيْسَتْ
مِنْ أَفْضَلِ الْغَنَمِ جَازَ أَخْذُهَا; فَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَاضِلَةً
أَخَذَ مِنْهَا إنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهَا, سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا كَانَ
صَاحِبُهَا حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا
أَجَزَّأَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا
الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى
الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ:
"هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ; فَمَنْ سَأَلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا
فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سَأَلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطَ". ثُمَّ ذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ
أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ" فَإِذَا زَادَتْ عَلَى
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَشَاتَانِ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى
مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ عَلَى
ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ "فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ
الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ
إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا, وَلاَ يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً, وَلاَ
ذَاتُ عَوَارٍ, وَلاَ تَيْسٌ إلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السَّلِيمِ، حدثنا
ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ فَلَمْ
يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ عليه السلام, فَعَمِلَ بِهِ أَبُو
بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ
ذِكْرُ الْفَرَائِضِ: "وَفِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ,
إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ,
فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ إلَى
ثَلَثِمِائَةٍ, فَإِنْ
(5/269)
كَانَتْ
الْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ, وَلَيْسَ فِيهَا
شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْمِائَةَ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا
زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيِّ،
عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى
الْيَمَنِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ
وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ, فَإِنَّهُ لَيْسَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
فَفِي هَذِهِ الأَخْبَارِ نَصُّ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ الضَّأْنِ إلاَّ
ضَانِيَةٌ, وَمِنْ الْمَعْزِ إلاَّ مَاعِزَةٌ فَإِنْ كَانَا خَلِيطَيْنِ أُخِذَ
مِنْ الأَكْثَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ
سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ
قِيَاسٍ; بَلْ الَّذِي ذَكَرُوا خِلاَفٌ لِلسُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ, وَقَدْ
اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمَعْزَى مَعَ الضَّأْنِ, وَعَلَى أَنَّ اسْمَ غَنَمٍ
يَعُمُّهَا, وَأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْمَاعِزِ,
وَمِنْ الضَّأْنِ; وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ فِي
حُكْمِهَا فَرْقًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا خَصَّ التَّيْسَ, وَإِنْ وُجِدَ فِي
اللُّغَةِ اسْمُ التَّيْسِ يَقَعُ عَلَى الْكَبْشِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ فِي
الصَّدَقَةِ إلاَّ بِرِضَا الْمُصَدِّقِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ
أَخْذِ الْمَاعِزَةِ، عَنِ الضَّأْنِ أَجَازَ أَخْذَ الذَّهَبِ، عَنِ الْفِضَّةِ
وَالْفِضَّةَ، عَنِ الذَّهَبِ وَهُمَا عِنْدَهُ صِنْفَانِ, يَجُوزُ بَيْعُ
بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً.
وَالْخِلاَفُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ مَلَكَ
مِائَةَ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاةٌ
وَاحِدَةٌ حَتَّى يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ, وَمَنْ
مَلَكَ مِائَتَيْ شَاةٍ وَبَعْضَ شَاةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ شَاتَانِ حَتَّى
يَتِمَّ فِي مِلْكِهِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ "فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ" كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
(5/270)
قال
أبو محمد: فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا ذَكَرُوا, وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ
الَّذِي أَوْرَدْنَا "فَإِنْ زَادَتْ" وَلَمْ يَقُلْ
"وَاحِدَةٌ" فَوَجَدْنَا الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا مُتَّفِقَيْنِ عَلَى
أَنَّهَا إنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً أَوْ عَلَى
مِائَتَيْ شَاةٍ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْفَرِيضَةُ. وَوَجَدْنَا حَدِيثَ أَبِي
بَكْرٍ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْفَرِيضَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ
وَعِشْرِينَ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ, فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ زِيَادَةٍ,
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, فَصَارَ مَنْ
قَالَ بِقَوْلِنَا قَدْ أَخَذَ بِالْحَدِيثَيْنِ, فَلَمْ يُخَالِفْ وَاحِدًا
مِنْهُمَا; وَصَارَ مَنْ قَالَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَبِي
بَكْرٍ, مُخَصِّصًا لَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَاهُنَا أَيْضًا خِلاَفٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
شُعْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ
الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ
الْغَنَمُ وَاحِدَةٌ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى
أَرْبَعِمِائَةٍ, فَكُلُّ مَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَهُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلَقَدْ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ لاَ سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ,
وَالْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَا عَظُمَتْ بِهِ الْبَلْوَى لاَ
يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِد: أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ;
لأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمِائَتَيْ شَاةٍ إذَا زَادَتْ
وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْفَرِيضَةَ تَنْتَقِلُ وَيَجِبُ فِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ,
فَكَذَلِكَ إذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ وَاحِدَةٌ أَيْضًا, فَيَجِبُ
أَنْ تَنْتَقِلَ الْفَرِيضَةُ, وَلاَ سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ قَدْ قَلَّدُوا
إبْرَاهِيمَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْبَقَرَةِ الْوَاحِدَةِ تَزِيدُ عَلَى
أَرْبَعِينَ بَقَرَةً, وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْبَقَرِ
وَقْصًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا وَيَقُولُوا: لَمْ
نَجِدْ فِي الْغَنَمِ وَقْصًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانٍ وَتِسْعِينَ شَاةً; لاَ
سِيَّمَا وَمَعَهُمْ هَاهُنَا فِي الْغَنَمِ قِيَاسٌ مُطَرَّدٌ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ
فِي الْبَقَرِ قِيَاسٌ أَصْلاً, وَكُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي الْبَقَرِ فَهُوَ
لاَزِمٌ لَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِمِائَةِ مِنْ الْغَنَمِ مِنْ قوله
تعالى :{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} ًوَنَحْوُ ذَلِكَ وَهَلاَّ قَالُوا:
هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا جَهِلَهُ
إبْرَاهِيمُ.
(5/271)
فَإِنْ
قَالُوا: إنَّ خِلاَفَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ,
وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَعَنْ صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ.
قلنا: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ إلاَّ وَقَدْ خَالَفْتُمُوهَا,
فَلَمْ تَكُنْ حُجَّةٌ فِيمَا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ, وَكَانَ حُجَّةٌ عِنْدَكُمْ
فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا!!
قال أبو محمد: كُلُّهُ خَبْطٌ لاَ مَعْنَى لَهُ وَإِنَّمَا نُرِيهِمْ
تَنَاقُضَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ فِي الدِّينِ بِتَرْكِ الْقِيَاسِ لِلسُّنَنِ إذَا
وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ, وَبِتَرْكِ السُّنَنِ لِلْقِيَاسِ كَذَلِكَ,
وَبِتَرْكِهِمَا جَمِيعًا كَذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ رَاعَى فِي الشَّاةِ
الْمَأْخُوذَةِ مَا تُجْزِئُ مِنْ الآُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ
أَخْطَأَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا قَالَ نَصٌّ وَلاَ إجْمَاعٌ; فَكَيْفَ
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَخْذِ الْجَذَعَةِ فَمَا دُونَهَا فِي زَكَاةِ الإِبِلِ,
وَلاَ تُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ, وَإِنَّمَا قَالَ عليه السلام لاَِبِي بُرْدَةَ
"وَلَنْ تُجْزِئَ جَذَعَةٌ لاَِحَدٍ بَعْدَكَ" يَعْنِي فِي
الآُضْحِيَّةِ; لاَِنَّهُ عَنْهَا سَأَلَهُ, وَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِإِيجَابِ
الْجَذَعَةِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ; فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ
إلاَّ الآُضْحِيَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا إنْ كَانَتْ الْغَنَمُ كُلُّهَا كَرَائِمُ أَخَذَ مِنْهَا
بِرِضَا صَاحِبِهَا; فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ
كَرَائِمِ الْغَنَم, وَهَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي
الْغَنَمِ، وَلاَ بُدَّ مَا لَيْسَ بِكَرَائِمَ, وَأَمَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا
كَرَائِمُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا: هَذِهِ كَرَائِمُ
هَذِهِ الْغَنَمِ; لَكِنْ يُقَالُ هَذِهِ كَرِيمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ
الْكَرَائِمِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يُؤْمَرُ
الْمُصَدِّقُ أَنْ يَصْدَعَ الْغَنَمَ صَدْعَيْنِ فَيَخْتَارُ صَاحِبُ الْغَنَمِ
خَيْرَ الصَّدْعَيْنِ وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ الآخَرِ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ قَالَ:
يُفَرِّقُ الْغَنَمَ أَثْلاَثًا, ثُلُثُ خِيَارٍ, وَثُلُثُ رُذَالٍ, وَثُلُثُ
وَسَطٍ; ثُمَّ تَكُونُ الصَّدَقَةُ فِي الْوَسَطِ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ هَرِمَةً،
وَلاَ ذَاتَ عَوَارٍ، وَلاَ تَيْسًا.
(5/272)
وَمِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ: "وَاَللَّهِ لَوْ
مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنِي بِشْرُ بْنُ عَاصِم بْنِ
سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ سُفْيَانَ أَبَاهُ
حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ
آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ، وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى، وَلاَ
الْمَاخِضَ, وَلَكِنِّي آخُذُ الْعَنَاقَ وَالْجَذَعَةَ، وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ
عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ
أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصْدِقًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَذَعَةَ
وَالثَّنِيَّةَ.
(5/273)
و
ما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفا أو جديا أو سخلة لم يجز أن يؤخذ في الصدقة
الواجبة
...
672 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا صَغُرَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى: شَاةً, لَكِنْ يُسَمَّى
خَرُوفًا, أَوْ جَدْيًا, أَوْ سَخْلَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ
الْوَاجِبَةِ،
وَلاَ أَنْ يُعَدَّ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، إلاَّ أَنْ يُتِمَّ
سَنَةً، فَإِذَا أَتَمَّهَا عُدَّ, وَأُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُضَمُّ الْفَوَائِدُ كُلُّهَا مِنْ الذَّهَبِ,
وَالْفِضَّةِ, وَالْمَوَاشِي, إلَى مَا عِنْدَ صَاحِبِ الْمَالِ فَتُزَكَّى مَعَ
مَا كَانَ عِنْدَهُ, وَلَوْ لَمْ يَفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ
بِسَاعَةٍ. هَذَا إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ تَجِبُ فِي مِقْدَارِ مَا مَعَهُ
الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
عِنْدَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ, وَلاَ يُبَالِي أَنَقَصَ فِي
دَاخِلِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ أَمْ لاَ قَال: فَإِنْ مَاتَتْ الَّتِي
كَانَتْ عِنْدَهُ كُلَّهَا وَبَقِيَ مِنْ عَدَدِ الْخِرْفَانِ أَكْثَرُ مِنْ
أَرْبَعِينَ: فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ ثَلاَثِينَ عِجْلاً فَصَاعِدًا، أَوْ خَمْسًا مِنْ
الْفُصْلاَنِ فَصَاعِدًا، عَامًا كَامِلاً دُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةٌ
وَاحِدَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا. وقال مالك: لاَ
تُضَمُّ فَوَائِدُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، إلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِ مِنْهَا
بَلْ يُزَكَّى كُلُّ مَالٍ بِحَوْلِهِ, حَاشَا رِبْحَ الْمَالِ وَفَوَائِدَ
الْمَوَاشِي كُلِّهَا فَإِنَّهَا تُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَيُزَكَّى الْجَمِيعُ
بِحَوْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُفِدْهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ
بِسَاعَةٍ، إلاَّ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ فَائِدَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ،
وَالْمَاشِيَةِ, مِنْ غَيْرِ الْوِلاَدَةِ, فَلَمْ يَرَ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَا
عِنْدَ الْمَرْءِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلاَّ إذَا كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا
مِقْدَارًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ
وِلاَدَةُ الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْهَا, سَوَاءٌ كَانَ
الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا تَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَجِبُ فِي
مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ.
وقال الشافعي: لاَ تُضَمُّ فَائِدَةٌ أَصْلاً إلَى مَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَوْلاَدَ
الْمَاشِيَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهَا تُعَدُّ مَعَ أُمَّهَاتِهَا, وَلَوْ لَمْ يَتِمَّ
الْعَدَدُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِهَا إلاَّ قَبْلَ الْحَوْلِ
بِسَاعَةٍ, هَذَا إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَإِلاَّ فَلاَ, فَإِنْ نَقَصَتْ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، عَنِ النِّصَابِ فَلاَ
زَكَاةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَنَاقُضُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ وَتَقْسِيمِهِمَا فَلاَ
خَفَاءَ بِهِ, لاَِنَّهُمَا قَسَّمَا تَقْسِيمًا لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَهُ هَاهُنَا أَيْضًا تَنَاقُضٌ أَشْنَعُ مِنْ
تَنَاقُضِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَهُوَ
(5/274)
أَنَّهُ
رَأَى أَنْ يُرَاعَى أَوَّلُ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ دُونَ وَسَطٍ, وَرَأَى أَنْ
تُعَدَّ أَوْلاَدُ الْمَاشِيَةِ مَعَ أُمَّهَاتِهَا وَلَوْ لَمْ تَضَعْهَا إلاَّ
قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي بِسَاعَةٍ, ثُمَّ رَأَى فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا
صِغَارًا وَمَعَهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ مُسِنَّةٌ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ, وَهِيَ
تِلْكَ الْمُسِنَّةُ فَقَطْ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلاَ زَكَاةَ
فِيهَا, فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ خَرُوفٍ وَعِشْرُونَ خَرُوفًا صِغَارًا
كُلَّهَا وَمَعَهَا مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: إنْ كَانَ فِيهَا مُسِنَّتَانِ
فَصَدَقَتُهَا تَانِكَ الْمُسِنَّتَانِ مَعًا, وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمَا
إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ تِلْكَ الْمُسِنَّةِ وَحْدَهَا
فَقَطْ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُسِنَّةٌ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَصْلاً.
وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعَجَاجِيلِ وَالْفُصْلاَنِ أَيْضًا, وَلَوْ مَلَكَهَا
سَنَةً فَأَكْثَرَ!!
قال أبو محمد: وَهَذِهِ شَرِيعَةُ إبْلِيسَ لاَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَعْنِي قَوْلَهُ: إنْ كَانَ مَعَ
الْمِائَةِ خَرُوفٌ وَالْعِشْرُونَ خَرُوفًا: مُسِنَّتَانِ زَائِدَتَانِ
أُخِذَتَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ كِلْتَاهُمَا, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا
إلاَّ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ: أُخِذَتْ وَحْدُهَا، عَنْ زَكَاةِ الْخِرْفَانِ، وَلاَ
مَزِيدَ وَمَا جَاءَ بِهَذَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ
التَّابِعِينَ, وَلاَ أَحَدُ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَلاَ قِيَاسٌ،
وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً فِي أَرْبَعِينَ خَرُوفًا: يُؤْخَذُ،
عَنْ زَكَاتِهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ, وَبِهِ يَأْخُذُ زُفَرُ, ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ
قَالَ: بَلْ يُؤْخَذُ، عَنْ زَكَاتِهَا خَرُوفٌ مِنْهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو
يُوسُفَ; ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: لاَ زَكَاةَ فِيهَا; وَبِهِ يَأْخُذُ
الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
وقال مالك كَقَوْلِ زُفَرَ, وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ, كَقَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ, وَقَالَ الشَّعْبِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ كَقَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنْ تُعَدَّ الْخِرْفَانُ مَعَ أُمَّهَاتِهَا
بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ
بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ
كَانَ مُصَدِّقًا فِي مَخَالِيفِ الطَّائِفِ, فَشَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ
تَصْدِيقَ الْغِذَاءِ, وَقَالُوا: إنْ
(5/275)
كُنْت
مُعْتَدًّا بِالْغِذَاءِ فَخُذْ مِنْهُ صَدَقَتَهُ. قَالَ عُمَرُ: فَقُلْ لَهُمْ:
إنَّا نَعْتَدُّ بِالْغِذَاءِ كُلِّهَا حَتَّى السَّخْلَةُ يَرُوحُ بِهَا
الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ وَقُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ آخُذُ الشَّاةَ الأَكُولَةَ،
وَلاَ فَحْلَ الْغَنَمِ, وَلاَ الرُّبَى, وَلاَ الْمَاخِضَ، وَلَكِنِّي آخُذُ
الْعَنَاقُ, وَالْجَذَعَةَ, وَالثَّنِيَّةَ: وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ
الْمَالِ, وَخِيَارِهِ.
وَرُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ
ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ
بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ. مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ
حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَهُ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ
مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ
لاَ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا
مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لاَ يُزَكَّى حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ
الْحَوْلُ: تَعْنِي الْمَالَ الْمُسْتَفَادَ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ
زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَبِهِ إلَى سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ
عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي
الله عنهم،, لَمْ يَخُصُّوا فَائِدَةَ مَاشِيَةٍ بِوِلاَدَةٍ مِنْ سَائِرِ مَا
يُسْتَفَادُ; وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ
أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ إلاَّ كَانَ كَاذِبًا عَلَيْهِمْ, وَقَائِلاً بِالْبَاطِلِ
الَّذِي لَمْ يَقُولُوهُ قَطُّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِينَ حَكَى عَنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَعُدَّ عَلَيْهِمْ أَوْلاَدَ
(5/276)
الْمَاشِيَةِ
مَعَ أُمَّهَاتِهَا: قَدْ كَانَ فِيهِمْ بِلاَ شَكٍّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنَّ سُفْيَانَ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه وَلِيَ الأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ, وَبَقِيَ عَشْرَ سِنِينَ, وَمَاتَ بَعْدَ مَوْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً, وَكَانُوا بِالطَّائِفِ,
وَأَهْلُ الطَّائِفِ أَسْلَمُوا قَبْلَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ وَرَأَوْهُ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي هَذَا
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِلاَ شَكٍّ, وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَيْسَ
قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ; وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ مَا
افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مُتَّصِلَةٍ
إلاَّ مِنْ طَرِيقَيْنِ: إحْدَاهُمَا: مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ
سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ, وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْ مِنْ طَرِيقِ ابْنٍ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ لَمْ يُسَمَّ. وَالثَّانِيَةُ مِنْ طَرِيقِ
عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: خَالَفُوا قَوْلَ عُمَرَ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَقَالُوا: لاَ يُعْتَدُّ بِمَا وَلَدَتْ
الْمَاشِيَةُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ الآُمَّهَاتُ دُونَ الأَوْلاَدِ عَدَدًا تَجِبُ
فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ تُعَدُّ عَلَيْهِمْ الأَوْلاَدُ, وَلَيْسَ هَذَا
فِي حَدِيثِ عُمَرَ.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ لاَ يَلْتَفِتُونَ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله
عنه بِأَصَحِّ مِنْ هَذَا الإِسْنَادِ, أَشْيَاءَ لاَ يُعْرَفُ لَهُ فِيهَا
مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, إذَا خَالَفَ رَأْيَ مَالِكٍ,
وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ: كَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ,
وَالشَّافِعِيِّينَ قَوْلَ عُمَرَ: الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ,
وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَخْذَ عُمَرَ الزَّكَاةَ مِنْ
الرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ, وَصِفَةِ أَخْذِهِ الزَّكَاةَ مِنْ الْخَيْلِ.
وَتَرْكِ الْحَنَفِيِّينَ إيجَابَ عُمَرَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ, وَلاَ
يَصِحُّ خِلاَفُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَتَرْكِ
الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَمْرَ عُمَرَ الْخَارِصَ بِأَنْ يَتْرُكَ
لاَِصْحَابِ النَّخْلِ مَا يَأْكُلُونَهُ لاَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ, وَغَيْرِ
هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ وَضَحَ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ
(5/277)
بِعُمَرَ
إنَّمَا هُوَ حَيْثُ وَافَقَ شَهَوَاتِهِمْ لاَ حَيْثُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ
قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَهَذَا عَظِيمٌ فِي الدِّينِ جِدًّا.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ الْقُرْآنُ
وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَرْبَعِينَ
شَاةٍ فَصَاعِدًا كَمَا وَصَفْنَا, وَأَوْجَبَ فِيهَا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ أَوْ
فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةً, وَأَسْقَطَهَا عَمَّا عَدَا ذَلِكَ. وَوَجَدْنَا
الْخِرْفَانَ وَالْجِدْيَانَ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ شَاةٍ، وَلاَ اسْمُ شَاءٍ
فِي اللُّغَةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِهَا دِينَهُ عَلَى
لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَرَجَتْ الْخِرْفَانُ,
وَالْجِدْيَانُ، عَنْ أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةٌ. وَأَيْضًا فَقَدْ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنْ لاَ يُؤْخَذَ خَرُوفٌ، وَلاَ جَدْيٌ فِي الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ،
عَنِ الشَّاءِ فَأَقَرُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُسَمَّى شَاةً، وَلاَ لَهُ حُكْمُ
الشَّاءِ, فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا زَكَاةٌ, فَلاَ تَجُوزُ هِيَ
فِي الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ زَكَاةَ مَاشِيَةٍ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا حَوْلٌ لَمْ يَأْتِ
بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا مَنْ مَلَكَ خِرْفَانًا أَوْ عُجُولاً أَوْ فُصْلاَنًا سَنَةً كَامِلَةً
فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ تَمَامِ الْعَامِ، لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ
يُسَمَّى غَنَمًا, وَبَقَرًا وَإِبِلاً.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبٍ، حدثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ
خَبَّابٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ:
"أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسْتُ إلَيْهِ,
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لاَ نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ
لَبَنٍ".
قال أبو محمد: لَوْ أَرَادَ أَنْ لاَ يُؤْخَذَ هُوَ فِي الزَّكَاةِ لَقَالَ:
"أَنْ لاَ نَأْخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ" لَكِنْ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَخْذِ
الزَّكَاةِ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَرَاضِعُ لَبَنٍ اسْمٌ لِلْجِنْسِ صَحَّ بِذَلِكَ
(5/278)
أَنْ
لاَ تُعَدَّ الرَّوَاضِعُ فِيمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا عَابَ هِلاَلَ بْنَ خَبَّابٍ, إلاَّ أَنَّ يَحْيَى بْنَ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: لَقِيته وَقَدْ تَغَيَّرَ, وَهَذَا لَيْسَ جُرْحَةٌ,
لإِنَّ هُشَيْمًا أَسَنُّ مِنْ يَحْيَى بِنَحْوِ عِشْرِينَ سَنَةً, فَكَانَ
لِقَاءُ هُشَيْمٍ لِهِلاَلٍ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا سُوَيْدٌ فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى إلَى
الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام بِنَحْوِ خَمْسِ لَيَالٍ, وَأَفْتَى
أَيَّامَ عُمَرَ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو يُوسُفَ فَطَرَدَا قَوْلَهُمَا,
إذْ أَوْجَبَا أَخْذَ خَرُوفٍ صَغِيرٍ فِي الزَّكَاةِ، عَنْ أَرْبَعِينَ خَرُوفًا
فَصَاعِدًا, وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهَا.
وَأَخْذُ مِثْلِ هَذَا فِي الزَّكَاةِ عَجَبٌ جِدًّا.
وَأَمَّا إذَا أَتَمَّتْ سَنَةً فَاسْمُ شَاةٍ يَقَعُ عَلَيْهَا فَهِيَ
مَعْدُودَةٌ وَمَأْخُوذَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَحَصَلُوا
كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ رضي الله عنه، وَهُمْ
قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا, فَلَمْ يَرَ أَبُو
حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَنْ تُعَدَّ الأَوْلاَدُ مَعَ الآُمَّهَاتِ إلاَّ
إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا; وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ كَذَلِكَ.
وَحَصَلَ مَالِكٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ; لاَِنَّهُ قَاسَ فَائِدَةَ
الْمَاشِيَةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْفَوَائِدِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ
مِنْ عَدِّ أَوْلاَدِهَا مَعَهَا, ثُمَّ نَقَضَ قِيَاسَهُ فَرَأَى أَنْ لاَ
تُضَمَّ فَائِدَةُ الْمَاشِيَةِ بِهِبَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ شِرَاءِ إلَى مَا
عِنْدَهُ مِنْهَا إلاَّ إنْ كَانَ مَا عِنْدَهُ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ
الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ وَرَأَى أَنْ تُضَمَّ أَوْلاَدُهَا إلَيْهَا وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا تَجِبُ فِي الزَّكَاةِ.
وَهَذِهِ تَقَاسِيمَ لاَ يُعْرَفُ أَحَدُ قَالَ بِهَا قَبْلَهُمْ, وَلاَ هُمْ
اتَّبَعُوا عُمَرَ, وَلاَ طَرَدُوا الْقِيَاسَ, وَلاَ اتَّبَعُوا نَصَّ السُّنَّةِ
فِي ذَلِكَ.
"تم الجزء الخامس من كتاب المحلى للإمام العلامة أبي محمد على المشهور بابن
حزم ولله الحمد ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس مفتتحا "بزكاة
البقر" فنسأل الله التوفيق لاتمامه أنه على ما يشاء قدير وبالاجابة
جدير"
(5/279)
المجلد
السادس
تابع كتاب الزكاة
زكاة البقر
الجواميس صنف من البقر يضم بعضها إلى بعض
...
بسم الله الرحمن الرحيم
زَكَاةُ الْبَقَرِ
673 - مَسْأَلَةٌ: الْجَوَامِيسُ صِنْفٌ مِنْ الْبَقَرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى
بَعْضٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي أَقَلِّ مِنْ
خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا, أَوْ ذُكُورًا, وَإِنَاثًا,
فَإِذَا تَمَّتْ خَمْسُونَ رَأْسًا مِنْ الْبَقَرِ وَأَتَمَّتْ فِي مِلْكِ
صَاحِبِهَا عَامًا قَمَرِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا: فَفِيهَا بَقَرَةٌ,
إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً مِنْ الْبَقَرِ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْ
كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا بَقَرَتَانِ, وَهَكَذَا أَبَدًا, فِي كُلِّ خَمْسِينَ
مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ, وَلاَ شَيْءَ زَائِدٌ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ
خَمْسِينَ;، وَلاَ يُعَدُّ فِيهَا مَا لَمْ يُتِمَّ حَوْلاً كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ;
وَفِي خَمْسِ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ: وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ،
حدثنا يَزِيدُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: فِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ, يَعْنِي فِي
الزَّكَاةِ, قَالَ: وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا غَيْرُهُمْ فَقَالُوا: فِيهَا مَا فِي
الإِبِلِ.
يَزِيدُ هَذَا هُوَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَوْ ابْنُ زُرَيْعٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ،
حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ
كِلاَهُمَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: فِي كُلِّ
خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ; وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ
ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
(6/2)
فَرَائِضُ
الْبَقَرِ مِثْلُ فَرَائِضِ الإِبِلِ, غَيْرَ الأَسْنَانِ فِيهَا, فَإِذَا كَانَتْ
الْبَقَرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ,
فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ إلَى مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بَقَرَةٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَلَغَنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: قَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بَقَرَةٌ" أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَخْفِيفًا لاَِهْلِ الْيَمَنِ, ثُمَّ كَانَ
هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُرْوَى.
حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُد، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ
خَالِدٍ قَالَ: اُسْتُعْمِلْت عَلَى صَدَقَاتِ عَكَّ, فَلَقِيت أَشْيَاخًا مِمَّنْ
صَدَقَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ,
فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: اجْعَلْهَا مِثْلَ صَدَقَةِ الإِبِلِ, وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: فِي ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ
مُسِنَّةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ
بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي قِلاَبَةَ وَآخَرُ قَالُوا: صَدَقَاتُ الْبَقَرِ
كَنَحْوِ صَدَقَاتِ الإِبِلِ, فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ, وَفِي كُلِّ عَشْرٍ
شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ
شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ,
فَإِنْ زَادَتْ فَبَقَرَتَانِ مُسِنَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذْ
زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ
الْفَهْمِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
خَلْدَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ صَدَقَةُ الإِبِلِ, غَيْرَ
أَنَّهُ لاَ أَسْنَانَ فِيهَا.
فَهَؤُلاَءِ كُتَّابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ,
وَجَمَاعَةٌ أَدَّوْا الصَّدَقَاتِ عَلَى عَهْدِ
(6/3)
رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ,
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَلْدَةَ, وَالزُّهْرِيُّ, وَأَبُو
قِلاَبَةَ, وَغَيْرُهُمْ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا يَزِيدُ،
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: إنَّ فِي كِتَابِ صَدَقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَنَّ الْبَقَرَ يُؤْخَذُ
مِنْهَا مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الإِبِلِ".
وَبِمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ،
حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرُ قَالَ: أَعْطَانِي
سِمَاكُ بْنُ الْفَضْلِ كِتَابًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَالِكِ
بْنِ كُفْلاَنِسَ الْمُصْعَبِيِّينَ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: "فِيمَا
سَقَتْ السَّمَاءُ وَالأَنْهَارُ الْعُشْرُ, وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّنَا نِصْفُ
الْعُشْرِ، وَفِي الْبَقَرِ مِثْلُ الإِبِلِ".
وَبِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ الأَمْرِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الأَمْرَ بِالتَّبِيعِ: نُسِخَ
بِهَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا
إلاَّ بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا: فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ
إلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ.
وَقَالُوا: مَنْ عَمِلَ مِثْلَ قَوْلِنَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهُ قَدْ
أَدَّى فَرْضَهُ; وَمَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنَّ مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِمِثْلِهِ.
وَقَالُوا: قَدْ وَافَقْنَا أَكْثَرَ خُصُومِنَا عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ تُجْزِئُ،
عَنْ سَبْعَةٍ كَالْبَدَنَةِ; وَأَنَّهَا تُعَوَّضُ مِنْ الْبَدَنَةِ, وَأَنَّهَا
لاَ يُجْزِئُ فِي الآُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ مِنْ هَذِهِ إلاَّ مَا يُجْزِئُ مِنْ
تِلْكَ, وَأَنَّهَا تُشْعَرُ إذَا كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ كَالْبُدْنِ; فَوَجَبَ
قِيَاسُ صَدَقَتِهَا عَلَى صَدَقَتِهَا.
وَقَالُوا: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ نِصَابًا
مَبْدَؤُهُ ثَلاَثُونَ; لَكِنْ إمَّا خَمْسَةٌ كَالإِبِلِ، وَالأَوَاقِي,
وَالأَوْسَاقِ وَأَمَّا أَرْبَعُونَ كَالْغَنَمِ, فَكَانَ حَمْلُ الْبَقَرِ عَلَى
الأَكْثَرِ وَهُوَ الْخَمْسَةُ أَوْلَى.
(6/4)
وَقَالُوا:
إنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَنَعَمْ, نَحْنُ نَقُولُ: بِهَذَا, أَوْ لَيْسَ فِي
ذَلِكَ الْخَبَرِ إسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَمَّا دُونَ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ,
لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ.
قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَحُكْمُهُ,
وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ خَلْدَةَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالزُّهْرِيِّ, وَهَؤُلاَءِ
فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, فَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ اتِّبَاعَهُمْ عَلَى
أَصْلِهِمْ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ,
فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ, وَهُوَ الَّذِي لَهُ
سَنَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ; لَهَا أَرْبَعُ سِنِين; ثُمَّ لاَ
شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا
تَبِيعَتَانِ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سَبْعِينَ فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ, ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا, لاَ شَيْءَ
فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا زَائِدَةً, فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِي كُلِّ
ثَلاَثِينَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَهَذَا قَوْلٌ صَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ طَرِيقِ,
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ قَوْمٍ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ
مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ, وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ, وطَاوُوس, وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى,
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَهْلِ الشَّامِ, وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَرِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ, وَأَبِي
وَائِلٍ كِلاَهُمَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ
ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً
وقال بعضهم: ثَنِيَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنْ مُعَاذٍ مِثْلُهُ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّهُ
سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الأَوْقَاصِ, مَا بَيْنَ
الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ, وَمَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ إلَى الْخَمْسِينَ
قَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".
(6/5)
وَمِنْ
طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى
أَهْلِ الْيَمَنِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ قَدْ
اسْتَوَى قَرْنَاهُ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَرَائِضُ الْبَقَرِ:
"لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ, فَإِذَا
بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا عِجْلٌ رَائِعٌ جَذَعٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ
أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, إلَى
أَنْ تَبْلُغَ سَبْعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَإِنَّ فِيهَا بَقَرَةً
وَعِجْلاً جَذَعًا, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ, ثُمَّ
عَلَى هَذَا الْحِسَابِ".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ
إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ, وَبَعَثَهُ مَعَ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ", وَفِيهِ: "فِي كُلِّ
ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بَاقُورَةً بَقَرَةٌ".
وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيِّ، حدثنا ابْنُ
مُفَرِّجٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّقِّيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
عَمْرٍو الْبَزَّارُ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ شَبَّوَيْهِ
الْمَرْوَزِيِّ، حدثنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حدثنا بَقِيَّةُ، عَنِ
الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا
إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ
تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً جَذَعًا أَوْ جَذَعَةً, وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ
بَقَرَةً بَقَرَةً مُسِنَّةً, قَالُوا: فَالأَوْقَاصُ قَالَ: مَا أَمَرَنِي فِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ; فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ, فَقَالَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, فَقَدْ تَقَصَّيْنَاهُ لَهُمْ
بِأَكْثَرَ مِمَّا نَعْلَمُ تَقَصَّوْهُ لاَِنْفُسِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِينَ شَيْءٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ
الْبَقَرُ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ
أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا
حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ
(6/6)
فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَرُبْعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ
سَبْعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ.
وَرُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ1 وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
فَذَكَرَهُ كَمَا أَوْرَدْنَا; وَهِيَ رِوَايَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ أَيْضًا، عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَوِّهَ هَؤُلاَءِ بِالْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا
مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا
بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ: "لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ" يَعْنِي
مِنْ الْبَقَرِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ شَيْءٌ,
فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلاَثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ, ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى
تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا بَقَرَةٌ مُسِنَّةٌ, فَإِنْ
زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بَقَرَةٌ وَجُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ بَقَرَةٍ;
وَهَكَذَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ تَزِيدُ فَفِيهَا جُزْءٌ آخَرُ زَائِدٌ مِنْ
أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ بَقَرَةٍ، هَكَذَا إلَى السِّتِّينَ, فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِيهَا إلاَّ فِي كُلِّ
عَشْرَةٍ زَائِدَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ،
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادًا، هُوَ ابْنُ
أَبِي سُلَيْمَانَ فَقُلْت إنْ كَانَتْ خَمْسِينَ بَقَرَةً فَقَالَ: بِحِسَابِ
ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ
الْحَجَّاجِ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: يُحَاسَبُ صَاحِبُ الْبَقَرِ بِمَا فَوْقَ
الْفَرِيضَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكْلِيُّ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ،
أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْبَقَرِ: مَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ.
قال أبو محمد: هَذَا عُمُومُ إبْرَاهِيمَ, وَحَمَّادٍ, وَمَكْحُولٍ, وَظَاهِرُهُ
أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِينَ إلَى الأَرْبَعِينَ وَعَلَى
الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ زَائِدَةٌ جُزْءٌ مِنْ
بَقَرَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخٍ كَانُوا
قَدْ صَدَّقُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: فِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةٌ, مُخَالِفِينَ لِمَنْ جَعَلَ فِي أَقَلَّ
مِنْ الأَرْبَعِينَ شَيْئًا.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْخَمْسِينَ، وَلاَ مَا
فَوْقَهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ صَدَقَةَ الْبَقَرِ إنَّمَا هِيَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ
بَقَرَةً بَقَرَةٌ فَقَطْ هَكَذَا أَبَدًا.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "حماد بن أبي سلمة" وهو خطأ.
(6/7)
قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَّالُ ابْنِ الزُّبَيْرِ,
وَابْنِ عَوْفٍ وَعُمَّالِهِ, يَأْخُذُونَ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً
بَقَرَةً، وَمِنْ كُلِّ مِائَةٍ بَقَرَتَيْنِ, فَإِذَا كَثُرَتْ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ
بَقَرَةً بَقَرَةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا حَضَرْنَا ذِكْرُهُ مِمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ
اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ، وَكُلُّ أَثَرٍ رُوِّينَاهُ فِيهَا
وَوَجَبَ النَّظَرُ لِلْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَدِينُ بِهِ رَبَّهُ تَعَالَى
فِي دِينِهِ.
فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي الْبَقَرِ.
كَمَا حَدَّثَنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد، حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ
سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: "انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ" فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ، وَلاَ
بَقَرٍ، وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا, وَتَطَؤُهُ
بِأَظْلاَفِهَا, كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى
يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ".
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي
أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لاَ
يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ
قَطُّ, وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا
وَأَخْفَافِهَا، وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلاَّ جَاءَتْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَأُقْعِدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ
تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا", وَذَكَرَ بَاقِيَ
الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ فَرْضًا طَلَبُ ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْهَا, حَتَّى لاَ يَتَعَدَّى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}.
فَنَظَرْنَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ فَوَجَدْنَا الآثَارَ الْوَارِدَةَ فِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنْقَطِعَةٌ وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ
بِمُتَّصِلٍ, إلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ
مِنْ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا: بِهَا, وَإِلاَّ فَقَدْ
تَنَاقَضُوا فِي أُصُولِهِمْ وَتَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ
قَوْلِ الزُّهْرِيِّ: إنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ بِهَا نَسْخُ إيجَابِ التَّبِيعِ,
وَالْمُسِنَّةِ: فِي الثَّلاَثِينَ وَالأَرْبَعِينَ
(6/8)
فَلَوْ
قُبِلَ مُرْسَلُ أَحَدٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَحَقَّ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ
بِالْحَدِيثِ، وَلاَِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله
عنهم.
وَلَمْ يَحْكِ الْقَوْلَ فِي الثَّلاَثِينَ بِالتَّبِيعِ، وَفِي الأَرْبَعِينَ
بِالْمُسِنَّةِ إلاَّ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ، لاَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ,
وَوَافَقَ الزُّهْرِيَّ عَلَى ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ مِنْ
فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ
الْقَوْلَ بِهَذَا أَوْ إفْسَادَ أُصُولِهِمْ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَوْ صَحَّ
وَأُسْنِدَ مَا خَالَفْنَاهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ مَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ
يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، وَلاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا وَقَوْلَهُمْ: إنَّ هَذَا
عُمُومٌ لِكُلِّ بَقَرٍ: فَإِنَّ هَذَا لاَزِمٌ لِلْحَنَفِيِّينَ,
وَالْمَالِكِيِّينَ, الْمُحْتَجِّينَ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ
بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآيَةُ
وَالْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ وَسَائِرِ مَا
احْتَجُّوا فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا, لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عَلَيْنَا بِهَذَا، لاَِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا لاَ
يَحِلُّ عِنْدَنَا مُفَارِقَةُ الْعُمُومِ إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لاَ
يَحِلُّ شَرْعُ شَرِيعَةٍ إلاَّ بِنَصٍّ صَحِيحٍ, وَنَحْنُ نُقِرُّ وَنَشْهَدُ
أَنَّ فِي الْبَقَرِ زَكَاةً مَفْرُوضَةً يُعَذِّبُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ
يُؤَدِّهَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ, مَا لَمْ يَغْفِرْ لَهُ بِرُجُوحِ حَسَنَاتِهِ
أَوْ مُسَاوَاتِهَا لِسَيِّئَاتِهِ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ
بَيَانُ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ مِنْهَا, وَلاَ بَيَانَ الْعَدَدِ
الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا, وَلاَ مَتَى تُؤَدَّى; وَلَيْسَ
الْبَيَانُ لِلدِّيَانَةِ مَوْكُولاً إلَى الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ، بَلْ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ لَهُ رَبُّهُ وَبَاعِثُهُ {لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}.
وَلَمْ يَصِحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَوْجَبُوهُ فِي
الْخَمْسِ فَصَاعِدًا مِنْ الْبَقَرِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الْبَقَرِ زَكَاةٌ، فَوَجَبَ
التَّوَقُّفُ، عَنْ إيجَابِ فَرْضِ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ بِغَيْرِ نَصٍّ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْعُمُومِ
هَاهُنَا, وَلَوْ كَانَ عُمُومًا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَمَا خَالَفْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنْ زَكَّى الْبَقَرَ كَمَا قَالُوا فَهُوَ عَلَى
يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَمَنْ لَمْ
يُزَكِّهَا كَمَا قَالُوا فَلَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَهُ،
وَأَنَّ مَا صَحَّ بِيَقِينٍ وُجُوبُهُ لَمْ يَسْقُطْ إلاَّ بِيَقِينٍ آخَرَ:
فَهَذَا لاَزِمٌ لِمَنْ قَالَ: إنَّ مَنْ تَدَلَّكَ فِي الْغُسْلِ فَهُوَ عَلَى
يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ; وَالْغُسْلُ وَاجِبٌ بِيَقِينٍ، فَلاَ
يَسْقُطُ إلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَلِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ
فِي الْوُضُوءِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ نَفْسِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ
جِدًّا.
(6/9)
وَأَمَّا
نَحْنُ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ عِنْدَنَا; لإِنَّ الْفَرَائِضَ لاَ تَجِبُ
إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ فِي الاِسْتِدْلاَلِ
فَإِنَّهُ يُرِيدُ إيجَابَ الْفَرَائِضِ وَشَرْعِ الشَّرَائِعِ بِاخْتِلاَفٍ; لاَ
نَصَّ فِيهِ, وَهَذَا بَاطِلٌ; وَلَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ إيعَابِ
جَمِيعِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ، وَلاَ عَلَى التَّدَلُّكِ فِي الْغُسْلِ; ،
وَلاَ عَلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي خَمْسِ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا إلَى
الْخَمْسِينَ.
وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ اسْتِدْلاَلُهُمْ هَذَا صَحِيحًا لَوْ وَافَقْنَاهُمْ
عَلَى وُجُوبِ كُلِّ ذَلِكَ ثُمَّ أَسْقَطْنَا وُجُوبَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ،
وَنَحْنُ لَنْ نُوَافِقَهُمْ قَطُّ عَلَى وُجُوبِ غُسْلٍ فِيهِ تَدَلُّكٌ، وَلاَ
عَلَى إيجَابِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَلاَ عَلَى إيجَابِ زَكَاةٍ فِي خَمْسٍ
مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا، وَإِنَّمَا وَافَقْنَاهُمْ عَلَى إيجَابِ الْغُسْلِ
دُون تَدَلُّكٍ, وَعَلَى إيجَابِ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ لاَ كُلِّهِ; وَعَلَى
وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عَدَدٍ مَا مِنْ الْبَقَرِ لاَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْهَا،
فَزَادُوا هُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ إيجَابَ التَّدَلُّكِ, وَمَسْحَ
جَمِيعِ الرَّأْسِ, وَالزَّكَاةَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ فَصَاعِدًا; وَهَذَا
شَرْعٌ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، فَهَذَا يَلْزَمُ
ضَبْطُهُ، لِئَلاَّ يُمَوِّهَ فِيهِ أَهْلُ التَّمْوِيهِ بِالْبَاطِلِ,
فَيَدَّعُوا إجْمَاعًا حَيْثُ لاَ إجْمَاعَ, وَيُشَرِّعُوا الشَّرَائِعَ بِغَيْرِ
بُرْهَانٍ, وَيُخَالِفُوا الإِجْمَاعَ الْمُتَيَقَّنَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِيَاسِ الْبَقَرِ عَلَى الإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ
فَلاَزِمٌ لاَِصْحَابِ الْقِيَاسِ لُزُومًا لاَ انْفِكَاكَ لَهُ، فَلَوْ صَحَّ
شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ صَحِيحًا1 وَمَا نَعْلَمُ فِي
الْحُكْمِ بَيْنَ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ فَرْقًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَلَقَدْ
كَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَقِيسُ مَا يَسْتَحِلُّ بِهِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ فِي النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ عَلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ
السَّارِقِ, وَمَنْ يَقِيسُ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ, وَمَنْ
يَقِيسُ السَّقَمُونْيَا عَلَى الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ, وَيَقِيسُ الْحَدِيدَ,
وَالرَّصَاصَ وَالصُّفْرَ عَلَى الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ; وَيَقِيسُ الْجِصَّ
عَلَى الْبُرِّ وَالتَّمْرِ, فِي الرِّبَا, وَيَقِيسُ الْجَوْزَ عَلَى الْقَمْحِ
فِي الرِّبَا; وَسَائِرِ تِلْكَ الْمَقَايِيسِ السَّخِيفَةِ وَتِلْكَ الْعِلَلِ
الْمُفْتَرَاةِ الْغَثَّةِ: أَنْ يَقِيسَ الْبَقَرَ عَلَى الإِبِلِ فِي
الزَّكَاةِ، وَإِلاَّ فَقَدْ تَحَكَّمُوا بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا نَحْنُ
فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ وَقْصُهُ ثَلاَثِينَ,
فَإِنَّهُ عِنْدَنَا تَخْلِيطٌ وَهَوَسٌ لَكِنَّهُ لاَزِمٌ أَصَحُّ لُزُومٍ لِمَنْ
قَالَ مُحْتَجًّا لِبَاطِلٍ قَوْلَهُ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ مَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ
وَالسِّتِّينَ مِنْ الْبَقَرِ: إنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الآُصُولِ مَا يَكُونُ
وَقْصُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَحَكِّمُونَ.
ـــــــ
1 هنا بحاشية النسخة رقم "14" بخط غير جيد – وهو غير خط كاتبها – ما نصه
"هذه وقاحة! هيهات الابل من البقر.
(6/10)
فَسَقَطَ
كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَنَّا, وَظَهَرَ لُزُومُهُ لِلْحَنَفِيِّينَ,
وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ, لاَ سِيَّمَا لِمَنْ قَالَ: بِالْقَوْلِ
الْمَشْهُورِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, الَّذِي لَمْ
يَتَعَلَّقْ فِيهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الثَّلاَثِينَ تَبِيعًا, وَفِي
الأَرْبَعِينَ مُسِنَّةً, وَلَمْ يُوجِبْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَلاَ بَعْدَ
الأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ شَيْئًا: فَوَجَدْنَا الآثَارَ الَّتِي احْتَجُّوا
بِهَا، عَنْ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ مُرْسَلَةً كُلَّهَا, إلاَّ حَدِيثَ بَقِيَّةَ;
لإِنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا; وَبَقِيَّةَ ضَعِيفٌ لاَ يُحْتَجُّ
بِنَقْلِهِ, أَسْقَطَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ, وَالْحُجَّةُ لاَ تَجِبُ إلاَّ
بِالْمُسْنَدِ مِنْ نَقْلِ الثِّقَاتِ.
فإن قيل: إنَّ مَسْرُوقًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَقَدْ كَانَ
بِالْيَمَنِ رَجُلاً أَيَّامَ كَوْنِ مُعَاذٍ هُنَالِكَ; وَشَاهَدَ أَحْكَامَهُ,
فَهَذَا عِنْدَهُ، عَنْ مُعَاذٍ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ.
قلنا: لَوْ أَنَّ مَسْرُوقًا ذَكَرَ أَنَّ الْكَافَّةَ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ،
عَنْ مُعَاذٍ لَقَامَتْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ; فَمَسْرُوقٌ هُوَ الثِّقَةُ
الإِمَامُ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ: لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ قَطُّ هَذَا.وَلاَ يَحِلُّ
أَنْ يُقَوَّلَ مَسْرُوقٌ رحمه الله مَا لَمْ يَقُلْ فَيُكْذَبُ عَلَيْهِ;
وَلَكِنْ لَمَّا أَمْكَنَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ
هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ تَوَاتُرٍ, أَوْ عَنْ ثِقَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لاَ تَجُوزُ
الرِّوَايَةُ عَنْهُ: لَمْ يَجُزْ الْقَطْعُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ
عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ,
وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَوْ كَانَ عِنْدَ مَسْرُوقٍ، عَنْ
ثِقَةٍ لَمَا كَتَمَهُ, وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم مَا طَمَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتَكَفِّلُ بِحِفْظِ الذِّكْرِ
الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ عليه السلام الْمُتِمِّ لِدِينِهِ: لَنَا هَذَا
الطَّمْسُ حَتَّى لاَ يَأْتِيَ إلاَّ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَيْضًا: فَإِنْ زَمُّوا أَيْدِيَهُمْ وَقَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ, وَالْمُرْسَلُ
هَاهُنَا وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ.
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ خُذُوا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِهَا مَا
حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عُبَيْدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْكِشْوَرُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيِّ، حدثنا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ هُوَ
أَبُو وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(6/11)
مُعَاذَ
بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ
وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيِّ".
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَسُورُ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ
رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ
الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَمٍ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ
مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ:
كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ:
"أَنَّ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ غِيلاً الْعُشْرُ, وَفِيمَا
سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ, وَفِي الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارٌ
أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمُعَافِرِ".
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: "أَنَّهُ مَنْ كَانَ
عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فَإِنَّهُ لاَ يُفْتَنُ عَنْهَا; وَعَلَيْهِ
الْجِزْيَةُ, عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ
دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ, فَمَنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى
رُسُلِي فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ وَ
لِلْمُؤْمِنِينَ".
فَهَذِهِ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذٍ, وَهُوَ حَدِيثُ زَكَاةِ الْبَقَرِ
بِعَيْنِهِ, وَمُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ, وَآخَرُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، فَإِنْ كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ صَحِيحَةٌ
وَاجِبًا أَخْذُهَا فَمُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَاجِبٌ أَخْذُهَا, وَإِنْ
كَانَتْ مُرْسَلاَتُهُمْ هَذِهِ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فَمُرْسَلاَتُهُمْ
تِلْكَ لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ.
فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْمُرْسَلاَتِ، وَلاَ
تَقُولُونَ: بِتِلْكَ, فَكَيْف هَذَا.
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: مَا قلنا بِهَذِهِ، وَلاَ بِتِلْكَ,
وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ نَقُولَ بِمُرْسَلٍ لَكِنَّا أَوْجَبْنَا الْجِزْيَةَ
عَلَى كُلِّ كِتَابِيٍّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلَمْ نَخُصَّ مِنْهُ امْرَأَةً،
وَلاَ عَبْدًا, وَأَمَّا بِهَذِهِ الآثَارِ فَلاَ.
قال أبو محمد: لاَ سِيَّمَا الْحَنَفِيِّينَ فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مُرْسَلاَتِ
مُعَاذٍ تِلْكَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الأَوْقَاصِ وَالْعَسَلِ: كَمَا
حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُوس: "أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ
أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَقَالَ: كِلاَهُمَا
لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ",
فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ مُعَاذٍ حُجَّةً إذَا وَافَقَ هَوَى
الْحَنَفِيِّينَ وَرَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ يَكُونُ حُجَّةً
(6/12)
إذَا
لَمْ يُوَافِقْهُمَا, مَا نَدْرِي أَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا الْعَمَلِ
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَالضَّلاَلِ وَمِنْ أَنْ يُزِيغَ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِصَحِيفَةِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قلنا: هِيَ مُنْقَطِعَةٌ
أَيْضًا لاَ تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ, وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْجَزَرِيُّ
الَّذِي رَوَاهَا مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ وَأَنَّهُ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. فَإِنْ
أَبَيْتُمْ وَلَجَجْتُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْهَا
عَلَى شَيْءٍ فَدُونَكُمُوهَا.
كَمَا حَدَّثْنَهَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حدثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْجَزَرِيِّ، حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ
فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ, وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ, وَهَذِهِ نُسْخَتُهُ" فَذَكَرَ الْكِتَابَ. وَفِيهِ: "وَفِي
كُلِّ ثَلاَثِينَ بَاقُورَةً تَبِيعٌ, جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ, وَفِي كُلِّ
أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ, وَفِيهِ أَيْضًا وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقِيَّ
مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ".
حدثنا حمام قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَابُلِيِّ بِبَغْدَادَ،
حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ
أَبِيهِمَا، عَنْ جَدِّهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ أَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَنِ
وَفِيهِ الزَّكَاةُ: "لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ
الذَّهَبَ قِيمَةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِي قِيمَةِ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ
دِينَارًا فَفِيهَا دِينَارٌ". قَالَ أَبُو أُوَيْسٍ: وَهَذَا، عَنْ ابْنَيْ
حَزْمٍ أَيْضًا: "فَرَائِضُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ لَيْسَ فِيمَا دُونَ
ثَلاَثِينَ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ الثَّلاَثِينَ فَفِيهَا فَحْلٌ جَذَعٌ, إلَى
أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ
مُسِنَّةٌ إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ, فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا
تَبِيعَانِ"
(6/13)
قال
أبو محمد: أَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ وَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ مَعَ ذَلِكَ وَوَاللَّهِ
لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَرَى الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ, وَالْحَنَفِيِّينَ
إلاَّ قَدْ انْحَلَّتْ عَزَائِمُهُمْ فِي الأَخْذِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ
وَبِصَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ; أَوْ الأَخْذِ
بِأَنْ لاَ صَدَقَةَ فِي ذَهَبٍ لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا إلاَّ
بِالْقِيمَةِ بِالْفِضَّةِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَسُلَيْمَانَ
بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ, وَأَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ
بِوُجُوبِ الأَوْقَاصِ فِي الدَّرَاهِمِ وَبِإِيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى
النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, أَوْ التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ
بِالْبَاطِلِ فَيَأْخُذُوا مَا اشْتَهَوْا وَيَتْرُكُوا مَا اشْتَهَوْا; وَهَذِهِ
وَاَللَّهِ أَخْزَى فِي الْعَاجِلَةِ وَالآجِلَةِ وَأَلْزَمُ وَأَنْدَمُ!!
وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاوِيَ إذَا تَرَكَ مَا رَوَى دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ رِوَايَتِهِ, وَالزُّهْرِيُّ هُوَ رَوَى صَحِيفَةَ ابْنِ
حَزْمٍ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ وَتَرَكَهَا فَهَلاَّ تَرَكُوهَا وَقَالُوا: لَمْ
يَتْرُكْهَا لاَ لِفَضْلِ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ
الأَخْبَارِ بِأَنَّ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ كَزَكَاةِ الإِبِلِ مِثْلُهَا فِي
الإِسْنَادِ وَوَارِدَةٌ بِحُكْمٍ زَائِدٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ, وَكَانَ الآخِذُ
بِتِلْكَ آخِذًا بِهَذِهِ, وَكَانَ الآخِذُ بِهَذِهِ, دُونَ تِلْكَ عَاصِيًا
لِتِلْكَ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ طَرِيقِ الآثَارِ جُمْلَةً.
فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِعَلِيٍّ, وَمُعَاذٍ, وَأَبِي سَعِيدٍ، رضي الله عنهم. قلنا
لَهُمْ: الْخَبَرُ، عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ, وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِهِ
إلاَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مُحَمَّدٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ و أَمَّا، عَنْ عَلِيٍّ
فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم، سِوَاهُ وَقَدْ رُوِّينَا قَبْلُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خِلاَفَ ذَلِكَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ صَاحِبٍ
إذَا خَالَفَهُ صَاحِبٌ آخَرُ.
ثُمَّ إنْ لَجَجْتُمْ فِي التَّعَلُّقِ بِعَلِيٍّ هَاهُنَا فَاسْمَعُوا قَوْلَ
عَلِيٍّ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
(6/14)
أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ
ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
خَمْسُ شِيَاهٍ, وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ،
فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا
وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ
أَوْ قَالَ: الْجَمَلُ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ
فَفِيهَا جَذَعَةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ
وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ
وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ,
فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ
حَوْلِيِّ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ
سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: مَا نَرَى الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ
إلاَّ قَدْ بَرُدَ نَشَاطُهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه
فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَلاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْ الأَخْذِ بِكُلِّ مَا رُوِيَ،
عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, مِمَّا خَالَفُوهُ وَأَخَذَ بِهِ
غَيْرُهُمْ مِنْ السَّلَفِ, أَوْ تَرْكِ الاِحْتِجَاجَ بِمَا لَمْ يَصِحَّ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ التَّلاَعُبِ بِالسُّنَنِ وَالْهَزْلِ فِي
الدِّينِ أَنْ يَأْخُذُوا مَا أَحَبُّوا وَيَتْرُكُوا مَا أَحَبُّوا لاَ سِيَّمَا
وَبَعْضُهُمْ هَوَّلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا بِأَنَّهُ مُسْنَدٌ
فَلْيَهِنْهُمْ خِلاَفُهُ إنْ كَانَ مُسْنَدًا, وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا مَا اسْتَحْلَلْنَا
خِلاَفَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِالتَّبِيعِ وَالْمُسِنَّةِ فَقَطْ فِي الْبَقَرِ
حُجَّةٌ أَصْلاً, وَلاَ قِيَاسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ جُمْلَةً
بِلاَ شَكٍّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وأُمًّا الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ
لاَ قُرْآنٌ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ تَنْصُرُهُ, وَلاَ رِوَايَةٌ
فَاسِدَةٌ تُؤَيِّدُهُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ يَشُدُّهُ, وَلاَ قِيَاسٌ
يُمَوِّهُهُ, وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ يُسَدِّدُهُ.
إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَقْصًا
مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ.
فَقِيلَ لَهُمْ: وَلاَ وَجَدْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ الْمَوَاشِي جُزْءًا
مِنْ رَأْسٍ وَاحِدٍ.
فَإِنْ قَالُوا: أَوْجَبَهُ الدَّلِيلُ.
(6/15)
قِيلَ
لَهُمْ: كَذَبْتُمْ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ قَطُّ, وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى
رَأْيَ النَّخَعِيِّ وَحْدَهُ دَلِيلاً فِي دِينِهِ: وَقَدْ وَجَدْنَا الأَوْقَاصَ
تَخْتَلِفُ, فَمَرَّةً هُوَ فِي الإِبِلِ أَرْبَعٌ, وَمَرَّةً عَشْرَةٌ, وَمَرَّةً
تِسْعَةٌ, وَمَرَّةً أَرْبَعَةَ عَشَرَ, وَمَرَّةً أَحَدَ عَشَرَ, وَمَرَّةً
تِسْعَةً وَعِشْرِينَ, وَمَرَّةً هُوَ فِي الْغَنَمِ ثَمَانُونَ, وَمَرَّةً
تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ, وَمَرَّةً مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ, وَمَرَّةً
تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَأَيُّ نَكِرَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ إذَا
صَحَّ بِذَلِكَ دَلِيلٌ لَوْلاَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ!
فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ عَمَلِ عُمَّالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ,
وَعَمَلِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَ، هُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ جِدًّا بِالْمَدِينَةِ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا لاَ يَصِحُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِي هَذَا مِنْ طَرِيقِ إسْنَادِ الآحَادِ، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ
التَّوَاتُرِ شَيْءٌ كَمَا قَدَّمْنَا, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، لاَ يُعَارِضُهُ غَيْرُهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُؤْخَذَ شَرِيعَةٌ
إلاَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا مِنْ الْقُرْآنِ, وَأَمَّا مِنْ نَقْلٍ
ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ
وَالتَّوَاتُرِ بَيَانُ زَكَاةِ الْبَقَرِ, وَوَجَدْنَا الإِجْمَاعَ
الْمُتَيَقَّنَ الْمَقْطُوعَ بِهِ, الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ بِهِ, وَحَكَمَ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْ
دُونِهِمْ قَدْ صَحَّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً: بَقَرَةٌ;
فَكَانَ هَذَا حَقًّا مَقْطُوعًا بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَحُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ, وَكَانَ مَا
دُونَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا فِيهِ, وَلاَ نَصَّ فِي إيجَابِهِ; فَلَمْ يَجُزْ
الْقَوْلُ بِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلَمْ يَحِلَّ,
أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ, وَلاَ إيجَابُ شَرِيعَةٍ بِزَكَاةٍ مَفْرُوضَةٍ بِغَيْرِ
يَقِينٍ, مِنْ نَصٍّ صَحِيحٍ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم.
وَلاَ يَغْتَرَّنَّ مُغْتَرٌّ بِدَعْوَاهُمْ: أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ كَانَ
مَشْهُورًا فَهَذَا بَاطِلٌ, وَمَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إلاَّ خَامِلاً فِي
عَصْرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَلاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ أَقَلَّ مِنْ
عَشْرَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, بِاخْتِلاَفٍ مِنْهُمْ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَوَجَدْنَا حَدِيثَ مَسْرُوقٍ إنَّمَا
ذَكَرَ فِيهِ فِعْلَ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ; وَهُوَ بِلاَ
شَكٍّ قَدْ أَدْرَكَ مُعَاذًا وَشَهِدَ حُكْمَهُ وَعَمَلَهُ الْمَشْهُورَ
الْمُنْتَشِرَ, فَصَارَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ, وَلاَِنَّهُ، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقْلاً، عَنِ الْكَافَّةِ، عَنْ مُعَاذٍ بِلاَ شَكٍّ،
فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
(6/16)
زكاة
الإبل
البخت و الأعرابية و النجب و المهارى و غيرها من أصناف الإبل كلها إبل يضم بعضها
إلى بعض
...
بَسْمَ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
زَكَاةُ الإِبِلِ
674 - مَسْأَلَةٌ: الْبُخْتُ, وَالأَعْرَابِيَّةُ, وَالنُّجُبُ, وَالْمَهَارِيُّ
وَغَيْرُهَا مِنْ أَصْنَافِ الإِبِلِ: كُلُّهَا إبِلٌ, يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى
بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ,
وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلاَ زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ
الإِبِلِ, ذُكُورٍ أَوْ إنَاثٍ. أَوْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ, فَإِذَا أَتَمَّتْ
كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ حَوْلاً عَرَبِيًّا مُتَّصِلاً كَمَا قَدَّمْنَا
فَالْوَاجِبُ فِي زَكَاتِهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ ضَانِيَّةٌ أَوْ مَاعِزَةٌ,
وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ, إلَى أَنْ تُتِمَّ عَشَرَةً
كَمَا قَدَّمْنَا, فَإِذَا بَلَغَتْهَا وَأَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ حَوْلاً كَمَا
قَدَّمْنَا فَفِيهَا شَاتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى
تُتِمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً
عَرَبِيًّا فَفِيهَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ
حَتَّى تُتِمَّ عِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ, حَوْلاً
كَمَا ذُكِرَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ
عَلَى الْعِشْرِينَ إلَى أَنْ تُتِمَّ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا
وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى،
وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَابْنُ لَبُوَنٍ ذَكَرٌ مِنْ الإِبِلِ،
وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَثَلاَثِينَ. فَإِذَا
أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ حَوْلاً قَمَرِيًّا فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ
مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ
سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً
قَمَرِيَّةً فَفِيهَا حِقَّةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ. ثُمَّ كَذَلِكَ
فِيمَا زَادَ فَإِذَا أَتَمَّتْ إحْدَى وَسِتِّينَ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً
قَمَرِيَّةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ مِنْ الإِبِلِ أُنْثَى، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ
كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا
وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ, ثُمَّ
كَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى تُتِمَّ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَأَتَمَّتْ
كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا حِقَّتَانِ. وَكَذَلِكَ فِيمَا زَادَ حَتَّى
تُتِمَّ مِائَةً وَعِشْرِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا وَزَادَتْ عَلَيْهَا وَلَوْ
بَعْضَ نَاقَةٍ أَوْ جَمَلٍ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا قَمَرِيًّا فَفِيهَا
ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تُتِمَّ
(6/17)
مِائَةً
وَثَلاَثِينَ, فَإِذَا أَتَمَّتْهَا أَوْ زَادَتْ وَأَتَمَّتْ كَذَلِكَ عَامًا
قَمَرِيًّا فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ
لَبُونٍ, وَفِي كُلِّ ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا
لَبُونٍ, وَفِي أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ,
وَفِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَفِي سِتِّينَ وَمِائَةٍ
فَمَا زَادَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِيمَا زَادَ.
فَإِنْ وَجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ جَذَعَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ
عِنْدَهُ حِقَّةٌ, أَوْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ
عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ, أَوْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ
وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَقْبَلُ مَا عِنْدَهُ
مِنْ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ مَعَهَا غَرَامَةُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ،
أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ صَاحِبُ الْمَالِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُصَدِّقِ قَبُولُهُ،
وَلاَ بُدَّ.
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ،
وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ,
أَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ
جَذَعَةٌ: فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ
وَيَرُدُّ الْمُصَدِّقُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ
شَاتَيْنِ, أَيَّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ الْمُصَدِّقُ فَوَاجِبٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ
قَبُولُهُ، وَلاَ بُدَّ.
وَهَكَذَا لَوْ وَجَبَتْ اثْنَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي
ذَكَرْنَا فَلَمْ يَجِدْهَا أَوْ وَجَدَ بَعْضَهَا وَلَمْ يَجِدْ تَمَامَهَا,
فَإِنَّهُ يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنْ الأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ
كَانَتْ أَعْلَى مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ
لِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى
مِنْ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَعْطَى مَعَهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَاتَيْنِ
أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
فَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ ابْنَ
لَبُونٍ، وَلاَ بِنْتَ لَبُونٍ، لَكِنْ وَجَدَ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، أَوْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وَلاَ كَانَ عِنْدَهُ
بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلاَ حِقَّةٌ, وَكَانَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ لَمْ تُقْبَلْ
مِنْهُ, وَكُلِّفَ إحْضَارَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ, أَوْ إحْضَارَ
السِّنِّ الَّتِي تَلِيهَا، وَلاَ بُدَّ مَعَ رَدِّ الدَّرَاهِمِ أَوْ الْغَنَمِ.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ حِقَّةً, وَوَجَدَ
بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ أَصْلاً إلاَّ
الْجَذَعَةُ أَوْ حِقَّةٌ مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَإِنْ لَزِمَتْهُ حِقَّةٌ وَلَمْ يَجِدْهَا، وَلاَ وَجَدَ جَذَعَةً، وَلاَ
ابْنَةَ لَبُونٍ, وَوَجَدَ بِنْتَ مَخَاضٍ: لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ, وَأُجْبِرَ
عَلَى إحْضَارِ الْحِقَّةِ أَوْ بِنْتِ لَبُونٍ وَيَرُدُّ شَاتَيْنِ أَوْ
عِشْرِينَ دِرْهَمًا
وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ، وَلاَ بَدَلٌ أَصْلاً, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا أَصْلاً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا
(6/18)
الْفَرَبْرِيُّ،
حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حدثنا أَبِي، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ:
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ: "بسم الله
الرحمن الرحيم: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ،
بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا, وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ. فِي أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ,
فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ
مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ
فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ
لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا
حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى
تِسْعِينَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ; فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ
خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ
فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا
مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَمَنْ1 بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةُ
الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ
مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ
عِشْرِينَ دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ
عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ
الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ
بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلاَّ ابْنَةُ لَبُونٍ
فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ
دِرْهَمًا, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ
فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ
دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ ابْنَةَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ
وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ, وَمَنْ بَلَغَتْ
صَدَقَتُهُ ابْنَةَ مَخَاضٍ لَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ
فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ
شَاتَيْنِ; فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنِهِ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا
وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ"
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ أَيْضًا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ حَيْرُونٍ،
حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، حدثنا
شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حدثنا
يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا
الْكِتَابَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَقَالَ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ:
ـــــــ
1 في النسخة رقك "14" "من" بدون الواو.
(6/19)
حدثنا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثُمَّ اتَّفَقَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ:
"إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا
رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم" ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ
نَصًّا, لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد
السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ،
عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، حدثنا الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ، حدثنا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْت هَذَا الْكِتَابَ مِنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: "إنَّ
هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَلَى الْمُسْلِمِينَ, الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ",
ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ بْنُ
أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبُو
قِلاَبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، حدثنا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ
هَذَا الْكِتَابَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "بسم الله الرحمن
الرحيم هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ
صلى الله عليه وسلم", ثُمَّ ذَكَرَهُ نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ نَصُّ مَا قلنا حُكْمًا حُكْمًا وَحَرْفًا حَرْفًا. وَلاَ
يَصِحُّ فِي الصَّدَقَاتِ فِي الْمَاشِيَةِ غَيْرُهُ, إلاَّ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ
فَقَطْ, وَلَيْسَ بِتَمَامِ هَذَا, وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ,
وَعَمِلَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ, لاَ يُعْرَفُ
لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ أَصْلاً, وَبِأَقَلَّ مِنْ هَذَا يَدَّعِي مُخَالِفُونَا
الإِجْمَاعَ, وَيُشَنِّعُونَ خِلاَفَهُ, رَوَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَسٌ
وَهُوَ صَاحِبٌ وَرَوَاهُ،عَنْ أَنَسٍ ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ
وَهُوَ ثِقَةٌ سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ، عَنْ ثُمَامَةَ حَمَّاد بْن
سَلَمَة, وَعَبْد اللَّه بْن الْمُثَنَّى, وَكِلاَهُمَا ثِقَةٌ وَإِمَامٌ,
وَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى ابْنُهُ الْقَاضِي مُحَمَّدٌ, وَهُوَ مَشْهُورٌ
ثِقَةٌ وَلِي قَضَاءَ الْبَصْرَةِ, وَرَوَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ جَامِعُ الصَّحِيحِ, وَأَبُو
قِلاَبَةَ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي, وَالنَّاسُ, وَرَوَاهُ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
(6/20)
يُونُسُ
بْنُ مُحَمَّدٍ, وَشُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ, وَمُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ
التَّبُوذَكِيُّ, وَأَبُو كَامِلٍ الْمُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ, وَغَيْرُهُمْ,
وَكُلُّ هَؤُلاَءِ إمَامٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَرِضُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِتَضْعِيفِ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ لِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ هَذَا وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَنْ رَوَاهُ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَحَدٌ إلاَّ وَهُوَ أَجَلُّ
وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كَلاَمُ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ وَغَيْرُهُ إذَا ضَعَّفُوا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ وَأَمَّا
دَعْوَى ابْنِ مَعِينٍ أَوْ غَيْرِهِ ضَعْفَ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثِّقَاتُ, أَوْ
ادَّعَوْا فِيهِ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا فِيهِ تَدْلِيسًا
فَكَلاَمُهُمْ مَطْرُوحٌ مَرْدُودٌ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وَلاَ مَغْمَزَ لاَِحَدٍ فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ; فَمَنْ
عَانَدَهُ فَقَدْ عَانَدَ الْحَقَّ, وَأَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَمْرَ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لاَ سِيَّمَا مَنْ يُحْتَجُّ فِي دِينِهِ
بِالْمُرْسَلاَتِ, وَبِرِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَرِوَايَةِ جَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ الْكَذَّابِ الْمُتَّهَمِ فِي دِينِهِ "لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ
بَعْدِي جَالِسًا" وَرِوَايَةِ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ الَّذِي لاَ تَحِلُّ
الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إسْقَاطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُسْتَحَاضَةِ بَعْدَ
طُهْرِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَرِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ
حَدِيثٍ فِي إبَاحَةِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاَةِ بِالْخَمْرِ وَبِكُلِّ نَطِيحَةٍ,
أَوْ مُتَرَدِّيَةٍ, وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: فِي مُخَالَفَةِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ, ثُمَّ يَتَعَلَّلُ فِي السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ الَّتِي لَمْ يَأْتِ مَا يُعَارِضُهَا; بَلْ عَمِلَ بِهَا
الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَأْخُذُ: الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابُهُمَا.
وَقَدْ خَالَفَهُ قَوْمٌ فِي مَوَاضِعَ.
فَمِنْهَا: إذَا بَلَغَتْ الإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ كَمَا َحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ، حدثنا
قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ،
حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ
مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ
شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ
شِيَاهٍ; فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ
وَهَكَذَا أَيْضًا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي
الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ طَرِيقِ
الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
قال أبو محمد: الْحَارِثُ كَذَّابٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(6/21)
وقال
الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَتْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ ضِعَافٌ لاَ تُسَاوِي
شَاةً أَعْطَى بَعِيرًا مِنْهَا وَأَجْزَأَهُ قَالُوا: لإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا
هِيَ فِيمَا أُبْقِي مِنْ الْمَالِ فَضْلاً, لاَ فِيمَا أَجَاحَ الْمَالَ وَقَدْ
نُهِيَ، عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْمَالِ فَكَيْفَ، عَنْ اجْتِيَاحِهِ.
قال أبو محمد: وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَغَيْرُهُمَا: لاَ يُجْزِئُهُ
إلاَّ شَاةٌ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَالْقَوْلُ الأَوَّلُ بَاطِلٌ وَلَيْسَتْ
الزَّكَاةُ كَمَا ادَّعَوْا مِنْ حِيَاطَةِ الأَمْوَالِ.
وَهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ وَلَهُ عَشَرَةٌ
مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ
أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ
وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ، وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ
يُكَلَّفُ الزَّكَاةَ وَرَأَوْا فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ الْجَوَاهِرِ, وَالْوِطَاءِ,
وَالْغِطَاءِ, وَالدُّورِ, وَالرَّقِيقِ وَالْبَسَاتِينِ بِقِيمَةِ أَلْفِ أَلْفِ
دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ, أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ
مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْهَا كَمَا يُؤَدِّي مَنْ لَهُ
ثَلَثُمِائَةِ شَاةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ شَاةً.
فَإِنَّمَا نَقِفُ فِي النَّهْيِ وَالأَمْرِ عِنْدَمَا صَحَّ بِهِ نَصٌّ فَقَطْ.
وَهُمْ يَقُولُونَ فِي عَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ لِيَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ
غَيْرُهُ سَرَقَ دِينَارًا، أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ فَتَتْلَفُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ
فِي قِيمَةٍ يَسِيرَةٍ وَيُجَاحُ الْيَتِيمُ الْفَقِيرُ فِيمَا لاَ ضَرَرَ فِيهِ
عَلَى الْغَنِيِّ.
وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ إلاَّ رِوَايَةً خَامِلَةً، عَنْ أَبِي يُوسُفَ:
إنَّ مَنْ لَزِمَتْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي
قِيمَتَهَا, وَلاَ يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُؤَدِّي ابْنَ لَبُونٍ
ذَكَرًا.
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُهُمْ: إنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم بِأَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ الْمَخَاضِ إنَّمَا أَرَادَ
بِالْقِيمَةِ، فَيَا لِسُهُولَةِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم جِهَارًا عَلاَنِيَةً فَرَيْبُ الْفَضِيحَةِ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَمَا
فَهِمَ قَطُّ مَنْ يَدْرِي الْعَرَبِيَّةَ أَنْ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم: "فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ ابْنَةُ
مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ
وَلَيْسَ شَيْءٌ" يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا أَمْرٌ
مُخْجِلٌ جِدًّا, وَبُعْدٌ، عَنِ الْحَيَاءِ وَالدِّينِ!!
(6/22)
وَأَمَّا
خِلاَفُهُمْ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ: فَإِنَّ حُمَامَ بْنَ أَحْمَدَ، حدثنا
قَالَ، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ،
حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ, وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ قَالَ: فِي الإِبِلِ فِي خَمْسٍ شَاةٌ,
وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ وَفِي عِشْرِينَ
أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ عَلِيٍّ.
فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيًّا, وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ, وَابْنَ
عُمَرَ. وَكُلَّ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ, وَخَالَفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَبِقَوْلِنَا فِي هَذَا يَقُولُ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ, وَالأَوْزَاعِيُّ,
وَاللَّيْثُ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَجُمْهُورُ
النَّاسِ, إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ قَلَّدَ دِينَهُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
فِي هَذَا سَلَفًا أَصْلاً.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْ تَعْوِيضِ سِنٍّ مِنْ سِنٍّ دُونِهَا أَوْ فَوْقَهَا عِنْدَ عَدَمِ السِّنِّ
الْوَاجِبَةِ وَرَدِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ
بِالْقِيمَةِ, وَأَجَازَ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَغَيْرِهَا بَدَلَ
الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهِ فِيهَا مُمْكِنًا.
وقال مالك: لاَ يُعْطِي إلاَّ مَا عَلَيْهِ. وَلَمْ يَجُزْ إعْطَاءَ سِنٍّ مَكَانَ
سِنٍّ بِرَدِّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وقال الشافعي بِمَا جَاءَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ
نَصًّا, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ عُدِمَتْ السِّنُّ الْوَاجِبَةُ, وَاَلَّتِي
تَحْتَهَا, وَاَلَّتِي فَوْقَهَا, وَوُجِدَتْ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ، فَإِنَّهُ
يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ إلَيْهِ السَّاعِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ أَرْبَعَ
شِيَاهٍ,وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ الَّتِي تَحْتَهَا بِدَرَجَةٍ فَإِنَّهُ
يُعْطِيهَا وَيُعْطِي مَعَهَا أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَ شِيَاهٍ،
فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَمْ يَجِدْ إلاَّ جَذَعَةً فَإِنَّهُ
يُعْطِيهَا وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّاعِي سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ.
فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ فَلَمْ يَجِدْ إلاَّ بِنْتَ مَخَاضٍ أَعْطَاهَا
وَأَعْطَى مَعَهَا سِتِّينَ دِرْهَمًا أَوْ سِتَّ شِيَاهٍ.
وَأَجَازُوا كُلُّهُمْ إعْطَاءَ أَفْضَلَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنْ الأَسْنَانِ, إذَا
تَطَوَّعَ بِذَلِكَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ مَا
حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ
سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ, وَعُمَرَ, فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ
الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ:
مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ
(6/23)
بِالرَّأْيِ:
أَنْ يَقُولُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّهُ قَاسَ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مَا لَيْسَ فِيهِ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى
قِيَاسِهِ هَذَا إذَا رَأَى فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ, وَفِي السَّمْعِ
الدِّيَةَ, وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةَ: أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فِي إتْلاَفِ
النَّفْسِ دِيَاتٌ كُلُّ مَا فِي الْجِسْمِ مِنْ الأَعْضَاءِ, لاَِنَّهَا بَطَلَتْ
بِبُطْلاَنِ النَّفْسِ, وَكَانَ يَلْزَمُهُ إذْ رَأَى فِي السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ
أَنْ يَرَى فِي سَهْوَيْنِ فِي الصَّلاَةِ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَفِي ثَلاَثَةِ
أَسْهَاءٍ سِتَّ سَجَدَاتٍ وَأَقْرَبُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ, إذَا عَدِمَ
التَّبِيعَ وَجَدَ الْمُسِنَّةَ أَنْ يُقَدِّرَ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا،
وَلَكِنَّهُ لاَ يَقُولُ بِهَذَا, فَقَدْ نَاقَضَ قِيَاسَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, فَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلصَّحَابَةِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
حُجَّةً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَذِبٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَخَطَأٌ لِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا أَصْلاً وَلَكِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَعْوِيضِ سِنٍّ, مَعَهَا شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ
دِرْهَمًا مِنْ سِنٍّ أُخْرَى; كَمَا عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى
الله عليه وسلم إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكَيْنَا مِنْ رَقَبَةٍ تُعْتَقُ فِي
الظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الْوَاطِئِ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَلْيَقُولُوا
هَاهُنَا: إنَّ هَذَا بَيْعٌ لِلرَّقَبَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَلَى الْحَقِيقَةِ
حَيْثُ لاَ يَحِلُّ وَهُوَ تَجْوِيزُ أَبِي حَنِيفَةَ أَخْذَ الْقِيمَةِ، عَنِ
الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ أَصْحَابُهُ الْبَاطِلَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْحَقَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ، عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ
إلاَّ فِي الطَّعَامِ, لاَ فِيمَا سِوَاهُ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ
السُّنَنَ وَالصَّحَابَةَ، رضي الله عنهم.
فأما الصَّحَابَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَصَحَّ أَيْضًا،
عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا تَعْوِيضٌ, وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ كَمَا
حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ
السِّنُّ الَّتِي دُونَهَا أُخِذَتْ الَّتِي فَوْقَهَا, وَرَدَّ صَاحِبُ
الْمَاشِيَةِ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَ دَرَاهِمَ. وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا
مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ; وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا
وَافَقَهُمْ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا
ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَيْهِمَا، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا
دُونَ سِنٍّ أَوْ فَوْقَ سِنٍّ كَانَ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا عِشْرِينَ
(6/24)
دِرْهَمًا
أَوْ شَاتَيْنِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ فِي الإِبِلِ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ
أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا
وَكِيعٌ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
إنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ
دِرْهَمًا، وَإِنْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ أَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ
دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا إجَازَتُهُمْ الْقِيمَةَ أَوْ أَخْذَ سِنٍّ أَفْضَلَ
مِمَّا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ طَاوُوس: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لاَِهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ
آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ
وَخَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال علي: وهذا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, لإِنَّ طَاوُوسًا لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا، وَلاَ
وُلِدَ إلاَّ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاذٍ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا جَاءَ
عَنْهُ عليه السلام.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ;
فَالْكَذِبُ لاَ يَجُوزُ, وَقَدْ يُمْكِنُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ
لاَِهْلِ الْجِزْيَةِ, وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ: الذُّرَةَ, وَالشَّعِيرَ,
وَالْعَرْضَ: مَكَانَ الْجِزْيَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ مَا فِيهِ مِنْ
قَوْلِ مُعَاذٍ "خَيْرٌ لاَِهْلِ الْمَدِينَةِ" وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ
يَقُولَ مُعَاذٌ هَذَا, فَيَجْعَلُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا
مِمَّا أَوْجَبَهُ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْحٍ: أُخْبِرْت، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَنْ لاَ يَأْخُذَ
مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجِدْ فِي إبِلِهِ السِّنَّ الَّتِي عَلَيْهِ إلاَّ تِلْكَ
السِّنَّ مِنْ شَرْوَى إبِلِهِ, أَوْ قِيمَةِ عِدْلٍ.
قال أبو محمد: هَذَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ, لإِنَّ ابْنَ جُرَيْحٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَنْصَارِيَّ
مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ حُجَّةَ
(6/25)
فِيمَا
جَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ, وَقَدْ أَتَيْنَاهُمْ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فِي
أَخْذِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَلْيَقُولُوا بِهِ إنْ كَانَ
قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً وَإِلاَّ فَالتَّحَكُّمُ لاَ يَجُوزُ.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ
عَنْهُ "أَوْ قِيمَةَ عَدْلٍ" هُوَ مَا بَيْنَهُ فِي مَكَان آخَرَ مِنْ
تَعْوِيضِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الدَّرَاهِمَ, فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى
الْمُوَافَقَةِ لاَ عَلَى التَّضَادِّ وَذَكَرُوا حَدِيثًا مُنْقَطِعًا مِنْ
طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "خُذْ النَّابَ, وَالشَّارِفَ وَالْعَوَارِيَّ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي آخِرِهِ "وَلاَ أَعْلَمُهُ إلاَّ كَانَتْ
الْفَرَائِضُ بَعْدُ" فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا بِنَقْلِ رِوَايَةٍ
فِيهِ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ, عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مُصَدِّقًا, فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَجَمَعَ لِي مَالَهُ, فَقُلْت لَهُ: أَدِّ
ابْنَةَ مَخَاضٍ, فَإِنَّهَا صَدَقَتُكَ, قَالَ: ذَلِكَ مَا لاَ لَبَنَ فِيهِ،
وَلاَ ظَهْرَ, وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ, فَخُذْهَا,
فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُؤْمَرْ بِهِ, وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَرِيبٌ مِنْكَ, فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: عَرَضْتُ عَلَى مُصَدِّقِكَ نَاقَةً فَتِيَّةً
عَظِيمَةً يَأْخُذُهَا, فَأَبَى عَلَيَّ, وَهَا هِيَ ذِهِ, قَدْ جِئْتُكَ بِهَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ
الَّذِي عَلَيْكَ, فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ أَجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ
مِنْكَ, وَأَمَرَ عليه السلام بِقَبْضِهَا, وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ".
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ: لإِنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ,
وَعُمَارَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ غَيْرُ مَعْرُوفٍ; وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ
عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ أَخُو عَمْرٍو رضي الله عنهما.
(6/26)
وَالثَّانِي
أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ
كَعْبٍ لَمْ يَسْتَجِزْ أَخْذَ نَاقَةٍ فَتِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ
مَخَاضٍ, وَرَأَى ذَلِكَ خِلاَفًا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلَمْ يَرَ مَا يَرَاهُ هَؤُلاَءِ مِنْ التَّعَقُّبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِآرَائِهِمْ وَنَظَرِهِمْ, وَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ أَنَّهُ الْحَقُّ,
وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ أَخْذُ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ
فَقَطْ, وَأَمَّا إجَازَةُ الْقِيمَةِ فَلاَ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ.
وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِلْمُصَدِّقِ: "أَعْلِمْهُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ
الْحَقِّ; فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ فَاقْبَلْهُ مِنْهُ".
وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا حُجَّةٌ;
لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِأَخْذِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَلاَ يَأْخُذُ
قِيمَةً, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يُعْطِيَ أَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ السِّنِّ
الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ العرزمي، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ عَلِيًّا
سَاعِيًا قَالُوا: لاَ نُخْرِجُ لِلَّهِ إلاَّ خَيْرَ أَمْوَالِنَا, فَقَالَ: مَا
أَنَا بِعَادِي عَلَيْكُمْ السُّنَّةَ. وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لَهُ: "ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَبَيِّنِ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ فِي
أَمْوَالِهِمْ, فَمَنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِفَضْلٍ فَخُذْهُ
مِنْهُ" قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ, ثُمَّ إنَّ رَاوِيهِ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ, وَهُوَ مَتْرُوكٌ ثُمَّ إنَّ فِيهِ أَنَّ عَلِيًّا
بَعَثَ سَاعِيًا وَهَذَا بَاطِلٌ, مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم
قَطُّ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَاعِيًا, وَقَدْ طَلَبَ ذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ فَمَنَعَهُ.
وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً; لإِنَّ فِيهِ أَنَّهُمْ
أَرَادُوا إعْطَاءَ أَفْضَلَ أَمْوَالِهِمْ مُخْتَارِينَ, وَهَذَا لاَ لِمَنْعِهِ
إذَا طَابَتْ نَفْسُ الْمُزَكِّي بِإِعْطَاءِ أَكْرَمَ شَاةٍ عِنْدَهُ وَأَفْضَلَ
مَا عِنْدَهُ مِنْ تِلْكَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ; وَلَيْسَ فِيهِ
إعْطَاءُ سِنٍّ مَكَانَ غَيْرِهَا أَصْلاً, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى قِيمَةٍ
أَلْبَتَّةَ.
(6/27)
وَاحْتَجُّوا
بِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي الَّذِي أَعْطَى فِي صَدَقَةِ مَالِهِ فَصِيلاً
مَخْلُولاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ بَارَكَ
اللَّهُ لَهُ وَلاَ فِي إبِلِهِ ", فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ, فَجَاءَ
بِنَاقَةٍ فَذَكَرٍ مِنْ جَمَالِهَا وَحُسْنِهَا, وَقَالَ: أَتُوبُ إلَى اللَّهِ
وَإِلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ
بَارِكْ فِيهِ وَفِي إبِلِهِ".
وَقَالَ أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لإِنَّ
الْفَصِيلَ لاَ يُجْزِئُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَنَاقَةٌ
حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ قَدْ تَكُونُ جَذَعَةً وَقَدْ تَكُونُ حِقَّةً; فَأَعْطَى مَا
عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ مَا قُدِّرَ; وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى إعْطَاءِ
غَيْرِ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى الْقِيمَةِ أَصْلاً.
وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ
الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَقُلْتُ: لَمْ أَجِدْ فِي الإِبِلِ إلاَّ جَمَلاً خِيَارًا
رَبَاعِيًا, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهِ إيَّاهُ,
فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً".
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْجَمَلَ أُخِذَ فِي زَكَاةٍ وَاجِبَةٍ بِعَيْنِهِ,
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْتَاعَهُ الْمُصَدِّقُ بِبَعْضِ مَا أَخَذَ فِي
الصَّدَقَةِ, فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا أَثَرٌ يَحْتَجُّونَ بِدُونِهِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا
نُورِدُهُ مُحْتَجِّينَ بِهِ, لَكِنْ تَذْكِيرًا لَهُمْ.
وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الصُّنَابِحِ
الأَحْمَسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ نَاقَةً فِي
إبِلِ الصَّدَقَةِ, فَقَالَ: "مَا هَذِهِ" فَقَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَة:
إنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الإِبِلِ; فَقَالَ:
"فَنَعَمْ إذَنْ".
(6/28)
وَقَدْ
يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الإِبِلُ مِنْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, لاَِنَّهُ لَيْسَ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ, فَلِمَا أَمْكَنَ كُلُّ
ذَلِكَ وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ جَمَلٌ
رَبَاعٍ أَصْلاً لَمْ يَحِلَّ تَرْكَ الْيَقِينِ لِلظُّنُونِ, وَقَدْ تَكَلَّمْنَا
فِي مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ "الإِيصَالِ "; ، وَأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ
الْبَكْرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِيه مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ, وَالصَّدَقَةُ
حَرَامٌ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ خِلاَفَ, صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ:
"الصَّدَقَةُ لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ",
فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَسْلَفَهُ لِغَيْرِهِ, لاَ
يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ, فَصَارَ الَّذِي أَخَذَ الْبَكْرَ مِنْ الْغَارِمِينَ,
لإِنَّ السَّلَفَ فِي ذِمَّتِهِ, وَهُوَ أَخَذَهُ, فَإِذْ هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ
فَقَدْ صَارَ حَظُّهُ فِي الصَّدَقَةِ; فَقُضِيَ عَنْهُ مِنْهَا, لاَ يَجُوزُ
غَيْرُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لاَ نَشُكُّ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَسْتَقْرِضُ
مِنْهُ الْبَكْرَ كَانَ مِنْ بَعْضِ أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ, وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا
أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَقِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ
فَضْلاً عَلَى حَقِّهِ.
قال أبو محمد: وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ
تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا
لَمَا اسْتَقْرَضَ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ وَانْتَظَرَ حَتَّى يَحِينَ وَقْتُهَا;
بَلْ كَانَ يَسْتَعْجِلُ صَدَقَةً مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ; فَلَمَّا لَمْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ عليه السلام صَحَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَدَاءُ صَدَقَةٍ قَبْلَ
وَقْتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
فَبَطَل كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ
لَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ إعْطَاءِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَلاَ
غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَحْدُودَةِ فِيهَا. وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلاَ دَلِيلَ
لَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا أَصْلاً, بَلْ الْبُرْهَانُ ثَابِتٌ بِتَحْرِيمِ أَخْذِهَا,
لاَِنَّهَا غَيْرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ
اللَّهِ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ
فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: إنْ كَانَ نَظَرًا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ فَمَا يَمْنَعُ مِنْهُ.
قلنا: النَّظَرُ كُلُّهُ لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ لاَ يُعْطُوا مَا حَرَّمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ, إذْ يَقُولُ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ
أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ مَالِ أَحَدٍ إلاَّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْهُ, أَوْ أَوْجَبَهُ فِيهِ فَقَطْ, وَمَا أَبَاحَ تَعَالَى قَطُّ أَخْذَ
قِيمَةٍ، عَنْ زَكَاةٍ افْتَرَضَهَا بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَا نَدْرِي فِي
أَيِّ نَظَرٍ مَعْهُودٍ بَيْنَنَا وَجَدُوا أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنْ صَاحِبِ
خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ لاَ تَقُومُ بِهِ, وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُ
إلاَّ وَرْدَةً وَاحِدَة أَخْرَجَتْهَا قِطْعَةُ أَرْضٍ لَهُ: وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ
صَاحِبِ جَوَاهِرَ وَرَقِيقٍ وَدُورٍ بِقِيمَةِ مِائَةِ أَلْفٍ، وَلاَ مِنْ
صَاحِبِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ بَقَرَةً, وَتِسْعٍ وَثَلاَثِينَ شَاةً, وَخَمْسِ
أَوَاقٍ غَيْرِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفِضَّةِ
(6/29)
فَهَلْ
فِي هَذَا كُلِّهِ إلاَّ اتِّبَاعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ
وَقَدْ جَاءَ قَوْلُنَا، عَنِ السَّلَفِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد
بْنِ غَفَلَةَ قال: "سِرْت أَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ مَعَ مُصَدِّقِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ رَجُلٌ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ.
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا; فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْخُذَ خَيْرَ إبِلِي
فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَخَطَمَ لَهُ أُخْرَى دُونَهَا فَقَبِلَهَا, وَقَالَ:
إنِّي لاَخُذُهَا وَأَخَافُ أَنْ يَجِدَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: عَمَدْت إلَى رَجُلٍ فَتَخَيَّرْت عَلَيْهِ إبِلَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُوس: أُخْبِرْت أَنَّك تَقُولُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَانِ
يَعْنِي أَبَاهُ إذَا لَمْ تَجِدُوا السِّنَّ فَقِيمَتُهَا قَالَ: مَا قُلْته
قَطُّ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي عَطَاءٌ: لاَ يَخْرُجُ فِي الصَّدَقَةِ
صَغِيرٌ، وَلاَ ذَكَرٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ، وَلاَ هَرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْد، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ ذَكَرٌ مَكَانَ
أُنْثَى إلاَّ ابْنُ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصَّدَقَةِ
ثُمَّ أَعْطَاهُ مُذَكًّى لَمْ يَجُزْ عَنْهُ; لإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ
إعْطَاؤُهُ حَيًّا، وَلاَ يَقَعُ عَلَى الْمُذْكِي اسْمُ شَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَلاَ
اسْمُ بَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ, وَلاَ اسْمُ بِنْتِ مَخَاضٍ مُطْلَقَةٍ, وَقَدْ وَجَبَ
لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ حَيًّا, وَلاَ يَجُوزُ لَهُ ذَبْحُ مَا وَجَبَ لِغَيْرِهِ
فَإِذَا قَبَضَهُ أَهْلُهُ أَوْ الْمُصَدِّقُ فَقَدْ أَجْزَأَ, وَجَازَ
لِلْمُصَدِّقِ حِينَئِذٍ بَيْعُهُ, إنْ رَأَى ذَلِكَ حَظًّا لاَِهْلِ الصَّدَقَةِ;
لاَِنَّهُ نَاظِرٌ لَهُمْ وَلَيْسُوا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ, فَيَجُوزُ
حُكْمُهُمْ فِيهِ, أَوْ إبْرَاؤُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِمْ لَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حِقَّتَانِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ثَلاَثٌ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَلاَ بُدَّ إلَى أَنْ تَصِيرَ
ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ ثُمَّ كُلَّمَا
زَادَتْ عَشَرَةً كَانَ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَابْنِ
الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَيَّ الصِّفَتَيْنِ أَدَّى أَجْزَأَهُ, وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلاَثِينَ, فَيَجِبُ
(6/30)
فِيهَا
حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ, وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَتْ عَشْرًا فَفِي كُلِّ
خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ
وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
إلاَّ حِقَّتَانِ فَقَطْ; حَتَّى تُتِمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَيَجِبُ
فِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاةٌ إلَى ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا
فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ, إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا
حِقَّتَانِ وَثَلاَثُ شِيَاهٍ; إلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ, فَفِيهَا حِقَّتَانِ
وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ; إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا
فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ, إلَى خَمْسِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, وَهَكَذَا أَبَدًا, إذَا زَادَتْ عَلَى
الْخَمْسِينَ وَمِائَةٍ خَمْسًا فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَشَاةٍ, ثُمَّ كَمَا
ذَكَرْنَا; فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ مَعَ الثَّلاَثِ حِقَاقٍ, إلَى أَنْ تَصِيرَ
خَمْسًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَيَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلاَثُ
حِقَاقٍ; إلَى سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا كَانَتْ فِيهَا
ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ, إلَى سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ; فَإِذَا
بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, وَكَذَلِكَ إلَى أَنْ تَكُونَ مِائَتَيْنِ
وَخَمْسًا; فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَشَاةٌ; وَهَكَذَا
أَبَدًا كُلَّمَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ خَمْسِينَ زَادَ حِقَّةً, ثُمَّ
اسْتَأْنَفَ تَزْكِيَتَهَا بِالْغَنَمِ, ثُمَّ بِبِنْتِ الْمَخَاضِ ثُمَّ بِبِنْتِ
اللَّبُونِ ثُمَّ الْحِقَّةِ.
قال أبو محمد: فأما مَنْ رَأَى الْحِقَّتَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ
وَالْمِائَةِ إلَى أَنْ تَصِيرَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا
بِأَنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ: "إنَّ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي كِتَابِ
عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ: أَنَّ الإِبِلَ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ ثَلاَثِينَ
وَمِائَةً".
قال علي: وهذا مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ مَجْهُولٌ.
وَنَحْنُ نَأْتِيهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن
ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا
أَبُو دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ هُوَ أَبُو كُرَيْبٍ، حدثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ. هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي
كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, قَالَ:
أَقْرَأَنِي إيَّاهَا سَالِمُ بْنُ
(6/31)
عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمُ ابْنَيْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "فِي الإِبِلِ إذَا
كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى
ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا بَلَغَتْهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ",
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. وَهَذَا خَيْرٌ مِمَّا أَتَوْنَا بِهِ, وَهَذَا هُوَ
كِتَابُ عُمَرَ حَقًّا; لاَ تِلْكَ الْمَكْذُوبَةُ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ،
حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا سَحْنُونٌ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم الَّذِي كَتَبَ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ الَّتِي نَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنْ سَالِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ, وَأَمَرَ عُمَّالَهُ بِالْعَمَلِ
بِهَا, ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَا.
وَقَالُوا أَيْضًا: قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ "فِي كُلِّ خَمْسِينَ
حِقَّةٌ".
قلنا: نَعَمْ, وَهِيَ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ
وَغَيْرِهِ, وَقَدْ أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ".
وَكَذَلِكَ صَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ, كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ
الْمَذْكُورِ إلَى أَبِي دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
النُّفَيْلِيُّ، حدثنا عُبَادٍ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: "كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ,
فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ, وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ,
فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى
قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: "فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ
وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ كَانَتْ الإِبِلُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ".
وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَصِحُّ غَيْرُهُ, وَلَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الأَخْبَارُ
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إلاَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ لَكَانَ هَذَانِ
الْخَبَرَانِ الصَّحِيحَانِ زَائِدَيْنِ عَلَيْهَا حُكْمًا فِي أَنَّ فِي كُلِّ
أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ; فَتِلْكَ غَيْرُ مُخَالِفَةٍ لِهَذَيْنِ
الْخَبَرَيْنِ, وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ زَائِدَانِ عَلَى تِلْكَ; فَلاَ يَحِلُّ
خِلاَفُهُمَا, وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لِمَا وَجَبَ فِي
الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ حِقَّتَانِ, ثُمَّ وَجَدْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا لاَ
حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا, إذْ كُلُّ أَرْبَعِينَ قَبْلهَا فَفِيهَا بِنْتُ
لَبُونٍ عَلَى قَوْلِكُمْ; إذْ تَجْعَلُونَ فِيمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ: فَإِذَا لاَ حُكْمَ لَهَا فِي نَفْسِهَا
فَأَحْرَى أَنْ
(6/32)
لاَ
يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ فِي غَيْرِهَا, فَكُلُّ زِيَادَةٍ قَبْلَهَا تَنْقُلُ
الْفَرْضَ فَلَهَا حِصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَهَذِهِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا بِكَلاَمِ الْمَمْرُورِينَ, أَوْ بِكَلاَمِ الْمُسْتَخِفِّينَ
بِالدِّينِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِكَلاَمِ مَنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ
لاَِنَّهُ كَلاَمٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ
رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ, وَلاَ أَثَرٌ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ, وَلاَ قِيَاسُ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهُ يُفْهَمُ.
ثُمَّ يُقَالُ: قَدْ كَذَبْتَ فِي وَسْوَاسِك هَذَا أَيْضًا; لإِنَّ كُلَّ
أَرْبَعِينَ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لاَ تَجِبُ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ
أَصْلاً, وَلاَ تَجِبُ فِيهَا مُجْتَمِعَةً ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ, وَإِنَّمَا
فِيهَا حِقَّتَانِ فَقَطْ, حَتَّى إذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
وَاحِدَةً فَصَاعِدًا إلَى أَنْ تُتِمَّ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَحِينَئِذٍ وَجَبَ
فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ مَعَ الزِّيَادَةِ الَّتِي
زَادَتْ ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيَّرَتْ فَرْضَ مَا
قَبْلَهَا, وَصَارَ لَهَا أَيْضًا فِي نَفْسِهَا حِصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ
الْحَادِثَةِ, وَهَذَا ظَاهِرٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ عليه
السلام: "فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ
لَبُونٍ", فِيمَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَوَجَبَ فِي
الْمِائَةِ حِينَئِذٍ حِقَّتَانِ وَلَمْ يَجُزْ تَعْطِيلُ النَّيِّفِ
وَالْعِشْرِينَ الزَّائِدَةِ فَلاَ تُزَكَّى, وَحُكْمُهَا فِي الزَّكَاةِ
مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ, وَمُمْكِنٌ إخْرَاجُهَا فِيهِ, فَوَجَبَتْ الثَّلاَثُ بَنَاتِ
لَبُونٍ, وَبَطَلَ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ إخْرَاجِ حِقَّتَيْنِ أَوْ
ثَلاَثِ بَنَاتِ, لَبُونٍ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلنَّيِّفِ
وَالْعِشْرِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ; فَلاَ تَخْرُجُ زَكَاتُهَا وَهَذَا
لاَ يَجُوزُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ
الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَجَعَلَ فِيهَا حِقَّتَيْنِ. بِنَصِّ كَلاَمِهِ فِي
حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا
فِي زَكَاةِ الإِبِلِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُسَوَّى بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بَيْنَهُمَا، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَ مَالِكٍ قَالَ بِهَذَا التَّخْيِيرِ.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَآلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَغَيْرِهِمْ, وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا أَوْرَدْنَا
قَبْلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ احْتَجَّ أَصْحَابُهُ لَهُ بِمَا
حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا
(6/33)
حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ كِتَابًا، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه
وسلم كَتَبَ لِجَدِّهِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ذِكْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَرَائِضِ
الإِبِلِ: "إذَا كَانَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ,
إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَثَلاَثِينَ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَابْنُ لَبُونٍ
ذَكَرٌ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, إلَى أَنْ
تَبْلُغَ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ, فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا
حِقَّةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ سِتِّينَ; فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهَا فَفِيهَا
جَذَعَةٌ, إلَى أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ, فَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ تِسْعِينَ; فَإِنْ
كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِنْ
كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعُدَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ; فَمَا فَضَلَ
فَإِنَّهُ يُعَادُ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ وَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ
خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ لَيْسَ فِيهَا
ذَكَرٌ، وَلاَ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ مِنْ الْغَنَمِ", ثُمَّ خَرَجَ
إلَى ذِكْرِ زَكَاةِ الْغَنَمِ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا فِيهِ: "وَفِي
الإِبِلِ إذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا
بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فِي الإِبِلِ فَابْنُ
لَبُونٍ ذَكَرٌ" إلَى أَنْ ذَكَرَ التِّسْعِينَ "فَإِذَا كَانَتْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ, فَإِذَا
كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَاعْدُدْ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً, وَمَا كَانَ
أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ".
وَذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي
الإِبِلِ قَالَ: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَبِحِسَابِ
الأَوَّلِ, وَتُسْتَأْنَفُ لَهَا الْفَرَائِضُ.
قال أبو محمد: وَبِقَوْلِهِمْ يَقُولُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَسُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ.
قَالُوا: وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هَذَا مُسْنَدٌ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ
الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو
يَعْلَى هُوَ مُنْذِرٌ
(6/34)
الثَّوْرِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إلَى أَبِي فَشَكَوْا:
سُعَاةَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ; فَقَالَ أَبِي: أَيْ بُنَيَّ خُذْ هَذَا الْكِتَابَ
فَاذْهَبْ بِهِ إلَى عُثْمَانَ وَقُلْ لَهُ: إنَّ نَاسًا مِنْ النَّاسِ شَكَوْا
سُعَاتَك, وَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَرَائِضِ:
فَأْمُرْهُمْ فَلْيَأْخُذُوا بِهِ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ بِالْكِتَابِ حَتَّى
دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه فَقُلْت: إنَّ أَبِي
أَرْسَلَنِي إلَيْك, وَذَكَرَ أَنَّ نَاسًا مِنْ النَّاسِ شَكَوْا سُعَاتَك,
وَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَرَائِضِ, فَمُرْهُمْ
فَلْيَأْخُذُوا بِهِ فَقَالَ: لاَ حَاجَةَ لَنَا فِي كِتَابِك; فَرَجَعْتُ إلَى
أَبِي فَأَخْبَرْته فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ, لاَ عَلَيْك, أُرْدِدْ الْكِتَابَ مِنْ
حَيْثُ أَخَذْتَهُ, قَالَ: فَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا عُثْمَانَ بِشَيْءٍ لَذَكَرَهُ
بِسُوءٍ; وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْكِتَابِ مَا كَانَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ.
قَالُوا: فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُظَنَّ بِعَلِيٍّ رضي الله عنه أَنْ يُخْبِرَ
النَّاسَ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَادَّعَوْا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ; وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ
قَوْلِهِمْ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُمَوِّهَ
بِهِ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ, أَوْ مَنْ لاَ تَقْوَى لَهُ, وَأَمَّا الْهَذَرُ
وَالتَّخْلِيطُ فَلاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي الْقُوَّةِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً.
أَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ, وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: فَمُرْسَلاَنِ لاَ تَقُومُ
بِهِمَا حُجَّةٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا مُتَعَلَّقٌ
أَصْلاً.
أَمَّا طَرِيقُ مَعْمَرٍ فَإِنَّ الَّذِي فِي آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: "وَمَا
كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ"
فَإِنَّمَا هُوَ حُكْمُ ابْتِدَاءِ فَرَائِضِ الإِبِلِ.
وَلَمْ يَسْتَحْيِ عَمِيدٌ مِنْ عُمُدِهِمْ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ جِهَارًا: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ فِي
أَوَّلِهِ ذِكْرُ تَزْكِيَةِ الإِبِلِ بِالْغَنَمِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ
أَنَّهُ كَرَّرَهُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ كَذَبَ فِي هَذَا عَلاَنِيَةً وَأَعْمَاهُ الْهَوَى
وَأَصَمَّهُ وَلَمْ يَسْتَحِي وَمَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ فِي أَوَّلِ كَلاَمِهِ فِي
فَرَائِضِ الإِبِلِ إلاَّ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْخَمْسَةِ
وَالْعِشْرِينَ فَصَاعِدًا وَذَكَرَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ حُكْمَ تَزْكِيَتِهَا
بِالْغَنَمِ إذْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَوَّلاً.
وَالْمَوْضُوعُ الثَّانِي أَنَّهُ جَاهَرَ بِالْكَذِبِ, فَقَالَ: "مَعْمَرٌ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ" وَهَذَا كَذِبٌ, مَا رَوَاهُ ذَلِكَ مَعْمَرٌ
إلاَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُ هَذَا
لَمَا أَخْرُجهُ، عَنِ الإِرْسَالِ; لإِنَّ مُحَمَّدَ
(6/35)
ابْنَ
عَمْرٍو لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ عَجَبٌ آخَرُ وَهُوَ احْتِجَاجُهُ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فِيمَا لَيْسَ
فِيهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ, وَهُوَ يُخَالِفُهُمَا فِيمَا فِيهِمَا مِنْ أَنَّهُ إنْ
لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ أَفَلاَ يَعُوقُ الْمَرْءَ
مُسَكَةٌ مِنْ الْحَيَاءِ، عَنْ مِثْلِ هَذَا.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ زَادُوا كَذِبًا وَجُرْأَةً وَفُحْشًا فَقَالُوا: مَعْنَى
قَوْلِهِ عليه السلام: "إنْ لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ
ذَكَرٌ", إنَّمَا أَرَادَ بِقِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ وَهَذَا كَذِبٌ بَارِدٌ
سَمْجٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: مَا أَرَادَ
إلاَّ ابْنَ لَبُونٍ أَصْهَبَ, أَوْ فِي أَرْضِ نَجْدٍ خَاصَّةً وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُرِيدَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم أَنْ يُعَوِّضَ مِمَّا عُدِمَ بِالْقِيمَةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ
ابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٌ أَيْضًا خَاصَّةً.
وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي تَقْوِيلِهِمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم مَا لَمْ يَقُلْ وَإِحَالَةِ كَلاَمِهِ إلَى الْهَوَسِ وَالْغَثَاثَةِ
وَالتَّلْبِيسِ، وَلاَ يَسْتَجِيزُونَ إحَالَةَ لَفْظَةٍ مِنْ كَلاَمِ أَبِي
حَنِيفَةَ، عَنْ مُقْتَضَاهَا وَاَللَّهُ لاَ فَعَلَ هَذَا مَوْثُوقٌ بِعَقْدِهِ
وَلَقَدْ صَدَقَ الأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: إنَّهُمْ يَكِيدُونَ الإِسْلاَمَ.
وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلاَّ حَمَلْتُمْ مَا أَخَذْتُمْ بِهِ مِمَّا لاَ يَجُوزُ
الأَخْذُ بِهِ مِمَّا رُوِيَ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ جُعْلَ الآبِقِ
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ قِيمَةَ تَعَبِ ذَلِكَ
الَّذِي رَدَّ ذَلِكَ الآبِقَ فَقَطْ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ أَوْلَى وَأَصَحَّ
مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إيجَابِ شَرِيعَةٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
كَمَا لَمْ يَتَعَدَّوْا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ عَلَى بَيْتٍ
وَخَادِمٍ أَنَّ الْبَيْتَ خَمْسُونَ دِينَارًا وَالْعَبْدَ أَرْبَعُونَ
دِينَارًا; فَتَوَقَّوْا مُخَالَفَةَ خَطَأِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّقْوِيمِ,
وَلَمْ يُبَالُوا بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُمْ حَدُّهُ عَلَى التَّقْوِيمِ!!
(6/36)
وَأَيْضًا
فَإِنَّنَا قَدْ أَوْجَدْنَاهُمْ مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ قَالَ: حدثنا عَبَّاسُ
بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْكَابُلِيُّ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حدثنا
أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ جَدِّهِمَا، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ حِينَ أَمَّرَهُ الْيَمَنَ, وَفِيهِ الزَّكَاةُ, فَذَكَرُهُ, وَفِيهِ:
"فَإِذَا بَلَغَتْ الذَّهَبَ قِيمَةَ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَفِي قِيمَةِ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ حِينَ تَبْلُغُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا".
فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَكُونَ صَحِيفَةُ ابْنِ حَزْمٍ بَعْضُهَا حُجَّةٌ
وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ, وَهَذِهِ صِفَةُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.
وَأَمَّا طَرِيقُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَمُرْسَلَةٌ أَيْضًا, وَالْقَوْلُ
فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي طَرِيقِ مَعْمَرٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّا جَمِيعًا لَمَا كَانَ
لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا مَا قَالُوا بِهِ
أَصْلاً, لإِنَّ نَصَّ رِوَايَةِ حَمَّادٍ "إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ; فَإِنْ
كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَعُدَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً, فَمَا فَضَلَ
فَإِنَّهُ يُعَادُ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ الإِبِلِ" هَذَا عَلَى أَنْ
تُعَادَ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْغَنَمِ كَمَا ادَّعَوْا وَيَحْتَمِلُ هَذَا
اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ الْحُكْمَ إلَى أَوَّلِ فَرِيضَةِ
الإِبِلِ فِي أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, لإِنَّ فِي أَوَّلِ
فَرِيضَةِ الإِبِلِ أَنَّ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي ثَمَانِينَ
بِنْتَيْ لَبُونٍ; فَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِهِمْ الْكَاذِبِ الْفَاسِدِ
الْمُسْتَحِيلِ.
وَأَمَّا حَمْلُهُمْ مَا رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
مُسْنَدُ احْتِجَاجِهِمْ فِي ذَلِكَ بِوُجُوبِ حُسْنِ الظَّنِّ بِعَلِيٍّ رضي الله
عنه وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يُحَدِّثُ بِغَيْرِ مَا
عِنْدَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَوْلُ لَعَمْرِي صَحِيحٌ
إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلِيٌّ بِأَوْلَى بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنَّا مِنْ عُثْمَانَ
رضي الله عنهما مَعًا, وَالْفَرْضُ عَلَيْنَا حُسْنُ الظَّنِّ بِهِمَا, وَإِلاَّ
فَقَدْ سَلَكُوا سَبِيلَ إخْوَانِهِمْ مِنْ الرَّوَافِضِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسَاءَ الظَّنُّ بِعَلِيٍّ رضي الله
عنه فِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ يُحَدِّثُ بِغَيْرِ مَا عِنْدَهُ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَوْ يَتَعَمَّدُ خِلاَفَ رِوَايَتِهِ عَنْهُ عليه السلام:
فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسَاءَ الظَّنُّ بِعُثْمَانَ رضي الله عنه;
فَيُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ: لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ; لَوْلاَ أَنَّ عُثْمَانَ عَلِمَ أَنَّ مَا فِي
كِتَابِ عَلِيٍّ مَنْسُوخٌ مَا رَدَّهُ, وَلاَ أَعْرَضَ عَنْهُ, لَكِنْ كَانَ
ذَلِكَ الْكِتَابُ عِنْدَ عَلِيٍّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهِ وَكَانَ عِنْدَ
عُثْمَانَ نَسْخُهُ.
فَنُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا يَلْزَمُنَا, وَلَيْسَ إحْسَانُ
الظَّنِّ بِعَلِيٍّ وَإِسَاءَتُهُ بِعُثْمَانَ بِأَبْعَدَ
(6/37)
مِنْ
الضَّلاَلِ مِنْ إحْسَانِ الظَّنِّ بِعُثْمَانَ وَإِسَاءَتِهِ بِعَلِيٍّ.
فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا
رَدَّهُ عُثْمَانُ, وَلاَ إحْدَى السَّيِّئَتَيْنِ بِأَسْهَلَ مِنْ الآُخْرَى
وَأَمَّا نَحْنُ فَنُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِمَا رضي الله عنهما, وَلاَ نَسْتَسْهِلُ
الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ نَنْسُبَ إلَيْهِ
الْقَوْلَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فَنَتَبَوَّأَ مَقَاعِدَنَا مِنْ النَّارِ كَمَا
تَبَوَّأَهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ; بَلْ نُقِرُّ قَوْلَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
مَقَرَّهُمَا; فَلَيْسَا حُجَّةً دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لَكِنَّهُمَا إمَامَانِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, مَغْفُورٌ لَهُمَا, غَيْرُ
مُبْعَدِينَ مِنْ الْوَهْمِ, وَنَرْجِعُ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَنَأْخُذُ بِالثَّابِتِ عَنْهُ وَنَطْرَحُ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ.
ثم نقول لَهُمْ: هَبْكُمْ أَنَّ كِتَابَ عَلِيٍّ مُسْنَدٌ, وَأَنَّهُ لَمْ
يُنْسَخْ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا تَقُولُونَ; بَلْ تُمَوِّهُونَ: وَإِنَّمَا
فِيهِ: "فِي الإِبِلِ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَبِحِسَابِ
الأَوَّلِ وَتُسْتَأْنَفُ لَهَا الْفَرَائِضُ" وَلَيْسَ فِي هَذَا بَيَانٌ
أَنَّ زَكَاةَ الْغَنَمِ تَعُودُ فِيهَا, وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ هَذَا أَنْ
تَعُودَ إلَى حِسَابِهَا الأَوَّلِ وَتُسْتَأْنَفَ لَهَا الْفَرَائِضُ; فَتَرْجِعَ
إلَى أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, كَمَا فِي أَوَّلِهَا:
فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ. وَفِي ثَمَانِينَ بِنْتَا لَبُونٍ, فَهَذَا
أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِكُمْ الْكَاذِبِ.
ثم نقول: هَبْكُمْ أَنَّهُ مُسْنَدٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ فِيهِ
نَصَّ مَا قُلْتُمْ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَاسْمَعُوهُ بِكَمَالِهِ.
حدثنا حمام، حدثنا مُفَرِّجٌ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ،
حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي خَمْسٍ
مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي خَمْسَ عَشَرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ
أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ, وَفِي سِتٍّ
وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ
ذَكَرٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَثَلاَثِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً
فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ
وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ أَوْ قَالَ: الْجَمَلِ حَتَّى تَبْلُغَ
سِتِّينَ, فَإِذَا زَادَتْ, وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا
وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ, حَتَّى
تَبْلُغَ تِسْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا
الْفَحْلِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِي كُلِّ
خَمْسِينَ حِقَّةٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي الْوَرِقِ إذَا
حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.
وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ شَيْءٌ, فَإِنْ زَادَتْ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ;
وَقَدْ عَفَوْت، عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ.
(6/38)
َحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ،
حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ،
حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَ
سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَإِذَا زَادَتْ الإِبِلُ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ
ذَكَرٌ, إذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ بِنْتَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنِ لَبُونٍ رَدَّ
عَشْرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ
حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ, فَإِذَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَفِي كُلِّ
مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ, فَمَا زَادَ فَبِالْحِسَابِ; فِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا
دِينَارٌ, فَمَا نَقَصَ فَبِالْحِسَابِ; فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا
فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ.
َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ
مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ, وَفِي خَمْسَ
عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ خَمْسٌ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ, ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ; إنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ سِنًّا
فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَيْنِ, أَوْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ
سِنٍّ أَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَاتُ الثَّابِتَةُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله
عنه: مَعْمَرٌ, وَسُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ: مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ, رَوَاهُ، عَنْ
سُفْيَان: وَكِيعٌ, وَرَوَاهُ، عَنْ شُعْبَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ, وَرَوَاهُ، عَنْ مَعْمَرٍ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَاَلَّذِي مَوَّهُوا بِطَرْفٍ, مِمَّا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
سُفْيَانَ خَاصَّةً: لَيْسَ أَيْضًا مُوَافِقًا لِقَوْلِهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا,
فَادَّعَوْا فِي خَبَرِ عَلِيٍّ مَا لَيْسَ فِيهِ عَنْهُ أَثَرٌ, وَلاَ جَاءَ
قَطُّ عَنْهُ وَخَالَفُوا ذَلِكَ الْخَبَرَ نَفْسَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا
مِمَّا فِيهِ نَصًّا, وَهِيَ.
قَوْلُهُ: "فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسُ شِيَاه"ٍ.
وَقَوْلُهُ: بِتَعْوِيضِ ابْنِ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونِ.
وَإِسْقَاطُهُ ذِكْرَ عَوْدَةِ فَرَائِضِ الْغَنَمِ, فَلَمْ يَذْكُرْهُ.
وَقَوْلُهُ فِيمَنْ أَخَذَ سِنًّا فَوْقَ سِنٍّ رَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَخَذَ بِنْتَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَةِ مَخَاضٍ
إنْ لَمْ يُوجَدْ ابْنُ لَبُونٍ.
(6/39)
وَقَوْلُهُ
فِيمَنْ أَخَذَ سِنًّا دُونَ سِنٍّ: "أَخَذَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ
دَرَاهِمَ".
وَقَوْلُهُ: "لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ
عَلَيْهِ الْحَوْلُ", وَلَمْ يَخُصَّ; كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهَا
أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَوْلُهُ: "فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا
زَادَ فَبِالْحِسَابِ" وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ وَقْصًا, كَمَا
يَزْعُمُونَ بِرَأْيِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ زَكَاةٌ"
وَهُمْ يُزَكُّونَ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ إذَا كَانَ مَعَ مَالِكِهَا ذَهَبٌ
إذَا جَمَعَ إلَى الْوَرِقِ سَاوَيَا جَمِيعًا مِائَتِي دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ
دِينَارًا. وَمِنْهَا عَفُوُّهُ، عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ.
وَمِنْهَا عَفُوُّهُ، عَنْ صَدَقَةِ الرَّقِيقِ, وَلَمْ يَسْتَثْنِ لِتِجَارَةٍ
أَوْ غَيْرِهَا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: "فِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ, فَمَا نَقَصَ
فَبِالْحِسَابِ", وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ وَقْصًا أَفَيَكُونُ أَعْجَبَ
مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِرِوَايَةٍ، عَنْ عَلِيٍّ لاَ بَيَانَ فِيهَا لِقَوْلِهِمْ,
لَكِنْ بِظَنٍّ كَاذِبٍ, وَيَتَحَيَّلُونَ1 فِي أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ بِالْقَطْعِ
بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ الْمُفْتَرَى: وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا تِلْكَ الرِّوَايَةَ
نَفْسَهَا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ, وَمَعَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا فِي اثْنَيْ
عَشْرَ مَوْضِعًا مِنْهَا, كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ هَذَا أَمْرٌ
مَا نَدْرِي فِي أَيِّ دِينٍ أَمْ فِي أَيِّ عَقْلٍ وَجَدُوا مَا يُسَهِّلُهُ
عَلَيْهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِصَحِيفَةِ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ, وَبِصَحِيفَةِ حَمَّادٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
عَبَّادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ, وَهُمَا مُرْسَلَتَانِ, وَحَدِيثٍ
مَوْقُوفٍ عَلَى عَلِيٍّ وَلَيْسَ فِي كُلِّ ذَلِكَ نَصٌّ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ,
وَلاَ دَلِيلَ ظَاهِرٌ: ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ أَنْ يَعِيبُوا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا بِالإِرْسَالِ الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ
الْمُسْنَدَيْنِ.
مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى كِلَيْهِمَا، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى, سَمِعَاهُ مِنْهُ, عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ, سَمِعَهُ مِنْهُ, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, سَمِعَهُ
مِنْهُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ سَمِعَهُ مِنْهُ, عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هَكَذَا نَصًّا!!
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
أَبِيهِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع قَالَ: حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا ابْنُ
بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ النُّفَيْلِيِّ، حدثنا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ الصَّدَقَةِ,
فَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ, فَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ,
فَعَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ, ثُمَّ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ حَتَّى
قُبِضَ, فَكَانَ فِيهِ: "فِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاةٌ, وَفِي عَشْرٍ
شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ
شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ابْنَةُ مَخَاضٍ, إلَى خَمْسٍ
ـــــــ
1 هو بالحاء المهملة ومعناه ظاهر.
(6/40)
وَثَلاَثِينَ
فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً, فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ: إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ.
فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ, إلَى سِتِّينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً
فَفِيهَا جَذَعَةٌ, إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا
ابْنَتَا لَبُونٍ, إلَى تِسْعِينَ: فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا
حِقَّتَانِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ الإِبِلُ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ
لَبُونٍ", فَقَالُوا: إنَّ أَصْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ الإِرْسَالُ,
وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ يَحْتَجُّوا بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ وَيُصَحِّحُونَهُمَا, إذَا وَجَدُوا فِيهِمَا مَا يُوَافِقُ رَأْيَ
أَبِي حَنِيفَةَ, فَيُحِلُّونَهُ طَوْرًا وَيُحَرِّمُونَهُ طَوْرًا!
وَاعْتَرَضُوا فِيهِمَا بِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُمَا.
وَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ فِي صَحِيفَةِ ابْنِ حَزْمٍ, وَحَدِيثِ
عَلِيٍّ مَا نَرَاهُ اسْتَجَازَ الْكَلاَمَ بِذِكْرِهِمَا, فَضْلاً، عَنْ أَنْ
يَشْتَغِلَ بِتَضْعِيفِهِمَا.
وأعجب مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ بَعْضَ مُقَدِّمِيهِمْ الْمُتَأَخِّرِينَ عِنْدَ
اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ حَقًّا لاََخْرَجَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُمَّالِهِ!
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلُ الرَّوَافِضِ فِي الطَّعْنِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ,
وَعُمَرَ, وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ فِي الْعَمَلِ بِهِ: نَعَمْ, وَعَلَى النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم إذْ نُسِبَتْ إلَيْهِ كُتُبُ الْبَاطِلِ وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ
ثُمَّ كَتَمَهُ, وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ; فَبَطَلَ كُلُّ مَا
مَوَّهُوا بِهِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ وَقَدْ خَالَفُوا
فِي هَذَا الْمَكَانِ النُّصُوصَ وَالْقِيَاسَ.
فَهَلْ وَجَدُوا فَرِيضَةً تَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهَا وَهَلْ وَجَدُوا فِي
أَوْقَاصِ الإِبِلِ وَقْصًا مِنْ ثَلاَثَةٍ وَثَلاَثِينَ مِنْ الإِبِلِ إذْ لَمْ
يَجْعَلُوا بَعْدَ الإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ حُكْمًا زَائِدًا إلَى خَمْسَةٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَهَلْ وَجَدُوا فِي شَيْءٍ مِنْ الإِبِلِ حُكْمَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ فِي إبِلٍ وَاحِدَةٍ, بَعْضُهَا يُزَكَّى بِالإِبِلِ وَبَعْضُهَا
يُزَكَّى بِالْغَنَمِ.
وَهُمْ يُنْكِرُونَ أَخْذَ زَكَاةٍ عَمَّا أُصِيبَ فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ,
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا حِقَّيْنِ لِلَّهِ
تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا هَاهُنَا: بِرَأْيِهِمْ
الْفَاسِدِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ حِقَّيْنِ: أَحَدُهُمَا إبِلٌ،وَالثَّانِي غَنَمٌ.
وَهَلاَّ إذْ رَدُّوا الْغَنَمَ وَبِنْتَ الْمَخَاضِ بَعْدَ إسْقَاطِهِمَا رَدُّوا
أَيْضًا فِي سِتٍّ وَثَلاَثِينَ زَائِدَةً عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ بِنْتَ
اللَّبُونِ!
فَإِنْ قَالُوا: مَنَعَنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام: "فِي كُلِّ
خَمْسِينَ حِقَّةٌ".
(6/41)
قِيلَ
لَهُمْ: فَهَلاَّ مَنَعَكُمْ مِنْ رَدِّ الْغَنَمِ قَوْلُهُ عليه السلام:
"وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ" فَظَهَرَ أَنَّهُمْ لَمْ
يَتَعَلَّقُوا بِشَيْءٍ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ.
وَقَالُوا فِي الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ: "لَيْسَ فِيمَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ شَيْءٌ إلَى
ثَلاَثِينَ وَمِائَةٍ", إنَّهُ يُعَارِضُ سَائِرَ الأَخْبَارِ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا فَأَوَّلُ مَا يُعَارَضُ فَصَحِيفَةُ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ, وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِيمَا يَظُنُّهُ فِيهِمَا; فَسَقَطَ تَمْوِيهُهُمْ
كُلُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَعَلِيٍّ; وَابْنِ مَسْعُودٍ; فَقَدْ كَذَبُوا جِهَارًا.
فأما عَلِيٌّ فَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْهُ, وَأَنَّهُ
لَيْسَ فِيمَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ بِمَا
ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ بِالتَّمْوِيهِ الْكَاذِبِ.
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلاَ يَجِدُونَهُ عَنْهُ أَصْلاً, إمَّا ثَابِتٌ
فَنَقْطَعُ بِذَلِكَ قَطْعًا; وَأَمَّا رِوَايَةٌ سَاقِطَةٌ فَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ
وُجُودُهَا أَيْضًا, وَأَمَّا مَوْضُوعَةٌ مِنْ عَمَلِ الْوَقْتِ فَيَسْهُلُ
عَلَيْهِمْ إلاَّ أَنَّهَا لاَ تُنْفَقُ فِي سُوقِ الْعِلْمِ.
وَأَمَّا عُمَرُ رضي الله عنه فَالثَّابِتُ عَنْهُ كَالشَّمْسِ خِلاَفُ
قَوْلِهِمْ, وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا, وَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِ خِلاَفِ ذَلِكَ
عَنْهُ, إلاَّ إنْ صَاغُوهُ لِلْوَقْتِ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: فِي الإِبِلِ فِي خَمْسٍ شَاةٌ,
وَفِي عَشْرٍ شَاتَانِ وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلاَثُ شِيَاهٍ, وَفِي عِشْرِينَ
أَرْبَعُ شِيَاهٍ, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ; فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ, إلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَإِنْ زَادَتْ
وَاحِدَةً فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ, إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَتْ
وَاحِدَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ, إلَى سِتِّينَ, فَإِنْ زَادَتْ
وَاحِدَةً فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً
فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ, فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا
حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ, إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ; فَإِنْ زَادَتْ فَفِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ هُوَ أَبُو
كُرَيْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ،
عَنِ
(6/42)
ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الَّذِي كَتَبَهُ فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ,
فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمُ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: "إذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ
لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَلاَثِينَ
وَمِائَةً, فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا
وَثَلاَثِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا
حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً,
فَإِذَا كَانَتْ خَمْسِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, حَتَّى تَبْلُغَ
تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا
أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ, فَإِذَا
كَانَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ, حَتَّى
تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً
فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ
وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ
لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ
مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ; أَيُّ
السِّنِينَ وُجِدَتْ أُخِذَتْ وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ" فَذَكَرَ نَحْوَ
حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ, هُوَ قَوْلُنَا نَفْسُهُ, مُخَالِفٌ
لِقَوْلِهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ تَعَلُّلُهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ
يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا.
ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَالاِحْتِجَاجِ بِهِ مُوهِمِينَ
أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِهِمْ فِي أَنْ لاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي السَّائِمَةِ.
فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ, وَخِلاَفِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى, وَلِلسُّنَنِ الثَّابِتَةِ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَِبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيٍّ,
وَأَنَسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، دُونَ أَنْ
يَتَعَلَّقُوا بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ,
إلاَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/43)
675
- مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَيُعْطِي الْمُصَدِّقُ, الشَّاتَيْنِ أَوْ
الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِمَّا أَخَذَ مِنْ صَدَقَةِ الْغَنَمِ, أَوْ يَبِيعَ مِنْ
الإِبِلِ,
لاَِنَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَأْخُذُ ذَلِكَ; فَمِنْ
مَالِهِمْ يُؤَدِّيه.
وَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقَاصُّ, وَهُوَ: أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِنْتَا
لَبُونٍ فَلاَ يَجِدُهُمَا عِنْدَهُ, وَيَجِدُ عِنْدَهُ حِقَّةً وَبِنْتَ مَخَاضٍ,
فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُمَا وَيُعْطِيه شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَيَأْخُذ
مِنْهُ شَاتَيْنِ
(6/43)
أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلاَ بُدَّ, وَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ ثُمَّ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ, أَوْ يُعْطِيَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ بِعَيْنِهِ لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى وَاسْتَوْفَى وَأَمَّا التَّقَاصُّ بِأَنْ يَتْرُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ تَرْكٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ وَجَبَ لَمْ يُقْبَضْ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ, وَلاَ يَجُوزُ إبْرَاءُ الْمُصَدِّقِ مِنْ حَقِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ; لاَِنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/44)
الزكاة
تتكرر في كل سنة في الإبل و البقر و الغنم و الذهب و الفضة بخلاف البر و الشعير و
التمر
...
676 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ, فِي الإِبِلِ,
وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ, وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, بِخِلاَفِ الْبُرِّ
وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ,
فَإِنَّ هَذِهِ الأَصْنَافَ إذَا زُكِّيَتْ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ
أَبَدًا, وَإِنَّمَا تُزَكَّى عِنْدَ تَصْفِيَتِهَا, وَكَيْلِهَا, وَيُبْسِ
التَّمْرِ, وَكَيْلِهِ, وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ, إلاَّ فِي
الْحُلِيِّ وَالْعَوَامِلِ, وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ الْمُصَدِّقِينَ كُلَّ سَنَةٍ.
(6/44)
الزكاة
واجبة في الإبل و البقر و الغنم بانقضاء الحول و لا حكم في ذلك لمجيء الساعي
...
677 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ, فِي الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ,
وَالْغَنَمِ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ, وَلاَ حُكْمَ فِي ذَلِكَ لِمَجِيءِ السَّاعِي
وَهُوَ الْمُصَدِّقُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ,
وَأَصْحَابِنَا.
وقال مالك, وَأَبُو ثَوْرٍ: لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إلاَّ بِمَجِيءِ الْمُصَدِّقِ.
ثُمَّ تَنَاقَضُوا فَقَالُوا: إنْ أَبْطَأَ الْمُصَدِّقُ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ
لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ; وَوَجَبَ أَخْذُهَا لِكُلِّ عَامٍ خَلاَ.
وَهَذَا إبْطَالُ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إلاَّ بِمَجِيءِ
السَّاعِي, وَإِنَّمَا السَّاعِي وَكِيلٌ مَأْمُورٌ بِقَبْضِ مَا وَجَبَ; لاَ
يَقْبِضُ مَا لَمْ يَجِبْ, وَلاَ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ وَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَنَّ
الْمُصَدِّقَ لَوْ جَاءَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَمَا جَازَ أَنْ يُعْطَى
مِنْهَا شَيْئًا, فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِمَجِيءِ السَّاعِي.
وَلاَ يَخْلُو السَّاعِي مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ
طَاعَتُهُ, أَوْ أَمِيرُهُ, أَوْ بَعَثَهُ مَنْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُ, فَإِنْ
بَعَثَهُ مَنْ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمَأْمُورُ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ عليه السلام بِقَبْضِ الزَّكَاةِ, فَإِذْ لَيْسَ هُوَ
ذَلِكَ فَلاَ يُجْزِئُ مَا قَبَضَ, وَالزَّكَاةُ بَاقِيَةٌ وَعَلَى صَاحِبِ
الْمَالِ أَدَاؤُهَا، وَلاَ بُدَّ; لإِنَّ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ مَظْلِمَةٌ لاَ
صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعَثَهُ مَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ, فَلاَ يَخْلُو
مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاعِثُهُ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, أَوْ لاَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا,
فَإِنْ كَانَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ دَفْعُ زَكَاتِهِ
إلاَّ إلَيْهِ; لاَِنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ الْمَأْمُورِ
بِدَفْعِهَا إلَيْهِ فَقَدْ تَعَدَّى, وَالتَّعَدِّي
(6/44)
زكاة
السائمة و غير السائمة من الماشية
تزكى السوائم و المعلوفة و المتخذة للركوب و للحرث و غير ذلك من الإبل و البقر و
الغنم
...
زكاة السائمة وغير السائمة من الماشية
678 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ مَالِكٌ, وَاللَّيْثُ, وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُزَكَّى
السَّوَائِمُ, وَالْمَعْلُوفَةُ, وَالْمُتَّخَذَةُ لِلرُّكُوبِ, وَلِلْحَرْثِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ, مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: أَمَّا الإِبِلُ فَنَعَمْ, وَأَمَّا الْغَنَمُ
وَالْبَقَرُ فَلاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي سَائِمَتِهَا.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ
بْنِ الْمُغَلِّسِ.
وقال بعضهم: أَمَّا الإِبِلُ, وَالْغَنَمُ فَتُزَكَّى سَائِمَتُهَا وَغَيْرُ
سَائِمَتِهَا, وَأَمَّا الْبَقَرُ فَلاَ تُزَكَّى إلاَّ سَائِمَتُهَا.وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد رحمه الله.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ سَائِمَةَ الإِبِلِ
وَغَيْرَ السَّائِمَةِ مِنْهَا تُزَكَّى سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وقال أبو حنيفة,
وَالشَّافِعِيُّ: لاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وقال بعضهم: تُزَكَّى غَيْرُ السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً
فِي الدَّهْرِ, ثُمَّ لاَ تَعُودُ الزَّكَاةُ فِيهَا.
فَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, بِأَنْ قَالُوا:
قَوْلُنَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
وَغَيْرِهِمْ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيق سُفْيَان, وَمَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَيْسَ عَلَى عَوَامِلِ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا قَوْلَ عُمَرَ رضي الله عنه: فِي أَرْبَعِينَ مِنْ
الْغَنَمِ سَائِمَةُ شَاةٍ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَعَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: لَيْسَ عَلَى عَوَامِلِ
الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ صَدَقَةَ فِي
الْمُثِيرَةِ.
وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفٌ فِي
ذَلِكَ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: لاَ صَدَقَةَ فِي الْحُمُولَةِ,
وَالْمُثِيرَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَعَبْدِ الْكَرِيمِ.
وَالْحُمُولَةُ: هِيَ الإِبِلُ الْحَمَّالَةُ, وَالْمُثِيرَةُ بَقَرُ الْحَرْثِ,
قَالَ تعالى: {لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ}.
(6/45)
وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَيْسَ عَلَى ثَوْرٍ عَامِلٍ، وَلاَ عَلَى جَمَلِ
ظَعِينَةٍ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: لَيْسَ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فِي مِصْرٍ يَحْلِبُهَا فَلاَ
زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا, وَلاَ صَدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: لَيْسَ فِي السَّوَانِي مِنْ الْبَقَرِ, وَبَقَرِ الْحَرْثِ
صَدَقَةٌ, وَفِيمَا عَدَاهُمَا مِنْ الْبَقَرِ الصَّدَقَةُ كَصَدَقَةِ الإِبِلِ,
وَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي عَوَامِلِ الإِبِلِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَيْسَ فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ
الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ وَالإِبِلِ
الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ
الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْحَرْثِ صَدَقَةٌ.
وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَعَنْ طَاوُوس: لَيْسَ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ صَدَقَةٌ, إلاَّ فِي
السَّوَائِمِ خَاصَّةً.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَعَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ.
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ زَكَاةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ, وَأَوْجَبَهَا
فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: لاَ زَكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مِنْ الإِبِلِ
وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ, وَلاَ زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ الْمُتَّخَذَةِ لِلذَّبْحِ
وَذُكِرَ لَهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ, فَعَجِبَ,
وَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ, وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَقَتَادَةَ وَحَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الإِبِلِ الْعَوَامِلِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ الأَنْصَارِيِّ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ غَنَمٍ,
وَبَقَرٍ, وَإِبِلٍ, سَائِمَةٍ.
أَوْ غَيْرِ سَائِمَةٍ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ" قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ عليه
السلام كَلاَمًا لاَ فَائِدَة فِيهِ; فَدَلَّ أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ بِخِلاَفِ
السَّائِمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الآثَارِ: "فِي سَائِمَةِ الإِبِلِ" قَالُوا:
فَقِسْنَا سَائِمَةَ الْبَقَرِ عَلَى ذَلِكَ.
(6/46)
وَقَالُوا:
إنَّمَا جُعِلَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا فِيهِ النَّمَاءُ, وَأَمَّا فِيمَا فِيهِ
الْكُلْفَةُ فَلاَ, مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِ عَوَامِلِ الْبَقَرِ خَاصَّةً بِأَنَّ
الأَخْبَارَ فِي الْبَقَرِ لَمْ تَصِحَّ; فَالْوَاجِبُ أَنْ لاَ تَجِبَ الزَّكَاةُ
فِيهَا إلاَّ حَيْثُ اُجْتُمِعَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا; لَمْ يُجْمَعْ
عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ
بِأَنْ قَالَ: قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِيهَا بِالنَّصِّ الْمُجْمَلِ, وَلَمْ
يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ تُكَرَّرَ الزَّكَاةُ فِيهَا فِي كُلِّ عَامٍ, فَوَجَبَ
تَكَرُّرُ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ; وَلَمْ
يَجِبْ التَّكْرَارُ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِإِجْمَاعٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا حُجَّةُ مَنْ احْتَجَّ بِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ;
وَبِأَنَّهُ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يُعْرَفُ
مِنْهُمْ مُخَالِفٌ: فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم.
ثم نقول لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذِهِ
الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ,
إذْ قَالُوا بِزَكَاةِ خَمْسِينَ بَقَرَةً بِبَقَرَةٍ وَرُبُعٍ, وَلاَ يُعْرَفُ
ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِمْ إلاَّ عَنْ
إبْرَاهِيمَ, وَتَقْسِيمِهِمْ فِي الْمَيْتَاتِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ فَتَمُوتُ
فِيهِ, فَلاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَسَّمَهُ قَبْلَهُمْ, وَتَقْدِيرِهِمْ
الْمَسْحَ فِي الرَّأْسِ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ مَرَّةً وَبِرُبُعِ الرَّأْسِ
مَرَّةَ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْهَوَسُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَلَوَدِدْنَا
أَنْ نَعْرِفَ بِأَيِّ الأَصَابِعِ هِيَ أَمْ بِأَيِّ خَيْطٍ يُقَدَّرُ رُبُعُ
الرَّأْسِ وَإِجَازَتِهِمْ الاِسْتِنْجَاءَ بِالرَّوْثِ; ، وَلاَ يُعْرَفُ أَنَّ
أَحَدًا أَجَازَهُ قَبْلَهُمْ, وَتَقْسِيمِهِمْ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْ الْجَوْفِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَقَوْلِهِمْ
فِي صِفَةِ صَدَقَةِ الْخَيْلِ, وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ, وَمِثْلُ
هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا; وَخِلاَفِهِمْ لِكُلِّ رِوَايَةٍ جَاءَتْ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ
يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَخِلاَفِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَأَبُو
حَثْمَةَ, وَابْنَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ فِي تَرْكِ مَا يَأْكُلُهُ
الْمَخْرُوصُ عَلَيْهِ مِنْ التَّمْرِ, وَمَعَهُمْ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ
بِيَقِينٍ, لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ
جِدًّا.
وَكَذَلِكَ نَسِيَ الشَّافِعِيُّونَ1 أَنْفُسَهُمْ فِي تَقْسِيمِهِمْ مَا تُؤْخَذُ
مِنْهُ الزَّكَاةُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ2، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَ الشَّافِعِيِّ, وَتَحْدِيدِهِمْ مَا يَنْجَسُ مِنْ الْمَاءِ مِمَّا لاَ
يَنْجَسُ بِخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِيَّةٍ وَمَا يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُمْ, وَخِلاَفُهُمْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ
وَبِالْعَيْنِ أَنَّهُ يُزَكَّى عَلَى الأَغْلَبِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ, وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَهُمْ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ
السَّائِمَةِ, فَنَعَمْ, صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي
بَكْرٍ رضي الله عنه فِي الْغَنَمِ خَاصَّةً فَلَوْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُ هَذَا
الْخَبَرِ لَوَجَبَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "الشافعيين" وهو لحن.
2 في النسخة رقم "16" ومما يخرج من ثمر الأرض.
(6/47)
أَنْ
لاَ يُزَكَّى غَيْرُ السَّائِمَةِ; لَكِنْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا
أَوْرَدْنَا قَبْلَ إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ جُمْلَةً, فَكَانَ هَذَا
زَائِدًا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ, وَالزِّيَادَةُ لاَ يَجُوزُ
تَرْكُهَا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي سَائِمَةِ الإِبِلِ فَلاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ
إلاَّ فِي خَبَرِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ فَقَطْ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عُمَرَ زِيَادَةَ
حُكْمٍ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةُ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ
فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} مَعَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الآيَةِ.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} مَعَ قوله تعالى:
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فَكَانَ
هَذَا زَائِدًا عَلَى مَا فِي تِلْكَ الآيَةِ.
وَهَلاَّ اسْتَعْمَلَ الْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ هَذَا الْعَمَلَ حَيْثُ
كَانَ يَلْزَمُهُمْ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَقَالُوا: وَكَذَلِكَ
مَنْ قَتَلَهُ مُخْطِئًا وَلَعَمْرِي إنَّ قِيَاسَ غَيْرِ السَّائِمَةِ عَلَى
السَّائِمَةِ لاََشْبَهَ مِنْ قِيَاسِ قَاتِلِ الْخَطَأِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ
وَحَيْثُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فَقَالُوا: نَعَمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِي حُجُورِنَا.
وَمِثْل هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا, لاَ يَتَثَقَّفُونَ فِيهِ إلَى أَصْلٍ فَمَرَّةٌ
يَمْنَعُونَ مَنْ تَعَدَّى مَا فِي النَّصِّ حَيْثُ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ
عَلَيْهِ, وَمَرَّةٌ يَتَعَدَّوْنَ النَّصَّ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ آخَرُ
بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَهُمْ أَبَدًا يَعْكِسُونَ الْحَقَائِقَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَخَذُوا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ, وَلَمْ يَتْرُكُوا بَعْضَهَا لِبَعْضِ, وَلَمْ
يَتَعَدَّوْهَا إلَى مَا لاَ نَصَّ فِيهِ: لَكَانَ أَسْلَمَ لَهُمْ مِنْ النَّارِ
وَالْعَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُم: إنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا جُعِلَتْ عَلَى مَا فِيهِ
النَّمَاءُ; فَبَاطِلٌ, وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ,
وَلاَ تَنْمِي أَصْلاً, وَلَيْسَتْ فِي الْحَمِيرِ, وَهِيَ تَنْمِي, وَلاَ فِي
الْخَضَرِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ, وَهِيَ تَنْمِي.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَوَامِلَ مِنْ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ تَنْمِي أَعْمَالُهَا
وَكِرَاؤُهَا, وَتَنْمِي بِالْوِلاَدَةِ أَيْضًا.
فَإِنْ قَالُوا: لَهَا مُؤْنَةٌ فِي الْعَلَفِ.
قلنا: وَلِلسَّائِمَةِ مُؤْنَةُ الرَّاعِي وَأَنْتُمْ لاَ تَلْتَفِتُونَ إلَى
عَظِيمِ الْمُؤْنَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْحَرْثِ, وَإِنْ اسْتَوْعَبَتْهُ
كُلَّهُ; بَلْ تَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِيهِ, وَلاَ تُرَاعُونَ الْخَسَارَةَ فِي
التِّجَارَةِ, بَلْ تَرَوْنَ
(6/48)
الزَّكَاةَ
فِيهَا فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ خَصَّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَقَرَ بِأَنْ لاَ تُزَكَّى إلاَّ
سَائِمَتُهَا فَقَطْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم زَكَاةُ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ عُمُومًا, وَحَدُّ زَكَاتِهَا, وَمِنْ
كَمْ تُؤْخَذْ الزَّكَاةُ مِنْهَا: فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَمْرُهُ صلى الله
عليه وسلم بِرَأْيٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فَلَمْ يَصِحَّ فِي
صِفَةِ زَكَاتِهَا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ تَجِبَ الزَّكَاةُ إلاَّ فِي بَقَرٍ صَحَّ
الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا, وَلاَ إجْمَاعَ إلاَّ فِي
السَّائِمَةِ; فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا, دُونَ غَيْرِهَا الَّتِي لاَ إجْمَاعَ
فِيهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ; بَلْ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ, بِقَوْلِهِ عليه السلام الَّذِي قَدْ
أَوْرَدْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ، وَلاَ بَقَرٍ
لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ فُعِلَ بِهِ كَذَا." فَصَحَّ بِالنَّصِّ
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ جُمْلَةً; إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصُّ فِي
الْعَدَدِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهَا, وَلاَ كَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا,
فَفِي هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يُرَاعَى الإِجْمَاعُ, وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَقَرٍ
دُونَ بَقَرٍ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلثَّابِتِ عَنْهُ عليه السلام مِنْ إيجَابِهِ
الزَّكَاةَ فِي الْبَقَرِ بِغَيْرِ نَصٍّ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ، عَنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ بِهَذَا
الدَّلِيلِ وَبَيْنَ مَنْ أَسْقَطَهَا، عَنِ الذُّكُورِ بِهَذَا الدَّلِيلِ
نَفْسِهِ, فَقَدْ صَحَّ الْخِلاَفُ فِي زَكَاتِهَا.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ،
حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّوَائِمِ صَدَقَةٌ
إلاَّ إنَاثَ الإِبِلِ, وَإِنَاثَ الْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا, وَلاَ
الْحَنَفِيُّونَ, وَلاَ الْمَالِكِيُّونَ, وَلاَ الشَّافِعِيُّونَ, وَلاَ
الْحَنْبَلِيُّونَ، وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ تَحَكُّمٌ
بِلاَ بُرْهَانٍ.
فَوَجَبَتْ بِالنَّصِّ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ بَقَرٍ, أَيْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ
الْبَقَرِ كَانَتْ, سَائِمَةً أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ, إلاَّ بَقَرًا خَصَّهَا
نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْعَدَدُ, وَالْوَقْتُ, وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ
بِهِ إلاَّ بِإِجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ أَوْ بِنَصٍّ صَحِيحٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي السَّائِمَةِ بِعَوْدَةِ الزَّكَاةِ فِيهَا كُلَّ عَامٍ,
وَرَأَى الزَّكَاةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ: فَإِنَّهُ
احْتَجَّ بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْبَقَرِ بِالنَّصِّ الَّذِي
أَوْرَدْنَا; وَلَمْ يَأْتِ بِتَكْرَارِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ عَامٍ نَصٌّ; فَلاَ
تَجُوزُ عَوْدَةُ الزَّكَاةِ فِي مَالٍ قَدْ زُكِّيَ, إلاَّ بِالإِجْمَاعِ; وَقَدْ
صَحَّ الإِجْمَاعُ بِعَوْدَةِ
(6/49)
الزَّكَاةِ
فِي الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ, وَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ1 كُلَّ عَامٍ, فَوَجَبَ
الْقَوْلُ بِذَلِكَ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي عَوْدَتِهَا فِي غَيْرِ
السَّائِمَةِ مِنْهَا كُلِّهَا; فَلاَ يَجِبُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا قَوْلاً صَحِيحًا لَوْلاَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ فِي كُلِّ
عَامٍ لِزَكَاةِ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ هَذَا أَمْرٌ مَنْقُولٌ
نَقْلَ الْكَافَّةِ; وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"اُرْضُوَا مُصَدِّقِيكُمْ" فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا بِيَقِينٍ;
فَخُرُوجُ الْمُصَدِّقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ مُوجِبٌ أَخْذَ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ
عَامٍ بِيَقِينٍ; فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ, فَتَخْصِيصُ بَعْضِ مَا وَجَبَتْ
فِيهِ الزَّكَاةُ عَامًا بِأَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهُ الْمُصَدِّقُ الزَّكَاةَ
عَامًا ثَانِيًا تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ. وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ; وَإِنَّمَا
يُرَاعَى مِثْلُ هَذَا فِيمَا لاَ نَصَّ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
ـــــــ
1 في النسخى رقم "14" و"السائنة" وزيادة الواو خطأ مفسد
المعنى.
(6/50)
فرض
على كل ذي إبل و بقر و غنم أن يحلبها يوم وردها على الماء و يتصدق من لبنها بما
طابت به نفسه
...
679 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ ذِي إبِلٍ, وَبَقَرٍ, وَغَنَمٍ أَنْ
يَحْلِبَهَا يَوْمَ وِرْدِهَا عَلَى الْمَاءِ, وَيَتَصَدَّقُ مِنْ لَبَنِهَا بِمَا
طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ هُوَ أَبُو الْيَمَانِ، حدثنا شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي
حَمْزَةَ، حدثنا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ هُرْمُزٍ
الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَأْتِي الإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى
خَيْرِ مَا كَانَتْ, إذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا, تَطَؤُهُ
بِأَخْفَافِهَا, وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ,
إذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا, تَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ
بِقُرُونِهَا, قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ"1.
قال أبو محمد: وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لاَ حَقَّ فِي الْمَالِ غَيْرُ الزَّكَاةِ
فَقَدْ قَالَ: الْبَاطِلَ, وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ, لاَ مِنْ
نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الأَمْوَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ هَذَا: هَلْ تَجِبُ
فِي الأَمْوَالِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالأَيْمَانِ وَدُيُونِ النَّاسِ أَمْ لاَ
فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا إعَارَةُ الدَّلْوِ وَإِطْرَاقُ الْفَحْلِ فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ
اللَّهِ تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
ـــــــ
1 هو في البخاري "ج 2 ص 217".
(6/50)
الأسنان
المذكورات في للإبل
...
680 - مَسْأَلَةٌ: الأَسْنَانُ الْمَذْكُورَاتُ فِي الإِبِلِ.
بِنْتُ الْمَخَاضِ: هِيَ الَّتِي أَتَمَّتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي سَنَتَيْنِ,
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لإِنَّ أُمَّهَا مَاخِضٌ; أَيْ قَدْ حَمَلَتْ فَإِذَا
أَتَمَّتْ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ فَهِيَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَابْنُ
لَبُونٍ, لإِنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ فَلَهَا لَبَنٌ, فَإِذَا أَتَمَّتْ
ثَلاَثَ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ فَهِيَ حِقَّةٌ, لاَِنَّهَا قَدْ
اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا الْفَحْلُ, وَالْحَمْلُ; فَإِذَا أَتَمَّتْ
أَرْبَعَ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ فَهِيَ جَذَعَةٌ; فَإِذَا أَتَمَّتْ
(6/50)
681
- مَسْأَلَةٌ: وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا لاَ تُحِيلُ حُكْمَ
الزَّكَاةِ,
وَلِكُلِّ أَحَدٍ حُكْمُهُ فِي مَالِهِ, خَالَطَ أَوْ لَمْ يُخَالِطْ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ أَنَا سُرَيْجٌ بْنُ النُّعْمَانِ
ثني حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ:
"أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِي آخِرِهِ:
"وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ
الصَّدَقَةِ, وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ
بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ".
قال أبو محمد: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْخَبَرِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إذَا تَخَالَطَ اثْنَانِ فَأَكْثَرَ فِي إبِلٍ, أَوْ فِي
بَقَرٍ, أَوْ فِي غَنَمٍ, فَإِنَّهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ مَاشِيَتِهِمْ, الزَّكَاةُ
كَمَا كَانَتْ تُؤْخَذُ لَوْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ, وَالْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ أَنْ
تَجْتَمِعَ الْمَاشِيَةُ فِي الرَّاعِي, وَالْمَرَاحِ, وَالْمَسْرَحِ,
وَالْمَسْقَى, وَمَوَاضِعِ الْحَلْبِ: عَامًا كَامِلاً مُتَّصِلاً وَإِلاَّ
فَلَيْسَتْ خُلْطَةً, وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَاشِيَتُهُمْ مُشَاعَةً لاَ تَتَمَيَّزُ,
أَوْ مُتَمَيِّزَةً, وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الدَّلْوُ, وَالْفَحْلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا الْقَوْلُ مَمْلُوءٌ مِنْ الْخَطَأِ.
أَوَّلَ ذَلِكَ: أَنَّ ذِكْرَهُمْ الرَّاعِي كَانَ يُغْنِي، عَنْ ذِكْرِ
الْمَسْرَحِ, وَالْمَسْقَى; لاَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ
الرَّاعِي وَاحِدًا وَتَخْتَلِفُ مَسَارِحُهَا وَمَسَاقِيهَا; فَصَارَ ذِكْرُ
الْمَسْرَحِ وَالْمَسْقَى فُضُولاً
(6/51)
وَأَيْضًا
فَإِنَّ ذِكْرَ الْفَحْلِ خَطَأٌ, لاَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لاِِنْسَانٍ وَاحِدٍ
فَحْلاَنِ وَأَكْثَرُ; لِكَثْرَةِ مَاشِيَتِهِ, وَرَاعِيَانِ وَأَكْثَرُ
لِكَثْرَةِ مَاشِيَتِهِ; فَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِمْ إذَا أَوْجَبَ
اخْتِلاَطُهُمَا فِي الرَّاعِي, وَالْعَمَلِ: أَنْ يُزَكِّيَهَا, زَكَاةَ
الْمُنْفَرِدِ, وَأَنْ لاَ تُجْمَعُ مَاشِيَةُ إنْسَانٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ لَهُ
فِيهَا رَاعِيَانِ فَحْلاَنِ, وَهَذَا لاَ تَخَلُّصَ مِنْهُ.
وَنَسْأَلُهُمْ إذَا اخْتَلَطَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ: أَلَهُمَا حُكْمُ
الْخُلْطَةِ أَمْ لاَ فَأَيُّ ذَلِكَ قَالُوا فَلاَ سَبِيلَ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُمْ إلاَّ تَحَكُّمًا فَاسِدًا بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ زَادُوا فِي التَّحَكُّمِ فَرَأَوْا فِي جَمَاعَةٍ لَهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ
الإِبِلِ, أَوْ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ, أَوْ ثَلاَثُونَ مِنْ الْبَقَرِ
بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ: أَنَّ الزَّكَاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهَا, وَأَنَّ ثَلاَثَةً
لَوْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَهُمْ خُلَطَاءُ فِيهَا:
فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إلاَّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, كَمَا لَوْ كَانَتْ لِوَاحِدٍ,
وَقَالُوا: إنَّ خَمْسَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ الإِبِلِ
تَخَالَطُوا بِهَا عَامًا فَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ بِنْتُ مَخَاضٍ وَهَكَذَا فِي
جَمِيعِ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي.
وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد فِيمَنْ وَافَقَهُ مِنْ
أَصْحَابِنَا.
حَتَّى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى حُكْمَ الْخُلْطَةِ جَارِيًا كَذَلِكَ فِي
الثِّمَارِ, وَالزَّرْعِ, وَالدَّرَاهِمِ, وَالدَّنَانِيرِ فَرَأَى فِي جَمَاعَةٍ
بَيْنَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَقَطْ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا, وَأَنَّ جَمَاعَةً
يَمْلِكُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقَطْ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَقَطْ وَهُمْ
خُلَطَاءُ فِيهَا أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذَلِكَ, وَلَوْ أَنَّهُمْ أَلْفٌ
أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلَطَاءِ مَا
فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّوْا حِينَئِذٍ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ, وَإِنْ كَانَ لاَ
يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ,
وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقَعُ لَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ,
وَمَنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ لاَ يَقَعُ لَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ
زَكَاةَ عَلَيْهِ. فَرَأْيُ هَؤُلاَءِ فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا يَمْلِكَانِ
أَرْبَعِينَ شَاةً, أَوْ سِتِّينَ أَوْ مَا دُونَ الثَّمَانِينَ, أَوْ ثَلاَثِينَ
مِنْ الْبَقَرِ أَوْ مَا دُونَ السِّتِّينَ, وَكَذَلِكَ فِي الإِبِلِ: فَلاَ
زَكَاةَ عَلَيْهِمْ; فَإِنْ كَانَ ثَلاَثَةٌ يَمْلِكُونَ مِائَةً وَعِشْرِينَ
شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا, فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إلاَّ شَاةٌ
وَاحِدَةٌ فَقَطْ, وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاشِي.
وَلَمْ يَرَ هَؤُلاَءِ حُكْمَ الْخُلْطَةِ إلاَّ فِي الْمَوَاشِي فَقَطْ.
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَمَالِكٍ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي عُبَيْدٍ,
وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُغَلِّسِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ تُحِيلُ الْخُلْطَةُ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَصْلاً, لاَ فِي
الْمَاشِيَةِ, وَلاَ فِي غَيْرِهَا; وَكُلُّ خَلِيطٍ
(6/52)
لِيُزَكِّيَ
مَا مَعَهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا, وَلاَ فَرْقَ, فَإِنْ كَانَ
ثَلاَثَةُ خُلَطَاءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَلَيْهِمْ ثَلاَثُ
شِيَاهٍ, عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ, وَإِنْ كَانَ خَمْسَةٌ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ وَهُمْ خُلَطَاءُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
شَاةٌ, وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَشَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَالْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ.
قال أبو محمد: لَمْ نَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَةً لاَِحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ, وَوَجَدْنَا أَقْوَالاً، عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ, وَابْنِ
هُرْمُزٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ, وَالزُّهْرِيِّ, فَقَطْ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا كَانَ الْخَلِيطَانِ يَعْلَمَانِ أَمْوَالَهُمَا
فَلاَ تُجْمَعُ أَمْوَالُهُمَا فِي الصَّدَقَةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَذَكَرْتُ
هَذَا لِعَطَاءٍ مِنْ قَوْلِ طَاوُوسٍ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إلاَّ حَقًّا.
َرُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إذَا كَانَ رَاعِيهِمَا
وَاحِدًا, وَكَانَتْ تَرِدُ جَمِيعًا وَتَرُوحُ جَمِيعًا صُدِّقَتْ جَمِيعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الإِبِلَ إذَا جَمَعَهَا الرَّاعِي
وَالْفَحْلُ وَالْحَوْضُ تُصَدَّقُ جَمِيعًا ثُمَّ يَتَحَاصُّ أَصْحَابُهَا عَلَى
عِدَّةِ الإِبِلِ فِي قِيمَةِ الْفَرِيضَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ الإِبِلِ,
فَإِنْ كَانَ اسْتَوْدَعَهُ إيَّاهَا لاَ يُرِيدُ مُخَالَطَتَهُ، وَلاَ وَضْعَهَا
عِنْدَهُ يُرِيدُ نِتَاجَهَا فَإِنَّ تِلْكَ تُصَدَّقُ وَحْدَهَا.
وَعَنِ ابْنِ هُرْمُزَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّتْ كُلُّ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهَا بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ.
فَقَالَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْخُلْطَةَ تُحِيلُ الصَّدَقَةَ وَتَجْعَلُ مَالَ
الاِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا بِمَنْزِلَةِ كَمَا1 لَوْ أَنَّهُ لِوَاحِدٍ: أَنَّ
مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلاَ
يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ هُوَ
أَنْ يَكُونَ لِثَلاَثَةٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثُلُثُهَا: وَهُمْ خُلَطَاءُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ شَاةٌ
وَاحِدَةٌ, فَنَهَى الْمُصَدِّقَ أَنْ يُفَرِّقَهَا لِيَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ
شَاةً فَيَأْخُذُ ثَلاَثَ شِيَاهٍ, وَالرَّجُلاَنِ يَكُونُ لَهُمَا مِائَتَا شَاةٍ
وَشَاتَانِ, لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا, فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ
فَيُفَرِّقَانِهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ; فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
شَاةً, فَلاَ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ إلاَّ شَاتَيْنِ.
وَقَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "كُلُّ خَلِيطَيْنِ يَتَرَاجَعَانِ
بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ", هُوَ أَنْ يَعْرِفَا أَخْذَ السَّاعِي فَيَقَعُ
عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتُهُ عَلَى حَسْبِ عَدَدِ مَاشِيَتِهِ كَاثْنَيْنِ
لاَِحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِلآخِرِ ثَمَانُونَ وَهُمَا خَلِيطَانِ,
فَعَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ, عَلَى صَاحِبِ الثَّمَانِينَ ثُلُثَاهَا وَعَلَى
صَاحِبِ الأَرْبَعِينَ ثُلُثُهَا.
ـــــــ
1 كلمة "كما" سقطت من النسخة رقم "14".
(6/53)
وَقَالَ
مَنْ رَأَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لاَ تُحِيلُ حُكْمَ الصَّدَقَةِ: مَعْنَى قَوْلِهِ
صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلاَ يُجْمَعُ
بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" هُوَ أَنْ يَكُونَ لِثَلاَثَةٍ
مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً, لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهَا, فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ شَاةٌ, فَنُهُوا، عَنْ جَمْعِهَا وَهِيَ مُتَفَرِّقَةٌ فِي مِلْكِهِمْ
تَلْبِيسًا عَلَى السَّاعِي أَنَّهَا لِوَاحِدٍ فَلاَ يَأْخُذُ إلاَّ وَاحِدَةً,
وَالْمُسْلِمُ يَكُونُ لَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاتَانِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلاَثُ
شِيَاهٍ, فَيُفَرِّقُهَا قِسْمَيْنِ وَيُلْبِسُ عَلَى السَّاعِي أَنَّهَا
لاِثْنَيْنِ, لِئَلاَّ يُعْطِيَ مِنْهَا إلاَّ شَاتَيْنِ, وَكَذَلِكَ نَهَى
الْمُصَدِّقَ أَيْضًا، عَنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى الاِثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَا
لَهُمْ لِيُكْثِرَ مَا يَأْخُذُ, وَعَنْ أَنْ يُفَرِّقَ مَالَ الْوَاحِدِ فِي
الصَّدَقَةِ, وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ لِيُكْثِرَ مَا
يَأْخُذُ.
وَقَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "كُلُّ خَلِيطَيْنِ
يَتَرَادَّانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ", هُوَ أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ فِي
اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام هُمَا مَا اخْتَلَطَ مَعَ
غَيْرِهِ فَلَمْ يَتَمَيَّزْ; وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَلِيطَانِ مِنْ النَّبِيذِ
بِهَذَا الاِسْمِ, وَأَمَّا مَا لَمْ يَخْتَلِطْ غَيْرُهُ فَلَيْسَا خَلِيطَيْنِ,
هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, قَالُوا: فَلَيْسَ الْخَلِيطَانِ فِي الْمَالِ إلاَّ
الشِّرْكَيْنِ فِيهِ اللَّذَيْنِ لاَ يَتَمَيَّزُ مَالُ أَحَدِهِمَا مِنْ الآخَرِ,
فَإِنْ تَمَيَّزَ فَلَيْسَا خَلِيطَيْنِ, قَالُوا: فَإِذَا كَانَ خَلِيطَانِ كَمَا
ذَكَرْنَا وَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَالِ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ,
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ قِسْمَتَهَا لِمَالِهِمَا, وَلَعَلَّهُمَا لاَ
يُرِيدَانِ الْقِسْمَةَ, وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُجْبِرَهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ, فَإِذَا أَخَذَ زَكَاتَيْهِمَا فَإِنَّهُمَا
يَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ; كَائِنَيْنِ لاَِحَدِهِمَا ثَمَانُونَ شَاةً
وَلِلآخَرِ أَرْبَعُونَ, وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي جَمِيعِهَا, فَيَأْخُذُ
الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ; وَقَدْ كَانَ لاَِحَدِهِمَا ثُلُثَا كُلِّ شَاةٍ
مِنْهُمَا وَلِلآخَرِ ثُلُثُهَا, فَيَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ فَيَبْقَى
لِصَاحِبِ الأَرْبَعِينَ تِسْعٌ وَثَلاَثُونَ, وَلِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ تِسْعٌ
وَسَبْعُونَ.
قال أبو محمد: فَاسْتَوَتْ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْخَبَرِ,
وَلَمْ تَكُنْ لاِِحْدَاهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الآُخْرَى فِي الْخَبَرِ
الْمَذْكُورِ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا تَأْوِيلَ الطَّائِفَةِ الَّتِي رَأَتْ أَنَّ
الْخُلْطَةَ لاَ تُحِيلُ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَصَحَّ; لإِنَّ كَثِيرًا مِنْ
تَفْسِيرِهِمْ الْمَذْكُورِ مُتَّفَقٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى
صِحَّتِهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ تَفْسِيرِ الطَّائِفَةِ الآُخْرَى مُجْمَعًا
عَلَيْهِ; فَبَطَلَ تَأْوِيلُهُمْ لِتَعَرِّيهِ مِنْ الْبُرْهَانِ; وَصَحَّ
تَأْوِيلُ الآُخْرَى لاَِنَّهُ لاَ شَكَّ فِي صِحَّةِ مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ,
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قول لاَ
يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ; فَهَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ.
وَوَجَدْنَا أَيْضًا الثَّابِتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قوله:
"وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ" ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ إلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلاَ صَدَقَةَ عَلَيْهِ:
"وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِينَ شَاةً شَيْءٌ".
(6/54)
وَسَائِرُ
مَا نَصَّهُ عليه السلام فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ, وَالإِبِلِ, مِنْ أَنَّ فِي
أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً, وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ,
وَغَيْرُ ذَلِكَ, وَوَجَدْنَا مَنْ لَمْ يُحِلْ بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ
قَدْ أَخَذَ بِجَمِيعِ هَذِهِ النُّصُوصِ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا,
وَوَجَدْنَا مَنْ أَحَالَ بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ يَرَى هَذِهِ
النُّصُوصَ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا وَوَجَدْنَا مَنْ أَحَالَ
بِالْخُلْطَةِ حُكْمَ الزَّكَاةِ يَرَى فِي خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ بِنْتِ مَخَاضٍ,
وَأَنَّ ثَلاَثَةً لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً عَلَى السَّوَاءِ بَيْنَهُمْ
أَنَّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ شَاةٍ, وَأَنَّ عَشْرَةَ رِجَالٍ
لَهُمْ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ بَيْنَهُمْ, فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرَ شَاةٍ وَهَذِهِ زَكَاةٌ مَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى
قَطُّ; وَخِلاَفٌ لِحُكْمِهِ تَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَسَأَلْنَاهُمْ، عَنْ إنْسَانٍ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ, خَالَطَ بِهَا صَاحِبَ
خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ فِي بَلَدٍ, وَلَهُ أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ خَالَطَ بِهَا
صَاحِبَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِي بَلَدٍ آخَرَ, وَلَهُ ثَلاَثٌ مِنْ الإِبِلِ,
خَالَطَ بِهَا صَاحِبَ خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ فَمَا
عَلِمْنَاهُمْ أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ يُعْقَلُ أَوْ يُفْهَمُ وَسُؤَالُنَا
إيَّاهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَتَّسِعُ جِدًّا; فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى
جَوَابٍ يَفْهَمُهُ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ, فَنَبَّهْنَا بِهَذَا السُّؤَالِ عَلَى
مَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وَمَنْ رَأَى حُكْمَ الْخُلْطَةِ يُحِيلُ الزَّكَاةَ فَقَدْ جَعَلَ زَيْدًا
كَاسِبًا عَلَى عَمْرٍو, وَجَعَلَ لِمَالِ أَحَدِهِمَا حُكْمًا فِي مَالِ الآخَرِ;
وَهَذَا بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ.
وَمَا عَجَزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ وَهُوَ الْمُفْتَرَضُ
عَلَيْهِ الْبَيَانُ لَنَا، عَنْ أَنْ يَقُولَ: الْمُخْتَلِطَانِ فِي وَجْهِ كَذَا
وَوَجْهِ كَذَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ, فَإِذْ لَمْ يَقُلْهُ فَلاَ
يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بِهَذَا الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا اخْتَلَطَ
فِي الدَّلْوِ, وَالرَّاعِي, وَالْمَرَاحِ, وَالْمُحْتَلَبِ: تَحَكُّمٌ بِلاَ
دَلِيلٍ أَصْلاً, لاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ،
وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ وَجْهٍ يُعْقَلُ, وَبَعْضُهُمْ اقْتَصَرَ عَلَى
بَعْضِ الْوُجُوهِ بِلاَ دَلِيلٍ وَلَيْتَ شِعْرِي: أَمِنْ قَوْلِهِ عليه السلام
مَقْصُورًا عَلَى الْخُلْطَةِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ دُونَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
الْخُلْطَةَ فِي الْمَنْزِلِ, أَوْ فِي الصِّنَاعَةِ, أَوْ فِي الشَّرِكَةِ فِي
الْغَنَمِ كَمَا قَالَ طَاوُوس وَعَطَاءٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ
الْجَبَّارِ مِصْرِيٌّ، حدثنا
(6/55)
ابْنُ
لَهِيعَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَنَّهُ سَمِعَ
السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: إنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ
يُحَدِّثُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:
"الْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَ عَلَى الْفَحْلِ, وَالْمَرْعَى, وَالْحَوْضِ".
قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لاَِنَّهُ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَمَا خَالَفْنَاكُمْ فِي أَنَّ مَا اجْتَمَعَ عَلَى فَحْلٍ,
وَمَرْعًى, وَحَوْضٍ أَنَّهُمَا خَلِيطَانِ فِي ذَلِكَ; وَهَذَا حَقٌّ لاَ شَكَّ
فِيهِ; وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ إحَالَةُ حُكْمِ الزَّكَاةِ الْمُفْتَرَضَةِ
بِذَلِكَ وَلَوْ وَجَبَ بِالاِخْتِلاَطِ فِي الْمَرْعَى إحَالَةُ حُكْمِ
الزَّكَاةِ لَوَجَبَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَاشِيَةٍ فِي الأَرْضِ, لإِنَّ
الْمَرَاعِيَ مُتَّصِلَةٌ فِي أَكْثَرِ الدُّنْيَا, إلاَّ أَنْ يَقْطَعَ بَيْنَهُمَا
بَحْرٌ, أَوْ نَهْرٌ, أَوْ عِمَارَةٌ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لِتَخَالُطِهِمَا بِالرَّاعِي,
وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ; وَإِلاَّ فَقَدْ
يَخْتَلِطُ فِي الْمَسْقَى, وَالْمَرْعَى, وَالْفَحْلِ: أَهْلُ الْحِلَّةِ
كُلُّهُمْ, وَهُمَا لاَ يَرَيَانِ ذَلِكَ خُلْطَةً تُحِيلُ حُكْمَ الصَّدَقَةِ.
وَزَادَ ابْنُ حَنْبَلٍ: وَالْمُحْتَلَبِ.
وقال بعضهم: إنْ اخْتَلَطَا أَكْثَرَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ.
وَهَذَا تَحَكُّمٌ بَارِدٌ وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ خَالَطَ آخَرَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ
فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَجَابُوا فَقَدْ زَادُوا فِي التَّحَكُّمِ بِلاَ دَلِيلٍ وَلَمْ
يَكُونُوا بِأَحَقَّ بِالدَّعْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ!!
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْحَوَالَةِ جِدًّا; لاَِنَّهُ خَصَّ
بِالْخُلْطَةِ الْمَوَاشِيَ, فَقَطْ, دُونَ الْخُلْطَةِ فِي الثِّمَارِ,
وَالزَّرْعِ وَالنَّاضِّ, وَلَيْسَ هَذَا التَّخْصِيصُ مَوْجُودًا فِي الْخَبَرِ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِعَقِبِ
ذِكْرِهِ حُكْمَ الْمَاشِيَةِ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا فَإِنْ كَانَ هَذَا حُجَّةً لَكُمْ فَاقْتَصِرُوا بِحُكْمِ
الْخُلْطَةِ عَلَى الْغَنَمِ فَقَطْ لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ
إلاَّ بِعَقِبِ ذِكْرِ زَكَاةِ الْغَنَمِ; وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ, عَلَى الْغَنَمِ قِيلَ لَهُمْ:
فَهَلاَّ قِسْتُمْ الْخُلْطَةَ فِي الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الْخُلْطَةِ فِي
الْغَنَمِ؟!
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَالِكًا اسْتَعْمَلَ إحَالَةَ الزَّكَاةِ بِالْخُلْطَةِ فِي
النِّصَابِ فَزَائِدًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِي عُمُومِ الْخُلْطَةِ كَمَا
فَعَلَ الشَّافِعِيُّ, وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ; وَإِنْ كَانَ
فَرَّ، عَنْ إحَالَةِ النَّصِّ فِي
(6/56)
أَنْ
لاَ زَكَاةَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ: فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ فِيمَا فَوْقَ
النِّصَابِ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الإِحَالَتَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَإِنَّهُمْ يُشَنِّعُونَ
بِخِلاَفِ الْجُمْهُورِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ; وَهُمْ هُنَا قَدْ خَالَفُوا
خَمْسَةً مِنْ التَّابِعِينَ, لاَ يُعْلَمُ لَهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ، وَلاَ
مِمَّنْ قَبْلَهُمْ مُخَالِفٌ وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُنْكَرٍ; لَكِنْ
أَوْرَدْنَاهُ لِنُرِيَهُمْ تَنَاقُضَهُمْ, وَاحْتِجَاجَهُمْ بِشَيْءٍ لاَ
يَرَوْنَهُ حُجَّةً إذَا خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ!
مَوَّهُوا أَيْضًا بِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ،
حدثنا وَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ حَكِيمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِي كُلِّ
إبِلٍ سَائِمَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ, لاَ تُفَرَّقُ إبِلٌ،
عَنْ حِسَابِهَا, مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا, عَزْمَةٌ مِنْ
عَزَمَاتِ رَبِّنَا; لاَ يَحِلُّ لاِلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ, وَمَنْ
مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إبِلِهِ".
قَالُوا: فَمَنْ أَخَذَ الْغَنَمَ مِنْ أَرْبَعِينَ نَاقَةً لِثَمَانِيَةِ
شُرَكَاءَ; لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسٌ, فَقَدْ فَرَّقَهَا، عَنْ حِسَابِهَا,
وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مِلْكَ وَاحِدٍ مِنْ مِلْكِ جَمَاعَةٍ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ: إنَّ كُلَّ
هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَكُمْ حُجَّةٌ فَخُذُوا بِمَا فِيهِ, مِنْ أَنَّ مَانِعَ
الزَّكَاةِ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَشَطْرُ إبِلِهِ زِيَادَةٌ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا مَنْسُوخٌ.
قلنا لَكُمْ: هَذِهِ دَعْوَى بِلاَ حُجَّةٍ, لاَ يَعْجِزُ، عَنْ مِثْلِهَا
خُصُومُكُمْ, فَيَقُولُوا لَكُمْ وَاَلَّذِي تَعَلَّقْتُمْ بِهِ مِنْهُ مَنْسُوخٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمِشْغَبُ بِهِ مَالِكِيًّا قلنا لَهُمْ: فَإِنْ كَانَ شَرِيكُهُ
مُكَاتِبًا أَوْ نَصْرَانِيًّا.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا قَدْ خَصَّتْهُ أَخْبَارٌ أُخَرُ.
قلنا: وَهَذَا نَصٌّ قَدْ خَصَّتْهُ أَخْبَارٌ أُخَرُ, وَهِيَ أَنْ لاَ زَكَاةَ
فِي أَرْبَعٍ مِنْ الإِبِلِ فَأَقَلَّ، وَأَنَّ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةً إلَى
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
ثم نقول; هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ. لإِنَّ بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ غَيْرُ مَشْهُورِ
الْعَدَالَةِ, وَوَالِدُهُ حَكِيمٌ كَذَلِكَ.
(6/57)
فَكَيْفَ
وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْمُخْتَلِطَيْنِ حُكْمُ الْوَاحِدِ; ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يُجْمَعَ مَالُ إنْسَانٍ إلَى مَالِ غَيْرِهِ فِي الزَّكَاةِ, وَلاَ أَنْ يُزَكَّى
مَالُ زَيْدٍ بِحُكْمِ مَالِ عَمْرٍو; لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ بِلاَ شَكٍّ فِيمَا
جَاوَزَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الإِبِلِ; لِمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الأَخْبَارِ
أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرِهَا; لِمَا خَالَفَ هَذَا الْعَمَلَ لاِِجْمَاعِهِمْ
وَإِجْمَاعِ الأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ مِنْ الإِبِلِ
حِقَّةً لاَ بِنْتَ لَبُونٍ; وَلِسَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الأَحْكَامِ الَّتِي
ذَكَرْنَا.
وَأَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ الإِبِلُ فَقَطْ; نَقَلَهُمْ
حُكْمُ الْخُلْطَةِ إلَى الْغَنَمِ, وَالْبَقَرِ: قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ
بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ;
لاَِنَّهُ لَيْسَ نَقْلُ هَذَا الْحُكْمِ، عَنِ الإِبِلِ إلَى الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ بِأَوْلَى مِنْ نَقْلِهِ إلَى الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْعَيْنِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَلاَِبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا تَنَاقُضٌ طَرِيفٌ; وَهُوَ، أَنَّهُ قَالَ فِي
شَرِيكَيْنِ فِي ثَمَانِينَ شَاةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا: إنَّ
عَلَيْهِمَا شَاتَيْنِ بَيْنَهُمَا; وَأَصَابَ فِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ فِي
ثَمَانِينَ شَاةً لِرَجُلٍ وَاحِدٍ نِصْفُهَا وَنِصْفُهَا الثَّانِي
لاَِرْبَعَيْنِ رَجُلاً: إنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهَا أَصْلاً, لاَ عَلَى الَّذِي
يَمْلِكُ نِصْفَهَا, وَلاَ عَلَى الآخَرِينَ; وَاحْتَجَّ فِي إسْقَاطِهِ
الزَّكَاةَ، عَنْ صَاحِبِ الأَرْبَعِينَ بِأَنَّ تِلْكَ الَّتِي بَيْنَ اثْنَيْنِ
يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا وَهَذِهِ لاَ يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا.
فَجَمَعَ كَلاَمُهُ هَذَا: أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ مِنْ فَاحِشِ الْخَطَأِ!
أَحَدُهَا إسْقَاطُهُ الزَّكَاةَ، عَنْ مَالِكِ أَرْبَعِينَ شَاةً هَاهُنَا.
وَالثَّانِي إيجَابُهُ الزَّكَاةَ عَلَى مَالِكِ أَرْبَعِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ
الآُخْرَى; فَفَرَّقَ بِلاَ دَلِيلٍ.
وَالثَّالِثُ احْتِجَاجُهُ فِي إسْقَاطِهِ الزَّكَاةَ هُنَا بِأَنَّ الْقِسْمَةَ
تُمْكِنُ هُنَالِكَ: وَلاَ تُمْكِنُ هَاهُنَا; فَكَانَ هَذَا عَجَبًا وَمَا نَدْرِي
لِلْقِسْمَةِ وَإِمْكَانِهَا. أَوْ تَعَذُّرِ إمْكَانِهَا مَدْخَلاً فِي شَيْءٍ
مِنْ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ؟!!
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبَاطِلَ; بَلْ إنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ
هُنَالِكَ مُمْكِنَةً فَهِيَ هَاهُنَا مُمْكِنَةٌ, وَإِنْ كَانَتْ هَاهُنَا
مُتَعَذِّرَةً فَهِيَ هُنَالِكَ مُتَعَذِّرَةٌ; فَاعْجَبُوا لِقَوْمٍ هَذَا
مِقْدَارُ فَهْمِهِمْ.
قال أبو محمد: فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ الزَّكَاةَ عَلَى
الشَّرِيكِ فِي الْمَاشِيَةِ إذَا مَلَكَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فِي حِصَّتِهِ,
وَتُوجِبُونَهَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ فِي الرَّقِيقِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ,
وَتَقُولُونَ فِيمَنْ لَهُ نِصْفُ عَبْدٍ مَعَ آخَرَ وَنِصْفُ عَبْدٍ آخَرَ مَعَ
آخَرَ, فَأَعْتَقَ النِّصْفَيْنِ: إنَّهُ لاَ يُجْزِئَانِهِ، عَنْ
(6/58)
رَقَبَةٍ
وَاجِبَةٍ; وَمَنْ لَهُ نِصْفُ شَاةٍ مَعَ إنْسَانٍ, وَنِصْفُ شَاةٍ أُخْرَى مَعَ
آخَرَ فَذَبَحَهُمَا: إنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ
هَذَا.
قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ
عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَعَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي
الرَّقِيقِ". فَقُلْنَا بِعُمُومِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ. وَقَالَ عليه السلام:
"كُلُّ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بَيْنَهُمَا
بِالسَّوِيَّةِ". فَقُلْنَا بِذَلِكَ, وَأَوْجَبَ رَقَبَةً وَهَدْيَ شَاةٍ، وَلاَ
يُسَمَّى نِصْفَا عَبْدَيْنِ: رَقَبَةً; ، وَلاَ نِصْفَا شَاةٍ: شَاةً
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/59)
زكاة
الفضة
لا زكاة في الفضة مضروبة كانت أو مصوغة أو نقارا أو غير ذلك حتى تبلغ خمسة أواقي
فضة محضة
...
زَكَاةُ الْفِضَّةِ
682 - مَسْأَلَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي الْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ مَصُوغَةً
أَوْ نِقَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقِيَ فِضَّةٍ
مَحْضَةٍ;
لاَ يُعَدُّ فِي هَذَا الْوَزْنِ شَيْءٌ يُخَالِطُهَا مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا
أَتَمَّتْ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً مُتَّصِلَةً فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
بِوَزْنِ مَكَّةَ, وَالْخَمْسُ أَوَاقِي هِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِوَزْنِ مَكَّةَ
الَّذِي قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ زَكَاةِ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ,
فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَأَتَمَّتْ بِزِيَادَتِهَا سَنَةً قَمَرِيَّةً
فَفِيمَا زَادَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ رُبْعُ عُشْرِهَا, وَهَكَذَا كُلُّ سَنَةٍ,
فَإِنْ نَقَصَ مِنْ وَزْنِ الأَوَاقِي الْمَذْكُورَةِ وَلَوْ فَلْسٌ فَلاَ زَكَاةَ
فِيهَا.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَلْطٌ; فَإِنْ غَيَّرَ الْخَلْطُ شَيْئًا مِنْ لَوْنِ
الْفِضَّةِ أَوْ مَحَكِّهَا أَوْ رَزَانَتِهَا أُسْقِطَ ذَلِكَ الْخَلْطُ فَلَمْ
يُعَدَّ; فَإِنْ بَقِيَ فِي الْفِضَّةِ الْمَحْضَةِ خَمْسُ أَوَاقِيَ زُكِّيَتْ,
وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ
الْفِضَّةِ زُكِّيَتْ بِوَزْنِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلاَّ ثَلاَثَةَ مَوَاضِعَ; نَذْكُرُهَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مَالِكٌ: إنْ نَقَصَتْ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ نُقْصَانًا تَجُوزُ بِهِ
جَوَازَ الْوَزْنَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إنْ نَقَصَتْ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ قَالَ: إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ,
وَإِنْ نَقَصَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ,
وَالشَّعْبِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.
(6/59)
وقال
أبو حنيفة فِي نُقْصَانِ الْوَزْنِ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا, وَاضْطَرَبَ فِي
الْخَلْطِ يَكُونُ فِيهَا.
وقال مالك: إنْ كَانَ فِي الدَّرَاهِمِ خَلْطٌ زُكِّيَتْ بِوَزْنِهَا كُلِّهَا.
وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, كَمَا قلنا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
مُسَدَّدُ، حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا مَالِكٌ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ", وَلاَ فِي أَقَلَّ
مِنْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ، وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ
أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
حَدَّثَنَا حمام، حدثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُونُسَ، حدثنا بَقِيٌّ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِي أَقَلَّ
مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ".
قال أبو محمد: فَمَنَعَ عليه السلام مِنْ أَنْ يَجِبَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ
أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ, فَإِذَا نَقَصَتْ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فِي
أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ فِيهَا,
وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا خَلْطٌ يَبْلُغُ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ أَوْ لَمْ
يَكُنْ, وَسَقَطَ كُلُّ قَوْلٍ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ. وَهَذَا مِمَّا
خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم، مُخَالِفٌ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُغَيِّرْ الْخَلْطُ شَيْئًا مِنْ حُدُودِ الْفِضَّةِ
وَصِفَاتِهَا فَهُوَ فِضَّةٌ, كَالْخَلْطِ يَكُونُ فِي الْمَاءِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا
مِنْ صِفَاتِهِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُغَيِّرْ مَا صَارَ فِيهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ.
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمِ الأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى: فِيمَا زَادَ عَلَى
الْمِائَتَيْنِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَمَكْحُولٍ, وَعَطَاءٍ, وَطَاوُوسٍ, وَعَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ.
(6/60)
وَحدثنا
حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا الدَّبَرِيُّ،
حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
خَمْسَةُ دَرَاهِمَ; فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ.
وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا
زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِالْحِسَابِ.
وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ,
وَوَكِيعٍ. وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي لَيْلَى,
وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِحَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ
الْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ كَذَّابٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ نَجِيحٍ وَهُوَ
مَجْهُولٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ أَنْ
لاَ يَأْخُذَ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا, إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
خَمْسَةَ دَرَاهِمَ, وَلاَ يَأْخُذُ مِمَّا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُد الْجَزَرِيِّ وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي كُلِّ خَمْسِ
أَوَاقٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمٌ".
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ
مَطْرُوحٌ بِإِجْمَاعٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ
لَهُ: "يَا عَلِيُّ, أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي عَفَوْتُ، عَنْ صَدَقَةِ
الْخَيْلِ, وَالرَّقِيقِ, فأما الْبَقَرُ وَالإِبِلُ وَالشَّاءُ فَلاَ, وَلَكِنْ
هَاتُوا رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَمِنْ
كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ; وَلَيْسَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
شَيْءٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ, فَإِذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ
فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمٌ".
وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ قَالَ: حدثنا عَبَّاسٌ، حدثنا ابْنُ أَيْمَنَ أَنَا
مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ الْمِصْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ
اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي
الصَّدَقَةِ نُسْخَةَ كِتَابِ
(6/61)
رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ,
فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا فَذَكَرَ صَدَقَةَ الإِبِلِ, فَقَالَ:
"فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ
لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً", ثُمَّ قَالَ:
"لَيْسَ فِي الْوَرِقِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا
بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي أَرْبَعِينَ
زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ".
وَحَدَّثَنَاهُ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعْت
الزُّهْرِيَّ قَالَ: هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فِي الصَّدَقَةِ, وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا, وَهِيَ الَّتِي نَسَخَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ أُمِّرَ عَلَى الْمَدِينَةِ, فَأَمَرَ عُمَّالَهُ
بِالْعَمَلِ بِهَا, فَذَكَرَ فِيهَا صَدَقَةَ الإِبِلِ, وَفِيهَا: "فَإِذَا
كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ, حَتَّى
تَبْلُغَ عِشْرِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا
حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلاَثِينَ وَمِائَةً,
فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً, فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَةُ لَبُونٍ,
حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا كَانَتْ خَمْسِينَ
وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ
وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ
لَبُونٍ, حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ
سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ
تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً, فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا
حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً,
فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ حِقَاقٍ وَابْنَةُ لَبُونٍ
حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً; فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ
فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ, أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ: أَيُّ السِّنِينَ
وُجِدَتْ فِيهَا أُخِذَتْ", وَذَكَرَ صَدَقَةَ الْغَنَمِ. قَالَ
الزُّهْرِيُّ: "وَلَيْسَ فِي الرِّقَةِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ, فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
". ثُمَّ قَالَ: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا زَادَ عَلَى
الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ; وَلَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ
صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ; فَإِذَا بَلَغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَبْلُغُ صَرْفُهُ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا فَفِيهَا
دِينَارٌ, ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ فَفِي كُلِّ صَرْفِ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا
دِينَارٌ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ
(6/62)
أَخْبَرَنَا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "قَدْ عَفَوْتُ، عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ, فَهَاتُوا صَدَقَةَ
الرِّقَّةِ, مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ
وَمِائَةٍ شَيْءٌ, فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ".
هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ, قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ1 لَهُمْ
أَكْثَرَ مِمَّا يَتَقَصَّوْنَهُ لاَِنْفُسِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا:
قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي الأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ
بِإِجْمَاعٍ; وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَبَيْنَ الأَرْبَعِينَ,
فَلاَ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ بِاخْتِلاَفٍ.
وَقَالُوا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ: لَمَّا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ لَهَا نِصَابٌ لاَ
تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَقَلَّ مِنْهُ, وَكَانَتْ الزَّكَاةُ تَتَكَرَّرُ
فِيهَا كُلَّ عَامٍ: أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا
أَوْقَاصٌ كَمَا فِي الْمَوَاشِي وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَاسَ عَلَى الثِّمَارِ
وَالزَّرْعِ; لإِنَّ الزَّكَاةَ هُنَالِكَ مَرَّةٌ فِي الدَّهْرِ لاَ تَتَكَرَّرُ,
بِخِلاَفِ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ.
هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ نَظَرٍ وَقِيَاسٍ.
وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ;
بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَسَاقِطٌ مُطْرَحٌ; لاَِنَّهُ، عَنْ كَذَّابٍ وَاضِعٍ
لِلأَحَادِيثِ, عَنْ مَجْهُولٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ حَزْمٍ فَصَحِيفَةٌ مُرْسَلَةٌ;
، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ; وَأَيْضًا فَإِنَّهَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُد الْجَزَرِيِّ, وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَانَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي
الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ" زَائِدًا عَلَى هَذَا الْخَبَرِ, وَالزِّيَادَةُ
لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلاَّ أَنَّ فِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا فَقَطْ; وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ زَكَاةَ
فِيمَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَبَيْنَ الأَرْبَعِينَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَسَاقِطٌ, لِلاِتِّفَاقِ عَلَى
سُقُوطِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ.
وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ; فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِي
الْخَيْلِ السَّائِمَةِ, وَفِي الْخَيْلِ, وَالرَّقِيقِ الْمُتَّخَذِينَ
لِلتِّجَارَةِ, وَفِي هَذَا الْخَبَرِ سُقُوطُ الزَّكَاةِ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ
جُمْلَةً, فَمَنْ أَقْبَحُ سِيرَةً مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ
بَيَانُ مَا يَدَّعِي; وَهُوَ يُخَالِفُهُ فِي نَصِّ مَا فِيهِ؟!
وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: "فِي الرِّقَةِ
رُبْعُ الْعُشْرِ", زَائِدًا, وَالزِّيَادَةُ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ فَمُرْسَلٌ أَيْضًا, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ;
وَاَلَّذِي فِيهِ مِنْ حُكْمِ زَكَاةِ الْوَرِقِ, وَالذَّهَبِ2 فَإِنَّمَا هُوَ
كَلاَمُ الزُّهْرِيِّ, كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" تقصيناها.
2 في النسخة رقم "14" "من حكم الزكاة الورق والذهب".
(6/63)
وَالْعَجَبُ
كُلَّ الْعَجَبِ تَرْكُهُمْ مَا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي رَوَاهَا الزُّهْرِيُّ
نَصًّا مِنْ صِفَةِ زَكَاةِ الإِبِلِ. وَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا
وَخَالَفُوا الزُّهْرِيَّ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ زَكَاةِ الذَّهَبِ
بِالْقِيمَةِ وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّيَانَةِ وَبِالْحَقَائِقِ وَبِالْعُقُولِ!
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي خَتَمْنَا بِهِ فَصَحِيحٌ مُسْنَدٌ, وَلاَ
حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ, لإِنَّ فِيهِ: "قَدْ
عَفَوْتُ، عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ", وَهُمْ يَرَوْنَ الزَّكَاةَ فِي
الْخَيْلِ السَّائِمَةِ, وَاَلَّتِي لِلتِّجَارَةِ, وَفِي الرَّقِيقِ الَّذِي
لِلتِّجَارَةِ. وَمِنْ الشَّنَاعَةِ احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثٍ هُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لَهُ فِي نَصِّ مَا فِيهِ.
وَلاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَقُولُونَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصَّهُ: "هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ فَإِذَا
بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ". وَنَعَمْ,
هَكَذَا هُوَ; لإِنَّ فِي الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعِينَ مُكَرَّرَةً خَمْسَ
مَرَّاتٍ, فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنَّ فِي
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا زَائِدًا دِرْهَمٌ, وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إسْقَاطُ
الزَّكَاةِ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ زَائِدَةً عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَلاَ
حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا ثُمَّ خَالَفَهُ
فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. كَمَا ادَّعَوْا فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا وَقَدْ صَحَّ
عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا زَادَ
عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالزَّكَاةُ فِيهِ بِحِسَابِ الْمِائَتَيْنِ, فَلَوْ
كَانَ فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَمَّا
بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَالأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ لَكَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ
بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمَا مُسْقِطًا لِمَا رَوَى مِنْ
ذَلِكَ وَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!
قال أبو محمد: فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ, وَعَادَتْ
حُجَّةً عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قَدْ صَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي الأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ
عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ, وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الأَرْبَعِينَ,
فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِاخْتِلاَفٍ: فَإِنَّ هَذَا كَانَ يَكُونُ
احْتِجَاجًا صَحِيحًا لَوْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ,
وَلَكِنَّ هَذَا الاِسْتِدْلاَلَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي زَكَاةِ
الْخَيْلِ وَزَكَاةِ الْبَقَرِ وَمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا أَخْرَجَتْ الأَرْضُ
وَالْحُلِيُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ, وَيَهْدِمُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مَذَاهِبِهِمْ.
(6/64)
وَأَمَّا
قِيَاسُهُمْ زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى زَكَاةِ الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ تَكَرُّرِ
الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كُلَّ عَامٍ بِخِلاَفِ زَكَاةِ الزَّرْعِ: فَقِيَاسٌ
فَاسِدٌ; بَلْ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ قِيَاسُ الْعَيْنِ عَلَى
الزَّرْعِ أَوْلَى لإِنَّ الْمَوَاشِيَ حَيَوَانٌ, وَالْعَيْنُ, وَالزَّرْعُ,
وَالتَّمْرُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيَوَانًا, فَقِيَاسُ زَكَاةِ مَا لَيْسَ
حَيًّا عَلَى زَكَاةِ مَا لَيْسَ حَيًّا أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ مَا لَيْسَ حَيًّا
عَلَى حُكْمِ الْحَيِّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الزَّرْعَ, وَالتَّمْرَ, وَالْعَيْنَ كُلَّهَا خَارِجٌ مِنْ
الأَرْضِ, وَلَيْسَ الْمَاشِيَةُ كَذَلِكَ, فَقِيَاسُ مَا خَرَجَ مِنْ الأَرْضِ
عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ الأَرْضِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَمْ يَخْرُجْ
مِنْ الأَرْضِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وَقْصَ الْوَرِقِ تِسْعَةً وَثَلاَثِينَ
دِرْهَمًا, وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَقْصٌ مِنْ تِسْعَةٍ
وَثَلاَثِينَ; فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
ُثمَّ وَجَدْنَا الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لاَ
تَصِحُّ, لاَِنَّهَا، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُمَرَ, وَالْحَسَنُ لَمْ يُولَدْ
إلاَّ لِسَنَتَيْنِ بَاقِيَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ; فَبَقِيَتْ
الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِمِثْلِ قَوْلِنَا,
وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، خِلاَفٌ لِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لاَِهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلِّقٌ نَظَرْنَا
فِي الْقَوْلِ الثَّانِي.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا
الْبُخَارِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي
أَبِي هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا ثُمَامَةُ بْنُ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَتَبَ لَهُ
هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ: "بسم الله الرحمن
الرحيم, هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ
عُشْرِهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ,
إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا".
فَأَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّدَقَةَ فِي الرَّقَبَةِ,
وَهِيَ الْوَرِقُ, رُبْعُ الْعُشْرِ عُمُومًا لَمْ يَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
إلاَّ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ; فَبَقِيَ مَا زَادَ عَلَى وُجُوبِ
الزَّكَاةِ فِيهِ; فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/65)
زكاة
الذهب
لا زكاة في أقل من أربعين مثقالا من الذهب
...
زَكَاةُ الذَّهَبِ
683 - مَسْأَلَةٌ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ
مِثْقَالاً
مِنْ الذَّهَبِ الصِّرْفِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُ شَيْءٌ بِوَزْنِ مَكَّةَ,
سَوَاءٌ: مَسْكُوكُهُ, وَحُلِيُّهُ, وَنِقَارُهُ وَمَصُوغُهُ, فَإِذَا بَلَغَ
أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً كَمَا ذَكَرْنَا وَأَتَمَّ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ
الْوَاحِدِ عَامًا قَمَرِيًّا مُتَّصِلاً فَفِيهِ رُبْعُ عُشْرِهِ, وَهُوَ مِثْقَالٌ,
وَهَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ, وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَتَمَّ
أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً أُخْرَى وَبَقِيَتْ عَامًا كَامِلاً دِينَارٌ آخَرُ,
وَهَكَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا زَائِدَةً دِينَارٌ, وَلَيْسَ
فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ زَائِدٌ حَتَّى تَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا.
فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ خُلِطَ لَمْ يُغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ رَزَانَتُهُ أَوْ
حَدُّهُ سَقَطَ حُكْمُ الْخَلْطِ; فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ الْعَدَدُ
الْمَذْكُورُ زُكِّيَ. وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ نَقَصَ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ
مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ, وَفِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا
اخْتِلاَفٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ جُمْهُورُ النَّاسِ: بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا لاَ
أَقَلَّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِمَّا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حدثنا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلاَّمٍ، حدثنا سَعِيدُ
بْنُ عُفَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ: اُنْظُرْ مَنْ مَرَّ بِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَخُذْ مِمَّا
ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُدِيرُونَ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا, وَمَا نَقَصَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ, حَتَّى
تَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا; فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَدَعْهَا.
قال أبو محمد: فَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرَى فِي الذَّهَبِ أَنَّ
فِيهَا الزَّكَاةَ وَإِنْ نَقَصَتْ; فَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ دِينَارٍ فَلاَ
صَدَقَةَ فِيهَا.
وقال مالك: إنْ نَقَصَتْ نُقْصَانًا تَجُوزُ بِهِ جَوَازَ الْمُوَازَنَةِ
زُكِّيَتْ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَقَالَ: إنْ كَانَ فِي الدَّنَانِيرِ الذَّهَبِ
وَحُلِيِّ الذَّهَبِ خَلْطٌ زَكَّى الدَّنَانِيرَ بِوَزْنِهَا
(6/66)
وقال
الشافعي: لاَ يُزَكَّى إلاَّ مَا فَضَلَ، عَنِ الْخَلْطِ مِنْ الذَّهَبِ
الْمَحْضِ, وَلاَ يُزَكَّى مَا نَقَصَ، عَنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; ، وَلاَ بِمَا
كَثُرَ.
وقال أبو حنيفة, وَغَيْرُهُ: الزَّكَاةُ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ,
فَإِنْ زَادَتْ فَلاَ صَدَقَةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَةَ
دَنَانِيرَ, فَإِذَا زَادَتْ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَفِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا,
وَهَكَذَا أَبَدًا.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: مَا زَادَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَفِيهِ رُبْعُ
عُشْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيمَا زَادَ حَتَّى
تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ عِشْرِينَ دِينَارًا وَهَكَذَا أَبَدًا.
وَرُوِّينَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي
الذَّهَبِ بِالْقِيمَةِ, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حدثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ:
سَمِعْت الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ
صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, فَإِذَا بَلَغَ صَرْفُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ, ثُمَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَبْلُغُ صَرْفُهُ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, فَفِيهَا
دِينَارٌ, ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ فَفِي صَرْفِ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ.
حدثنا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ
عَطَاءٌ, وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: لاَ يَكُونُ فِي مَالِ زَكَاةٍ حَتَّى يَبْلُغَ
عِشْرِينَ دِينَارًا; فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهَا نِصْفُ
دِينَارٍ, ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ يَزِيدُهَا الْمَالُ دِرْهَمٌ,
حَتَّى يَبْلُغَ الْمَالُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا, فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
دِينَارًا دِينَارٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ
قُلْتُ لِعَطَاءٍ: لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا لَيْسَ لَهُ
غَيْرُهَا وَالصَّرْفُ اثْنَا عَشَرَ أَوْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ بِدِينَارٍ, فِيهَا
صَدَقَةٌ. قَالَ: نَعَمْ, إذَا كَانَتْ لَوْ صُرِفَتْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ; إنَّمَا كَانَتْ إذْ ذَلِكَ الْوَرِقَ وَلَمْ يَكُنْ ذَهَبٌ.
وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنْ لاَ زَكَاةَ فِي الذَّهَبِ إلاَّ بِقِيمَةِ مَا يَبْلُغُ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا مِنْ الْوَرِقِ: سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ
الْوَاشِحِيُّ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ ذَهَبٌ: فَخَطَأٌ,
كَيْفَ هَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وَالأَخْبَارُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَوْنِ الذَّهَبِ
عِنْدَهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا, كَقَوْلِهِ عليه السلام:
(6/67)
"الذَّهَبُ
حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلاَلٌ لاِِنَاثِهَا" وَاتِّخَاذُهُ عليه
السلام خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ رَمَى بِهِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ بِقِيمَةِ الْفِضَّةِ قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ
عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ نَظَرٍ; فَسَقَطَ هَذَا
الْقَوْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا هَلْ صَحَّ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ أَمْ
لاَ؟
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامُ قَالَ: حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ
الأَعْرَابِيِّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: فَذَكَرَ الْحَدِيثَ; وَفِيهِ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ
ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ لَمْ يُؤَدِّ مَا فِيهَا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَوُضِعَتْ عَلَى جَنْبِهِ وَظَهْرِهِ وَجَبْهَتِهِ, حَتَّى
يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ, ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ".
فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, فَوَجَبَ
طَلَبُ الْوَاجِبِ فِي الذَّهَبِ الَّذِي مَنْ لَمْ يُؤَدِّهِ عُذِّبَ هَذَا
الْعَذَابَ الْفَظِيعَ, نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ, بَعْدَ الإِجْمَاعِ
الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُرِدْ كُلَّ
عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ, وَأَنَّ الزَّكَاةَ
إنَّمَا تَجِبُ فِي عَدَدٍ مَعْدُودٍ, وَفِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ, فَوَجَبَ فَرْضًا
طَلَبُ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَذَلِكَ الْوَقْتِ.
فَوَجَدْنَا مَنْ حَدَّ فِي ذَلِكَ عِشْرِينَ دِينَارًا احْتَجَّ بِمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَآخَرُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ, وَالْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ كَلاَمًا, وَفِيهِ: "وَلَيْسَ
عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ- يَعْنِي فِي الذَّهَبِ- لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا
فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا
نِصْفُ دِينَارٍ, فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ". قَالَ: لاَ أَدْرِي,
أَعَلِيٌّ يَقُولُ "بِحِسَابِ ذَلِك" أَوْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم؟
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ
دِينَارٍ".
(6/68)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنْ الذَّهَبِ، وَلاَ فِي
أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ هُرْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
الأَنْصَارِيِّ أَنَّ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي
كِتَابِ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ: "أَنَّ الذَّهَبَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا
شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ دِينَارًا, فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا
فَفِيهِ نِصْفُ دِينَارٍ".
وَذُكِرَ فِيهِ قَوْمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فِي
عِشْرِينَ دِينَارًا الزَّكَاةَ".
قال علي: هذا كُلُّ مَا ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم.
وَأَمَّا عَمَّنْ دُونَهُ عليه السلام فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: وَلاَّنِي
عُمَرُ الصَّدَقَاتِ, فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا
نِصْفَ دِينَارٍ, فَمَا زَادَ فَبَلَغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَفِيهِ دِرْهَمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ: حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ
عِشْرِينَ دِينَارًا شَيْءٌ, وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ, وَفِي
أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ لاِمْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ طَوْقٌ
فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً فَأَمَرَهَا أَنْ تُخْرِجَ عَنْهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: فِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً نِصْفُ مِثْقَالٍ; وَفِي
أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً مِثْقَالٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ: حدثنا
هُشَيْمٌ, وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا مَنْصُورٌ,
وَمُغِيرَةُ, قَالَ مَنْصُورٌ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَقَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ
إبْرَاهِيمَ وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ: عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ, ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَسَنُ, وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ; قَالُوا
(6/69)
كُلُّهُمْ:
فِي عِشْرِينَ دِينَارًا, وَفِي أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَكَمِ، هُوَ ابْنُ
عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى فِي عِشْرِينَ دِينَارًا زَكَاةً حَتَّى
تَكُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالاً, فَيَكُونُ فِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، عَنْ عَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَذَكَرْنَا
رُجُوعَ عَطَاءٍ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا.
فأما كُلُّ مَا ذَكَرُوا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ
يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ صَحَّ لَمَا اسْتَحْلَلْنَا خِلاَفَهُ; وَأَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ فَإِنَّ ابْنَ وَهْبٍ، عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَرَنَ فِيهِ بَيْنَ عَاصِمِ بْنِ
ضَمْرَةَ وَبَيْنَ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ, وَالْحَارِثُ كَذَّابٌ, وَكَثِيرٌ مِنْ
الشُّيُوخِ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا, وَهُوَ أَنَّ الْحَارِثَ أَسْنَدَهُ
وَعَاصِمٌ لَمْ يُسْنِدْهُ, فَجَمَعَهُمَا جَرِيرٌ, وَأَدْخَلَ حَدِيثَ
أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ. وَقَدْ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ،
عَنْ عَلِيٍّ: شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ, وَمَعْمَرُ, فَأَوْقَفُوهُ عَلَى عَلِيٍّ,
وَهَكَذَا كُلُّ ثِقَةٍ رَوَاهُ، عَنْ عَاصِمٍ.
وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ الْحَارِثِ, وَعَاصِمٍ: زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَشَكَّ
فِيهِ. كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حدثنا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَبُو
إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ, وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ. قَالَ
زُهَيْرٌ: أَحْسَبُهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ صَدَقَةَ
الْوَرِقِ: "إذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ", فَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ". وَقَالَ فِي
الْبَقَرِ: "فِي كُلِّ ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ, وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
مُسِنَّةٌ, وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ". وَقَالَ فِي الإِبِلِ:
"فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ, فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً
فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ". قَالَ
زُهَيْرٌ: وَفِي حَدِيثِ عَاصِمٍ: "إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الإِبِلِ بِنْتُ
مَخَاضٍ، وَلاَ ابْنُ لَبُونٍ فَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ شَاتَانِ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَدِيثُ مَالِكٍ; وَلَوْ أَنَّ جَرِيرًا
أَسْنَدَهُ، عَنْ عَاصِمٍ وَحْدَهُ لاََخَذْنَا بِهِ; لَكِنْ لَمْ يُسْنِدْهُ
إلاَّ عَنِ الْحَارِثِ مَعَهُ, وَلَمْ يَصِحَّ لَنَا إسْنَادُهُ مِنْ طَرِيقِ
عَاصِمٍ, ثُمَّ لَمَّا شَكَّ
(6/70)
زُهَيْرٌ
فِيهِ بَطَلَ إسْنَادُهُ.
ثُمَّ يَلْزَمُ مَنْ صَحَّحَهُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فِيهِ,
وَلَيْسَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَنَا طَائِفَةٌ إلاَّ وَهِيَ تُخَالِفُ مَا فِيهِ,
وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا فِي الْخَبَرِ حُجَّةً وَبَعْضُهُ
غَيْرَ حُجَّةٍ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
أَمَّا خَبَرُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ فَالْحَسَنُ مُطْرَحٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ فَصَحِيفَةٌ
مُرْسَلَةٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ.
فَإِنْ لَجُّوا عَلَى عَادَاتِهِمْ وَصَحَّحُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إذَا وَافَقَهُمْ فَلْيَسْتَمِعُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا
عِصْمَتَهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ1 الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَجُوزُ
لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: "أَنَّهُ قَضَى فِي
الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ".
وَعَنْ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ: "كانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ثَمَانِمِائَةِ دِينَارٍ ثَمَانِيَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ, وَدِيَةُ أَهْلِ
الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ, وَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى
اُسْتُحْلِفَ عُمَرُ, فَقَامَ خَطِيبًا فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ
دِينَارٍ, وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, وَعَلَى
أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ, وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ,
وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ, وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ
لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنْ الدِّيَةِ".
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ
خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ, ثَلاَثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ,
وَثَلاَثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرٍ, وَعِشْرُونَ
حِقَّةً, وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ
مِائَتَيْ بَقَرَةٍ يَعْنِي فِي الدِّيَةِ وَمَنْ كَانَتْ دِيَتُهُ فِي الشَّاءِ
فَأَلْفَا شَاةٍ".
وَكُلُّ هَذَا فَجَمِيعُ الْحَنَفِيَّةِ, وَالْمَالِكِيَّةِ, وَالشَّافِعِيَّةِ:
مُخَالِفُونَ لاَِكْثَرِهِ, وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَزِيدَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ لاََمْكَنَ ذَلِكَ, وَفِي هَذَا
كِفَايَةٌ.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "حسن" وهو خطأ.
(6/71)
وَلاَ
أَرَقُّ دِينًا مِمَّنْ يُوَثِّقُ رِوَايَةً إذَا وَافَقَتْ هَوَاهُ, وَيُوهِنُهَا
إذَا خَالَفَتْ هَوَاهُ فَمَا يَتَمَسَّكُ فَاعِلُ هَذَا مِنْ الدِّينِ إلاَّ
بِالتَّلاَعُبِ وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ مُرْسَلٌ وَعَنْ
مَجْهُولٍ أَيْضًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ مَجْهُولٌ.
فَسَقَطَ كُلُّ مَا فِي هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَصِحَّ
مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَلاَ
يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ, لإِنَّ رَاوِيَهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ, وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ هَذَا; وَكُلُّهُمْ
يُخَالِفُونَهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا حمام، حدثنا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا
الدَّبَرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَمَعْمَرٍ قَالَ هِشَامٌ: عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ, وَقَالَ
سُفْيَانُ, وَمَعْمَرُ: عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
سِيرِينَ, ثُمَّ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ:
بَعَثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الأَبِلَةِ فَأَخْرَجَ إلَيَّ كِتَابًا مِنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمًا وَمِمَّنْ لاَ ذِمَّةَ لَهُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
دِرْهَمًا".
فَهَذَا أَنَسٌ, وَعُمَرُ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ يُمْكِنُ; فَإِنْ تَأَوَّلُوا فِيهِ
تَأْوِيلاً يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ فَمَا هُمْ بِأَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِهِمْ فِيمَا يَحْتَجُّونَ بِهِ, وَمَا يَعْجِزُ أَحَدٌ، عَنْ أَنْ يَقُولَ:
إنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ فِي الْعِشْرِينَ دِينَارًا بِنِصْفِ دِينَارٍ كَمَا أَمَرَ
فِي الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ: إذَا طَابَتْ
نَفْسُ مَالِكِ كُلِّ ذَلِكَ بِهِ, وَإِلاَّ فَلاَ!!
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُرْسَلٌ; ، وَلاَ
يَأْخُذُ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ, وَلاَ الشَّافِعِيُّونَ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ
يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةً فِي بَعْضِ حُكْمِهِ ذَلِكَ، وَلاَ
يَكُونُ حُجَّةً فِي بَعْضِهِ, وَالْمُسَامَحَةُ فِي الدِّينِ هَلاَكٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ, وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ
هَذِهِ الطَّرِيقِ نَفْسِهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً قَدْ ذَكَرْنَاهَا: مِنْهَا: فِي
كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسًا مِنْ الْغَنَمِ, وَكُلُّهُمْ
مُخَالِفٌ لِهَذَا. وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَلِيٍّ حُجَّةً فِي
مَكَان غَيْرَ حُجَّةٍ فِي آخَرَ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى
عنهم.
(6/72)
ثُمَّ
حَتَّى لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الآثَارُ كُلُّهَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهَا; لإِنَّ
الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: إنْ كَانَتْ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ
وَمِائَةَ دِرْهَمٍ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ, وَكُلُّ هَذِهِ الآثَارِ تُبْطِلُ
الزَّكَاةَ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; وَهُمْ يُوجِبُونَهَا فِي
أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا; فَصَارَتْ كُلُّهَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ,
وَعَادَ مَا صَحَّحُوا مِنْ ذَلِكَ قَاطِعًا بِهِمْ أَقْبَحَ قَطْعٍ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَالْمَالِكِيُّونَ: يُوجِبُونَهَا فِي عِشْرِينَ دِينَارًا نَاقِصَةً إذَا
جَازَتْ جَوَازَ الْمُوَازَنَةِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ
كُلِّهَا.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا كَمَا ذَكَرْنَا, وَصَحَّ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ, وَعَطَاءٍ أَنَّهُ لاَ يُزَكَّى مِنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلاَّ
أَرْبَعِينَ دِينَارًا, لاَ أَقَلَّ; ثُمَّ كَذَلِكَ إذَا زَادَتْ أَرْبَعِينَ
دِينَارًا, وَرَأَوْا الزَّكَاةَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ
أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِينَ بَعْدَهَا الْقِيمَةُ; وَكَانَتْ الْقِيمَةُ قَوْلاً
لاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ،
وَلاَ دَلِيلٌ أَصْلاً; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَدْ حدثنا حمام، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَاجِيَّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ، حدثنا بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ،
حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ أَشْعَثَ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ:
لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا شَيْءٌ.
قال أبو محمد: فَصَحَّتْ الزَّكَاةُ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ الذَّهَبِ ثُمَّ فِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ زَائِدَةً: بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ
فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ
ذَلِكَ، وَلاَ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ،
وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الشَّرَائِعُ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ
إلاَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَيْسَ إلاَّ هَذَا الْقَوْلُ, أَوْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: قَدْ
صَحَّ أَنَّ فِي الذَّهَبِ زَكَاةً بِالنَّصِّ الثَّابِتِ; فَالْوَاجِبُ أَنْ
يُزَكَّى كُلُّ ذَهَبٍ, إلاَّ ذَهَبًا صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى إسْقَاطِ
زَكَاتِهَا فَمَنْ قَالَ هَذَا: فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ كُلَّ مَا
دُونَ الْعِشْرِينَ بِالْقِيمَةِ, وَأَنْ يُزَكِّيَ حُلِيَّ الذَّهَبِ, وَأَنْ
يُزَكِّيَ كُلَّ ذَهَبٍ حِينَ يَمْلِكُهُ مَالِكُهُ فَكُلُّ هَذَا قَدْ قَالَ بِهِ
جَمَاعَةٌ مِنْ الأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَجَلُّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَلَمْ نَقُلْ بِهَذَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ
أَنْ يُنْسَبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ إلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
قول إلاَّ بِيَقِينِ نَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ الإِثْبَاتِ أَوْ بِنَقْلِ
تَوَاتُرٍ أَوْ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَحْوَالِ
مَوْجُودًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَقَدْ قلنا: إنَّ الإِجْمَاعَ
قَدْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَدَدٍ
مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ فِي كُلِّ
(6/73)
وَقْتٍ
مِنْ الدَّهْرِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَمَا تَعَلَّقَ بِمَا رُوِيَ فِي
ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; لإِنَّ الرِّوَايَةَ،
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنَّهُ
يُزَكَّى بِالدَّرَاهِمِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَزْكِيَةُ الذَّهَبِ
بِالدَّرَاهِمِ, وَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ, وَعَطَاءٍ, وَمَا
وَجَدْنَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ
الْوَقْصَ فِي الذَّهَبِ يُزَكَّى بِالذَّهَبِ فَخَرَجَ قَوْلُهُ، عَنْ أَنْ
يَكُونَ لَهُ سَلَفٌ.
وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ جَعَلْتُمْ الْوَقْصَ فِي الذَّهَبِ
أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَلَيْسَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ الَّتِي
احْتَجَجْتُمْ بِهَا; بَلْ الأَثَرُ الَّذِي رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ إلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأن مَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِنَّهُ
يُزَكَّى بِالْحِسَابِ; وَإِنَّمَا جَاءَ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ لاَ
يَصِحُّ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ, وَرَأَيْتُمْ تَزْكِيَتَهُ
بِالذَّهَبِ وَرَآهُ هُوَ بِالْوَرِقِ بِالْقِيمَةِ, وَقَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ,
وَابْنُ عُمَرَ بِرِوَايَةٍ أَصَحَّ مِنْ الرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ.
فَلاَ مَلْجَأَ لَهُمْ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا: قِسْنَاهُ عَلَى الْفِضَّةِ.
قَوْلُ عَلِيٍّ: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ
الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ قِيَاسًا لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى أَصْلٍ
غَيْرِ صَحِيحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ مِنْ أَنَّ كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
بِإِزَاءِ دِينَارٍ, وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ قَالُوهُ فِي الزَّكَاةِ, وَالْقَطْعِ
فِي السَّرِقَةِ. وَالدِّيَةِ, وَالصَّدَاقِ, وَكُلُّ ذَلِكَ خَطَأٌ مِنْهُمْ,
لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ صَحِيحًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ
صَحِيحَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ لاَ يُزَكَّى الذَّهَبُ إلاَّ
حَتَّى يُتِمَّ عِنْدَ مَالِكِهِ حَوْلاً كَمَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ اسْتَدْرَكْنَا فَرَأَيْنَا أَنَّ حَدِيثَ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ مُسْنَدٌ
صَحِيحٌ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ، وَأَنَّ الاِعْتِلاَلَ فِيهِ بِأَنَّ عَاصِمَ بْنَ
ضَمْرَةَ, أَوْ أَبَا إِسْحَاقَ, أَوْ جَرِيرًا خَلَطَ إسْنَادَ الْحَارِثِ
بِإِرْسَالِ عَاصِمٍ: هُوَ الظَّنُّ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ, وَمَا
عَلَيْنَا مِنْ مُشَارَكَةِ الْحَارِثِ لِعَاصِمٍ, وَلاَ لاِِرْسَالِ مَنْ
أَرْسَلَهُ; ، وَلاَ لِشَكِّ زُهَيْرٍ فِيهِ شَيْءٌ وَجَرِيرٌ ثِقَةٌ; فَالأَخْذُ
بِمَا أَسْنَدَهُ لاَزِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/74)
الزكاة
واجبة في حلي الفضة و الذهب إذا بلغ كل واحد منهما المقدار الذي ذكرنا و أتم عند
مالكه عاما قمريا
...
684 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ
إذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِقْدَارَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَتَمَّ
عِنْدَ مَالِكِهِ عَامًا قَمَرِيًّا.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ، وَلاَ
أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا، عَنِ الآخَرِ، وَلاَ قِيمَتُهُمَا فِي عَرْضٍ أَصْلاً,
وَسَوَاءٌ كَانَ حُلِيَّ امْرَأَةٍ أَوْ حُلِيَّ رَجُلٍ, وَكَذَلِكَ حِلْيَةُ
السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَالْخَاتَمِ وَكُلِّ مَصُوغِ مِنْهُمَا حَلَّ اتِّخَاذُهُ
أَوْ لَمْ يَحِلَّ.
وقال أبو حنيفة: بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وقال مالك: إنْ كَانَ الْحُلِيُّ لاِمْرَأَةٍ تَلْبَسُهُ أَوْ تُكْرِيهِ أَوْ
كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنِسَائِهِ فَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, فَإِنْ
كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنَفْسِهِ عِدَّةً فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ زَكَاةَ
عَلَى الرَّجُلِ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ, وَالْمِنْطَقَةِ, الْمُصْحَفِ,
وَالْخَاتَمِ.
وقال الشافعي: لاَ زَكَاةَ فِي حُلِيِّ ذَهَبٍ, أَوْ فِضَّةٍ.
وَجَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ السَّلَفِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي
قَبْلَ هَذَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ إيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي حُلِيِّ
امْرَأَتِهِ. وَهُوَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ مَهْدِي، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَتْ
امْرَأَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: لِي حُلِيٌّ فَقَالَ لَهَا: إذَا
بَلَغَ مِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى: مُرْ نِسَاءَ
الْمُسْلِمِينَ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَأْمُرُ بِالزَّكَاةِ
فِي حُلِيِّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَالِمٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ كُلَّ عَامٍ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ: لاَ بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إذَا أُعْطِيت زَكَاتُهُ
(6/75)
وَهُوَ
قَوْلُ مُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وَمَيْمُونِ بْنِ
مِهْرَانَ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ,
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَذَرٍّ الْهَمْدَانِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ,
وَاسْتَحَبَّهُ الْحَسَنُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةَ.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ يُلْبَسُ وَيُعَارُ فَلاَ زَكَاةَ
فِيهِ, وَمَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ اُتُّخِذَ لِيُحْرَزَ مِنْ الزَّكَاةِ فَفِيهِ
الزَّكَاةُ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنُ عُمَرَ: لاَ زَكَاةَ فِي
الْحُلِيِّ.
وَهُوَ قَوْلُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ; وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ
عَائِشَةَ, وَهُوَ عَنْهُمَا صَحِيحٌ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ, وَعَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ; وَرُوِيَ
أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, فَمَرَّةً رَأَى فِيهِ
الزَّكَاةَ, وَمَرَّةً لَمْ يَرَهَا.
قال أبو محمد: وَهُنَا قَوْلُ أَنَسٍ: إنَّ الزَّكَاةَ فِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ,
ثُمَّ لاَ تَعُودُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: أَنَّ
حِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ الْكُنُوزِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ:
لاَ زَكَاةَ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ، وَلاَ فِي مِنْطَقَةٍ مُحَلاَّةٍ، وَلاَ فِي
سَيْفٍ مُحَلًّى.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ, وَمَا عِلْمنَا
ذَلِكَ التَّقْسِيمَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ تَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ
حُجَّةٌ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ،
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا
سَقَطَتْ، عَنِ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلنِّسَاءِ لاَِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ,
وَكَذَلِكَ، عَنِ الْمِنْطَقَةِ, وَالسَّيْفِ, وَحِلْيَةِ الْمُصْحَفِ,
وَالْخَاتَمِ لِلرِّجَالِ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا الاِحْتِجَاجُ عَجَبًا وَلَقَدْ عَلِمَ كُلُّ
مُسْلِمٍ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ وَنِقَارَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
مُبَاحٌ اتِّخَاذُ كُلِّ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا
أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ, إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ
صَحِيحَةً وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ مَنْ
(6/76)
اتَّخَذَ
مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ مِمَّا لَمْ يُبَحْ لَهُ اتِّخَاذُهُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ
الزَّكَاةُ عُقُوبَةً لَهُ, كَمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ
مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا اُتُّخِذَ مِنْهُ حُلِيٌّ مُبَاحٌ اتِّخَاذُهُ!!
فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ يُشْبِهُ مَتَاعَ الْبَيْتِ الَّذِي لاَ زَكَاةَ فِيهِ
مِنْ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا.
قلنا لَهُمْ: فَأَسْقِطُوا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا إنْ صَحَّحْتُمُوهَا
الزَّكَاةَ، عَنِ الإِبِلِ الْمُتَّخَذَةِ لِلرُّكُوبِ وَالسَّنِيِّ وَالْحَمْلِ
وَالطَّحْنِ, وَعَنِ الْبَقَرِ الْمُتَّخَذَةِ لِلْحَرْثِ.
وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدُ, فَمَعَ فَسَادِ هَذِهِ الْعِلَّةِ
وَتَنَاقُضِهَا, مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِهَا وَمِنْ أَيْنَ صَحَّ لَكُمْ أَنَّ مَا
أُبِيحَ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْحُلِيِّ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ وَمَا هُوَ إلاَّ
قَوْلُكُمْ جَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً لِقَوْلِكُمْ، وَلاَ مَزِيدَ!
ثُمَّ أَيْنَ وَجَدْتُمْ إبَاحَةَ اتِّخَاذِ الْمِنْطَقَةِ الْمُحَلاَّةِ
بِالْفِضَّةِ وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ دُونَ السَّرْجِ
وَاللِّجَامِ, وَالْمَهَامِيزِ الْمُحَلاَّةِ بِالْفِضَّةِ.
فَإِنْ ادَّعَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَةً، عَنِ السَّلَفِ ادَّعَوْا مَا لاَ
يَجِدُونَهُ.
وَأَوْجَدْنَاهُمْ، عَنِ السَّلَفِ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمُسْنَدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ, وَصُهَيْبٍ
خَوَاتِيمَ ذَهَبٍ.
وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. فَأَسْقِطُوا لِهَذَا الزَّكَاةَ،
عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ; أَوْ قِيسُوا حِلْيَةَ السَّرْجِ
وَاللِّجَامِ وَالدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ عَلَى الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفِ;
وَإِلاَّ فَلاَ النُّصُوصَ اتَّبَعْتُمْ, وَلاَ الْقِيَاسَ اسْتَعْمَلْتُمْ
فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يَخْلُو حُلِيُّ
النِّسَاءِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لاَ تَكُونَ فِيهِ
الزَّكَاةُ, فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِي كُلِّ حَالٍّ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَإِنْ كَانَ لاَ زَكَاةَ فِيهِ فَمَا عَلِمْنَا عَلَى مَنْ اتَّخَذَ مَا لاَ
زَكَاةَ فِيهِ لِيُحْرِزَهُ مِنْ الزَّكَاةِ زَكَاةً وَلَوْ كَانَ هَذَا لَوَجَبَ
عَلَى مَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِهِ دَارًا أَوْ ضَيْعَةً لِيُحْرِزَهَا مِنْ
الزَّكَاةِ أَنْ يُزَكِّيَهَا, وَهُوَ لاَ يَقُولُ بِهَذَا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّمَاءِ. فَأَسْقَطَ
الزَّكَاةَ، عَنِ الْحُلِيِّ وَعَنِ الإِبِلِ; وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ غَيْرِ
السَّوَائِمِ
(6/77)
قال
أبو محمد: وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ نَظَرٌ صَحِيحٌ; وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ
الثِّمَارَ وَالْخُضَرَ تَنْمِي, وَهُوَ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا وَكِرَاءُ
الإِبِلِ, وَعَمَلُ الْبَقَرِ يَنْمِي, وَهُوَ لاَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا
وَالدَّرَاهِمُ لاَ تَنْمِي إذَا بَقِيَتْ عِنْدَ مَالِكِهَا, وَهُوَ يَرَى
الزَّكَاةَ فِيهَا, وَالْحُلِيُّ يَنْمِي كِرَاؤُهُ وَقِيمَتُهُ, وَهُوَ لاَ يَرَى
الزَّكَاةَ فِيهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ, وَأَسْقَطَ
الزَّكَاةَ، عَنِ الْمُسْتَعْمَلَةِ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ;
وَهَذَا تَنَاقُضٌ.
وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنَّ الذَّهَبَ, وَالْفِضَّةَ قَبْلَ أَنْ
يُتَّخَذَ حُلِيًّا كَانَتْ فِيهِمَا الزَّكَاةُ, ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ
سَقَطَ عَنْهُمَا حَقُّ الزَّكَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَسْقُطْ, فَوَجَبَ
أَنْ لاَ يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلاَفٍ.
فَقُلْنَا: هَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ; إلاَّ أَنَّهَا لاَزِمَةٌ لَكُمْ فِي غَيْرِ
السَّوَائِمِ; لاِتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا قَبْلَ أَنْ
تُعْلَفَ, فَلَمَّا عُلِفَتْ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ أَوْ
تَمَادِيهَا, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلاَفٍ.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَجَدْنَا الْمَعْلُوفَةَ نُنْفِقُ عَلَيْهَا
وَنَأْخُذُ مِنْهَا, وَوَجَدْنَا السَّوَائِمَ نَأْخُذُ مِنْهَا، وَلاَ نُنْفِقُ
عَلَيْهَا; وَالْحُلِيُّ يُؤْخَذُ كِرَاؤُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَلاَ يُنْفَقُ
عَلَيْهِ, فَكَانَ أَشْبَهَ بِالسَّوَائِمِ مِنْهُ بِالْمَعْلُوفَةِ.
فَقِيلَ لَهُ: وَالسَّائِمَةُ أَيْضًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا أَجْرُ الرَّاعِي.
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَهْوَاسٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ بِالضَّلاَلِ!!
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ بِآثَارٍ
وَاهِيَةٍ, لاَ وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهَا, إلاَّ أَنَّنَا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا
تَبْكِيتًا لِلْمَالِكِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِمِثْلِهَا وَبِمَا هُوَ دُونَهَا
إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ وَهِيَ.
خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْحُسَيْنِ
الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ
امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهَا
مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا: "أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ
هَذَا؟" قَالَتْ: لاَ, قَالَ: "أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ
بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟", فَأَلْقَتْهُمَا,
وَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
(6/78)
وَالْمَالِكِيُّونَ
يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ إذَا
وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ, وَلَمْ يَرْوِهِ هَاهُنَا حُجَّةً.
وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ عَتَّابٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا لِي مِنْ
ذَهَبٍ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ قَالَ: "مَا بَلَغَ
أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ".
وَعَتَّابٌ مَجْهُولٌ, إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ
حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ, وَسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ, وَهَذَا خَيْرٌ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَرَأَى فِي يَدِي سِخَابًا مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ: "أَتُؤَدِّينَ
زَكَاتَهُ؟", قُلْت: لاَ, أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, فَقَالَ:
"هُوَ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ".
قال أبو محمد: يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ضَعِيفٌ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ
بِرِوَايَتِهِ, إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ. وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ: أَنْتُمْ
قَدْ تَرَكْتُمْ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ
الْكَلْبِ سَبْعًا مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقٍ لاَ خَيْرَ
فِيهَا أَنَّهُ خَالَفَ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ فِي تَرْكِ
ذَلِكَ الْخَبَرِ الثَّابِتِ إلاَّ بِهَذَا, ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِرَاوِيَةِ
عَائِشَةَ هَذِهِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ; وَهِيَ قَدْ خَالَفَتْهُ مِنْ أَصَحِّ
طَرِيقٍ, فَمَا هَذَا التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ!
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رُوِيَ عَنْهَا الأَخْذُ بِمَا رَوَتْ مِنْ هَذَا.
قلنا لَهُمْ: وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الأَخْذُ بِمَا رَوَى فِي غَسْلِ
الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رَوَى زَكَاةَ الْحُلِيِّ كَمَا أَوْرَدْتُمْ غَيْرُ
عَائِشَةَ, وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.
(6/79)
قلنا
لَهُمْ: وَقَدْ رَوَى غَسْلَ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا غَيْرُ
أَبِي هُرَيْرَةَ, وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ; وَهَذَا مَا لاَ
انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ.
قال أبو محمد: لَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآثَارُ لَمَا قلنا1 بِوُجُوبِ
الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ; وَلَكِنْ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ", "وَلَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ2 مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ", وَكَانَ الْحُلِيُّ وَرِقًا وَجَبَ3 فِيهِ
حَقُّ الزَّكَاةِ, لِعُمُومِ هَذَيْنِ الأَثَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ لاَ يُؤَدِّي مَا فِيهَا إلاَّ جُعِلَ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا". فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ
فِي كُلِّ ذَهَبٍ بِهَذَا النَّصِّ, وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْ
الذَّهَبِ عَمَّنْ لاَ بَيَانَ فِي هَذَا النَّصِّ بِإِيجَابِهَا فِيهِ; وَهُوَ
الْعَدَدُ وَالْوَقْتُ, لاِِجْمَاعِ الآُمَّةِ كُلِّهَا بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهَا
أَصْلاً عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ
عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ, وَلاَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ, فَلَمَّا صَحَّ
ذَلِكَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ لاَ يُضَافَ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مَا صَحَّ عَنْهُ بِنَقْلِ آحَادٍ
أَوْ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ; وَلَمْ يَأْتِ إجْمَاعٌ قَطُّ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام
لَمْ يُرِدْ إلاَّ بَعْضَ أَحْوَالِ الذَّهَبِ وَصِفَاتِهِ, فَلَمْ يَجُزْ
تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
فإن قيل: فَهَلاَّ أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ أَنَسٍ فِي الْحُلِيِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ
نَفْسِهِ, فَلَمْ تُوجِبُوا فِيهِ الزَّكَاةَ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي
الدَّهْرِ.
قلنا لَهُمْ: لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ
الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ عُمُومًا, وَلَمْ يَخُصَّ الْحُلِيَّ مِنْهُ بِسُقُوطِ
الزَّكَاةِ فِيهِ, لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِإِجْمَاعٍ, فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ
بِالنَّصِّ فِي كُلِّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ, وَخَصَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ
بَعْضَ الأَعْدَادِ مِنْهُمَا وَبَعْضَ الأَزْمَانِ, فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ
فِيهِمَا إلاَّ فِي عَدَدٍ أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ وَفِي زَمَانٍ
أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ, وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُمَا; إذْ
قَدْ عَمَّهُمَا النَّصُّ; فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ
الذَّهَبِ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَصَحَّ يَقِينًا بِلاَ خِلاَفٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ كُلَّ عَامٍ, وَالْحُلِيِّ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ "إلاَّ الْحُلِيَّ" بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَلاَ إجْمَاعٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ
مَالِكًا, وَأَبَا يُوسُفَ, وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ, قَالُوا: مَنْ كَانَ
مَعَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَا إذَا حَسِبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ
دِينَارٍ بِإِزَاءِ عَشَرَةِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" "ما قلنا".
2 في النسخة رقم "14" "أواق".
3 في النسخة رقم "14" "فأوجب".
(6/80)
دَرَاهِمَ
فَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ زَكَّى
الْجَمِيعَ زَكَاةً وَاحِدَةً, مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دِينَارٌ وَمِائَةٌ
وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا, أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا أَوْ
عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ أَبَدًا. فَإِنْ
كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى
غَلاَءِ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ, أَوْ الدَّرَاهِمِ أَوْ رُخْصِهَا وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ.
الأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ, فَإِذَا
بَلَغَ قِيمَةُ مَا عِنْدَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ, وَإِلاَّ فَلاَ, فَيَرَى عَلَى مَنْ
عِنْدَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ يُسَاوِي لِغَلاَءِ الذَّهَبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
غَيْرَ دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ
عَلَيْهِ, وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَمِائَتَيْ
دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ لاَ تُسَاوِي دِينَارًا زَكَاةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى; وَشَرِيكٌ; وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ,
وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُضَمُّ ذَهَبٌ إلَى وَرِقٍ أَصْلاً;
لاَ بِقِيمَةٍ، وَلاَ عَلَى الأَجْزَاءِ, فَمَنْ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَيْرُ
حَبَّةٍ وَعِشْرُونَ دِينَارًا غَيْرُ حَبَّةٍ: فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا,
فَإِنْ كَمُلَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا زَكَّاهُ وَلَمْ يُزَكِّ الآخَرَ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا
أَثْمَانُ الأَشْيَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَيُقَالُ لَهُ: وَالْفُلُوسُ قَدْ تَكُونُ أَثْمَانًا أَيْضًا,
فَزَكِّهَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ. وَالأَشْيَاءُ كُلُّهَا قَدْ
يُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ, فَتَكُونُ أَثْمَانًا, فَزَكِّ الْعُرُوضَ بِهَذِهِ
الْعِلَّةِ.
وَأَيْضًا: فَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَثْمَانًا لِلأَشْيَاءِ
وَجَبَ ضَمُّهُمَا فِي الزَّكَاةِ فَهَذِهِ عِلَّةٌ لَمْ يُصَحِّحْهَا قُرْآنٌ,
وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ,
وَلاَ قِيَاسٌ يُعْقَلُ, وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَى فِي
غَايَةِ الْفَسَادِ.
وَأَيْضًا: فَإِذْ صَحَّحْتُمُوهَا فَاجْمَعُوا بَيْنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي
الزَّكَاةِ, لاَِنَّهُمَا يُؤْكَلاَنِ وَتُشْرَبُ أَلْبَانُهُمَا, وَيُجْزِئُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدْيِ نَعَمْ, وَاجْمَعُوا
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ فِي الزَّكَاةِ, لاَِنَّهَا كُلَّهَا تَجُوزُ فِي
الأَضَاحِيّ وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ!
فإن قيل: النَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قلنا: وَالنَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ, لاَ
يَخْلُو الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ
جِنْسَيْنِ, فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَحَرَّمُوا بَيْعَ أَحَدِهِمَا
بِالآخَرِ
(6/81)
مُتَفَاضِلاً,
وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لاَ يَجُوزُ, إلاَّ
بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّمْرِ,
وَالزَّبِيبِ فِي الزَّكَاةِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا, لاَِنَّهُمَا قُوتَانِ
حُلْوَانِ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَأَيْضًا: فَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ أَنْ
يُزَكِّيَ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَقَدْ شَاهَدْنَا
الدِّينَارَ يَبْلُغُ بِالأَنْدَلُسِ أَزْيَدَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهَذَا
بَاطِلٌ شَنِيعٌ جِدًّا!
وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِتَكَامُلِ الأَجْزَاءِ أَنَّهُ إنْ
كَانَ الذَّهَبُ رَخِيصًا أَوْ غَالِيًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الذَّهَبَ، عَنِ
الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةَ بِالْقِيمَةِ. أَوْ تُخْرَجُ الْفِضَّةُ، عَنِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا ضِدُّ مَا جَمَعَ بِهِ بَيْنَهُمَا, فَمَرَّةً
رَاعَى الْقِيمَةَ لاَ الأَجْزَاءَ, وَمَرَّةً رَاعَى الأَجْزَاءَ لاَ الْقِيمَةَ,
فِي زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ بِيَقِينٍ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: بَلْ أَجْمَعُ
الذَّهَبَ مَعَ الْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَأُخْرِجُ عَنْهُمَا أَحَدَهُمَا
بِمُرَاعَاةِ الأَجْزَاءِ; وَكِلاَهُمَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ.
وَأَيْضًا: فَيَلْزَمُهُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ تَجِبُ فِيهِمَا
عِنْدَهُ الزَّكَاةُ وَكَانَ الدِّينَارُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ إنْ أَخْرَجَ ذَهَبًا، عَنْ كِلَيْهِمَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ
رُبْعَ دِينَارٍ وَأَقَلَّ، عَنْ زَكَاةِ عِشْرِينَ دِينَارًا, وَهَذَا بَاطِلٌ
عِنْدَهُمْ, وَإِنْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ، عَنْ كِلَيْهِمَا وَكَانَ الدِّينَارُ لاَ
يُسَاوِي إلاَّ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ
مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّكُمْ تَجْمَعُونَ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ فِي
الزَّكَاةِ, وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ.
قلنا نَعَمْ, لإِنَّ الزَّكَاةَ جَاءَتْ فِيهِمَا بِاسْمٍ يَجْمَعُهُمَا, وَهُوَ
لَفْظُ "الْغَنَمِ" "وَالشَّاءِ" وَلَمْ تَأْتِ الزَّكَاةُ
فِي الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ يَجْمَعُهُمَا وَلَوْ لَمْ تَأْتِ
الزَّكَاةُ فِي الضَّأْنِ إلاَّ بِاسْمِ "الضَّأْنِ "، وَلاَ فِي
الْمَاعِزِ إلاَّ بِاسْمِ "الْمَاعِزِ" لَمَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا,
كَمَا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ وَلَوْ جَاءَتْ الزَّكَاةُ فِي
الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ وَاسْمٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَجَمَعْنَا
بَيْنَهُمَا.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ غَيْرُ الْفِضَّةِ,
وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِمِائَةٍ مِنْ الآخَرِ,
وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ, وَالآخَرَ حَلاَلٌ
لِلنِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ, وَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ
تَجِبُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَلاَ
(6/82)
فِي
أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا فِي عَشْرَةِ دَنَانِيرَ
وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ.
قال أبو محمد: وَحُجَّتُنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي
الزَّكَاةِ هُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ" فَكَانَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ
الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ قَدْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ
أَوَاقٍ وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ; وَهُمْ يُصَحِّحُونَ الْخَبَرَ فِي
إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا
فِي أَقَلَّ. وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا! وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ, وَعُمَرَ,
وَابْنِ عُمَرَ: إسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَلاَ
مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا إخْرَاجُ الذَّهَبِ، عَنِ الْوَرِقِ, وَالْوَرِقِ، عَنِ الذَّهَبِ,
فَإِنَّ مَالِكًا, وَأَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَاهُ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ, وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ", فَمَنْ أَخْرَجَ غَيْرَ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ. وَمَنْ يُطِعْ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ
فَلَمْ يُزَكِّ.
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَالآُمَّةُ كُلُّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ
فِي زَكَاتِهَا الذَّهَبَ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَوَافَقَ مَا أَمَرَهُ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ فِضَّةً، عَنْ ذَهَبٍ, أَوْ عَرْضًا، عَنْ
أَحَدِهِمَا, أَوْ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِيمَا عَدَاهُمَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم حُكْمًا بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/83)
المال
المستفاد
أقوال علماء الصحابة في زكاة المال المستفاد
...
الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ
685 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إيجَابُ الزَّكَاةِ
فِي كُلِّ مَالٍ يُزَكَّى حِينَ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ.
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً.
(6/83)
وقال
أبو حنيفة: لاَ يُزَكَّى الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ إلاَّ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً
إلاَّ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يَجِبُ فِي عَدَدِ مَا عِنْدَهُ مِنْهُ الزَّكَاةُ
فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ: فَإِنَّهُ إنْ اكْتَسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ قَبْلَ
تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ:
فَإِنَّهُ يُزَكِّي الْمُكْتَسَبَ مَعَ الأَصْلِ, سَوَاءٌ عِنْدَهُ الذَّهَبُ,
وَالْفِضَّةُ, وَالْمَاشِيَةُ, وَالأَوْلاَدُ, وَغَيْرُهَا.
وقال مالك: لاَ يُزَكَّى الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ إلاَّ حَتَّى يُتِمَّ حَوْلاً,
وَسَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ,
إلاَّ الْمَاشِيَةَ; فَإِنَّ مَنْ اسْتَفَادَ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ وِلاَدَةٍ
مِنْهَا, فَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَهُ مِنْهَا نِصَابًا: زَكَّى الْجَمِيعَ
عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ, وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ وِلاَدَةٍ زَكَّى
الْجَمِيعَ بِحَوْلِ الآُمَّهَاتِ1 سَوَاءٌ كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا أَوْ
لَمْ تَكُنْ.
وقال الشافعي: لاَ يُزَكَّى مَالٌ مُسْتَفَادٌ مَعَ نِصَابٍ كَانَ عِنْدَ الَّذِي
اسْتَفَادَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَلْبَتَّةَ, إلاَّ أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ مَعَ
أُمَّهَاتِهَا فَقَطْ إذَا كَانَتْ الآُمَّهَاتُ نِصَابًا وَإِلاَّ فَلاَ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ فَسَادِ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا;
وَيَكْفِي مِنْ فَسَادِهَا أَنَّهَا كُلَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَكُلُّهَا دَعَاوٍ
مُجَرَّدَةٌ, وَتَقَاسِيمُ فَاسِدَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ
شَيْءٍ مِنْهَا. لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ
لَهُ وَجْهٌ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ تَلِفَتْ كُلُّهَا أَوْ أَنْفَقَهَا إلاَّ
دِرْهَمًا وَاحِدًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ بَقِيَ عِنْدَهُ; فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ
تَمَامِ الْحَوْلِ بِسَاعَةٍ اكْتَسَبَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ
دِرْهَمًا: فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي الْجَمِيعِ2 لِحَوْلِ الَّتِي تَلِفَتْ,
فَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا، وَلاَ دِرْهَمٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا
اكْتَسَبَ وَلَوْ أَنَّهَا مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا حَوْلٌ.
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا شَأْنُ هَذَا الدِّرْهَمِ وَمَا قَوْلُهُ لَوْ لَمْ3
يَبْقَ مِنْهَا إلاَّ فَلْسٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ
ذَهَبٍ, أَوْ مِنْ بَقَرٍ, أَوْ مِنْ إبِلٍ, أَوْ مِنْ غَنَمٍ; ثُمَّ تَلِفَتْ
كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدَةً; ثُمَّ اكْتَسَبَ مِنْ جِنْسِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا
يُتِمُّ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُ النِّصَابَ وَهَذَا قَوْلٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ
تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَلَئِنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي الدِّرْهَمِ الْبَاقِي فَإِنَّ
الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ غَيْرَهُ; نَعَمْ, وَفِيمَا
اكْتَسَبَ إلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ دِرْهَمٌ آخَرُ وَلَئِنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ
غَيْرَ بَاقِيَةٍ فِيهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْحَوْلِ بِمَا
اكْتَسَبَ مَعَهُ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ مِنْ الْفَائِدَةِ: ابْنُ
مَسْعُودٍ, وَمُعَاوِيَةُ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "14" "لحلول الأمهات".
2 في النسخة رقم "14" "للجميع".
3 في النسخة رقم "16" "ولم" وهو هطأ.
(6/84)
وَالْحَسَنُ,
وَالزُّهْرِيُّ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ حَوْلٌ:
عَلِيٌّ, وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ, وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنُ
عُمَرَ, وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي بَابٍ ذِكْرِنَا أَوْلاَدَ الْمَاشِيَةِ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ فَلاَ يُحْفَظُ،
عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، نَعَمْ, وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
التَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: كُلُّ فَائِدَةٍ فَإِنَّمَا تُزَكَّى لِحَوْلِهَا, لاَ لِحَوْلِ مَا
عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِهَا وَإِنْ اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الأَحْوَالُ.
تَفْسِيرُ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً مَلَكَ نِصَابًا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ
مِنْ الْوَرِقِ أَوْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا مِنْ الذَّهَبِ, أَوْ خَمْسًا مِنْ
الإِبِلِ, أَوْ خَمْسِينَ مِنْ الْبَقَرِ ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ
قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ, إلاَّ أَنَّهَا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِ
مَا عِنْدَهُ أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا, أَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثُمَّ
مَلَكَ فِي الْحَوْلِ تَمَامَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ: فَإِنْ كَانَ مَا اكْتَسَبَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَضُمُّ الَّتِي
مَلَكَ إلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ; لاَِنَّهَا لاَ تُغَيِّرُ حُكْمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ
مِنْ الزَّكَاةِ, فَيُزَكَّى ذَلِكَ لِحَوْلِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ
يَسْتَأْنِفُ الْجَمِيعَ حَوْلاً, فَإِنْ اسْتَفَادَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ مَا
يُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ فِيمَا عِنْدَهُ, إلاَّ أَنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ لَوْ
انْفَرَدَتْ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي الْوَرِقِ
خَاصَّةً عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَفِي سَائِرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ:
فَإِنَّهُ يُزَكِّي الَّذِي عِنْدَهُ وَحْدَهُ لِتَمَامِ حَوْلِهِ, وَضَمَّ
حِينَئِذٍ الَّذِي اسْتَفَادَ إلَيْهِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ وَاسْتَأْنَفَ
بِالْجَمِيعِ حَوْلاً.
مِثْلُ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً ثُمَّ اسْتَفَادَ
شَاةً فَأَكْثَرَ, أَوْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بَقَرَةً فَأَفَادَ
بَقَرَةً فَأَكْثَرَ, أَوْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعٌ مِنْ الإِبِلِ فَأَفَادَ
وَاحِدَةً فَأَكْثَرَ أَوْ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا فَأَفَادَ دِينَارًا
فَأَكْثَرَ, لإِنَّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الَّذِي زَكَّى لاَ زَكَاةَ فِيهِ,
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكَّى مَالٌ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.
فَلَوْ مَلَكَ نِصَابًا كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ مَلَكَ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ
نِصَابًا أَيْضًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّهُ
يُزَكِّي كُلَّ مَالٍ لِحَوْلِهِ; فَإِنْ رَجَعَ الأَوَّلُ مِنْهُمَا إلاَّ مَا
لاَ زَكَاةَ فِيهِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُ الْفَائِدَةِ زَكَّاهَا ثُمَّ ضَمَّ
الأَوَّلَ حِينَئِذٍ إلَى الآخَرِ, لإِنَّ الأَوَّلَ قَدْ صَارَ لاَ زَكَاةَ فِيهِ
(6/85)
وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَهُ مَعَ مَا قَدْ زَكَّاهُ مِنْ الْمَالِ الثَّانِي,
فَيَكُونُ يُزَكِّي الثَّانِي مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ; وَيَسْتَأْنِفُ بِالْجَمِيعِ
حَوْلاً.
فَإِنْ رَجَعَ الْمَالُ الثَّانِي إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ وَبَقِيَ الأَوَّلُ
نِصَابًا فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ إذَا حَالَ حَوْلُهُ, ثُمَّ يَضُمُّ الثَّانِي إلَى
الأَوَّلِ حِينَئِذٍ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فَيَسْتَأْنِفُ بِهِمَا حَوْلاً.
فَلَوْ خَلَطَهُمَا فَلَمْ يَتَمَيَّزَا فَإِنَّهُ يُزَكِّي كُلَّ عَدَدٍ
مِنْهُمَا لِحَوْلِهِ, وَيَجْعَلُ مَا أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ نُقْصَانًا
مِنْ الْمَالِ الثَّانِي; لاَِنَّهُ لاَ يُوقِنُ بِالنَّقْصِ إلاَّ بَعْدَ
إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الثَّانِي, وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلاَ يَقِينَ
عِنْدَهُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا نَقَصَ; فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْجِعَ
كِلاَهُمَا إلَى مَا يُوقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ نَقَصَ، وَلاَ بُدَّ عَمَّا
فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَذَلِكَ مِثْلُ: أَنْ يُرْجِعَ الْغَنَمَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ; لاَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ هَذَا الْعَدَدِ
بِشَاتَيْنِ, أَوْ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ الْبَقَرَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ,
وَالذَّهَبَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ دِينَارًا, وَالإِبِلاَنِ إلَى
أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ, وَالْفِضَّتَانِ إلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ
دِرْهَمٍ.
فَإِذَا رَجَعَ الْمَالاَنِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يُمْكِنُ أَنَّ النَّقْصَ
دَخَلَ فِي كِلَيْهِمَا, وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي أَحَدِهِمَا, إلاَّ
أَنَّهُ بِلاَ شَكٍّ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ; فَلاَ
تَسْقُطُ عَنْهُ بِالشَّكِّ فَإِذَا كَانَ هَذَا: ضَمَّ الْمَالَ الثَّانِي إلَى
الأَوَّلِ فَزُكِّيَ الْجَمِيعُ لِحَوْلِ الأَوَّلِ أَبَدًا, حَتَّى يَرْجِعَ
الْكُلُّ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ.
فَلَوْ اقْتَنَى خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ إلاَّ أَنَّهُ عَدَدٌ
يُزَكَّى بِالْغَنَمِ ثُمَّ اقْتَنَى فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ عَدَدًا يُزَكَّى
وَحْدَهُ لَوْ انْفَرَدَ إمَّا بِالْغَنَمِ, وَأَمَّا بِالإِبِلِ فَإِنَّهُ
يُزَكِّي مَا كَانَ عِنْدَهُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِالْغَنَمِ; ثُمَّ ضَمَّهُ
إثْرَ ذَلِكَ إلَى مَا اسْتَفَادَ; إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ وَاحِدٌ
عِنْدَهُ إبِلٌ لَهُ قَدْ تَمَّ لِجَمِيعِهَا حَوْلٌ فَيُزَكِّي بَعْضَهَا
بِالْغَنَمِ وَبَعْضَهَا بِالإِبِلِ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي زَكَاةِ الإِبِلِ.
فَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ ثُمَّ مَلَكَ فِي الْحَوْلِ
إحْدَى عَشْرَةَ زَكَّى الأَوَّلَ لِحَوْلِهَا بِنْتَ مَخَاضٍ; ثُمَّ ضَمَّهَا
إلَى الْفَائِدَةِ مِنْ حِينَئِذٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَزُكِّيَ الْجَمِيعُ لِحَوْلٍ
مِنْ حِينَئِذٍ مُسْتَأْنَفٍ بِبِنْتِ لَبُونٍ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لاَ
تَخْتَلِفُ زَكَاةُ إبِلٍ وَاحِدَةٍ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ. وَهَكَذَا فِي كُلِّ
شَيْءٍ.
فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُؤَخِّرُونَ زَكَاةَ بَعْضِهَا، عَنْ بَعْضٍ، عَنْ حَوْلِهِ
شُهُورًا.
قلنا: نَعَمْ: لاَِنَّنَا لاَ نَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ, إلاَّ
بِإِحْدَاثِ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ, وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ;
وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّعْجِيلُ مُبَاحٌ لاَ حَرَجَ فِيهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/86)
من
اجتمع في ماله زكاتان فصاعدا و هو حي
...
686 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ زَكَاتَانِ فَصَاعِدًا هُوَ حَيٌّ.
قال أبو محمد: تُؤَدَّى كُلُّهَا لِكُلِّ سَنَةٍ عَلَى عَدَدِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ
فِي كُلِّ عَامٍ; وَسَوَاءٌ كُلُّ ذَلِكَ لِهُرُوبِهِ بِمَالِهِ; أَوْ لِتَأْخِيرِ
السَّاعِي; أَوْ لِجَهْلِهِ, أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ; وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ
الْعَيْنُ, وَالْحَرْثُ, وَالْمَاشِيَةُ, وَسَوَاءٌ أَتَتْ الزَّكَاةُ عَلَى
جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ لَمْ تَأْتِ, وَسَوَاءٌ رَجَعَ مَالُهُ بَعْدَ أَخْذِ
الزَّكَاةِ مِنْهُ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ, وَلاَ يَأْخُذُ
الْغُرَمَاءُ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الزَّكَاةُ.
وقال مالك: إنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ
مِنْهُ زَكَاةُ كُلِّ سَنَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْوَزْنُ إلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ,
وَالذَّهَبُ إلَى عِشْرِينَ دِينَارًا, فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ,
ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ.
وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ زَرْعٍ فَرَّطَ فِيهَا سِنِينَ أُخِذَتْ كُلُّهَا وَإِنْ
اصْطَلَمَتْ جَمِيعَ مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً. فَإِنْ كَانَ هُوَ هَرَبَ أَمَامَ السَّاعِي فَإِنَّ
الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى حَسْبِ مَا كَانَ عِنْدَهُ فِي كُلِّ عَامٍ;
فَإِذَا رَجَعَ مَالُهُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ إلاَّ مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ لَمْ
يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ لِسَائِرِ مَا بَقِيَ مِنْ الأَعْوَامِ, وَإِنْ كَانَ
السَّاعِي هُوَ الَّذِي تَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاةُ مَا
وُجِدَ بِيَدِهِ لِكُلِّ عَامٍ خَلاَ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِهِ فِيمَا خَلاَ
أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ; فَإِذَا
رَجَعَ إلَى مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وقال أبو حنيفة فِيمَنْ كَانَ لَهُ عَشْرٌ مِنْ الإِبِلِ عَامَيْنِ لَمْ يُؤَدِّ
زَكَاتَهَا: إنَّهُ يُزَكِّي لِلْعَامِ الأَوَّلِ شَاتَيْنِ. وَلِلْعَامِ
الثَّانِي شَاةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ هُوَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا
دِرْهَمٍ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَلَمْ يُزَكِّهَا سَنَتَيْنِ فَصَاعِدًا:
إنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ; لإِنَّ الزَّكَاةَ صَارَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِيهَا
هَذَا نَصُّ كَلاَمِهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِعَامٍ وَاحِدٍ فَقَطْ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا لِكُلِّ عَامٍ أَبَدًا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو
سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ التَّنَاقُضِ, وَتَقْسِيمٌ
فَاسِدٌ, لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. وَمَا
الْعَجَبُ إلاَّ مِنْ رِفْقِهِمْ بِالْهَارِبِ أَمَامَ الْمُصَدِّقِ
وَتَحَرِّيهِمْ الْعَدْلَ فِيهِ وَشِدَّةِ حَمْلِهِمْ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ
السَّاعِي, فَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ زَكَاةً أَلْفَ
(6/87)
نَاقَةٍ
لِعَشْرِ سِنِينَ; وَلَمْ يَمْلِكْهَا إلاَّ سَنَةً وَاحِدَةً, وَإِنَّمَا مَلَكَ
فِي سَائِرِ الأَعْوَامِ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا فِي هَذَا
بِأَنَّ هَكَذَا زَكَّى النَّاسُ إذْ أَجْمَعُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ.
قال أبو محمد: وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا مُعَاوِيَةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ
الأَعْطِيَةِ وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ; وَقَلَّدُوا هَاهُنَا سُعَاةَ مَنْ لاَ
يُعْتَدُّ بِهِ, كَمَرْوَانَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ, وَمَا هُنَالِكَ وَمَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنْ إبِلٍ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُسْلِمُ
وَتُعَطَّلَ زَكَاةً قَدْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي
الْعَيْنِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَالِ نَفْسِهِ, وَلاَ فِي الذِّمَّةِ, وَهَذَا
أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ قَبْلُ; وَأَوْضَحْنَا أَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ
لاَ فِي الْعَيْنِ, وَلَوْ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ لَمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يُعْطِيَ
الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَالِ نَفْسِهِ; وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَى خِلاَفِهِ;
وَعَلَى أَنَّهُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ حَيْثُ شَاءَ; فَإِذَا صَحَّ أَنَّهَا
فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يُسْقِطُهَا عَنْهُ ذَهَابُ مَالِهِ, وَلاَ رُجُوعُهُ إلَى
مَا لاَ زَكَاةَ فِيهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ امْرَأً لَوْ بَاعَ مَاشِيَتَهُ بَعْدَ حُلُولِ
الزَّكَاةِ فِيهَا أَنَّ لِلسَّاعِي أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ تِلْكَ الْمَاشِيَةِ
الْمَبِيعَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ; وَمَا لَهُ ذَلِكَ; لاَِنَّهَا قَدْ صَارَتْ
مَالاً مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاةٌ مِنْ عُمَرَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ
وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى زَيْدٍ; وَلَكِنْ يَتْبَعُ الْبَائِعُ بِهَا دَيْنًا
فِي ذِمَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/88)
لو
مات الذي وجبت عليه الزكاة سنة أو سنتين فإنها من رأس المال
...
687 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ سَنَةً أَوْ
سَنَتَيْنِ فَإِنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ,
أَقَرَّ بِهَا أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ, وَرِثَهُ وَلَدُهُ أَوْ
كَلَالَةً, لَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا لِلْوَصِيَّةِ وَلَا لِلْوَرَثَةِ
حَتَّى تَسْتَوْفِيَ كُلُّهَا; سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ وَالْمَاشِيَةُ
وَالزَّرْعُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابِهِمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذَهَبِهِ
وَفِضَّتِهِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ, لَا تُؤْخَذُ أَصْلًا, سَوَاءٌ مَاتَ
إثْرَ الْحَوْلِ بِيَسِيرٍ أَوْ كَثِيرٍ, أَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لِسِنِينَ.
وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَاشِيَةِ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ
يَأْخُذُهَا الْمُصَدَّقُ مِنْهَا, وَإِنْ وَجَدَهَا بِأَيْدِي وَرَثَتِهِ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو يُوسُفَ: أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ,
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ: فَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ, وَرَوَى عَنْهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا
تُؤْخَذُ بَعْدِ مَوْتِهِ,
(6/88)
وَيَرَى
أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ فِي الْمَاشِيَةِ, وَالزَّرْعِ إنَّمَا هُوَ فِي
زَكَاةِ تِلْكَ السَّنَةِ فَقَطْ; فَأَمَّا زَكَاةٌ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ
فَإِنَّهُ يَقُولُ: بِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ حُلُولِ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ أَيِّ مَالٍ
كَانَ حَاشَا الْمَوَاشِيَ -: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ, فَإِنْ
كَانَ فَرَّطَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ فَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ
بِهَا, فَتَكُونُ مِنْ ثُلُثِهِ مُبْدَاةً عَلَى سَائِرِ وَصَايَاهُ كُلِّهَا,
حَاشَا التَّدْبِيرِ فِي الصِّحَّةِ, وَهِيَ مُبْدَاةٌ عَلَى التَّدْبِيرِ فِي
الْمَرَضِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْمَوَاشِي فَإِنَّهُ إنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ مَاتَ
قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي ثُمَّ جَاءَ السَّاعِي فَلَا سَبِيلَ لِلسَّاعِي
عَلَيْهَا, وَقَدْ بَطَلَتْ, إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهَا, فَتَكُونُ فِي الثُّلُثِ
غَيْرُ مُبْدَاةٍ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الأَُوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ: فَمَرَّةٌ رَآهَا مِنْ الثُّلُثِ,
وَمَرَّةً رَآهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ; فَفِي غَايَةِ
الْخَطَأِ; لِأَنَّهُمَا أَسْقَطَا بِمَوْتِ الْمَرْءِ دَيْنًا لِلَّهِ تَعَالَى
وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ, بِلَا بُرْهَانٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: لَوْ
كَانَ ذَلِكَ لَمَا شَاءَ إنْسَانٌ أَنْ لَا يُوَرِّثَ وَرَثَتَهُ شَيْئًا إلَّا
أَمْكَنَهُ.
فَقُلْنَا: فَمَا تَقُولُونَ فِي إنْسَانٍ أَكْثَرَ مِنْ إتْلَافِ أَمْوَالِ
النَّاسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُ وَرَثَتُهُ شَيْئًا,
وَلَوْ أَنَّهَا دُيُونُ يَهُودِيٍّ, أَوْ نَصْرَانِيٍّ لَا فِي خُمُورٍ
أَهْرَقَهَا لَهُمْ؟!
فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهَا كُلَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ, سَوَاءٌ وَرِثَ
وَرَثَتُهُ أَوْ لَمْ يَرِثُوا, فَنَقَضُوا عِلَّتَهُمْ بِأَوْحَشِ نَقْضٍ
وَأَسْقَطُوا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى- الَّذِي جَعَلَهُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, وَالْغَارِمِينَ مِنْهُمْ, وَفِي الرِّقَابِ
مِنْهُمْ, وَفِي سَبِيلِهِ تَعَالَى, وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى-: وَأَوْجَبُوا دُيُونَ الآدَمِيِّينَ وَأَطْعَمُوا الْوَرَثَةَ
الْحَرَامَ!
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مِنْ إيجَابِهِمْ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا عَلَى
الْعَامِدِ لِتَرْكِهَا, وَإِسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ وَوَقْتُهَا قَائِمٌ عَنِ
الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا.
ثُمَّ تَقْسِيمُ مَالِكٍ بَيْنَ الْمَوَاشِي وَغَيْرِ الْمَوَاشِي, وَبَيْنَ
زَكَاةِ عَامِهِ ذَلِكَ وَسَائِرِ الأَُعْوَامِ, فَرَأَى زَكَاةَ عَامِهِ مِنْ
رَأْسِ الْمَالِ, وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلْوَرَثَةِ شَيْءٌ يَعِيشُونَ مِنْهُ,
وَلَمْ يَرَ زَكَاةَ سَائِرِ الأَُعْوَامِ إلَّا سَاقِطَةً!
ثُمَّ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ زَكَاةِ النَّاضِّ يُوصِي بِهَا فَتَكُونُ فِي الثُّلُثِ
وَتُبَدَّى عَلَى الْوَصَايَا إلَّا عَلَى التَّدْبِيرِ فِي الصِّحَّةِ وَتُبَدَّى
عَلَى التَّدْبِيرِ فِي الْمَرَضِ-: وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ يُوصِي بِهَا
(6/89)
فَتَكُونُ
فِي الثُّلُثِ وَلَا تُبَدَّى الْوَصَايَا, وَهَذِهِ أَشْيَاءُ غَلِطَ فِيهَا مَنْ
غَلِطَ وَقَصَدَ الْخَيْرَ, وَإِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ
لِتَقْلِيدِ قَائِلِهَا. ثُمَّ اسْتَعْمَلَ نَفْسَهُ فِي إبْطَالِ السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ نَصْرًا لَهَا!!
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَيْنَ صِحَّةِ قَوْلِنَا وَبُطْلَانِ قَوْلِ
الْمُخَالِفِينَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَوَارِيثِ {مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ عَزَّ وَجَلَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا,
وَالزَّكَاةُ دَيْنٌ قَائِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَسَاكِينِ, وَالْفُقَرَاءِ
وَالْغَارِمِينَ وَسَائِرِ مَنْ فَرَضَهَا تَعَالَى لَهُمْ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الأَُشَجُّ. قَالَ
الْوَكِيعِيُّ:، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ; وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَُحْمَرُ ثُمَّ اتَّفَقَ زَائِدَةُ, وَأَبُو خَالِدٍ
الأَُحْمَرُ كِلَاهُمَا عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ الْبُطَيْنِ وَالْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ, وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ, قَالَ مُسْلِمُ الْبُطَيْنُ: عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ الْحَكَمُ, وَسَلَمَةُ: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا ثُمَّ
اتَّفَقَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَمُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ
رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ
وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا ؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ
عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ عَنْهَا" ؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالَ:
"فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى". قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فِي
رِوَايَتِهِ عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ الْبُطَيْنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ, وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ
وَعَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَذَكَرَ زَائِدَةُ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ
الأَُعْمَشَ سَمِعَهُ مِنْ الْحَكَمِ, وَسَلَمَةَ وَمُسْلِمٍ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ
أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ
جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ,
وَفِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: "فَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ
أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ".
فَهَؤُلَاءِ: عَطَاءٌ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ, وَمُجَاهِدٌ يَرْوُونَهُ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ, فَقَالَ: هَؤُلَاءِ بِآرَائِهِمْ, بَلْ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى
سَاقِطٌ وَدَيْنُ النَّاسِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَالنَّاسُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَيَسْأَلُونَ عَنِ الزَّكَاةِ أَفِي الذِّمَّةِ هِيَ أَمْ
فِي عَيْنِ الْمَالِ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ.
فَإِنْ قَالُوا: فِي عَيْنِ الْمَالِ, فَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ
شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ, فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ حَقُّهُمْ
وَتَبْقَى دَيْنُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ وَإِنْ قَالُوا: فِي الذِّمَّةِ
فَمِنْ أَيْنَ أَسْقَطُوهَا بِمَوْتِهِ ؟ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ إقْرَارَ
الصَّحِيحِ لَازِمٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَمِنْ
(6/90)
أَيْنَ
وَقَعَ لَهُمْ إبْطَالُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ؟
فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ, كَذَبُوا وَتَنَاقَضُوا لِأَنَّ الإِقْرَارَ
إنْ كَانَ وَصِيَّةً فَهُوَ مِنْ الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي الثُّلُثِ, وَإِلَّا
فَهَاتُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمَرِيضِ, وَالصَّحِيحِ!
وَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّنَا نَتَّهِمُهُ. قُلْنَا: فَهَلَّا اتَّهَمْتُمْ
الصَّحِيحَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتُّهْمَةِ ؟ لَا سِيَّمَا الْمَالِكِيِّينَ
الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ قَوْلَ الْمَرِيضِ فِي دَعْوَاهُ: إنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ,
وَيُبْطِلُونَ إقْرَارَهُ فِي مَالِهِ, وَهَذِهِ أُمُورٌ كَمَا تَرَى وَنَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ: أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ
مَالِهِ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا تُؤْخَذُ وَعَلَيْهِ مَا
تَحَمَّلَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ:، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ عَنِ الْحَسَنِ, وطَاوُوس أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَجَّةِ
الإِسْلَامِ, وَالزَّكَاةِ: هُمَا بِمَنْزِلَةِ الدَّيْن.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَتَحَاصُّ مَعَ
دُيُونِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذَا خَطَأٌ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ
الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا وَالْقِيَاسَ, وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ صَاحِبٍ
نَعْلَمُهُ.
(6/91)
688
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إذَا أَخْرَجَهَا الْمُسْلِمُ،
عَنْ نَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ بِأَمْرِهِ إلاَّ بِنِيَّةِ أَنَّهَا الزَّكَاةُ
الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ,
فَإِنْ أَخَذَهَا الإِمَامُ, أَوْ سَاعِيهِ, أَوْ أَمِيرُهُ, أَوْ سَاعِيهِ
فَبِنِيَّةِ كَذَلِكَ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
فَلَوْ أَنَّ امْرَءاً أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالٍ لَهُ غَائِبٍ فَقَالَ: هَذِهِ
زَكَاةُ مَالِي إنْ كَانَ سَالِمًا, وَإِلاَّ فَهِيَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ: لَمْ
يُجْزِهِ ذَلِكَ، عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ إنْ كَانَ سَالِمًا, وَلَمْ يَكُنْ
تَطَوُّعًا لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلزَّكَاةِ مَحْضَةٍ كَمَا
أُمِرَ, وَإِنَّمَا يُجْزِئُهُ إنْ أَخْرَجَهَا عَلَى أَنَّهَا زَكَاةُ مَالِهِ
فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ الْمَالُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ, لاَِنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا
أُمِرَ مُخْلِصًا لَهَا, وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَدْ تَلِفَ, فَإِنْ قَامَتْ لَهُ
بَيِّنَةٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَعْطَى, وَإِنْ فَاتَتْ أَدَّى الإِمَامُ
إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ, لأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا وَلَيْسَ لَهُمْ
أَخْذُهَا, فَهُمْ غَارِمُونَ بِذَلِكَ, وَهَذَا كَمَنْ شَكَّ: عَلَيْهِ
(6/91)
يَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لاَ وَهَلْ عَلَيْهِ صَلاَةُ فَرْضٍ أَمْ لاَ فَصَلَّى عَدَدَ رَكَعَاتِ تِلْكَ الصَّلاَةِ وَقَالَ: إنْ كُنْتَ أُنْسِيتُهَا فَهِيَ هَذِهِ, وَإِلاَّ فَهِيَ تَطَوُّعٌ; وَصَامَ يَوْمًا فَقَالَ: إنْ كَانَ عَلَيَّ يَوْمٌ فَهُوَ هَذَا; وَإِلاَّ فَهُوَ تَطَوُّعٌ; فَإِنَّ هَذَا لاَ يُخْرِجُهُ، عَنْ تِلْكَ الصَّلاَةِ، وَلاَ عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إنْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلَيْهِ.
(6/92)
من
خرج المال عن ملكه في داخل الحول قبل تمامه ثم رجع إليه فإنه يستأنف به الحول من
حين رجوعه لا من حين الحول الأول
...
689 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ خَرَجَ الْمَالُ، عَنْ مِلْكِهِ فِي دَاخِلِ الْحَوْلِ
قَبْلَ تَمَامِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ
بِأَيِّ وَجْهٍ رَجَعَ إلَيْهِ, وَلَوْ إثْرَ خُرُوجِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ أَوْ
أَكْثَرَ: فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِهِ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ رُجُوعِهِ,
لاَ مِنْ حِينِ الْحَوْلِ الأَوَّلِ, لإِنَّ ذَلِكَ الْحَوْلَ قَدْ بَطَلَ
بِبُطْلاَنِ الْمِلْكِ, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُعَدَّ عَلَيْهِ وَقْتٌ كَانَ
فِيهِ الْمَالُ لِغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ إبِلاً بِإِبِلٍ, أَوْ بَقَرًا بِبَقَرٍ, أَوْ غَنَمًا
بِغَنَمٍ, أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ, أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ: فَإِنَّ حَوْلَ الَّذِي
خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ, مِنْ ذَلِكَ قَدْ بَطَلَ, وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ الَّذِي
صَارَ فِي مِلْكِهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ لِغَيْرِ
فِرَارٍ, فَهُوَ عَاصٍ بِنِيَّتِهِ السُّوءَ فِي فِرَارِهِ مِنْ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ
فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ, ثُمَّ نَاقَضَ مَنْ قَرَّبَ فَقَالَ: مَنْ اشْتَرَى
بِدَرَاهِمِهِ أَوْ بِدَنَانِيرِهِ عَقَارًا أَوْ مَتَاعًا فِرَارًا مِنْ
الزَّكَاةِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا اشْتَرَى.
قال أبو محمد: وَمِنْ الْمُحَالِ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
أَنْ يُزَكِّيَ الإِنْسَانُ مَالاً هُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَحُلْ
حَوْلُهُ عِنْدَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةً وِزْرَ أُخْرَى}.
وقولنا في هذا كُلِّهِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ.
وقال مالك: إنْ بَادَلَ إبِلاً بِبَقَرٍ أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بَقَرًا بِغَنَمٍ
فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ لِغيْرِ فِرَارٍ,
وَإِنْ بَادَلَ إبِلاً بِإِبِلٍ, أَوْ بَقَرًا بِبَقَرٍ, أَوْ غَنَمًا بِغَنَمٍ,
أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ, أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ: فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ
انْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي خَرَجَ، عَنْ يَدِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ, وَدَعْوَى لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا,
لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ
(6/92)
صَحِيحَةٍ،
وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ,
وَلاَ رَأْيٍ يَصِحُّ وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِهَذَا: أَهَذِهِ الَّتِي صَارَتْ
إلَيْهِ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ عَنْهُ أَمْ هِيَ غَيْرُهَا فَإِنْ قَالَ: هِيَ
غَيْرُهَا قِيلَ: فَكَيْفَ يُزَكِّي، عَنْ مَالٍ لاَ يَمْلِكُهُ وَلَعَلَّهَا
أَمْوَاتٌ, أَوْ عِنْدَ كَافِرٍ.
وَإِنْ: قَالَ بَلْ هِيَ تِلْكَ, كَابِرُ الْعِيَانِ, وَصَارَ فِي مِسْلاَخِ مَنْ
يَسْتَسْهِلُ الْكَذِبَ جِهَارًا.
فَإِنْ قَالَ: لَيْسَتْ هِيَ, وَلَكِنَّهَا مِنْ نَوْعِهَا قلنا نَعَمْ, فَكَانَ
مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ زَكَاةُ غَيْرِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْحَوْلُ
فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ مِنْ نَوْعِهِ.
ثُمَّ يُسْأَلُونَ إنْ كَانَتْ الأَعْدَادُ مُخْتَلِفَةً: أَيُّ الْعَدَدَيْنِ
يُزَكِّي الْعَدَدَ الَّذِي خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ أَمْ الْعَدَدُ الَّذِي
اكْتَسَبَ وَلَعَلَّ أَحَدُهُمَا لَيْسَ نِصَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَيُّ شَيْءٍ قَالُوا فِي ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا وَبَاطِلاً بِلاَ بُرْهَانٍ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَالِكًا لِمِائَةِ شَاةٍ أَوْ لِعَشْرٍ مِنْ
الإِبِلِ أَوْ لِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَوْلاً كَامِلاً مُتَّصِلاً.
قلنا: إنَّمَا الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ، عَنْ مَالِ مِلْكِهِ
بِعَيْنِهِ حَوْلاً كَامِلاً مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِلاَ خِلاَفٍ;
فَعَلَيْكُمْ الْبُرْهَانُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، عَنْ عَدَدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ
لَكِنْ فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ, وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ,
إلاَّ بِالدَّعْوَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
زَكَاة الْمَغْصُوبِ
(6/93)
من
تلف ماله أو غصبه غاصب أو حيل بينه و بينه فلا زكاة عليه فيه
...
690 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَلِفَ مَالُهُ أَوْ غُصِبَهُ أَوْ حِيلَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ
أَيُّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ, فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ يَوْمًا مَا
اسْتَأْنَفَ بِهِ حَوْلاً مِنْ حِينَئِذٍ, وَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا خَلاَ;
فَلَوْ زَكَّاهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَهُ كُلَّهُ, وَضَمِنَ مَا أَخْرَجَ مِنْهُ فِي
الزَّكَاةِ.
لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الآُمَّةِ كُلِّهَا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ إنْ
أَحَبَّ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ
الزَّكَاةُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ, وَلَمْ يُكَلَّفْ الزَّكَاةَ
مَنْ سِوَاهُ مَا لَمْ يَبِعْهُ هُوَ أَوْ يُخْرِجْهُ، عَنْ مِلْكِهِ
بِاخْتِيَارِهِ, فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُكَلَّفُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ عِنْدِ
نَفْسِهِ, فَسَقَطَ بِهَذَا الإِجْمَاعِ تَكْلِيفُهُ أَدَاءَ زَكَاةٍ مِنْ عِنْدِ
نَفْسِهِ; ثُمَّ لَمَّا صَحَّ ذَلِكَ, وَكَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ
الزَّكَاةِ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ, أَوْ الْمُتْلَفِ, أَوْ
الْمَمْنُوعِ مِنْهُ.
(6/93)
سَقَطَ
عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ, بِخِلاَفِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى
إحْضَارِهِ وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَدْفَنِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ, وَمَا سَقَطَ
بِبُرْهَانٍ لَمْ يَعُدْ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
وَقَدْ كَانَتْ الْكُفَّارُ يُغِيرُونَ عَلَى سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; فَمَا كَلَّفَ قَطُّ أَحَدًا زَكَاةَ مَا
أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالِهِ.
وَقَدْ يُسْرَقُ الْمَالُ وَيُغْصَبُ فَيُفَرَّقُ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ
مَكَانَهُ, فَكَانَ تَكْلِيفُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي
قَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى, إذْ يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَكَذَلِكَ تَغَلُّبُ الْكُفَّارِ عَلَى بَلَدِ نَخْلٍ فَمِنْ الْمُحَالِ
تَكْلِيفُ رَبِّهَا أَدَاءَ زَكَاةِ مَا أَخْرَجَتْ.
وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ
غَيْرِهِ, يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَإِعْطَاؤُهُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ
غَيْرِهِ تَعَدٍّ مِنْهُ, فَهُوَ ضَامِنٌ لَمَا تَعَدَّى فِيهِ قَالَ تَعَالَى:
{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ}.
وقال أبو حنيفة: بِمِثْلِ هَذَا كُلِّهِ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ
الْمَدْفُونُ بِتَلَفِ مَكَانِهِ فِي مَنْزِلِهِ أَدَّى زَكَاتَهُ; وَإِنْ كَانَ
خَارِجَ مَنْزِلِهِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ مَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ.
وقال مالك: لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ, فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهِ زَكَّاهُ لِسَنَةٍ
وَاحِدَةٍ فَقَطْ وَإِنْ غَابَ عَنْهُ سِنِينَ.
وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْخَطَأِ, وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً إلاَّ أَنَّهُمْ
قَلَّدُوا فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلٍ لَهُ رَجَعَ
إلَيْهِ, وَكَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهُ لِكُلِّ سَنَةٍ
خَلَتْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ هَاهُنَا, وَلَمْ يُقَلِّدُوهُ فِي
رُجُوعِهِ إلَى الْقَوْلِ بِالزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ; وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ
بِالْقَوْلِ الَّذِي قَلَّدُوهُ فِيهِ لاَِنَّهُ كَانَ يَرَى الزَّكَاةَ فِي
الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ حِينَ يُفَادُ فَخَالَفُوهُ هَاهُنَا وَهَذَا كُلُّهُ
تَخْلِيطٌ!
وَقَالَ سُفْيَانُ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَبُو سُلَيْمَانَ: عَلَيْهِ
الزَّكَاةُ لِكُلِّ سَنَةٍ خَلَتْ.
وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُثْمَانَ, وَابْنِ عُمَرَ: إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي
الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا لاَ يَرَيَانِ الزَّكَاةَ
فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم.
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ, وَاللَّيْثِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ
سُفْيَانَ,وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(6/94)
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، حدثنا أَبُو عُثْمَانَ عَامِلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَالٍ رَدَّهُ عَلَى رَجُلٍ كَانَ ظُلِمَهُ: أَنْ خُذْ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِمَا أَتَتْ عَلَيْهِ, ثُمَّ صَبَّحَنِي بَرِيدُ عُمَرَ: لاَ تَأْخُذْ مِنْهُ زَكَاةً, فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا أَوْ غَوْرًا.
(6/95)
من
رهن ماشية أو ذهبا أو فضة أو أرضا فزرعها أو نخلا فأثمرت و حال الحول على الماشية
و العين فالزكاة في كل ذلك
...
691 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَهَنَ مَاشِيَةً, أَوْ ذَهَبًا, أَوْ فِضَّةً, أَوْ
أَرْضًا فَزَرَعَهَا, أَوْ نَخْلاً فَأَثْمَرَتْ, وَحَال الْحَوْلُ عَلَى
الْمَاشِيَةِ, وَالْعَيْنِ: فَالزَّكَاةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ،
وَلاَ يُكَلَّفُ الرَّاهِنُ عِوَضًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ فِي زَكَاتِهِ,
أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ; فَلاَِنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِهِ, عَلَيْهِ فِيهِ
الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ; وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ عَنْهُ, وَلَمْ يَأْتِ
نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ بِتَكْلِيفِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ
بُدَّ.
وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَكْلِيفِهِ الْعِوَضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَا
أَخْرَجَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ وَعِدْوَانٍ, فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِرَدِّهِ وَإِنَّمَا
أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ مُفْتَرَضٍ إخْرَاجُهُ; فَتَكْلِيفُهُ حُكْمًا فِي مَالِهِ
بَاطِلٌ, وَلاَ يَجُوزُ إلاَّ بِنَصٍّ, أَوْ إجْمَاعٍ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ".
(6/95)
692
- مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إيصَالُهَا إلَى
السُّلْطَانِ
لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ مَالَهُ لِلْمُصَدَّقِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ
الْحَقَّ, ثُمَّ مُؤْنَةُ نَقْلِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الزَّكَاةِ وَهَذَا مَا لاَ
خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَكَذَلِكَ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ وَهُمْ السُّعَاةُ
فَيَقْبِضُونَ الْوَاجِبَ وَيَبْرَأُ أَصْحَابُ الأَمْوَالِ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقٌ فَعَلَى مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إيصَالُهَا إلَى
مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَلاَ مَزِيدَ; لإِنَّ تَكْلِيفَ
النَّقْلِ مُؤْنَةٌ وَغَرَامَةٌ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ,
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَلَّفَهُ ذَلِكَ
مَيْلاً أَوْ مَنْ كَلَّفَهُ إلَى خُرَاسَانَ أَوْ أَبْعَدَ.
(6/95)
693
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ،
وَلاَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ, وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا,
وَيَرُدُّ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَ قَبْلَ وَقْتِهِ; لاَِنَّهُ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ
حَقٍّ.
وَصَحَّ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ,
وَعَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالضَّحَّاكِ, وَالْحَكَمِ, وَالزُّهْرِيِّ.
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ لِثَلاَثِ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ: لاَ
أَدْرِي مَا هَذَا!!
وقال أبو حنيفة: وَأَصْحَابُهُ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا.
ثُمَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ تَخْلِيطٌ كَثِيرٌ.
مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالٍ عِنْدَهُ,
وَلاَ فِي زَرْعٍ قَدْ زَرَعَهُ, وَلاَ فِي نَخْلٍ قَدْ أَطْلَعَتْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ اطِّلاَعِ النَّخْلِ
وَقَبْلَ زَرْعِ الأَرْضِ, وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ ثَلاَثِ سِنِينَ أَجْزَأَهُ.
وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ
تَخَالِيطِ أَقْوَالِهِمْ فِي كِتَابِ "الأَعْرَابِ"و اللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، عَنْ مَالٍ عِنْدَهُ, لاَ، عَنْ
مَالٍ لَمْ يَكْتَسِبْهُ بَعْدُ وَقَالَ: إنْ اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ مِمَّا أَخَذَ
مِمَّا عَجَّلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَ صَاحِبَ الْمَالِ;
فَإِنْ اسْتَغْنَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْ، عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ.
وقال مالك: يُجْزِئُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ, لاَ
أَكْثَرَ, فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ
عَنْهُ فَكَمَا قلنا نَحْنُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا تَقَاسِيمُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّتِهَا مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ
يَصِحُّ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَقَوْلُ اللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ: كَقَوْلِنَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ تَعْجِيلَهَا بِحُجَجٍ.
مِنْهَا: الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي, فِي هَلْ
تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَمْ لاَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ
بَكْرًا فَقَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ جَمَلاً رَبَاعِيًا.
وَهَذَا لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ, لاَِنَّهُ اسْتِسْلاَفٌ
كَمَا تَرَى, لاَ اسْتِعْجَالَ صَدَقَةٍ; بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
تَعْجِيلَهَا لاَ يَجُوزُ, إذْ لَوْ جَازَ لَمَا احْتَاجَ عليه الصلاة والسلام
إلَى الاِسْتِقْرَاضِ; بَلْ كَانَ يَسْتَعْجِلُ زَكَاةً لِحَاجَتِهِ إلَى
الْبِكْرِ.
(6/96)
وَذَكَرُوا
مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حدثنا
إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُجِّيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: "أَنَّ
الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ
قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَأَذِنَ لَهُ".
قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
زَاذَانَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَكَمِ: "أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُمَرَ مُصَدِّقًا وَقَالَ لَهُ، عَنِ
الْعَبَّاسِ: إنَّا قَدْ اسْتَسْلَفْنَا زَكَاتَهُ لِعَامِ عَامِ الأَوَّلِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ
أَبُو خَالِدٍ قَالَ: "قَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَدْ أَدَّيْتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ, فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"صَدَقَ".
هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ.
وَقَالُوا: حُقُوقُ الأَمْوَالِ كُلُّهَا جَائِزٌ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ أَجَلِهَا,
قِيَاسًا عَلَى دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ وَحُقُوقِهِمْ, كَالنَّفَقَاتِ
وَغَيْرِهَا.
وَقَالُوا: إنَّمَا أُخِّرَتْ الزَّكَاةُ إلَى الْحَوْلِ فُسْحَةً عَلَى النَّاسِ
فَقَطْ.
وَهَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ.
وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ.
أَمَّا حَدِيثُ حُجِّيَّةَ: فَحُجِّيَّةُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالْعَدَالَةِ, وَلاَ
تَقُومُ الْحُجَّةُ إلاَّ بِرِوَايَةِ الْعُدُولِ الْمَعْرُوفِينَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ هُشَيْمٍ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
هُشَيْمٍ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَبَنَّدَ بِهِ
(6/97)
فَصَارَ
مُنْقَطِعًا, ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا لَفْظَ أَنَسٍ، وَلاَ كَيْفَ رَوَاهُ,
فَلَمْ يُجِزْ الْقَطْعَ بِهِ عَلَى الْجَهَالَةِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الأَخْبَارِ فَمُرْسَلَةٌ.
وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ الْمُرْسَلَ, وَهُمْ يَقُولُونَ
إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ: إنَّهُ كَالْمُسْنَدِ, وَرَدُّوا فِيهِ رِوَايَةَ
الْمَجْهُولِ, وَهُمْ يَأْخُذُونَ بِهَا إذَا وَافَقَتْهُمْ فَبَطَلَ كُلُّ مَا
مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ الزَّكَاةَ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ:
فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ
الْبَاطِلِ; لإِنَّ تَعْجِيلَ دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ قَدْ وَجَبَ
بَعْدُ, ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى تَأْجِيلِهَا وَالزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ,
فَقِيَاسُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مَا قَدْ وَجَبَ فِي الأَدَاءِ بَاطِلٌ.
وَأَيْضًا: فَتَعْجِيلُ دُيُونِ النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةِ لاَ يَجُوزُ إلاَّ
بِرِضًا مِنْ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ, وَلَيْسَتْ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ; لاَِنَّهَا
لَيْسَتْ لاِِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ, وَلاَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ دُونَ
غَيْرِهِمْ, فَيَجُوزُ الرِّضَا مِنْهُمْ بِالتَّعْجِيلِ, وَإِنَّمَا هِيَ
لاَِهْلِ صِفَاتٍ تَحْدُثُ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا, وَتَبْطُلُ
عَمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْقَابِضِينَ لَهَا الآنَ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ
تَعْجِيلَهَا لَوْ أَبْرَءُوا مِنْهَا دُونَ قَبْضٍ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ, وَلاَ
بَرِئَ مِنْهَا مِنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِإِبْرَائِهِمْ بِخِلاَفِ إبْرَاءِ
مَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهَا إلَى السَّاعِي, فَقَدْ يَأْتِي وَقْتُ الزَّكَاةِ
وَالسَّاعِي مَيِّتٌ أَوْ مَعْزُولٌ, وَاَلَّذِي بَعَثَهُ كَذَلِكَ, فَبَطَلَ
قِيَاسُهُمْ ذَلِكَ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ.
وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ, وَلَوْ أَنَّ امْرَأً
عَجَّلَ نَفَقَةً لاِمْرَأَتِهِ أَوْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ, ثُمَّ جَاءَ
الْوَقْتُ الْوَاجِبَةُ فِيهِ النَّفَقَةَ, وَاَلَّذِي تَجِبُ لَهُ مُضْطَرٌّ:
لَمْ يُجْزِئْهُ تَعْجِيلُ مَا عَجَّلَ, وَأُلْزِمَ الآنَ النَّفَقَةَ, وَأُمِرَ
بِاتِّبَاعِهِ بِمَا عَجَّلَ لَهُ دَيْنًا, لاِسْتِهْلاَكِهِ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ
بَعْدُ.
بَلْ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ قِيَاسُ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ
وَقْتِهَا عَلَى تَعْجِيلِ الصَّلاَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَالصَّوْمُ قَبْلَ
وَقْتِهِ أَصَحُّ, لاَِنَّهَا كُلَّهَا عِبَادَاتٌ مَحْدُودَةٌ بِأَوْقَاتٍ لاَ
يَجُوزُ تَعَدِّيهَا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ.
فَإِنْ ادَّعُوا إجْمَاعًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّلاَةِ
أَكْذَبَهُمْ الأَثَرُ الصَّحِيحُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ, وَهْبَكَ
لَوْ صَحَّ لَهُمْ الإِجْمَاعُ لَكَانَ هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ, لإِنَّ مِنْ
أَصْلِهِمْ أَنَّ
(6/98)
قِيَاسَ
مَا اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ قَبْلُ, ثُمَّ فُسِحَ لِلنَّاسِ
فِي تَأْخِيرِهَا: فَكَذِبٌ وَبَاطِلٌ وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا وَجَبَتْ
الزَّكَاةُ قَطُّ إلاَّ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ,
لِصِحَّةِ النَّصِّ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْمُصَدِّقِينَ عِنْدَ الْحَوْلِ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَمَا كَانَ عليه السلام
لَيُضَيِّعَ قَبْضَ حَقٍّ قَدْ وَجَبَ وَلاِِجْمَاعِ الآُمَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا
عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى وُجُوبِهَا قَبْلَهُ, وَلاَ تَجِبُ
الْفَرَائِضُ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَثَرٍ وَنَظَرٍ.
ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ: أَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَمْ لَمْ تَجِبْ
فَإِنْ قَالُوا: لَمْ تَجِبْ قلنا: فَكَيْفَ تُجِيزُونَ أَدَاءَ مَا لَمْ يَجِبْ
وَمَا لَمْ يَجِبْ فِعْلُهُ تَطَوُّعٌ, وَمَنْ تَطَوَّعَ فَلَمْ يُؤَدِّ
الْوَاجِبَ وَإِنْ قَالُوا: قَدْ وَجَبَتْ قلنا: فَالْوَاجِبُ إجْبَارُ مَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ عَلَى أَدَائِهِ, وَهَذَا بُرْهَانٌ لاَ مَحِيدَ عَنْهُ
أَصْلاً.
وَنَسْأَلُهُمْ: كَيْفَ الْحَالُ إنْ مَاتَ الَّذِي عَجَّلَ الصَّدَقَةَ قَبْلَ
الْحَوْلِ أَوْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَ الَّذِينَ أَعْطُوهَا
قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ خَرَجُوا، عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تُسْتَحَقُّ
الزَّكَوَاتُ فَصَحَّ أَنَّ تَعْجِيلَهَا بَاطِلٌ, وَإِعْطَاءٌ لِمَنْ لاَ
يَسْتَحِقُّهَا, وَمَنْعٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا, وَإِبْطَالُ الزَّكَاةِ
الْوَاجِبَةِ; وَكُلُّ هَذَا لاَ يَجُوزُ.
وَالْعَجَبُ مِنْ إجَازَةِ الْحَنَفِيِّينَ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ وَمَنْعُهُمْ
مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَكِلاَهُمَا مَالٌ مُعَجَّلٌ,
إلاَّ أَنَّ النَّصَّ قَدْ يَصِحُّ بِتَعْجِيلِ مَا مَنَعُوا تَعْجِيلَهُ, وَلَمْ
يَأْتِ بِتَعْجِيلِ مَا أَبَاحُوا تَعْجِيلَهُ, فَتَنَاقَضُوا فِي الْقِيَاسِ,
وَصَحَّحُوا الآثَارَ الْفَاسِدَةَ, وَأَبْطَلُوا الأَثَرَ الصَّحِيحَ!
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ مَعَ مَا تَنَاقَضُوا خَالَفُوا فِي هَذِهِ
الْجُمْهُورَ مِنْ الْعُلَمَاءِ, وَهُمَا يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ,
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّونَ فِيهِ الْقِيَاسَ, وَقَبِلُوا الْمُرْسَلَ الَّذِي
يَرُدُّونَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/99)
694
- مَسْأَلَةٌ:وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ مَاشِيَةٌ
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ
لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ لَمْ يَتْلَفْ وَأَتَمَّ
عِنْدَهُ حَوْلاً مِنْهُ مَا فِي مِقْدَارِهِ الزَّكَاةُ: زَكَّاهُ, وَإِلاَّ
فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ أَصْلاً, وَلَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ سِنِينَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يُزَكِّيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ
بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إذَا حَلَّتْ يَعْنِي
الزَّكَاةَ فَاحْسِبْ دَيْنَكَ وَمَا عِنْدَكَ وَاجْمَعْ ذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ
زَكِّهِ.
وَبِهِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ هُوَ جَدُّ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو
أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ: يَجِيءُ إبَّانَ صَدَقَتِي فَأُبَادِرُ
الصَّدَقَةَ فَأُنْفِقُ عَلَى أَهْلِي وَأَقْضِي, دَيْنِي قَالَ عُمَرُ: لاَ
تُبَادِرْ بِهَا, وَاحْسِبْ دَيْنَك وَمَا عَلَيْكَ, وَزَكِّ ذَلِكَ أَجْمَعَ
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الدَّيْنِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ
عَلَى الرَّجُلِ فَيَمْطُلُهُ قَالَ: زَكَاتُهُ عَلَى الَّذِي يَأْكُلُ
مَهْنَأَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ
نَحْوَهُ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِقَوْلِنَا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ، عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ
الدَّيْنُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْهُ: ابْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الثَّقَفِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالاَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ وُلِّيَ مَالَ يَتِيمٍ فَكَانَ
يَسْتَسْلِفُ مِنْهُ, يَرَى أَنَّ ذَلِكَ أُحْرِزَ لَهُ: وَيُؤَدِّي زَكَاتَهُ
مِنْ مَالِ الْيَتِيم.
فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لاَ يُزَكِّيهِ، عَنْ نَفْسِهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: إذَا كَانَ
لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَالزَّكَاةُ عَلَى الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ.
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: إذَا كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ; إنَّمَا زَكَاتُهُ
عَلَى الَّذِي هُوَ لَهُ.
(6/100)
وَعَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: زَكِّ مَا فِي يَدَيْكَ مِنْ مَالِكَ, وَمَا لَكَ عَلَى
الْمَلِيءِ، وَلاَ تُزَكِّ مَا لِلنَّاسِ عَلَيْكَ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ: وَمَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابِهِ,
وَوَكِيعٍ.
قال أبو محمد: إنَّمَا وَافَقْنَا قَوْلَ هَؤُلاَءِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، عَنِ
الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقَطْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ,
لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ:
خَالَفَنِي إبْرَاهِيمُ فِي الدَّيْنِ, كُنْتُ أَقُولُ: لاَ يُزَكِّي, ثُمَّ
رَجَعَ إلَى قَوْلِي.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ،
عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ
لَهُ، وَلاَ عَلَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ:
السَّلَفُ يُسْلِفُهُ الرَّجُلُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْمَالِ، وَلاَ
عَلَى الَّذِي اسْتَسْلَفَهُ زَكَاةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: لاَ يُزَكِّي الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ
الدِّينَ, وَلاَ يُزَكِّيهِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.
قال أبو محمد: إذَا خَرَجَ الدَّيْنُ، عَنْ مِلْكِ الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ فَهُوَ
مَعْدُومٌ عِنْدَهُ, وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ لاَ
شَيْءَ, وَعَمَّا لاَ يَمْلِكُ, وَعَنْ شَيْءٍ لَوْ سَرَقَهُ قُطِعَتْ يَدُهُ;
لاَِنَّهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
(6/101)
من
عليه دين و عنده مال تجب في مثله الزكاة
...
695 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ مَالٌ
تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ
سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ
أَقَلَّ مِنْهُ, مِنْ جِنْسِهِ كَانَ
أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ: فَإِنَّهُ يُزَكِّي مَا عِنْدَهُ, وَلاَ يَسْقُطُ مِنْ
أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ زَكَاةِ مَا بِيَدِهِ. وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
وقال مالك: يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي عِنْدَهُ الَّتِي لاَ
زَكَاةَ فِيهَا, وَيُزَكِّي مَا عِنْدَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عُرُوضٌ
جَعَلَ دَيْنَهُ فِيمَا بِيَدِهِ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ, وَأَسْقَطَ بِذَلِكَ
الزَّكَاةَ, فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ يَجِبُ فِي مِقْدَارِهِ
الزَّكَاةُ زَكَّاهُ وَإِلاَّ فَلاَ, وَإِنَّمَا هَذَا عِنْدَهُ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْمَوَاشِي وَالزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلاَ;
وَلَكِنْ يُزَكِّي كُلَّ ذَلِكَ, سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلَ مَا مَعَهُ
مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْقِطُ الدَّيْنُ زَكَاةَ الْعَيْنِ وَالْمَوَاشِي, وَلاَ
يُسْقِطُ زَكَاةَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ, وَمُحَمَّدٌ: يُجْعَلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فِي
مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ,
وَالْمَوَاشِي, وَالْحَرْثُ, وَالثِّمَارُ, وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ, وَيَسْقُطُ
بِهِ زَكَاةُ كُلِّ ذَلِكَ. وَلاَ يُجْعَلُ دَيْنُهُ فِي عُرُوضِ الْقِنْيَةِ مَا
دَامَ عِنْدَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ, أَوْ مَا دَامَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ
لِلتِّجَارَةِ; وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ زُفَرُ: لاَ يُجْعَلُ دَيْنُ الزَّرْعِ إلاَّ فِي الزَّرْعِ, وَلاَ
يُجْعَلُ دَيْنُ الْمَاشِيَةِ إلاَّ فِي الْمَاشِيَةِ, وَلاَ يُجْعَلُ دَيْنُ
الْعَيْنِ إلاَّ فِي الْعَيْنِ, فَيَسْقُطُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَهُ مِمَّا عَلَيْهِ
دَيْنُ مِثْلِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: حَرْثٌ لِرَجُلٍ دَيْنُهُ
أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ, أَيُؤَدِّي حَقَّهُ قَالَ: مَا نَرَى عَلَى رَجُلٍ
دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةً, لاَ فِي مَاشِيَةٍ، وَلاَ فِي أَصْلٍ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ أَبَا الزُّبَيْرِ, سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ
لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
قال أبو محمد: إسْقَاطُ الدَّيْنِ زَكَاةُ مَا بِيَدِ الْمَدِينِ لَمْ يَأْتِ بِهِ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ; بَلْ قَدْ
جَاءَتْ السُّنَنُ الصِّحَاحُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَوَاشِي, وَالْحَبِّ,
وَالتَّمْرِ, وَالذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, بِغَيْرِ تَخْصِيصِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ
مِمَّنْ لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ مَا بِيَدِهِ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ
وَيَبْتَاعَ مِنْهُ جَارِيَةً يَطَؤُهَا وَيَأْكُلَ مِنْهُ وَيُنْفِقَ مِنْهُ;
وَلَوْ لَمْ يَكْفِي لَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ
هَذَا; فَإِذَا هُوَ لَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ، عَنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ مَا عَلَيْهِ
مِنْ الدَّيْنِ فَزَكَاةُ مَالِهِ عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ: فَفِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ, وَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَالْمَالِكِيُّونَ: يُنْكِرُونَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي
إيجَابِهِ لِلزَّكَاةِ فِي زَرْعِ الْيَتِيمِ وَثِمَارِهِ دُونَ مَاشِيَتِهِ
وَذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَبْضَ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالزَّرْعِ إلَى
الْمُصَدِّقِ.
قِيلَ: فَكَانَ مَاذَا وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَبْضُ زَكَاةِ الْعَيْنِ إلَى
السُّلْطَانِ إذَا طَلَبَهَا، وَلاَ فَرْقَ.
(6/102)
من
كان له على غيره دين لا زكاة فيه على صاحبه
...
696 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ دَيْنٌ فَسَوَاءٌ كَانَ
حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً عِنْدَ مَلِيءٍ مُقِرٍّ يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ أَوْ مُنْكِرٍ,
أَوْ عِنْدَ عَدِيمٍ مُقِرٍّ أَوْ مُنْكِرٍ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَلاَ زَكَاةَ
فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ,
وَلَوْ أَقَامَ عَنْهُ سِنِينَ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ
حَوْلاً كَسَائِرِ الْفَوَائِدِ، وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ مَا لاَ
تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ, لاَ حِينَئِذٍ، وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ
الْمَاشِيَةُ, وَالذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا النَّخْلُ, وَالزَّرْعُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ لَمْ
يُخْرِجْ مِنْ زَرْعِهِ، وَلاَ مِنْ ثِمَارِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُزَكِّيهِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ، عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ
عَلَى آخَرَ فَقَالَ: يُزَكِّيهِ صَاحِبُ الْمَالِ, فَإِنْ خَشِيَ أَنْ لاَ
يَقْضِيَهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ, فَإِذَا خَرَجَ الدَّيْنُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا هِشَامُ،
هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ
السَّلْمَانِيِّ: سُئِلَ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّيْنِ الظَّنُونِ: أَيُزَكِّيهِ قَالَ:
إنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُزَكِّهِ لِمَا مَضَى وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ,
وَالظَّنُونُ: هُوَ الَّذِي لاَ يُرْجَى.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس: إذَا كَانَتْ لَك دَيْنٌ فَزَكِّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: يُزَكِّيهِ
يَعْنِي: مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ احْسَبْ دَيْنَكَ
وَمَا عَلَيْكَ وَزَكِّ ذَلِكَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:
إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مَلِيءٍ فَعَلَى صَاحِبِهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ, فَإِنْ
كَانَ عَلَى مُعْدِمٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ; فَيَكُونُ عَلَيْهِ
زَكَاةُ السِّنِينَ الَّتِي مَضَتْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا كَانَ لَكَ الدَّيْنُ فَعَلَيْكَ زَكَاتُهُ; وَإِذَا كَانَ
عَلَيْكَ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْكَ فِيهِ.
(6/103)
وَهُوَ
قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ, فَإِذَا قَبَضَهُ أَوْ
قَبَضَ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ,
وَإِنْ بَقِيَ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ زَكَّاهُ; وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ
ثِقَةٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: زَكُّوا
أَمْوَالَكُمْ مِنْ حَوْلٍ إلَى حَوْلٍ, فَمَا كَانَ فِي دَيْنٍ فِي ثِقَةٍ
فَاجْعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ مَا كَانَ فِي أَيْدِيكُمْ, وَمَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ
ظَنُونٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ صَاحِبُهُ.
وَعَنْ طَاوُوس مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ: إذَا كَانَ لَك دَيْنٌ تَعْلَمُ أَنَّهُ
يَخْرُجُ فَزَكِّهِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ: زَكِّ مَا فِي يَدَيْكَ وَمَالَكَ
عَلَى الْمَلِيءِ, وَلاَ تُزَكِّ مَا لِلنَّاسِ عَلَيْكَ. ثُمَّ رَجَعَ، عَنْ
هَذَا.
وَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ: مَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ فِي مَلِيءٍ تَرْجُوهُ
فَاحْسُبْهُ, ثُمَّ أَخْرِجْ مَا عَلَيْك وَزَكِّ مَا بَقِيَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ فَزَكِّهِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ
حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَقَدْ رُوِّينَا قَبْلُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
مِثْلَهُ, وَعَنْ عَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَيْسَ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ
جَعَلَ زَكَاةَ الدَّيْنِ عَلَى الَّذِي هُوَ لَهُ, وَعَلَى الَّذِي هُوَ
عَلَيْهِ. فَأَوْجَبَ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ, فَحَصَلَ
فِي الْعَيْنِ نِصْفُ الْعُشْرِ, وَفِي خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ شَاتَانِ, وَكَذَلِكَ
مَا زَادَ.
وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ إلاَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُ ذَلِكَ وَمِثْلُ قَوْلِنَا.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَسَّمَ ذَلِكَ تَقَاسِيمَ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ, وَهِيَ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ لَيْسَ، عَنْ بَدَلٍ, أَوْ كَانَ،
عَنْ بَدَلِ مَا لاَ يَمْلِكُ, كَالْمِيرَاثِ, وَالْمَهْرِ, وَالْجُعْلِ, وَدِيَةِ
الْخَطَأِ, وَالْعَمْدِ إذَا صَالَحَ عَلَيْهَا, وَالْخُلْعِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ
عَلَى مَالِكِهِ أَصْلاً حَتَّى يَقْبِضَهُ, فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ بِهِ
حَوْلاً, وَجَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ يَكُونُ، عَنْ بَدَلٍ لَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ
لَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ
(6/104)
كَقَرْضِ
الدَّرَاهِمِ وَفِيمَا وَجَبَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ وَالْمُتَعَدِّي, وَثَمَنِ
عَبْدِ التِّجَارَةِ: فَإِنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِ
ثِقَةٍ حَتَّى يَقْبِضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَبَضَهَا زَكَّاهَا
لِعَامٍ خَالٍ, ثُمَّ يُزَكِّي كُلَّ أَرْبَعِينَ يَقْبِضُ, وَجَعَلَ كُلَّ دَيْنٍ
يَكُونُ، عَنْ بَدَلٍ لَوْ بَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ
كَالْعُرُوضِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ يَبِيعُهَا: قِسْمًا آخَرَ, فَاضْطَرَبَ فِيهِ
قَوْلُهُ, فَمَرَّةً جَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْمِيرَاثِ,
وَالْمَهْرِ, وَمَرَّةً قَالَ: لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ, فَإِذَا قَبَضَهَا زَكَّاهَا لِعَامٍ خَالٍ, وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ مَا كَانَ
عِنْدَ عَدِيمٍ أَوْ مَلِيءٍ إذَا كَانَا مُقِرَّيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَخْلِيطٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ.
قال أبو محمد: إنَّمَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ غَرِيمِهِ عَدَدٌ فِي
الذِّمَّةِ وَصِفَةٌ فَقَطْ, وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ عَيْنُ مَالٍ أَصْلاً,
وَلَعَلَّ الْفِضَّةَ أَوْ الذَّهَبَ اللَّذَيْنِ لَهُ عِنْدَهُ فِي الْمَعْدِنِ
بَعْدُ, وَالْفِضَّةُ تُرَابٌ بَعْدُ, وَلَعَلَّ الْمَوَاشِيَ الَّتِي لَهُ
عَلَيْهِ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ, فَكَيْفَ تَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ
فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْسِيمَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ: لاَ
يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا, لإِنَّ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إنَّمَا هِيَ فِي الْغَصْبِ لاَ فِي الدَّيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/105)
المهر
و الخلع و الديات بمنزلة ما قلنا ما لم يتعين المهر
...
697 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُهُورُ وَالْخُلْعُ, وَالدِّيَاتُ, فَبِمَنْزِلَةِ
مَا قلنا; مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمَهْرُ;
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ, فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ فِضَّةً مُعَيَّنَةً
دَرَاهِمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ ذَهَبًا بِعَيْنِهِ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ أَوْ مَاشِيَةً بِعَيْنِهَا, أَوْ نَخْلاً بِعَيْنِهَا, أَوْ كَانَ كُلُّ
ذَلِكَ مِيرَاثًا: فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ;
لاَِنَّهَا أَمْوَالٌ صَحِيحَةٌ ظَاهِرَةٌ مَوْجُودَةٌ, فَالزَّكَاةُ فِيهَا,
وَلاَ مَعْنَى لِلْقَبْضِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ صَاحِبَهُ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ, فَإِنْ مَنَعَ صَارَ مَغْصُوبًا وَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ كَمَا قَدَّمْنَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/105)
من
كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه بدينه قبله و نوى بذلك أنه من زكاته
أجزأه
...
698 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ
وَكَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ بُرًّا, أَوْ شَعِيرًا, أَوْ ذَهَبًا, أَوْ فِضَّةً,
أَوْ مَاشِيَةً فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ قِبَلَهُ, وَنَوَى بِذَلِكَ
أَنَّهُ مِنْ زَكَاتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ,
وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ
وَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ عِنْدَهُ وَنَوَى بِذَلِكَ الزَّكَاةَ
فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ, وَبِأَنْ
يَتَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ زَكَاتِهِ الْوَاجِبَةِ بِمَا
عَلَيْهِ مِنْهَا, فَإِذَا كَانَ إبْرَاؤُهُ مِنْ الدَّيْنِ يُسَمَّى صَدَقَةً
فَقَدْ أَجْزَأَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ ابْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيِّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ،
حدثنا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ، عَنْ
عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أصِيبَ
رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا
فَكَثُرَ دَيْنُهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "تَصَدَّقُوا
عَلَيْهِ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَ هُوَ قَوْلُ عَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ
وَغَيْرِهِ.
(6/106)
من
أعطى زكاة ماله من وجبت له من أهلها ...الخ
...
699 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ مَنْ وَجَبَتْ لَهُ مِنْ
أَهْلِهَا, أَوْ دَفَعَهَا إلَى الْمُصَدِّقِ الْمَأْمُورِ بِقَبْضِهَا فَبَاعَهَا
مَنْ قَبَضَ حَقَّهُ فِيهَا أَوْ مَنْ لَهُ قَبْضُهَا نَظَرًا لاَِنَّهَا
لاَِهْلِهَا:
فَجَائِزٌ لِلَّذِي أَعْطَاهَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَتْ إلَيْهِ
بِهِبَةٍ, أَوْ هَدِيَّةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, أَوْ صَدَاقٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ
سَائِرِ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ, وَلاَ يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
أَلْبَتَّةَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا; لاَِنَّهُ ابْتَاعَ شَيْئًا غَيْرَ
مُعَيَّنٍ; وَهَذَا لاَ يَجُوزُ; لاَِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا الَّذِي ابْتَاعَ,
وَلَمْ يُعْطِ الزَّكَاةَ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ
يُؤَدِّيَهَا إلَى أَهْلِهَا, وَبِهَذَا نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ
غَيْرَ مَا لَزِمَهُ الْقِيمَةُ, وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى
أَهْلِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَهُوَ
قَدْ أَدَّى صَدَقَةَ مَالِهِ كَمَا أُمِرَ, وَبَاعَهَا الآخِذُ كَمَا أُبِيحَ
لَهُ.
وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ; وَكَرِهَهُ مَالِكٌ; وَأَجَازَهُ اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ.
وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ
يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ
عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ, وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَشْتَرِهِ, وَلاَ
تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي
صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ الأَحْوَلِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ "أَنَّ
الزُّبَيْرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, فَوَجَدَ فَرَسًا
مِنْ ضِئْضِئِهَا يَعْنِي مِنْ نَسْلِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ,
فَنُهِيَ" وَنَحْوَ هَذَا أَيْضًا، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ, وَلاَ
يَصِحُّ.
قال أبو محمد وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ فَرَسَ عُمَرَ كَانَ
بِنَصِّ الْحَدِيثِ حَمَلَ
(6/106)
عَلَيْهِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَصَارَ حَبْسًا فِي هَذَا الْوَجْهِ, فَبَيْعُهُ إخْرَاجٌ
لَهُ عَمَّا سُبِّلَ فِيهِ, وَلاَ يَحِلُّ هَذَا أَصْلاً; فَابْتِيَاعُهُ حَرَامٌ
عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَبَرَيْنِ الآخَرَيْنِ, لَوْ صَحَّا, لاَ سِيَّمَا,
وَفِي حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ نَهَى نِتَاجَهَا, وَهَذِهِ
صِفَةُ الْحَبْسِ.
وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهُ وَكَانَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً يَمْلِكُهَا
الْمُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ وَيَبِيعُهَا إنْ شَاءَ فَلَيْسَ ابْتِيَاعُ
الْمُتَصَدِّقِ بِهَا عَوْدًا فِي صَدَقَتِهِ, لاَ فِي اللُّغَةِ, وَلاَ فِي
الدِّيَانَةِ; لإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ انْتِزَاعُهَا وَرَدُّهَا
إلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَإِبْطَالُ صَدَقَتِهِ بِهَا فَقَطْ,
وَالْحَاضِرُونَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ يُجِيزُونَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُتَصَدِّقُ
بِهَا بِالْمِيرَاثِ, وَقَدْ عَادَتْ إلَى مِلْكِهِ كَمَا عَادَتْ بِالشِّرَاءِ،
وَلاَ فَرْقَ; فَصَحَّ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا فَقَطْ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
آدَم، حدثنا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ
الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: ُأتِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ, فَقُلْتُ: هَذَا مِمَّا تَصَدَّقَ
بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا
هَدِيَّةٌ".
حدثنا حمام، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حدثنا
الْحُمَيْدِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ، حدثنا الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ
اللَّهِ السَّبَّاقَ أَنَّهُ سَمِعَ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ:
دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "هَلْ مِنْ
طَعَامٍ" فَقُلْتُ: لاَ, إلاَّ عَظْمًا أُعْطِيَتْهُ مَوْلاَةٌ لَنَا مِنْ
الصَّدَقَةِ فَقَالَ: "قَرِّبِيهِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا".
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ
اسْتَبَاحَهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا مَحِلَّهَا, إذْ رَجَعَتْ إلَيْهِ
بِالْهَدِيَّةِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا أَبُو دَاوُد،
حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَحِلُّ
الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, أَوْ
لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ لِغَارِمٍ, أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ, أَوْ
لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ, فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا
الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".
(6/107)
فَهَذَا
نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَوَازِ ابْتِيَاعِ الصَّدَقَةِ,
وَلَمْ يَخُصَّ الْمُتَصَدِّقَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ تَشْتَرِ الصَّدَقَةَ حَتَّى
تَعْقِلَ: يَعْنِي حَتَّى تُؤَدِّيَهَا: وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي الصَّدَقَةِ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتهَا أَوْ رُدَّتْ عَلَيْك, أَوْ
وَرِثْتهَا حَلَّتْ لَك.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَلاَ
يَبْتَاعَهَا حَتَّى تَصِيرَ إلَى غَيْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا عُمَرُ يُجِيزُ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالصَّدَقَةِ
ابْتِيَاعَهَا إذَا انْتَقَلَتْ، عَنِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ إلَى
غَيْرِهِ; ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ.
وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَمَكْحُولٍ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو
حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ,
وَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ, وَأَجَازَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ فَرَجَعَ
إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ تَصَدَّقَ بِهِ, وَيُفْتِي بِذَلِكَ.
فَخَرَجَ قَوْلُ مَالِكٍ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله
تعالى عنهم مُوَافِقٌ.
(6/108)
لا
شيء في المعادن كلها لا خمس و لا زكاة معجلة إلا إذا كان ذهبا أو فضة
...
700 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَلاَ شَيْءَ فِي الْمَعَادِنِ, وَهِيَ
فَائِدَةٌ, لاَ خُمْسَ فِيهَا، وَلاَ زَكَاةً مُعَجَّلَةً,
فَإِنْ بَقِيَ الذَّهَبُ, وَالْفِضَّةُ عِنْدَ مُسْتَخْرِجِهَا حَوْلاً
قَمَرِيًّا, وَكَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ: زَكَّاهُ,
وَإِلاَّ فَلاَ.
وقال أبو حنيفة: عَلَيْهِ فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ, وَالنُّحَاسِ,
وَالرَّصَاصِ, وَالْقَزْدِيرِ, وَالْحَدِيدِ: الْخُمْسُ, سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِ
عُشْرٍ أَوْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ, سَوَاءٌ أَصَابَهُ مُسْلِمٌ, أَوْ كَافِرٌ,
عَبْدٌ, أَوْ حُرٌّ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ فِي دَارِهِ فَلاَ خُمْسَ فِيهِ, وَلاَ
زَكَاةَ, وَلاَ شَيْءَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَعَادِنِ وَاخْتَلَفَ
قَوْلُهُ فِي الزِّئْبَقِ, فَمَرَّةً رَأَى فِيهِ الْخُمْسَ, وَمَرَّةً لَمْ يَرَ
فِيهِ شَيْئًا.
وقال مالك: فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ: الزَّكَاةُ مُعَجَّلَةٌ فِي
الْوَقْتِ إنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ شَيْءَ فِي غَيْرِهَا,
وَلاَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ دَيْنٌ يَكُونُ عَلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ الَّذِي
أَصَابَ فِي مَعْدِنِ الذَّهَبِ, أَوْ الْفِضَّةِ نُدْرَةً بِغَيْرِ كَبِيرِ
عَمَلٍ فَفِي ذَلِكَ الْخُمْسُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى فِيهِ الْخُمْسَ بِالْحَدِيثِ الثَّابِتِ:
"وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ"
(6/108)
وَذَكَرُوا
حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنِ الرِّكَازِ. فَقَالَ: "هُوَ الذَّهَبُ الَّذِي
خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ".
قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ
مُتَّفَقٌ عَلَى إطْرَاحِ رِوَايَتِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فِي الذَّهَبِ
خَاصَّةً.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا سَائِرَ الْمَعَادِنِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الذَّهَبِ.
قلنا لَهُمْ: فَقِيسُوا عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَادِنَ الْكِبْرِيتِ, وَالْكُحْلِ,
وَالزِّرْنِيخِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ حِجَارَةٌ.
قلنا: فَكَانَ مَاذَا وَمَعْدِنُ الْفِضَّةِ, وَالنُّحَاسِ أَيْضًا حِجَارَةٌ،
وَلاَ فَرْقَ.
وَأَمَّا الرِّكَازُ فَهُوَ دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ; لاَ الْمَعَادِنُ, لاَ
خِلاَفَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ احْتِجَاجُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"فِي اللُّقَطَةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الْخَرَابِ وَالأَرْضِ الْمِيْتَاءِ
فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ" وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, وَهَذَا
كَمَا تَرَى!!
وَلَوْ كَانَ الْمَعْدِنُ رِكَازًا لَكَانَ الْخُمْسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ
الْمَعَادِنِ, كَمَا أَنَّ الْخُمْسَ فِي كُلِّ دَفْنٍ لِلْجَاهِلِيَّةِ, أَيُّ
شَيْءٍ كَانَ; فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَتَنَاقُضُهُمْ.
لاَ سِيَّمَا فِي إسْقَاطِهِمْ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِالْخَرَاجِ, وَلَمْ
يُسْقِطُوا الْخُمْسَ فِي الْمَعَادِنِ بِالْخَرَاجِ وَأَوْجَبُوا فِيهَا خُمْسًا
فِي أَرْضِ الْعُشْرِ, وَعَلَى الْكَافِرِ, وَالْعَبْدِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ
الْمَعْدِنِ فِي الدَّارِ وَبَيْنَهُ خَارِجَ الدَّارِ, وَلاَ يُعْرَفُ كُلُّ
هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: بِرَدِّ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ
إذَا خَالَفَتْ الآُصُولَ وَحُكْمُهُمْ هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِلآُصُولِ.
(6/109)
فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ فِيهِ الْخُمْسَ.
قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحُكْمِ إنْ كَانَ حُجَّةً; لإِنَّ
الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي رَجُلٍ اسْتَخْرَجَ مَعْدِنًا فَبَاعَهُ بِمِائَةِ
شَاةٍ, وَأَخْرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ثَمَنَ أَلْفِ شَاةٍ فَرَأَى عَلِيٌّ
الْخُمْسَ عَلَى الْمُشْتَرِي; لاَ عَلَى الْمُسْتَخْرِجِ لَهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى فِيهِ الزَّكَاةَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ
رَبِيعَةَ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَطَعَ لِبِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ
وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْفُرْعِ". قَالَ: فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لاَ يُؤْخَذُ
مِنْهَا إلاَّ الزَّكَاةَ إلَى الْيَوْمِ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ, وَلَيْسَ فِيهِ مَعَ
إرْسَالِهِ إلاَّ إقْطَاعُهُ عليه السلام تِلْكَ الْمَعَادِنَ فَقَطْ, وَلَيْسَ
فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهُ; لأَنَّهُمْ
رَأَوْا فِي النُّدْرَةِ تُصَابُ فِيهِ بِغَيْرِ كَبِيرِ عَمَلٍ: الْخُمْسَ;
وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَيُسْأَلُونَ أَيْضًا، عَنْ مِقْدَارِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الْكَبِيرِ وَحَدِّ
النُّدْرَةِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ إلاَّ بِدَعْوَى لاَ يَجُوزُ الاِشْتِغَالُ
بِهَا فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ وَتَنَاقُضُهُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْمَعْدِنُ كَالزَّرْعِ يَخْرُجُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: قِيَاسُ الْمَعْدِنِ عَلَى الزَّرْعِ كَقِيَاسِهِ عَلَى
الزَّكَاةِ, وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَتَعَارَضَ
هَذَانِ الْقِيَاسَانِ; وَكِلاَهُمَا فَاسِدٌ, أَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الرِّكَازِ
فَيَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَعْدِنٍ; وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا, وَأَمَّا
قِيَاسُهُ عَلَى الزَّرْعِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يُرَاعُوا فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ
وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا, وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَقِيسُوا كُلَّ
مَعْدِنٍ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ عَلَى الزَّرْعِ.
وَاحْتَجَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ; ، حدثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
الْقَعْقَاعِ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أُبَيٍّ نَعَمْ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ
تَحْصُلْ مِنْ تُرَابِهَا
(6/110)
فَقَسَّمَهَا
بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ, وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ,
وَزَيْدِ الْخَيْرِ, وَذَكَرَ رَابِعًا, وَهُوَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ".
فَقَالَ مَنْ رَأَى فِي الْمَعْدِنِ الزَّكَاةَ: هَؤُلاَءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ, وَحَقُّهُمْ فِي الزَّكَاةِ لاَ فِي الْخُمْسِ; وَقَالَ الآخَرُونَ:
عَلِيٌّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ, وَلاَ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ فِي الصَّدَقَةِ,
وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الأَخْمَاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: كِلاَ الْقَوْلَيْنِ دَعْوًى فَاسِدَةٌ, وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ
الذَّهَبُ مِنْ خُمْسٍ وَاجِبٍ, أَوْ مِنْ زَكَاةٍ لَمَا جَازَ أَلْبَتَّةَ
أَخْذُهَا إلاَّ بِوَزْنٍ وَتَحْقِيقٍ, لاَ يُظْلَمُ مَعَهُ الْمُعْطِي، وَلاَ
أَهْلُ الأَرْبَعَةِ الأَخْمَاسِ; فَلَمَّا كَانَتْ لَمْ تَحْصُلْ مِنْ تُرَابِهَا
صَحَّ يَقِينًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَإِنَّمَا كَانَتْ
هَدِيَّةً مِنْ الَّذِي أَصَابَهَا, أَوْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ, فَأَعْطَاهَا عليه السلام مَنْ شَاءَ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ
لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ غَيْرِ الزَّرْعِ إلاَّ بَعْدَ الْحَوْلِ, وَالْمَعْدِنِ
مِنْ جُمْلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ; فَلاَ شَيْءَ فِيهَا إلاَّ بَعْدَ
الْحَوْلِ.
وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ,
وَقَوْلِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ
مِلْكُهُ عَنْهُ, وَيَصِيرُ لِلسُّلْطَانِ, وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ; بِلاَ بُرْهَانٍ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ; ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ رَأْيٍ لَهُ
وَجْهٌ.
وَعَلَى هَذَا إنْ ظَهَرَ فِي مَسْجِدٍ أَنْ يَصِيرَ مِلْكُهُ لِلسُّلْطَانِ
وَيَبْطُلُ حُكْمُهُ وَلَوْ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ فِي
أَرْضِهِ مَعْدِنٌ فَهُوَ لَهُ, يُورَثُ عَنْهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ مَا شَاءَ.
(6/111)
701
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُؤْخَذُ زَكَاةٌ مِنْ كَافِرٍ
لاَ مُضَاعَفَةً، وَلاَ غَيْرَ مُضَاعَفَةٍ, لاَ مِنْ بَنِي تَغْلِبٍ، وَلاَ مِنْ
غَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك.
وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, كَذَلِكَ إلاَّ فِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً;
فَإِنَّهُمْ قَالُوا: تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الزَّكَاةُ مُضَاعَفَةً.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ وَاهٍ مُضْطَرِبٍ فِي غَايَةِ الاِضْطِرَابِ, رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مَطَرٍ،
عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ التَّغْلِبِيِّ قَالَ: صَالَحْتُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، عَنْ بَنِي تَغْلِبَ بَعْد أَنْ قَطَعُوا الْفُرَاتَ وَأَرَادُوا
اللُّحُوقَ بِالرُّومِ عَلَى أَنْ
(6/111)
لاَ
يَصْبُغُوا صَبِيًّا، وَلاَ يُكْرَهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ عَلَى أَنَّ
عَلَيْهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا فِي كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ قَالَ
دَاوُد بْنُ كُرْدُوسٍ: لَيْسَ لِبَنِي تَغْلِبَ ذِمَّةٌ, قَدْ صَبَغُوا فِي
دِينِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ
الْمُثَنَّى، عَنْ زُرْعَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ
أَنَّهُ كَلَّمَ عُمَرَ فِي بَنِي تَغْلِبَ وَقَالَ لَهُ: إنَّهُمْ عَرَبٌ
يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ, فَلاَ تُعِنْ عَدُوَّكَ بِهِمْ; فَصَالَحَهُمْ
عُمَرُ عَلَى أَنْ أُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ, فَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ:
أَنْ لاَ يَنْصُرُوا أَوْلاَدَهُمْ. قَالَ مُغِيرَةُ فَحُدِّثْتُ أَنَّ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَئِنْ تَفَرَّغْتُ لِبَنِي تَغْلِبَ لاَُقَتِّلَنَّ
مُقَاتِلَتَهُمْ وَلاََسْبِيَنَّ ذَرَارِيَّهُمْ; فَقَدْ نَقَضُوا, وَبَرِئَتْ
مِنْهُمْ الذِّمَّةُ حِينَ نَصَرُوا أَوْلاَدَهُمْ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ: فِيهِ عَنْ
دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ النُّعْمَانِ, وَذَكَرَ مِثْلَهُ
سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لاَ ذِمَّةَ لَهُمْ الْيَوْمَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ،
عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: لاَ نَعْلَمُ فِي
مَوَاشِي أَهْلِ الْكِتَابِ صَدَقَةً إلاَّ الْجِزْيَةَ غَيْرَ أَنَّ نَصَارَى
بَنِي تَغْلِبَ الَّذِينَ جُلُّ أَمْوَالِهِمْ الْمَوَاشِي تُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ
حَتَّى تَكُونَ مِثْلَيْ الصَّدَقَةِ.
هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَلَوْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا حَلَّ الأَخْذُ بِهِ لاِنْقِطَاعِهِ وَضَعْفِ
رُوَاتِهِ, فَكَيْفَ وَلَيْسَ هُوَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم!
(6/112)
فَكَيْفَ
وَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ وَهَدَمُوا بِهِ أَكْثَرَ أُصُولِهِمْ
لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ الَّتِي لَمْ
يُجْمَعْ عَلَيْهَا فِيمَا إذَا كَثُرَتْ بِهِ الْبَلْوَى, وَهَذَا أَمْرٌ
تَكْثُرُ بِهِ الْبَلْوَى, وَلاَ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ,
فَقَبِلُوا فِيهِ خَبَرًا لاَ خَيْرَ فِيهِ.
وَهُمْ قَدْ رَدُّوا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ
الذَّكَرِ, وَيَقُولُونَ: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ إذَا كَانَ
زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ, وَرَدُّوا بِهَذَا
حَدِيثَ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, وَكَذَّبُوا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي
الْقُرْآنِ.
وَلاَ خِلاَفَ لِلْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَقَالُوا هُمْ: إلاَّ بَنِي
تَغْلِبَ فَلاَ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ، وَلاَ صَغَارَ عَلَيْهِمْ; بَلْ
يُؤَدُّونَ الصَّدَقَةَ مُضَاعَفَةً; فَخَالَفُوا الْقُرْآنَ, وَالسُّنَنَ
الْمَنْقُولَةَ نَقْلَ الْكَافَّةِ بِخَبَرٍ لاَ خَيْرَ فِيهِ!
وَقَالُوا: لاَ يُقْبَلُ خَبَرُ الآحَادِ الثِّقَاتِ إذَا خَالَفَ الآُصُولَ,
وَرَدُّوا بِذَلِكَ خَبَرَ الْقُرْعَةِ فِي الأَعْبُدِ السِّتَّةِ, وَخَبَرَ
الْمُصَرَّاةِ, وَكَذَّبُوا مَا هُمَا مُخَالِفَيْنِ لِلآُصُولِ بَلْ هُمَا
أَصْلاَنِ مِنْ كِبَارِ الآُصُولِ,
وَخَالَفُوا هَاهُنَا جَمِيعَ الآُصُولِ فِي الصَّدَقَاتِ, وَفِي الْجِزْيَةِ
بِخَبَرٍ لاَ يُسَاوِي بَعْرَةً, وَتَعَلَّلُوا بِالاِضْطِرَابِ فِي أَخْبَارِ
الثِّقَاتِ, وَرَدُّوا خَبَرَ: "لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ
الرَّضْعَتَانِ", وَخَبَرَ: "لاَ قَطْعَ إلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا", وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِأَسْقَطِ خَبَرٍ وَأَشَدِّهِ
اضْطِرَابًا, لاَِنَّهُ يَقُولُ رِوَايَةً مَرَّةً: عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مَطَرٍ,
وَمَرَّةً: عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ الْمُثَنَّى, وَمَرَّةً، عَنْ دَاوُد بْنِ
كُرْدُوسٍ أَنَّهُ صَالَحَ عُمَرَ، عَنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمَرَّةً: عَنْ دَاوُد
بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ, أَوْ زُرْعَةَ بْنِ
النُّعْمَانِ, أَوْ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَنَّهُ صَالَحَ عُمَرَ.
وَمَعَ شِدَّةِ هَذَا الاِضْطِرَابِ الْمُفْرِطِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلاَءِ لاَ
يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَمْ مِنْ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ, كَكَلاَمِهِ مَعَ عُثْمَانَ فِي
الْخُطْبَةِ, وَنَفْيِهِ فِي الزِّنَى وَإِغْرَامِهِ فِي السَّرِقَةِ قَبْلَ
الْقَطْعِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(6/113)
وَقَدْ
صَحَّ عَنْ عُمَرَ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ أَنْ آخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ, وَمِنْ نَصَارَى
أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
قال أبو محمد: فَكَمَا لَمْ يُسْقِطْ أَخْذُ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ أَخْذُ الْعُشْرِ مِنْ
بَنِي تَغْلِبَ أَيْضًا الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ, وَهَذَا أَصَحُّ قِيَاسٍ, لَوْ
كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْقِيَاسِ صَحِيحًا, فَقَدْ خَالَفُوا الْقِيَاسَ أَيْضًا.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ وَثَبَتَ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ; لإِنَّ جَمِيعَ مَنْ
رَوَوْهُ عَنْهُ أَوَّلُهُمْ، عَنْ آخِرِهِمْ يَقُولُونَ كُلُّهُمْ: إنَّ بَنِي
تَغْلِبَ قَدْ نَقَضُوا تِلْكَ الذِّمَّةَ; فَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ.
وَرَوَوْا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ, فَخَالَفُوا: عُمَرَ وَعَلِيًّا,
وَالْخَبَرَ الَّذِي بِهِ احْتَجُّوا وَالْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ فِي أَخْذِ
الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كِتَابِيٍّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا, كَهَجَرَ,
وَالْيَمَنِ, وَغَيْرِهِمَا وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَالْقِيَاسَ,
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
(6/114)
لا
يجوز أخذ زكاة و لا تعشير مما يتجر به تجار المسلمين
...
702 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ زَكَاةٍ، وَلاَ تَعْشِيرَ مِمَّا
يَتَّجِرُ بِهِ تُجَّارُ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ مِنْ كَافِرٍ أَصْلاً تَجَرَ فِي بِلاَدِهِ أَوْ فِي غَيْرِ بِلاَدِهِ إلاَّ
أَنْ يَكُونُوا صُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجِزْيَةِ فِي أَصْلِ عَقْدِهِمْ,
فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مِنْهُمْ وَإِلاَّ فَلاَ.
أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمْ
فِي الْعُرُوضِ لِتِجَارَةٍ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ وَأَمَّا الْكُفَّارُ
فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فَقَطْ; فَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ صُلْحًا مَعَ الْجِزْيَةِ فَهُوَ حَقٌّ وَعَهْدٌ صَحِيحٌ, وَإِلاَّ
فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ صِحَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ
بِالْجِزْيَةِ وَالصِّغَارِ, مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وقال أبو حنيفة: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا سَافَرُوا نِصْفُ الْعُشْرِ
فِي الْحَوْلِ مَرَّةً فَقَطْ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ إذَا
بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَإِلاَّ فَلاَ; إلاَّ إنْ كَانُوا لاَ يَأْخُذُونَ
مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا فَلاَ نَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِهِمْ شَيْئًا.
قَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعُشْرُ إذَا تَجَرُوا إلَى
غَيْرِ بِلاَدِهِمْ مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ إذَا بَاعُوا, وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ
فِي كُلِّ سُفْرَةٍ كَذَلِكَ, وَلَوْ مِرَرًا فِي السَّنَةِ, فَإِنْ تَجَرُوا فِي
بِلاَدِهِمْ
(6/114)
لَمْ
يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ, وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ كَذَلِكَ إلاَّ فِيمَا
حَمَلُوا إلَى الْمَدِينَةِ خَاصَّةً مِنْ الْحِنْطَةِ, وَالزَّبِيبِ خَاصَّةً,
فَإِنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إلاَّ نِصْفُ الْعُشْرِ فَقَطْ.
قال أبو محمد: احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: كُنْتُ أَعْشُرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنَ عُتْبَةَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ أَنْصَافَ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا تَجَرُوا بِهِ.
وَبِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا,
وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا, وَمِمَّنْ
لاَ ذِمَّةَ لَهُ مِنْ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمِ دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ: أَمَرَنِي عُمَرُ بِأَنْ آخُذَ مِنْ بَنِي
تَغْلِبَ الْعُشْرَ, وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:
كُنْتُ غُلاَمًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ
زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لاَِنَّهُ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَيْضًا فَرُبَّ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا آنِفًا,
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ حُكْمِ عُمَرُ حُجَّةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ
بِحُجَّةٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الآثَارَ مُخْتَلِفَةٌ، عَنْ عُمَرَ, فِي بَعْضِهَا
الْعُشْرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَفِي بَعْضِهَا نِصْفُ الْعُشْرِ, فَمَا
الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ؟!
وَقَدْ خَالَفَ الْمَالِكِيُّونَ هَذِهِ الآثَارَ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ
تِجَارَتِهِمْ فِي أَقْطَارِ بِلاَدِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا.
وَخَالَفَهَا الْحَنَفِيُّونَ فِي وَضْعِهِمْ ذَلِكَ مَرَّةً فِي الْعَامِ فَقَطْ,
وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الآثَارِ, وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَبَرًا فَاسِدًا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ عُمَرَ
كَتَبَ إلَى أَيُّوبَ بْنِ شُرَحْبِيلَ: خُذْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا, وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ
دِينَارًا دِينَارًا, إذَا كَانُوا يُدِيرُونَهَا, ثُمَّ لاَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ
شَيْئًا حَتَّى رَأْسَ الْحَوْلِ, فَإِنِّي سَمِعْتُ ذَلِكَ مِمَّنْ سَمِعَهُ
مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: وَهَذَا، عَنْ مَجْهُولِينَ, وَلَيْسَ أَيْضًا فِيهِ بَيَانٌ
أَنَّهُ سُمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(6/115)
قال
أبو محمد: فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه بَيَانَ هَذَا
كُلِّهِ, كَمَا حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى،
حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ، حدثنا
الأَنْصَارِيُّ هُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُثَنَّى،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ:
بَعَثَ عُمَرُ: عَمَّارًا, وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى الْكُوفَةِ
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ مَسَحَ الأَرْضَ
فَوَضَعَ عَلَيْهَا كَذَا وَكَذَا, وَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ بِهَا مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَجَعَلَ
عَلَى رُءُوسِهِمْ وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ: أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ فَأَجَازَهُ.
فَصَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَصْلِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ وَذِمَّتِهِمْ.
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْعَبْسِيِّ قَالَ:
سَأَلْت زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ: مَنْ كُنْتُمْ تُعْشِرُونَ قَالَ مَا كُنَّا
نُعْشِرُ مُسْلِمًا، وَلاَ مُعَاهِدًا, كُنَّا نُعْشِرُ تُجَّارَ أَهْلِ الْحَرْبِ
كَمَا يُعَشِّرُونَنَا إذَا أَتَيْنَاهُمْ.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يُعَاقَدْ عَلَى
ذَلِكَ.
وَبِهِ إلَى أَبِي عُبَيْدٍ: حدثنا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَخْوَفُ
عِنْدِي أَنْ يُدْخِلُنِي النَّارَ مِنْ عَمَلِكُمْ هَذَا, وَمَا بِي أَنْ أَكُونَ
ظَلَمْتُ فِيهِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا, وَلَكِنْ
لاَ أَدْرِي مَا هَذَا الْحَبَلُ الَّذِي لَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم، وَلاَ أَبُو بَكْرٍ, وَلاَ عُمَرُ قَالُوا: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ
دَخَلْتَ فِيهِ قَالَ: لَمْ يَدَعْنِي زِيَادٌ, وَلاَ شُرَيْحٌ, وَلاَ
الشَّيْطَانُ, حَتَّى دَخَلْتُ فِيهِ. قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ عَمَلٌ
مُحْدَثٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ تَعَدَّى مَا
كَانَ فِي عَقْدِهِمْ; كَمَا لاَ يُظَنُّ بِهِ فِي أَمْرِهِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ أَنَّهُ فِيمَا هُوَ
أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/116)
ليس
في شيء مما أصيب من العنبر و الجواهر و الياقوت و الزمرد شيء أصلا
...
703 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أُصِيبَ مِنْ الْعَنْبَرِ
وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ بِحَرِيِّهِ وَبَرِّيِّهِ: شَيْءٌ
أَصْلاً,
وَهُوَ كُلُّهُ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
أَنَّ فِي الْعَنْبَرِ, وَفِي كُلِّ مَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ حِلْيَةِ الْبَحْرِ:
الْخُمْسُ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ.
قال أبو محمد: الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ مُطْرَحٌ.
وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَنْبَرِ: إنْ كَانَ
فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخُمْسُ, مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ شَيْءَ فِيهِ.
قال أبو محمد: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ إغْرَامُ
مُسْلِمٍ شَيْئًا بِغَيْرِ نَصٍّ صَحِيحٍ, وَكَانَ بِلاَ خِلاَفٍ كُلُّ مَا لاَ رَبَّ
لَهُ فَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/117)
زكاة
الفطر
زكاة الفطر من رمضان فرض واجب على كل مسلم
...
زَكَاةُ الْفِطْرِ
704 - مَسْأَلَةٌ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ,
كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ, ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, وَإِنْ كَانَ مَنْ
ذَكَرْنَا جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ
أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ
بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ قَبْلُ, وَلاَ
يُجْزِئُ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا, لاَ قَمْحَ, وَلاَ دَقِيقَ قَمْحٍ أَوْ
شَعِيرٍ, وَلاَ خُبْزَ، وَلاَ قِيمَةَ; ، وَلاَ شَيْءَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ،
حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ
نَفْسٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ, رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ, صَغِيرٍ
أَوْ كَبِيرٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا أَبُو
إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حدثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ
الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ".
وقال مالك: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَاحْتَجَّ لَهُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَنْ قَالَ:
مَعْنَى "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" أَيُّ قَدَّرَ
مِقْدَارَهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ, لاَِنَّهُ دَعْوًى بِلاَ بُرْهَانٍ وَإِحَالَةُ
اللَّفْظِ، عَنْ مَوْضُوعِهِ بِلاَ دَلِيلٍ. وَقَدْ أَوْرَدَنَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا وَأَمْرُهُ فَرْضٌ, قَالَ تعالى:
{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: "أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ
الزَّكَاةُ, فَلَمَّا نَزَلَتْ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا,
وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ".
وَعَنْهُ أَيْضًا: "كُنَّا نَصُومُ عَاشُورَاءَ وَنُعْطِي الْفِطْرَ مَا لَمْ
يَنْزِلْ عَلَيْنَا صَوْمُ رَمَضَانَ
(6/118)
وَالزَّكَاةُ,
فَلَمَّا نَزَلاَ لَمْ نُؤْمَرْ وَلَمْ نُنْهَ عَنْهُ, وَنَحْنُ نَفْعَلُه"ُ.
وَقَالَ أبو محمد وَهَذَا الْخَبَرُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ لإِنَّ فِيهِ أَمْرَ
رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ, فَصَارَ أَمْرًا
مُفْتَرَضًا ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَبَقِيَ فَرْضًا كَمَا كَانَ, وَأَمَّا
يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَلَوْلاَ أَنَّهُ عليه السلام صَحَّ، أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ
ذَلِكَ: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ", لَكَانَ فَرْضُهُ
بَاقِيًا, وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَقَدْ قَالَ تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ
الْفِطْرِ: زَكَاةً, فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا,
وَالدَّلاَئِلُ عَلَى هَذَا تَكْثُرُ جِدًّا.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَأَبِي
قِلاَبَةَ قَالاَ جَمِيعًا: زَكَاةُ الْفِطْرِ فَرِيضَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَشْيَاءَ
غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَوْمٌ:
يُجْزِئُ فِيهَا الْقَمْحُ وَقَالَ آخَرُونَ: وَالزَّبِيبُ, وَالأَقِطُ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُخْرِجُ كُلُّ
أَحَدٍ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِنْ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِ. فَقُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلٍ
بِلاَ بُرْهَانٍ, ثُمَّ قَدْ نَقَضْتُمُوهَا لاَِنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ
لاَ الْحَبَّ: فَأَوْجَبُوا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا لاَِنَّهُ هُوَ أَكَلَهُ,
وَهُوَ قُوتُ أَهْلِ بَلَدِهِ, فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ
الْخَبَرُ. قلنا: صَدَقْتُمْ, وَكَذَلِكَ مَا عَدَا التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ.
وَقَالُوا: إنَّمَا خَصَّ عليه السلام بِالذَّكَرِ التَّمْرَ, وَالشَّعِيرَ;
لاَِنَّهُمَا كَانَا قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ جِدًّا; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْشُوفٌ, لإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ
قَوَّلَهُ عليه السلام مَا لَمْ يَقُلْ; وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.
(6/119)
وَيُقَالُ
لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ
يَذْكُرَ الْقَمْحَ, وَالزَّبِيبَ; فَسَكَتَ عَنْهُمَا وَقَصَدَ إلَى التَّمْرِ,
وَالشَّعِيرِ; أَنَّهُمَا قُوتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ, وَهَذَا لاَ يَعْلَمْنَهُ
إلاَّ مَنْ أَخْبَرَهُ عليه السلام بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ مَنْ نَزَلَ
عَلَيْهِ وَحَيٌّ بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ لَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ
إلاَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ وَأَنْذَرَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ
صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَفْتَحُ لَهُمْ الشَّامَ,
وَالْعِرَاقَ, وَمِصْرَ, وَمَا وَرَاءَ الْبِحَارِ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ
يَلْبِسَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ دِينَهُمْ فَيُرِيدُ مِنْهُمْ أَمْرًا،
وَلاَ يَذْكُرُهُ لَهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ بِكَلاَمِهِ مَا لاَ يَلْزَمُهُمْ مِنْ
التَّمْرِ, وَالشَّعِيرِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ
الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَطِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ فَاسِدَةٍ لاَ تَصِحُّ.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ: صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ".
وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ لاَ
سَائِرَ مَا يُجِيزُونَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
الْمُزَنِيِّ، عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ "صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ
شَعِيرٍ".
وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَاقِطٌ, لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ, ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلاَّ الأَقِطُ, وَالزَّبِيبُ.
(6/120)
وَمِنْ
طَرِيقِ نَصْرِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ: "صَاعًا
مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ قَمْحٍ, وَيَقُولُ أَغْنُوهُمْ، عَنْ
تَطْوَافِ هَذَا الْيَوْمِ".
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ هَذَا نَجِيحٌ مُطَّرَحٌ يُحَدِّثُ
بِالْمَوْضُوعَاتِ، عَنْ نَافِعٍ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَعْلَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ
رَشَادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "صَاعًا مِنْ بُرٍّ، عَنْ كُلِّ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ, حُرٍّ أَوْ
مَمْلُوكٍ".
وَالنُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْغَلَطِ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ
أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ خَالَفَهُ; لاَِنَّهُ لاَ يُوجِبُ إلاَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ
بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى: حدثنا بَكْرُ بْنُ وَائِلِ بْنِ دَاوُد،
حدثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ فِي صَدَقَةِ
الْفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ, أَوْ صَاعَ
قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ".
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَانِ مُرْسَلاَنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ
رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ مِنْ
قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْعَتَكِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ, أَوْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: "صَاعٌ
مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ".
فَحَصَل هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِعًا إلَى رَجُلٍ مَجْهُولِ الْحَالِ, مُضْطَرِبٍ
عَنْهُ, مُخْتَلَفٍ فِي اسْمِهِ, مَرَّةً: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ,
وَمَرَّةً: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الزُّهْرِيَّ
لَمْ يَلْقَ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ, وَلَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ صُحْبَةٌ.
(6/121)
وَأَحْسَنُ
حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ هَمَّامُ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ
أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا هَمَّامُ بْنُ
يَحْيَى، عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ, أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ,
صَاعَ تَمْرٍ, أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ", وَلَمْ يَذْكُرْ:
"الْبُرَّ "، وَلاَ شَيْئًا غَيْرَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ: وَلَكِنَّا
لاَ نَحْتَجُّ بِهِ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ مَجْهُولٌ ثُمَّ هَذَا
كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ
الْمَدَنِيِّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُظَاهِرٍ شَعِيرًا
وَقَالَ: "أَطْعِمْ هَذَا, فَإِنَّ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ يَقْضِيَانِ
مُدًّا مِنْ قَمْحٍ" وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ بَعَثَ صَارِخًا فِي بَطْنِ مَكَّةَ: "أَلاَ
إنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّانِ مِنْ
حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعٌ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: "كَانُوا يُخْرِجُونَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ,
أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ,
وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ, وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ,
وَعُقَيْلٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَالَ عَمْرٌو: عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ ثُمَّ اتَّفَقَ يَزِيدُ, وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ
الْفِطْرِ: مُدَّيْنِ حِنْطَةً".
(6/122)
وَهَذَا
مُرْسَلٌ.
وَمِثْلُهُ أَيْضًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ,
وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, كُلِّهِمْ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مَرَاسِيلُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَهَا يَعْنِي زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا
مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ"،
وَلاَ يَصِحُّ لِلْحَسَنِ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَوْسِ بْنِ الْحَارِثِ
وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ
يَصِحُّ, وَلاَ يَشْتَغِلُ بِهِ, وَلاَ يَعْمَلُ بِهِ إلاَّ جَاهِلٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا نَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِيهِ أَصْلَهَا.
فأما الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ
مُرْسَلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حُجَّةٌ, وَقَدْ تَرَكُوا هَاهُنَا مُرْسَلَ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وقال الشافعي: فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ لاَ تُجْزِئُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ مِنْ
حَبٍّ تَخْرُجُ مِنْهُ الزَّكَاةُ, وَتُوقَفُ فِي الأَقِطِ, وَأَجَازَهُ مَرَّةً
أُخْرَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, فَأَجَازُوا الْمُرْسَلَ وَجَعَلُوهُ كَالْمُسْنَدِ,
وَخَالَفُوا هَاهُنَا مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا لَوْ جَازَ قَبُولُ شَيْءٍ مِنْهَا
لَجَازَ هَاهُنَا, لِكَثْرَتِهَا وَشُهْرَتِهَا وَمَجِيئِهَا مِنْ طَرِيقِ
فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ فِي أَشْهَرِ
رِوَايَاتِهِمْ عَنْهُ جَعَلَ الزَّبِيبَ كَالْبُرِّ فِي أَنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهُ
نِصْفُ صَاعٍ, وَلَمْ يُجِزْ الأَقِطَ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَلاَ أَجَازَ غَيْرَ
الْبُرِّ, وَالشَّعِيرِ وَدَقِيقِهِمَا وَسَوِيقِهِمَا, وَالتَّمْرِ, وَالزَّبِيبِ
فَقَطْ إلاَّ بِالْقِيمَةِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِبَعْضِ هَذِهِ الآثَارِ وَخِلاَفٌ
لِجَمِيعِهَا فِي إجَازَةِ الْقِيمَةِ, وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ إطْبَاقِهِمْ
عَلَى أَنَّ رَاوِيَ الْخَبَرِ إذَا تَرَكَهُ
(6/123)
كَانَ
ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى سُقُوطِ الْخَبَرِ, كَمَا فَعَلُوا فِي خَبَرِ غَسْلِ
الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا.
وَقَدْ حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرُّقِيُّ، عَنْ مَخْلَدٍ، هُوَ
ابْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذَكَرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ : "صَاعٌ مِنْ
بُرٍّ, أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ
سُلْتٍ".
فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ مَا رُوِيَ بِأَصَحَّ إسْنَادٍ يَكُونُ
عَنْهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمْ رَدُّ تِلْكَ الرِّوَايَةِ, وَإِلاَّ فَقَدْ نَقَضُوا
أَصْلَهُمْ.
وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا صَحِيحًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ, صَاعًا
مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا
مِنْ أَقِطٍ; أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا غَيْرُ مُسْنَدٍ, وَهُوَ أَيْضًا مُضْطَرِبٌ فِيهِ عَلَى
أَبِي سَعِيدٍ.
فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ
طَعَامٍ, وَكَانَ طَعَامُنَا: الشَّعِيرَ, وَالزَّبِيبَ, وَالأَقِطَ
وَالتَّمْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ
أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَرَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ, حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ:
مِنْ ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, صَاعًا مِنْ
شَعِيرٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأما أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ
كَذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: حدثنا ابْنُ عَجْلاَنَ سَمِعْتُ
عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
"لَمْ نُخْرِجْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ
صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ
صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ",
ثُمَّ شَكَّ سُفْيَانُ
(6/124)
فَقَالَ:
دَقِيقٌ أَوْ سُلْتٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عِيَاضَ بْنَ عِيَاضِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا
نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ
صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ, لاَ نُخْرِجُ غَيْرَهُ",
يَعْنِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ.
قال أبو محمد: فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الأَخْبَارِ إبْطَالُ إخْرَاجِ "الْبُرِّ"
جُمْلَةً, وَفِي بَعْضِهَا إثْبَاتُ الزَّبِيبِ, وَفِي بَعْضِهَا نَفْيُهُ,
وَإِثْبَاتُ الأَقِطِ جُمْلَةً, وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ, وَهُمْ
يَعِيبُونَ الأَخْبَارَ الْمُسْنَدَةَ الَّتِي لاَ مَغْمَزَ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنْ
هَذَا الاِضْطِرَابِ, كَحَدِيثِ إبْطَالِ تَحْرِيم الرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ
فَأَقَرَّهُ, وَلاَ عَجَبَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَقُولُ فِي خَبَرِ جَابِرٍ
الثَّابِتِ: "كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم", وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
الثَّابِتُ: "ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا
فَأَكَلْنَاهُ" أَنَّ هَذَانِ لَيْسَا مُسْنَدَيْنِ لاَِنَّهُ لَيْسَ
فِيهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ,
ثُمَّ يَجْعَلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا مُسْنَدًا عَلَى اضْطِرَابِهِ
وَتَعَارُضِ رُوَاتِهِ فِيهِ!!
فَلْيَقُلْ كُلُّ ذِي عَقْلٍ: أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أُمَّ
وَلَدِهِ, أَوْ ذَبْحُ فَرَسٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوْ بَيْتِ
الزُّبَيْرِ, وَبَيْتَاهُمَا مُطْنِبَانِ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَابْنَتُهُ عِنْدَهُ, عَلَى عِزَّةِ الْخَيْلِ عِنْدَهُمْ وَقِلَّتِهَا
وَحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا, أَمْ صَدَقَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَنِي
خُدْرَةَ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ بِصَاعِ أَقِطٍ, أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ
(6/125)
وَلَوْ
ذُبِحَ فَرَسٌ لِلأَكْلِ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ بَغْدَادَ مَا كَانَ يُمْكِنُ
أَنْ يَخْفَى فِي الْجَانِبِ الآخَرِ, وَلَوْ تَصَدَّقَتْ امْرَأَةُ أَحَدِنَا
أَوْ جَارُهُ الْمُلاَصِقُ بِصَاعِ أَقِطٍ; أَوْ صَاعِ زَبِيبٍ وَصَاعِ قَمْحٍ,
مَا كَادَ هُوَ يَعْلَمُهُ فِي الأَغْلَبِ; فَاعْجَبُوا لِعَكْسِ هَؤُلاَءِ
الْقَوْمِ الْحَقَائِقَ, ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ الثَّلاَثَةَ مُخَالِفَةٌ
لِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ.
أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ نِصْفَ صَاعِ زَبِيبٍ
يُجْزِئُ، وَأَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِالْقِيمَةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَشْهَرُ أَقْوَالِهِ أَنَّ الأَقِطَ لاَ يُجْزِئُ,
وَأَجَازَ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ, مِمَّا لَمْ
يَذْكُرْ فِيهَا مِنْ الذُّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ فَخَالَفُوهَا جُمْلَةً;
لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذَا
الْخَبَرِ إلاَّ لِمَنْ كَانَتْ قُوتَهُ, وَخَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ لاَ يُخْتَلَفُ
فِيهِ أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ, وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ إخْرَاجَ مَا مَنَعَتْ
هَذِهِ الأَخْبَارُ مِنْ إخْرَاجِهِ.
فَمَنْ أَضَلَّ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ مَا هَذَا
مِنْ التَّقْوَى, وَلاَ مِنْ الْبِرِّ, وَلاَ مِنْ النُّصْحِ لِمَنْ أَغْتَرَّ
بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَوَاَللَّهِ لَوْ انْسَنَدَ صَحِيحًا شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا
ذَكَرْنَا مِنْ الأَخْبَارِ لَبَادَرَنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ, وَمَا تَوَقَّفْنَا
عِنْدَ ذَلِكَ, لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، وَلاَ وَاحِدٌ, فَلاَ
يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
وقال بعضهم: إنَّمَا قلنا بِجَوَازِ الْقَمْحِ لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ,
وَجَمَحَ فَرَسُ بَعْضِهِمْ فَادَّعَى الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ جُرْأَةً وَجَهْلاً!
فَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "فَرَضَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ,
وَالآُنْثَى, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ
شَعِيرٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَعَدَلَهُ النَّاسُ بَعْدُ: مُدَّيْنِ مِنْ
قَمْحٍ".
(6/126)
وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَدَلَ النَّاسُ بَعْدُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ, فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ التَّمْرَ عَامًا
فَأَعْطَى الشَّعِيرَ".
قال أبو محمد: لَوْ كَانَ فِعْلُ النَّاسِ حُجَّةً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ مَا
اسْتَجَازَ خِلاَفَهُ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ}. وَلاَ حُجَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ,
لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْجِنِّ مَعَهُمْ, وَنَحْنُ
نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ النَّاسِ الَّذِينَ تَقَرَّبَ ابْنُ
عُمَرَ إلَيْهِ بِخِلاَفِهِمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنٍ، عَنْ زَائِدَةَ، حدثنا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "كَانَ
النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ سُلْتٍ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَنْسَنِدُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ ذَلِكَ وَأَقَرَّهُ, ثُمَّ خِلاَفُهُمْ لَهُ
لَوْ أُسْنِدَ وَصَحَّ كَخِلاَفِهِمْ لِسَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَإِبْطَالُ
تَهْوِيلِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ" بِخِلاَفِ
ابْنِ عُمَرَ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ كَمَا فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ سَوَاءٌ
سَوَاءٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ رَاوِيَ هَذَا الْخَبَرِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ,
وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نَصْرٍ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا ابْنُ وَضَّاحٍ، حدثنا مُوسَى بْنُ
مُعَاوِيَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ
قَالَ قُلْت لاِبْنِ عُمَرَ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ, وَالْبُرُّ أَفْضَلُ
مِنْ التَّمْرِ يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّ
أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْلُكَهُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُخْرِجُ
إلاَّ التَّمْرَ, أَوْ الشَّعِيرَ, وَلاَ يُخْرِجُ الْبُرَّ, وَقِيلَ لَهُ فِي
ذَلِكَ, فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي عَمَلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ أَصْحَابِهِ;
فَهَؤُلاَءِ هُمْ النَّاسُ الَّذِينَ يُسْتَوْحَشُ مِنْ خِلاَفِهِمْ وَهُمْ
الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،, بِأَصَحِّ طَرِيقٍ,
(6/127)
وَإِنَّهُمْ
لَيَدْعُونَ الإِجْمَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا إذَا وَجَدُوهُ.
وَعَنْ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ: كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ يُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ
يَوْمُ الْفِطْرِ أَرْسَلَ صَدَقَةَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ
خَالِدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ قَالَ: كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاَ يُخْرِجُ
إلاَّ تَمْرًا "يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عُمَرَ, وَالْقَاسِمُ, وَسَالِمٌ, وَعُرْوَةُ: لاَ يُخْرِجُونَ
فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلاَّ التَّمْرَ, وَهُمْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ بِلاَ
خِلاَفٍ, وَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ لَتَسَعُ إلَى إخْرَاجِ صَاعِ دَرَاهِمَ، عَنْ
أَنْفُسِهِمْ, وَلاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ.، رضي الله عنهم.
فإن قيل: هُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قلنا: مَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُكْمِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ
أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الصِّينِ, وَلاَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ
دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إجَازَةِ مَالِكٍ إخْرَاجَ الذُّرَةِ,
وَالدَّخَنِ, وَالآُرْزِ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ قُوتَهُ, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ أَصْلاً, وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ
الدَّقِيقِ لاَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الأَخْبَارِ; وَمَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ
الْقَطَانِيِّ وَإِنْ كَانَتْ قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَمَنَعَ مِنْ التِّينِ,
وَالزَّيْتُونِ, وَإِنْ كَانَا قُوتَ الْمُخْرِجِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ, وَخِلاَفٌ
لِلأَخْبَارِ, وَتَخَاذُلٌ فِي الْقِيَاسِ, وَإِبْطَالُهُمْ لِتَعْلِيلِهِمْ
بِأَنَّ الْبُرَّ أَفْضَلُ مِنْ الشَّعِيرِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الدَّقِيقَ
وَالْخُبْزَ مِنْ الْبُرِّ وَالسُّكَّرُ أَفْضَلُ مِنْ الْبُرِّ وَأَقَلُّ
مُؤْنَةٍ وَأَعْجَلُ نَفْعًا, فَمَرَّةً يُجِيزُونَ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ,
وَمَرَّةً يَمْنَعُونَ مِمَّا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّافِعِيِّينَ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَشَغِبَ الْحَنَفِيُّونَ بِأَخْبَارٍ نَذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مِنْهَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ, وَشُعْبَةَ, كِلاَهُمَا، عَنْ
عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ سَمِعَ أَبَا قِلاَبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي
مَنْ أَدَّى إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نِصْفَ صَاعٍ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ
الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رُوَادٍ، عَنْ
(6/128)
نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ
تَمْرٍ, أَوْ سُلْتٍ, أَوْ زَبِيبٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ
عُمَرُ وَكَثُرَتْ الْحِنْطَةُ جَعَلَ عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ مَكَانَ صَاعٍ
مِنْ تِلْكَ الأَشْيَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثَ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي
الله عنه وَهُوَ يَخْطُبُ, فَقَالَ: فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ,
أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى،
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ: صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ يُعْطُونَ زَكَاةَ
رَمَضَانَ نِصْفَ صَاعٍ. فأما إذْ أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ
فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ
الْمُنْذِرِ: كَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ تُعْطِي زَكَاةَ
الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمَوَّنَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ
نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ صَاعٌ
مِنْ تَمْرٍ, أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: زَكَاةُ الْفِطْرِ مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ,
أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَبَلَغَنِي
هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِنْ طَرِيق عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ،
عَنْ عَلْقَمَةَ. وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
(6/129)
ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ: مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ, أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرٍ
يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
بْنِ قَعْنَبَ، حدثنا دَاوُد يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "كُنَّا نُخْرِجُ إذْ كَانَ
فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ,
أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُ
ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا; فَكَلَّمَ النَّاسَ
عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءَ الشَّامِ
تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
فأما أَنَا فَلاَ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ: أَنَّ مَرْوَانَ بَعَثَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ: أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِزَكَاةِ
رَقِيقِكَ, فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إنَّ مَرْوَانَ لاَ يَعْلَمُ, إنَّمَا
عَلَيْنَا أَنَّ نُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ صَاعَ تَمْرٍ,
أَوْ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرْتُ لاَِبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَقَالَ:
"لاَ أُخْرِجُ إلاَّ مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعَ زَبِيبٍ
أَوْ صَاعَ أَقِطٍ", فَقِيلَ لَهُ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟ فَقَالَ:
"لاَ, تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ, لاَ أَقْبَلُهَا, وَلاَ أَعْمَلُ
بِهَا".
فَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ يَمْنَعُ مِنْ "الْبُرِّ" جُمْلَةً; وَمِمَّا
عَدَا مَا ذُكِرَ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إيجَابُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ
عَلَى الإِنْسَانِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ, أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى أَهْلِ
الدِّيوَانِ نِصْفُ دِرْهَمٍ.
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَيْنَا بِذَلِكَ, وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس,
وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي
سَلَمَةَ
(6/130)
ابْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ. وَهُوَ قَوْلُ
الأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
قال أبو محمد: تَنَاقَضَ هَاهُنَا الْمَالِكِيُّونَ الْمُهَوِّلُونَ بِعَمَلِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَخَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَعَائِشَةَ, وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ, وَأَبَا
هُرَيْرَةَ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ,
وَابْنَ الزُّبَيْرِ, وَأَبَا سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ, وَهُوَ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ
صَحِيحٌ إلاَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, إلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ
يَحْتَجُّونَ بِأَضْعَفَ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ إذَا وَافَقَتْهُمْ. ثُمَّ
فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ: ابْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ, وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَغَيْرَهُمْ أَفَلاَ يَتَّقِي اللَّهَ مَنْ يَزِيدُ فِي
الشَّرَائِعِ مَا لَمْ يَصِحَّ قَطُّ, مِنْ جَلْدِ الشَّارِبِ لِلْخَمْرِ
ثَمَانِينَ, بِرِوَايَةٍ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ، عَنْ عُمَرَ, ثُمَّ قَدْ صَحَّ
خِلاَفُهَا عَنْهُ, وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَهُ, وَعَنْ عُثْمَانَ, وَعَلِيٍّ
بَعْدَهُ, وَالْحَسَنِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم، لاَ يُخَالِفُهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ, وَمَعَهُمْ السُّنَّةُ
الثَّابِتَةُ: ثُمَّ لاَ يَلْتَفِتُ هَاهُنَا إلَى هَؤُلاَءِ كُلِّهِمْ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ الْمُتَزَيِّنُونَ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِاتِّبَاعِهِمْ
فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ; وَابْنَ
مَسْعُودٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ, وَأَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ, وَأُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسْحِ عَلَى
الْعِمَامَةِ, وَخَالَفُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبَا مَسْعُودٍ,
وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ, وَبِلاَلاً وَأَبَا أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيَّ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَابْنَ عُمَرَ, وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فِي
جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ
مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى
الْخُفَّيْنِ, وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
نَتَأَيَّدُ, وَلاَ حُجَّةَ إلاَّ فِيمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ لَيْسَ عَلَى الأَعْرَابِ, أَهْلِ
الْبَادِيَةِ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهَا عَلَيْهِمْ,
وَأَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ فِي ذَلِكَ اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: لَمْ يَخُصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيًّا، وَلاَ
بَدَوِيًّا مِنْ غَيْرِهِمْ, فَلَمْ يُجِزْ تَخْصِيصَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ,
وَلاَ يُجْزِئُ لَبَنٌ، وَلاَ غَيْرُهُ, إلاَّ الشَّعِيرَ, أَوْ التَّمْرَ فَقَطْ.
(6/131)
وَأَمَّا
الْحَمْلُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ
صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ, وَالْجَنِينُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ: صَغِيرٍ, فَإِذَا
أَكْمَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْلَ انْصِدَاعِ
الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ صَدَقَةُ
الْفِطْرِ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, قَالَ حَفْصُ: حدثنا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ:
حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, ثُمَّ اتَّفَقَ سُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ كِلاَهُمَا،
عَنِ الأَعْمَشِ: حدثنا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ،
حدثنا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ
فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ,
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا
فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ, رِزْقُهُ, وَعَمَلُهُ, وَأَجَلُهُ, ثُمَّ
يُكْتَبُ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ, ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ".
قال أبو محمد: هُوَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا مَوَاتَ, فَلاَ حُكْمَ عَلَى مَيِّتٍ,
فأما إذَا كَانَ حَيًّا كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَكُلُّ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَى الصَّغِيرِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حدثنا أَبِي،
حدثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَقَتَادَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحَمْلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ
قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الصَّغِيرِ,
وَالْكَبِيرِ, حَتَّى، عَنِ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَأَبُو قِلاَبَةَ
أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ وَصَحِبَهُمْ وَرَوَى عَنْهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْحَمْلِ أَيُزَكَّى عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ.
وَلاَ يُعْرَفُ لِعُثْمَانَ فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهُمْ
يُعَظِّمُونَ بِمِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ.
(6/132)
يؤدي
المسلم زكاة الفطر عن رقيقه مؤمنا كان أو كافرا
...
705 - مَسْأَلَةٌ: وَيُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُ، عَنْ رَقِيقِهِ, مُؤْمِنِهِمْ
وَكَافِرِهِمْ,
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِتِجَارَةٍ أَوْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي الْكُفَّارِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تُؤَدَّى إلاَّ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ
(6/132)
وقال
أبو حنيفة: لاَ تُؤَدَّى زَكَاةُ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ التِّجَارَةِ.
وقال مالك وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُؤَدَّى عَنْهُمْ زَكَاةُ
الْفِطْرِ.
وَقَالُوا كُلُّهُمْ حَاشَا أَبَا سُلَيْمَانَ: يُخْرِجُهَا السَّيِّدُ عَنْهُمْ,
وَبِهِ نَقُولُ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانُ: يُخْرِجُهَا الرَّقِيقُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ إخْرَاجَهَا، عَنِ الرَّقِيقِ الْكُفَّارِ بِمَا
رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيحٌ, وَبِهِ نَأْخُذُ, إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
إسْقَاطُهَا، عَنِ الْمُسْلِمِ فِي الْكُفَّارِ مِنْ رَقِيقِهِ، وَلاَ إيجَابُهَا,
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذَا الْخَبَرُ وَحْدَهُ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْنَا
زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رَقِيقِنَا فَقَطْ.
وَلَكِنْ وَجَدْنَا حَدَّثَنَاهُ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ قَالَ،
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي، حدثنا
يَحْيَى بْنُ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي
الشَّرِيفِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ الْخَوْلاَنِيِّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
إسْمَاعِيلَ الْغَافِقِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنِي نَافِعُ
بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ
عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَعَبْدِهِ صَدَقَةٌ, إلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ
فِي الرَّقِيقِ" وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ.
قال أبو محمد: فَأَوْجَبَ عليه الصلاة والسلام صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى
الْمُسْلِمِ فِي رَقِيقِهِ عُمُومًا, فَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَى حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَكَانَ بَاقِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بَعْضَ مَا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ, لاَ مُعَارِضًا لَهُ أَصْلاً, فَلَمْ يَجُزْ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
وَبِهَذَا الْخَبَرِ تَأْدِيَةُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ
رَقِيقِهِ. لاَ عَلَى الرَّقِيقِ
(6/133)
وَبِهِ
أَيْضًا يَسْقُطُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ,
لاَِنَّهُ عليه السلام أَبْطَلَ كُلَّ زَكَاةٍ فِي الرَّقِيقِ إلاَّ زَكَاةَ
الْفِطْرِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ أَتَوْا
إلَى زَكَاتَيْنِ مَفْرُوضَتَيْنِ, إحْدَاهُمَا فِي الْمَوَاشِي, وَالآُخْرَى
زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ: فَأَسْقَطُوا بِإِحْدَاهُمَا زَكَاةَ
التِّجَارَةِ فِي الْمَوَاشِي الْمُتَّخَذَةِ لِلتِّجَارَةِ, وَأَسْقَطُوا
الآُخْرَى بِزَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَلاَعُبًا!
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ غَلَّبُوا مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ: "فِي
سَائِمَةِ الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ", وَلَمْ يُغَلِّبُوا
مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ فِي أَنَّ: "صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى
كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ", عَلَى مَا جَاءَ فِي سَائِرِ الأَخْبَارِ: "إلاَّ
صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ", وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ وَتَنَاقُضٌ،
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ الأَعَمِّ عَلَى الأَخَصِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إلاَّ
أَنْ يَأْتِيَ بَيَانُ نَصٍّ فِي الأَخَصِّ بِنَفْيِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي
الأَعَمِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/134)
إن
كان العبد بين الاثنين فصاعدا فعلى سيديه إخراج زكاة الفطر
...
706 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا
فَعَلَى سَيِّدَيْهِمَا إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ,
يُخْرِجُ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ, وَكَذَلِكَ
إنْ كَانَ الرَّقِيقُ كَثِيرًا بَيْنَ سَيِّدَيْنِ فَصَاعِدًا.
وقال أبو حنيفة, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ عَلَى
سَيِّدَيْهِ، وَلاَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ
الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُ عَنْهُ سَيِّدَاهُ بِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا, وَكَذَلِكَ لَوْ كَثُرَ الرَّقِيقُ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أُسْقِطَ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَعَنْ
سَيِّدِهِ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ
سَيِّدَيْهِ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً وقال بعضهم: مَنْ مَلَكَ بَعْضَ
الصَّاعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ, فَكَذَلِكَ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ عَبْدٍ,
أَوْ بَعْضَ كُلِّ عَبْدٍ, أَوْ أَمَةٍ مِنْ رَقِيقٍ كَثِيرٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يَمْلِكُ عَبْدًا, وَلاَ أَمَةً فَصَدَقُوا,
وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَقُلْ: يُخْرِجُهَا كُلُّ أَحَدٍ، عَنْ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ, وَإِنَّمَا قَالَ:
"لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ
صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ" فَهَؤُلاَءِ رَقِيقٌ, وَالْعَبْدُ
الْمُشْتَرَكُ رَقِيقٌ, فَالصَّدَقَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِنَصِّ الْخَبَرِ
الْمَذْكُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ, وَهَذَا اسْمٌ يَعُمُّ النَّوْعَ كُلَّهُ
وَبَعْضَهُ, وَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ, وَبِهَذَا النَّصِّ لَمْ
يَجُزْ فِي الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ نِصْفَا رَقَبَتَيْنِ, لاَِنَّهُ لاَ يَقَعُ
عَلَيْهِمَا اسْمُ "رَقَبَةٌ" وَالنَّصُّ جَاءَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ.
(6/134)
وَقَالَ
الْحَنَفِيُّونَ: مَنْ أَعْطَى نِصْفَيْ شَاتَيْنِ فِي الزَّكَاةِ أَجْزَأَتْهُ,
وَلَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ كَانَ مِنْ مَمْلُوكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ
فَصَاعِدًا فَعَلَى سَادَاتِهِ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ; فَإِنْ كَانَ عَبْدَانِ
فَصَاعِدًا، عَنْ اثْنَيْنِ فَلاَ صَدَقَةَ فِطْرٍ عَلَى الرَّقِيقِ، وَلاَ عَلَى
مَنْ يَمْلِكُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ بَعْضَ
الصَّاعِ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا
مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ, بَلْ
مَنْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ, عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ
هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي
الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
لَيْسَ زَكَاةُ الْفِطْرِ إلاَّ عَنْ مَمْلُوكٍ تَمْلِكُهُ, قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي
فِي الْمَمْلُوكِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ
الْمَالِكِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
مُخَالِفٌ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي إيجَابِهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ,
وَعَبْدٍ, صَغِيرٍ, وَكَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, وَخَالَفُوا فِيهِ الْقِيَاسَ;
لأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ وَأَسْقَطُوا
زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ.
(6/135)
707
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ
كِتَابَتِهِ فَهُوَ عَبْدٌ, يُؤَدِّي سَيِّدُهُ عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ.
فَإِنْ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ, أَوْ كَانَ عَبْدٌ
بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ, أَوْ أَمَةٌ كَذَلِكَ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
قَالَ فِيمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ
إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِمِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ مِنْهُ; وَعَلَيْهِ
أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ نَفْسِهِ بِمِقْدَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ, وَلَمْ
يَرِدْ عَلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ
مُكَاتَبِهِ.
وقال مالك: يُؤَدِّي السَّيِّدُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ وَعَنْ
مِقْدَارِ مَا يَمْلِكُ، عَنِ الَّذِي بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ وَلَيْسَ
عَلَى الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ أَنْ يُخْرِجَ بَاقِيَ الصَّاعِ،
عَنْ بَعْضِهِ الْحُرِّ.
وقال أبو حنيفة: لاَ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لاَ عَلَى
الْمُكَاتَبِ، وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ عَلَى السَّيِّدِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، عَنْ مُكَاتَبِهِ
بِرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِهِ وَرَقِيقِ امْرَأَتِهِ, وَكَانَ لَهُ
مُكَاتَبٌ فَكَانَ لاَ يُؤَدِّي عَنْهُ, وَكَانَ لاَ يَرَى عَلَى الْمُكَاتَبِ
زَكَاةً. قَالُوا: وَهَذَا صَاحِبٌ لاَ مُخَالِفَ لَهُ
(6/135)
يُعْرَفُ
مِنْ الصَّحَابَةِ.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا
الأَثَرِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمَرْءِ إخْرَاجَ
صَدَقَةِ الْفِطْرِ، عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ
فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ بَعْضُهُ حُجَّةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
فَإِنْ قَالُوا: لَعَلَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ بِإِخْرَاجِهَا، عَنْ رَقِيقِ
الْمَرْأَةِ.
قِيلَ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ الْمُكَاتَبَ كَلَّفَهُ إخْرَاجَهَا مِنْ كَسْبِهِ, كَمَا
لِلْمَرْءِ أَنْ يُكَلِّفَ ذَلِكَ عَبْدَهُ, كَمَا يُكَلِّفُهُ الضَّرِيبَةَ;
وَلَعَلَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يُخْرِجَهَا الْمُكَاتَبُ، عَنْ نَفْسِهِ;
وَلَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ, فَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ
"لَعَلَّ ".
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ جَعَلَ زَكَاةَ الْفِطْرِ
نِصْفَ صَاعٍ; أَوْ عُشْرَ صَاعٍ, أَوْ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ صَاعٍ فَقَطْ, وَهَذَا
خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا, وَأَوْجَبَهَا عَلَى بَعْضِ
إنْسَانٍ دُونَ سَائِرِهِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْفِطْرِ
فِيمَنْ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ رَقِيقٍ مِمَّنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ
عَبْدٌ, وَهَذَا مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَوْجَبَهَا عَلَى الْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالآُنْثَى,
وَالصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ, فَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ
وَبَعْضُهُ عَبْدٌ فَلَيْسَ حُرًّا, وَلاَ هُوَ أَيْضًا عَبْدٌ, وَلاَ هُوَ
رَقِيقٌ, فَسَقَطَ بِذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى مَالِكِ بَعْضِهِ عَنْهُ
شَيْءٌ, وَلَكِنَّهُ ذَكَرٌ, أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٌ, أَوْ كَبِيرٌ فَوَجَبَتْ
عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ بُدَّ بِهَذَا النَّصِّ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الْمُكَاتَبِ يُؤَدِّي بَعْضَ كِتَابَتِهِ إنَّهُ
يُؤَدِّيهَا، عَنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ لإِنَّ بَعْضَهُ حُرٌّ وَبَعْضَهُ مَمْلُوكٌ
كَمَا ذَكَرْنَا; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا،
عَنْ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا يَزِيدُ، هُوَ
ابْنُ هَارُونَ أَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ,
وَقَتَادَةَ, قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ,
وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ,
وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:
"الْمُكَاتَبُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى وَيُقَامُ عَلَيْهِ
الْحَدُّ بِمِقْدَارِ مَا عَتَقَ مِنْهُ". وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ عَلَى الْمُكَاتَبِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ, وَعَطَاءٍ: يُؤَدِّيهَا عَنْهُ سَيِّدُهُ.
(6/136)
لا
يجزئ إخراج بعض الصاع شعيرا أو بعضه تمرا و لا تجزئ قيمة أصلا
...
708 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إخْرَاجُ بَعْضِ الصَّاعِ شَعِيرًا وَبَعْضِهِ
تَمْرًا, وَلاَ تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَصْلاً;
لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالْقِيمَةُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ إلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا,
وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ رِضَاهُ, أَوْ إبْرَاؤُهُ.
(6/137)
و
ليس على الإنسان أن يخرجها عن أبيه و لا عن أمه و لا عن زوجته و لا عن ولده لا تلزمه
إلا عن نفسه
...
709 - مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ أَبِيهِ,
وَلاَ عَنْ أُمِّهِ, وَلاَ عَنْ زَوْجَتِهِ, وَلاَ عَنْ وَلَدِهِ, وَلاَ أَحَدٍ
مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إلاَّ عَنْ نَفْسِهِ,
وَرَقِيقِهِ فَقَطْ. وَيَدْخُلُ فِي: الرَّقِيقِ أُمَّهَاتُ الأَوْلاَدِ,
وَالْمُدَبَّرُونَ, غَائِبُهُمْ وَحَاضِرُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ خَادِمِهَا
الَّتِي لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهَا، وَلاَ يُخْرِجُهَا، عَنْ أَجِيرِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يُخْرِجُهَا، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَنْ أَجِيرِهِ الَّذِي
لَيْسَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً, فَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ مَعْلُومَةً فَلاَ
يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا عَنْهُ, وَلاَ عَنْ رَقِيقِ امْرَأَتِهِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَوْجَبَهَا عَلَى الزَّوْجِ، عَنْ زَوْجَتِهِ
وَخَادِمِهَا إلاَّ خَبَرًا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, ذَكَرٍ, أَوْ
أُنْثَى, مِمَّنْ تَمُونُونَ".
قال أبو محمد: وَفِي هَذَا الْمَكَانِ عَجَبٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ
لاَ يَقُولُ بِالْمُرْسَلِ, ثُمَّ أَخَذَ هَاهُنَا بِأَنْتَنِ مُرْسَلٍ فِي
الْعَالِمِ, مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ,
وَيَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ كُلِّ كَذَّابٍ, وَسَاقِطٍ; ثُمَّ تَرَكُوا هَذَا
الْخَبَرَ وَعَابُوهُ بِالإِرْسَالِ وَبِضَعْفِ رَاوِيهِ وَتَنَاقَضُوا فَقَالُوا:
لاَ يُزَكِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ زَوْجَتِهِ, وَعَلَيْهِ فُرِضَ أَنْ
يُضَحِّيَ عَنْهَا فَحَسْبُكُمْ بِهَذَا تَخْلِيطًا!!
وَأَمَّا تَقْسِيمُ اللَّيْثِ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ ثُمَّ خَالَفُوهُ;
فَلَمْ يَرَوْا أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنِ
(6/137)
الأَجِيرِ,
وَهُوَ مِمَّنْ يُمَوَّنُ.
قال أبو محمد: إيجَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ
عَلَى الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْحُرِّ, وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ,
وَالآُنْثَى: هُوَ إيجَابٌ لَهَا عَلَيْهِمْ, فَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ
إلاَّ مَنْ أَوْجَبَهُ النَّصُّ, وَهُوَ الرَّقِيقُ فَقَطْ, قَالَ تعالى: {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
قال أبو محمد: وَوَاجِبٌ عَلَى ذَاتِ الزَّوْجِ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ
نَفْسِهَا وَعَنْ رَقِيقِهَا, بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/138)
710
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا
عَنْهُمْ لاَ عَلَى سَيِّدِهِ,
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ
عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ, وَلاَ عَبْدِهِ صَدَقَةٌ إلاَّ صَدَقَةُ
الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ". فَالْعَبْدُ مُسْلِمٌ وَهُوَ رَقِيقٌ لِغَيْرِهِ,
وَلَهُ رَقِيقٌ, فَعَلَى مَنْ هُوَ لَهُ رَقِيقٌ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ;
وَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهِ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: كَيْفَ لاَ يَلْزَمُهُ، عَنْ نَفْسِهِ وَتَلْزَمُهُ، عَنْ غَيْرِهِ.
قلنا: كَمَا حَكَمَ فِي ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى
الله عليه وسلم.
ثم نقول لِلْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ بِهَذَا
حَيْثُ تُخْطِئُونَ, فَتَقُولُونَ: إنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تُخْرِجُهَا، عَنْ
نَفْسِهَا, وَعَلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَهَا، عَنْ رَقِيقِهَا حَاشَا مَنْ لاَ بُدَّ
لَهَا مِنْهُ لِخِدْمَتِهَا.
وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَا يَقُولُ الْحَنَفِيُّونَ فِي نَصْرَانِيٍّ
أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدُهُ فَحُبِسَ لِيُبَاعَ فَجَاءَ الْفِطْرُ,
عَلَى مَنْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ لاَ
تَقَعَانِ فِي قَوْلِنَا أَبَدًا; لاَِنَّهُ سَاعَةَ تَسَلُّمِ أُمِّ وَلَدِهِ
أَوْ عَبْدِهِ: عَتَقَا فِي الْوَقْتِ.
(6/138)
من
كان له عبدان فأكثر فله أن يخرج عن أحدهما تمرا و عن الآخر شعيرا صاعا صاعا
...
711 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَهُ عَبْدَانِ فَأَكْثَرُ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ، عَنْ
أَحَدِهِمَا تَمْرًا وَعَنِ الآخَرِ شَعِيرًا, صَاعًا صَاعًا.
وَإِنْ شَاءَ التَّمْرَ، عَنِ الْجَمِيعِ, وَإِنْ شَاءَ الشَّعِيرَ، عَنِ الْجَمِيعِ;
لاَِنَّهُ نَصُّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ.
(6/138)
أما
الصغار فعليهم أن يخرجها الأب و الولي عنهم
...
712 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الصِّغَارُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجَهَا الأَبُ,
وَالْوَلِيُّ عَنْهُمْ
مِنْ مَالٍ إنْ كَانَ لَهُمْ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ فَلاَ زَكَاةَ
فِطْرٍ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ, وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ.وقال أبو حنيفة: يُؤَدِّيهَا
الأَبُ، عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ لاَ مَالَ لَهُمْ; فَإِنْ كَانَ
لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمْ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ
قَالَ: وَيُؤَدِّيهَا، عَنِ الْيَتِيمِ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ, وَعَنْ
رَقِيقِ الْيَتِيمِ أَيْضًا.
وَقَالَ زُفَرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَيْسَ عَلَى الْيَتِيمِ زَكَاةُ
الْفِطْرِ, كَانَ لَهُ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ; فَإِنْ أَدَّاهَا وَصِيُّهُ
ضَمِنَهَا.
وقال مالك عَلَى الأَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ
الصِّغَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ, فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ فَهِيَ فِي
أَمْوَالِهِمْ; وَهِيَ عَلَى الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ. وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الأَبَ لاَ يُؤَدِّيهَا، عَنْ وَلَدِهِ الْكِبَارِ,
كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً, إلاَّ الدَّعْوَى: فِي أَنَّ
الْقَصْدَ بِذِكْرِ الصِّغَارِ إنَّمَا هُوَ إلَى آبَائِهِمْ لاَ إلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ
يَقْصِدْ بِالْخِطَابِ إلَيْهِمْ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ, وَإِنَّمَا
قَصَدَ إلَى غَيْرِهِمْ: فَمَنْ جَعَلَ الآبَاءَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ
سَائِرِ الأَوْلِيَاءِ, وَالأَقَارِبِ, وَالْجِيرَانِ, وَالسُّلْطَانِ!
فَإِنْ قَالُوا: لإِنَّ الأَبَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ رَجَعَ الْحَنِيفِيُّونَ إلَى
مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَيَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ فِي هَذَا أَنْ يُؤَدِّيَهَا
الأَبُ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ عَنْهُمْ, كَانَ لَهُمْ مَالٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ;
لاَِنَّهُ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ. فَوَضَحَ فَسَادُ هَذَا
الْقَوْلِ بِيَقِينٍ.
وَالْحَقُّ فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ
صلى الله عليه وسلم عَلَى: الْكَبِيرِ, وَالصَّغِيرِ, فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
حُكْمَيْهِمَا فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ, وَادَّعَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ, وَلاَ دَلَّ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". فَوَجَدْنَا مَنْ لاَ مَالَ لَهُ مِنْ كَبِيرٍ
أَوْ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَدَاءُ زَكَاةِ الْفِطْرِ; فَقَدْ صَحَّ
أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْهَا قَطُّ, وَلَمَّا كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُهَا لَمْ يَكُنْ
مَأْمُورًا بِهَا, بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام وَهِيَ لاَزِمَةٌ
لِلْيَتِيمِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ, وَإِنَّمَا قلنا: إنَّهَا لاَ تَلْزَمُهُ
بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مَحْدُودَةٌ بِوَقْتٍ مَحْدُودِ
الطَّرَفَيْنِ, بِخِلاَفِ سَائِرِ الزَّكَوَاتِ, فَلَمَّا خَرَجَ وَقْتُهَا لَمْ
يَجُزْ أَنْ تَجِبَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا وَفِي غَيْرِ وَقْتِهَا; لاَِنَّهُ
لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/139)
و
الذي لا يجد من أين يؤدي زكاة الفطر فليست عليه
...
713 - مَسْأَلَةٌ: وَاَلَّذِي لاَ يَجِدُ مِنْ أَيْنَ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْفِطْرِ
فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ،
لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ, وَلاَ تَلْزَمُهُ
وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ; لِمَا ذُكِرَ أَيْضًا.فَمَنْ قَدَرَ عَلَى
التَّمْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّعِيرِ لِغَلاَئِهِ, أَوْ قَدَرَ عَلَى
الشَّعِيرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّمْرِ لِغَلاَئِهِ: أَخْرَجَ صَاعًا، وَلاَ
بُدَّ مِنْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ, لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا.
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلاَّ عَلَى بَعْضِ صَاعٍ أَدَّاهُ، وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ
اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. وَلِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَهُوَ وَاسِعٌ لِبَعْضِ الصَّاعِ, فَهُوَ
مُكَلَّفٌ إيَّاهُ, وَلَيْسَ وَاسِعًا لِبَعْضِهِ, فَلَمْ يُكَلَّفْهُ.
وَهَذَا مِثْلُ الصَّلاَةِ, يَعْجِزُ، عَنْ بَعْضِهَا وَيَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهَا,
وَمِثْلُ الدِّينِ, يَقْدِرُ عَلَى بَعْضِهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى سَائِرِهِ.
وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ الصَّوْمِ, يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ تَمَامِ الْيَوْمِ, أَوْ
تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ;، وَلاَ مِثْلُ الرَّقَبَةِ
الْوَاجِبَةِ, وَالإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَاتِ, وَالْهَدْيِ
الْوَاجِبِ, يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى
سَائِرِهِ; فَلاَ يُجْزِئُهُ شَيْءٌ مِنْهُ.
لإِنَّ مَنْ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلاَ خِلاَفَ فِي
أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ ثُمَّ بَعْضَهُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الْيَوْمِ, وَلاَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَ
الْيَوْمِ صَائِمَ يَوْمٍ, إلاَّ حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَيُجْزِئُهُ
حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا بَعْضُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ بِتَعْوِيضِ
الصِّيَامِ مِنْ الرَّقَبَةِ إذَا لَمْ تُوجَدْ فَلَمْ يَجُزْ تَعَدِّي النَّصِّ,
وَكَانَ مُعْتِقُ بَعْضِ رَقَبَةٍ مُخَالِفًا لِمَا أُمِرَ بِهِ وَافْتُرِضَ
عَلَيْهِ مِنْ الرَّقَبَةِ التَّامَّةِ, أَوْ مِنْ الإِطْعَامِ الْمُعَوِّضِ
مِنْهَا, أَوْ الصِّيَامِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا.
وَأَمَّا بَعْضُ الشَّهْرَيْنِ فَمِنْ بَعْضِهَا, أَوْ فَرَّقَهُمَا فَلَمْ يَأْتِ
بِمَا أُمِرَ بِهِ مُتَتَابِعًا, فَهُوَ عَلَيْهِ أَوْ عَوَّضَهُ حَيْثُ جَاءَ
النَّصُّ بِالتَّعْوِيضِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّ بَعْضَ الْهَدْيِ مَعَ بَعْضِ هَدْيٍ آخَرَ لاَ يُسَمَّى
هَدْيًا, فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ; فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ حَتَّى
يَقْدِرَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا الإِطْعَامُ فَيُجْزِئُهُ مَا وَجَدَ مِنْهُ حَتَّى يَجِدَ بَاقِيَهُ;
لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الآخِرِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/140)
تجب
زكاة الفطر على السيد عن عبده المرهون و الآبق و الغائب و المغصوب
...
714 - مَسْأَلَةٌ: وَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى السَّيِّدِ، عَنْ عَبْدِهِ
الْمَرْهُونِ, وَالآبِقِ, وَالْغَائِبِ, وَالْمَغْصُوبِ,
لأَنَّهُمْ رَقِيقُهُ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ هَؤُلاَءِ.
وَلِلسَّيِّدِ إنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ أَنْ يُكَلِّفَهُ إخْرَاجَ
زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ كَسْبِهِ أَوْ مَالِهِ, لإِنَّ لَهُ انْتِزَاعَ مَالٍ
مَتَى شَاءَ, وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْخَرَاجَ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ,
فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ مَا كُلِّفَهُ
مِنْ ذَلِكَ فِيمَا شَاءَ.
(6/140)
زكاة
الفطر واجبة على المجنون إن كان له مال
...
715 - مَسْأَلَةٌ: وَالزَّكَاةُ لِلْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَجْنُونِ إنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ;
لاَِنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ, صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ.
(6/141)
من
كان فقيرا فأخذ من زكاة الفطر مقدار ما يقوم بقوت يومه و فضل له منه ما يعطى في
زكاة الفطر لزمه أن يعطيه
...
716 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَخَذَ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَوْ
غَيْرِهَا مِقْدَارَ مَا يَقُومُ بِقُوتِ يَوْمِهِ وَفَضَلَ لَهُ مِنْهُ مَا
يُعْطِي فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: لَزِمَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ
زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَلَهُ أَخْذُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, وَمَنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهُوَ غَنِيٌّ, فَإِنْ
كَانَ لَهُ أَقَلُّ فَهُوَ فَقِيرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ.
قال أبو محمد: سَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ تَعَالَى فِي هَذِهِ
الأَقْوَالِ, وَأَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْفَقِيرِ بِإِسْقَاطِ
صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْهُ إذَا كَانَ وَاجِدًا لِمِقْدَارِهَا أَوْ لِبَعْضِهِ
قَوْلٌ لاَ يَجُوزُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ, نَعْنِي بِإِسْقَاطِهَا،
عَنِ الْفَقِيرِ, وَإِنَّمَا جَاءَ النَّصُّ بِإِسْقَاطِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي
الْوُسْعِ فَقَطْ; فَإِذَا كَانَتْ فِي وُسْعِ الْفَقِيرِ فَهُوَ مُكَلَّفٌ
إيَّاهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: "عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ,
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى, صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ".
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْفَقِيرِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ
وَيُعْطِيهَا.
(6/141)
من
أراد إخراج زكاة الفطر عن ولده الصغار أو الكبار لم يجز له ذلك إلا بأن يهبها لهم
...
717 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَرَادَ إخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، عَنْ وَلَدِهِ
الصِّغَارِ أَوْ الْكِبَارِ أَوْ، عَنْ غَيْرِهِمْ: لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلاَّ
بِأَنْ يَهَبَهَا لَهُمْ,
ثُمَّ يُخْرِجَهَا، عَنِ الصَّغِيرِ, وَالْمَجْنُونِ, وَلاَ يُخْرِجَهَا عَمَّنْ
يَعْقِلُ مِنْ الْبَالِغِينَ إلاَّ بِتَوْكِيلٍ مِنْهُمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا فَرَضَهَا
عَلَيْهِ فِيمَا يَجِدُ مِمَّا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, أَوْ
يَكُونُ وَلِيُّهُ قَادِرًا عَلَى إخْرَاجِهَا مِنْهُ, وَلاَ يَكُونُ مَالُ
غَيْرِهِ مَكَانًا لاَِدَاءِ الْفَرْضِ عَنْهُ; إذْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ،
وَلاَ إجْمَاعٌ; فَإِذَا وَهَبَهَا لَهُ فَقَدْ صَارَ مَالِكًا لِمِقْدَارِهَا,
فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا, فأما مَنْ لَمْ يَبْلُغْ; ، وَلاَ يَعْقِلُ; فَلِقَوْلِ
اللَّهِ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. وَأَمَّا الْبَالِغُ
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/141)
وقت
زكاة الفطر هو أثر طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر
...
718 - مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّذِي لاَ تَجِبُ قَبْلَهُ, إنَّمَا
تَجِبُ بِدُخُولِهِ, ثُمَّ لاَ تَجِبُ بِخُرُوجِهِ: فَهُوَ إثْرَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ,
مُمْتَدًّا إلَى أَنْ تَبْيَضَّ الشَّمْسُ وَتَحِلَّ الصَّلاَةُ مِنْ ذَلِكَ
الْيَوْمِ نَفْسِهِ; فَمَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ
الْمَذْكُورِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ وُلِدَ حِينَ
ابْيِضَاضِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ
كَذَلِكَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَمَنْ مَاتَ بَيْنَ هَذَيْنِ
الْوَقْتَيْنِ أَوْ وُلِدَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ تَمَادَتْ حَيَاتُهُ وَهُوَ
مُسْلِمٌ: فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ, فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا وَلَهُ مِنْ
ابْنٍ يُؤَدِّيهَا فَهِيَ دَيْنٌ عَلَيْهِ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا مَتَى
أَدَّاهَا.
وقال الشافعي: وَقْتُهَا مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ,
فَمَنْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ أَوْ أَسْلَمَ فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ,
وَمَنْ مَاتَ فِيهَا فَهِيَ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة: وَقْتُهَا انْشِقَاقُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ, فَمَنْ
مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ, أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَلاَ زَكَاةَ فِطْرٍ عَلَيْهِ.
وقال مالك مَرَّةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ,
وَمَرَّةً قَالَ: إنَّ مَنْ وُلِدَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ
الْفِطْرِ.
قال أبو محمد أَمَّا مَنْ رَأَى وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ
مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ, وَذَلِكَ هُوَ الْفِطْرُ
مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ جُمْلَةً.
وَقَالَ الآخَرُونَ الَّذِينَ رَأَوْا وَقْتَهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ
الْفِطْرِ: إنَّ هَذَا هُوَ وَقْتُ الْفِطْرِ, لاَ مَا قَبْلَهُ; لاَِنَّهُ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ كَانَ يُفْطِرُ كَذَلِكَ ثُمَّ يُصْبِحُ صَائِمًا فَإِنَّمَا
أَفْطَرَ مِنْ صَوْمِهِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْفِطْرِ, لاَ قَبْلَهُ, وَحِينَئِذٍ
دَخَلَ وَقْتُهَا بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ رَافِعٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ
النَّاسِ إلَى الْمُصَلَّى".
(6/142)
قال
أبو محمد: فَهَذَا وَقْتُ أَدَائِهَا بِالنَّصِّ, وَخُرُوجُهُمْ إلَيْهَا إنَّمَا
هُوَ لاِِدْرَاكِهَا, وَوَقْتُ صَلاَةِ الْفِطْرِ هُوَ جَوَازُ الصَّلاَةِ
بِابْيِضَاضِ الشَّمْسِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَمَّ الْخُرُوجُ إلَى صَلاَةِ
الْفِطْرِ بِدُخُولِهِمْ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. فَوَجَدْنَا الْفِطْرَ الْمُتَيَقَّنَ
إنَّمَا هُوَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ; وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ
جَعَلَ وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ الْفِطْرِ; لاَِنَّهُ
خِلاَفُ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ عليه السلام بِأَدَائِهَا فِيهِ.
قال أبو محمد: فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَدْ وَجَبَتْ
فِي ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ لِمَنْ هِيَ لَهُ, فَهِيَ دَيْنٌ لَهُمْ, وَحَقٌّ مِنْ
حُقُوقِهِمْ, وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالٍ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا
فِي مَالِهِ, فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا أَبَدًا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ, وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُمْ, وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
فِي تَضْيِيعِهِ الْوَقْتَ, لاَ يَقْدِرُ عَلَى جَبْرِهِ إلاَّ بِالاِسْتِغْفَارِ
وَالنَّدَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَصْلاً.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إذْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِالْمَبِيتِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ
لَيْلَةً, وَثَانِيَةً, وَثَالِثَةً" : فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ,
لاَِنَّهُ لاَ تَخْلُو تِلْكَ اللَّيَالِي أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ
شَوَّالٍ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ, لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ
فِي الْخَبَرِ, وَلاَ يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
حَبَسَ صَدَقَةً وَجَبَ أَدَاؤُهَا، عَنْ أَهْلِهَا, وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَوَّالٍ
فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لَمْ يُكْمِلْ وَحَبَسَ وُجُودَ أَهْلِهَا; وَفِي
تَأْخِيرِهِ عليه الصلاة والسلام إعْطَاءَهَا بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ وَقْتَ
إخْرَاجِهَا لَمْ يَحِنْ بَعْدُ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ
فَلَمْ يُخْرِجْهَا عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ
وَقْتِهَا، وَلاَ يُجْزِئُ; وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَيَالِي شَوَّالٍ فَبِلاَ شَكٍّ
أَنَّ أَهْلَهَا لَمْ يُوجَدُوا, فَتَرَبَّصَ عليه الصلاة والسلام وُجُودَهُمْ.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
(6/143)
قسم
الصدقة
من تولى تفريق زكاة ماله أو زكاة فطره أو تولاها الإمام أو أميره
...
قَسْمُ الصَّدَقَةِ
719 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَوَلَّى تَفْرِيقَ زَكَاةِ مَالِهِ أَوْ زَكَاةِ
فِطْرِهِ أَوْ تَوَلاَّهَا الإِمَامُ أَوْ أَمِيرُهُ:
فَإِنَّ الإِمَامَ, أَوْ أَمِيرَهُ: يُفَرِّقَانِهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ
مُسْتَوِيَةٍ: لِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ,
وَلِلْفُقَرَاءِ سَهْمٌ, وَفِي الْمُكَاتَبِينَ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ سَهْمٌ,
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى سَهْمٌ, وَلاَِبْنَاءِ السَّبِيلِ سَهْمٌ,
وَلِلْعُمَّالِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا سَهْمٌ, وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
سَهْمٌ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ زَكَاةَ مَالِهِ فَفِي سِتَّةِ أَسْهُمٍ كَمَا ذَكَرْنَا,
وَيَسْقُطُ: سَهْمُ الْعُمَّالِ, وَسَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ. وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَهْلِ سَهْمٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَنْفُسٍ, إلاَّ
أَنْ لاَ يَجِدَ, فَيُعْطِي مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ أَهْلِ السِّهَامِ دُونَ بَعْضٍ, إلاَّ أَنْ
يَجِدَ, فَيُعْطِيَ مَنْ وَجَدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا كَافِرًا, وَلاَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ,
وَالْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ, وَلاَ أَحَدًا مِنْ مَوَالِيهِمْ.
فَإِنْ أَعْطَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً لَمْ يُجْزِهِ,
وَلاَ جَازَ لِلآخِذِ, وَعَلَى الآخِذِ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ, وَعَلَى
الْمُعْطِي أَنْ يُوفِيَ ذَلِكَ الَّذِي أَعْطَى فِي أَهْلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً
مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وقال بعضهم: يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ صَدَقَتَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ
مِنْهَا.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى عُمُومِ جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ
وَجَمِيعِ الْمَسَاكِينِ. فَصَحَّ أَنَّهَا فِي الْبَعْضِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا}. فَصَحَّ أَنَّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرْءُ فَهُوَ سَاقِطٌ
عَنْهُ, وَبَقِيَ عَلَيْهِ مَا اسْتَطَاعَ, لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إيفَائِهِ;
فَسَقَطَ عُمُومُ كُلِّ فَقِيرٍ وَكُلِّ مِسْكِينٍ, وَبَقِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ
مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَافِ, فَإِنْ عَجَزَ، عَنْ بَعْضِهَا سَقَطَ عَنْهُ أَيْضًا;
وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُسْقِطَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ
سَقَطَ عَنْهُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ الذُّهَيْبَةِ الَّتِي قَسَمَهَا عليه الصلاة والسلام بَيْنَ
الأَرْبَعَةِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ, وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ
الذُّهَيْبَةُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَصْلاً; لاَِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ
أَصْلاً; ، وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى عليه الصلاة والسلام الْمُؤَلَّفَةُ
قُلُوبُهُمْ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ, بَلْ قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ
حُنَيْنٍ.
وَذَكَرُوا حَدِيثَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(6/144)
أَعْطَاهُ
صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مُرْسَلٌ, وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ,
لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ
سَائِرَ الأَصْنَافِ مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ.
وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَدْ سَقَطَ
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ, بَلْ هُمْ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مَا كَانُوا,
وَإِنَّمَا يَسْقُطُونَ هُمْ وَالْعَامِلُونَ إذَا تَوَلَّى الْمَرْءُ قِسْمَةَ
صَدَقَةِ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ عَامِلُونَ عَلَيْهَا, وَأَمْرُ
الْمُؤَلَّفَةِ إلَى الإِمَامِ لاَ إلَى غَيْرِهِ.
قال أبو محمد: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَمَرَ لِقَوْمٍ بِمَالٍ
وَسَمَّاهُمْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ,
فَمِنْ الْمُصِيبَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ أَمْرَ النَّاسِ أَوْكَدُ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ تَعَالَى!
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ،
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حدثنا
يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا رِفَاعَةُ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ بَعْضَ
الآُمَرَاءِ اسْتَعْمَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَلَى صَدَقَةِ الْمَاشِيَةِ,
فَأَتَاهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَافِعٌ: "إنَّ عَهْدِي
بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ وَإِنِّي جَزَيْتُهَا ثَمَانِيَةَ
أَجْزَاءٍ فَقَسَّمْتُهَا, وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَصْنَعُ".
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ: ضَعُوهَا
مَوَاضِعَهَا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ فِي نَصِيبِ الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ رَدُّهُ عَلَى الآخَرِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: ضَعْهَا حَيْثُ أَمَرَك اللَّهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ,
وَرَافِعٍ, كَمَا أَوْرَدْنَا, وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الثَّانِي، عَنْ حُذَيْفَةَ;
وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمَا.
(6/145)
وَأَمَّا
قَوْلُنَا: لاَ يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إلاَّ أَنْ لاَ
يَجِدَ: فَلاَِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ: لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا,
وَلاَ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ, وَلِلتَّثْنِيَةِ بِنِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ, تَقُولُ:
مِسْكِينٌ لِلْوَاحِدِ, وَمِسْكِينَانِ لِلاِثْنَيْنِ, وَمَسَاكِينُ
لِلثَّلاَثَةِ, فَصَاعِدًا, وَكَذَلِكَ اسْمُ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الآيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا أَنْ لاَ يُعْطِيَ كَافِرًا فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا
الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ
مَخْلَدٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ صَيْفِي، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِي حَدِيثِ:
"فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ
أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ".
فَإِنَّمَا جَعَلَهَا عليه الصلاة والسلام لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ.
وَأَمَّا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَلِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ لَهُ وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: "إنَّ
هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ الْقَوْمِ, وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ
لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ".
قال أبو محمد: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي: مَنْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ.
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
فَقَطْ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِهَاشِمٍ مِنْ غَيْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ,
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ بِيَقِينٍ, لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِعَبْدِ
اللَّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عليه
الصلاة والسلام أَهْلٌ إلاَّ وَلَدُ الْعَبَّاسِ, وَأَبِي طَالِبٍ, وَالْحَارِثِ;
وَأَبِي لَهَبٍ: بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ, وَبَنُو
الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ وَمَوَالِيهِمْ.
(6/146)
وَقَالَ
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ: آلُ مُحَمَّدٍ: جَمِيعُ قُرَيْشٍ,
وَلَيْسَ الْمَوَالِي مِنْهُمْ.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ.
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ قَالَ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ،
حدثنا يَحْيَى، وَ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا
الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ،
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ
بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ, فَأَرَادَ أَبُو رَافِعٍ أَنْ يَتْبَعَهُ,
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ
لَنَا, وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ".
فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ الْمَوَالِيَ مِنْ حُكْمِهِمْ فِي تَحْرِيمِ
الصَّدَقَةِ.
وَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، حدثنا أَبُو دَاوُد
السِّجِسْتَانِيُّ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حدثنا
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ
يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
يُكَلِّمَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمْسِ
بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ, قَسَمْتَ لاِِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا,
وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ, وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ
وَاحِدٌ".
فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِمْ فِي شَيْءٍ
أَصْلاً; لأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه الصلاة والسلام;
فَصَحَّ أَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ, وَإِذْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ فَالصَّدَقَةُ
عَلَيْهِمْ حَرَامٌ; فَيَخْرُجُ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ, وَبَنُو نَوْفَلٍ ابْنَيْ
عَبْدِ مَنَافٍ, وَسَائِرُ قُرَيْشٍ، عَنْ هَذَيْنِ: الْبَطْنَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَلاَ يَحِلُّ لِهَذَيْنِ الْبَطْنَيْنِ صَدَقَةُ فَرْضٍ، وَلاَ تَطَوُّعٍ
أَصْلاً, لِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِمُحَمَّدٍ، وَلاَ لاِلِ مُحَمَّدٍ" فَسَوَّى بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا مَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَدَقَةٍ مُطْلَقَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ
لَهُمْ, كَالْهِبَةِ, وَالْعَطِيَّةِ, وَالْهَدِيَّةِ, وَالنُّحْلِ, وَالْحَبْسِ,
وَالصِّلَةِ, وَالْبِرِّ, وَغَيْرِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ تُجْزِئُ إنْ وُضِعَتْ فِي يَدِ مَنْ لاَ تَجُوزُ لَهُ
فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا لِقَوْمٍ خَصَّهُمْ بِهَا; فَصَارَ
حَقُّهُمْ فِيهَا; فَمَنْ أَعْطَى مِنْهَا غَيْرَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ
(6/147)
تَعَالَى بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَوَجَبَ عَلَى الْمُعْطِي إيصَالُ مَا عَلَيْهِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ, وَوَجَبَ عَلَى الآخِذِ رَدُّ مَا أَخَذَ بِغَيْرِ حَقٍّ. قَالَ تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
(6/148)
الفقراء
هم الذين لا شيء لهم أصلا و المساكين هم الذين لهم شيء لا يقوم بهم
...
720 - مَسْأَلَةٌ: الْفُقَرَاءُ هُمْ الَّذِينَ لاَ شَيْءَ لَهُمْ أَصْلاً.
وَالْمَسَاكِينُ: هُمْ الَّذِينَ لَهُمْ شَيْءٌ لاَ يَقُومُ بِهِمْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُوسِرٌ, أَوْ غَنِيٌّ, أَوْ فَقِيرٌ, أَوْ
مِسْكِينٌ, فِي الأَسْمَاءِ. وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِهِ. وَمَنْ لاَ
يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ. وَمَنْ لَهُ مَا لاَ
يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْهُ. وَمَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ
مَعْلُومَةٌ بِالْحِسِّ. فَالْمُوسِرُ بِلاَ خِلاَفٍ: هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ
مَالُهُ، عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ عَلَى السَّعَةِ. وَالْغَنِيُّ: هُوَ
الَّذِي لاَ يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ لاَ يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ;
لاَِنَّهُ فِي غِنًى، عَنْ غَيْرِهِ. وَكُلُّ مُوسِرٍ غَنِيٌّ, وَلَيْسَ كُلُّ
غَنِيٍّ مُوسِرًا.
فإن قيل: لِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمِسْكِينِ, وَالْفَقِيرِ.
قلنا: لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
فِي شَيْئَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا: إنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ,
إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةِ حِسٍّ; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَسَاكِينَ وَلَهُمْ
سَفِينَةٌ; وَلَوْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِمْ لَكَانُوا أَغْنِيَاءَ بِلاَ خِلاَفٍ.
فَصَحَّ اسْمُ الْمِسْكِينِ بِالنَّصِّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَبَقِيَ
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ أَصْلاً; وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
مِنْ الأَسْمَاءِ إلاَّ الْفَقِيرُ, فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنَّهُ ذَاكَ.
وَرُوِّينَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حدثنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ,
وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ", قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى, وَلاَ يَفْطِنُ
لِحَاجَتِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ".
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى إلاَّ
أَنَّ لَهُ شَيْئًا لاَ يَقُومُ لَهُ, فَهُوَ يَصْبِرُ وَيَنْطَوِي, وَهُوَ
مُحْتَاجٌ، وَلاَ يَسْأَلُ.
وَقَالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فَصَحَّ أَنَّ
(6/148)
الْفَقِيرَ
الَّذِي لاَ مَالَ لَهُ أَصْلاً; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ
عَلَى بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}.
قلنا: صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ
إزَارًا وَرِدَاءً خَلِقَيْنِ غَسِيلَيْنِ لاَ يُسَاوِيَانِ دِرْهَمًا, فَمَنْ
رَآهُ كَذَلِكَ ظَنَّهُ غَنِيًّا, وَلاَ يُعَدُّ مَالاً مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ
مِمَّا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ, إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ وَذَكَرُوا قَوْلَ
الشَّاعِرِ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ
وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لإِنَّ مَنْ كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ
فَهُوَ غَنِيٌّ, وَإِنَّمَا صَارَ فَقِيرًا إذَا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ.
وَهُوَ قَوْلُنَا وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا: هُمْ الْعُمَّالُ الْخَارِجُونَ مِنْ
عِنْدِ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ, وَهُمْ الْمُصَدِّقُونَ, السُّعَاةُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ اتَّفَقَتْ الآُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ
قَالَ: أَنَا عَامِلٌ عَامِلاً, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُوَلِّيَهُ الإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا; ، وَلاَ يُجْزِئُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ, وَهِيَ مَظْلِمَةٌ,
إلاَّ أَنْ يَكُونَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا, فَتُجْزِئُ حِينَئِذٍ; لاَِنَّهَا
قَدْ وَصَلَتْ إلَى أَهْلِهَا.
وَأَمَّا عَامِلُ الإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ
بِدَفْعِهَا إلَيْهِ; وَلَيْسَ عَلَيْنَا مَا يَفْعَلُ فِيهَا; لاَِنَّهُ وَكِيلٌ,
كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَوَكِيلِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: هُمْ قَوْمٌ لَهُمْ قُوَّةٌ لاَ يُوثَقُ
بِنَصِيحَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَلَّفُونَ بِأَنْ يُعْطَوْا مِنْ
الصَّدَقَاتِ, وَمِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ.
وَالرِّقَابُ: هُمْ الْمُكَاتَبُونَ, وَالْعُتَقَاءُ; فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَوْا
مِنْ الزَّكَاةِ.
وقال مالك: لاَ يُعْطَى مِنْهَا الْمُكَاتَبُ.
وَقَوْلُ غَيْرِهِ: يُعْطَى مِنْهَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِتَابَتَهُ.
(6/149)
وَقَالَ
أبو محمد: وَهَذَانِ قَوْلاَنِ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِمَا.
وَبِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيُّ.
وَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا مُكَاتَبُ الْهَاشِمِيِّ, وَالْمُطَّلِبِيِّ;
لاَِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمَا, وَلاَ مَوْلًى لَهُمَا مَا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الإِمَامُ مِنْ الزَّكَاةِ رِقَابًا فَوَلاَؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ
لاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلاَ مِنْ مَالٍ بَاقٍ فِي
مِلْكِ الْمُعْطِي الزَّكَاةَ.
فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَرْءُ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ فَوَلاَؤُهَا لَهُ; لاَِنَّهُ
أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ, وَعَبْدِ نَفْسِهِ; وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:
"إنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك.
فإن قيل: إنَّهُ إنْ مَاتَ رَجَعَ مِيرَاثُهُ إلَى سَيِّدِهِ.
قلنا: نَعَمْ هَذَا حَسَنٌ, إذَا بَلَغَتْ الزَّكَاةُ مَحَلَّهَا فَرُجُوعُهَا
بِالْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ حَسَنٌ, وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ مِنْ
زَكَاتِهِ عَلَى قَرِيبٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ فَوَجَبَ مِيرَاثُهُ لِلْمُعْطِي:
إنَّهُ لَهُ حَلاَلٌ, وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَيْنُ زَكَاتِهِ.
وَالْغَارِمُونَ: هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لاَ تَفِي أَمْوَالُهُمْ بِهَا,
أَوْ مَنْ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِهَا. فأما
مَنْ لَهُ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَلاَ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ غَارِمًا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوَرٍ، حدثنا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هَارُونِ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ
نُعَيْمٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ قَالَ: تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ:
"أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا
يَا قَبِيصَةُ إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ إلاَّ لاَِحَدِ ثَلاَثَةٍ رَجُلٍ
تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ
عَيْشٍ", أَوْ قَالَ: "سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
(6/150)
وَأَمَّا
سَبِيلُ اللَّهِ فَهُوَ الْجِهَادُ بِحَقٍّ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابْنُ السُّلَيْمِ، حدثنا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ،
حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حدثنا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ, أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا, أَوْ لِغَارِمٍ, أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا
بِمَالِهِ, أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى
الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ".
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ، عَنْ غَيْرِ مَعْمَرٍ فَأَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ,
وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ مِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مَعْمَرٌ, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ
يَحِلُّ تَرْكُهَا.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَجَّ
مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا فِي
الْحَجِّ.
قلنا: نَعَمْ, وَكُلُّ فِعْلِ خَيْرٍ فَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, إلاَّ
أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ
الْبِرِّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ إلاَّ حَيْثُ
بَيَّنَ النَّصُّ, وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ مَنْ خَرَجَ فِي غير مَعْصِيَةٍ فَاحْتَاجَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ فِي الْحَجِّ وَأَنْ
يُعْتِقَ مِنْهَا النَّسَمَةَ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ,
وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالْحَنَفِيُّونَ: صَاحِبًا, لاَ يُعْرَفُ مِنْهُمْ لَهُ
مُخَالِفٌ.
(6/151)
جائز
أن يعطي المرء منها مكاتبه و مكاتب غيره
...
721 - مَسْأَلَةٌ: وَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ مِنْهَا مُكَاتَبَهُ
وَمُكَاتَبَ غَيْرِهِ,
لاَِنَّهُمَا مِنْ الْبِرِّ, وَالْعَبْدُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي يَظْلِمُهُ
سَيِّدُهُ، وَلاَ يُعْطِيهِ حَقَّهُ; لاَِنَّهُ مِسْكِينٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ أَنَّهُ: أَجَازَ ذَلِكَ.
وَمَنْ كَانَ أَبُوهُ; أَوْ أُمُّهُ; أَوْ ابْنُهُ, أَوْ إخْوَتُهُ, أَوْ
امْرَأَتُهُ مِنْ الْغَارِمِينَ, أَوْ غَزَوْا فِي سَبِيلِ اللَّهِ; أَوْ كَانُوا
مُكَاتَبِينَ: جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ صَدَقَتِهِ الْفَرْضَ; لاَِنَّهُ
لَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاءُ دُيُونِهِمْ، وَلاَ عَوْنُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ
وَالْغَزْوِ وَكَمَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إنْ كَانُوا فُقَرَاءَ, وَلَمْ
يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَوْصَى عُمَرَ فَقَالَ: مَنْ أَدَّى
الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ زَكَاةٌ, وَلَوْ تَصَدَّقَ
بِالدُّنْيَا جَمِيعِهَا.
وَعَنِ الْحَسَنِ: لاَ تُجْزِئُ حَتَّى يَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/151)
722
- مَسْأَلَةٌ: وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاتِهَا; إنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ السِّهَامِ,
صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَفْتَى زَيْنَبَ
امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ إذْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَسَأَلَتْهُ: أَيَسَعُهَا
أَنْ تَضَعَ صَدَقَتَهَا فِي زَوْجِهَا, وَفِي بَنِي أَخٍ لَهَا يَتَامَى
فَأَخْبَرَهَا عليه الصلاة والسلام "أَنَّ لَهَا أَجْرَيْنِ: أَجْرَ
الصَّدَقَةِ وَأَجْرَ الْقَرَابَةِ".
(6/152)
من
كان له مال مما تجب فيه الصدقة و هو لا يقوم ما معه بعولته فهو مسكين
...
723 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ
الصَّدَقَةُ,
كَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعِينَ مِثْقَالاً أَوْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ أَوْ
أَرْبَعِينَ شَاةً أَوْ خَمْسِينَ بَقَرَةً, أَوْ أَصَابَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ
بُرٍّ, أَوْ شَعِيرٍ, أَوْ تَمْرٍ وَهُوَ لاَ يَقُومُ مَا مَعَهُ بِعَوْلَتِهِ
لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ أَوْ لِغَلاَءِ السِّعْرِ: فَهُوَ مِسْكِينٌ, يُعْطَى مِنْ
الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ, وَتُؤْخَذُ مِنْهُ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ مِنْ مَالِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالَ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ, أَوْ
بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا, أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْغِنَى بِقُوتِ الْيَوْمِ بِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ
فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ", فَقِيلَ: وَمَا حَدُّ الْغِنَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ".
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: "إنْ يَكُنْ عِنْدَ أَهْلِكَ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ
مَا يُعَشِّيهِمْ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَجُلٍ،
عَنْ أَبِي كُلَيْبٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلاَّمٍ الْحَبَشِيِّ، عَنْ
سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
سَأَلَ مَسْأَلَةً يَتَكَثَّرُ بِهَا، عَنْ غِنًى فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ
النَّارِ", فَقِيلَ: مَا الْغِنَى قَالَ: "غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ, لإِنَّ أَبَا كَبْشَةَ السَّلُولِيَّ مَجْهُولٌ
وَابْنَ لَهِيعَةَ سَاقِطٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
(6/152)
عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ
عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا".
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
الرِّجَالِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ
أَلْحَفَ". قَالَ: "وَكَانَتْ الآُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهَا: إنْ كَانَتْ لَكِ
أُوقِيَّةٌ فَلاَ تَحِلُّ لَكِ الصَّدَقَةُ, قَالَ مَيْمُونُ: وَالآُوقِيَّةُ
حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: الأَوَّلُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ, وَلاَ يُدْرَى صِحَّةُ صُحْبَتِهِ,
وَالثَّانِي، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُقَلَّدِينَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي
تَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ النَّاكِحِ فِي الأَبَدِ,
وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ، عَنْ ذَلِكَ, وَفِي سَائِرِ مَا يَدَّعُونَ أَنَّ خِلاَفَهُ
فِيهِ لاَ يَحِلُّ كَحَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ, وَتَأْجِيلِ الْعِنِّينِ سَنَةً:
أَنْ يُقَلِّدُوهُ هَاهُنَا, وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيُّونَ, وَلَكِنْ لاَ يُبَالُونَ
بِالتَّنَاقُضِ!
وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا
يُغْنِيهِ جَاءَتْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ", وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا يُغْنِيهِ. قَالَ:
"خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ" قَالَ سُفْيَانُ:
وَسَمِعْتُ زُبَيْدًا يُحَدِّثُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ
أَبِيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ, وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ,
قَالَ مَنْ حَدَّثَهُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ
(6/153)
ابْنُ
عَطِيَّةَ: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَقَالَ الْحَكِيمُ: عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ; لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ
خَمْسُونَ دِرْهَمًا, قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَوْ عِدْلُهَا مِنْ
الذَّهَبِ.
وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَالْحَسَنُ
بْنُ حَيٍّ.
قال أبو محمد: حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ سَاقِطٌ, وَلَمْ يُسْنِدْهُ زُبَيْدٌ, وَلاَ
حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ
وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ
وَالْمُعَظِّمِينَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ, وَالْمُحْتَجِّينَ بِشَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ فِي رَدِّ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَنَّ
الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا: أَنْ لاَ
يَخْرُجُوا، عَنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ; لاَِنَّهُ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خِلاَفٌ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ,
وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَسَعْدٍ, وَعَلِيٍّ، رضي الله عنهم،, مَعَ مَا فِيهِ مِنْ
الْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا مَنْ حَدَّ الْغِنَى بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَهُوَ أَسْقَطُ الأَقْوَالِ كُلِّهَا لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
إلاَّ أَنْ قَالُوا: إنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ
عَلَى الْفُقَرَاءِ, فَهَذَا غَنِيٌّ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالزَّكَاةِ عَلَى مَنْ أَصَابَ سُنْبُلَةً
فَمَا فَوْقَهَا, أَوْ مَنْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الإِبِلِ; أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً,
فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدَّ الْغِنَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ,
دُونَ السُّنْبُلَةِ; أَوْ دُونَ خَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ دُونَ أَرْبَعِينَ
شَاةً, وَكُلُّ ذَلِكَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَهَذَا هَوَسٌ مُفْرِطٌ.
وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: مَنْ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ تَبْلُغُ فِيهِ الزَّكَاةُ
(6/154)
أَخَذَ
مِنْ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ لَهُ الدُّورُ الْعَظِيمَةُ,
وَالْجَوْهَرُ، وَلاَ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا يَحِلُّ
لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: "تُؤْخَذُ مِنْ
أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" دَلِيلٌ، وَلاَ نَصٌّ
بِأَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تُؤْخَذُ إلاَّ مِنْ غَنِيٍّ، وَلاَ تُرَدُّ إلاَّ عَلَى
فَقِيرٍ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدُّ عَلَى
الْفُقَرَاءِ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَتُؤْخَذُ أَيْضًا بِنُصُوصٍ أُخَرَ مِنْ الْمَسَاكِينِ
الَّذِينَ لَيْسُوا أَغْنِيَاءَ, وَتُرَدُّ بِتِلْكَ النُّصُوصِ عَلَى أَغْنِيَاءَ
كَثِيرٍ, كَالْعَامِلِينَ; وَالْغَارِمِينَ; وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ,
وَابْنِ السَّبِيلِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. فَهَذِهِ خَمْسُ
طَبَقَاتٍ أَغْنِيَاءَ, لَهُمْ حَقٌّ فِي الصَّدَقَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِهِ
بَيْنَهُمْ إذْ يَقُولُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلَى آخِرِ الآيَةِ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفُقَرَاءَ
وَالْمَسَاكِينَ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ فَقِيرًا, وَلاَ مِسْكِينًا.
وَتُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إلاَّ خَمْسٌ
مِنْ الإِبِلِ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ مِائَتَا
دِرْهَمٍ, وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ الْعِيَالِ, وَمِمَّنْ لَمْ يُصِبْ إلاَّ خَمْسَةَ
أَوْسُقٍ لَعَلَّهَا لاَ تُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلَهُ عَشَرَةٌ مِنْ
الْعِيَالِ فِي عَامٍ سُنَّةً.
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ, وَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا
الْقَوْلِ الَّذِي لاَ يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
قَالَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصٍ، هُوَ ابْنُ
غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ: إذَا أَعْطَيْتُمْ فَأَغْنُوا يَعْنِي مِنْ الصَّدَقَةِ, وَلاَ
نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ خِلاَفًا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ مَنْ
لَهُ الدَّارُ, وَالْخَادِمُ, إذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يُعْطَى مِنْهَا مَنْ لَهُ الْفَرَسُ, وَالدَّارُ;
وَالْخَادِمُ.
وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ: يُعْطَى مَنْ لَهُ الْعَطَاءُ مِنْ الدِّيوَانِ
وَلَهُ فَرَسٌ.
قال أبو محمد: وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْكَثِيرُ جِدًّا وَالْقَلِيلُ, لاَ
حَدَّ فِي ذَلِكَ, إذْ لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.
(6/155)
إظهار
الصدقة من غير أن ينوي بذلك رياء حسن و إخفاء كل ذلك أفضل
...
724 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: إظْهَارُ الصَّدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ بِذَلِكَ رِيَاءً: حَسَنٌ, وَإِخْفَاءُ كُلِّ ذَلِكَ
أَفْضَلُ,
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وقال مالك: إعْلاَنُ الْفَرْضِ أَفْضَلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فَرْقٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
فَإِنْ قَالُوا: نَقِيسُ ذَلِكَ عَلَى صَلاَةِ الْفَرْضِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ
بَاطِلٌ; فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ حَقٌّ, فَأَذِّنُوا لِلزَّكَاةِ كَمَا يُؤَذَّنُ
لِلصَّلاَةِ وَمِنْ الصَّلاَةِ غَيْرِ الْفَرْضِ مَا يُعْلَنُ بِهَا
كَالْعِيدَيْنِ, وَالْكُسُوفِ, وَرَكْعَتَيْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ, فَقِيسُوا
صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى ذَلِكَ.
(6/156)
فرض
على الأغنياء من أهل كل بلدان يقوموا بفقرائهم
...
725 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَفُرِضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ
بَلَدٍ أَنْ يَقُومُوا بِفُقَرَائِهِمْ,
وَيُجْبِرُهُمْ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ, إنْ لَمْ تَقُمْ الزَّكَوَاتُ بِهِمْ,
وَلاَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ, فَيُقَامُ لَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ
مِنْ الْقُوتِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ, وَمِنْ اللِّبَاسِ لِلشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ, وَبِمَسْكَنٍ يَكُنُّهُمْ مِنْ الْمَطَرِ,
وَالصَّيْفِ وَالشَّمْسِ, وَعُيُونِ الْمَارَّةِ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. وَقَالَ تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ
إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
فَأَوْجَبَ تَعَالَى حَقَّ الْمَسَاكِينِ, وَابْنِ السَّبِيلِ, وَمَا مَلَكَتْ
الْيَمِينُ مَعَ حَقِّ ذِي الْقُرْبَى وَافْتَرَضَ الإِحْسَانَ إلَى الأَبَوَيْنِ,
وَذِي الْقُرْبَى, وَالْمَسَاكِينِ, وَالْجَارِ, وَمَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ,
وَالإِحْسَانُ يَقْتَضِي كُلَّ مَا ذَكَرْنَا, وَمَنْعُهُ إسَاءَةٌ بِلاَ شَكٍّ.
(6/156)
وَقَالَ
تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ
نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}.
فَقَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى إطْعَامَ الْمِسْكِينِ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ.
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ، أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ
اللَّهُ".
قال أبو محمد: وَمَنْ كَانَ عَلَى فَضْلَةٍ وَرَأَى الْمُسْلِمَ أَخَاهُ جَائِعًا
عُرْيَانَ ضَائِعًا فَلَمْ يُغِثْهُ: فَمَا رَحِمَهُ بِلاَ شَكٍّ.
وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ, وَقَيْسُ بْنُ أَبِي
حَاتِمٍ, وَأَبِي ظَبْيَانَ وَزَيْدِ بْنِ وَهْبٍ, وَكُلُّهُمْ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى أَيْضًا مَعْنَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ هُوَ التَّبُوذَكِيُّ، حدثنا الْمُعْتَمِرُ، هُوَ ابْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، حدثنا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةَ
كَانُوا نَاسًا فُقَرَاءَ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ, وَمَنْ
كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ"
أَوْ كَمَا قَالَ.
فَهَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ
يُسْلِمُهُ".
قال أبو محمد: مَنْ تَرَكَهُ يَجُوعُ وَيَعْرَى وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إطْعَامِهِ
وَكِسْوَتِهِ فَقَدْ أَسْلَمَهُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ،
حدثنا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ
ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ
(6/157)
بِهِ
عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ, وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ
عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ, قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ,
حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لاَِحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ".
قال أبو محمد: وَهَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، يُخْبِرُ بِذَلِكَ
أَبُو سَعِيدٍ, وَبِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ نَقُولُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ".
وَالنُّصُوصُ مِنْ الْقُرْآنِ, وَالأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ فِي هَذَا تَكْثُرُ
جِدًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ
سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: لَوْ اسْتَقْبَلْتُ
مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لاََخَذْت فُضُولَ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ
فَقَسَّمْتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.
هَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْجَلاَلَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ فِي
أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي فُقَرَاءَهُمْ, فَإِنْ جَاعُوا أَوْ عَرُوا
وَجَهَدُوا فَمَنَعَ الأَغْنِيَاءُ, وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ
يُحَاسِبَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: فِي مَالِكَ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُمْ قَالُوا كُلُّهُمْ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: إنْ كُنْت تَسْأَلُ فِي دَمٍ
مُوجِعٍ, أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ فَقَدْ وَجَبَ حَقُّكَ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَثَلاَثِمِائَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ زَادَهُمْ فَنِيَ فَأَمَرَهُمْ أَبُو
عُبَيْدَةَ فَجَمَعُوا أَزْوَادَهُمْ فِي مِزْوَدَيْنِ, وَجَعَلَ يَقُوتُهُمْ
إيَّاهَا عَلَى السَّوَاءِ.
فَهَذَا إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, لاَ
مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ.
وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وطَاوُوس, وَغَيْرِهِمْ, كُلُّهُمْ
يَقُولُ: فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلاَفَ هَذَا, إلاَّ عَنِ
الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, فَإِنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ حَقٍّ
فِي الْمَالِ.
(6/158)
قال
أبو محمد: وَمَا رِوَايَةُ الضَّحَّاكِ حُجَّةٌ فَكَيْفَ رَأْيُهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهَذَا أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَيَرَى فِي
الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ, مِنْهَا النَّفَقَاتُ عَلَى الأَبَوَيْنِ
الْمُحْتَاجَيْنِ, وَعَلَى الزَّوْجَةِ, وَعَلَى الرَّقِيقِ, وَعَلَى
الْحَيَوَانِ, وَالدُّيُونِ, وَالآُرُوشِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ!!
فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا أَبُو
الأَحْوَصِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَدَّى زَكَاةَ
مَالِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نَسَخَتْهَا: الْعُشْرُ. وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
فَإِنَّ رِوَايَةَ مِقْسَمٍ سَاقِطَةٌ لِضَعْفِهِ; وَلَيْسَ فِيهَا وَلَوْ صَحَّتْ
خِلاَفٌ لِقَوْلِنَا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ فَإِنَّمَا هِيَ أَنْ لاَ يَتَصَدَّقَ تَطَوُّعًا.
وَهَذَا صَحِيحٌ
وَأَمَّا الْقِيَامُ بِالْمَجْهُودِ فَفَرْضٌ وَدَيْنٌ, وَلَيْسَ صَدَقَةَ
تَطَوُّعٍ.
وَيَقُولُونَ: مَنْ عَطِشَ فَخَافَ الْمَوْتَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ
الْمَاءَ حَيْثُ وَجَدَهُ وَأَنْ يُقَاتِلَ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا أَبَاحُوا لَهُ مِنْ الْقِتَالِ عَلَى
مَا يَدْفَعُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْمَوْتَ مِنْ الْعَطَشِ, وَبَيْنَ مَا
مَنَعُوهُ مِنْ الْقِتَالِ، عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْهَا الْمَوْتَ
مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ. وَهَذَا خِلاَفٌ لِلإِجْمَاعِ, وَلِلْقُرْآنِ,
وَلِلسُّنَنِ, وَلِلْقِيَاسِ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اُضْطُرَّ أَنْ يَأْكُلَ مَيْتَةً, أَوْ
لَحْمَ خِنْزِيرٍ وَهُوَ يَجِدُ طَعَامًا فِيهِ فَضْلٌ، عَنْ صَاحِبِهِ,
لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ; لإِنَّ فَرْضًا عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ إطْعَامُ
الْجَائِعِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُضْطَرٍّ إلَى الْمَيْتَةِ،
وَلاَ إلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، عَنْ ذَلِكَ, فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ,
وَإِنْ قَتَلَ الْمَانِعَ فَإِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ; لاَِنَّهُ مَنَعَ حَقًّا,
وَهُوَ طَائِفَةٌ بَاغِيَةٌ, قَالَ تعالى: {فإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى
الآُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}
وَمَانِعُ الْحَقِّ بَاغٍ عَلَى أَخِيهِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ; وَبِهَذَا قَاتَلَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه مَانِعَ الزَّكَاةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الزَّكَاةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ عَوْنِهِ.
(6/159)
كتاب
الصيام
أحكام النية في الصوم
الصيام قسمان فرض و تطوع
...
بَسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الصِّيَامِ
726 - مَسْأَلَةٌ: الصِّيَامُ قِسْمَانِ فَرْضٌ, وَتَطَوُّعٌ,
وَهَذَا إجْمَاعُ حَقٍّ مُتَيَقَّنٍ, وَلاَ سَبِيلَ فِي بِنْيَةِ الْعَقْلِ إلَى
قِسْمٍ ثَالِثٍ.
(6/160)
من
الفروض صيام شهر رمضان
...
727 - مَسْأَلَةٌ: فَمِنْ الْفَرْضِ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ,
الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ, وَشَوَّالٍ, فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ مُقِيمٍ, حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا, ذَكَرًا أَوْ
أُنْثَى, إلاَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ, فَلاَ يَصُومَانِ أَيَّامَ حَيْضِهِمَا
أَلْبَتَّةَ, وَلاَ أَيَّامَ نَفَسِهِمَا, وَيَقْضِيَانِ صِيَامَ تِلْكَ
الأَيَّامِ وَهَذَا كُلُّهُ فَرْضٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.
(6/160)
لا
يجزئ الصيام إلا بالنية
...
728 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صِيَامٌ أَصْلاً رَمَضَانَ كَانَ أَوْ غَيْرَهُ
إلاَّ بِنِيَّةٍ
مُجَدَّدَةٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِصَوْمِ الْيَوْمِ الْمُقْبِلِ, فَمَنْ تَعَمَّدَ
تَرْكَ النِّيَّةِ بَطَلَ صَوْمُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَصَحَّ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ
فِي الدِّينِ إلاَّ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالإِخْلاَصِ لَهُ فِيهَا
بِأَنَّهَا دِينُهُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ
عَمَلَ إلاَّ بِنِيَّةٍ لَهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ إلاَّ مَا نَوَى. فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فَلَهُ صَوْمٌ, وَمَنْ لَمْ يَنْوِهِ فَلَيْسَ لَهُ
صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ: أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ;
وَتَعَمُّدِ الْقَيْءِ, وَعَنِ الْجِمَاعِ, وَعَنِ الْمَعَاصِي, فَكُلُّ مَنْ
أَمْسَكَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَوْ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بِلاَ نِيَّةٍ
لِلصَّوْمِ لَكَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ صَائِمًا, وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُ أَحَدٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الإِجْمَاعِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ
صَامَ وَنَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَلاَ نَصَّ، وَلاَ
إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ مَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْلِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا.
(6/160)
من
نسي أن ينوي من الليل في رمضان فينوي حين ذكر
...
729 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ
فَأَيُّ وَقْتٍ ذَكَرَ مِنْ النَّهَارِ التَّالِي لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ سَوَاءٌ
أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ وَقْتِهِ إذَا ذَكَرَ, وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ
الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ ذَلِكَ تَامًّا, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ,
وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ النَّهَارِ, إلاَّ مِقْدَارُ النِّيَّةِ فَقَطْ,
فَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَذَلِكَ فَلاَ صَوْمَ لَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى
مُتَعَمِّدٌ لاِِبْطَالِ صَوْمِهِ, وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِأَنَّ هِلاَلَ رَمَضَانَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ
فَسَوَاءٌ أَكَلَ وَشَرِبَ وَوَطِئَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي
أَيِّ وَقْتٍ جَاءَ الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا
ذَكَرْنَا فَإِنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ سَاعَةً صَحَّ الْخَبَرُ عِنْدَهُ,
وَيُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ, وَيُجْزِئُهُ صَوْمُهُ, وَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَوْمُهُ بَاطِلٌ, كَمَا قلنا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا: مَنْ عَلَيْهِ صَوْمُ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ
فَنَسِيَ النِّيَّةَ وَذَكَرَ بِالنَّهَارِ فَكَمَا قلنا، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الشَّهْرَيْنِ
الْمُتَتَابِعَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ بِالنَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي رَمَضَانَ, أَوْ فِي
الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ, أَوْ فِي نَذْرٍ
(6/164)
مُعَيَّنٍ
فَلَمْ يَنْتَبِهْ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَلَوْ فِي آخِرِهِ كَمَا قلنا فَكَمَا قلنا أَيْضًا آنِفًا
سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ فِي شَيْءٍ أَصْلاً.
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَلاَ
اسْتَيْقَظَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ: فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَصُمْ
ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا
نَاسٍ, أَوْ مُخْطِئٌ غَيْرُ عَامِدٍ, فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حدثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حدثنا خَالِدُ بْنُ
ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ:
"أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى
قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا
فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ, وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ
يَوْمِهِ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ: حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا
حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ قَالَ: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ
أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ, فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ
لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ, وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إلَى
الليل".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا
الْبُخَارِيُّ، حدثنا الْمَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: "أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: إنَّ مَنْ أَكَلَ
فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ, فَإِنَّ
الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ مُسْنَدًا.
قال أبو محمد: وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ هُوَ كَانَ الْفَرْضُ حِينَئِذٍ صِيَامَهُ.
كَمَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى الْبُخَارِيِّ: حدثنا أَبُو
مَعْمَرٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا
أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
(6/165)
ابْنِ
عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ- "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ
أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ
بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ, فَلَمَّا
فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا
عِنْدَهُ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ, وَعِرَاكِ بْنِ
مَالِكٍ كُلُّهُمْ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِصِيَامِ
عَاشُورَاءَ, حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ". قَالَ عِرَاكٌ: فَقَالَ عليه السلام:
"مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ".
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا حُكْمَ صَوْمِ الْفَرْضِ, وَمَا نُبَالِي بِنَسْخِ
فَرْضِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ, فَقَدْ أُحِيلَ صِيَامُ رَمَضَانَ أَحْوَالاً, فَقَدْ
كَانَ مَرَّةً: مَنْ شَاءَ صَامَهُ, وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ، عَنْ
كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, إلاَّ أَنَّ حُكْمَ مَا كَانَ فَرْضًا حُكْمٌ وَاحِدٌ;
وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ
عَلَيْهِ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَاسٍ, أَوْ جَاهِلٍ, أَوْ نَائِمٍ فَلَمْ
يَعْلَمُوا وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ, فَحُكْمُهُمْ كُلِّهِمْ هُوَ الْحُكْمُ
الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ اسْتِدْرَاكِ
النِّيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مَتَى مَا عَلِمُوا بِوُجُوبِ صَوْمِهِ
عَلَيْهِمْ, وَسُمِّيَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَائِمًا, وَجَعَلَ فِعْلَهُ صَوْمًا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا عَلَى الْهِلاَلِ بَعْدَمَا
أَصْبَحُوا, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ،
عَنِ الطَّعَامِ, وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: إذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُفْطِرًا وَلَمْ يَذُقْ شَيْئًا ثُمَّ
عَلِمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا
بَقِيَ، وَلاَ يُبَدِّلْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: مَنْ لَمْ يَأْكُلْ
فَلْيَصُمْ, وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ.
(6/166)
وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ ابْنَ
مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ
مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ عَلَى
أَقْوَالٍ.
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْوِي صَوْمَ يَوْمِهِ وَيُجْزِئُهُ, وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ نَأْخُذُ, وَبِهِ جَاءَ النَّصُّ الَّذِي
قَدَّمْنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يَصُومُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ
اللَّيْلِ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ قَضَاءً, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا
ذَكَرْنَا وَبِهِ يَقُولُ دَاوُد وَأَصْحَابُنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْكُلُ بَقِيَّتَهُ وَيَقْضِيهِ, وَهُوَ قَوْلٌ
رُوِّينَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُمْسِكُ فِيهِ عَمَّا يُمْسِكُ الصَّائِمُ, وَلاَ
يُجْزِئُهُ, وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَكَلَ خَاصَّةً, دُونَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ;
وَفِيمَنْ عَلِمَ الْخَبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَطْ, أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ.
وَهَذَا أَسْقَطُ الأَقْوَالِ; لاَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ, وَلاَ قِيَاسَ, وَلاَ
نَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا الإِمْسَاكُ الَّذِي
أَمَرُوهُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يُجْزِئُهُ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ
بِهَذَا, أَوْ لاَ يَكُونُ صَوْمًا، وَلاَ يُجْزِئُهُ, فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ
لَهُمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِعَمَلٍ يَتْعَبُ فِيهِ وَيَتَكَلَّفُهُ، وَلاَ يُجْزِئُهُ!
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا أَوْ صَائِمًا;
فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِمَ يَقْضِيهِ إذَنْ فَيَصُومُ يَوْمَيْنِ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ إلاَّ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلِمَ أَمَرُوهُ بِعَمَلِ
الصَّوْمِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا, وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَصْحِيحِ تَخْلِيطِهِ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ بِخَبَرِ الرُّبَيِّعِ, وَسَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ
خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِ مَا جَاءَ بِهِ
الْخَبَرُ, فَقَالُوا: مَنْ أَكَلَ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ, وَفِي
تَخْصِيصِهِمْ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ,
ثُمَّ احْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَمِنْ عَادَتِهِمْ هَذَا
الْخُلُقُ الذَّمِيمُ, وَهَذَا قَبِيحٌ جِدًّا, وَتَمْوِيهٌ لاَ يَسْتَجِيزُهُ
مُحَقِّقٌ نَاصِحٌ لِنَفْسِهِ!
(6/167)
وقال
بعضهم: قَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
زُرَيْعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ
قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي عَاشُورَاءَ فَقَالَ:
"صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَأَتِمُّوا
يَوْمَكُمْ هَذَا وَاقْضُوا".
قال أبو محمد: لَفْظَةُ "وَاقْضُوا" مَوْضُوعَةٌ بِلاَ شَكٍّ, وَعَبْدُ
الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ مَوْلَى بَنِي أَبِي الشَّوَارِبِ يُكَنَّى أَبَا
الْحُسَيْنِ, مَاتَ سَنَةَ 51 هـ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلاَثِمِائَةٍ, وَقَدْ
اخْتَلَطَ عَقْلُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ, وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرُ
الْحَدِيثِ, وَتَرَكَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ جُمْلَةً وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مُسْلِمٍ مَجْهُولٌ.
(6/168)
وَقَدْ
رُوِّينَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ, وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ
اللَّفْظَةُ.
كَمَا َحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حدثنا عَبَّاسُ بْنُ
أَصْبَغَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةُ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْمِنْهَالِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَِسْلَمَ: "صُومُوا
الْيَوْمَ" قَالُوا: إنَّا قَدْ أَكَلْنَا, قَالَ: "صُومُوا بَقِيَّةَ
يَوْمِكُمْ يَعْنِي عَاشُورَاءَ".
حدثنا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْقُرَشِيُّ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ هُوَ
الْبُرْسَانِيُّ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: غَدَوْنَا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عَاشُورَاءَ; فَقَالَ لَنَا:
"أَصْبَحْتُمْ صِيَامًا؟" قلنا: قَدْ تَغَدَّيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ: "فَصُومُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ".
قال أبو محمد: وَمِنْ الْغَرَائِبِ تَمْوِيهُ الْحَنَفِيِّينَ بِهَذِهِ
اللَّفْظَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ قَانِعٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَاقْضُوا
ثُمَّ خَالَفُوهَا فَلَمْ يَرَوْا الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى مَنْ أَكَلَ دُونَ مَنْ
لَمْ يَأْكُلْ, وَعَلَى مَنْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ
الْكِذْبَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى,
فَحَيْثُمَا تَوَجَّهُوا عَثَرُوا, وَبِكُلِّ مَا احْتَجُّوا فَقَدْ خَالَفُوهُ,
وَهَكَذَا فَلْيَكُنْ الْخِذْلاَنُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِ إلاَّ
بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ كَمَا أُمِرَ; وَلاَِنَّهُ لَمْ
يَنْوِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ صَوْمًا, وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَرْكَ النِّيَّةِ, فَلاَ
إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ لَمْ
يَأْتِ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ يَجِبُ فِي
الدِّينِ حُكْمٌ إلاَّ بِأَحَدِهِمَا; وَإِنَّمَا أُمِرَ بِصِيَامِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ, لاَ بِصَوْمِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ, فَلاَ يُجْزِئُ مَا لَمْ يُؤْمَرْ
بِهِ مَكَانَ مَا أُمِرَ بِهِ.
(6/169)
730
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ إلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ
اللَّيْلِ,
وَلاَ صَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ الْكَفَّارَاتِ إلاَّ كَذَلِكَ, لإِنَّ
النَّصَّ وَرَدَ بِأَنْ لاَ صَوْمَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا
قَدَّمْنَا, وَلَمْ يَخُصَّ النَّصُّ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ مَا كَانَ فَرْضًا
مُتَعَيِّنًا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ, وَبَقِيَ سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى النَّصِّ
الْعَامِّ.
وَقَوْلُنَا بِهَذَا فِي التَّطَوُّعِ, وَقَضَاءِ رَمَضَانَ, وَالْكَفَّارَاتِ:
هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
فإن قال قائل: فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ خِلاَفَ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لَهَا: "هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" وَقَالَ مَرَّةً: مِنْ غَدَاءٍ
قلنا: لاَ قَالَ: فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ. وَقَالَ لَهَا مَرَّةً أُخْرَى:
"هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ" قلنا: نَعَمْ, أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ,
قَالَ: "أَمَا إنِّي أَصْبَحْتُ أُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَكَلَ".
وَقَالَ بِهَذَا جُمْهُورُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ, قَالَ ثَابِتٌ: عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ: إنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ مِنْ الضُّحَى,
فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قَالُوا: لاَ, قَالَ: فَأَنَا
صَائِمٌ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ بِمِثْلِ
فِعْلِ أَبِي طَلْحَةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ شَبِيبٍ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاَُصْبِحُ يَوْمَ طُهْرِي
حَائِضًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ, فَأَسْتَبِينُ طُهْرِي فِيمَا بَيْنِي
وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ فَأَغْتَسِلُ ثُمَّ أَصُومُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ, قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ; وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَأَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ, قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ,
وَقَالَ أَيُّوبُ: عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَأَبُو
إدْرِيسَ, وَأَبُو قِلاَبَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ, أَنَّ أَبَا
الدَّرْدَاءِ كَانَ إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ;
قَالَ: إنَّا صَائِمُونَ. وَقَالَ
(6/170)
عَطَاءٌ
فِي حَدِيثِهِ: إنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ
النَّهَارُ, فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ غِذَاءٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ,
فَيَقُولُ: لاَُتِمَّنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَطَاءٌ: وَأَنَا
أَفْعَلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يَسْأَلُ الْغَدَاءَ,
فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ صَامَ يَوْمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُصْبِحُ مُفْطِرًا,
فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ فَيَجِدُهُ, أَوْ لاَ يَجِدُهُ; فَيُتِمُّ ذَلِكَ
الْيَوْمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا
أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ الصَّوْمَ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ: إنْ شِئْتَ صُمْتَ
وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ; إلاَّ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ الصَّوْمَ مِنْ
اللَّيْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ: أَصْبَحْتُ، وَلاَ
أُرِيدُ الصَّوْمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ
نِصْفِ النَّهَارِ, فَإِنْ انْتَصَفَ النَّهَارُ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ
عُبَيْدَةَ1، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ; قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا لَمْ يُطْعِمْ,
فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطْعِمَ طَعِمَ, وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ
صَوْمًا كَانَ صَوْمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ حَدَّثَ
نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ, حَتَّى
يَمْتَدَّ النَّهَارُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ أَحَدَكُمْ
بِأَحَدِ2 النَّظَرَيْنِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يَشْرَبْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ
عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ هُوَ السُّلَمِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ
أَنَّهُ بَدَا لَهُ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ أَنْ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَامَ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَيْضًا، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَدَا لَهُ فِي الصِّيَامِ3
بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فَلْيَصُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: كُنْتُ فِي سَفَرٍ
وَكَانَ يَوْمَ فِطْرٍ; فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ قُلْتُ:
لاََصُومَنَّ هَذَا الْيَوْمَ; فَصُمْتُ, فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ, فَقَالَ: أَصَبْتَ, قَالَ عَطَاءٌ: وَكُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ عِنْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ:
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "سعد بن عباد" وهو خطأ.
2 في النسخة رقم "16" "بآخر" وهو خطأ.
3 في النسخة رقم "16" "من بداله الصيام".
(6/171)
إنِّي
لَمْ آكُلْ الْيَوْمَ شَيْئًا أَفَأَصُومُ. قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: فَإِنَّ عَلَيَّ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ, أَفَأَجْعَلُهُ مَكَانَهُ قَالَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ الضُّحَى
فَلَهُ النَّهَارُ أَجْمَعُ; فَإِنْ عَزَمَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَهُ مَا
بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ; وَإِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَعْزِمْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَأَلْتُ عَطَاءً، عَنْ رَجُلٍ كَانَ عَلَيْهِ
أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ, فَأَصْبَحَ وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَصُومَ, ثُمَّ
بَدَا لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ قَضَاءِ
رَمَضَانَ. فَقَالَ عَطَاءٌ: لَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ: الصَّائِمُ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ
النَّهَارِ, فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ
النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَنْ أَرَادَ
الصَّوْمَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ.
وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا تَسَحَّرَ
الرَّجُلُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ, فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ, وَإِنْ هَمَّ بِالصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ, إنْ شَاءَ صَامَ
وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ; فَإِنْ سَأَلَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ: أَصَائِمٌ أَنْتَ
فَقَالَ: نَعَمْ, فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: إنْ
شَاءَ, فَإِنْ قَالَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ; إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ
أَفْطَرَ.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَنَسٌ, وَأَبُو طَلْحَةَ,
وَأَبُو أَيُّوبَ, وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ, وَأَبُو الدَّرْدَاءِ, وَأَبُو
هُرَيْرَةَ, وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ. وَمِنْ التَّابِعِينَ: ابْنُ
الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ,
وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ
يَنْوِي الْفِطْرَ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ:
فَلَهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ مَا لَمْ تَغِبْ الشَّمْسُ, وَيَصِحُّ صَوْمُهُ
بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُخَالِفَ شَيْئًا صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَنْ نَصْرِفَهُ، عَنْ ظَاهِرِهِ
بِغَيْرِ نَصٍّ آخَرَ, وَهَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ نَوَى
الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ, وَلاَ أَنَّهُ عليه السلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ
نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ
لَقُلْنَا بِهِ, لَكِنْ فِيهِ
(6/172)
أَنَّهُ
عليه السلام, كَانَ يُصْبِحُ مُتَطَوِّعًا صَائِمًا ثُمَّ يُفْطِرُ, وَهَذَا
مُبَاحٌ عِنْدَنَا لاَ نَكْرَهُهُ, كَمَا فِي الْخَبَرِ, فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي
الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَا, وَكَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام: "لاَ
صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ", لَمْ يَجُزْ أَنْ نَتْرُكَ
هَذَا الْيَقِينَ لِظَنٍّ كَاذِبٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَصْبَحَ
مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ نَهَارًا لَبَيَّنَهُ, كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي
صِيَامِ عَاشُورَاءَ إذْ كَانَ فَرْضًا, وَالتَّسَمُّحُ فِي الدِّينِ لاَ يَحِلُّ.
فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ:
"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجِيءُ فَيَدْعُو بِالطَّعَامِ فَلاَ
يَجِدُهُ فَيَفْرِضُ الصَّوْمَ".
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ قَانِعٍ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ الْبَلْخِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ
يَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ يَجْمَعْ الصَّوْمَ ثُمَّ
يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ".
قلنا: لَيْثٌ ضَعِيفٌ, وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ: هَالِكٌ, وَمِنْ دُونِهِ
ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ, وَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الْجُمْهُورِ,
وَخَالَفُوا هَاهُنَا الْجُمْهُورَ بِلاَ رِقْبَةٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ أَجَازَ أَنْ
يُصْبِحَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا لاِِرَادَةِ الْفِطْرِ, ثُمَّ يَبْقَى كَذَلِكَ
إلَى قَبْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَنْوِي الصِّيَامَ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ,
وَادَّعَوْا الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ
الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ قَدْ كَذَبُوا, وَلاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَذِبِ!!
وَقَدْ صَحَّ هَذَا، عَنْ حُذَيْفَةَ نَصًّا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِطْلاَقٍ,
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَصًّا, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَصًّا,
وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ كَذَلِكَ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/173)
من
مزج نية صوم فرض بفرض آخر أو تطوع أو فعل ذلك في غيره من العبادات
...
731 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَزَجَ نِيَّةَ صَوْمٍ فُرِضَ بِفَرْضٍ آخَرَ أَوْ
بِتَطَوُّعٍ,
أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلاَةٍ أَوْ زَكَاةٍ, أَوْ حَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ
عِتْقٍ: لَمْ يُجْزِهِ لِشَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ
كُلُّهُ, صَوْمًا كَانَ أَوْ صَلاَةً, أَوْ زَكَاةً, أَوْ حَجًّا, أَوْ عُمْرَةً
أَوْ عِتْقًا, إلاَّ مَزْجُ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لِمَنْ أَحْرَمَ وَمَعَهُ
الْهَدْيُ فَقَطْ, فَهُوَ حُكْمُهُ اللاَّزِمُ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَالإِخْلاَصُ هُوَ أَنْ يَخْلُصَ الْعَمَلُ
الْمَأْمُورُ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ
فَقَطْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً
لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" فَمَنْ مَزَجَ عَمَلاً بِآخَرَ
فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ أَمْرُ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ صَلَّى, وَهُوَ مُسَافِرٌ رَكْعَتَيْنِ نَوَى بِهِمَا
الظُّهْرَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَوْ صَامَ يَوْمًا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ
يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا وَأَعْطَى مَا يَجِبُ
عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ مَالِهِ وَنَوَى بِهِ الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا, أَوْ
أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَنَوَى بِهَا الْفَرِيضَةَ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا:
فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ الْفَرْضِ,
وَزَكَاةِ الْفَرْضِ, وَحَجَّةِ الْفَرْضِ, وَيَبْطُلُ التَّطَوُّعُ فِي كُلِّ
ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَمَّا الصَّلاَةُ فَتَبْطُلُ، وَلاَ
تُجْزِئُهُ, لاَ، عَنْ فَرْضٍ، وَلاَ عَنْ تَطَوُّعٍ وَأَمَّا الزَّكَاةُ,
وَالصَّوْمُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا فِيهِمَا جَمِيعًا, وَيَبْطُلُ
الْفَرْضُ وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِئُهُ، عَنِ الْفَرْضِ وَيَبْطُلُ
التَّطَوُّعُ.
فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْقَطَ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ وَمَا نَدْرِي مِمَّنْ
الْعَجَبُ أَمِمَّنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِمِثْلِهَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى
يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ بِالإِهْذَارِ وَيَخُصُّ مَا يَشَاءُ, وَيُبْطِلُ
بِالتَّخَالِيطِ, أَوْ مِمَّنْ قَلَّدَ قَائِلَهَا, وَأَفْنَى عُمُرَهُ فِي
دَرْسِهَا وَنَصْرِهَا مُتَدَيِّنًا بِهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ; وَنَسْأَلُهُ إدَامَةَ السَّلاَمَةِ وَالْعِصْمَةِ, وَنَحْمَدُهُ
عَلَى نِعَمِهِ بِذَلِكَ عَلَيْنَا كَثِيرًا.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ صَوْمَ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ: إنْ شَاءَ صَامَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ, وَأَجْزَأَ
عَنْهُ يَعْنِي مَنْ فَرَضَهُ وَنَذَرَهُ; قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ
قَضَاءُ رَمَضَانَ فَصَامَ تَطَوُّعًا فَهُوَ قَضَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ.
(6/174)
مبطلات
الصوم
من نوى و هو صائم إبطال صومه بطل
...
732 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَوَى وَهُوَ صَائِمٌ إبْطَالَ صَوْمِهِ بَطَلَ,
إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَذَاكِرًا لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلاَ
شَرِبَ، وَلاَ وَطِئَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَصَحَّ يَقِينًا
أَنَّ مَنْ نَوَى إبْطَالَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الصَّوْمِ فَلَهُ مَا نَوَى
بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي لاَ تَحِلُّ مُعَارَضَتُهُ, وَهُوَ قَدْ
نَوَى بُطْلاَنَ الصَّوْمِ, فَلَهُ بُطْلاَنُهُ, فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا
لاَِنَّهُ فِي صَوْمٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا, لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ}.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَنْ نَوَى إبْطَالَ صَلاَةٍ هُوَ فِيهَا, أَوْ حَجٍّ هُوَ
فِيهِ, وَسَائِرُ الأَعْمَالِ كُلِّهَا كَذَلِكَ, فَلَوْ نَوَى ذَلِكَ بَعْدَ
تَمَامِ صَوْمِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ آثِمًا, وَلَمْ يُبْطِلْ
بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْهَا; لاَِنَّهَا كُلَّهَا قَدْ صَحَّتْ وَتَمَّتْ كَمَا
أُمِرَ, وَمَا صَحَّ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي بُطْلاَنِهِ,
وَالْمَسْأَلَةُ الآُولَى لَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ فِيهَا كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/175)
يبطل
الصوم تعمد الأكل أو الشرب أو الوطء في الفرج أو القيء
...
733 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ: تَعَمُّدُ الأَكْلِ, أَوْ تَعَمُّدُ
الشُّرْبِ, أَوْ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ; أَوْ تَعَمُّدُ الْقَيْءِ;
وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ, وَسَوَاءٌ قَلَّ مَا أَكَلَ أَوْ
كَثُرَ, أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ خَارِجِ فَمِهِ
فَأَكَلَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا, إلاَّ
فِيمَا نَذْكُرُهُ, مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}.
وَمَا حَدَّثَنَاهُ حُمَامٌ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حدثنا حَبِيبُ بْنُ خَلَفٍ
الْبُخَارِيُّ، حدثنا أَبُو ثَوْرٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا مُعَلَّى،
حدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حدثنا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ, وَمَنْ
اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ".
(6/175)
وَرُوِّينَا
هَذَا أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ وَعَلْقَمَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: عِيسَى بْنُ يُونُسَ: ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يَتَقَيَّأَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ
فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ بِذَلِكَ صَوْمُهُ, فَإِنْ كَانَ مِلْءَ فِيهِ فَأَكْثَرَ,
بَطَلَ صَوْمُهُ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ
سَخَافَةِ التَّحْدِيدِ!
وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ: مَنْ خَرَجَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ
بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ سَحُورِهِ كَالْجَذِيذَةِ وَشَيْءٌ مِنْ
اللَّحْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَبَلَعَهُ عَامِدًا لِبَلْعِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ
فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ لاَِحَدٍ قَبْلَهُمَا!
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ أُكِلَ بَعْدُ,
وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا لَمْ يُؤْكَلْ!!
فَكَانَ الاِحْتِجَاجُ أَسْقَطَ وَأَوْحَشَ مِنْ الْقَوْلِ الْمُحْتَجِّ لَهُ وَمَا
عَلِمْنَا شَيْئًا أُكِلَ فَيُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ الأَكْلِ, إلاَّ أَنْ
يَكُونَ قَيْئًا أَوْ عَذِرَةً وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ.
وَحَدَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ الْمِقْدَارَ الَّذِي لاَ يَضُرُّ تَعَمُّدُ
أَكْلِهِ فِي الصَّوْمِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دُونَ مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ.
فَكَانَ هَذَا التَّحْدِيدُ طَرِيفًا جِدًّا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ, فَأَيُّ
الْحِمَّصِ هُوَ الإِمْلِيسِيُّ الْفَاخِرُ, أَمْ الصَّغِيرُ!
فَإِنْ قَالُوا قِسْنَاهُ عَلَى الرِّيقِ.
قلنا لَهُمْ: فَمِنْ أَيْنَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ
بِخِلاَفِ الرِّيقِ؟!
وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ لَهُ مِطْحَنَةٌ كَبِيرَةٌ مَثْقُوبَةٌ فَدَخَلَتْ فِيهَا
مِنْ سَحُورِهِ زَبِيبَةٌ, أَوْ بَاقِلاَءُ فَأَخْرَجَهَا يَوْمًا آخَرَ
بِلِسَانِهِ وَهُوَ صَائِمٌ: أَلَهُ تَعَمُّدُ بَلْعِهَا أَمْ لاَ فَإِنْ مَنَعُوا
مِنْ ذَلِكَ تَنَاقَضُوا, وَإِنْ أَبَاحُوا سَأَلْنَاهُمْ، عَنْ جَمِيعِ
طَوَاحِينِهِ وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ مِطْحَنَةً مَثْقُوبَةٌ كُلُّهَا
فَامْتَلاََتْ سِمْسِمًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ قُنَّبًا أَوْ حِمَّصًا أَوْ بَاقِلاً
أَوْ خُبْزًا أَوْ زَرِيعَةَ كَتَّانٍ فَإِنْ أَبَاحُوا تَعَمُّدَ أَكْلِ ذَلِكَ
كُلِّهِ حَصَّلُوا أُعْجُوبَةً وَإِنْ مَنَعُوا مِنْهُ تَنَاقَضُوا وَتَحَكَّمُوا
فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.
(6/176)
وَإِنَّمَا
الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَإِنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ أَكْلاً أَيُّ شَيْءٍ كَانَ
فَتَعَمُّدُهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ, وَأَمَّا الرِّيقُ فَقَلَّ أَوْ كَثُرَ فَلاَ
خِلاَفَ فِي أَنْ تَعَمَّدَ ابْتِلاَعَهُ لاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا فِي هَذَا,
وَلَمْ يُقَلِّدْ مِنْ سَاعَةٍ مَنْ سَاعَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ دَهْرِهِمَا كُلِّهِ
وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ, الَّذِي رُوِّينَا بِأَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ شُعْبَةَ,
وَعِمْرَانَ الْقَطَّانِ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَبَا
طَلْحَةَ كَانَ يَأْكُلُ الْبَرْدَ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ عِمْرَانُ فِي حَدِيثِهِ:
وَيَقُولُ: لَيْسَ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا وَقَدْ سَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْ
قَتَادَةَ, وَسَمِعَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَسٍ; وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ
يُحَصِّلُونَ!!==
الكتاب
:4. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى
: 456هـ)
يبطل
الصوم تعمد كل معصية
...
734 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ أَيْضًا تَعَمُّدُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَيِّ
مَعْصِيَةٍ كَانَتْ,
لاَ نُحَاشِ شَيْئًا إذَا فَعَلَهَا عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, كَمُبَاشَرَةِ
مَنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ تَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ
وَأَمَتِهِ الْمُبَاحَتَيْنِ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ إتْيَانٍ فِي
دُبُرِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا, أَوْ كَذِبٍ, أَوْ غِيبَةٍ,
أَوْ نَمِيمَةٍ, أَوْ تَعَمُّدِ تَرْكِ صَلاَةٍ, أَوْ ظُلْمٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ هُوَ السَّمَّانُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ
يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ, وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ:
إنِّي صَائِمٌ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الصِّيَامُ جُنَّةٌ, فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ،
وَلاَ يَجْهَلْ, فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي
صَائِمٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ
قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ
حَاجَةٌ
(6/177)
فِي
أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ،
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا
الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَتَيْنِ صَائِمَتَيْنِ
تَغْتَابَانِ النَّاسَ فَقَالَ لَهُمَا: "قِيئَا, فَقَاءَتَا قَيْحًا وَدَمًا
وَلَحْمًا عَبِيطًا", ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "هَا إنَّ هَاتَيْنِ
صَامَتَا، عَنِ الْحَلاَلِ وَأَفْطَرَتَا عَلَى الْحَرَامِ".
قال أبو محمد: فَنَهَى عليه السلام، عَنِ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ فِي الصَّوْمِ,
فَكَانَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَمْ
يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, فَلَمْ يَصُمْ, لاَِنَّهُ
لَمْ يَأْتِ بِالصِّيَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَهُوَ
السَّالِمُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ, وَهُمَا اسْمَانِ يَعُمَّانِ كُلَّ
مَعْصِيَةٍ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقَوْلَ
بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الزُّورُ وَلَمْ يَدَعْ الْعَمَلَ بِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِلَّهِ
تَعَالَى فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ
يَرْضَى صَوْمَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَبَّلُهُ, وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ، وَلاَ
قَبِلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ سَاقِطٌ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ الْمُغْتَابَةَ
مُفْطِرَةٌ وَهَذَا مَا لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ.
وَقَدْ كَابَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّمَا يَبْطُلُ أَجْرُهُ لاَ صَوْمُهُ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي
كُلُّ ذِي حِسٍّ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَحْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ عَامِلِهِ
فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ، وَلاَ قَبِلَهُ,
وَهَذَا هُوَ الْبُطْلاَنُ بِعَيْنِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ.
وَبِهَذَا يَقُولُ السَّلَفُ الطَّيِّبُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ, وَهُشَيْمٌ كِلاَهُمَا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, قَالَ
هُشَيْمٌ: عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ
الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ; وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ, وَالْبَاطِلِ
وَاللَّغْوِ.
وَعَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ نَصًّا.
(6/178)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ قَالَ جَابِرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ, وَبَصَرُكَ, وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ
وَالْمَأْثَمِ, وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ, وَسَكِينَةٌ
يَوْمَ صِيَامِكَ, وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي
الْعُمَيْسِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ،
عَنْ أَخِيهِ طَلِيقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إذَا صُمْت
فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت, فَكَانَ طَلِيقٌ إذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِهِ دَخَلَ
فَلَمْ يَخْرُجْ إلاَّ إلَى صَلاَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ حَمَّادٍ الْبَكَّاءِ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا اغْتَابَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي
الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إذَا
صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عُمَرُ, وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٌ, وَجَابِرٌ, وَعَلِيٌّ: يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّوْمِ
بِالْمَعَاصِي, لأَنَّهُمْ خَصُّوا الصَّوْمَ بِاجْتِنَابِهَا وَإِنْ كَانَتْ
حَرَامًا عَلَى الْمُفْطِرِ, فَلَوْ كَانَ الصِّيَامُ تَامًّا بِهَا مَا كَانَ
لِتَخْصِيصِهِمْ الصَّوْمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنًى, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ
مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا أَصَابَ الصَّائِمُ
شَوًى إلاَّ الْغِيبَةَ, وَالْكَذِبَ.
وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ; مَا لَمْ يَخْرِقْهَا
صَاحِبُهَا, وَخَرْقُهَا: الْغِيبَةُ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: إنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: الْكَذِبُ يُفْطِرُ
الصَّائِمَ.
(6/179)
قال
أبو محمد: وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا، عَنِ الأَكْلِ لِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ,
وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ عَمْدًا: أَيُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لاَ فَمِنْ
قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.
فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قَالُوا: لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا فِيهِ.
قلنا لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي; لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ
أَيْضًا بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْمَعَاصِي.
قلنا لَهُمْ: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْخَمْرِ,
وَالْخِنْزِيرِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ نُبَالِي أَيَّ
شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ.
قلنا: وَإِنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الْمَعَاصِي فِي صَوْمِهِ، وَلاَ نُبَالِي بِمَا
عَصَى, أَبِأَكْلٍ وَشُرْبٍ, أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا أَفْطَرَ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ.لِلإِجْمَاعِ عَلَى
أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِهِمَا.
قلنا: فَلاَ تُبْطِلُوا الصَّوْمَ إلاَّ بِمَا أُجْمِعَ عَلَى بُطْلاَنِهِ بِهِ
وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُبْطِلُوهُ بِأَكْلِ الْبَرَدِ، وَلاَ
بِكَثِيرٍ مِمَّا أَبْطَلْتُمُوهُ بِهِ كَالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا فَاسِدًا مِنْ
الْقِيَاسِ وَكَانَ أَصَحُّ أُصُولِكُمْ أَنْ تَقِيسُوا بُطْلاَنَ الصَّوْمِ
بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي عَلَى بُطْلاَنِهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالأَكْلِ,
وَالشُّرْبِ, وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ.
قلنا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ النَّصَّ قَدْ صَحَّ بِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ
كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: تِلْكَ الأَخْبَارُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ.
قلنا: وَإِبْطَالُكُمْ الصَّوْمَ بِالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ, وَالإِمْنَاءِ مَعَ
التَّقْبِيلِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ
فَتَرَكْتُمْ زِيَادَةَ الْحَقِّ, وَأَثْبَتُّمْ زِيَادَةَ الْبَاطِلِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/180)
735
- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ تَعَمَّدَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا
فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ,
وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي نَذْرٍ
مُعَيَّنٍ, إلاَّ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ خَاصَّةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ قَدْ صَحَّ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِمَسْأَلَتَيْنِ; وَلَمْ يَأْتِ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ
بِالتَّعَمُّدِ لِلأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ
(6/180)
أَوْ
الْوَطْءِ: نَصٌّ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ, وَإِنَّمَا افْتَرَضَ تَعَالَى رَمَضَانَ
لاَ غَيْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, فَإِيجَابُ
صِيَامِ غَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ, فَهُوَ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ
شَهْرٍ مُسَمًّى فَيَقُولُ قَائِلٌ: إنَّ صَوْمَ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَنْهُ,
بِغَيْرِ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ: وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَجَّ إلَى
غَيْرِ مَكَّةَ يَنُوبُ، عَنِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَالصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ
الْكَعْبَةِ تَنُوبُ، عَنِ الصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ
شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}.
وَقَالَ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ مُفْطِرٍ بِعَمْدٍ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى
الْمُتَّقِي عَمْدًا.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ
عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ هَذَا الْقِيَاسَ فَأَكْثَرُهُمْ
لَمْ يَقِسْ الْمُفْطِرَ عَمْدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ عَلَى الْمُفْطِرِ
بِالْقَيْءِ عَمْدًا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمْ كَسُقُوطِهَا، عَنِ
الْمُتَّقِي عَمْدًا, وَهُمْ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ,
وَالشَّافِعِيُّونَ: قَاسُوهُمْ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا, وَلَمْ
يَقِيسُوهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى الْمُجَامِعِ عَمْدًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ; فَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدَّعُونَ فَإِنْ
وُجِدَ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْكُلِّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ
كُلِّمَ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ فَقَطْ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ
لِلْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قِيلَ: تِلْكَ آثَارٌ لاَ يَصِحُّ فِيهَا
شَيْءٌ.
لإِنَّ أَحَدَهَا: مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ وَأَنْ
يَصُومَ يَوْمًا", وَأَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ
ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ مَعِينٍ, وَغَيْرُهُمَا, وَلَمْ
يَسْتَجِزْ الرِّوَايَةَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
(6/181)
وَالثَّالِثُ:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ:
"اقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ: ضَعِيفٌ,
ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ, وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَقَالَ أَبُو
دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَالرَّابِعُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي نَهَارِ
رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَهَذَا أَسْقَطَهَا كُلَّهَا
لإِنَّ الْحَجَّاجَ لاَ شَيْءَ, ثُمَّ هِيَ صَحِيفَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ; كُلِّهِمْ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ
بِقَضَاءِ يَوْمٍ". وَهَذَا كُلُّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ تَقُومُ بِالْمُرْسَلِ
حُجَّةٌ.
وَتَاللَّهِ لَوْ صَحَّ مِنْهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ الثِّقَاتِ
لَسَارَعْنَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ.
فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ, وَلاَ نُضَعِّفُ
الْمُحَدِّثِينَ!!
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّمَرِيُّ. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا
مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ
وَيَقُولُ: هَلَكَ الأَبْعَدُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ
تَعْتِقَ رَقَبَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ
بَدَنَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "فَاجْلِسْ!" فَأُتِيَ بِعَرَقِ
تَمْرٍ, وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: فَلْيَأْخُذُوا بِالْبَدَنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ;
وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!!
وَقُلْنَا لَهُمْ: لَوْ أَرَدْنَا التَّعَلُّقَ بِمَا لاَ يَصِحُّ لَوَجَدْنَا
خَيْرًا مِنْ كُلِّ خَبَرٍ تَعَلَّقْتُمْ بِهِ هَاهُنَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد
الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ
أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا
سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ،
(6/182)
عَنْ
حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ، وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ
عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنْبَأَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حدثنا
إسْمَاعِيلُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُمَارَةَ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ
رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا اللَّهُ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ
الدَّهْرِ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: أَنْبَأَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ، حدثنا أَبُو
دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ, قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي
ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي
الْمُطَوِّسِ, قَالَ حَبِيبٌ: وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمُطَوِّسِ. فَصَحَّ
لِقَاؤُهُ إيَّاهُ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَبَا الْمُطَوِّسِ غَيْرُ
مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ, وَيُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنَّ نَحْتَجَّ بِضَعِيفٍ
إذَا وَافَقْنَا, وَنَرُدُّهُ إذَا خَالَفَنَا وَقَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا
أَفَاضِلُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامٍ
الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فِيمَا أَوْصَاهُ بِهِ: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ
فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ,
(6/183)
عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَيْخٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ,
فَقَالَ لِلْمَنْخَرَيْنِ لِلْمَنْخَرَيْنِ وِلْدَانُنَا صِيَامٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ
ثَمَانِينَ وَصَيَّرَهُ إلَى الشَّامِ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ
فِي رَمَضَانَ, فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ, ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ,
وَقَالَ: ضَرَبْنَاكَ الْعِشْرِينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي
رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً, وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
يَعْلَى الثَّقَفِيِّ. عَنْ عَرْفَجَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَقْضِهِ أَبَدًا طُولُ
الدَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ
غَيْرِ رُخْصَةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ.
وَبِأَصَحّ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ
صَوْمُ سَنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ يَوْمًا
مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
قال أبو محمد: مِنْ أَصْلِ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يُجَاحِشُونَ عَنْهُ
وَيَتْرُكُونَ لَهُ السُّنَنَ: أَنَّ الْخَبَرَ إذَا خَالَفَهُ رَاوِيهِ مِنْ
الصَّحَابَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ
أَوْ نَسْخِهِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ
فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَتَرَكُوهُ;
لأَنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَالَفَهُ; وَقَدْ كَذَبُوا فِي
ذَلِكَ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ خَالَفَ
فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا الْقَضَاءِ. وَخَالَفَهُ أَيْضًا
سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى, فَرَأَى عَلَى مَنْ
(6/184)
أَفْطَرَ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ شَهْرٍ; فَيَنْبَغِي لَهُمْ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ
الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَغَيْرُ سَعِيدٍ.
قلنا: وَغَسْلُ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ
أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَإِنْ قَالُوا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْخَبَرُ
وَيُفْتِي بِخِلاَفِهِ.
قلنا: فَقُولُوا هَذَا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ
عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَيُخَالِفُهُ وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ
مِنْهُ.
(6/185)
مسائل
في قضاء الصوم و الكفارة
لا قضاء إلا على خمسة فقط: و هم الحائض و النفساء و المريض و المسافر و المتقيء
عمدا
...
736 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ عَلَى خَمْسَةٍ فَقَطْ:
وَهُمْ الْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا يَقْضِيَانِ أَيَّامَ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ, لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ, وَالْمَرِيضُ, وَالْمُسَافِرُ
سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ. لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَالْمُتَقَيِّئُ
عَمْدًا, بِالْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ فِي الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إذَا أَفْطَرَا, وَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ
لِلَّهِ تَعَالَى, لاَ إثْمَ عَلَيْهِمْ, إلاَّ الْمُتَقَيِّئَ, وَهُوَ ذَاكِرٌ;
فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
(6/185)
لا
كفارة على نت تعمد فطرا في رمضان
...
737 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ فِطْرًا فِي رَمَضَانَ
بِمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ, إلاَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ
الْمُبَاحِ لَهُ وَطْؤُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَقَطْ; فَإِنَّ عَلَيْهِ
الْكَفَّارَةَ, عَلَى مَا نَصِفُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ
يُقَدَّرُ الْقَضَاءُ, لِمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِبْ
الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى وَاطِئِ امْرَأَتِهِ عَامِدًا, وَاسْمُ امْرَأَتِهِ
يَقَعُ عَلَى الأَمَةِ الْمُبَاحِ وَطْؤُهَا, كَمَا يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ,
وَلاَ جَمْعَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ لَفْظِهَا; لَكِنْ جَمْعُ الْمَرْأَةِ عَلَى
نِسَاءٍ, وَلاَ وَاحِدَ لِلنِّسَاءِ مِنْ لَفْظِهِ, قَالَ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ} فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بِلاَ خِلاَفٍ. الأَمَةُ الْمُبَاحَةُ,
وَالزَّوْجَةُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى,
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى
امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ, قَالَ:
(6/185)
738
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ فِي
يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ جُنَّ, أَوْ مَرِضَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ,
لإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ إلاَّ
بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ فِي سُقُوطِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وقال أبو حنيفة,
وَأَصْحَابُهُ: تَسْقُطُ بِالْمَرَضِ، وَلاَ تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ.
(6/197)
صفة
كفارة الواجبة
...
739 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ:
هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ: مِنْ
عِتْقِ رَقَبَةٍ لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا, فَإِنْ
لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ حِينَئِذٍ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فإن قيل: هَلاَّ قُلْتُمْ بِمَا رَوَاهُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ
جُرَيْجٍ, وَمَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ؟
قلنا: لِمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ هَؤُلاَءِ اخْتَصَرُوا الْحَدِيثَ,
وَأَتَوْا بِأَلْفَاظِهِمْ, أَوْ بِلَفْظٍ مِنْ دُونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم. وَأَمَّا سَائِرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فَأَتَوْا بِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ أَصْلاً, وَبِزِيَادَةِ
حُكْمِ التَّرْتِيبِ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ.
وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ,
وَأَحْمَدُ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ; إلاَّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ الإِطْعَامَ,
وَلَيْسَ لِهَذَا الاِسْتِحْبَابِ وَجْهٌ أَصْلاً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي الإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ: أَنْ
تُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا, وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرِّدٌ
لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَقَعُ اسْمُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَصْلاً.
(6/197)
و
يجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة أو كافرة, صغيرة أو كبيرة ذكر أو أنثى, معيب أو سليم
...
740 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ,
صَغِيرَةٌ, أَوْ كَبِيرَةٌ, ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, مَعِيبٌ أَوْ سَلِيمٌ;
لِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقْ
رَقَبَةً", فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الرِّقَابِ الَّتِي تُعْتَقُ لاَ
يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عليه السلام, وَلَمَا أَهْمَلَهُ حَتَّى
يُبَيِّنَهُ لَهُ غَيْرُهُ.
وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ: أُمُّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرُ, وَالْمُعْتَقُ بِصِفَةٍ,
وَإِلَى أَجَلٍ, وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ,
وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ نِصْفَانِ مِنْ رَقَبَتَيْنِ, وَلاَ مَنْ بَعْضُهُ
حُرٌّ.
وقال أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي الْكَافِرِ وَالصَّغِيرِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ مُؤْمِنَةٌ, قَالُوا: قِسْنَا
ذَلِكَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ.
(6/197)
كل
ما لا يجزئ في الكفارة فهو عتق مردود باطل لا ينفذ
...
741 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا قلنا أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ; فَإِنَّهُ عِتْقٌ
مَرْدُودٌ بَاطِلٌ لاَ يَنْفُذُ,
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ إلاَّ
بِصِفَةٍ لَمْ تَصِحَّ, فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(6/199)
يلزم
في كفارة فطر رمضان صوم متتابع و دليل ذلك
...
742 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضَهُ الصَّوْمُ, فَقَطَعَ صَوْمَهُ عَلَيْهِ
رَمَضَانُ,
أَوْ أَيَّامُ الأَضْحَى, أَوْ مَا لاَ يَحِلُّ صِيَامُهُ فَلَيْسَا
مُتَتَابِعِينَ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهِمَا مُتَتَابِعِينَ.
وَقَالَ قَائِلٌ: يُجْزِئُهُ.
قال علي: وهذا خِلاَفُ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَعْذُورًا
فِي إفْطَارِهِ غَيْرَ آثِمٍ، وَلاَ مَلُومٍ بِمُجِيزٍ لَهُ مَا لَمْ يُجَوِّزْهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ التَّتَابُعِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: مَنْ لَزِمَهُ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ
فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ صَوْمَهُمَا.
(6/200)
فإن
اعترض صائم الكفارة نذر بطل النذر و سقط عنه
...
743 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اعْتَرَضَهُ فِيهِمَا يَوْمُ نَذْرٍ نَذَرَهُ: بَطَلَ
النَّذْرُ وَسَقَطَ عَنْهُ,
وَتَمَادَى فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ, وَكَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ,
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ
وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ
يَلْتَزِمَ غَيْرَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَمَنْ نَذَرَ مَا يَبْطُلُ
بِهِ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَذْرُهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(6/200)
إن
بدأ بصوم الشهرين في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث و لا بد و
دليل ذلك
...
744 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِصَوْمِهِمَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ
صَامَ إلَى أَنْ يَرَى الْهِلاَلَ الثَّالِثَ، وَلاَ بُدَّ,
كَامِلَيْنِ كَانَا أَوْ نَاقِصَيْنِ, أَوْ كَامِلاً وَنَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي
كِتَابِ اللَّهِ} فَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا الْمَذْكُورَةِ.
(6/200)
إن
بدأ بصوم الشهرين في بعض الشهر لزمه صوم ثمانية و خمسين يوما لا أكثر
...
745 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِهِمَا فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَلَوْ لَمْ يَمْضِ
مِنْهُ إلاَّ يَوْمٌ, أَوْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ يَوْمٌ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ: لَزِمَهُ
صَوْمُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا لاَ أَكْثَرَ.
لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مِنْ نِسَائِهِ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
نَزَلَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, آلَيْتُ شَهْرًا, فَقَالَ: "إنَّ
الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ جِدًّا كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا, وَمِنْ طَرِيقِ
عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ عَمْرٍو
(6/200)
من
كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم و دليل ذلك
...
746 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضُهُ الإِطْعَامَ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ
مِنْ أَنْ يُطْعِمَهُمْ شِبَعَهُمْ,
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَهُمْ, وَإِنْ اخْتَلَفَ, مِثْلُ: أَنْ يُطْعِمَ
بَعْضَهُمْ خُبْزًا, وَبَعْضَهُمْ تَمْرًا, وَبَعْضَهُمْ ثَرِيدًا, وَبَعْضَهُمْ
زَبِيبًا, وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم إنْ أَعْطَاهُمْ حَبًّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا
أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ, مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ; فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ طَعَامًا
مَعْمُولاً فَيُجْزِئُهُ مَا أَشْبَعَهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً, أَقَلَّ كَانَ أَوْ
أَكْثَرَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، حدثنا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حدثنا مُؤَمَّلٌ، هُوَ ابْنُ
إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ،
هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم"- فَذَكَرَ خَبَرَ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ- قَالَ:
قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِكْتَلٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَعْنِي صَاعًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ
فَأَطْعِمْهُ عَنْكَ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَجْزَأَ هَذَا فِي الإِطْعَامِ.
وَكَانَ إشْبَاعُهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَشْبَعَهُمْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ:
يُسَمَّى إطْعَامًا, وَالْبُرُّ
(6/201)
يُؤْكَلُ
مَقْلُوًّا; فَكُلُّ ذَلِكَ إطْعَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ إطْعَامٍ دُونَ
إطْعَامٍ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيمَا دُونَ
الشِّبَعِ فِي الأَكْلِ, وَفِيمَا دُونَ الْمُدِّ فِي الإِعْطَاءِ أَنَّهُ لاَ
يُجْزِئُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُجْزِئُ إلاَّ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ, أَوْ مِثْلُهُ مِنْ سَوِيقِهِ
أَوْ دَقِيقِهِ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ تَمْرٍ, لِكُلِّ
مِسْكِينٍ.، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَدَاءٍ وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ
عَشَاءٍ وَعَشَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَعَشَاءٍ!
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَشَرْعٌ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ،
وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ!
(6/202)
لا
يجوز إطعام رضيع لا يأكل الطعام و لا إهطاؤه من الزكاة
...
747 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ رَضِيعٍ لاَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ,
وَلاَ إعْطَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ,
لاَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى إطْعَامًا, فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ كَمَا تَأْكُلُ
الصِّبْيَانُ أَجْزَأَ إطْعَامُهُ وَإِشْبَاعُهُ, وَإِنْ أَكَلَ قَلِيلاً,
لاَِنَّهُ أَطْعَمَ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/202)
لا
يجزئ إطعام أقل من ستين و لا صيام أقل من شهرين في الكفارة
...
748 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ, وَلاَ صِيَامُ
أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ,
لاَِنَّهُ خِلاَفُ مَا أُمِرَ بِهِ.
(6/202)
749
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ قَادِرًا حِينَ وَطْئِهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَمْ
يُجْزِهِ غَيْرُهَا, افْتَقَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْتَقِرْ,
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا حِينَئِذٍ قَادِرًا عَلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الصِّيَامِ, أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَوَجَدَ رَقَبَةً أَوْ لَمْ يُوسِرْ وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا حِينَ ذَلِكَ، عَنِ
الرَّقَبَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ قَادِرًا عَلَى الإِطْعَامِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُ
الإِطْعَامِ, قَدَرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الصَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ
يَقْدِرْ; لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فَرْضُهُ بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ;
فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ فَرْضِهِ وَإِيجَابُ فَرْضٍ آخَرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نَصٍّ،
وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَقَالَ قَائِلُونَ: إنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ فَأَيْسَرَ انْتَقَلَ حُكْمُهُ إلَى
الرَّقَبَةِ.
َهَذَا خَطَأٌ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
(6/202)
من
لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها الخ لم يلزمه عتقها
...
750 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ رَقَبَةً لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا,
لاَِنَّهُ يَضِيعُ بَعْدَهَا أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُبِّهَا: لَمْ
يَلْزَمْهُ عِتْقُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَوْله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ}. وَقَوْله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ
الْعُسْرَ}. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَرَجٌ وَعُسْرٌ لَمْ يَجْعَلْهُ تَعَالَى
عَلَيْنَا, وَلاَ أَرَادَهُ مِنَّا, وَفَرْضُهُ حِينَئِذٍ الصِّيَامُ, فَإِنْ
كَانَ فِي غِنًى عَنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ مَالَ لَهُ فَعَلَيْهِ
عِتْقُهَا; لاَِنَّهُ وَاجِدُ رَقَبَةٍ لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهَا.
(6/202)
من
كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام و دليل ذلك
...
751 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَفَرْضُهُ
الإِطْعَامُ,
وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِ, فَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ أَكَلَهُ
هُوَ وَأَهْلُهُ وَبَقِيَ الإِطْعَامُ دَيْنًا عَلَيْهِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالإِطْعَامِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ
عَلَيْهِ, فَأَتَاهُ بِالتَّمْرِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ
يُطْعِمَهُ، عَنْ كَفَّارَتِهِ فَصَحَّ أَنَّ الإِطْعَامَ بَاقٍ عَلَيْهِ وَإِنْ
كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, وَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَكْلِهِ إذْ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَكْلِهِ, وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا قَدْ أَلْزَمَهُ
إيَّاهُ مِنْ الإِطْعَامِ, وَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ مَا افْتَرَضَهُ عليه السلام
إلاَّ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ عليه السلام بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/203)
الحر
و العبد في كل ما ذكر سواء و دليل ذلك
...
752 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ
وَيُطْعِمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ,
لإِنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عُمُومًا, لَمْ يُخَصَّ
مِنْهُ حُرٌّ مِنْ عَبْدٍ, وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِسْكِينًا فَهُوَ مِمَّنْ
أُمِرَ بِإِطْعَامِهِ، وَلاَ تَجُوزُ مُعَارَضَةُ أَمْرِهِ عليه السلام
بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(6/203)
لا
ينقض الصوم حجامة و لا احتلام و لا استمناء و لا مباشرة الرجل امرأته فيما دون
الفرج
...
753 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ حِجَامَةٌ، وَلاَ احْتِلاَمٌ, وَلاَ
اسْتِمْنَاءٌ, وَلاَ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ
أَوْ أَمَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ, تَعَمَّدَ الإِمْنَاءَ
أَمْ لَمْ يُمْنِ, أَمْذَى أَمْ لَمْ يُمْذِ، وَلاَ قُبْلَةٌ كَذَلِكَ فِيهِمَا,
وَلاَ قَيْءٌ غَالِبٌ, وَلاَ قَلْسٌ خَارِجٌ مِنْ الْحَلْقِ, مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ
رَدَّهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي فَمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى رَمْيِهِ, وَلاَ دَمٌ
خَارِجٌ مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ الْجَوْفِ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْعَهُ, وَلاَ
حُقْنَةٌ، وَلاَ سَعُوطٌ، وَلاَ تَقْطِيرٌ فِي أُذُنٍ, أَوْ فِي إحْلِيلٍ, أَوْ
فِي أَنْفٍ، وَلاَ اسْتِنْشَاقٌ وَإِنْ بَلَغَ الْحَلْقَ, وَلاَ مَضْمَضَةٌ
دَخَلَتْ الْحَلْقَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ, وَلاَ كُحْلٌ أَوْ إنْ بَلَغَ إلَى
الْحَلْقِ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً بِعَقَاقِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا, وَلاَ غُبَارُ
طَحْنٍ, أَوْ غَرْبَلَةُ دَقِيقٍ, أَوْ حِنَّاءٍ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, أَوْ عِطْرٌ,
أَوْ حَنْظَلٌ, أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ, وَلاَ ذُبَابٌ دَخَلَ الْحَلْقَ
بِغَلَبَةٍ, وَلاَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ نُقْطَةُ مَاءٍ
بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ مِنْهُ; ، وَلاَ مَضْغُ زِفْتٍ أَوْ مُصْطَكَى أَوْ
عِلْكٍ; ، وَلاَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا,
(6/203)
اختلاف
العلماء في المجنون و المغمي عليه في شهر رمضان هل عليهما القضاء أم لا
...
754 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجْنُونِ,
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ جُنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ, فَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ1 قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ. قَالَ:
وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كُلِّهِ, فَإِنْ
أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ إلاَّ
يَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهَا; لاَِنَّهُ قَدْ
نَوَى صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ.
وقال مالك: مَنْ بَلَغَ وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَأَقَامَ وَهُوَ كَذَلِكَ
سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: فَإِنَّهُ يَقْضِي كُلَّ رَمَضَانَ كَانَ فِي تِلْكَ
السِّنِينَ, وَلاَ يَقْضِي شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ. قَالَ: فَإِنْ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ
أَقَلَّ النَّهَارِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إيجَابُ
الْقَضَاءِ عَلَيْهِ جُمْلَةً دُونَ تَقْسِيمٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ إلاَّ
عَلَى الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وقال الشافعي: لاَ يَقْضِي الْمَجْنُونُ, وَيَقْضِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: كُنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ
يَبْطُلُ صَوْمُهُمَا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا, وَكَذَلِكَ الصَّلاَةُ.
وَنَقُولُ: إنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَبِيعٍ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا وُهَيْبٍ،
هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ,
وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ, وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ"
وَكُنَّا نَقُولُ: إذَا رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ
بِصَوْمٍ، وَلاَ بِصَلاَةٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَدْنَاهُ
لَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فِي حَالِ
جُنُونِهِ حَتَّى يَعْقِلَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بُطْلاَنُ صَوْمِهِ الَّذِي
لَزِمَهُ قَبْلَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "منها" وهو خطأ.
(6/226)
جُنُونِهِ,
وَلاَ عَوْدَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَاقَتِهِ, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى, فَوَجَبَ
أَنَّ مَنْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فَلاَ يَكُونُ مُفْطِرًا
بِجُنُونِهِ; لَكِنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ, وَقَدْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ;
فَإِنْ أَفَاقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمٍ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ
رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ حِينِهِ وَيَكُونُ صَائِمًا;
لاَِنَّهُ حِينَئِذٍ عَلِمَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ مَنْ عَلِمَ
بِأَنَّهُ يَوْمُ نَذْرِهِ أَوْ فَرْضِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ, وَكَذَلِكَ
مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا, وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, أَوْ مَنْ نَامَ, أَوْ سَكِرَ قَبْلَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، وَلاَ صَحَا إلاَّ مِنْ الْغَدِ وَقَدْ مَضَى
أَكْثَرُ النَّهَارِ, أَوْ أَقَلُّهُ.
وَوَجَدْنَا الْمَجْنُونَ لاَ يُبْطِلُ جُنُونُهُ إيمَانَهُ, وَلاَ أَيْمَانَهُ،
وَلاَ نِكَاحَهُ، وَلاَ طَلاَقَهُ, وَلاَ ظِهَارَهُ، وَلاَ إيلاَءَهُ, وَلاَ
حَجَّهُ, وَلاَ إحْرَامَهُ، وَلاَ بَيْعَهُ, وَلاَ هِبَتَهُ, وَلاَ شَيْئًا مِنْ
أَحْكَامِهِ اللاَّزِمَةِ لَهُ قَبْلَ جُنُونِهِ, وَلاَ خِلاَفَتَهُ إنْ كَانَ
خَلِيفَةً, وَلاَ إمَارَتَهُ إنْ كَانَ أَمِيرًا، وَلاَ وِلاَيَتَهُ، وَلاَ
وَكَالَتَهُ, وَلاَ تَوْكِيلَهُ, وَلاَ كُفْرَهُ, وَلاَ فِسْقَهُ, وَلاَ
عَدَالَتَهُ, وَلاَ وَصَايَاهُ, وَلاَ اعْتِكَافَهُ, وَلاَ سَفَرَهُ, وَلاَ
إقَامَتَهُ, وَلاَ مِلْكَهُ, وَلاَ نَذْرَهُ, وَلاَ حِنْثَهُ, وَلاَ حُكْمَ
الْعَامِّ فِي الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.
وَوَجَدْنَا ذُهُولَهُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ, فَقَدْ يَذْهَلُ الإِنْسَانُ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالصَّلاَةِ, حَتَّى
يَظُنَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا، وَلاَ صَائِمًا; فَيَأْكُلَ, وَيَشْرَبَ,
وَلاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ، وَلاَ صَلاَتُهُ, بِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ،
وَلاَ فَرْقَ فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَلاَ يُبْطِلُ الْجُنُونُ وَالإِغْمَاءُ إلاَّ
مَا يُبْطِلُ النَّوْمُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَغْلُوبَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِطْرِ لاَ يَبْطُلُ
صَوْمُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى,
وَالْمَجْنُونُ, وَالْمُكْرَهُ مَغْلُوبَانِ مُكْرَهَانِ مُضْطَرَّانِ بِقَدَرٍ
غَالِبٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَصَابَهُمَا, فَلاَ يُبْطِلُ ذَلِكَ
صَوْمَهُمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
ثُمَّ جُنَّ; أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ صَوْمُهُ بِيَقِينٍ مِنْ نَصٍّ
وَإِجْمَاعٍ; فَلاَ يَجُوزُ بُطْلاَنُهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ
إجْمَاعٍ; ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مُطْبَقًا فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُخَاطَبًا,
وَلاَ لَزِمَتْهُ الشَّرَائِعُ, وَلاَ الأَحْكَامُ
(6/227)
وَلَمْ
يَزَلْ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمٍ
أَصْلاً; بِخِلاَفِ قَوْلِ مَالِكٍ: فَإِذَا عَقَلَ فَحِينَئِذٍ ابْتَدَأَ
الْخِطَابُ بِلُزُومِهِ إيَّاهُ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ فِي لَيْلَةِ رَمَضَانَ وَكَانَ نَوَى
الصَّوْمَ فَصَحَا بَعْدَ صَدْرٍ مِنْ النَّهَارِ أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ أَوْ
بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَلَيْسَ السُّكْرُ مَعْصِيَةً,
إنَّمَا الْمَعْصِيَةُ شُرْبُ مَا يُسْكِرُ سَوَاءٌ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ,
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ فُتِحَ فَمُهُ أَوْ أُمْسِكَتْ يَدُهُ وَجَسَدُهُ
وَصُبَّ الْخَمْرُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى سَكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَاصِيًا
بِسُكْرِهِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَا يُسْكِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ, وَالسُّكْرُ
لَيْسَ هُوَ فِعْلُهُ, إنَّمَا هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ, وَإِنَّمَا
يُنْهَى الْمَرْءُ، عَنْ فِعْلِهِ, لاَ، عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ
الَّذِي لاَ اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ فِي النَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ;
أَوْ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ, فَصَوْمُهُ تَامٌّ.
وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ سَكِرَ, أَوْ نَامَ
قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ صَحَا، وَلاَ انْتَبَهَ لَيْلَتَهُ
كُلَّهَا وَالْغَدَ كُلَّهُ إلَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: أَيَقْضِيهِ أَمْ لاَ.
فَوَجَدْنَا الْقَضَاءَ إيجَابَ شَرْعٍ; وَالشَّرْعُ لاَ يَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ,
فَلاَ نَجِدُ إيجَابَ الْقَضَاءِ فِي النَّصِّ إلاَّ عَلَى أَرْبَعَةٍ:
الْمُسَافِرُ, وَالْمَرِيضُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ,
وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْقَيْءِ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَزِيدَ. وَوَجَدْنَا
النَّائِمَ, وَالسَّكْرَانَ, وَالْمَجْنُونَ الْمُطْبَقَ عَلَيْهِ لَيْسُوا
مُسَافِرِينَ، وَلاَ مُتَعَمِّدِينَ لِلْقَيْءِ, وَلاَ حُيَّضًا, وَلاَ مِنْ
ذَوَاتِ النِّفَاسِ, وَلاَ مَرْضَى; فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ أَصْلاً,
وَلاَ خُوطِبُوا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الأَحْوَالِ; بَلْ
الْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ بِالسُّنَّةِ. وَوَجَدْنَا الْمَصْرُوعَ,
وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مَرِيضَيْنِ بِلاَ شَكٍّ, لإِنَّ الْمَرَضَ هِيَ حَالٌ
مُخْرِجَةٌ لِلْمَرْءِ، عَنْ حَالِ الاِعْتِدَالِ وَصِحَّةِ الْجَوَارِحِ
وَالْقُوَّةِ إلَى الاِضْطِرَابِ وَضَعْفِ الْجَوَارِحِ وَاعْتِلاَلِهَا, وَهَذِهِ
صِفَةُ الْمَصْرُوعِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ, وَيَبْقَى وَهْنُ ذَلِكَ
وَضَعْفُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الإِفَاقَةِ مُدَّةً; فَإِذْ هُمَا مَرِيضَانِ
فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَيْسَ قَوْلُنَا بِسُقُوطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إلاَّ مَا
أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِنْهَا وَبِقَضَاءِ النَّائِمِ لِلصَّلاَةِ: مُخَالِفًا
لِقَوْلِنَا هَاهُنَا; بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ, لإِنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ
لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ
(6/228)
مُخَاطَبًا
بِالصَّلاَةِ فِيهِ, وَلاَ كَانَ أَيْضًا مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ; وَلَكِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَمْ
يُوجِبْ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ: قَضَاءَ صَلاَةٍ, وَأَوْجَبَ قَضَاءَ
الصَّلاَةِ عَلَى النَّائِمِ, وَالنَّاسِي, وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ صِيَامٍ عَلَى
النَّائِمِ, وَالنَّاسِي بَلْ أَسْقَطَهُ تَعَالَى، عَنِ النَّاسِي, وَالنَّائِمِ;
إذْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى
بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَمْ يَتَّبِعْ نَصًّا, وَلاَ قِيَاسًا; لاَِنَّهُ رَأَى عَلَى
مَنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ جُنُونِهِ: قَضَاءَ الشَّهْرِ
كُلِّهِ, وَهُوَ لاَ يَرَاهُ عَلَى مَنْ بَلَغَ, أَوْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ: الْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِضِ وَهَذَا
كَلاَمٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ إبْطَالِهِ, وَمَا نَدْرِي فِيمَا
يُشْبِهُ الْمَجْنُونُ الْحَائِضَ؟!!
(6/229)
755
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ, أَوْ الْعَطَشُ حَتَّى غَلَبَهُ الأَمْرُ
فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ;
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وَلِقَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}.
وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "َاذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ
فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِذَلِكَ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ
كَانَ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ
عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مَغْلُوبٌ مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ
إلَيْهِ}. وَلَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ، وَلاَ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ قَضَاءٍ عَلَى
مُكْرَهٍ, أَوْ مَغْلُوبٍ; بَلْ قَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ
عَمَّنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَهُ.
(6/229)
لا
يلزم صوم في رمضان و لا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني
...
756 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ صَوْمٌ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ إلاَّ
بِتَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي,
وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مُبَاحٌ كُلُّ
ذَلِكَ, كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ
أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ.
فَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلْيَقْذِفْ مَا فِي فَمِهِ مِنْ طَعَامٍ
أَوْ شَرَابٍ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ
يُجَامِعُ فَلْيَتْرُكْ مِنْ وَقْتِهِ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ;
وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ طُلُوعُ الْفَجْرِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ
أَوْ قَرِيبَةٍ, فَلَوْ تَوَقَّفَ بَاهِتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَصَوْمُهُ
تَامٌّ; وَلَوْ أَقَامَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
(6/229)
من
صح عنده بخبر من يصدقه أن الهلال قد رؤي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم
...
757 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ مِنْ رَجُلٍ
وَاحِدٍ, أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: عَبْدٍ, أَوْ حُرٍّ, أَوْ أَمَةٍ, أَوْ
حُرَّةٍ, فَصَاعِدًا أَنَّ الْهِلاَلَ قَدْ رُئِيَ الْبَارِحَةَ فِي آخِرِ
شَعْبَانَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ,
صَامَ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَصُومُوا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ, وَلَوْ
صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا: أَنَّ
هِلاَلَ شَوَّالٍ قَدْ رُئِيَ فَلْيُفْطِرْ, أَفْطَرَ النَّاسُ أَوْ صَامُوا;
وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ; فَإِنْ خَشِيَ فِي ذَلِكَ أَذًى
فَلْيَسْتَتِرْ بِذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى:
قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى
تَرَوْا الْهِلاَلَ, وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ", فَإِنْ غُمَّ
عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْبَخْتَرِيِّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ قَوْلِنَا فِي هِلاَلِ
رَمَضَانَ, وَلَمْ يُجِيزُوا فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
وقال مالك: لاَ أَقْبَلُ فِي كِلَيْهِمَا إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ
الأَحْكَامِ.
قال أبو محمد: وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ
هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لإِنَّ
(6/235)
الْحُقُوقَ
تَخْتَلِفُ: فَمِنْهَا عِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ مَا يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ
وَيَمِينٌ, وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ, أَوْ رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ فَقَطْ.
وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا مَا يُسْمَحُ فِيهِ
حَتَّى يُجِيزُوا فِيهِ النَّصْرَانِيَّ وَالْفَاسِقَ, كَالْعُيُوبِ فِي الطِّبِّ,
فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ هَذِهِ الْحُقُوقِ دُونَ بَعْضٍ
بِقِيَاسِ الشَّهَادَةِ فِي الْهِلاَلِ عَلَيْهِ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَرْيَةٍ
لَيْسَ فِيهَا إلاَّ فُسَّاقٌ, أَوْ نَصَارَى, أَوْ نِسَاءٌ وَفِيهِمْ عَدْلٌ
يَضْعُفُ بَصَرُهُ، عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
قال أبو محمد: فأما نَحْنُ فَخَبَرُ الْكَافَّةِ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ
كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا; لاَِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ عَدْلَيْنِ فِي ذَلِكَ.
قلنا: لاَ, بَلْ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَقُولُ: إنْ كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا
لَمْ أَقْبَلْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ.
فَإِنْ قَالُوا: كَلاَمُهُ سَاقِطٌ.
قلنا: نَعَمْ, وَقِيَاسُكُمْ أَسْقَطُ!
فَإِنْ قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ فِيهِمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ.
قلنا: لاَِنَّهُ مِنْ الدِّينِ; وَقَدْ صَحَّ فِي الدِّينِ قَبُولُ خَبَرِ
الْوَاحِدِ; فَهُوَ مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَكَان, إلاَّ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِأَنْ لاَ يُقْبَلَ إلاَّ عَدَدٌ سَمَّاهُ لَنَا.
وَأَيْضًا: فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي أَذَانِ بِلاَلٍ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ", فَأَمَرَ عليه السلام بِالْتِزَامِ الصِّيَامِ بِأَذَانِ ابْنِ
أُمِّ مَكْتُومٍ بِالصُّبْحِ, وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ
تَبَيَّنَ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
السَّمَرْقَنْدِيُّ، حدثنا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ نَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ, فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ, فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ.
(6/236)
وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا
حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَقَالَ; إنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ:
"أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ;
"أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ:
"قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا".
قال أبو محمد: رِوَايَةُ سِمَاكٍ لاَ نَحْتَجُّ بِهَا، وَلاَ نَقْبَلُهَا
مِنْهُمْ, وَهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَخْذِ الدَّنَانِيرِ مِنْ
الدَّرَاهِمِ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا هَاهُنَا, وَإِلاَّ فَهُمْ
مُتَلاَعِبُونَ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ تَعَلَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلاَلِ رَمَضَانَ وَهِلاَلِ شَوَّالٍ
بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ إلاَّ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ.
قلنا: وَلاَ جَاءَ نَصٌّ قَطُّ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ,
وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ هِلاَلَ شَوَّالٍ عَلَى هِلاَلِ
رَمَضَانَ؟
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الشَّاهِدَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ لاَ يَجُرُّ إلَى
نَفْسِهِ, وَالشَّاهِدُ فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ.
قلنا: فَرَدُّوا بِهَذَا الظَّنِّ بِعَيْنِهِ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ فِي
شَوَّالٍ أَيْضًا; لاَِنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا, كَمَا تَفْعَلُونَ
فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي مِثْلِ هَذَا لاَ يُبَالِي قُبِلَ أَوْ
رُدَّ.
وَنَقُولُ لَهُمْ: إذَا صُمْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ; فَغُمَّ الْهِلاَلُ بَعْدَ
الثَّلاَثِينَ, أَتَصُومُونَ أَحَدًا وَثَلاَثِينَ فَهَذِهِ طَامَّةٌ, وَشَرِيعَةٌ
لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ تُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِينَ
وَإِنْ لَمْ تَرَوْا الْهِلاَلَ فَقَدْ أَفْطَرْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ
وَتَنَاقَضْتُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ شَغَبُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ
الْعَوَّامِ: حدثنا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، حدثنا حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ
الْجَدَلِيُّ جَدِيلَةُ قَيْسٍ: أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ
حَاطِبٍ خَطَبَ فَقَالَ: "عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَتِهِ, فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ
نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا".
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: "قَدِمَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمُسْلِمَانِ أَنْتُمَا" قَالاَ: نَعَمْ
فَأَمَرَ النَّاسُ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا".
وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رُؤْيَةِ
الْهِلاَلِ أَفْطَرُوا.
(6/237)
وَعَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَبِي عُثْمَانُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ هَاشِمِ
بْنِ عُتْبَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ
قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ
نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلاَنِ: لَرَأَيَاهُ بِالأَمْسِ.
قلنا: أَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ فَإِنَّ رَاوِيَهُ حُسَيْنُ بْنُ
الْحَارِثِ وَهُوَ مَجْهُولٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ,
لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ قَبُولُهُ اثْنَيْنِ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا,
وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَقْبَلَ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ, عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فِعْلِ عَلِيٍّ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ
هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ; لاَ لاَِنَّهُ وَاحِدٌ; وَلَقَدْ
كَانَ هَاشِمٌ أَحَدَ الْمُجَلِّبِينَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ فِي هَذَا خِلاَفُ ذَلِكَ,
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْهِلاَلِ, فَرَآهُ رَجُلٌ, فَقَالَ عُمَرُ: يَكْفِي
الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ; فَأَمَرَهُمْ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا فَهَذَا
عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا:، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِثْلَ
هَذَا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى رُؤْيَتِهِ فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ
خِلاَفَ ذَلِكَ; وَهُوَ أَنَّ مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ رَمَضَانَ
فَلاَ يَصُمْ, وَمَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ.
وَبِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ
رَأَيَا الْهِلاَلَ فِي سَفَرٍ; فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ ضُحَى الْغَدِ,
فَأَخْبَرَا عُمَرَ, فَقَالَ لاَِحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ قَالَ: نَعَمْ,
كَرِهْت أَنْ يَكُونَ النَّاسُ صِيَامًا وَأَنَا مُفْطِرٌ, كَرِهْت الْخِلاَفَ
عَلَيْهِمْ, وَقَالَ لِلآخِرِ: فَأَنْتَ قَالَ: أَصْبَحْت مُفْطِرًا; لاَِنِّي
رَأَيْت الْهِلاَلَ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْلاَ هَذَا يَعْنِي الَّذِي صَامَ
لاََوْجَعْنَا رَأْسَكَ, وَرَدَدْنَا شَهَادَتَكَ; ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ
فَأَفْطَرُوا.
(6/238)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْت، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعُمَرَ: إنِّي رَأَيْت هِلاَلَ رَمَضَانَ,
قَالَ: أَرَآهُ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ: لاَ قَالَ: فَكَيْف صَنَعْت قَالَ: صُمْت
بِصِيَامِ النَّاسِ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا لَكَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِيمَا يَدْعُونَهُ مِنْ
مُخَالَفَةِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَتَحْرِيمِ
الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ: أَنْ يُقَلِّدَهُ هَاهُنَا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ, وَلاَ يُفْطِرُ
إنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ وقال الشافعي كَمَا قلنا.
وَخُصُومُنَا لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، وَلاَ نَقُولُ بِهِ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: {لاَ تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ شَهِدَهُ.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ".
(6/239)
إذا
رؤي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة و يصوم الناس من حينئذ باقي يومهم
...
758 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رُئِيَ الْهِلاَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ مِنْ
الْبَارِحَةِ وَيَصُومُ النَّاسُ مِنْ حِينَئِذٍ بَاقِيَ يَوْمِهِمْ
إنْ كَانَ أَوَّلَ رَمَضَانَ وَيُفْطِرُونَ إنْ كَانَ آخِرَهُ, فَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ
الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الظَّاهِرُ
إذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقِّنِ, وَلَمْ يَجِبْ
الصَّوْمُ إلاَّ مِنْ الْغَدِ; وَبَقِيَ حُكْمُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذَا رُئِيَ
قَبْلَ الزَّوَالِ, لِلاِخْتِلاَفِ فِي ذَلِكَ; فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى
النَّصِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهِلاَلَ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ
فَإِنَّمَا يَرَاهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ وَالشَّمْسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ, وَلاَ
شَكَّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ رُؤْيَتُهُ مَعَ حَوَالَةِ الشَّمْسِ دُونَهُ
إلاَّ وَقَدْ أَهَلَّ مِنْ الْبَارِحَةِ وَبَعُدَ عَنْهَا بُعْدًا كَثِيرًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حدثنا أَبِي،
حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى النَّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ زَوَالِ
الشَّمْسِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ زَوَالِهَا فَلاَ
تُفْطِرُوا.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ بِمِثْلِهِ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ رضي الله عنه
(6/239)
إذَا
رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا
رَأَيْتُمُوهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَلاَ تُفْطِرُوا فَإِنَّ الشَّمْسَ تَزِيغُ
عَنْهُ أَوْ تَمِيلُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ بِبَلَنْجَرَ
فَرَأَيْت الْهِلاَلَ ضُحًى فَأَتَيْت سَلْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَامَ تَحْتَ
شَجَرَةٍ فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا. وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد, وَغَيْرُهُ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ خِلاَفُ هَذَا قلنا: نَعَمْ وَإِذَا صَحَّ
التَّنَازُعُ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا
الآنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/240)
من
السنة تعجيل الفطر و تأخير السحور
...
759 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ
وَإِنَّمَا هُوَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، عَنْ أُفُقِ الصَّائِمِ، وَلاَ مَزِيدَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً".
وَمِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ
بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ
السُّحُور"ِ.
قال أبو محمد: لاَ يَضُرُّ الصَّوْمَ تَعَمُّدُ تَرْكِ السَّحُورِ; لاَِنَّهُ مِنْ
حُكْمِ اللَّيْلِ وَالصِّيَامُ مِنْ حُكْمِ النَّهَارِ, وَلاَ يَبْطُلُ عَمَلٌ
بِتَرْكِ عَمَلٍ غَيْرِهِ إلاَّ بِأَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ وَيُعَجِّلُ
الإِفْطَارَ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ،
عَنْ هِشَامِ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا
الْفِطْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى سِرْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرُبَتْ
الشَّمْسُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ
(6/240)
لَنَا"
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ
لَنَا" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ:
"انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" فَنَزَلَ فَجَدَحَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا
فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ", وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلِ الْمَشْرِقِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي مُوسَى: تَأْخِيرَ الْفِطْرِ حَتَّى تَبْدُوَ
الْكَوَاكِبُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ
قَبْلَ الصَّلاَةِ وَالأَذَانِ أَفْضَلُ, كَذَلِكَ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
(6/241)
من
أسلم بعد ما تبين الفجر له أو بلغ كذلك الخ
...
760 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ لَهُ, أَوْ
بَلَغَ كَذَلِكَ,
أَوْ رَأَتْ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ كَذَلِكَ, أَوْ مِنْ النِّفَاسِ كَذَلِكَ,
أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ كَذَلِكَ, أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ كَذَلِكَ
فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بَاقِيَ نَهَارِهِمْ وَيَطَئُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ
لَمْ تَبْلُغْ, أَوْ مَنْ طَهُرَتْ فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ, وَيَسْتَأْنِفُونَ
الصَّوْمَ مِنْ غَدٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ, أَوْ بَلَغَ; وَتَقْضِي
الْحَائِضُ, وَالْمُفِيقُ, وَالْقَادِمُ, وَالنُّفَسَاءُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ:
لاَ تَأْكُلُ إلَى اللَّيْلِ, كَرَاهَةَ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَبِهِ
يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَعُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ, وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ طَهُرَتْ أَوَّلَ النَّهَارِ
فَلْتُتِمَّ يَوْمَهَا, وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِهِ أَكَلَتْ وَشَرِبَتْ;
وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ,
وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ يُسْلِمُ: فَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ
فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ صَامَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي
آخِرِ النَّهَارِ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ
فِي صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ بَعْدَ الْفَجْرِ: أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ
مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ يَقْدُمُ بَعْدَ
الْفَجْرِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ بَاقِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ:
قَدْ كَانَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَأْمُورًا بِالصِّيَامِ فَكَيْف بَعْدَ
بُلُوغِهِ. وَقَالُوا: هَلاَّ جَعَلْتُمْ هَؤُلاَءِ بِمَنْزِلَةِ
(6/241)
مَنْ
بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ قلنا: هَذَا قِيَاسٌ,
وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا
مِنْهُ بَاطِلاً لإِنَّ الَّذِي جَاءَهُ خَبَرُ الْهِلاَلِ كَانَ مَأْمُورًا
بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ
فَرْضُهُ. وَكُلُّ مَنْ ذَكَّرَنَا فَهُمْ عَالِمُونَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى
غَيْرِهِمْ, وَبِدُخُولِ رَمَضَانَ, إلاَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ،
عَنِ الصَّوْمِ جُمْلَةً; وَلَوْ صَامَ كَانَ عَاصِيًا: كَالْحَائِضِ,
وَالنُّفَسَاءِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُؤْذِيهِ الصَّوْمُ.
وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ, وَلَوْ صَامَهُ لَمْ يُجِزْهُ
وَهُوَ الصَّبِيُّ وَإِنَّمَا يَصُومُ إنْ صَامَ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا.
وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالصَّوْمِ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمَ الإِسْلاَمَ
قَبْلَهُ, وَهُوَ الْكَافِرُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي الصَّوْمِ
إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَفِي الْفِطْرِ إنْ شَاءَ وَهُوَ الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ
يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ; فَكُلُّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمٍ ابْتِدَاءً صَوْمَ
ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَالٍ بِخِلاَفِ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ
الْهِلاَلِ, وَاَلَّذِي جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ يُجْزِئْهُ
صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعْصِي إنْ أَكَلَ,
وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا فِيمَنْ بَلَغَهُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ
الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا لاَ
يَخْتَلِفُ الْحَاضِرُونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي أَنَّ الَّتِي طَهُرَتْ مِنْ
الْحَيْضِ, وَالنِّفَاسِ, وَالْقَادِمَ مِنْ السَّفَرِ, وَالْمُفِيقَ مِنْ
الْمَرَضِ: لاَ يُجْزِئُهُمْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ.
وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الَّذِي بَلَغَ, وَاَلَّذِي أَسْلَمَ إنْ أَكَلاَ
فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ. فَصَحَّ أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ غَيْرُ
صَائِمِينَ أَصْلاً, وَإِذَا كَانُوا غَيْرَ صَائِمِينَ فَلاَ مَعْنَى
لِصِيَامِهِمْ, وَلاَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِصَوْمٍ لَيْسَ صَوْمًا, وَلاَ هُمْ
مُؤَدُّونَ بِهِ فَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ هُمْ عَاصُونَ لَهُ بِتَرْكِهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ
فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ رَأَى
نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَقُولَ
بِهَذَا الْقَوْلِ, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/242)
من
تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله لم يحل له أن يأكل في باقيه و لا أن يشرب و
لا أن يجامع
...
761 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَاصِيًا
لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَاقِيهِ، وَلاَ أَنْ
يَشْرَبَ, وَلاَ أَنْ يُجَامِعَ
وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ صَائِمٍ
بِخِلاَفِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا, لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا
إمَّا مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ, وَأَمَّا مُبَاحٌ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ فَهُمْ
فِي إفْطَارِهِمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَاصِينَ
(6/242)
لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ" وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلاَّ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ يَوْمُ فَرْضِهِ فَقَطْ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِمْ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومُوا, لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْوُوهُ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً بِالْفِطْرِ فَهُمْ مُفْطِرُونَ لاَ صَائِمُونَ. وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ عَاصِيًا فَهُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ, صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ فِيهِ كُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ إذَا عَصَى بِتَعَمُّدِ الْفِطْرِ, فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ, وَهُوَ مُتَزَيِّدٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَتَى مَا تَزَيَّدَ فِطْرًا, وَلاَ صَوْمَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ هَذَا, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.
(6/243)
من
سافر في رمضان فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا
...
762 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرَ
مَعْصِيَةٍ, أَوْ لاَ طَاعَةَ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْفِطْرُ إذَا
تَجَاوَزَ مِيلاً,
أَوْ بَلَغَهُ, أَوْ إزَاءَهُ, وَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ حِينَئِذٍ لاَ قَبْلَ
ذَلِكَ, وَيَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَهُ أَنْ يَصُومَهُ
تَطَوُّعًا, أَوْ، عَنْ وَاجِبٍ لَزِمَهُ, أَوْ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ خَالٍ
لَزِمَهُ, وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ يَوْمَ نَذْرِهِ صَامَهُ لِنَذْرِهِ.
وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ, وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ
يَرَوْا لَهُ الْفِطْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ} فَعَمّ
تَعَالَى الأَسْفَارَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَيْضًا فَقَدْ أَتَيْنَا بِالْبَرَاهِينِ عَلَى بُطْلاَنِ
الصَّوْمِ بِالْمَعْصِيَةِ بِتَعَمُّدٍ, وَالسَّفَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ
وَفُسُوقٌ, فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِهِمَا. وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ
بِزَعْمِهِمْ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ, أَوْ ضَارَبَ
قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ مُرِيدًا قَتْلَهُمْ, وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ
فَدَفَعُوهُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَثْخَنُوهُ ضَرْبًا فِي تِلْكَ الْمُدَافَعَةِ
حَتَّى أَوْهَنُوهُ; فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى
الصَّوْمِ, وَلاَ عَلَى الصَّلاَةِ قَائِمًا; فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُصَلِّي
قَاعِدًا وَيَقْصُرُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَرَضِ الْمَعْصِيَةِ وَسَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مُتَقَصَّى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ طَرَفًا.
وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَدَّ السَّفَرَ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ مِنْ
الزَّمَانِ بِمَسِيرِ ثَلاَثَةٍ أَيَّامٍ, وَمِنْ الْمَسَافَاتِ بِمِقْدَارِ مَا
بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ; ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
(6/243)
وَحَدَّ
الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً. وَحَّدَ مَالِكٌ فِي
ذَلِكَ, مَرَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً, وَمَرَّةً ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً,
وَمَرَّةً خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
مِيلاً, وَمَرَّةً أَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً سِتَّةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً;
ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ
بِالْمَبْسُوطِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ
مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ. وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ
فَاسِدَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ قَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، عَنِ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ: فَرُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ خَيْبَرٍ
وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْ لاَ
يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْمَدِينَةَ إلَى السُّوَيْدَاءِ وَهُوَ
اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْفِطْرُ إلاَّ فِي
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْقَصْرُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ
التَّامِّ وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثِينَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ
الْقَصْرُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً; وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِ سَاعَةٍ, وَفِي مِيلٍ وَفِي سَفَرِ
ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ
سُحَيْمٍ عَنْهُ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ
خَلْدَةَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمٌ تَامٌّ,
وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ فَإِنْ زِدْت فَأَقْصِرْ,
وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، غَيْرَ مَنْ
ذَكَرْنَا, وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمْ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ
أَنَّهُمَا حَدَّا ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرٌ،
وَ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ
عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ
يَقُولُ: سَمِعْت ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت مِيلاً لَقَصَرْت
الصَّلاَةَ. وَعَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ
فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إلَى مَكَان عَلَى
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَقَصَرَ ابْنُ عُمَرَ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ
عَنْهُ كَالشَّمْسِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي اثْنَيْ
عَشَرَ مِيلاً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
(6/244)
حَاتِمِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ سَأَلْتُ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأَقْصُرُ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدَيْنِ مِنْ
الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ
بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حدثنا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ،
حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ كُلَيْبَ بْنَ ذُهْلٍ الْحَضْرَمِيَّ
أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جَبْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ
الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفِينَةٍ مِنْ
الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ قَالَ: اقْتَرِبْ
فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ، عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ
جِدًّا.
فأما تَحْدِيدُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, فَلاَ مَعْنَى لَهُ
أَصْلاً وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي
ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَنَعَ مِنْ
أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
قال أبو محمد: وَذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ أَثَرٌ، وَلاَ دَلِيلٌ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي بَعْضِهَا: "لاَ
تُسَافِرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ
ثَلاَثًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ لَيْلَتَيْنِ" وَفِي
بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً" وَفِي بَعْضِهَا:
"لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ
بَرِيدًا". وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ,
وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا
الْخَبَرُ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ" دُونَ تَحْدِيدٍ أَصْلاً وَلَمْ
يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً; فَإِنْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ مَنْ
اخْتَلَفَ عَنْهُ وَالأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فَابْنُ
عَبَّاسٍ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ; فَهُوَ أَوْلَى عَلَى هَذَا الأَصْلِ, وَإِنْ
أَخَذُوا بِالزِّيَادَةِ, فَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ الزَّائِدَةُ عَلَى
سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, لاَِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ سَفَرٍ وَإِنْ أَخَذُوا
بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثٍ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لاَ
الثَّلاَثُ, كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو
مَحْرَمٍ". وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ, وَسَعِيدُ بْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ،
وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لاَِبِي حَنِيفَةَ
وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ
(6/245)
أَصْلاً
إلاَّ كَتَعَلُّقِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بِذِكْرِ اللَّيْلَتَيْنِ فِيهِ،
وَلاَ فَرْقَ. وَمَا لَهُمْ بَعْدَ هَذَا حِيلَةٌ, عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْنَا
الْمُؤْنَةَ, فَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ
الرُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَفْطَرَ فِي مَخْرَجِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, وَرَأَى الْقَصْرَ فِي مِنًى مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا
قَوْلُنَا, وَكَذَلِكَ رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فِي
الْمُتَأَوِّلِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا لِمَنْ
سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَنْ يُفْطِرَ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ;
فَإِنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ أُوجِبَ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّفَرِ; فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
إلاَّ الْقَضَاءُ, فَقَدْ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ, وَيُغْنِي
مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى سَفَرًا مِنْ
سَفَرٍ. وَوَجَدْنَا مَا دُونَ الْمِيلِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; لاَِنَّهُ
قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعُدُ لِلْغَائِطِ
وَالْبَوْلِ فَلاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ, وَلَمْ نَجِدْ فِي أَقَلَّ مِنْ
الْمِيلِ قَوْلاً، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ وَاللُّغَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيَلْزَمُ مَنْ تَعَلَّقَ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ بِحَدِيثِ:
"لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ", أَنْ لاَ يَرَى الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي
سَفَرٍ مَعْصِيَةً; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُبِحْ لَهَا بِلاَ خِلاَفٍ سَفَرَ
الْمَعْصِيَةِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهَا بِلاَ شَكٍّ أَسْفَارَ
الطَّاعَاتِ; وَهَذَا مِمَّا أَوْهَمُوا فِيهِ مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُمْ
أَخَذُوا بِهِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَا دُونَ الْمِيلِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ حُكْمُ
السَّفَرِ; فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَلاَ الْقَصْرُ فِيهِ أَصْلاً, وَإِنْ
أَرَادَ مِيلاً فَصَاعِدًا; لإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ هِيَ غَيْرُ السَّفَرِ;
وَقَدْ يَنْوِي السَّفَرَ مَنْ لاَ يُسَافِرُ, وَقَدْ يُسَافِرُ مَنْ لاَ يَنْوِي
السَّفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أَنَسٍ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا
أَرَادَ السَّفَرَ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: إذْ يُفَارِقُ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: تَرْكُ الْقَصْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَانَ هَذَا هُوَ النَّظَرُ لَوْلاَ حَدِيثُ أَنَسٍ: "خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ",
فَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ نَصٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: يَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَهُوَ نَصُّ
الْقُرْآنِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَقْضِيَهُ
(6/246)
فِي
سَفَرٍ, وَفِي حَضَرٍ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِأَيَّامٍ أُخَرَ
حَضَرًا مِنْ سَفَرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فَإِنَّ النَّاسَ
اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَصُومَهُ كُلَّهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ صَامَ
وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ،
وَلاَ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ. ثُمَّ افْتَرَقَ الْقَائِلُونَ بِتَخْيِيرِهِ:
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْفِطْرُ
أَفْضَلُ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ
يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ.
فَرُوِّينَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ: عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ
السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ
رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ بَعْدُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَعَنْ عَبِيدَةُ مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ:
أَنَّهَا نَهَتْ عَنِ السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ.
وَعَنْ خَيْثَمَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ: فَلاَ تُسَافِرْ
حَتَّى تَصُومَ.
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ مِثْلُهُ قَالَ: فَإِنْ أَبَى أَنْ لاَ يُسَافِرَ
فَلْيَصُمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ أَيَصُومُ
أَمْ يُفْطِرُ فَقَالَ: يَصُومُ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ; أَوْ
الْمُخْتَارَةُ لِلصَّوْمِ: فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ; فَشَغَبُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ} وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ
يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي السَّفَرِ بِالْفِطْرِ وَهُوَ
صَائِمٌ فَتَرَدَّدُوا وَفَطَرَ هُوَ عليه السلام. وَذَكَرُوا، عَنْ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ. وَعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنْ أَفْطَرَتْ فَرُخْصَةُ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِنْ صُمْت
فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ:
الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثِ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَامَ فِي
سَفَرٍ; لاَِنَّهُ كَانَ رَاكِبًا, وَأَفْطَرَ سَعْدٌ مَوْلاَهُ, لاَِنَّهُ كَانَ
مَاشِيًا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: صُمْهُ فِي الْيُسْرِ
وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ. وَعَنْ طَاوُوس: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَعَنِ
الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ مِثْلُهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الأَمْرَيْنِ سَوَاءً بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو
الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
(6/247)
أَجِدُ
بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ،
عَنِ الْغِطْرِيفِ أَبِي هَارُونَ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَافَرَا, فَصَامَ أَحَدُهُمَا
وَأَفْطَرَ الآخَرُ, فَذَكَرَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: "كِلاَكُمَا أَصَابَ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنْ أَبِي
عِيَاضٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُنَادَى
فِي النَّاسِ: مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ
الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ". وَعَنْ عَلْقَمَةَ, وَالأَسْوَدِ, وَيَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ سَافَرُوا فِي رَمَضَانَ فَصَامَ
بَعْضُهُمْ, وَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَعَنْ
عَطَاءٍ إنْ شِئْت فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطُرْ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ أَفْضَلَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ
عَمْرٍو إذْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ
عليه السلام: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ
وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ".
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ اخْتِيَارُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ: سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ, رُوِّينَا أَنَّهُ سَافَرَ هُوَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
الأَسْوَدِ, وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَصَامَا وَأَفْطَرَ سَعْدٌ فَقِيلَ
لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَفْقَهُ مِنْهُمَا. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ كَانَ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ مَعَهُ رَقِيقٌ فَكَانَ يَقُولُ:
يَا نَافِعُ ضَعْ لَهُ سُحُورَهُ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا
سَافَرَ أَحَبَّ إلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ: رُخْصَةُ رَبِّي أَحَبُّ إلَيَّ
وَأَنْ آجَرَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ فِي السَّفَرِ. وَيَحْتَجُّ أَهْلُ هَذَا
الْقَوْلِ بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي رُوِّينَا آنِفًا، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ
بِهَا فَحَسَنٌ, وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ",
فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَلَمْ يَزِدْ فِي الصَّوْمِ عَلَى إسْقَاطِ الْجُنَاحِ.
قال علي: هذا مَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ رَأَتْ الصَّوْمَ فِي
السَّفَرِ لَمْ نَدْعُ مِنْهُ شَيْئًا, وَلَسْنَا نَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
الأَقْوَالِ فَنَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ, إلاَّ أَنَّهَا
كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَهُوَ
خِلاَفُ قَوْلِنَا فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا دَفْعُهَا كُلُّهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ وَنَسْتَعِينُ.
أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَقَدْ أَتَى
كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ, وَكَذَبَ كَذِبًا فَاحِشًا مَنْ احْتَجَّ بِهَا فِي
إبَاحَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ; لاَِنَّهُ حَرْفُ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى،
عَنْ مَوْضِعِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَذَا عَارٌ
لاَ يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ; لإِنَّ نَصَّ الآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ
(6/248)
كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ فِي حَالِ الصَّوْمِ الْمَنْسُوخَةِ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ
فِي أَوَّلِ نُزُولِ صَوْمِ رَمَضَانَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ
أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَكَانَ الصَّوْمُ
أَفْضَلَ, هَذَا نَصُّ الآيَةِ, وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ أَصْلاً،
وَلاَ لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ أَصْلاً; فَكَيْف
اسْتَجَازُوا هَذِهِ الطَّامَّةَ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ أَنَّا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ أَنَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ
حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ}. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا بَكْرِ يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ
بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ
الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ
أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا
فَنَسَخَتْهَا.
قال أبو محمد: فَحِينَئِذٍ كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ; فَظَهَرَتْ فَضِيحَةُ مَنْ
احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُحَبَّقِ: "مَنْ كَانَ يَأْوِي إلَى حَمُولَةٍ
أَوْ شِبَعٍ فَلْيَصُمْ", فَحَدِيثٌ سَاقِطٌ لإِنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ
لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ إلاَّ
لِلْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صُمْهُ فِي
الْيُسْرِ, وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ إيجَابُ
الصَّوْمِ, وَلاَ بُدَّ عَلَى ذِي الْحَمُولَةِ وَالشِّبَعِ, وَهَذَا خِلاَفُ
جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغِطْرِيفِ, وَأَبِي عِيَاضٍ فَمُرْسَلاَنِ; ، وَلاَ حُجَّةَ
فِي مُرْسَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي ذَكَرْنَا هَاهُنَا الَّذِي فِيهِ
إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
(6/249)
رِوَايَةِ
ابْنِ حَمْزَةَ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَأَبُوهُ
كَذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ هُوَ مَا نَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; فَلاَ حَجَّةَ
لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا
أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ صَائِمًا لِرَمَضَانَ, وَإِذْ لَيْسَ ذَلِكَ
فِيهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ, وَلاَ الاِحْتِجَاجُ بِاخْتِرَاعِ مَا
لَيْسَ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْقُرْآنِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا
تَطَوُّعًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا نَصًّا لَمَا
كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ; لإِنَّ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إيجَابُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَلَوْ كَانَ
صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا
بِآخِرِ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ أَهَلَّ
عَلَيْهِ الشَّهْرُ فِي الْحَضَرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ;
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ
فَلْيَصُمْهُ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ
لاَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ, ثُمَّ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ أَيْضًا قَوْلُ
اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّفَرَ وَالْمَرَضَ. نَاقِلَيْنِ، عَنِ الصَّوْمِ فِيهِ إلَى
الْفِطْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّ عَنْهُ
أَنَّهُ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ عَامَ الْفَتْحِ فَأَفْطَرَ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِمُرَادِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَالْبَلاَغُ مِنْهُ نَأْخُذُهُ, وَعَنْهُ لاَ مِنْ
غَيْرِهِ. فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, وَجَبَ أَنْ نَأْتِيَ
بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا, بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: نَذْكُرُ الآنَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ,
وَجَابِرٍ; وَحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنْ الْوُجُوهِ الصِّحَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَنَرَى أَنَّهَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; ثُمَّ نُعَقِّبُ
بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ, وَبِهِ نَتَأَيَّدُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا
الْوَلِيدِ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَتْنِي أُمِّ الدَّرْدَاءِ،
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ
يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَفَّهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا
فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي
نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
(6/250)
عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَتَى عَلَى
غَدِيرٍ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: "اشْرَبُوا" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَنَشْرَبُ، وَلاَ تَشْرَبُ فَقَالَ: "إنِّي أَيْسَرُكُمْ إنِّي
رَاكِبٌ وَأَنْتُمْ مُشَاةٌ" فَشَرِبَ وَشَرِبُوا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
رَمَضَانَ فَمَرَّ بِمَاءٍ فَقَالَ: " انْزِلُوا فَاشْرَبُوا";
فَتَلَكَّأَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ
وَشَرِبْنَا مَعَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا كَمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ
حَدَّثَنِي قَزَعَةُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ
فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ
وَنَحْنُ صِيَامٌ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى
لَكُمْ", فَكَانَتْ رُخْصَةً, فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ,
ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: "إنَّكُمْ تُصَبِّحُونَ
عَدُوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا", فَكَانَتْ عَزْمَةً
فَأَفْطَرْنَا, ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ
بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَعَطِشَ النَّاسُ
فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَمْسَكَهُ عَلَى
يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
أَنَّ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: "إنْ
شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ وَيَحْيَى بْنُ
يَحْيَى قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ، حدثنا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَالَ
يَحْيَى، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادٌ
كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ قَالَ:
"صُمْ إنْ شِئْتَ".
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; أَمَّا حَدِيثُ أَبِي
الدَّرْدَاءِ: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَصْلاً,
وَإِقْحَامُ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ كَذِبٌ; وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ
تَطَوُّعًا فَلاَ نُنْكِرُهُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ، وَلاَ لَنَا فِيهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَطَرِيقُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لاَ يُحْتَجُّ
بِهَا
(6/251)
ثُمَّ
هَبْكَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ; لإِنَّ فِيهِ: أَنَّ
آخِرَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْفِطْرُ, هَذَا إنْ
صَحَّ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ. وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
الْمَذْكُورِ; وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانٌ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ,
وَفِيهِمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: أَمْرٌ عَظِيمٌ,
لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ لِمَنْ صَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فِي رَمَضَانَ أَنْ
يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأَ صِيَامَهُ, وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ إطْلاَقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِ,
وَمَالِكٌ يَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ; فَلْيَنْظُرْ نَاصِرُ أَقْوَالِهِمْ
فَبِمَاذَا يَدْخُلُ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ إطْلاَقِ اسْمِ
الْخَطَأِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيجَابِ
الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فِي إفْطَارِهِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الإِسْلاَمِ
مِمَّنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه
السلام كَانَ صَائِمًا يَنْوِيه مِنْ رَمَضَانَ لَكَانَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ
أَمْرِهِ, وَآخِرِ فِعْلِهِ, وَإِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الأَخْبَارِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَامَ تَطَوُّعًا, وَالْفِطْرُ لِلصَّائِمِ
تَطَوُّعًا مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ:
"أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا": لَعَلَّهُ إنَّمَا
قَطَعَ يَدَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ
وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ
بِالإِعَادَةِ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ: "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
وَالصَّلاَةُ تُقَامُ فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ صَلاَتَيْكَ تَعْتَدُّ":
لَعَلَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلاَّهُمَا بَيْنَ النَّاسِ
مُكَابَرَةً لِلْبَاطِلِ: وَفِي الْخَبَرِ مَنْصُوصٌ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا
نَاحِيَةً. ثُمَّ لاَ يَقُولُ هَاهُنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا;
وَهَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هَذَا; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَخْبَارِ دَلِيلٌ
عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا تِلْكَ الأَخْبَارُ فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ
يَحْتَمِلُ مَا تَأَوَّلُوهُ لإِنَّ نَصَّهَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: "ثُمَّ لَقَدْ
رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم", فِي إجَازَةِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ أَثَرٌ، وَلاَ
عَثْرٌ مِنْ إجَازَةِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ
أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ. وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ قَوْلَ
أَسْمَاءَ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا
فَأَكَلْنَاهُ حُجَّةً, وَلاَ يَرَوْنَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّ طَلاَقَ
الثَّلاَثِ كَانَتْ تُجْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَاحِدَةً", حُجَّةً.
(6/252)
وَهَذَا
عَجَبٌ عَجِيبٌ وَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي
السَّفَرِ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ;
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ عليه السلام سَافَرَ فِي
رَمَضَانَ بَعْدَ عَامِ الْفَتْحِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَمْزَةَ فَبَيَانٌ جَلِيٌّ
فِي أَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عليه السلام، عَنِ التَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ فِي
الْخَبَرِ: "إنِّي امْرُؤٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟
وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ" فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَأَوَّلُوهُ, وَبَطَلَ أَنْ
يَكُونَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ حُجَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ
سُنَّةٍ فَلِنَذْكُرَ الآنَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِحَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ
لاَ مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ مَخْصُوصَةٌ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَفْرِضْ صَوْمَ الشَّهْرِ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَلاَ فَرْضَ عَلَى
الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إلاَّ أَيَّامًا أُخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ, وَهَذَا
نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ حِيلَةَ فِيهِ; ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَى
ذَلِكَ إنْ أَفْطَرَا فِيهِ; لاَِنَّهَا دَعْوَى مَوْضُوعَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ
قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، حدثنا
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ
عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ
الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى
نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ
النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ
الْعُصَاةُ".
قال أبو محمد: إنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام لِرَمَضَانَ فَقَدْ نَسَخَهُ
بِقَوْلِهِ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَصَارَ الْفِطْرُ فَرْضًا وَالصَّوْمُ
مَعْصِيَةً, وَلاَ سَبِيلَ إلَى خَبَرٍ نَاسِخٍ لِهَذَا أَبَدًا, وَإِنْ كَانَ
صِيَامُهُ عليه السلام تَطَوُّعًا فَهَذَا أَحْرَى لِلْمَنْعِ مِنْ صِيَامِ
رَمَضَانَ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَمُسْلِمٍ.
(6/253)
قَالَ
الْبُخَارِيِّ، حدثنا آدَم, وَقَالَ مُسْلِمٌ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثُمَّ اتَّفَقَ آدَم وَمُحَمَّدٌ
وَكِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ
عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: صَائِمٌ, فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ", هَذَا لَفْظُ آدَمَ, وَلَفْظُ غُنْدَرٍ:
"لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مَكْشُوفٌ وَاضِحٌ. فإن قيل: إنَّمَا مَنَعَ عليه السلام
فِي مِثْلِ حَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ لإِنَّ تِلْكَ
الْحَالَ مُحَرَّمُ الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِاخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِلصَّوْمِ فِي
الْحَضَرِ كَمَا هُوَ فِي السَّفَرِ فَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمَنْعِ مِنْ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ
عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَوَاجِبٌ أَخْذُ كَلاَمِهِ عليه السلام عَلَى
عُمُومِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّ
الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي
السَّفَرِ". صَفْوَانُ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ مَكِّيٌّ كَانَ مُتَزَوِّجًا
بِالدَّرْدَاءِ بِنْتِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَكَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ مَشْهُورُ
الصُّحْبَةِ هَاجَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى وَهُوَ مِنْ الأَشَاقِرِ حَيٌّ مِنْ
الأَزْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى،
هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ أَنَّ أَبَا
أُمَيَّةَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: أُخْبِرُكَ، عَنِ
الْمُسَافِرِ إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حدثنا
سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَ قد دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: "أَتَدْرِي مَا
وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ" قُلْتُ: مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ
الْمُسَافِرِ قَالَ: "الصَّوْمُ, وَشَطْرُ الصَّلاَةِ".
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ حَدَّثَنِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلٍّ يُرَشُّ عَلَيْهِ
الْمَاءُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ
الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي
رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا"
(6/254)
فَهَذَا
أَمْرٌ بِقَبُولِهَا وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ فَهِيَ رُخْصَةٌ
مُفْتَرَضَةٌ; وَصَحَّ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ،
عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ وَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ
مُتَظَاهِرَةٌ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يُعَارِضُهَا فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا.
فإن قيل: فَإِنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ مَانِعَةٌ كُلُّهَا بِعُمُومِهَا مِنْ كُلِّ
صَوْمٍ فِي السَّفَرِ وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَ فِيهِ كُلَّ صَوْمٍ إلاَّ رَمَضَانَ
وَحْدَهُ قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِمِثْلِ مَا قلنا; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَافْتَرَضَ تَعَالَى صَوْمَ الثَّلاَثَةِ
الأَيَّامِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ بُدَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي الْحَضِّ عَلَى صَوْمِ عَرَفَةَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَهُوَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ حَاجًّا. وَقَالَ عليه الصلاة
والسلام: "إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد يَصُومُ يَوْمًا
وَيُفْطِرُ يَوْمًا" فَعَمَّ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ
عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ
اللَّهُ النَّارَ، عَنْ وَجْهِهِ" فَحَضَّ عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.
فَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ فَخَرَجَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ
بِالْمَنْعِ وَحْدَهُ وَبَقِيَ سَائِرُ الصَّوْمِ وَاجِبُهُ وَتَطَوُّعُهُ عَلَى
جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصٍّ لاِخَرَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ فِي
الدِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ
الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:
"لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ".
قال أبو محمد: هَذَا تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَكَذِبٌ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْوِيلٌ لَهُ مَا لَمْ يَقُلْ, وَفَاعِلُ
هَذَا يَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ بِنَصِّ قَوْلِهِ عليه السلام,
وَلَيْسَ إذَا وُجِدَ نَصٌّ قَدْ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ أَوْ إجْمَاعٌ بِإِخْرَاجِهِ،
عَنْ ظَاهِرِهِ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ جَمِيعُ النُّصُوصِ وَتَخْرُجَ، عَنْ
ظَوَاهِرِهَا فَيَحْصُلُ مِنْ فِعْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ فِي
إحَالَةِ الْقُرْآنِ، عَنْ مَفْهُومِهِ وَظَاهِرِهِ, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَاهُنَا
فَقَدْ كَفَى خَصْمَهُ مُؤْنَتَهُ. وَيُقَالُ لَهُ: إذَا قُلْت هَذَا فِي قَوْلِهِ
عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"
فَقُلْهُ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الدِّينَ
وَالْعَقْلَ وَالتَّفَاهُمَ جُمْلَةً. فإن قيل: فَكَيْف تَقُولُونَ فِي صَوْمِهِ
عليه الصلاة والسلام مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
(6/255)
الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ}. قلنا: هَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لاَ تَخْلُو هَذِهِ الآيَةُ مِنْ
أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ بَعْدَهُ,
وَتَقَدَّمَ فَرْضُ رَمَضَانَ بِوَحْيٍ آخَرَ كَمَا كَانَ نُزُولُ آيَةِ
الْوُضُوءِ فِي الْمَائِدَةِ مُتَأَخِّرًا، عَنْ نُزُولِ فَرْضِهِ; فَإِنْ كَانَ
تَأَخَّرَ نُزُولُهَا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ. وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا فَلاَ يَخْلُو عليه الصلاة
والسلام فِي صَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَامَهُ لِرَمَضَانَ أَوْ
تَطَوُّعًا, فَإِنْ كَانَ صَامَهُ تَطَوُّعًا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ. وَإِنْ كَانَ صَامَهُ عليه الصلاة والسلام لِرَمَضَانَ فَلاَ نُنْكِرُ
أَنْ يَكُونَ عليه الصلاة والسلام نَسَخَ بِفِعْلِهِ حُكْمَ الآيَةِ ثُمَّ نَسَخَ
ذَلِكَ الْفِعْلَ وَعَادَ حُكْمُ الآيَةِ, فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ فَكَيْف، وَلاَ
دَلِيلَ أَصْلاً عَلَى تَقَدُّمِ نُزُولِ الآيَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا
نَزَلَ بَعْضُهَا إلاَّ بَعْدَ إسْلاَمِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بَعْدَ الْفَتْحِ
بِمُدَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَذْكُرَ مَنْ قَالَ: بِمِثْلِ
قَوْلِنَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا عَلَيْنَا خِلاَفَ الإِجْمَاعِ; فَالدَّعْوَى
لِذَلِكَ مِنْهُمْ سَهْلَةٌ, وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ
عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قَيْسٍ أَنَّهُ صَامَ فِي
السَّفَرِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُعِيدَ. وَمِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يُعِيدَ صِيَامَهُ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: إنَّ مَنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ قَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلاَ بَيْعَ
بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا" بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ،
عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَيْعُ عَلَى صَفْقَةٍ أَوْ تَخَايُرٍ; ثُمَّ
رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ:
لاَُعْجُوبَةٌ وَأُخْلُوقَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
نَهَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَمِنْ
طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ:
سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: يُسْرٌ وَعُسْرٌ
خُذْ بِيُسْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
(6/256)
قال
أبو محمد: إخْبَارُهُ بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عُسْرٌ: إيجَابٌ
مِنْهُ لِفِطْرِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ
عَزْمَةٌ.
رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ, وَابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد
الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ
صَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُجْزِئْهُ يَعْنِي
لاَ يُجْزِئْهُ صِيَامُهُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ
فِي السَّفَرِ فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ
عَطَاءٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ،
عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ
بِهَا عَلَيْكَ أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقْتَ بِصَدَقَةٍ فَرُدَّتْ عَلَيْكَ أَلَمْ
تَغْضَبْ؟
قال أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ فِي
السَّفَرِ مُغْضِبًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ يُقَالُ هَذَا فِي شَيْءٍ مُبَاحٍ
أَصْلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ
امْرَأَةً صَحِبَتْ ابْنَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَوَضَعَ الطَّعَامَ فَقَالَ لَهَا:
كُلِّي قَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ قَالَ: لاَ تَصْحَبِينَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: يُقَالُ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ.
قال أبو محمد: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ, وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ
أَبِيهِ, وَلاَ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ فِي الدِّينِ: يُقَالُ
كَذَا إلاَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم،, وَأَمَّا خُصُومُنَا
فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ أَسْهَلَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا:
لاَ يَقُولُ ذَلِكَ إلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ, وَهَذَا سَنَدٌ فِي
غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صُمْت
رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ أُعِيدَهُ فِي
أَهْلِي, وَأَنْ أَقْضِيَهُ فَقَضَيْته. وَمِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
(6/257)
حَرْمَلَةَ
أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأُتِمُّ الصَّلاَةَ فِي
السَّفَرِ وَأَصُومُ قَالَ: لاَ فَقَالَ: إنِّي أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ قَالَ
سَعِيدٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَقْوَى مِنْك قَدْ كَانَ
يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي
السَّفَرِ فَقَالَ: أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَلاَ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلاَ بَأْسَ
بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ مَوْلَى قُرَيْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ صَامَ فِي السَّفَرِ: إنَّهُ يَقْضِيه فِي
الْحَضَرِ, قَالَ شُعْبَةُ: لَوْ صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِي
نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْفِطْرُ آخِرَ
الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ
أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالآخِرِ فَالآخِرِ. وَمِنْ طَرِيقِ
إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَصُومُوا فِي
السَّفَرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِب أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ;
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَنِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ يَصُومُ الْمُسَافِرُ أَفْطِرْ
أَفْطِرْ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا
صِيَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ لَوْ وَجَدُوا مِثْلَهُ لَعَظُمَ الْخَطْبُ
مَعَهُمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ،
حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّيْمِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ
أَبِيهِ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصَّائِمُ فِي
السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ".
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
اللَّيْثِيِّ، وَلاَ نَرَاهُ حُجَّةً لَنَا، وَلاَ عَلَيْنَا وَفِي الْقُرْآنِ
وَصَحِيحِ السُّنَنِ كِفَايَةٌ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ
إتْمَامُ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ, وَمَالِكٌ يَرَى فِي ذَلِكَ الإِعَادَةَ فِي
الْوَقْتِ ثُمَّ يَخْتَارُونَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عَلَى الْفِطْرِ,
تَنَاقُضًا لاَ مَعْنَى لَهُ, وَخِلاَفًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلِلْقِيَاسِ
الَّذِي يَدَّعُونَ لَهُ السُّنَنَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ
يَصُومَ تَطَوُّعًا, وَلَهُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ أَفْطَرَهُ
قَبْلُ أَوْ سَائِرَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ نَذْرًا أَوْ غَيْرَهُ; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : وَلَمْ يَخُصَّ
رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ
لِعَيْنِهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيه الصَّوْمُ
فَتَكَلَّفَهُ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ
(6/258)
عَنِ الْحَرَجِ وَالتَّكَلُّفِ, وَعَنْ أَذَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ مَرِيضًا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَالْحَرَجُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ.
(6/259)
من
أقام من قبل الفجر و لم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره فعليه إذا نوى الإقامة
أن ينوي الصوم
...
763 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَقَامَ مِنْ قَبْلِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُسَافِرْ إلَى
بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي سَفَرِهِ فَعَلَيْهِ إذَا نَوَى الإِقَامَةَ
الْمَذْكُورَةَ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ،
وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَادٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ,
لاَِنَّهُ إنَّمَا أُلْزِمَ الْفِطْرَ إذَا كَانَ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مُقِيمٌ;
فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فَقَدْ أَخْطَأَ إنْ كَانَ جَاهِلاً مُتَأَوِّلاً,
وَعَصَى إنْ كَانَ عَالِمًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ
ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ; فَإِنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ أَنْ
يَرْحَلَ غَدًا فَلَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَدَثَتْ
لَهُ إقَامَةٌ فَهُوَ مُفْطِرٌ; لاَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا فَعَلَ, وَهُوَ عَلَى
سَفَرٍ مَا لَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ;
لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الصَّلاَةِ بِقَصْرِ عِشْرِينَ يَوْمًا يُقِيمُهَا فِي
الْجِهَادِ, وَبِقَصْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يُقِيمُهَا فِي الْحَجِّ. وَبِقَصْرِ
مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ مُقِيمًا مَا بَيْنَ نُزُولِهِ إلَى
رَحِيلِهِ مِنْ غَدٍ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ يُفْطِرَ فِي غَيْرِ يَوْمٍ لاَ
يَكُونُ فِيهِ مُسَافِرًا.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَهَذَا عَلَى سَفَرٍ قلنا: لَوْ كَانَتْ
"عَلَى" فِي هَذِهِ الآيَةِ مَعْنَاهَا مَا ظَنَنْتُمْ مِنْ إرَادَةِ
السَّفَرِ لاَ الدُّخُولِ فِي السَّفَرِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ
وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ;
لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مَا لاَ يُشَكُّ فِي أَنَّهُ لاَ يَقُولُهُ
أَحَدٌ; وَيُبْطِلُهُ أَيْضًا أَوَّلُ الآيَةِ إذْ يَقُولُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَوَجَبَ عَلَى الشَّاهِدِ صِيَامُهُ وَعَلَى
الْمُسَافِرِ إفْطَارُهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" وَلِقَوْلِهِ عليه
الصلاة والسلام: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ
وَشَطْرَ الصَّلاَةِ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُسَافِرٌ أَوْ شَاهِدٌ;
فَالشَّاهِدُ يَصُومُ وَالْمُسَافِرُ يُفْطِرُ وَلَيْسَ الْمُسَافِرُ إلاَّ
الْمُنْتَقِلُ لاَ الْمُقِيمُ; فَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ مَنْ انْتَقَلَ بِخِلاَفِ
مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ, وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا صَائِمًا فَحَدَثَ لَهُ سَفَرٌ
فَإِنَّهُ إذَا بَرَزَ، عَنْ مَوْضِعِهِ فَقَدْ سَافَرَ فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ
وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: بَلْ نَقِيسَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ
لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّ قَصْرَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ قَصْرُ سَائِرِهَا,
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ قِيَاسُ قَصْرِ صَلاَةٍ عَلَى قَصْرِ صَلاَةٍ
أُخْرَى فَأَبْطَلُ وَأَبْعَدُ أَنْ يُقَاسَ فِطْرٌ عَلَى فِطْرٍ، وَأَيْضًا
فَقَدْ يَنْوِي فِي الصَّلاَةِ الْمُسَافِرُ إقَامَةً فَيَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ
الْمُقِيمِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ, فَبَطَلَ عَلَى كُلِّ حَالٍ
قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخِرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/259)
764
- مَسْأَلَةٌ: وَالْحَيْضُ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّوْمَ هُوَ الأَسْوَدُ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ
يُعْرَفُ". وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا جَاءَ الآخَرُ
فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ
الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ, وَغَيْرِهَا: "كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ
وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا".
(6/260)
إذا
رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو النفساء فأخرتا الغسل عمدا إلى طلوع الفجر الخ
...
765 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رَأَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ
رَأَتْهُ النُّفَسَاءُ وَأَتَمَّتَا عِدَّةَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتَا الْغُسْلَ عَمْدًا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
ثُمَّ اغْتَسَلَتَا وَأَدْرَكَتَا الدُّخُولَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا وَصَوْمُهُمَا تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا
فَعَلَتَا مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُمَا; فَإِنْ تَعَمَّدَتَا تَرْكَ الْغُسْلِ حَتَّى
تَفُوتَهُمَا الصَّلاَةُ بَطَلَ صَوْمُهُمَا; لاَِنَّهُمَا عَاصِيَتَانِ بِتَرْكِ
الصَّلاَةِ عَمْدًا, فَلَوْ نَسِيَتَا ذَلِكَ أَوْ جَهِلَتَا فَصَوْمُهُمَا
تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا مَعْصِيَةً; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/260)
766
- مَسْأَلَةٌ: وَتَصُومُ الْمُسْتَحَاضَةُ كَمَا تُصَلِّي
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى،
عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(6/260)
من
كانت عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا أو لعذر حتى جاء رمضان آخر
...
767 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَخَّرَ
قَضَاءَهَا عَمْدًا, أَوْ لِعُذْرٍ,
أَوْ لِنِسْيَانٍ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يَصُومُ رَمَضَانَ
الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا أَفْطَرَ فِي
أَوَّلِ شَوَّالٍ قَضَى الأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلاَ مَزِيدَ,
وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا عِدَّةَ سِنِينَ،
وَلاَ فَرْقَ إلاَّ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فِي تَأْخِيرِهَا عَمْدًا سَوَاءٌ
أَخَّرَهَا إلَى رَمَضَانَ أَوْ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهَا مِنْ
الأَيَّامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
فَالْمُسَارَعَةُ إلَى اللَّهِ الْمُفْتَرَضَةُ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ اللَّهُ تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَمِّدَ لِلْقَيْءِ,
وَالْحَائِضَ, وَالنُّفَسَاءَ: بِالْقَضَاءِ; وَلَمْ يَحُدَّ اللَّهُ تَعَالَى،
وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَقْتًا بِعَيْنِهِ, فَالْقَضَاءُ
وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدَّى أَبَدًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصُّ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِإِيجَابِ إطْعَامٍ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُ
ذَلِكَ أَحَدًا لاَِنَّهُ شَرْعٌ وَالشَّرْعُ لاَ يُوجِبُهُ فِي الدِّينِ إلاَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ. وَهَذَا
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُطْعِمُ مَعَ
الْقَضَاءِ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الرَّمَضَانِ الآتِي مُدًّا مُدًّا عَدَدَهَا
مَسَاكِينَ إنْ تَعَمَّدَ
(6/260)
768
- مَسْأَلَةٌ: وَالْمُتَابَعَةُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَاجِبَةٌ:
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ فَيَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَةً وَتُجْزِئُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يَحُدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَقْتًا
يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِخُرُوجِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ
نَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَضَائِهَا مُتَفَرِّقَةً. وَاحْتَجَّ
مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ إلاَّ مُتَتَابِعَةً بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ
أُبَيٍّ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ}.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: نَزَلَتْ:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ} فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ.
قال أبو محمد: سُقُوطُهَا مُسْقِطٌ لِحُكْمِهَا, لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ
الْقُرْآنُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلاَّ بِإِسْقَاطِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ قَالَ
اللَّهُ تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
وَقَالَ تعالى: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إلاَّ مَا شَاءَ
اللَّهُ} فإن قيل: قَدْ يَسْقُطُ لَفْظُ الآيَةِ وَيَبْقَى حُكْمُهَا كَمَا كَانَ
فِي آيَةِ الرَّجْمِ. قلنا: لَوْلاَ إخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ لَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إسْقَاطِ الآيَةِ
النَّازِلَةِ بِهِ لإِنَّ مَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ لَنَا
إبْقَاءُ لَفْظِهِ، وَلاَ حُكْمِهِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ.
(6/261)
769
- مَسْأَلَةٌ: وَالأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ عَرَفَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ
صِيَامُهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا;
لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِصَوْمِهِ فِي الْقُرْآنِ; فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ أَفْطَرَ،
وَلاَ بُدَّ لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍوَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذُكِرَ قَبْلُ;
فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّهْرَ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ صِيَامُهُ
وَلَزِمَتْهُ أَيَّامٌ أُخَرُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَقَالَ
قَوْمٌ: يَتَحَرَّى شَهْرًا وَيُجْزِئُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ وَافَقَ شَهْرًا
قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ, وَإِنْ وَافَقَ شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ
أَجْزَأَهُ, لاَِنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَحَرِّي شَهْرٍ فَيُجَزِّئُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ قَضَاءً
فَحُكْمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ
سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ
دَعْوَى فَاسِدَةٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ
عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ. قلنا: هَذَا بَاطِلٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يُوجِبْ التَّحَرِّيَ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ; بَلْ مَنْ جَهِلَهَا
فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا, فَيُصَلِّي كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ قَالُوا:
قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ. قلنا: وَهَذَا بَاطِلٌ,
أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صَلاَةٌ إلاَّ حَتَّى يُوقِنَ بِدُخُولِ
وَقْتِهَا.
قال أبو محمد: وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ إلاَّ
عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ جَهِلَ وَقْتَهُ فَلَمْ
يَشْهَدْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ
وُسْعَهَا} وَقَالَ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ دُخُولِ رَمَضَانَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ
اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ صَوْمُ
الشَّهْرِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ صَوْمُ غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَرِيضًا أَوْ
مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ فِيهِ
وَالْمُسَافِرِ فِيهِ وَهُوَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, فَيَقْضِي الأَيَّامَ
الَّتِي سَافَرَ, وَاَلَّتِي مَرِضَ فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ لَمْ يُوقِنْ
بِأَنَّهُ مَرِضَ فِيهِ أَوْ سَافَرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(6/262)
الحامل
و المرضع و الشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم
...
770 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ, وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ كُلُّهُمْ
مُخَاطَبُونَ بِالصَّوْمِ
فَصَوْمُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ خَافَتْ الْمُرْضِعُ عَلَى
الْمُرْضَعِ قِلَّةَ اللَّبَنِ وَضَيْعَتَهُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
غَيْرُهَا, أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَ غَيْرِهَا, أَوْ خَافَتْ الْحَامِلُ عَلَى
الْجَنِينِ, أَوْ عَجَزَ الشَّيْخُ، عَنِ الصَّوْمِ لِكِبَرِهِ: أَفْطَرُوا، وَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ إطْعَامَ, فَإِنْ أَفْطَرُوا لِمَرَضٍ بِهِمْ عَارِضٍ
فَعَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ. أَمَّا قَضَاؤُهُمْ لِمَرَضٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ}. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي الْخَوْفِ عَلَى الْجَنِينِ,
(6/262)
وَالرَّضِيعِ
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ
يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ " فَإِذْ رَحْمَةُ الْجَنِينِ, وَالرَّضِيعِ: فَرْضٌ,
وَلاَ وُصُولَ إلَيْهَا إلاَّ بِالْفِطْرِ: فَالْفِطْرُ فَرْضٌ; وَإِذْ هُوَ فَرْضٌ
فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا الصَّوْمُ, وَإِذَا سَقَطَ الصَّوْمُ فَإِيجَابُ
الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَمْ
يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ,
وَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَمُتَعَمِّدِ الْقَيْءِ فَقَطْ, وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا الشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ
الصَّوْمَ لِكِبَرِهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إلاَّ وُسْعَهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فِي وُسْعِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ.
وَأَمَّا تَكْلِيفُهُمْ إطْعَامًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ
يَجُوزُ لاَِحَدٍ إيجَابُ غَرَامَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلْقَمَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ
فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي حُبْلَى وَأَنَا أُطِيقُ الصَّوْمَ وَزَوْجِي يَأْمُرُنِي
أَنْ أُفْطِرَ فَقَالَ لَهَا عَلْقَمَةُ: أَطِيعِي رَبَّكِ وَأَعْصِي زَوْجَكِ.
وَمِمَّنْ أَسْقَطَ عَنْهَا الْقَضَاءَ: رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَهِيَ حُبْلَى
فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ,
وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّهُ قَالَ لاََمَةٍ لَهُ مُرْضِعٍ: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ
مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
رُوِّينَا كِلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادٍ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ
الَّتِي فِي شَهْرِهَا وَالْمُرْضِعُ الَّتِي تَخَافُ عَلَى وَلَدِهَا وَتُطْعِمُ
كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا.
وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَمِمَّنْ أَسْقَطَ الإِطْعَامَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُفْطِرُ
الْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ فِي رَمَضَانَ وَيَقْضِيَانِهِ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامَ
عَلَيْهِمَا. وَمِثْلُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ, وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ. وَمِمَّنْ رَأَى عَلَيْهِمَا
الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا خَافَتْ
الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ عَلَى وَلَدِهَا فَلْتُفْطِرْ وَلْتُطْعِمْ مَكَانَ
كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ وَلِتَقْضِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(6/263)
قال
أبو محمد: فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ
الإِطْعَامِ فَلاَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لاَ نَصَّ فِي وُجُوبِهِ، وَلاَ
إجْمَاعَ, وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ.
مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ
ابْنِ عُمَرَ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلَ قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا
إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيِّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ مُرْضِعٍ فِي
رَمَضَانَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَرَخَّصَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
الْفِطْرِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ طَعَامًا, وقال مالك: أَمَّا
الْمُرْضِعُ فَتُفْطِرُ وَتُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَتَقْضِي مَعَ
ذَلِكَ, وَأَمَّا الْحَامِلُ فَتَقْضِي، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهَا, وَلاَ يُحْفَظْ
هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى الإِطْعَامَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. وَذَكَرُوا
مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ,
وَالشَّيْخِ, وَالْعَجُوزِ".
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ
هَارُونَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: "كَانَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ لِلْحُبْلَى, وَالْمُرْضِعِ أَنْ
يُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ فَإِذَا أَفْطَمَتْ الْمُرْضِعُ, وَوَضَعَتْ الْحُبْلَى
جَدَّدَتَا صَوْمَهُمَا".
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ; وَحَدِيثُ الضَّحَّاكِ فِيهِ ثَلاَثُ
بَلاَيَا, جُوَيْبِرٌ وَهُوَ سَاقِطٌ وَالضَّحَّاكُ مِثْلُهُ وَالإِرْسَالُ مَعَ
ذَلِكَ, لَكِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ قَبْلُ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ
فِي السَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ
مَنْسُوخَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ
الآيَةَ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَقَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ, فَهَذَا هُوَ
الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّ
الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُصَرِّفُونَ هَذِهِ الآيَةَ
تَصْرِيفَ الأَفْعَالِ فِي غَيْرِ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ, فَمَرَّةً يَحْتَجُّونَ
بِهَا فِي أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً يُصَرِّفُونَهَا فِي
الْحَامِلِ, وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَكُلُّ هَذَا إحَالَةٌ
لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَمَا
نَدْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِثْلَ
هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَفِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الضَّلاَلِ
(6/264)
وَأَمَّا
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إطْعَامَ
مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الإِطْعَامَ عَلَيْهِ
وَاجِبًا. وقال الشافعي مَرَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَرَّةً كَقَوْلِ
مَالِكٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَجَرِيرٍ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ:
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٌ} يُكَلَّفُونَهُ، وَلاَ
يُطِيقُونَهُ. قَالَ: هَذَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْهَرِمُ وَالْمَرْأَةُ
الْكَبِيرَةُ الْهَرِمَةُ لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ كُلَّ
يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: مِثْلَهُ.
قال علي: هذا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ
الصَّوْمَ: إنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَصَحَّ
عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ ضَعُفَ، عَنِ الصَّوْمِ إذْ كَبِرَ فَكَانَ يُفْطِرُ
وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, قَالَ قَتَادَةُ: الْوَاحِدُ
كَفَّارَةٌ, وَالثَّلاَثَةُ تَطَوُّعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
حَرْمَلَةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هُوَ
الْكَبِيرُ الَّذِي عَجَزَ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالْحُبْلَى يَشُقُّ عَلَيْهَا
الصَّوْمُ, فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إطْعَامُ مِسْكِينٍ، عَنْ كُلِّ
يَوْمٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَالْعَجُوزِ
أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَعَنْ عَطَاءٍ,
وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
السَّائِبِ وَهُوَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ, وطَاوُوس,
وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيمَنْ مَنَعَهُ الْعُطَاشُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّهُ
يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا.
قال أبو محمد: فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي لاَ يُطِيقُ
الصَّوْمَ لِهَرَمِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَهُ
عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَأَوْجَبَهُ مَالِكٌ عَلَى الْمُرْضِعِ
خَاصَّةً, وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى الْحَامِلِ، وَلاَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ;
وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ بِأَنَّ الْحَامِلَ
(6/265)
وَالْمُرْضِعَ
بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ; لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أُبِيحَ لَهُمْ
الْفِطْرُ دُونَ إطْعَامٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّيْخُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ,
وَالْمُسَافِرِ, لاَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ كَمَا
أُبِيحَ لَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِمَا وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ;
فَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ
إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَلِيًّا, وَابْنَ
عَبَّاسٍ, وَقَيْسَ بْنَ السَّائِبِ; وَأَبَا هُرَيْرَةَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ
مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَخَالَفُوا: عِكْرِمَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءً, وَقَتَادَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَهُمْ
يُشَنِّعُونَ بِمِثْلِ هَذَا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ} فَقِرَاءَةٌ لاَ يَحِلُّ
لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا; لإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ لَفْظِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ
فَلْيَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَحَاشَ اللَّهَ أَنْ يُطَوِّقَ الشَّيْخَ مَا
لاَ يُطِيقُهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ نَسْخُ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ, وَفِي بَابِ
صَوْمِ الْمُسَافِرِ, وَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ فِي الشَّيْخِ, وَلاَ فِي
الْحَامِلِ, وَلاَ فِي الْمُرْضِعِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَالٍ وَقَدْ نُسِخَتْ
وَبَطَلَتْ. وَالشَّيْخُ, وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لاَ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ
فَالصَّوْمُ لاَ يَلْزَمُهُمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الصَّوْمُ فَالْكَفَّارَةُ
لاَ تَلْزَمُهُمَا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُلْزِمْهُمَا إيَّاهَا، وَلاَ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ
إجْمَاعٍ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ
يُسْقِطُونَ الْكَفَّارَةَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا
وَقَصَدَ إبْطَالَ صَوْمِهِ عَاصِيًا, لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ,
وَبِالأَكْلِ, وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَمْدًا وَبِتَعَمُّدِ الْقَيْءِ. نَعَمْ,
وَبَعْضُهُمْ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَنْهُ فِيمَنْ أَخْرَجَ مِنْ
بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْئًا مِنْ طَعَامِهِ فَتَعَمَّدَ أَكْلَهُ ذَاكِرًا
لِصَوْمِهِ, ثُمَّ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ أَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِالإِفْطَارِ وَأَبَاحَهُ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ خَائِفَةٍ عَلَى
رَضِيعِهَا التَّلَفَ, وَشَيْخٍ كَبِيرٍ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ ضَعْفًا, وَحَامِلٍ
تَخَافُ عَلَى مَا فِي1 بَطْنِهَا; وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَخْلِيطًا; ، وَلاَ
يَحِلُّ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا إلاَّ مِنْ الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على ذي بطنها".
(6/266)
من
وطئ في اليوم مرارا فكفارة واحدة فقط
...
771 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ عَامِدًا فَكَفَّارَةٌ
وَاحِدَةٌ فَقَطْ,
وَمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمَيْنِ عَامِدًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ
كَفَّارَةٌ, سَوَاءٌ كَفَّرَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَ
الثَّانِيَةَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي
كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَامِدًا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ إلاَّ أَنْ
يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ نَهَارًا آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ
أُخْرَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَفَّرَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ لَيْسَ
عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الأَيَّامُ مِنْ شَهْرٍ
وَاحِدٍ; فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ أَفْطَرَ فِيهِمَا مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ اثْنَيْنِ, فَلِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ
الْيَوْمِ الآخَرِ. فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ
أَيَّامَ رَمَضَانَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فِي
أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, إذَا لَمْ يُكَفِّرْ
فِي خِلاَلِ ذَلِكَ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ مِنْ
رَمَضَانَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ كَفَّرَ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ
يُكَفِّرْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ
رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَكَفَّرَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ; فَمَرَّةٌ قَالَ: عَلَيْهِ
كَفَّارَةٌ أُخْرَى, وَمَرَّةٌ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْكَفَّارَةُ
الَّتِي كَفَّرَ بَعْدُ. وقال مالك وَاللَّيْثُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ,
وَالشَّافِعِيُّ: مِثْلَ قَوْلِنَا وَهُوَ عَطَاءٍ, وَأَحَدُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَخَالَفَ فِيهِ
جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي
وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ.فَصَحَّ أَنَّ لِذَلِكَ
الْيَوْمِ الْكَفَّارَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا, وَكُلُّ يَوْمٍ فَلاَ فَرْقَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ; لإِنَّ الْخِطَابَ بِالْكَفَّارَةِ وَاقِعٌ
عَلَيْهِ فِيهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ، وَلاَ فَرْقَ. فإن قيل:
هَلاَّ قِسْتُمْ هَذَا عَلَى الْحُدُودِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ
كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ الْحُدُودَ الَّتِي
يُقِيمُهَا الإِمَامُ وَالْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْءِ كُرْهًا, وَلاَ يَحِلُّ
لِلْمَرْءِ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى نَفْسِهِ, بِخِلاَفِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي
إنَّمَا يُقِيمُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا عَلَى
نَفْسِهِ, وَلَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْحُدُودِ عَلَى نَفْسِهِ; وَفُرُوقٌ أُخَرُ
نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى إنْ كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ
رَمَضَانَيْنِ فَكَفَّارَتَانِ، وَلاَ بُدَّ; وَلاَ خِلاَفَ مِنْهُ فِي أَنَّهُ
لَوْ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي عَامَيْنِ
مُخْتَلِفِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ
وَاحِدٍ, وَخَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ آخَرَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ سَرَقَ فِي
عَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَطْعٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَا ذَكَرْنَا, وَرَأَى
فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتَيْهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ
امْرَأَةٍ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ:
(6/267)
وَاَللَّهِ
لاَ كَلَّمْت زَيْدًا, ثُمَّ قَالَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت
زَيْدًا أَنَّهُمَا يَمِينَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ, وَمَنْ قَالَ:
وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا: فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إلاَّ
أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُمَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا إذَا كَرَّرَ الْوَطْءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِرَارًا
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ إلاَّ بِكَفَّارَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَعَادَ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ
فَقَدْ أَفْطَرَ, فَالْوَطْءُ الثَّانِي وَقَعَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ فَلاَ
كَفَّارَةَ فِيهِ, وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْوَاطِئَ بِأَوَّلِ إيلاَجِهِ
مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَاوَدَ أَوْ لَمْ
يُعَاوِدْ, وَلاَ كَفَّارَةَ فِي إيلاَجِهِ ثَانِيَةً بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ.
(6/268)
من
أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر و لا يجزئه شهر ناقص
مكان تام
...
772 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ بِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ
فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَدَدُ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ شَهْرٌ
نَاقِصٌ مَكَانَ تَامٍّ,
وَلاَ يَلْزَمُهُ شَهْرٌ تَامٌّ مَكَانَ نَاقِصٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُجْزِئُ شَهْرٌ
مَكَانَ شَهْرٍ إذَا صَامَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى
صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
(6/268)
773
- مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ,
لاَ نَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ عَامِدًا قَضَاءَ
يَوْمٍ مَكَانَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ, وَهَذَا
مَعْلُومٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالإِجْمَاعِ, وَضَرُورَةِ
الْعَقْلِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَصْلاً; فَالْفَرْضُ هُوَ الَّذِي
يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ; وَالتَّطَوُّعُ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ
وَلَوْ عَصَى لَكَانَ فَرْضًا, وَالْمُفَرِّطُ فِي التَّطَوُّعِ تَارِكٌ مَا لاَ
يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضًا, فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ الَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ
الصَّوْمِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِرَمَضَانَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟
قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ:
وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ; فَقَالَ عليه
السلام: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ, دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ", فَلَمْ
يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ التَّطَوُّعِ كَرَاهَةً
أَصْلاً. وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ, أَوْ بَدَا لَهُ
فِي صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, أَوْ فَسَخَ عَمْدًا حَجَّ تَطَوُّعٍ, أَوْ اعْتِكَافَ
تَطَوُّعٍ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَدَعْوَى لاَ
بُرْهَانَ عَلَيْهَا, وَإِيجَابُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ
مِمَّا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي فِطْرِ التَّطَوُّعِ فَقَطْ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
فإن قيل: إنَّكُمْ تُوجِبُونَ فَرْضًا فِي الصَّوْمِ غَيْرَ رَمَضَانَ كَالنَّذْرِ
وَصِيَامِ الْكَفَّارَاتِ قلنا:
(6/268)
774
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ
إلاَّ قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ
لإِنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَضَى ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
فِي رَمَضَانَ; لاَِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ
حَقًّا, وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ, يَوْمِ رَمَضَانَ,
وَيَوْمِ الْقَضَاءِ.
(6/271)
المجلد
السابع
تابع كتاب الصيام
تابع مسائل في قضاء الصوم والكفارة
ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
775 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ,
أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ فَفَرْضٌ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَنْ
يَصُومُوهُ عَنْهُ هُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ, وَلاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً
أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ اُسْتُؤْجِرَ
عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَصُومُهُ عَنْهُ، وَلاَ بُدَّ أَوْصَى بِكُلِّ
ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: إنْ أَوْصَى أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ أُطْعِمَ عَنْهُ
مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ, وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ. وَالإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مُدٌّ مُدٌّ, وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ صَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, نِصْفُ صَاعٍ مِنْ
الْبُرِّ أَوْ دَقِيقِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ كَمَا قلنا. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ
بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي النَّذْرِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} . نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ،
نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ,
وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ وَهْبٍ, وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ: نا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، نا أَبِي. ثُمَّ اتَّفَقَ مُوسَى, وَابْنُ وَهْبٍ
كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" وَبِهِ
إلَى مُسْلِمٍ.
(7/2)
نا
أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
سَائِلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ
وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ
عَنْهَا" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ
يُقْضَى".
قال أبو محمد: سَمِعَهُ الأَعْمَشُ مِنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ, وَمِنْ الْحَكَمِ,
وَمِنْ سَلَمَةَ, وَسَمِعَهُ الْحَكَمُ, وَسَلَمَةُ مِنْ مُجَاهِدٍ. وَبِهِ إلَى
مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ,
وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيِّ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
نُمَيْرٍ, وَقَالَ عَبْدٌ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: نا عَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ
نُمَيْرٍ, وَسُفْيَانُ, وَعَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ
أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: "إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ
وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَ
أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ:
"صُومِي", قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا
قَالَ: حُجِّي عَنْهَا" . قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: شَهْرَيْنِ,
وَاتَّفَقُوا عَلَى كُلٍّ مَا عَدَا ذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا الْقُرْآنُ, وَالسُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمُتَظَاهِرَةُ
الَّتِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا, وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: يُحَجُّ، عَنِ الْمَيِّتِ
إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ, ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ وَإِنْ أَوْصَى
بِذَلِكَ, وَكِلاَهُمَا عَمَلُ بَدَنٍ, وَلِلْمَالِ فِي إصْلاَحِ مَا فَسَدَ
مِنْهُمَا مَدْخَلٌ بِالْهَدْيِ, وَبِالإِطْعَامِ, وَبِالْعِتْقِ, فَلاَ
الْقُرْآنَ اتَّبَعُوا, وَلاَ بِالسُّنَنِ أَخَذُوا، وَلاَ الْقِيَاسَ عَرَفُوا,
وَشُغِلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} . وَذَكَرُوا قَوْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ
عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: عِلْمٌ عَلَّمَهُ, أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ, أَوْ
وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ" . وَبِأَثَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ لَمْ
يُطْعَمْ عَنْهُ, وَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ
عَنْهُ" وقال بعضهم: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمَا
رَوَيَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا الصِّيَامَ، عَنِ
الْمَيِّتِ كَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ
بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ
(7/3)
عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ اسْمُهَا عَمْرَةُ: أَنَّ
أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَقْضِيه
عَنْهَا قَالَتْ: لاَ, بَلْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ
عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ. وَإِذَا تَرَكَ الصَّاحِبُ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ
فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ, إذْ
لَوْ تَعَمَّدَ مَا رَوَاهُ لَكَانَتْ جُرْحَةً فِيهِ, وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَهُوَ كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِي شَيْءٍ مِنْهُ, أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ
إلاَّ مَا سَعَى} فَحَقٌّ إلاَّ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ
لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}.
وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. فَصَحَّ
أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى, وَمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ,
وَالصَّوْمُ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ نَسُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَالُوا: إنْ حَجَّ، عَنِ
الْمَيِّتِ, أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ, أَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ, فَأَجْرُ كُلِّ ذَلِكَ
لَهُ، وَلاَ حَقَّ بِهِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ.
فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إنَّمَا يُحَجُّ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ,
لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى قلنا لَهُ: فَقُولُوا: بِأَنْ يُصَامَ عَنْهُ
كَمَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا:
لِلْمَالِ فِي الْحَجِّ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ قلنا: وَلِلْمَالِ
فِي الصَّوْمِ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ بِالْعِتْقِ وَالاِطِّعَامِ;
وَكُلُّ هَذَا مِنْهُمْ تَخْلِيطٌ, وَتَنَاقُضٌ, وَشَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ يُجِيزُونَ الْعِتْقَ عَنْهُ,
وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذِهِ
الآيَةِ.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام بِأَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ إلاَّ مِنْ
ثَلاَثٍ, فَصَحِيحٌ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْفَضِيحَةَ فِي
احْتِجَاجِهِمْ بِهِ وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّ صَوْمَ الْوَلِيِّ،
عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ عَمَلُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَأْتُوا بِهَذَا الْخَبَرِ
الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلاَّ انْقِطَاعُ عَمَلِ الْمَيِّتِ فَقَطْ, وَلَيْسَ فِيهِ
انْقِطَاعُ عَمَلِ غَيْرِهِ أَصْلاً, وَلاَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ; فَظَهَرَ
قُبْحُ تَمْوِيهِهِمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إلاَّ عَلَى سَبِيلِ
بَيَانِ فَسَادِهَا لِعِلَلٍ ثَلاَثٍ فِيهِ: إحْدَاهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ,
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ, وَهُوَ سَاقِطٌ,
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ فِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ كَذَّابٌ.
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ فِيهِ إيجَابَ
(7/4)
الإِطْعَامِ
عَنْهُ إنْ صَحَّ بَعْدَ أَنْ مَرِضَ, وَالْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ
يَقُولُونَ بِذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ, وَإِلاَّ فَلاَ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِهِ قلنا: كَذَبْتُمْ وَزِدْتُمْ فِي
الْخَبَرِ خِلاَفَ مَا فِيهِ, لإِنَّ فِيهِ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَصِحَّ لَمْ
يُطْعَمْ عَنْهُ فَلَوْ أَرَادَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ
لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ تَمَادِي مَرَضِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ,
وَبَيْنَ صِحَّتِهِ بَيْنَ مَرَضِهِ وَمَوْتِهِ فَيُطْعَمُ عَنْهُ; لاَِنَّهُ إنْ
أَوْصَى بِالإِطْعَامِ عَنْهُ, وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ عِنْدَهُمْ;
فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْهَالِكِ وَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَمْوِيهُهُمْ بِأَنَّ عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ رَوَيَا الْخَبَرَ
وَتَرَكَاهُ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَا قَالُوا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا
افْتَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ رِوَايَةِ الصَّاحِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَلَمْ يَفْتَرِضْ عَلَيْنَا قَطُّ اتِّبَاعَ رَأْيِ أَحَدِهِمْ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الصَّاحِبُ اتِّبَاعَ مَا رَوَى لِوُجُوهٍ
غَيْرِ تَعَمُّدِ الْمَعْصِيَةِ, وَهِيَ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِيمَا رَوَى تَأْوِيلاً
مَا اجْتَهَدَ فِيهِ فَأَخْطَأَ فَأُجِرَ مَرَّةً, أَوْ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مَا
رَوَى فَأَفْتَى بِخِلاَفِهِ; أَوْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ
وَهُمَا مِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ، عَنِ الصَّاحِبِ; فَإِذْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنُ
فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا لَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِهِ لَوْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَلُ فَكَيْفَ وَكُلُّهَا مُمْكِنٌ فِيهِ، وَلاَ مَعْنَى
لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ, لاَِنَّهُ يُعَارَضُ
بِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّاحِبِ دَلِيلٌ عَلَى
ضَعْفِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ, أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ
ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا وَافَقَتْ
تَقْلِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَمَّا إذَا خَالَفَ
قَوْلُ الصَّاحِبِ رَأْيَ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ
إطْرَاحُ رَأْيِ الصَّاحِبِ وَالتَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ وَهَذَا فِعْلٌ يَدُلُّ
عَلَى رِقَّةِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الْوَرَعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها رَوَتْ فُرِضَتْ الصَّلاَةُ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
زِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحَالَةِ
الآُولَى. ثُمَّ رُوِيَ عَنْهَا مِنْ أَصَحِّ طَرِيقِ الإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ;
فَتَعَلَّقَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ بِرِوَايَتِهَا وَتَرَكُوا
رَأْيَهَا, إذْ خَالَفَتْ فِيهِ مَا رَوَتْ, وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ "أَيُّمَا
امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا
(7/5)
فَنِكَاحُهَا
بَاطِلٍ" ثُمَّ أَنْكَحَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْمُنْذِرِ
بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبُوهَا غَائِبٌ بِالشَّامِ بِغَيْرِ إذْنِهِ, وَأَنْكَرَ
ذَلِكَ إذْ بَلَغَهُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ, فَخَالَفُوا رَأْيَهَا وَاتَّبَعُوا
رِوَايَتَهَا. وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ التَّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ثُمَّ
كَانَتْ لاَ تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا, وَتُدْخِلُ
عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ بَنَاتُ أَخَوَاتِهَا, فَتَرَكُوا رَأْيَهَا
وَاتَّبَعُوا رِوَايَتَهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ
عَنْهُ: إيجَابَ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي نَهَارِ
رَمَضَانَ, وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ
صَامَهُ وَأَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ, فَتَرَكُوا الثَّابِتَ مِنْ رَأْيِهِ
لِلْهَالِكِ مِنْ رِوَايَتِهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْبَحْرِ هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ثُمَّ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ مَاءَانِ لاَ يُجْزِئَانِ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ: مَاءُ
الْبَحْرِ وَمَاءُ الْحَمَّامِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَدَقَةِ
الْفِطْرِ "مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ" مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ, وَصَحَّ
عَنْهُ مِنْ رَأْيِهِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَتَرَكَ
الْحَنَفِيُّونَ رَأْيَهُ لِرِوَايَتِهِ, وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ جِدًّا
وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ تُحَقِّقُ تَلاَعُبَ الْقَوْمِ بِدِينِهِمْ.
وَالرَّابِعُ أَنْ نَقُولَ: لَعَلَّ الَّذِي رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ فِيهِ
الإِطْعَامُ كَأَنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَتْ فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهَا.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُتْيَا بِمَا رُوِيَ
مِنْ الصَّوْمِ، عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى; فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ نَسِيَ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ مِمَّنْ لَمْ نُكَلَّفْهُ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ
فِي هَذَا أَقْوَالٌ.
رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاَِخِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: إنَّ
عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا فَسَأَلَ أَخُوهُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ:
بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ, ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ
الصَّوْمِ, أَطْعِمْ، عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْبَدَنَتَيْنِ حُجَّةً
فَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِطْعَامِ حُجَّةً، وَلاَ فَرْقَ; وَلَعَلَّ
هَذَا لَمْ يَكُنْ مُطِيقًا لِلصَّوْمِ, أَوْ لَعَلَّ ذَيْنَكَ الرَّمَضَانَيْنِ
كَانَا، عَنْ تَعَمُّدٍ فَلاَ قَضَاءَ فِي ذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
(7/6)
إذَا
مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ
نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَمِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ
مَاتَ الَّذِي عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ يَصِحَّ قَبْلَ مَوْتِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ فَإِنْ صَحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةً.
وَعَنِ الْحَسَنِ إنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ
صَحَّ فَلَمْ يَقْضِ صَوْمَهُ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ
مَكُّوكٌ مِنْ بُرٍّ, وَمَكُّوكٌ مِنْ تَمْرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ طَائِفَةٍ
مُدٌّ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ, وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: لاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ،
وَلاَ صِيَامَ, وَأَيْضًا فَإِنَّ احْتِجَاجَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ
بِتَرْكِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ هُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ خَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِي
قَوْلِهَا أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ لِمِسْكِينٍ, وَهُمْ لاَ
يَقُولُونَ: بِهَذَا, فَإِنْ كَانَ تَرْكُ عَائِشَةَ لِلْخَبَرِ حُجَّةً,
فَقَوْلُهَا فِي نِصْفِ صَاعٍ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا فِي نِصْفِ
صَاعٍ حُجَّةً فَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْخَبَرِ حُجَّةً, فَظَهَرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا
يَحْتَجُّونَ مِنْ قَوْلِ الصَّاحِبِ بِمَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ فَقَطْ; فَإِذَا
خَالَفَ مَنْ قَلَّدُوهُ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلاَفُ الصَّاحِبِ, وَهَذَا دَلِيلُ
سَوْءٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ, وَرَوْحِ
بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَنَذْرُ
شَهْرٍ: يُطْعَمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ وَيَصُومُ عَنْهُ
وَلِيُّهُ نَذْرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَصَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ:
يُطْعَمُ عَنْهُ لِرَمَضَانَ وَيُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ, وَهَذَا إسْنَادٌ
صَحِيحٌ; فَإِنْ كَانَ تَرْكُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا تَرَكَ مِنْ الْخَبَرِ حُجَّةً
فَأَخْذُهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ بِمَا
أَخَذَ بِهِ حُجَّةً فَتَرْكُهُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا عَدَا هَذَا
فَتَلاَعُبٌ بِالدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثُونِي، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ: إنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يُطْعَمُ عَنْهُ صَامَهُ عَنْهُ
وَلِيُّهُ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ
(7/7)
مَعْمَرٍ،
عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ صِيَامُ
رَمَضَانَ قَضَى عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ, قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ حَمَّادُ
بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ نَذْرُ صِيَامٍ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَوْلَى مِنْ
بَعْضٍ, وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ; لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ مِنْ
غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ:
لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِالإِطْعَامِ فَيُطْعَمَ عَنْهُ وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ قَالَ بِهَذَا; إلاَّ رِوَايَةً، عَنِ الْحَسَنِ قَدْ
صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ; فَبَاطِلٌ
وَقِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُصَلَّى عَنْهُ النَّذْرُ, وَصَلاَةُ
فَرْضٍ إنْ نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى مَاتَ; فَهَذَا
دَخَلَ تَحْتَ, قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ
اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" . وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنْ تُصَلَّى الرَّكْعَتَانِ إثْرَ الطَّوَافِ، عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي
يُحَجُّ عَنْهُ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ
إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي قَضَاءِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمَيِّتِ. وقال
الشافعي: إنْ صَحَّ الْخَبَرُ قلنا بِهِ وَإِلاَّ فَيُطْعَمُ عَنْهُ مُدٌّ، عَنْ
كُلِّ يَوْمٍ. وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ
يُقْضَى".
قال أبو محمد: مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: بَلْ دَيْنُ النَّاسِ
أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ سَمِعَ
هَذَا الْقَوْلَ.
(7/8)
776 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ أَجْزَأَ; لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَاقْتَسَمُوهُ جَازَ كَذَلِكَ أَيْضًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَنْ يَصُومُوا كُلُّهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فَلاَ بُدَّ مِنْ أَيَّامٍ مُتَغَايِرَةٍ, فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَلاَ عَلَيْهِ; لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ, وَهَذَا مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يُكَلَّفْ, وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْهُ فَقَدْ مَاتَ، وَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ.
(7/8)
وَالأَوْلِيَاءُ هُمْ ذَوُو الْمَحَارِمِ بِلاَ شَكٍّ وَلَوْ صَامَهُ الأَبْعَدُ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَجْزَأَ عَنْهُ, لاَِنَّهُ وَلِيُّهُ, فَإِنْ أَبَوْا مِنْ الصَّوْمِ فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمِ; لاَِنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" . وَبِأَمْرِهِ عليه السلام الْوَلِيَّ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ.
(7/9)
777
- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَعَمَّدَ النُّذُورَ لِيُوقِعَهَا عَلَى وَلِيِّهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ فَلَيْسَ نَذْرًا، وَلاَ يَلْزَمُهُ هُوَ، وَلاَ وَلِيُّهُ بَعْدَهُ,
وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، نا
إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ".
قال علي: وهذا النَّذْرُ إنَّمَا يَكُونُ نَذْرًا إذَا قُصِدَ بِهِ اللَّهُ
تَعَالَى فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ فَإِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلاَ
غَيْرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/9)
778
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ, شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ, أَوْ تَقَرُّبًا إلَيْهِ تَعَالَى, أَوْ إنْ فَاقَ, أَوْ إنْ أَرَاهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَمَلاً يَأْمُلُهُ لاَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَأْمُولِ, فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ. قَالَ عَزَّ
وَجَلَّ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا
أَبُو دَاوُد، نا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ الأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ
فَلاَ يَعْصِهِ". فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ نَذَرَتْ
صَوْمَ يَوْمِ حَيْضَتِهَا أَوْ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ, وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ
كُلِّ مَعْصِيَةٍ.
(7/9)
779 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً كَالْقُعُودِ فِي دَارِ فُلاَنٍ أَوْ أَنْ لاَ يَأْكُلَ خُبْزًا مَأْدُومًا أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ, وَلاَ حُكْمَ لِهَذَا إلاَّ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ تَعَالَى
(7/9)
780 - مَسْأَلَةٌ: وَيُنْهَى، عَنِ النَّذْرِ جُمْلَةً فَإِنْ وَقَعَ لَزِمَ كَمَا قَدَّمْنَا, رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى، عَنِ النَّذْرِ وَيَقُولُ: "لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" . فَفِي قَوْلِهِ عليه السلام: "وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ". إيجَابٌ لِلْوَفَاءِ بِهِ إذَا وَقَعَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
(7/10)
781 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ لِلَّهِ تَعَالَى صَوْمُ يَوْمَ أُفِيقُ, أَوْ قَالَ: يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ, أَوْ قَالَ يَوْمَ أَنْطَلِقُ مِنْ سِجْنِي, أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا فَكَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا: لَمْ يَلْزَمْهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاؤُهُ، وَلاَ صَوْمُ غَيْرِهِ; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً فَلَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ, وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ صَوْمٍ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَلاَ تَقَدَّمَ إلْزَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إيَّاهُ, وَلاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُ يَوْمٍ آخَرَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ قَدِمَ نَهَارًا صَامَ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وقال مالك: إنْ قَدِمَ لَيْلاً صَامَ النَّاذِرُ غَدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
(7/10)
782 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: عَلَيَّ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ لَيْلاً لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَدَّمْنَا, لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ صِيَامُ اللَّيْلِ, لاَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ, فَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَزِمَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا تَكَرَّرَ كَمَا نَذَرَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ غَيْرُ مَا نَذَرَ.
(7/10)
783 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ عَامِدًا أَوْ لِعُذْرٍ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَيَلْزَمُهُ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْذِرْ الْقَضَاءَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ.
(7/10)
784 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا نَذَرَ.
(7/11)
785 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَةٍ أَوْ قَالَ: شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ إلاَّ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ; فَإِنْ تَعَمَّدَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ فِطْرًا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ: ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لإِنَّ اسْمَ الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرِ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لاَ مُتَفَرِّقَةٍ, فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ لاَ مَا لَمْ يَنْذِرْ; فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ.
(7/11)
786 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَتَيْنِ أَوْ قَالَ: شَهْرَيْنِ, وَلَمْ يَنْذِرْ التَّتَابُعَ فِي ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ كُلَّ جُمُعَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ, وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةِ, وَبَيْنَ الشَّهْرِ وَالشَّهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا إلاَّ أَنْ يَنْذِرَهُمَا مُتَتَابِعِينَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ طَاعَةٌ زَائِدَةٌ.
(7/11)
787 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ, فَإِنْ ابْتَدَأَ صِيَامَهُ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةٌ، وَلاَ بُدَّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ"، وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلاَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ يَوْمٍ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ; وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا نَذَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَقَطْ; فَإِنْ نَذَرَ نِصْفَ شَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا, لإِنَّ كَسْرَ يَوْمٍ لاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُهُ لِمَنْ نَذَرَهُ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ يَوْمًا زَائِدًا لَمْ يُنْذَرْهُ.
(7/11)
788 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَصُومُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لاَ يَعُدُّ فِيهَا رَمَضَانَ, وَلاَ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى, وَلاَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ, وَفِي هَذَا عِنْدَنَا نَظَرٌ وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ; لإِنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا إلْزَامٌ لَهُ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; لإِنَّ اسْمَ سَنَةٍ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مُتَّصِلَةٍ لاَ مُبَدَّدَةٍ, وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ كَمَا نَذَرَهُ; فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ نَذَرَهُ, وَلاَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَمْ يُمْكِنْ, وَمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَمَنْ ادَّعَى هَاهُنَا إجْمَاعًا فَقَدْ كَذَبَ; لاَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ، عَنْ صَاحِبٍ أَصْلاً, وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، عَنْ تَابِعٍ. وَقَدْ قَالَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ يُفْطِرُ فِيهَا يَوْمَيْ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ, ثُمَّ يَقْضِيهَا. وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِيهَا. وقال مالك: يَصُومُ, وَيُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِي رَمَضَانَ, وَلاَ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَصُومُ
(7/11)
789 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ نَذْرًا فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِرَمَضَانَ لاَ لِلنَّذْرِ أَصْلاً; فَإِنْ صَامَهُ لِنَذْرِهِ أَوْ لِرَمَضَانَ وَلِنَذْرِهِ فَالإِثْمُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ لاَ لِنَذْرِهِ، وَلاَ لِرَمَضَانَ; لإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ لِنَذْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِهِ مُخْلِصًا لَهُ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
(7/12)
790
- مَسْأَلَةٌ: وَأَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ صَوْمُ يَوْمٍ
وَإِفْطَارُ يَوْمٍ. وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
أَصْلاً, وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِهَا
الْحُجَّةُ, وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ الدَّهْرِ أَصْلاً.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، نا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ
النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:
"فَلاَ تَفْعَلْ, صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ; فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ
حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا,
وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا; وَإِنَّ
(7/12)
791 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ, وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسِ, وَكُلُّ هَذَا فَبِأَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, فأما الثَّلاَثَةُ الأَيَّامِ فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَمَّا الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسُ فَلِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ، هُوَ ابْنُ رَافِعٍ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسَ" . وَيَكْرَهُ صَوْمَ شَهْرٍ تَامٍّ غَيْرِ رَمَضَانَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ قَوْلِنَا آنِفًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
(7/17)
792 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَقَطْ فَحَسَنٌ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِوُجُوبِ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ" وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ; فَقَالَ السَّائِلُ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ".
(7/17)
793
- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: وَهُوَ التَّاسِعُ مِنْ
الْمُحَرَّمِ وَإِنْ صَامَ الْعَاشِرَ بَعْدَهُ فَحَسَنٌ. وَنَسْتَحِبُّ أَيْضًا
صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا
شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ
الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ
السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ". وَسُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
فَقَالَ "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعُ بْنُ
الْجَرَّاحِ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ قَالَ:
سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: إذَا رَأَيْتَ هِلاَلَ
الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا فَقُلْتُ: هَكَذَا
كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَالَ: نَعَمْ.
نا حَمَّادُ بْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
(7/17)
794 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ النَّحْرِ لِمَا ناهُ حُمَامٌ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِيهِمْ الْعَمَلُ أَوْ أَفْضَلُ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". قال أبو محمد: هُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, وَالصَّوْمُ عَمَلُ بِرٍّ; فَصَوْمُ عَرَفَةَ يَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا.
(7/19)
795
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلاَّ لِمَنْ صَامَ
يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ فَلَوْ نَذَرَهُ إنْسَانٌ كَانَ نَذْرُهُ
بَاطِلاً, فَلَوْ كَانَ إنْسَانٌ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَجَاءَهُ
صَوْمُهُ فِي الْجُمُعَةِ فَلْيَصُمْهُ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ
زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَخْتَصُّوا
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ
يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
نا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، نا بِشْرٌ، هُوَ ابْنُ
الْمُفَضَّلِ، نا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا: أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ: لاَ قَالَ:
أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ: لاَ قَالَ: فَأَفْطِرِي. وَرُوِّينَا
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ; وَمِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ جُنَادَةَ الأَزْدِيُّ: وَلَهُ صُحْبَةٌ كُلُّهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم. وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ،
عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، هُوَ ابْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ
صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِزَيْدِ بْنِ صَوْحَانَ:
"اُنْظُرْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلاَ تُصَلِّهَا".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ قَالَ: مَرَّ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَبِي ذَرٍّ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَهُمْ صِيَامٌ فَقَالَ:
عَزَمْت عَلَيْكُمْ لِمَا أَفْطَرْتُمْ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ قَيْسُ بْنُ
السَّكَنِ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ وَجَالَسَهُ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَى، عَنْ تَعَمُّدِ صِيَامِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ تَصُمْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ إلاَّ أَنْ تَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَهُوَ قَوْلُ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ; وَمُجَاهِدٍ, وَالشَّعْبِيِّ, وَابْنِ سِيرِينَ
وَغَيْرِهِمْ, وَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ عَمَّنْ لَقِيَ, وَإِنَّمَا لَقِيَ
أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(7/20)
فإن
قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرً وَقَلَّ مَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَلَّ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ
طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَلَّ مَا رَأَيْتُهُ مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ
قَطُّ.
قال أبو محمد: لَيْثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ
فَصَحِيحٌ, وَالْقَوْلُ فِيهَا كُلُّهَا سَوَاءٌ, وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنْهَا لاَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةُ
تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ دُونَ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ
بَعْدَهُ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ صِيَامَهُ إذَا صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ
يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ نَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَنُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْهُ صَاحِبُهُ, وَلاَ
أَنْ نَحْمِلَ فِعْلَهُ عَلَى مُخَالِفَةِ أَمْرِهِ أَلْبَتَّةَ إلاَّ بِبَيَانِ
نَصٍّ صَحِيحٍ فَيَكُونَ حِينَئِذٍ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا, قَالَ تَعَالَى
آمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وطَاوُوس
بَيَانُ قَوْلِنَا بِأَصَحَّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ يَنْهَى، عَنْ افْتِرَادِ الْيَوْمِ كُلَّمَا مَرَّ بِالإِنْسَانِ
يَعْنِي، عَنْ صِيَامِهِ: فَصَحَّ نَهْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ افْتِرَادِ يَوْمٍ
بِعَيْنِهِ فِي الصَّوْمِ, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ
أَنْ يَتَحَرَّى يَوْمًا يَصُومُهُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفًا أَصْلاً فِي النَّهْيِ، عَنْ تَخْصِيصِ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/21)
796 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمَ يُفِيقُ, أَوْ ذَلِكَ فَوَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ لَمْ يَلْزَمْ; لاَِنَّهُ لاَ يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَهُ, وَلاَ يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ, وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُهُ إلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/21)
797
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ اللَّيْلِ أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يَصِلَ
الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ لاَ يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا,
وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ، وَلاَ بُدَّ.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، نا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ الْهَادِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
(7/21)
798
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ الَّذِي مِنْ آخِرِ
شَعْبَانَ, وَلاَ صِيَامُ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِ الشَّكِّ الْمَذْكُورِ
إلاَّ مَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَيَصُومُهُمَا حِينَئِذٍ لِلْوَجْهِ
الَّذِي كَانَ يَصُومُهُمَا لَهُ لاَ لاَِنَّهُ يَوْمُ شَكٍّ، وَلاَ خَوْفًا مِنْ
أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَأَبُو كُرَيْبٍ
كِلاَهُمَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلاَ
يَوْمَيْنِ إلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْ". وَقَدْ
ذَكَرْنَا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يُرَى الْهِلاَلُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ عَمْرٍو.
نا عبد الله بن ربيع، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ
وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا
ثَلاَثِينَ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ
يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَغَضِبَ وَقَالَ: "لاَ".
قال أبو محمد: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
هَذَا الْخَبَرُ يُوَضِّحُ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَيِّ صَاحِبٍ، وَلاَ غَيْرِهِ
أَصْلاً وَبِهَذَا يَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ
رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ يَوْمًا لَيْسَ
فِيهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي
يَشُكُّ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ
أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فِي آخِرِ شَعْبَانَ
يَقُولُ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. وَعَنْ
حُذَيْفَةَ; وَابْنِ عَبَّاسٍ; وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: لَوْ صُمْت
السَّنَةَ كُلَّهَا لاََفْطَرْت الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ.
قال أبو محمد: وَرُوِيَ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: لاََنْ أَصُومَ يَوْمًا
مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ. وَعَنْ
أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ.
(7/23)
وَنا
يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ
الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا خَلَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً مِنْ شَعْبَانَ
بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ الْهِلاَلَ فَإِنْ حَالَ مِنْ دُونِ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ
قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا, وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ
أَصْبَحَ مُفْطِرًا. وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ
يَوْمَ الشَّكِّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَكْرَهُ
صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ إلاَّ إنْ أُغْمِيَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, وَعَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ يَوْمَ الشَّكِّ صَائِمًا فَإِنْ
قَدِمَ خَبَرٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ
أَتَمَّ صَوْمَهُ وَإِلاَّ أَفْطَرَ. وَبِالنَّهْيِ، عَنْ صَوْمِهِ جُمْلَةً
يَقُولُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَعِكْرِمَةُ, وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ, وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ.
قال أبو محمد: هَذَا ابْنُ عُمَرَ هُوَ رَوَى أَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يَرَى
الْهِلاَلَ ثُمَّ كَانَ يَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى صِيَامَ
يَوْمِ الشَّكِّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ،
عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ صُمْت مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ [شَيْئًا يَعْنِي
شَعْبَانَ] قَالَ: لاَ, قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فَصُمْ
يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إلاَّ شَعْبَانَ يَصِلُهُ
بِرَمَضَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِي الأَزْهَرِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ فَرْوَةَ قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي النَّاسِ فِي
دَيْرِ مِسْحَلٍ الَّذِي عَلَى بَابِ حِمْصٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا
قَدْ رَأَيْنَا الْهِلاَلَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَأَنَّا مُتَقَدِّمٌ
بِالصِّيَامِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلْيَفْعَلْهُ, فَقَامَ إلَيْهِ
مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيُّ فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ أَشَيْءٌ
سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَيْءٌ مِنْ رَأْيِكَ
فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صُومُوا
الشَّهْرَ وَسِرَّهُ".
قال أبو محمد: الْمُغِيرَةُ بْنُ فَرْوَةٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً, لإِنَّ
(7/24)
نَصَّهُ
"صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ" وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ شَهْرُ رَمَضَانَ لاَ
مَا سِوَاهُ وَسِرَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ, وَلاَ يَخْلُو سِرُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ أَوْ وَسَطَهُ وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ مِنْ رَمَضَانَ
لاَ مِنْ شَعْبَانَ, وَلَيْسَ فِيهِ: صُومُوا سِرَّ شَعْبَانَ; فَبَطَلَ
التَّعَلُّقُ بِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ;
لإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ فَوَافَقَ يَوْمَ الشَّكِّ
فَلْيَصُمْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ, وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُحْمَلَ صَوْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَفِي وَصْلِهِ
شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ إلاَّ عَلَى أَنَّهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ كَانَ لَهُ.
وَأَمَّا خَبَرُ عِمْرَانَ فَصَحِيحٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ;
لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا كَانَ يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لَوْ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إنَّهُ صَامَ سِرَرَ شَعْبَانَ أَيَنْهَاهُ أَمْ
يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا
بِالظُّنُونِ، وَلاَ بِمَا لاَ بَيَانَ فِيهِ, ثُمَّ لَوْ كَانَ فِي هَذِهِ
الأَخْبَارِ بَيَانٌ جَلِيٌّ بِإِبَاحَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ شَعْبَانَ
لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لإِنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ وَغَيْرِهِ
كَانَ مُبَاحًا بِلاَ شَكٍّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ; لإِنَّ الصَّوْمَ جُمْلَةً
عَمَلُ بِرٍّ وَخَيْرٍ; فَلَمَّا صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ إلاَّ لِمَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ
يَصُومُهُ صَحَّ يَقِينًا لاَ مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ
قَدْ نُسِخَتْ وَبَطَلَتْ; لإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا
النَّهْيِ بِنَصِّهِ كَمَا هُوَ لاِسْتِثْنَائِهِ عليه السلام مَنْ كَانَ لَهُ
صَوْمٌ فَلْيَصُمْهُ, وَلاَ يَحِلُّ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ
مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُ النَّاسِخِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ
الْحَالَةَ الْمَنْسُوخَةَ قَدْ عَادَتْ، وَأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ بَطَلَ فَقَدْ
كَذَبَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَقَالَ مَا لاَ دَلِيلَ لَهُ بِهِ
أَبَدًا, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ.
(7/25)
799 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ مَعْنَى لِلتَّلَوُّمِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ تَلَوُّمُهُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَرْكِ صَوْمِهِ وَوَاقَعَ النَّهْيَ, وَإِنْ كَانَ تَلَوَّمُهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَنَاءٌ لاَ مَعْنَى لَهُ, وَتَرْكُ الْمُفْطِرِ الأَكْلَ عَمَلٌ فَارِغٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ فِي أَوَّلِهِ.
(7/25)
800
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ
تَطَوُّعًا أَصْلاً، وَلاَ لِمَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ.
نا عبد الله بن ربيع، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ،
نا أَبُو دَاوُد، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: قَدِمَ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ الْمَدِينَةَ
فَمَالَ إلَى مَجْلِسِ الْعَلاَءِ
(7/25)
801 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْفِطْرِ, وَلاَ يَوْمِ الأَضْحَى لاَ فِي فَرْضٍ، وَلاَ فِي تَطَوُّعٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى, أَوْ يَوْمَ فِطْرٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ, وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ أَنَّهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمًا مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مَكَانَهُ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ.
(7/27)
قَالَ
عَلِيٌّ: إنَّمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ
طَاعَةً لاَ إذَا كَانَ مَعْصِيَةً, وَإِذْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى, أَوْ أَيِّ يَوْمٍ نَهَى عَنْهُ
فَصَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعْصِيَةٌ; وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ
بِالْوَفَاءِ بِنَذْرٍ مَعْصِيَةٍ, وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ آثَارٌ.
مِنْهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ
أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه
فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ
صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ, وَالْيَوْمُ الآخَرُ يَوْمَ
تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ مُسْنَدًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي
رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهُ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ
الدَّهْرَ وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْيَمِينَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ وَيُفْطِرَ:
يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ;، وَلاَ يُطْعِمُ شَيْئًا,
لَكِنْ يُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ
". وَهَذَا تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ.
(7/28)
802
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ, وَهِيَ ثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الأَضْحَى, لاَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ, وَلاَ فِي نَذْرٍ,
وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ, وَلاَ لِمُتَمَتِّعٍ بِالْحَجِّ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
الْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: يَصُومُهَا
الْمُتَمَتِّعُ الْمَذْكُورُ كُلَّهَا, وَلاَ يَصُومُ النَّاذِرُ مِنْهَا إلاَّ
الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَطْ;، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ شَيْءٌ مِنْهَا
تَطَوُّعًا, وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا
أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا مَالِكٌ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي
مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَرَّبَ إلَيْهِمَا طَعَامًا
فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَانَا،
عَنْ صِيَامِهَا قَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
نا حمام بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، نا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، نا مُسَدَّدٌ، نا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ
بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ, وَأَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ".
(7/28)
قال
أبو محمد: تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ وَبَيْنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
لاَ وَجْهَ لَهُ أَصْلاً; فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ عُرْوَةُ: عَنْ عَائِشَةَ, وَقَالَ سَالِمٌ: عَنْ
أَبِيهِ, ثُمَّ اتَّفَقَا, قَالاَ: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ
يُصَمْنَ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. وَقَدْ أَسْنَدَهُ، عَنْ شُعْبَةَ:
يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ, وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ, فَإِنَّ
هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم,
وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُسْنَدَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ فَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ
الظَّنَّ أَكْذَبُ" الْحَدِيثِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ أَيَّامَ
التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَعَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُفْطِرُ
إلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. وَعَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ
أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا لَكَانَ حُجَّةً عَلَى
الْمَالِكِيِّينَ; لاَِنَّهُ أَبَاحَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَنْ يَصُومَهُ
النَّاذِرُ, وَهُوَ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ فِيمَا
وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ: هَذَا لاَ يُقَالَ
بِالرَّأْيِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي تَيَمُّمِ جَابِرٍ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ. وَفِي
قَوْلِ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، لاُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إذْ
بَاعَتْ مِنْهُ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِ مِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ
مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ: أَبْلِغْ زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ,
وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ. وَفِي التَّيَمُّمِ
إلَى الْكُوعَيْنِ, فَهَلاَّ قَالُوا هُنَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عُمَرَ:
مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا
خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ السُّنَنِ مَا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى: لاَ يُقْبَلُ
فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, وَرَدُّوا بِذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ,
فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلاَ يُقْبَلُ
فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, إذْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ صَحِيحًا مَا خَفِيَ عَلَى عَائِشَةَ, وَأَبِي طَلْحَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ, وَالأَسْوَدِ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَبَرَ
الْمُضْطَرَبَ فِيهِ مَرْدُودٌ, وَادَّعُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ: "لاَ
تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَلاَ الْمَصَّتَانِ" فَهَذَا الْخَبَرُ أَشَدُّ
اضْطِرَابًا, لاَِنَّهُ رُوِيَ، عَنْ بِشْرٍ بْنِ سُحَيْمٍ, وَمَرَّةً عَنْهُ،
عَنْ عَلِيٍّ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَهُمْ: هَذَا نَدْبٌ
فَهَلاَّ قَالُوهُ هَاهُنَا وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إذَا رَوَى الصَّاحِبُ
خَبَرًا وَتَرَكَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ, وَعَائِشَةُ قَدْ رَوَتْ كَمَا
ذَكَرْنَا النَّهْيَ، عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَتَرَكَتْ ذَلِكَ
فَكَانَتْ تَصُومُهَا تَطَوُّعًا; فَهَلاَّ تَرَكُوا هَاهُنَا رِوَايَتَهَا
لِرَأْيِهَا، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنَّهُمَا وَابْنَ
عَبَّاسٍ صَامَاهَا فِي تَمَتُّعِ الْحَجِّ; لإِنَّ يَسَارَهُمَا وَيَسَارَ
الأَسْوَدِ وَسَعَةَ أَمْوَالِهِمْ لاَِلْفِ هَدْيٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَجْهَلَهُ
إلاَّ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ أَصْلاً.
(7/29)
803
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمٌ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَأَنْ يَقُولَ
الْقَائِلُ: أَنَا لاَ أَدْخُلُ دَارَكَ فَإِنْ دَخَلْتُهَا فَعَلَيَّ صَوْمُ
شَهْرٍ, أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى.
نا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: نا أَبِي، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا
أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلاَّمٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إلاَّ
بِاَللَّهِ".
قال أبو محمد: فَصَارَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةً,
وَخِلاَفًا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ
فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ
وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" . وَالنَّذْرُ اللاَّزِمُ: هُوَ
الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ, وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ.
(7/30)
ولا
يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه
...
804 – مسألة: ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصةوم تطوعا بغير إذنه, وأما الفرض
كلها فتصومها أحب أم كره, فإن كان غائبا لا تقدر على استئذانه أو تقدر فلتصم
التطوع إن شائت.
نا عبد الله بن رببيع نا محمد بن أسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا الحسن بن
علي – هو الحلواني – نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة
يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا
بإذنه غير رمضان ولا تأذن في بيته وهو شاهدى إلا بإذنه".
قال عي: البعل اسم للسيد وللزوج في اللغة, وصيام قضاء رمضان والكفارات وكل نذر لها
قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان لأن الله افترض كل ذلك كما افترض رمضان, وقال
تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} , فأسقط الله عز وجل
الاختيار فيه ولا إذن لأحد فييه ولا في تركه ولا في تغييره فلا مدخل للإستئذان
فيما فيه الخيار. وأما لا خيار فيه هو الذي يقتضي تخصصه عليه السلام إذن البعل
فيه. وبالله التوفيق.
(7/30)
805 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ تَدْرِيبَ الصِّبْيَانِ عَلَى الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ إذَا أَطَاقُوهُ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" فَذَكَرَ فِيهِمْ "الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ". وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وُجُوبَ الأَحْكَامِ بِالإِنْبَاتِ,
(7/30)
806
- مَسْأَلَةٌ: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ التَّمْرَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَيْهِ
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ وَإِلاَّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ
قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَعَنَدَ، وَلاَ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ; لإِنَّ
صَوْمَهُ قَدْ تَمَّ وَصَارَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ; وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ عَلَى
خَمْرٍ, أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ, أَوْ زَنَى; فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ عَاصٍ
لِلَّهِ تَعَالَى.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ
أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ
الأَحْوَلِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ عَمِّهَا
سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ,
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا
أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا جَعْفَرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ، نا ثَابِتٌ الْبُنَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يُفْطِرُ عَلَى
رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى
(7/31)
تَمَرَاتٍ;
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ". وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ:
لَيْسَ هَذَا فَرْضًا; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَفْطَرَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرٍ
عَلَى السَّوِيقِ.فَقُلْنَا وَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ
بَعْدُ عَلَى تَمْرٍ, أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ تَمْرٌ وَالسَّوِيقُ الْمَجْدُوحُ
بِالْمَاءِ, فَالْمَاءُ فِيهِ ظَاهِرٌ, فَهُوَ فِطْرٌ عَلَى الْمَاءِ. وَأَيْضًا
فَالْفِطْرُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مُوَافِقٌ لِلْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ,
وَالأَمْرُ بِالْفِطْرِ عَلَى التَّمْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْمَاءِ
أَمْرٌ وَارِدٌ يَجِبُ فَرْضًا; وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَالَةِ الآُولَى بِلاَ
شَكٍّ,.وَادَّعَى قَوْمٌ الإِجْمَاعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَقَدْ كَذَبَ مَنْ
ادَّعَى الإِجْمَاعَ وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْصِيَ فِي هَذَا أَقْوَالَ
عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم،; وَذَكَرُوا إفْطَارَ
عُمَرَ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ عَلَى اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً فَقَدْ خَالَفُوهُ
وَأَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِخِلاَفِ قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ, فَقَدْ اعْتَرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَيْسَ هَذَا
عِنْدَنَا إجْمَاعًا, وَلاَ يَكُونُ إجْمَاعًا إلاَّ مَا لاَ شَكَّ فِي أَنَّ
كُلَّ مُسْلِمٍ يَقُولُ بِهِ; فَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ كَافِرٌ:
كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ, وَالْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ; وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/32)
807 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي رَمَضَانَ: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد هُوَ الْمَهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسَ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
(7/32)
808 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُجِبْ; فَإِذَا أَتَاهُمْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ وَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا أَبُو خَالِدٍ هُوَ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ, فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ, وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ". قَالَ هِشَامٌ: وَالصَّلاَةُ الدُّعَاءُ.
(7/32)
ليلة
القدرِ
ليلة القدرِ واحدة في العام في كل عامٍ
...
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ}
809- مَسْأَلَةٌ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاحِدَةٌ فِي الْعَامِ فِي كُلِّ عَامٍ, فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً, فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ خَاصَّةً, فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا لاَ تَنْتَقِلُ أَبَدًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ
مِنْ النَّاسِ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ مِنْ الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ إلاَّ أَنَّهَا
فِي وِتْرٍ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ. فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ عِشْرِينَ مِنْهُ; فَهِيَ
إمَّا لَيْلَةُ عِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا
لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا
لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ; لإِنَّ هَذِهِ هِيَ الأَوْتَارُ مِنْ الْعَشْرِ
الأَوَاخِرِ. إنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ
بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ, فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ إحْدَى
وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ, لإِنَّ هَذِهِ هِيَ أَوْتَارُ الْعَشْرِ بِلاَ شَكٍّ. وَقَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ: مَنْ يَقُمْ الْعَامَ يُدْرِكْهَا.
وَبُرْهَانُ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْعَامِ
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَقَالَ
عَزَّ وَجَلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فَصَحَّ
أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ; فَصَحَّ ضَرُورَةً
أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ لاَ فِي غَيْرِهِ; وَإِذْ لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ
لَكَانَ كَلاَمُهُ تَعَالَى يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِالْمُحَالِ, وَهَذَا مَا
لاَ يَظُنُّهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ
سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَلاَ
بُدَّ مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابُ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ،
نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
(7/33)
حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الأَعْلَى، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "اعْتَكَفَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ قَالَ فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ
بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ
فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَإِنِّي خَرَجْتُ
لاُِخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلاَنِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ
فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ,
وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ, وَالسَّابِعَةِ, وَالْخَامِسَةِ. ثُمَّ
فَسَّرَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي
تَلِيهَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ, فَإِذَا مَضَى ثَلاَثٌ
وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ, فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
فَاَلَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ".
قال أبو محمد: هَذَا عَلَى مَا قلنا مِنْ كَوْنِ رَمَضَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ رِجَالاً رَأَوْا أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ
فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا" .
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَخْبَارُ تُصَحِّحُ مَا قلنا: إذْ لَوْ كَانَتْ
تَنْتَقِلُ لَمَا كَانَ لاِِعْلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةٌ,
لاَِنَّهَا كَانَتْ لاَ تَثْبُتُ; وَلَوَجَبَ إذْ خَرَجَ لِيُخْبِرَهُمْ بِهَا
أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهَا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَهَذَا مُحَالٌ;
وَإِذَا نُسِّيهَا عليه السلام فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَعْلَمَهَا
أَحَدٌ بَعْدَهُ; وَإِذْ لَمْ يَقْطَعْ عليه السلام بِرُؤْيَا مَنْ رَأَى مِنْ
أَصْحَابِهِ فَرُؤْيَا مَنْ بَعْدَهُمْ أَبْعَدُ مِنْ الْقَطْعِ بِهَا; وَقَدْ
رُوِيَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ,
وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
فإن قيل: قَدْ جَاءَ أَنَّ عَلاَمَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ حِينَئِذٍ لاَ
شُعَاعَ لَهَا قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ
إلَيْنَا فَنَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ هُوَ عليه السلام; فَيَكُونُ
ذَلِكَ أَوَّلَ طُلُوعِهَا بِحَيْثُ لاَ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيهَا أَحَدٌ. فإن
قيل: قَدْ قَالَ عليه السلام: "إنَّهُ أُرِيَ أَنَّهُ
(7/34)
يَسْجُدُ
فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ" فَكَانَ ذَلِكَ صَبَاحَ لَيْلَةِ إحْدَى
وَعِشْرِينَ قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ أَيْضًا فِي صَبِيحَةِ
لَيْلَةِ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَسَجَدَ عليه السلام فِي مَاءٍ وَطِينٍ.
رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ
أَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ،
عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي
صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ" , قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ
ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ.
قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ
يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ السَّمَاءُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ كُلِّهَا فَبَقِيَ الأَمْرُ
بِحَبْسِهِ.
وَمِنْ طَرَائِفِ الْوَسْوَاسِ: احْتِجَاجُ ابْنِ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيِّ فِي
أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَلاَمٌ هِيَ}
قَالَ: فَلَفْظَةُ "هِيَ" هِيَ السَّابِعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْ
السُّورَةِ. قال أبو محمد: حَقُّ مَنْ قَامَ هَذَا فِي دِمَاغِهِ أَنْ يُعَانِيَ
بِمَا يُعَانِي بِهِ سُكَّانُ الْمَارَسْتَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْبَلاَءِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ
وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلَمْ يَنْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
نَبِيَّهُ عليه السلام, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَجَزَاؤُهُ أَنْ
يَخْذُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا الْخِذْلاَنِ الْعَاجِلِ ثُمَّ فِي
الآخِرَةِ أَشَدُّ تَنْكِيلاً.
(7/35)
810
- مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الاِجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي
الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ" وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لاَ
بِأَنَّ لَهَا صُورَةً وَهَيْئَةً يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا بِخِلاَفِ
سَائِرِ اللَّيَالِي كَمَا يَظُنُّ أَهْلُ الْجَهْلِ, إنَّمَا قَالَ تَعَالَى:
{إنَّا أَنَزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ
مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فَبِهَذَا
بَانَتْ، عَنْ سَائِرِ اللَّيَالِي فَقَطْ وَالْمَلاَئِكَةُ لاَ يَرَاهُمْ أَحَدٌ
بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ
وَالْهُدَى وَالْعِصْمَةَ آمِينَ.
تم كتاب الصيام والحمد لله رب العالمين كثيرا, وصلى الله على محمد عبده ورسوله
وسلم تسليما كثيراً.
(7/35)
كتاب
الحج
باب الحج
قال أبو محمد: الحج إلى مكةَ والعمرة إليها فرضان على كل مؤمن
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْحَجِّ
811 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: الْحَجُّ إلَى مَكَّةَ, وَالْعُمْرَةُ إلَيْهَا
فَرْضَانِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ, عَاقِلٍ, بَالِغٍ, ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, بِكْرٍ,
أَوْ ذَاتِ زَوْجٍ. الْحُرُّ وَالْعَبْدُ, وَالْحُرَّةُ وَالأَمَةُ, فِي كُلِّ
ذَلِكَ سَوَاءٌ, مَرَّةً فِي الْعُمْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ ذَكَرْنَا إلَيْهَا
سَبِيلاً, وَهُمَا أَيْضًا عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ
مِنْهُمْ إلاَّ بَعْدَ الإِسْلاَمِ, وَلاَ يُتْرَكُونَ وَدُخُولَ الْحَرَمِ حَتَّى
يُؤْمِنُوا. أَمَّا قَوْلُنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ
الْبَالِغِ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ
يَحُجُّ مَعَهَا مَرَّةً فِي الْعُمْرِ فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمَرْأَةِ, لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ, وَفِي الأَمَةِ
وَالْعَبْدِ, وَفِي الْعُمْرَةِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ
يَخُصَّ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وَقَالَ قَوْمٌ: الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ فَرْضًا وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعُمْرَةِ أَفَرِيضَةٌ هِيَ
قَالَ: "لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ". وَبِمَا رُوِّينَاهُ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ
تَطَوُّعٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن
عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْن غَيْلاَنَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى
صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَهِيَ كَحَجَّةٍ, وَمَنْ مَشَى إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ
فَهِيَ كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ". وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ
الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ
الْحَاجِّ, وَمَنْ مَشَى إلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَاضِرِ بْن الْمُوَرِّعِ، عَنِ الأَحْوَصِ
(7/36)
ابْنِ
حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ
الأَلْهَانِيِّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ, وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
صَلَّى فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ سُبْحَةَ الضُّحَى كَانَ
كَأَجْرِ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ
قَانِعٍ حَدِيثًا فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُوسَى, عَنْ
عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْن بَحِيرٍ
الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ابْنِ
عُلَيَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ
وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، نا
بِشْرُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، نا جَرِيرٌ وَأَبُو الأَحْوَصِ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ
تَطَوُّعٌ".
وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:
"دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
قَالاَ: نا زَيْدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ
حَابِسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً
وَاحِدَةً قَالَ: "بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ"
قَالُوا: فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ,
فَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ لِدُخُولِهَا فِي الْحَجِّ, وَقَالُوا: قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} لاَ يُوجِبُ كَوْنَهَا فَرْضًا,
وَإِنَّمَا يُوجِبُ إتْمَامَهَا عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهَا لاَ ابْتِدَاءَهَا;
لَكِنْ كَمَا تَقُولُ: أَتِمَّ الصَّلاَةَ التَّطَوُّعَ, وَالصَّوْمَ
التَّطَوُّعَ. وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْعُمْرَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ
بِوَقْتٍ وَجَبَ أَنْ لاَ تَكُونَ فَرْضًا: وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا تَطَوُّعٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ بَاطِلٌ, أَمَّا
الأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرُوا فَمَكْذُوبَةٌ كُلُّهَا; أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ
فَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ سَاقِطٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. وَالطَّرِيقُ الآُخْرَى
أَسْقَطُ وَأَوْهَنُ; لاَِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَهُوَ
ضَعِيفٌ، عَنِ الْعُمَرِيِّ الصَّغِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي
صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَمَاهَانُ هَذَا ضَعِيفٌ
كُوفِيٌّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَحَدُ طُرُقِهِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ
غَيْلاَنَ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ
يَسْمَعْ مَكْحُولٌ مِنْ أَبِي أُمَامَةَ شَيْئًا. وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ
الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثَةُ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ الْمُوَرِّعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ وَهُوَ سَاقِطٌ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ, وَهُوَ مَجْهُولٌ; وَهُوَ حَدِيثٌ
(7/37)
مُنْكَرٌ
ظَاهِرُ الْكَذِبِ; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ أَجْرُ الْعُمْرَةِ كَأَجْرِ مَنْ مَشَى
إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ لَمَا كَانَ لِمَا تَكَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْمَدِينَةِ مَعْنًى,
وَلَكَانَ فَارِغًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ طَلْحَةَ
فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ, وَقَدْ أَصْفَقَ أَصْحَابُ
الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِهِ, وَهُوَ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ وَكَذِبَةٍ; ثُمَّ
فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ سندل وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ
فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ وَيَكْفِي; ثُمَّ هُوَ، عَنْ
ثَلاَثَةٍ مَجْهُولِينَ فِي نَسَقٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَكَذِبٌ بَحْتٌ مِنْ بَلاَيَا عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ الَّتِي
انْفَرَدَ بِهَا وَالنَّاسُ رَوَوْهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ
مَاهَانَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ فَزَادَ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ, وَأَوْهَمَ
أَنَّهُ صَالِحٌ السَّمَّانُ فَسَقَطَتْ كُلُّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَوْ شِئْنَا لَعَارَضْنَاهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
"الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ". وَلَكِنْ
يُعِيذُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَعَاذَ اللَّهِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ
أَنْ نَحْتَجَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً; وَلَكِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ إذَا رَوَى مَا
يُوَافِقُهُمْ صَارَ ثِقَةً وَإِذَا رَوَى مَا يُخَالِفُهُمْ صَارَ ضَعِيفًا;
وَاَللَّهِ مَا هَذَا فِعْلُ مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ مُحَاسَبٌ بِكَلاَمِهِ فِي
دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا
وَتَرَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَقَدْ نا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ،
نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:
الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَتَانِ. وَبِهِ نَصًّا إلَى سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ: إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّه وَهَذَا، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ
الْحَجِّ.
وَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ،
نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
الْجَهْمِ، نا أَبُو قِلاَبَةَ، نا الأَنْصَارِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَيْسَ مُسْلِمٌ إلاَّ
عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً.
قال أبو محمد: فَلَوْ صَحَّ مَا رَوَوْا مِنْ الْكَذِبِ الْمُلَفَّقِ لَوَجَبَ
عَلَى أُصُولِهِمْ الْخَبِيثَةِ الْمُفْتَرَاةِ إسْقَاطُ كُلِّ ذَلِكَ إذَا كَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَوَيَا تِلْكَ الأَخْبَارَ بِزَعْمِهِمْ قَدْ صَحَّ
عَنْهُمَا
(7/38)
خِلاَفُهَا,
وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلاَعِبُونَ كَمَا تَرَوْنَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ كُلُّهَا وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ
الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ. لِمَا
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، نا خَالِدُ، هُوَ ابْنُ
الْحَارِثِ، نا شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ سَالِمٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ،
أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ
يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ، وَلاَ الظَّعْنَ قَالَ: فَحِجَّ، عَنْ
أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ" .
فَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ عَمَّنْ لاَ يُطِيقُهُمَا; فَهَذَا حُكْمٌ زَائِدٌ وَشَرْعٌ
وَارِدٌ; وَكَانَتْ تَكُونُ تِلْكَ الأَحَادِيثُ مُوَافِقَةً لِمَعْهُودِ الأَصْلِ
فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ قَدْ كَانَا بِلاَ شَكٍّ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا
فَإِذَا أَمَرَ بِهِمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ
بَطَلَ كَوْنُهُمَا تَطَوُّعًا بِلاَ شَكٍّ وَصَارَا فَرْضَيْنِ, فَمَنْ ادَّعَى
بُطْلاَنَ هَذَا الْحُكْمِ وَعَوْدَةَ الْمَنْسُوخِ فَقَدْ كَذَبَ وَأَفِكَ
وَافْتَرَى; وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ; فَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ
مَكْذُوبٍ مَوَّهُوا بِهِ لَوْ صَحَّ فَكَيْف وَكُلُّهَا بَاطِلٌ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ إخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِدُخُولِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ, وَبِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ
حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَهَذَيَانٌ لاَ
يُعْقَلُ; بَلْ هَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ فِي كَوْنِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا;
لاَِنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ بِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ;، وَلاَ يَشُكُّ
ذُو عَقْلٍ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ حَجَّةً; فَوَجَبَ أَنَّ دُخُولَهَا فِي
الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُجْزَى
لَهُمَا عَمَلٌ وَاحِدٌ فِي الْقِرَانِ. وَالثَّانِي: دُخُولُهَا فِي أَنَّهَا
فَرْضٌ كَالْحَجِّ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ أَنَّهَا الْحَجُّ الأَصْغَرُ قلنا
لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً لَنَا; لإِنَّ الْقِرَانَ قَدْ جَاءَ بِإِيجَابِ
الْحَجِّ فَكَانَتْ حِينَئِذٍ تَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} لَكِنَّا لاَ
نَسْتَحِلُّ التَّمْوِيهَ بِمَا لاَ يَصِحُّ, مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي
ذَكَرُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو
سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عُقَيْلٌ: سِنَانٌ هُوَ مَجْهُولٌ غَيْرُ
مَعْرُوفٍ, وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ وَحَرَّفُوهُ وَأَوْهَمُوا
أَنَّ فِيهِ مِنْ لَفْظِ
(7/39)
النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ
لَيْسَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ
مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ إمَّا مَعَ
الْحَجِّ مَقْرُونَةٌ, وَأَمَّا مَعَهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ; فَصَارَ حُجَّةً لَنَا
عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا مَنْ
دَخَلَ فِيهَا لاَ بِابْتِدَائِهَا, وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَرَأَ:
{وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقَوْلٌ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهَا
دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} لاَ يَقْتَضِي مَا قَالُوا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَجِيءِ
بِهِمَا تَامَّيْنِ وَحَتَّى لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ;
لاَِنَّهُ إذَا كَانَ الدَّاخِلُ فِيهَا مَأْمُورًا بِإِتْمَامِهَا فَقَدْ صَارَتْ
فَرْضًا مَأْمُورًا بِهِ; وَهَذَا قَوْلُنَا لاَ قَوْلُهُمْ الْفَاسِدُ
الْمُتَخَاذِلُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى
هَذَا النَّصَّ مُوجِبًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا كَالْحَجِّ بِخِلاَفِ كَيْسِ
هَؤُلاَءِ الْحُذَّاقِ بِاللُّغَةِ بِالضِّدِّ, وَبِهَذَا احْتَجَّ مَسْرُوقٌ,
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ, وَنَافِعٌ فِي
إيجَابِهَا; وَمَسْرُوقٌ; وَسَعِيدٌ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِنْ قَالُوا:
أَنْتُمْ تَقُولُونَ: بِهَذَا فِي الْحَجِّ التَّطَوُّعِ, وَالْعُمْرَةِ
التَّطَوُّعِ قلنا: لاَ بَلْ هُمَا تَطَوُّعٌ غَيْرُ لاَزِمٍ جُمْلَةً إنْ
تَمَادَى فِيهِمَا أُجِرَ, وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا
لَكَانَ الْحَجُّ يَتَكَرَّرُ فَرْضُهُ مَرَّاتٍ, وَهَذَا خِلاَفُ حُكْمِ اللَّهِ
تَعَالَى فِي أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ. فَإِنْ
قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: بِإِتْمَامِ النَّذْرِ, وَإِتْمَامِ قَضَاءِ
صَوْمِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ قلنا: نَعَمْ; لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ
صَارَ فَرْضًا زَائِدًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَمْرِ رَسُولِهِ
صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا الْحَجُّ فَرْضٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ لَمْ
يَنْذِرْهُ لاَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ; بَلْ هُوَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ فَرْضٌ آخَرُ
لاَ نَضْرِبُ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بَلْ نَضُمُّ
بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَنَأْخُذُ بِجَمِيعِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ
{وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقِرَاءَةٌ مُنْكَرَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ
أَنْ يَقْرَأَ بِهَا, وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَهُمْ يَلْجَئُونَ إلَى تَبْدِيلِ
الْقُرْآنِ فَيَحْتَجُّونَ بِهِ!
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَكَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ
فَكَلاَمٌ سَخِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ،
وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ
يُعْقَلُ, وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ
مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ, وَأَنَّ النَّذْرَ فَرْضٌ وَلَيْسَ
(7/40)
مُرْتَبِطًا
بِوَقْتٍ, وَأَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ,
وَالإِحْرَامُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مُرْتَبِطًا
بِوَقْتٍ, فَظَهَرَ هَوَسُ مَا يَأْتُونَ بِهِ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ
قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ: نُسُكَانِ لِلَّهِ عَلَيْك لاَ يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا
بَدَأَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ:
لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إلاَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ
وَاجِبَتَانِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلاً وَمَنْ زَادَ بَعْدَهُمَا
شَيْئًا فَهُوَ خَيْرٌ وَتَطَوُّعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ,
وَالْعُمْرَةِ إلَى الْبَيْتِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ كُتِبَتْ عَلَيْكُمْ الْعُمْرَةَ. وَعَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
قَالَ: كَانُوا لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرِيضَةٌ, وَابْنُ سِيرِينَ
أَدْرَكَ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرَ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ,
وَمَعْمَرٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: الْعُمْرَةُ
عَلَيْنَا فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ،
عَنِ الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ جَمِيعًا الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ وَعَنْ طَاوُوس
الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ;
فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فُلاَنًا يَقُولُ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً, فَقَالَ: كَذَبَ إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا يَقُولُ أُمِرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ
بِإِقَامَةِ أَرْبَعٍ: الصَّلاَةُ, وَالزَّكَاةُ, وَالْحَجُّ, وَالْعُمْرَةُ قَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ يَقُولُ: الْعُمْرَةُ
الْحَجُّ الأَصْغَرُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا كُتِبَتْ عَلَيَّ
عُمْرَةٌ, وَحَجَّةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ;
وَعَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى, وَعَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ: مَا
نَعْلَمُهَا إلاَّ وَاجِبَةً {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ السَّرَّاجِ قَالَ:
سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ
الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَرَأَ جَمِيعًا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
(7/41)
وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ}. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا مُغِيرَةُ،
هُوَ ابْنُ مَقْسَمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ: هِيَ
وَاجِبَةٌ وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ
أَصْحَابِهِمْ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَالْقَوْمُ
يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَهُمْ
قَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ,
وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَزَيْدَ
بْنَ ثَابِتٍ, وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفٌ لَهُمْ فِي
هَذَا إلاَّ رِوَايَةً سَاقِطَةً مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ, وَالصَّحِيحُ عَنْهُ خِلاَفُ
هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْجُمْهُورِ,
وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عَطَاءً, وطَاوُوسًا, وَمُجَاهِدًا, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ,
وَالْحَسَنَ, وَابْنَ سِيرِينَ, وَمَسْرُوقًا, وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ,
وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَهُشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَالْحَكَمَ بْنَ
عُتَيْبَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَالشَّعْبِيَّ, وَقَتَادَةَ وَمَا
نَعْلَمُ لِمَنْ قَالَ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً سَلَفًا, مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحْدَهُ; وَرِوَايَةٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَدْ صَحَّ
عَنْهُ خِلاَفُهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَّةِ
عَلَيْهِمْ: أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ الثَّابِتُ فِي الَّذِي سَأَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الإِسْلاَمِ فَأَخْبَرَهُ بِالصَّلاَةِ,
وَالزَّكَاةِ, وَالصِّيَامِ, وَالْحَجِّ; فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. وَالثَّانِي: خَبَرُ ابْنِ
عُمَرَ "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" فَذَكَرَ شَهَادَةَ
التَّوْحِيدِ, وَالصَّلاَةَ, وَالزَّكَاةَ, وَالصِّيَامَ, وَالْحَجَّ.
قال أبو محمد: وَهُمَا أَقْوَى, حُجَجِنَا عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ" فَصَحَّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ, وَأَنَّ
فَرْضَهَا دَخَلَ فِي فَرْضِ الْحَجِّ. وَأَيْضًا: فَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ
هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُرُودُ
الْقُرْآنِ بِهَا شَرْعًا زَائِدًا وَفَرْضًا وَارِدًا مُضَافًا إلَى سَائِرِ
الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورَةِ; وَكُلُّهُمْ يَرَى النَّذْرَ فَرْضًا, وَالْجِهَادَ
إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ فَرْضًا; وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ فَرْضًا,
وَالْوُضُوءَ فَرْضًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ وَلَمْ يَرَوْا الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ حُجَّةً فِي
سُقُوطِ فَرْضِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, فَوَضَحَ تَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ مَذْهَبِهِمْ
فِي ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(7/42)
812 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا حَجُّ الْعَبْدِ, وَالأَمَةِ, فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالُوا: لاَ حَجَّ عَلَيْهِ فَإِنْ حَجَّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ. وقال أحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إذَا عَتَقَ
(7/42)
بِعَرَفَةَ
أَجْزَأَتْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ; وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: عَلَيْهِ الْحَجُّ
كَالْحُرِّ, وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالَ
أَحَدُهُمَا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ, وَقَالَ الآخَرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ
اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ; فَقَطَعَاً وَعَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا
إنْسِيًّا مِنْ جِنِّيٍّ, وَلاَ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ,
وَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمَا تَخْصِيصَ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ; فَقَدْ كَذَبَ
عَلَيْهِمَا;، وَلاَ أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ يَجْعَلُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ
الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ فَرْضِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ
فِي وُجُوبِ فَرْضِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَجْعَلُ قَوْلَهُ: مَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ: حَجَّةٌ, وَعُمْرَةٌ: حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ
الْحَجِّ عَلَى الْعَبْدِ. فإن قيل: لَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْعَبْدَ قِيلَ:
هَذَا هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ أَنْ يُرِيدَا إلاَّ الْعَبْدَ ثُمَّ لاَ
يُبَيِّنَانِهِ; وَأَيْضًا: فَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْمُقْعَدَ, وَإِلاَّ
الأَعْمَى, وَإِلاَّ الأَعْوَرَ, وَإِلاَّ بَنِي تَمِيمٍ, وَإِلاَّ أَهْلَ
إفْرِيقِيَةَ, وَهَذَا حَقٌّ لاَ خَفَاءَ بِهِ;، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ هَذِهِ
الدَّعْوَى قَوْلَةٌ لاَِحَدٍ أَبَدًا. وَلَعَلَّ كُلَّ مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ;
وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا تَخْصِيصًا لَمْ يُبَيِّنُوهُ وَهَذِهِ طَرِيقُ
السُّوفُسْطَائِيَّة نَفْسِهَا; وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا لَمْ
يَقُلْ إلاَّ بِبَيَانٍ وَارِدٍ مُتَيَقَّنٍ يُنْبِئُ بِأَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ
مُقْتَضَى قَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا هَاهُنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {تُدَمِّرُ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}. {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. {وَ مَا
تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. وَكُلُّ
هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهَا إنَّمَا دَمَّرَتْ بِنَصِّ الآيَةِ
كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَدَمَّرَتْ مَا أَمَرَهَا رَبُّهَا بِتَدْمِيرِهِ
لاَ مَا لَمْ يَأْمُرْهَا. وَمَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ; فَإِنَّمَا
جَعَلَتْ كَالرَّمِيمِ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ لاَ مَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ بِنَصِّ
الآيَةِ. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: لاَ يَقْتَضِي إلاَّ بَعْضَ الأَشْيَاءِ;
لإِنَّ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ, فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مَا قَلَّ
أَوْ كَثُرَ فَقَدْ آتَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ; لإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ
الْعَالَمُ كُلُّهُ; فَمَنْ أُوتِيَ شَيْئًا فَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعَالَمِ
كُلِّهِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَتَبَ إلَيَّ أَبُو الْمَرْجِيِّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِرٍّ
الْمَصْرِيُّ قَالَ: نا أَبُو الْحَسَنِ الرَّحَبِيُّ: نا أَبُو مُسْلِمٍ
الْكَاتِبُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ المغلس، نا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ
الْعُكْلِيُّ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الأَشَجِّ قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنَ
يَسَارٍ، عَنِ الْعَبْدِ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَقَالاَ جَمِيعًا:
تُجْزِئُ عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ فَإِذَا حَجَّ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ
لَمْ تُجْزِهِ; وَبِهِ إلَى زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا حَجَّ الْعَبْدُ
وَهُوَ مُخَلًّى فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ.
(7/43)
قال
أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ لِلْعَبْدِ حَجًّا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ
قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ أَبَا إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ
حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ
الْحَجُّ, وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ
وَإِنْ عَتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ, وَعَنْ شَيْخٍ لاَ يُدْرَى اسْمُهُ، وَلاَ مَنْ
هُوَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ
خِرْزَادٍ الأَنْطَاكِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرِ، نا يَزِيدُ
بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا
صَبِيٍّ حَجَّ لَمْ يَبْلُغْ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَيُّمَا
عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى".
قال علي: وهذا خَبَرٌ رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ,
وَمَنْ هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ،
عَنْ شُعْبَةَ فَأَوْقَفَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَسْنَدَهُ
الآخَرُ بِزِيَادَةٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ
عَوْنِ اللَّهِ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ
الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ, قَالَ ابْنُ الْمِنْهَالِ: نا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ: نا شُعْبَةُ, ثُمَّ
اتَّفَقَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أُمِّ ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "إذَا حَجَّ الصَّبِيُّ لَهُ فَهِيَ حَجَّةُ صَبِيٍّ حَتَّى يَعْقِلَ,
فَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَإِذَا حَجَّ الأَعْرَابِيُّ فَهِيَ
لَهُ حَجَّةُ أَعْرَابِيٍّ, فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى".
وَأَوْقَفَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ
وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: أَبُو
السَّفَرِ, وَعُبَيْدٌ صَاحِبُ الْحُلَى, وَقَتَادَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ
الْعَبْدَ حَجُّهُ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ الأَعْرَابِيَّ حَجُّهُ،
وَلاَ فَرْقَ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ عَنْهُ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ
قَوْلِهِ فِي إعَادَةِ الْحَجِّ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا احْتَلَمَ, وَعَلَى
الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ, وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ إذَا هَاجَرَ وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ. كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
هَاشِمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الصَّبِيُّ إنْ
حَجَّ, وَالْمَمْلُوكُ إنْ حَجَّ, وَالأَعْرَابِيُّ
(7/44)
إنْ
حَجَّ, ثُمَّ هَاجَرَ الأَعْرَابِيُّ, وَاحْتَلَمَ الصَّبِيُّ, وَعَتَقَ الْعَبْدُ
فَعَلَيْهِمْ الْحَجُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئُهُ
حَجُّهُ, وَأَمَّا الصَّبِيُّ, وَالْمَمْلُوكُ فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ. وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لاَ يُجْزِئُ الْعَبْدَ حَجُّهُ إذَا أُعْتِقَ,
وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئْهُ حَجُّهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ,
وطَاوُوس, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا
الْبَابِ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ, وَلاَ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مَا
أَوْرَدْنَا.
قال أبو محمد: فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فِي هَذَا
وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ إلاَّ خَمْسَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ, أَحَدُهُمْ مُخْتَلَفٌ
عَنْهُ فِي ذَلِكَ, وَقَدْ رُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ
التَّابِعِينَ, وَعَنْ اثْنَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُمْ قَدْ
خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلَّ قَوْلٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ
تَقْلِيدَهُمْ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَا رُوِيَ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ;، وَلاَ
يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ
مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ عَنْ وَاحِدٍ بِاخْتِلاَفٍ فَلَمْ يَجْعَلُوهُ
إجْمَاعًا.
قال أبو محمد: لاَ تَخْلُو رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مِنْ
أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ
فَقَدْ كُفِينَا الْمُؤْنَةُ فِيهَا, وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَهُوَ الأَظْهَرُ
فِيهَا; لإِنَّ رُوَاتَهَا ثِقَاتٌ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ بِلاَ. شَكٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِلاَ شَكٍّ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ
مَكَّةَ; لإِنَّ فِيهِ إعَادَةُ الْحَجِّ عَلَى مَنْ حَجَّ مِنْ الأَعْرَابِ
قَبْلَ هِجْرَتِهِ, وَقَدْ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ
فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم، عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَبِهِ
إلَى مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ
قَالاَ جَمِيعًا أَنَا جَرِيرُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ إذَا
اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ
ثَابِتَةٍ، عَنْ مُجَاشِعٍ,
(7/45)
وَمُجَالِدٍ:
ابْنَيْ مَسْعُودٍ السِّلْمِيَّيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَإِذْ قَدْ صَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ
فَقَدْ نَسَخَهُ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ.
نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ
الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ
إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا", فَقَالَ رَجُلٌ:
أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ
عليه السلام: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ, لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ,
ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ
سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ, فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ
بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ
فَدَعُوهُ".
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَصَارَ عُمُومًا لِكُلِّ
حُرٍّ, وَعَبْدٍ, وَأَعْرَابِيٍّ, وَعَجَمِيٍّ وَبِلاَ شَكٍّ، وَلاَ مِرْيَةٍ
أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ كَانَ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِالْحَجِّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ،
وَلاَ الْحُرُّ أَيْضًا; فَكَانَ خَبَرُ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ فِي أَنَّ عَلَيْهِ
وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ, وَهَاجَرَ
الأَعْرَابِيُّ, مُوَافِقًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَبَقِيَا عَلَى أَنَّهُمَا
غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ كَمَا كَانَا, وَجَاءَ هَذَا الْخَبَرُ فَدَخَلَ فِي نَصِّهِ
فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ: الْعَبْدُ, وَالأَعْرَابِيُّ; لاَِنَّهُمَا مِنْ
النَّاسِ فَكَانَ بِلاَ شَكٍّ نَاسِخًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَمُدْخِلاً لَهُمَا
فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ ضَرُورَةً، وَلاَ بُدَّ.
وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَدْ احْتَجَّ فَقَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
بِأَزْوَاجِهِ, وَلَمْ يَحُجَّ بِأُمِّ وَلَدِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ كِذْبَةٌ شَنِيعَةٌ لاَ نَجِدُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ
الآثَارِ أَبَدًا وَإِنَّ التَّسَهُّلَ فِي مِثْلِ هَذَا لَعَظِيمٌ جِدًّا.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ فِي الزِّنَا, وَفِي
كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ مِثْلَ: لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ الرَّضْعَتَانِ,
وَفِي خَبَرِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ,
وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي الْقُرْآنِ, وَكَذَبُوا
فِي كُلِّ ذَلِكَ, ثُمَّ لَمْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ: هَذَا تَخْصِيصٌ
لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا
فِي الْقُرْآنِ.
وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ بِدَعْوَى الاِضْطِرَابِ:
كَخَبَرِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي الزَّكَاةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ; ثُمَّ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِهَذَا
الْخَبَرِ الَّذِي لاَ نَعْلَمُ خَبَرًا أَشَدَّ اضْطِرَابًا مِنْهُ. وَهُمْ
يَتْرُكُونَ السُّنَنَ لِلْقِيَاسِ: كَخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ, وَخَبَرِ الْقُرْعَةِ
فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ, وَهُمْ هَاهُنَا قَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ
لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ بِالإِسْلاَمِ وَبِالصَّلاَةِ,
وَالصِّيَامِ, فَمَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحَجِّ,
وَالْعُمْرَةِ; ثُمَّ يَقُولُونَ:
(7/46)
الْعَبْدُ
لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا
وَأَجْزَأَتْهُ, فَهُمْ قَالُوا هَاهُنَا: إنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
أَهْلِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَهُ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَجْزَأَهُ
وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: مَنْ نَوَى تَطَوُّعًا بِحَجِّهِ أَجْزَأَهُ، عَنِ
الْفَرْضِ, وَأَقَلُّ حَالِ حَجِّ الْعَبْدِ: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَهَلاَّ
أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ قلنا: قَدْ
جَمَعْتُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْكَذِبَ وَخِلاَفَ الْقُرْآنِ إذْ لَمْ يَخُصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ حُرٍّ, وَالتَّنَاقُضَ; لاَِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ
مُخَاطَبًا بِهِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ،
وَلاَ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ، وَلاَ فِدْيَةِ أَذًى، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ
كَمَا لاَ يَلْزَمُ الْحَائِضُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ,
إذْ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِهِ, وَكَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَهُمَا أَوْ فَعَلَ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ
وَكَانَ لَهُ حَجٌّ لِلأَثَرِ فِي ذَلِكَ لاَ لِغَيْرِهِ.
فَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ وَقَوْلَ
طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ
وَالْقِيَاسُ: نَعَمْ, وَالْخَبَرُ الَّذِي بِهِ احْتَجُّوا; لأَنَّهُمْ خَالَفُوا
مَا فِيهِ مِنْ حُكْمِ الأَعْرَابِيِّ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/47)
813
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ
يَحُجُّ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَحُجُّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا; فَإِنْ كَانَ لَهَا
زَوْجٌ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ
لِلَّهِ تَعَالَى وَتَحُجُّ هِيَ دُونَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ حَجِّ
التَّطَوُّعِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وطَاوُوس, وَالشَّعْبِيِّ, وَالْحَسَنِ: لاَ
تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ: إنْ كَانَتْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى
أَقَلَّ مِنْ لَيَالٍ ثَلاَثٍ فَلَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ, وَغَيْرِ
ذِي مَحْرَمٍ, وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ
تَحُجَّ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ رِجَالِهَا. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ
إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنُ
عَبْدِ الأَعْلَى: أَنَّ عِكْرِمَةَ سُئِلَ، عَنِ الْمَرْأَةِ تَحُجُّ مَعَ غَيْرِ
ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَحُجُّ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا
زَوْجٌ، وَلاَ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَرْأَةُ لاَ تُسَافِرُ
إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كُلُّ النِّسَاءِ تَجِدُ
مَحْرَماً.
(7/47)
وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ،
عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ
يُسَافِرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْلَيَاتٌ لَهُ لَيْسَ مَعَهُنَّ
مَحْرَمٌ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ
الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَهُوَ قَوْلُ
الأَوْزَاعِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ
أَصْحَابِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّحْدِيدِ الَّذِي ذُكِرَ
فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ،
رضي الله عنهم،; بَلْ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُمْ, وَهُمْ
يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَيَقُولُونَ: إنَّ
الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرْنَا;
وَرُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ مُرْسَلٍ يُمْكِنُ وُجُودُ
مِثْلِهِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم،, وَقَدْ خَالَفَهُمَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ
فَاحِشٌ.
قال أبو محمد: ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ
لِقَوْلِهَا فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَجُّونَ لِقَوْلِهِمْ
بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرْ
امْرَأَةٌ ثَلاَثًا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ". وَقَالُوا: قَدْ
رُوِيَ أَيْضًا "لَيْلَتَيْنِ" وَرُوِيَ "يَوْمًا وَلَيْلَةً"
وَرُوِيَ "يَوْمًا" وَرُوِيَ "بَرِيدًا" قَالُوا: وَنَحْنُ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ سَفَرِهَا ثَلاَثًا وَعَلَى شَكٍّ مِنْ تَحْرِيمِ
سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الثَّلاَثِ
مُتَقَدِّمًا وَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا فَالثَّلاَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُحَرَّمٌ
عَلَيْهَا سَفَرُهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ فَنَأْخُذُ مَا لاَ
شَكَّ فِيهِ وَنَدْعُ مَا فِيهِ الشَّكُّ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرَ هَذَا
أَصْلاً.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ
صَوَابُ الْعَمَلِ مَا ذَكَرُوا; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرُ الثَّلاَثِ
مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا فَلَيْسَ فِيهِ إنْ تَقَدَّمَ إبْطَالٌ لِحُكْمِ
النَّهْيِ، عَنْ سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ لَكِنَّهُ بَعْضُ مَا فِي سَائِرِ
الرِّوَايَاتِ, وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ هَذَا
مَكَانَ نَسْخٍ أَصْلاً; بَلْ كُلُّ تِلْكَ الأَخْبَارِ حَقٌّ وَكُلُّهَا يَجِبُ
اسْتِعْمَالُهَا وَلَيْسَ بَعْضُهَا مُخَالِفًا لِبَعْضٍ أَصْلاً. وَيُقَالُ
لَهُمْ: خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُسَافِرْ
امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" جَامِعٌ لِكُلِّ سَفَرٍ فَنَحْنُ عَلَى
يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ كُلِّ سَفَرٍ عَلَيْهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي
مَحْرَمٍ, ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَبَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ أَمْ لاَ فَنَأْخُذُ
بِالْيَقِينِ وَنُلْغِي الشَّكَّ; فَهَذَا مُعَارِضٌ لاِحْتِجَاجِهِمْ مَعَ مَا
قَدَّمْنَا. وَيُقَالُ لَهُمْ: عَهْدُنَا بِكُمْ تَذُمُّونَ الأَخْبَارَ
بِالاِضْطِرَابِ, وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ,
وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, فَلَمْ يَضْطَرِبْ،
(7/48)
عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلاً وَاضْطَرَبَ، عَنْ سَائِرِهِمْ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ;
وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ
تُسَافِرْ يَوْمَيْنِ; وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا;
وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ
يَوْمًا وَلَيْلَةً; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ يَوْمًا; وَرُوِيَ عَنْهُ:
لاَ تُسَافِرْ بَرِيدًا; فَعَلَى أَصْلِكُمْ دَعُوا رِوَايَةَ مَنْ اُخْتُلِفَ
عَلَيْهِ وَاضْطَرَبَ عَنْهُ إذْ لَيْسَ بَعْضُ مَا رُوِيَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ
أَوْلَى مِنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ; وَخُذُوا بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ
يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ، وَلاَ اضْطَرَبَ عَنْهُ; وَ، هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ; فَهَذَا
أَشْبَهُ مِنْ اسْتِدْلاَلِكُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَعِيدٍ,
وَأَبِي هُرَيْرَةَ, كَمَا ذَكَرْنَا لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ;
فَإِنْ صَحَّحْتُمْ اسْتِدْلاَلَكُمْ الْفَاسِدَ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ
فِي تِلْكَ الأَخْبَارِ فَامْنَعُوهَا مِمَّا زَادَ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ;
لاَِنَّهُ الْيَقِينُ وَأَبِيحُوا لَهَا سَفَرَ الثَّلاَثِ; لاَِنَّهُ مَشْكُوكٌ
فِيهِ كَمَا سَفَرُ الْيَوْمَيْنِ, وَالْيَوْمِ, وَالْبَرِيدِ مَشْكُوكٌ فِيهِ
عِنْدَكُمْ; وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ; فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا
هَاهُنَا فَمَا هَذَا يُنْكَرُ مِنْ إقْدَامِهِمْ, وَأَكْذَبَهُمْ مَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ تُسَافِرْ
امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ;، وَلاَ سِيَّمَا، وَابْنُ
عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ. وَأَكْذَبَهُمْ أَيْضًا
مَا رُوِّينَا، عَنْ عِكْرِمَةَ آنِفًا مِنْ مَنْعِهِ إيَّاهَا مَا زَادَ عَلَى
الثَّلاَثِ لاَ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي امْرَأَةٍ
لاَ تَجِدُ مَعَاشًا أَصْلاً إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا; أَنَّهَا تَخْرُجُ
بِلاَ زَوْجٍ، وَلاَ ذِي مَحْرَمٍ. وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَفَّزَتْهَا فِتْنَةٌ وَخَشِيَتْ
عَلَى, نَفْسِهَا غَلَبَةَ الْكُفَّارِ, وَالْمُحَارِبِينَ, أَوْ الْفُسَّاقِ
وَلَمْ تَجِدْ أَمْنًا إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا أَنَّهَا تَخْرُجُ مَعَ
غَيْرِ زَوْجٍ وَمَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي
الْحَجِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَوُجُوبِ خَلاَصِ رُوحِهَا. فَإِنْ قَالُوا:
الزَّوْجُ وَالْمَحْرَمُ مِنْ السَّبِيلِ قلنا: عَلَيْكُمْ الدَّلِيلُ وَإِلاَّ
فَهِيَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لَمْ يَعْجِزْ، عَنْ مِثْلِهَا أَحَدٌ, فَسَقَطَ هَذَا
الْقَوْلُ الْفَاسِدُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرَنَا فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَاحْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ
مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فَوَجَدْنَاهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا
مِنْ أَنَّ سَائِرَ الأَخْبَارِ وَرَدَتْ بِالْمَنْعِ, مِمَّا دُونَ الثَّلاَثِ;
فَلَيْسَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ نَهْيُهَا، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ
أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ بِأَوْلَى مِنْ سَائِرِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا
مَنْعُهَا مِنْ سَفَرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ.
(7/49)
قال
أبو محمد: فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ قَوْلُنَا, أَوْ
قَوْلُ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وطَاوُوس, وَالْحَسَنِ فِي مَنْعِهَا
جُمْلَةً أَوْ إطْلاَقِهَا جُمْلَةً; فَوَجَدْنَا الْمَانِعِينَ يَحْتَجُّونَ
بِالأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَهِيَ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ لاَ يَحِلُّ
خِلاَفُهَا إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ يُبَيِّنُ حُكْمَهَا إنْ وُجِدَ. فَنَظَرْنَا
فَوَجَدْنَا مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ, وَابْنُ
إدْرِيسَ قَالاَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ
تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ".
وَبِهِ إلَى ابْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا حَنْظَلَةُ، هُوَ ابْنُ أَبِي
سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إلَى
الْمَسَاجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ" فَأَمَرَ عليه السلام الأَزْوَاجَ
وَغَيْرَهُمْ أَنْ لاَ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ الْمَسَاجِدِ; وَالْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ أَجَلُّ الْمَسَاجِدِ قَدْرًا.
وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} ثُمَّ وَجَدْنَا الأَسْفَارَ تَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ سَفَرًا وَاجِبًا, وَسَفَرًا غَيْرَ وَاجِبٍ; فَكَانَ السَّفَرُ
الْوَاجِبُ بَعْضَ الأَسْفَارِ بِلاَ شَكٍّ, وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ السَّفَرِ
الْوَاجِبِ; فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ بَعْضِ الآثَارِ دُونَ بَعْضٍ وَوَجَبَتْ
الطَّاعَةُ لِجَمِيعِهَا وَلَزِمَ اسْتِعْمَالُهَا كُلُّهَا، وَلاَ بُدَّ: فَهَذَا
هُوَ الْفَرْضُ, وَكَانَ مَنْ رَفَضَ بَعْضَهَا وَأَخَذَ بَعْضَهَا عَاصِيًا
لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهَا إلاَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى
الأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ الأَعَمِّ, وَلاَ بُدَّ; فَكَانَ نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنِ
السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ عَامًّا لِكُلِّ سَفَرٍ; فَوَجَبَ
اسْتِثْنَاءُ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِنْ إيجَابِ بَعْضِ الأَسْفَارِ عَلَيْهَا
مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ, وَالْحَجُّ سَفَرٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ
جُمْلَةِ النَّهْيِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ إيجَابُ الْحَجِّ عَلَى النِّسَاءِ
عُمُومٌ فَيُخَصُّ ذَلِكَ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ
أَوْ ذِي مَحْرَمٍ قلنا: هَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ إنَّمَا جَاءَتْ
بِالنَّهْيِ، عَنْ كُلِّ سَفَرٍ جُمْلَةً لاَ، عَنِ الْحَجِّ خَاصَّةً, وَإِنَّمَا
كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضُوا بِهَذَا أَنْ لَوْ جَاءَتْ فِي النَّهْيِ، عَنْ
أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ; فَكَانَ يَكُونُ
حِينَئِذٍ اعْتِرَاضًا صَحِيحًا وَتَخْصِيصًا لاَِقَلِّ الْحُكْمَيْنِ مِنْ
أَعَمِّهِمَا وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ كُلَّهَا إنَّمَا خُوطِبَ
بِهَا ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ, وَاَللاَّتِي لَهُنَّ الْمَحَارِمُ; لإِنَّ فِيهَا
إبَاحَةَ الْحَجِّ أَوْ إيجَابَهُ مَعَ الزَّوْجِ, أَوْ ذِي الْمَحْرَمِ بِلاَ
شَكٍّ; وَمِنْ
(7/50)
الْمُحَالِ
الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُخَاطِبَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم بِالْحَجِّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ
ذَا مَحْرَمٍ, فَبَقِيَ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ مَحْرَمَ عَلَى وُجُوبِ
الْحَجِّ عَلَيْهَا وَعَلَى خُرُوجِهَا، عَنْ ذَلِكَ النَّهْيِ.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا ناهُ حُمَامٌ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ، نا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ, وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ
رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ, وَلاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" ,
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً
وَإِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: "انْطَلِقْ
فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ" فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ رَافِعًا لِلإِشْكَالِ
وَمُبَيِّنًا لِمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, لإِنَّ نَهْيَهُ
عليه السلام، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَقَعَ ثُمَّ
سَأَلَهُ الرَّجُلُ، عَنْ امْرَأَتِهِ الَّتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً لاَ مَعَ ذِي
مَحْرَمٍ, وَلاَ مَعَ زَوْجٍ فَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ
مَعَهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، وَلاَ عَابَ سَفَرَهَا إلَى الْحَجِّ دُونَهُ
وَدُونَ ذِي مَحْرَمٍ, وَفِي أَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ
مَعَهَا بَيَانٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُمْكِنًا
إدْرَاكُهَا بِلاَ شَكٍّ فَأَقَرَّ عليه السلام سَفَرَهَا كَمَا خَرَجْتُ فِيهِ,
وَأَثْبَتَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ; فَصَارَ الْفَرْضُ عَلَى الزَّوْجِ; فَإِنْ حَجَّ
مَعَهَا فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ صُحْبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ
عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهَا التَّمَادِي فِي حَجِّهَا وَالْخُرُوجُ
إلَيْهِ دُونَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ دُونَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ مَعَهُ كَمَا
أَقَرَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْهُ
عَلَيْهَا, فَارْتَفَعَ الشَّغَبُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
فإن قال قائل: فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَمَّا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
عِكْرِمَةُ, أَوْ أَبُو مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ
إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ
نَزَلْتَ" قَالَ عَلَى فُلاَنَةَ, قَالَ: "أَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ
مَرَّتَيْنِ لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" قَالَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَخْبَرَنَاهُ، عَنْ عَمْرٍو،
عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ قلنا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ
جُرَيْحٍ لاَِنَّهُ شَكَّ فِيهِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ
مُرْسَلاً أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مُسْنَدًا فَلَمْ
يُثْبِتْهُ أَصْلاً; فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ وَإِنَّمَا صَوَابُهُ كَمَا
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو،
عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا لَيْسَ
فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
(7/51)
وَهَكَذَا
رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا حدثنا بِهِ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا
سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ
مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ إلاَّ وَمَعَهَا
مَحْرَمٌ"; فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ نَذَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ
فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: فَاخْرُجْ
مَعَهَا". فَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: "لاَ تَخْرُجْ إلَى الْحَجِّ
إلاَّ مَعَكَ"; وَلاَ نَهَاهَا، عَنِ الْحَجِّ أَصْلاً, بَلْ أَلْزَمَ
الزَّوْجَ تَرْكَ نَذْرِهِ فِي الْجِهَادِ وَأَلْزَمَهُ الْحَجَّ مَعَهَا;
فَالْفَرْضُ فِي ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ لاَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَمُرْسَلٌ كَمَا نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ
نُبَاتٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، نا عِيسَى بْنُ خَبِيبٍ
قَاضِي أُشُونَةَ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، نا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلْتَ عَلَى فُلاَنَةَ
فَأَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ مَرَّتَيْنِ".
فَهَذَا هُوَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ اخْتَلَطَ عَلَى
ابْنِ جُرَيْجٍ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ ذِكْرَ الْحَجِّ بِالشَّكِّ;، وَلاَ تَثْبُتُ
الْحُجَّةُ بِخَبَرٍ مَشْكُوكٍ فِي إسْنَادِهِ أَوْ فِي إرْسَالِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ فَلاَِنَّ
طَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهَا فِيمَا لاَ مَعْصِيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ,
وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ مَعْصِيَةٌ.
(7/52)
814 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَحْرَمَتْ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَان يَجُوزُ الإِحْرَامُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, وَأَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ; فَإِنْ كَانَ حَجَّ تَطَوُّعٍ كُلُّ ذَلِكَ فَلَهُ مَنْعُهُمَا وَإِحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ حَجَّ الْفَرْضِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ لِضَيْعَتِهِ دُونَهُ أَوْ دُونَهَا أَوْ ضَيْعَةِ مَالِهِ فَلَهُ إحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ". وَإِنْ كَانَ لاَ حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُمَا أَصْلاً فَإِنْ مَنَعَهُمَا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ; وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ مَعَ الأَبِ وَالآُمِّ، وَلاَ فَرْقَ; وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ مُتَقَدِّمَةٌ لِطَاعَةِ الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ; قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ" . وَقَالَ عليه السلام: "فَإِذَا أُمِرْتَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ،
(7/52)
وَلاَ
طَاعَةَ" وَتَرْكُ الْحَجِّ مَعْصِيَةٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ طَاعَةِ
الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ فِي تَرْكِ الْحَجِّ وَبَيْنَ طَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ
الصَّلاَةِ أَوْ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ أَوْ فِي تَرْكِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
فإن قيل: الْحَجُّ فِي تَأْخِيرِهِ فُسْحَةٌ قلنا: إلَى مَتَى أَفَرَأَيْت إنْ
لَمْ يُبِيحُوا الْحَجَّ لِلأَوْلاَدِ أَوْ الزَّوْجَةِ أَبَدًا فَإِنْ حَدُّوا
فِي ذَلِكَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانُوا مُتَحَكِّمِينَ فِي
الدِّينِ بِالْبَاطِلِ وَشَارِعِينَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى،
وَلاَ يَقُولُ أَحَدٌ بِطَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ الْحَجِّ أَبَدًا جُمْلَةً
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي امْرَأَةٍ
أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, أَنَّهَا مُحْرِمَةٌ قَالَ الْحَكَمُ:
حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ.
(7/53)
815
- مَسْأَلَةٌ: وَاسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَجُّ إمَّا
صِحَّةُ الْجِسْمِ وَالطَّاقَةُ عَلَى الْمَشْيِ وَالتَّكَسُّبُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ
تِجَارَةٍ مَا يَبْلُغُ بِهِ إلَى الْحَجِّ وَيَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ
أَوْ أَهْلِهِ, وَأَمَّا مَالٌ يُمَكِّنُهُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ أَوْ الْبَرِّ
وَالْعَيْشِ مِنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ وَيَرُدَّهُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ
أَوْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْجِسْمِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ
عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ بَرًّا أَوْ بَحْرًا; وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ
يُطِيعُهُ فَيَحُجَّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرَ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إنْ
كَانَ هُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّهُوضِ لاَ رَاكِبًا، وَلاَ رَاجِلاً; فَأَيُّ
هَذِهِ الْوُجُوهِ أَمْكَنَتْ الإِنْسَانَ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ
فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ, وَمَنْ عَجَزَ، عَنْ جَمِيعِهَا فَلاَ
حَجَّ عَلَيْهِ، وَلاَ عُمْرَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ. وقال مالك: الاِسْتِطَاعَةُ
قُوَّةُ الْجِسْمِ أَوْ الْقُوَّةُ بِالْمَالِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ, وَلَمْ
يَرَ وُجُودَ مَنْ يُطِيعُهُ اسْتِطَاعَةً، وَلاَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ حَجًّا.
وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْعَدَ مِنْ رِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
لَهُ مَالٌ وَاسِعٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلاَ
حَجَّ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ
الْحَجَّ وَعَلَى الأَعْمَى. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ
إنَّمَا هِيَ بِمَالٍ يَحُجُّ بِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ فَيَحُجُّ عَنْهُ فَقَطْ,
وَلَمْ يَرَ قُوَّةَ الْجِسْمِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ اسْتِطَاعَةً.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ بِآثَارٍ رُوِّينَاهَا:
مِنْهَا: عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ فَقَالَ: الزَّادُ
وَالرَّاحِلَةُ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْحَجُّ قَالَ: الأَشْعَثُ
التَّفِلُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَا قَتَادَةُ, وَحُمَيْدٌ،
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ إلَيْهِ
قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ،
(7/53)
عَنْ
مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، نا هِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ،
عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ،
فَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا, أَوْ نَصْرَانِيًّا;
لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، عَنِ
الْعَالَمِينَ} " . وَقَالُوا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} عَلِمْنَا أَنَّهَا اسْتِطَاعَةٌ غَيْرُ الْقُوَّةِ
بِالْجِسْمِ; إذْ لَوْ كَانَ تَعَالَى أَرَادَ قُوَّةَ الْجِسْمِ لَمَا احْتَاجَ
إلَى ذِكْرِهَا; لاَِنَّنَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: {لاَ
يُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} فَصَحَّ أَنَّ
الرِّحْلَةَ شِقُّ الأَنْفُسِ بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ يُكَلِّفُنَا اللَّهُ
تَعَالَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَى الْحَجِّ: "زَادٌ
وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ
أَيْضًا: "زَادٌ, وَبَعِيرٌ": وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ:
"زَادٌ, وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ:
"مِلْءُ بَطْنِهِ, وَرَاحِلَةٌ يَرْكَبُهَا" وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ
بْنِ مُزَاحِمٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: فَادَّعَوْا فِي هَذَا أَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا أَصْلاً;
لاَِنَّنَا قَدْ رُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُدَيْرٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ
مَلَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَحَرُمَ عَلَيْهِ
نِكَاحُ الإِمَاءِ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ, فِي الْحَجِّ:
سَبِيلُهُ مَنْ وَجَدَ لَهُ سِعَةً, وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهَذَا
هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِي، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً قَالَ عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ وَهُوَ أَحَدُ
قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لَوْ كَانَتْ عَلَى
الْعُمُومِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا مَعْنًى فَكَلاَمٌ فَاسِدٌ, وَاعْتِرَاضٌ
عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَإِخْرَاجٌ لِلْقُرْآنِ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِلاَ
بُرْهَانٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ; لإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُهُ
بِجِسْمِهِ, وَلاَ بِمَالِهِ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ كَمَا نَذْكُرُ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِي
الاِسْتِطَاعَةِ بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّحْلَةَ مِنْ شِقِّ الأَنْفُسِ وَالْحَرَجِ, وَاَللَّهُ
تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ ذَلِكَ عِبَادَهُ, فَصَحِيحٌ وَلَمْ نَقُلْ نَحْنُ: إنَّ
مَنْ كَانَتْ الرِّحْلَةُ تَشُقُّ
(7/54)
عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِ فِيهَا حَرَجٌ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ: بَلْ الْحَجُّ عَمَّنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ سَاقِطٌ كَمَا قَالُوا; وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ مَنْ يَسْهُلُ
عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَهُوَ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِي دُنْيَاهُ حَاجَةٌ لاَسْتَسْهَلَ
الْمَشْيَ إلَيْهَا فَالْحَجُّ يَلْزَمُهُ; لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ.
وَأَمَّا الأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرُوا: فَإِنَّ فِي أَحَدِهَا: إبْرَاهِيمَ بْنَ
يَزِيدَ وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ; وَفِي الثَّانِي: الْحَارِثُ الأَعْوَرُ وَهُوَ
مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ
وَالْعَجَبُ مِنْ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; فَإِنَّ
الْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ, وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ لاَ سِيَّمَا
مُرْسَلُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ
إلاَّ إذَا حَدَّثَهُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَاعِدًا; ثُمَّ خَالَفُوا
هَاهُنَا أَحْسَنَ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ; وَالشَّافِعِيُّونَ لاَ يَقُولُونَ:
إلاَّ بِالْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِالسَّاقِطِ, وَالْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
فَوَاهِيَةٌ كُلُّهَا; لاَِنَّهَا إمَّا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ
مُرْسَلَةٌ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ
لَمْ يُسَمَّ, وَأَحْسَنُهَا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُوَافِقَةُ
لِقَوْلِنَا, وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الآُخْرَى عَنْهُ فِي الثَّلاَثِمِائَةِ
دِرْهَمٍ, إلاَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ جُمْهُورَ
الْعُلَمَاءِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ. وَالْحَنَفِيُّونَ يُبْطِلُونَ
السُّنَنَ الصِّحَاحَ: كَنَفْيِ الزَّانِي, وَحَدِيثِ لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ،
وَلاَ الْمَصَّتَانِ, وَحَدِيثِ رَضَاعِ سَالِمٍ, وَغَيْرِهَا; لِزَعْمِهِمْ:
أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, أَوْ مُخَالِفَةٌ لَهُ, وَأَخَذُوا
هَاهُنَا بِأَخْبَارٍ سَاقِطَةٍ لاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا مُخَصِّصَةٌ
لِلْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لَهُ, ثُمَّ خَالَفُوهَا مَعَ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصِهِمْ
الْمُقْعَدِ.
وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ فِي تَخْصِيصِ الْمُقْعَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى
(7/55)
حَرَجٌ
وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وَهُمْ يَقُولُونَ:
إنَّ الأَعْرَجَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إذَا وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَقَدَرَ
عَلَى الرُّكُوبِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى; فَخَالَفُوا مَا فِي الآيَةِ وَحَكَمُوا
بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَجَبَ طَلَبُ
الْبُرْهَانِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ هَذَا عُمُومًا
لِكُلِّ اسْتِطَاعَةٍ بِمَالٍ أَوْ جِسْمٍ هَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ لَفْظُ الآيَةِ
ضَرُورَةً, وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مُقْعَدٌ، وَلاَ أَعْمَى،
وَلاَ أَعْرَجُ إذَا كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ الرُّكُوبَ وَمَعَهُمْ سِعَةٌ,
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ;
لاَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذِهِ الآيَةَ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ, وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ
فِيهِ إلَى الشَّدِّ وَالتَّحَفُّظِ وَالْجَرْيِ, وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَجٌ ظَاهِرٌ
عَلَى الأَعْرَجِ وَالأَعْمَى; وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
أَصْلاً. وَبَقِيَ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ قُوَّةَ جِسْمٍ إلاَّ أَنَّهُ
يَجِدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِلاَ أُجْرَةٍ أَوْ بِأُجْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا;
فَوَجَدْنَا اللُّغَةَ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَبِهَا خَاطَبَنَا
اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَلْزَمَنَا إيَّاهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْ أَهْلِهَا فِي أَنَّهُ يُقَالُ: الْخَلِيفَةُ مُسْتَطِيعٌ لِفَتْحِ بَلَدِ
كَذَا, وَلِنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مُثْبَتًا
لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ, وَكَانَ
ذَلِكَ دَاخِلاً فِي نَصِّ الآيَةِ.
وَوَجَدْنَا مِنْ السُّنَنِ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ
بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ،
عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، نا
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ
وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَقَالَ لَهَا
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حُجِّي عَنْهُ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لِرَسُولِ
اللَّهِ: "إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ
عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ", وَذَلِكَ فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ".
وَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ
(7/56)
ابْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا يَزِيدُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ:
"كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ إنْ حَزَمَهَا خَشِيَ
أَنْ يَقْتُلَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْزِمْهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ فَأَمَرَهُ عليه
السلام أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعُ بْنُ
الْجَرَّاحِ، نا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ، هُوَ ابْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ وَالظَّعْنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"حُجَّ، عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ". رُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ أَخْبَارٌ
مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم، الْفَضْلُ, وَعَبْدُ اللَّهِ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ, وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ.
وَيَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ التُّسْتَرِيُّ
بَصْرِيٌّ كَانَ يَنْزِلُ بِأَهْلِهِ عِنْدَ مَقْبَرَةِ بَنِي سَهْمٍ مَاتَ سَنَةَ
161هـ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ, وَقِيلَ: بَلْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 162هـ
اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ثِقَةٌ ثَبْتٌ, وَثَّقَهُ أَبُو الْوَلِيدِ
الطَّيَالِسِيُّ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ,
وَابْنُ مَعِينٍ, وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ, وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ,
وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يَزِيدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ
قَتَادَةَ, ذَلِكَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ صَحِيحًا فَإِنَّ
فَرِيضَةَ الْحَجِّ لاَزِمَةٌ لَهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ; لاَِنَّهُ
عليه السلام سَمِعَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، عَنْ أَبِيهَا: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ
تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى
الرَّاحِلَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى أَبِي رَزِينٍ
مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ; فَصَحَّ أَنَّ الْفَرْضَ بَاقٍ عَلَى هَذَيْنِ إذَا
وَجَدَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهُمَا. وقال الشافعي: إنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا
كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَهَذَا خَطَأٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي
رَزِينٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ رَاحِلَةٌ, وَلاَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ أَيْضًا; فَهَذِهِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ. فإن قيل: إنَّمَا جَاءَتْ
هَذِهِ الأَحَادِيثُ فِي شَيْخٍ كَبِيرٍ, وَعَجُوزٍ كَبِيرَةٍ, فَمِنْ أَيْنَ
تَعَدَّيْتُمْ مَا فِيهَا إلَى كُلِّ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَرَكَةَ
بِزَمَانَةٍ, أَوْ مَرَضٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْخًا كَبِيرًا قلنا: لَيْسَ كُلُّ
شَيْخٍ كَبِيرٍ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ
(7/57)
وَإِنَّمَا
يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ غَلَبَهُ الضَّعْفُ, فَإِنَّمَا أَمَرَ عليه
السلام بِذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ثَبَاتًا عَلَى الدَّابَّةِ وَلَيْسَ
لِلشَّيْخِ هُنَالِكَ مَعْنًى أَصْلاً. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ
حَدٌّ مَحْدُودٌ إذَا بَلَغَهُ الْمَرْءُ سُمِّيَ: شَيْخًا, وَلَمْ يُسَمَّ:
شَيْخًا, حَتَّى يَبْلُغَهُ; وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُتَسَامَحُ فِيهِ،
وَلاَ يُؤْخَذُ بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ الْمُفْتَرَاةِ الْمَشْرُوعِ بِهَا مَا
لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى, وَلَوْ كَانَ لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ
لَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّهُ الَّذِي بِهِ يَنْتَقِلُ
حُكْمُهُ إلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ
الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ, وَلاَ الْمَشْيَ إلَى الْحَجِّ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ
لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ أَصْلاً, وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْعَجْزِ، عَنِ
الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَكَانَ هَذَا
اسْتِطَاعَةً لِلسَّبِيلِ مُضَافَةً إلَى الْقُوَّةِ بِالْجِسْمِ وَبِالْمَالِ.
قال أبو محمد: فَتَعَلَّلَ قَوْمٌ فِي هَذِهِ الآثَارِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ
رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَحُجُّ، عَنْ أَبِي قَالَ:
نَعَمْ, إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا. قَالُوا: فَهَذَا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَبَاهُ
كَانَ مَيِّتًا, وَلاَ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا، عَنِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ،
وَلاَ أَنَّهُ كَانَ حَجَّ الْفَرِيضَةِ; بَلْ إنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ مُطْلَقٌ،
عَنِ الْحَجِّ، عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ،
عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ; فَأَجَابَهُ عليه السلام
بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ; وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, جَوَازُ الْحَجِّ، عَنْ
كُلِّ أَحَدٍ، وَلاَ مَزِيدَ, وَهُوَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا تِلْكَ الأَحَادِيثُ
فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّهَا فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ; وَأَيْضًا: فَلَيْسَ قَوْلُهُ
عليه السلام: "إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا".
بِمُخْرِجٍ لِذَلِكَ، عَنِ الْفَرْضِ إلَى التَّطَوُّعِ; لإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ
كُلِّ عَمَلٍ مُفْتَرَضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ إنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْمَرْءِ
فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ سَيِّئَةٌ; فَبَطَلَ
اعْتِرَاضُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}
. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ
كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَجْعَلْ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ
مَا سَعَى فِيهِ غَيْرُهُمْ عَنْهُمْ بِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ.
وقال بعضهم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
قَالَ عَلِيٌّ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى لَزِمَ ذَلِكَ, وَكَانَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ; وَقَدْ
أَجْمَعُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ تَقْتُلْ وَأَنَّهَا تَغْرَمُ،
عَنِ الْقَاتِلِ, وَلَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ, وَلَيْسَ
(7/58)
هُوَ
إجْمَاعًا; فَإِنَّ عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ لاَ يَرَى حُكْمَ الْعَاقِلَةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي أَتَانَا بِهَذَا هُوَ الَّذِي افْتَرَضَ أَنْ
يُحَجَّ، عَنِ الْعَاجِزِ, وَالْمَيِّتِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعْ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَهُمْ يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ
إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ, وَالصَّدَقَةَ، عَنِ الْحَيِّ, وَالْمَيِّتِ, وَالْعِتْقَ
عَنْهُمَا أَوْصَيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِيَا, وَلاَ يَعْتَرِضُونَ فِي ذَلِكَ
بِهَذِهِ الآيَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا أَوْصَى بِالْحَجِّ كَانَ مِمَّا سَعَى.
قلنا لَهُمْ: فَأَوْجِبُوا بِذَلِكَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ;
لاَِنَّهُ مِمَّا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا: عَمَلُ الأَبَدَانِ لاَ يَعْمَلُهُ
أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ, وَمِنْ
أَيْنَ قُلْتُمْ هَذَا بَلْ كُلُّ عَمَلٍ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم بِهِ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ، عَنْ غَيْرِهِ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَغْمِ
أَنْفِ الْمُعَانِدِ فَإِنْ قَالُوا: قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ
كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْكُمْ لاَ لَكُمْ;
لاَِنَّكُمْ لاَ تَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ الَّذِي
يَحُجُّ، عَنْ غَيْرِهِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، عَنِ الْمَحْجُوجِ
عَنْهُ, فَقَدْ جَوَّزْتُمْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ، عَنْ بَعْضٍ
فَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ أَعْمَالِ الأَبَدَانِ.
وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ
بِالْهَدْيِ, وَالإِطْعَامِ: جَازَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ
قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى
وَشَرْعٌ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضْتُمْ فِيهِ; لإِنَّ
الصِّيَامَ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ بِالْعِتْقِ, وَالإِطْعَامِ،
وَلاَ فَرْقَ, وَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِهِ, فَأَجِيزُوا
لِذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يُجِيزُونَ أَنْ
يُجَاهِدَ الرَّجُلُ، عَنْ غَيْرِهِ بِجُعْلٍ, وَيُجِيزُونَ الْكَفَّارَةَ، عَنِ
الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهَا
عَنْهَا, وَهُوَ الَّذِي أَكْرَهَهَا, فَأَجَازُوا كُلَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ
يُجِزْهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام وَمَنَعُوا مِنْ
جَوَازِهِ حَيْثُ افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
أُوَيْسٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَرِيمٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَدَوِيِّ النَّجَّارِيِّ أَنَّ
امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِتَحُجِّي عَنْهُ، وَلَيْسَ لاَِحَدٍ
بَعْدَهُ" . وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ
حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْكَرِيرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
حِبَّانَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَقْوَى عَلَى الْحَجِّ
فَقَالَ عليه السلام: "فَلْتَحُجِّي عَنْهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لاَِحَدٍ
بَعْدَهُ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي
هَارُونُ بْنُ صَالِحٍ الطَّلْحِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ
أَسْلَمَ،
(7/59)
عَنْ
رَبِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ
إلاَّ وَلَدٌ، عَنْ وَالِدٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ تَكَاذِيبُ, أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَلاَ
حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ: وَالأَوَّلُ: فِيهِ مَجْهُولاَنِ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمَا
وَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيُّ وَالآخَرَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ
وَكَفَى; فَكَيْف وَفِيهِ: الطَّلْحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْكَرِيرِ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ حِبَّانَ, وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدٍ
وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَهَذَا خَبَرٌ حَرَّفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ; لاَِنَّنَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ
عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ وَلَك مِثْلُ أَجْرِهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ
يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ
كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَدَعَوْتَ غُرَمَاءَهُ لِتَقْضِيَهُمْ أَكَانُوا
يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْكَ" قَالَ: نَعَمْ; قَالَ: "فَحُجَّ عَنْهُ
فَإِنَّ اللَّهَ قَابِلٌ مِنْ أَبِيكَ".
قال أبو محمد: فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْفَضَائِحِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهَا; لأَنَّهُمْ
يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِهِ, وَأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ
غَيْرُ وَلَدِهِ; وَهُوَ خِلاَفٌ لِمَا فِي هَذِهِ الآثَارِ فَهِيَ عَلَيْهِمْ لاَ
لَهُمْ وَتَخْصِيصُهُمْ جَوَازَ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِهِ لاَ يُوجَدُ فِي
شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ, وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ
يُوجِبُهَا قِيَاسٌ; لإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَجُوزُ إلاَّ فِيمَا يَجُوزُ
لِلإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
قال أبو محمد: فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ
يَصُومَنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَحُجَّنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَفْلَحَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لاَ
يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ قلنا: نَعَمْ, هَذَا صَحِيحٌ عَنْهُمَا, وَأَنْتُمْ
مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ; لاَِنَّكُمْ تُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ
الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ,
وَالْقَاسِمِ وَمَا وَجَدْنَا قَوْلَهُمْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم،; وَصَحَّ قَوْلُنَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ
الْقَرِّيِّ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ أُمِّي حَجَّتْ وَلَمْ
تَعْتَمِرْ, أَفَأَعْتَمِرُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ.
(7/60)
قال
أبو محمد فَهَذَا لاَ تَخْصِيصَ فِيهِ لِمَيِّتٍ دُونَ حَيٍّ.وَمِنْ طَرِيقِ
يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ قَالَ, قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ, لاَِيِّهِمَا الأَجْرُ أَلِلْحَاجِّ أَمْ
لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعٌ لَهُمَا
جَمِيعًا.
قال أبو محمد: صَدَقَ سَعِيدٌ رحمه الله. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّ مُحِبَّةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى
الْكَعْبَةِ فَمَشَتْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ عَقَبَةَ الْبَطْنِ عَجَزَتْ
فَرَكِبَتْ ثُمَّ أَتَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعِينَ
أَنْ تَحُجِّي قَابِلاً فَإِذَا انْتَهَيْت إلَى الْمَكَانِ الَّذِي رَكِبَتْ
فِيهِ فَتَمْشِي مَا رَكِبْت قَالَتْ: لاَ, قَالَ لَهَا: فَهَلْ لَك ابْنَةٌ
تَمْشِي عَنْك قَالَتْ: لِي ابْنَتَانِ وَلَكِنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمَا
مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَهُ مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال أبو محمد: هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَى رِوَايَتِهَا، عَنْ عَائِشَةَ،
رضي الله عنها، فِي أَمْرِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إلَى
الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ,
وَتَرَكُوا فِيهِ فِعْلَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَكَانَتْ حُجَّةً هُنَالِكَ إذْ
لَمْ تُوَافِقْ النُّصُوصَ, وَلَمْ تَكُنْ حُجَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ
وَافَقَتْ النُّصُوصَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا
حَفْصُ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ
يُجَهِّزُ رَجُلاً بِنَفَقَتِهِ فَيَحُجُّ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ
بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ
الْجِمَارَ, وَطَافَ عَنْهُ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانَ أَبُوهُ مَرِيضًا.
وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، عَنْ أَبِيهِ
بِأَمْرِ أَبِيهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَنْ حَجَّ، عَنْ رَجُلٍ فَلَهُ مِثْلُ
أَجْرِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فَعَجَزَ قَالَ: يَمْشِي
عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ, وَأَنَّهُ رَأَى الرَّمْيَ، عَنِ الْمَرِيضِ
لِلْجِمَارِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٌّ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ,
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس: وَرُوِيَ أَيْضًا:
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ خَالَفَنَا هَاهُنَا فَلَمْ
يُوجِبْ الْحَجَّ عَلَى مَنْ وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ, وَلاَ
عَنِ الْمَيِّتِ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ: سَلَفًا أَصْلاً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله
عنهم, وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْجُمْهُورَ مِنْ الْعُلَمَاءِ; وَبِمِثْلِ
قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَابْنُ أَبِي
لَيْلَى, وَأَحْمَدُ, وَإِسْحَاقُ.
(7/61)
816
- مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: فَإِنْ حَجَّ عَمَّنْ لَمْ يُطِقْ الرُّكُوبَ
وَالْمَشْيَ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَفَاقَ; فَإِنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلاَ بُدَّ,
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بَعْدُ.
قال أبو محمد: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ عَمَّنْ لاَ
يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ رَاكِبًا، وَلاَ مَاشِيًا, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دَيْنُ
اللَّهِ يُقْضَى عَنْهُ; فَقَدْ تَأَدَّى الدَّيْنُ بِلاَ شَكٍّ وَأَجْزَأَ
عَنْهُ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَا سَقَطَ وَتَأَدَّى, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ
فَرْضُهُ بِذَلِكَ; إلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ هَاهُنَا أَصْلاً بِعَوْدَتِهِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا لَبَيَّنَ عليه السلام ذَلِكَ; إذْ قَدْ يَقْوَى
الشَّيْخُ فَيُطِيقُ الرُّكُوبَ; فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم بِذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ عَوْدَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ
تَأَدِّيهِ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/62)
817
- مَسْأَلَةٌ: قال علي وَسَوَاءٌ مَنْ بَلَغَ وَهُوَ عَاجِزٌ، عَنِ الْمَشْيِ
وَالرُّكُوبِ, أَوْ مَنْ بَلَغَ مُطِيقًا ثُمَّ عَجَزَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا,
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ إلاَّ عَمَّنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ
عَلَى الْحَجِّ وَلَوْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ عَجَزَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِيهِ فَرِيضَةُ
اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى
الدَّابَّةِ.فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ
بَعْدَ لُزُومِهِ لَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِجِسْمِهِ; فَصَحَّ قَوْلُنَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/62)
818
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي
قَدَّمْنَا حُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَاعْتُمِرَ، وَلاَ بُدَّ مُقَدَّمًا
عَلَى دُيُونِ النَّاسِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تَطَوُّعًا سَوَاءً
أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ
يُحَجُّ عَنْهُ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَارِيثِ: {مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ عَزَّ وَجَلَّ الدُّيُونَ
كُلَّهَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ
شُعَيْبٍ أَنَّا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْمَصْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ،
هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حَمِيدٍ
الْبَصْرِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
قَالَ: أَمَرْتُ امْرَأَةَ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ أَنْ تَسْأَلَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ
أَفَيُجْزِئُ، عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "نَعَمْ, لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ
عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا فَلْتَحُجَّ، عَنْ أُمِّهَا".
(7/62)
819
- مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ إلاَّ فِي أَوْقَاتِهِ
الْمَنْصُوصَةِ، وَلاَ يَحِلُّ الإِحْرَامُ بِهِ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي
كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ
السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِهَا لاَ تُحَاشِ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . الآيَةَ, فَنَصَّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَابْنِ جُرَيْجٍ كِلَيْهِمَا، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ أَيُهِلُّ أَحَدٌ بِالْحَجِّ قَبْلَ
أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ: لاَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: رَأَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ
أَبِي نُعْمٍ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: لَوْ
أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَدْرَكُوهُ رَجَمُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ لاَِبِي
الْحَكَمِ: أَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ; لاَِنَّك خَالَفْتَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَتَرَكْتَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ
(7/65)
صلى
الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم حَتَّى إذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ, وَجَعَلَ الْقَرْيَةَ خَلْفَ
ظَهْرِهِ أَهَلَّ وَإِنَّك تُهِلُّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَنْ عَطَاءٍ,
وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ
فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ
قَالاَ: فَإِنَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ
يُحِلُّ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُحِلُّ وَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَأَنَّهُ لَيْسَ
حَجًّا, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ
الْمُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ
يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; فَإِنْ فَعَلَ فَلاَ يَحِلُّ
حَتَّى يَقْضِيَ حِجَّهُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ: تَصِيرُ
عُمْرَةً، وَلاَ بُدَّ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ
إنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قال أبو محمد مَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، وَهُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَخِلاَفُ الْقِيَاسِ, وَاحْتَجَّ
الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةِ فَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهَا
أَنَّهَا تَكُونُ تَطَوُّعًا.
قال أبو محمد: هَذَا تَشْبِيهُ الْخَطَأِ بِالْخَطَأِ بَلْ هُوَ لاَ شَيْءَ;
لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلاَةِ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ
أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". فَصَحَّ أَنْ عَمَلَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي
غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ
أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ رَدٌّ, وَلاَ يَصِيرُ
عُمْرَةً، وَلاَ هُوَ حَجٌّ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ مِنْ
الْحَنِيفِيِّينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ
مَا, فَإِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرَةً فَهُوَ الْحَجُّ, وَإِنْ كَانَ
إنَّمَا يُنَاظِرُ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ لَعَمْرِي
لاَزِمٌ لَهُ, وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الإِيهَامَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ تَامٌّ فَقَدْ
اسْتَسْهَلَ الْكَذِبَ عَلَى الآُمَّةِ كُلِّهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَعَطَاءٍ أَنَّهُ
يَحِلُّ, وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً.
وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ
الإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُجِيزُونَهُ فَأَخْبِرُونَا
عَنْكُمْ أَهُوَ عَمَلُ بِرٍّ وَفِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ فَلِمَ تَكْرَهُونَ الْبِرَّ
وَعَمَلاً فِيهِ أَجْرٌ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا وَمَا فِي الدِّينِ كَرَاهِيَةُ
الْبِرِّ وَعَمَلُ الْخَيْرِ, أَمْ هُوَ عَمَلٌ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ،
وَلاَ هُوَ مِنْ الْبِرِّ فَكَيْف أَجَزْتُمُوهُ فِي الدِّينِ وَمَعَاذَ اللَّهِ
مِنْ هَذَا؟
قال أبو محمد: إذْ هُوَ عَمَلٌ زَائِدٌ لاَ أَجْرَ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ
شَكٍّ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}
وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ: كَيْف تُبْطِلُ عَمَلَهُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ;
(7/66)
لاَِنَّهُ
خَالَفَ الْحَقَّ, ثُمَّ تُلْزِمُهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عُمْرَةً لَمْ يُرِدْهَا
قَطُّ، وَلاَ قَصَدَهَا، وَلاَ نَوَاهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى" وَهَذَا بَيِّنٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ; فَبَطَلَ كِلاَ الْقَوْلَيْنِ
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْكُورُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ قَبْلَ
وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ وَمَنْ نَوَى صِيَامًا قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ, وَمَنْ قَدَّمَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ;
فَهَلاَّ قَاسُوا الْحَجَّ عَلَى ذَلِكَ وَهَلاَّ قَاسُوا بَعْضَ عَمَلِ الْحَجِّ
عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا أَصَحُّ قِيَاسٍ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا وَهَذَا
مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ, وَعَمَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ
لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَالْقِيَاسُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ
الْحَنِيفِيِّينَ قَالُوا فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"فِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" :
حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلاَمٍ لاَ
فَائِدَةَ فِيهِ فَهَلاَّ قَالُوا: هَاهُنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. حَاشَا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي
الْقُرْآنِ قَوْلاً لاَ فَائِدَةَ فِيهِ هَذَا وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ جُمْلَةً دُونَ ذِكْرِ
سَائِمَةٍ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ جَوَازُ فَرْضِ
الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ الْمَعْلُومَاتِ.
فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَلِمَ جَعَلْتُمْ
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يَتَعَدَّى
بِأَعْمَالِ الْحَجِّ إلَى غَيْرِهَا قلنا: إنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ دَعْوَاكُمْ فِي
دَلِيلِ الْخِطَابِ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تُبْطِلُوا بِهِ سُنَّةً أُخْرَى عَامَّةً,
وَأَمَّا إذَا وَرَدَ نَصٌّ بِحُكْمٍ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ
عَلَيْهِ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحُكْمِ النَّصَّ
الَّذِي وَرَدَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّ الْخِلاَفَ قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ
الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
لَيْسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي
غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَلِعُمْرَتِكُمْ. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنِ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: أَنَّ
السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي الْعُمْرَةِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: حَلَّتْ الْعُمْرَةُ الدَّهْرَ إلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ
النَّحْرِ; وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ،
عَنْ مُعَاذَةَ عَنْهَا. وَرُوِّينَا أَيْضًا عَنْهَا: تَمَّتْ الْعُمْرَةُ
السَّنَةَ كُلَّهَا إلاَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ عَرَفَةَ, وَيَوْمَ
النَّحْرِ وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهَا
إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمُ
(7/67)
عَرَفَةَ,
وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال أبو حنيفة:
الْعُمْرَةُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ, يَوْمُ عَرَفَةَ,
وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال مالك: الْعُمْرَةُ
جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ السَّنَةِ إلاَّ لِلْحَاجِّ خَاصَّةً فِي
أَيَّامِ النَّحْرِ خَاصَّةً. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَمَا قلنا.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَاعْتَمَرَ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَتْ أُخْتِي عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ بَعْدَ مَا قَضَتْ حَجَّهَا أَتَعْتَمِرُ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَالَ:
نَعَمْ. وَعَنْ طَاوُوس أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: تَعَجَّلْتُ فِي
يَوْمَيْنِ أَفَأَعْتَمِرُ قَالَ: نَعَمْ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ, وَلاَ بَعْضُ
الرِّوَايَاتِ، عَنْ عَائِشَةَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا, وَقَدْ نا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا سُمَيٌّ هُوَ مَوْلَى أَبِي
بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةُ
وَالْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ تَكْفِيرٌ لِمَا بَيْنَهُمَا". قال أبو محمد:
فَحَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَحُدَّ
لَهَا وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ; وَأَمَّا
اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ جِدًّا; لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ عَلَى
صِحَّتِهِ دُونَ سَائِرِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/68)
820 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ إلاَّ مَرَّةً فِي السَّنَةِ; وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَنُحِبُّ الإِكْثَارَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِهَا; فأما الْحَجُّ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فِي كُلِّ شَهْرٍ عُمْرَةٌ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ عُمْرَتَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَرَاهَةُ الْعُمْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس: إذَا مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَاعْتَمِرْ مَتَى شِئْت. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: اعْتَمِرْ مَتَى أَمْكَنَك الْمُوسَى. وَعَنْ عَطَاءٍ إجَازَةُ الْعُمْرَةِ
(7/68)
مَرَّتَيْنِ
فِي الشَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ
وَاحِدٍ مَرَّةً فِي رَجَبٍ, وَمَرَّةً فِي شَوَّالٍ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّهُ أَقَامَ مُدَّةً بِمَكَّةَ فَكُلَّمَا جَمَّ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ
نَأْخُذُ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْمَرَ عَائِشَةَ
مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْرَهْ عليه السلام ذَلِكَ بَلْ
حَضَّ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا, وَبَيْنَ
الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ, فَالإِكْثَارُ مِنْهَا أَفْضَلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَعْتَمِرْ فِي عَامٍ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا;
لاَِنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ مَا حَضَّ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ عليه السلام لَمْ
يَحُجَّ مُذْ هَاجَرَ إلاَّ حَجَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ اعْتَمَرَ مُذْ هَاجَرَ
إلاَّ ثَلاَثَ عُمَرَ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَكْرَهُوا الْحَجَّ إلاَّ مَرَّةً فِي
الْعُمْرِ, وَأَنْ تَكْرَهُوا الْعُمْرَةَ إلاَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي الدَّهْرِ,
وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ; وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عليه السلام يَتْرُكُ
الْعَمَلَ هُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى
أُمَّتِهِ أَوْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَصُومَ الْمَرْءُ أَكْثَرَ مِنْ
نِصْفِ الدَّهْرِ, وَأَنْ يَقُومَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ; وَقَدْ صَحَّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ قَطُّ شَهْرًا كَامِلاً,
وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, وَلاَ قَامَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَ
عَشْرَةَ رَكْعَةً, وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ, فَلَمْ يَرَوْا
فِعْلَهُ عليه السلام هَاهُنَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى صِحَّةِ
نَهْيِهِ، عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الصَّوْمِ وَمِقْدَارِ مَا يُقَامُ مِنْ
اللَّيْلِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا فِعْلَهُ عليه السلام فِي
أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةَ مَعَ حَضِّهِ عَلَى
الْعُمْرَةِ وَالإِكْثَارِ مِنْهَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى
عُمْرَةٍ مِنْ الْعَامِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا.
(7/69)
821
- مَسْأَلَةٌ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَذُو
الْحِجَّةِ, وَقَالَ قَوْمٌ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَعَشَرٌ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ. رُوِّينَا قَوْلَنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ
طَاوُوس, وَعَطَاءٍ. وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الآخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا,
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَرُوِّينَا، عَنِ
الْحَسَنِ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقَعْدَةِ, وَصَدْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
قال أبو محمد: قَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وَلاَ يُطْلَقُ
عَلَى شَهْرَيْنِ, وَبَعْضٍ آخَرَ: أَشْهُرٌ, وَأَيْضًا فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ
وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ يُعْمَلُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ, وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ وَهُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ يُعْمَلُ فِي
ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهُمْ; فَصَحَّ أَنَّهَا ثَلاَثَةُ
أَشْهُرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/69)
822- مَسْأَلَةٌ: وَلِلْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ مَوَاضِعُ تُسَمَّى: الْمَوَاقِيتَ, وَاحِدُهَا: مِيقَاتٌ
(7/69)
823 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَلْيَتَجَرَّدْ مِنْ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ رَجُلاً, فَلاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ, وَلاَ سَرَاوِيلَ, وَلاَ عِمَامَةً, وَلاَ قَلَنْسُوَةً, وَلاَ جُبَّةً, وَلاَ بُرْنُسًا, وَلاَ خُفَّيْنِ, وَلاَ قُفَّازَيْنِ أَلْبَتَّةَ, لَكِنْ يَلْتَحِفُ فِيمَا شَاءَ مِنْ كِسَاءٍ, أَوْ مِلْحَفَةٍ أَوْ رِدَاءٍ; وَيَتَّزِرُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ وَيَلْبَسُ نَعْلَيْهِ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّزِرَ, وَلاَ أَنْ يَلْتَحِفَ فِي ثَوْبٍ صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ, أَوْ عُصْفُرٍ. فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَلْتَلْبَسْ مَا شَاءَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا إلاَّ أَنَّهَا لاَ تَنْتَقِبُ أَصْلاً; لَكِنْ إمَّا أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا, وَأَمَّا أَنْ تَسْدُلَ عَلَيْهِ ثَوْبًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَذَلِكَ لَهَا إنْ شَاءَتْ. وَلاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ شَيْئًا صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ,
(7/78)
وَلاَ
أَنْ تَلْبَسَ قُفَّازَيْنِ فِي يَدَيْهَا, وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْخِفَافَ
وَالْمُعَصْفَرَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلُ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ
السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْ خُفَّيْهِ
تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ بُدَّ وَيَلْبَسُهُمَا كَذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ
فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ
رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ
الثِّيَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْبَسُوا
الْقُمُصَ, وَلاَ الْعَمَائِمَ, وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ, وَلاَ الْبَرَانِسَ،
وَلاَ الْخِفَافَ إلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ
وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ, وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ
شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلاَ الْوَرْسُ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ
حَازِمٍ، نا أَبِيٌّ قَالَ سَمِعْت قَيْسًا، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً
أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ قَدْ أَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مُصَفِّرٌ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ, وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ,
وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ, وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي
عُمْرَتِكَ".
قال أبو محمد: كُلُّ مَا جُبَّ فِيهِ مَوْضِعٌ لاِِخْرَاجِ الرَّأْسِ مِنْهُ:
فَهُوَ جُبَّةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ; وَكُلُّ مَا خِيطَ أَوْ نُسِجَ فِي
طَرَفَيْهِ لِيَتَمَسَّكَ عَلَى الرَّأْسِ فَهُوَ بُرْنُسٌ كَالْغِفَارَةِ
وَنَحْوِهَا.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، نا ابْنُ
الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، نا
يَعْقُوبُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ قَالَ: إنَّ نَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
"أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى النِّسَاءَ فِي
إحْرَامِهِنَّ، عَنِ الْقُفَّازَيْنِ, وَالنِّقَابِ, وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ
وَالزَّعْفَرَانُ, مِنْ الثِّيَابِ وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ
أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ, أَوْ خَزٍّ, أَوْ حُلِيٍّ, أَوْ
سَرَاوِيلَ, أَوْ قَمِيصٍ, أَوْ خُفٍّ".
(7/79)
قَالَ
عَلِيٌّ: وَحدثناه عبد الله بن ربيع قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا
أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخٌ, فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَّا الْجُبَّةُ فَاخْلَعْهَا,
وَأَمَّا الطِّيبُ فَاغْسِلْهُ, ثُمَّ أَحْدِثْ إحْرَامًا".
قال أبو محمد: نُوحٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ; فَالأَخْذُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَاجِبٌ,
وَيَجِبُ إحْدَاثُ الإِحْرَامِ لِمَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخًا
بِصُفْرَةٍ مَعًا وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ إلاَّ مَنْ جَمَعَهَا, وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ
الصَّلاَةِ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرِّجَالَ، عَنِ الْمُعَصْفَرِ
جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ, وَهُوَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ
بِالْوَرْسِ, أَوْ الزَّعْفَرَانِ, إذَا غُسِلَ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ
فَقَالَ قَوْمٌ: لِبَاسُهُ جَائِزٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا أَثَرًا فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ
الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَلاَ نَعْلَمُهُ صَحِيحًا, وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ
لِبَاسُهُ أَصْلاً; لاَِنَّهُ قَدْ مَسَّهُ الْوَرْسُ, أَوْ الزَّعْفَرَانُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ
الْوَارِثِ التَّنُّورِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُرْوَةَ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
عَنِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ إذَا غُسِلَ حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ يَعْنِي
بِالزَّعْفَرَانِ لِلْمُحْرِمِ فَنَهَاهُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ:
كُنْت عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُحْرِمَ وَمَعِي ثَوْبٌ مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ فَغَسَلْته حَتَّى ذَهَبَ
لَوْنُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَمَعَك ثَوْبٌ غَيْرُهُ قَالَ: لاَ, قَالَ:
فَأَحْرِمْ فِيهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ إذَا غُسِلَ، وَلاَ يَصِحُّ سَمَاعُ
إبْرَاهِيمَ مِنْ عَائِشَةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَإِبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وطَاوُوس: إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ
إذَا غُسِلَ وَفِي أَسَانِيدِهِمْ مَغْمَزٌ.
وَمِنْهُ: مَنْ وَجَدَ خُفَّيْنِ وَلَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ:
يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا، وَلاَ يَقْطَعُهُمَا.وَقَالَ قَوْمٌ يَشُقُّ
السَّرَاوِيلَ فَيَتَّزِرُ بِهَا وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ لَهُ لِبَاسَ
السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ بِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا شُعْبَةُ بْنُ
الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَار
(7/80)
سَمِعْت
جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ
نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ, وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ
سَرَاوِيلَ". وقال بعضهم: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَقَدْ
نُهِيَ عَنْهُ.
قال أبو محمد: حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ,
فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا
الْخُفَّانِ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ زِيَادَةُ الْقَطْعِ حَتَّى يَكُونَا
أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلاَ يَحِلُّ
خِلاَفُهُ, وَلاَ تَرْكُ الزِّيَادَةِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ "إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ, وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِنْ قَوْلِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ
أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا
لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ
وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ
النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَعَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ،
أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ: قَالَ: يَلْبَسُ
الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعُهُمَا حَتَّى يَكُونَا مِثْلَ النَّعْلَيْنِ; وَهُوَ
قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَسُفْيَانَ, وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ,
وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ إبَاحَةَ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ بِلاَ ضَرُورَةٍ
لِلْمُحْرِمِ مِنْ الرِّجَالِ. وقال أبو حنيفة: إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ
سَرَاوِيلَ, فَإِنْ لَبِسَهَا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلاَ
بُدَّ. وَإِنْ لَبِسَهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, وَإِنْ لَبِسَ
خُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, وَإِنْ
لَبِسَهُمَا أَقَلَّ فَصَدَقَةٌ; وقال مالك: مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ
سَرَاوِيلَ وَافْتَدَى, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ قَطَعَ الْخُفَّيْنِ
أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَبِسَهُمَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ وَيَتَّزِرُ بِهَا، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ لِبَاسِ السَّرَاوِيلِ
وَالْخُفَّيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ, وَبَيْنَ لِبَاسِهِمَا أَقَلَّ مِنْ
ذَلِكَ فَقَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا
يَقُولُونَ إنْ لَبِسَهُمَا يَوْمًا غَيْرَ طَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ غَيْرَ نِصْفِ
سَاعَةٍ وَهَكَذَا نَزِيدُهُمْ دَقِيقَةً دَقِيقَةً حَتَّى يَلُوحَ هَذَيَانُهُمْ,
وَقَوْلُهُمْ بِالأَضَالِيلِ فِي الدِّينِ, وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ الدَّمَ فِي
ذَلِكَ, أَوْ الصَّدَقَةَ, لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ فَإِنْ قَالُوا:
قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ قلنا:
الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ
عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ فِدْيَةَ الأَذَى جَاءَتْ بِتَخْيِيرٍ بَيْنَ صِيَامٍ,
أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ نُسُكٍ, وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ هَاهُنَا الدَّمَ، وَلاَ
بُدَّ; أَوْ صَدَقَةً غَيْرَ مَحْدُودَةٍ،
(7/81)
وَلاَ
بُدَّ;، وَلاَ سِيَّمَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ
أَخْذُهَا بِالْقِيَاسِ, فَكَمْ هَذَا التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمُهُ بَيْنَ حُكْمِ السَّرَاوِيلِ وَبَيْنَ
حُكْمِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ, خَطَأٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَمَالِكٌ
مَعْذُورٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِنَّمَا
الْمَلاَمَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ وَخَالَفَهُ لِتَقْلِيدِ رَأْيِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ اسْتَدْرَكَ
بِعَقْلِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عليه
السلام وَأَوْجَبَ فِدْيَةً حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهَا النَّبِيُّ عليه السلام.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ
مُخَالِفٌ; وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَالْمِسْوَرِ, وَلاَ نَعْلَمُ
لاَِحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَوْلاً غَيْرَ الأَقْوَالِ الَّتِي
ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَخَالَفَهَا الْحَنَفِيُّونَ,
وَالْمَالِكِيُّونَ كُلُّهَا آرَاءٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا
أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ، عَنِ
الْقُفَّازَيْنِ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ
إبْرَاهِيمَ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةَ الْقُفَّازَيْنِ
لِلْمَرْأَةِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ, وَحَمَّادٍ, وَعَطَاءٍ, وَمَكْحُولٍ,
وَعَلْقَمَةَ, وَغَيْرِهِمْ; وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا الْمُعَصْفَرُ
فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَنْعَ مِنْهُ جُمْلَةً
وَلِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ عُمَرَ, وَنَافِعِ بْنِ
جُبَيْرٍ: إبَاحَتَهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلَمْ يُبِحْهُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ:
لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ, وَعَلِيٍّ, وَعَقِيلِ ابْنَيْ أَبِي طَالِبٍ, وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ, وَغَيْرِهِمْ, إبَاحَةَ الْمُوَرَّدِ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ, وَهُوَ
مُبَاحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِزَعْفَرَانٍ, أَوْ وَرْسٍ, أَوْ عُصْفُرٍ; لاَِنَّهُ
لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
(7/82)
824 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ عِنْدَ الإِحْرَامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, وَلَيْسَ فَرْضًا إلاَّ عَلَى النُّفَسَاءِ وَحْدَهَا: لِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ تُهِلُّ".
(7/82)
825 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ أَنْ يَتَطَيَّبَا عِنْدَ الإِحْرَامِ بِأَطْيَبَ
(7/82)
826 - مَسْأَلَةٌ: ثُمَّ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ, أَوْ يَنْوِيَانِ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَنَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إثْرَ صَلاَةِ فَرْضٍ أَوْ نَافِلَةٍ.
(7/90)
827 - مَسْأَلَةٌ: ثُمَّ يَجْتَنِبَانِ تَجْدِيدَ قَصْدٍ إلَى الطِّيبِ فَإِنْ مَسَّهُمَا مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ شَيْءٌ لَمْ يَضُرَّ; أَمَّا اجْتِنَابُ الْقَصْدِ إلَى الطِّيبِ فَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا, وَأَمَّا إنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ أَوْ غَيْرِهَا، عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ, فَلاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَهْيٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَصَابَهُ فَلَمْ يَغْسِلْهُ; وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ, وَسُئِلَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ.
(7/90)
828
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ بِمَا هُوَ
مُلْتَحِفٌ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ بَأْسَ
أَنْ تَسْدُلَ الْمَرْأَةُ الثَّوْبَ مِنْ عَلَى رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا.
أَمَّا أَمْرُ الْمَرْأَةِ, فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا
نَهَاهَا، عَنِ النِّقَابِ;، وَلاَ يُسَمَّى السَّدْلُ نِقَابًا فَإِنْ كَانَ
"الْبُرْقُعُ" يُسَمَّى نِقَابًا, لَمْ يَحِلَّ لَهَا لِبَاسُهُ.
وَأَمَّا اللِّثَامُ فَإِنَّهُ نِقَابٌ بِلاَ شَكٍّ; فَلاَ يَحِلُّ لَهَا. وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ
شَيْءٍ فَدَعُوهُ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَصَحَّ أَنَّ مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ
فَمُبَاحٌ, وَمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَحَلاَلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
الْمَاجِشُونُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ
امْرَأَةً قَدْ سَدَلَتْ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ فَقَالَ
لَهَا: اكْشِفِي وَجْهَك فَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا.
وَصَحَّ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ غَيْرِهِ, كَمَا رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ
أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ
مُحْرِمَةٌ. وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُعَاذَةَ
الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَأَلْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَلْبَسُ
الْمُحْرِمَةُ فَقَالَتْ: لاَ تَنْتَقِبُ, وَلاَ تَلْثِمُ, وَتَسْدُلُ الثَّوْبَ
عَلَى وَجْهِهَا وَعَنْ عُثْمَانَ أَيْضًا ذَلِكَ, فَكَانَ الْمَرْجُوعُ فِي
ذَلِكَ إلَى مَا مَنَعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْفُرَافِصَةِ بْنِ عُمَيْرٍ
قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ, وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ, وَابْنُ
الزُّبَيْرِ يُخَمِّرُونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ
مَعْمَرٍ, وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَيْهِمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
مُخَمِّرًا وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ بِالْعَرْجِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ
وَهُوَ مُحْرِمٌ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْبَصِيرِ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْت
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْمُحْرِمُ يُغَطِّي مِنْ الْغُبَارِ
وَيُغَطِّي وَجْهَهُ إذَا نَامَ وَيَغْتَسِلُ وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا
كَانَا يُخَمِّرَانِ وُجُوهَهُمَا وَهُمَا مُحْرِمَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يُغَطِّي مَا دُونَ الْحَاجِبِ وَالْمَرْأَةُ تَسْدُلُ
ثَوْبَهَا مِنْ قِبَلِ قَفَاهَا عَلَى هَامَتِهَا.
(7/91)
وَعَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَيْضًا: إبَاحَةُ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ
وَجْهَهُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَعَلْقَمَةَ,
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ كُلِّهِمْ أَفْتَى
الْمُحْرِمَ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ وَبَيَّنَ بَعْضُهُمْ مِنْ الشَّمْسِ,
وَالْغُبَارِ, وَالذُّبَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ وَرُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ يُغَطِّي الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ,
وَلَمْ يَرَ عَلَى الْمُحْرِمِ إنْ غَطَّى وَجْهَهُ شَيْئًا لاَ فِدْيَةَ, وَلاَ
صَدَقَةَ, وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ إلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ فَقَطْ, بَلْ قَدْ رَوَى
عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: الذَّقَنُ مِنْ الرَّأْسِ فَلاَ تُغَطِّهِ, وَقَالَ: إحْرَامُ الْمَرْأَةِ
فِي وَجْهِهَا, وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ:
لاَ يُغَطِّي الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهُمْ
يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْجُمْهُورِ; وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَبْدَ
الرَّحْمَانِ بْنَ عَوْفٍ, وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ,
وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ,
وَجُمْهُورَ التَّابِعِينَ; فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِابْنِ عُمَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا
فِي هَذَا الْبَابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ، عَنْ أَنْ تَسْدُلَ
عَلَى وَجْهِهَا وَقَدْ خَالَفُوهُ, وَرُوِّينَا عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا; فَمَرَّةً هُوَ حُجَّةٌ,
وَمَرَّةً لَيْسَ هُوَ حُجَّةً, أُفٍّ لِهَذَا عَمَلاً.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ
الْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا كَانَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ أَحَقُّ
لاَِنَّهُ أَغْلَظُ حَالاً مِنْهَا فِي الإِحْرَامِ.
قال أبو محمد: وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي
الإِحْرَامِ فَوَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ فِي الإِحْرَامِ كَشْفُ رَأْسِهِ وَلَمْ
يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ, وَاتَّفَقَا فِي أَنْ لاَ يَلْبَسَا قُفَّازَيْنِ
وَاخْتَلَفَا فِي الثِّيَابِ, فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا فِي
تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ إنَّ هَذَا الْقِيَاسَ سَخِيفٌ جِدًّا, وَأَيْضًا: فَقَدْ
كَذَبُوا وَمَا نُهِيَتْ الْمَرْأَةُ، عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا; بَلْ هُوَ
مُبَاحٌ لَهَا فِي الإِحْرَامِ وَإِنْ نُهِيَتْ، عَنِ النِّقَابِ فَقَطْ فَظَهَرَ
فَسَادُ قِيَاسِهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ فِي الَّذِي مَاتَ مُحْرِمًا
أَنْ لاَ يُخَمَّرَ رَأْسُهُ, وَلاَ وَجْهُهُ رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ:
مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَجُلاً أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ, فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ
(7/92)
وَسِدْرٍ,
وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ, وَلاَ تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلاَ رَأْسَهُ
فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا".
قال أبو محمد: إنَّ الْحَيَاءَ لَفَضِيلَةٌ, وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ مِنْ الإِيمَانِ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا
الْحَدِيثِ, وَأَوَّلُ عَاصٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فَلاَ
يَرَوْنَ فِيمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ; بَلْ
يُغَطُّونَ كُلَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي أَنْ لاَ يُغَطِّيَ الْحَيُّ
الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ
الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَخَالَفَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ
الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ هُوَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ وَهُوَ رَأْيٌ
لِلْمُحْرِمِ الْحَيِّ أَنْ يُخَمِّرَ وَجْهَهُ; فَأَيْنَ لَك ذَلِكَ الأَصْلُ
الْخَبِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْحَيَّ الْمُحْرِمَ لاَ يَلْزَمُهُ
كَشْفُ وَجْهِهِ, وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ كَشْفُ رَأْسِهِ فَقَطْ; فَإِذَا مَاتَ
أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ حُكْمًا زَائِدًا وَهُوَ أَنْ لاَ يُخَمَّرَ
وَجْهُهُ، وَلاَ رَأْسُهُ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَعَالَى, وَالْقِيَاسُ
ضَلاَلٌ, وَزِيَادَةٌ فِي الدِّينِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كَانَ تَغْطِيَةُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ مَكْرُوهًا أَوْ
مُحَرَّمًا, لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا لَمْ يَنْهَ،
عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/93)
829
- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ التَّلْبِيَةِ مِنْ حِينِ
الإِحْرَامِ فَمَا بَعْدَهُ دَائِمًا فِي حَالِ الرُّكُوبِ, وَالْمَشْيِ,
وَالنُّزُولِ, وَعَلَى كُلِّ حَالٍ, وَيَرْفَعُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ
صَوْتَهُمَا بِهَا، وَلاَ بُدَّ, وَهُوَ فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً وَهِيَ: لَبَّيْكَ,
اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكُ
لاَ شَرِيكَ لَك.
نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الدِّينَوَرِيُّ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُوسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ حَمْزَةَ
بْنِ أَبِي دَاوُد الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ
بَدْرِيٌّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
الْحَجِّ, فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ, ثُمَّ لَبَّى دُبُرَ الصَّلاَةِ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ,
فَإِذَا رَاحِلَتُهُ قَائِمَةٌ فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ أَهَلَّ ثُمَّ مَضَى,
فَلَمَّا عَلاَ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنْ حَيْثُ أَهَلَّ أَجْزَأَهُ لاَِنَّهُ فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ: نا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّيًا يَقُولُ: "لَبَّيْكَ, اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ,
(7/93)
لَبَّيْكَ
لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ, وَالْمُلْكَ لاَ
شَرِيكَ لَكَ لاَ يَزِيدُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ".
قال أبو محمد: وَقَدْ رَوَى غَيْرُهُ الزِّيَادَةَ, وَمَنْ زَادَ ذِكْرَ اللَّهِ
تَعَالَى فَحَسَنٌ, وَمَنْ اخْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ فَحَسَنٌ, كُلُّ ذَلِكَ ذِكْرٌ
حَسَنٌ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ مِنْ
تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ. قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إلاَّ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْفَضْلِ وَهُوَ ثِقَةٌ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ خَلاَّدِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ
فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ".
قال أبو محمد: هَذَا أَمْرٌ, وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ.
قال علي: وهذا خِلاَفٌ لِلسُّنَّةِ; وقال بعضهم: لاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ. قال
أبو محمد: هَذَا خَطَأٌ وَتَخْصِيصٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَقَدْ كَانَ النَّاسُ
يَسْمَعُونَ كَلاَمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ, وَقَدْ
رُوِيَ عَنْهُنَّ وَهُنَّ فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَفُوَيْقَ ذَلِكَ;
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حُمَيْدٍ، هُوَ
ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ قَالَ:
سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى أَنِّي لاََسْمَعُ
دَوِيَّ صَوْتِهِ بَيْنَ الْجِبَالِ.
وَبِهِ إلَى هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَطِيَّةَ، نا أَبُو حَازِمٍ
قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَبْلُغُوا
الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمَتْ امْرَأَةٌ
أَعْجَمِيَّةٌ فَخَرَجَتْ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ تُهِلَّ بِشَيْءٍ إلاَّ أَنَّهَا
كَانَتْ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى, فَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ يُجْزِئُهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(7/94)
ابْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النَّفَرِ فَسَمِعَ صَوْتَ تَلْبِيَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا قِيلَ: عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ سَأَلَنِي لاََخْبَرْته; فَهَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا حَتَّى يَسْمَعَهَا مُعَاوِيَةُ فِي حَالِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّلْبِيَةِ قلنا: رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ هِيَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى الْحَنَّاطِ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّا لَكَانَتْ رِوَايَةُ عَائِشَةَ مُوَافِقَةً لِلنَّصِّ.
(7/95)
830
- مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا قَدِمَ الْمُعْتَمِرُ, أَوْ الْمُعْتَمِرَةُ مَكَّةَ
فَلْيَدْخُلاَ الْمَسْجِدَ، وَلاَ يَبْدَآ بِشَيْءٍ لاَ رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ
غَيْرَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَصْدِ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيُقَبِّلاَنِهِ,
ثُمَّ يَلْقَيَانِ الْبَيْتَ عَلَى الْيَسَارِ، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ يَطُوفَانِ
بِالْبَيْتِ مِنْ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ إلَى أَنْ يَرْجِعَا إلَيْهِ سَبْعَ
مَرَّاتٍ, مِنْهَا ثَلاَثُ مَرَّاتٍ خَبَبًا وَهُوَ مَشْيٌ فِيهِ سُرْعَةٌ,
وَالأَرْبَعُ طَوَّافَاتِ الْبَوَاقِي مَشْيًا, وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَخُبَّ فِي
الثَّلاَثِ الطَّوَّافَاتِ, وَهِيَ الأَشْوَاطُ مِنْ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ مَارًّا
عَلَى الْحَجَرِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ, ثُمَّ يَمْشِي رِفْقًا مِنْ
الْيَمَانِيِّ إلَى الأَسْوَدِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنْ الثَّلاَثَةِ فَذَلِكَ لَهُ
وَكُلَّمَا مَرَّا عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ قَبَّلاَهُ, وَكَذَلِكَ الرُّكْنُ
الْيَمَانِيُّ أَيْضًا فَقَطْ, فَإِذَا تَمَّ الطَّوَافُ الْمَذْكُورُ أَتَيَا
إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَصَلَّيَا هُنَالِكَ رَكْعَتَيْنِ
وَلَيْسَتَا فَرْضًا. ثُمَّ خَرَجَا، وَلاَ بُدَّ إلَى الصَّفَا فَصَعِدَا
عَلَيْهِ, ثُمَّ هَبَطَا فَإِذَا صَارَا فِي بَطْنِ الْوَادِي أَسْرَعَ الرَّجُلُ
الْمَشْيَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ ثُمَّ يَمْشِيَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ
فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْحَدِرَ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الصَّفَا
ثُمَّ يَرْجِعَ كَذَلِكَ إلَى الْمَرْوَةِ هَكَذَا حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَ
مَرَّاتٍ: مِنْهَا ثَلاَثٌ خَبَبًا وَأَرْبَعٌ مَشْيًا, وَلَيْسَ الْخَبَبُ
بَيْنَهُمَا فَرْضًا. ثُمَّ يَحْلِقُ الرَّجُلُ رَأْسَهُ, أَوْ يُقَصِّرُ مِنْ
شَعْرِهِ، وَلاَ تَحْلِقُ الْمَرْأَةُ لَكِنْ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا, وَقَدْ
تَمَّتْ الْعُمْرَةُ وَحَلَّ لَهُمَا كُلُّ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِمَا
بِالإِحْرَامِ مِنْ لِبَاسٍ وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: لاَ خِلاَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي أَشْيَاءَ نُبَيِّنُهَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَهِيَ: وُجُوبُ الْخَبَبِ فِي الطَّوَافِ,
وَجَوَازُ تَنْكِيسِ الطَّوَافِ بِأَنْ يَلْقَى الْبَيْتَ عَلَى الْيَمِينِ,
وَوُجُوبُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ لُوَيْنٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
(7/95)
ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
الْمُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ
وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عليه السلام
عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ
الرُّكْنَيْنِ فَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ.
َبِهِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
قُدَامَةَ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ،
هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْمُلُ
الثَّلاَثَ وَيَمْشِي الأَرْبَعَ وَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهَذَا بَيَانُ الرَّمَلِ إنَّمَا هُوَ فِي
الثَّلاَثَةِ الأَشْوَاطِ الآُوَلِ, وَأَنَّ الرَّمَلَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ
الأَشْوَاطِ جَائِزٌ. فإن قيل: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الرَّمَلِ: لَيْسَ
سُنَّةً, وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَسْأَلُكُمْ مَا قَوْلُكُمْ, وَقَوْلُ
أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِيهِمْ لَوْ أَنَّهُمْ إذْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِأَنْ يَرْمُلُوا يَقُولُونَ لَهُ: لاَ نَفْعَلُ وَقَدْ
أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ أَعُصَاةً كَانُوا يَكُونُونَ أَمْ
مُطِيعِينَ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَطَاءٍ,
وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, وَمَكْحُولٍ, لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَمَلٌ مِنْ
طُرُقٍ لَوْ شِئْنَا لَتَكَلَّمَنَا فِي أَكْثَرِهَا لِضَعْفِهَا. وَرُوِّينَا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَطَاءٍ, لَيْسَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ شَيْءٌ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا الثَّقَفِيُّ هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ
حَبِيبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنِ
الْمُجَاوِرِ إذَا أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ هَلْ يَسْعَى الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ
قَالَ: إنَّهُمْ يَسْعَوْنَ قَالَ: فأما ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ:
"نَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الآفَاقِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ,
وَابْنُ عُمَرَ فَاعْتَمَرَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكُنْت جَالِسًا عِنْدَ زَمْزَمَ
فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ نَادَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَرْمِلْ الثَّلاَثَ
الآُوَلَ فَرَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ السَّبْعَ كُلَّهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ
الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ قَالاَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ, وَلاَ عَلَى
مَنْ أَهَلَّ مِنْهَا إلاَّ أَنْ يَجِيءَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ
خَارِجٍ.
فَهَذِهِ رِوَايَةٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِيجَابِ الرَّمَلِ عَلَى أَهْلِ
الآفَاقِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِيجَابِهِ
ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ
(7/96)
سَاكِنٌ
بِمَكَّةَ, وَأَقَلُّ هَذَا أَنْ يَكُونَ اخْتِلاَفًا مِنْ قَوْلَيْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ.وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَرَكُوا فِيهِ الْجُمْهُورَ وَمَا
انْفَرَدُوا بِهِ بِغَيْرِ سُنَّةٍ لَكِنْ بِرَأْيٍ; وَهُمْ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ,
وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ إذَا اُتُّبِعَتْ السُّنَّةُ فِي خِلاَفِهِ. وَأَمَّا
تَقْبِيلُ الرُّكْنَيْنِ فَسُنَّةٌ وَلَيْسَ فَرْضًا, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ
بِذَلِكَ أَمْرٌ, وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَطْ, وَقَدْ طَافَ عليه السلام رَاكِبًا يُشِيرُ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ إلَى
الرُّكْنِ.
وَأَمَّا تَنْكِيسُ الطَّوَافِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَنْكِيسَ
الْوُضُوءِ, وَتَنْكِيسَ الأَذَانِ, وَتَنْكِيسَ الإِقَامَةِ, وَتَنْكِيسَ
الطَّوَافِ.
قال أبو محمد: إذْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَبَبِ فِي
الأَشْوَاطِ الْمَذْكُورَةِ فَقَدْ عَلَّمَهُمْ مِنْ أَيْنَ يَبْتَدِئُونَ
وَكَيْفَ يَمْشُونَ فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا, وَأَمْرُهُ عليه السلام فَرْضٌ, وَلاَ
أَعْجَبُ مِمَّنْ لاَ يَرَى الْعُمْرَةَ, أَوْ الْحَجَّ يَبْطُلاَنِ بِمُخَالَفَةِ
مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ
يَرَاهُمَا يَبْطُلاَنِ بِمَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ بِذَلِكَ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى, وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَتَعَمُّدِ الإِمْنَاءِ فِي
مُبَاشَرَةِ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْعُمْرَةِ فَإِنَّ
أَنَسًا وَغَيْرَهُ قَالُوا: لَيْسَ فَرْضًا, رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ إدْخَالٌ مِنْهُ فِي
الْقُرْآنِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ يَقْرَأُ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلُ
ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: هُمَا
تَطَوُّعٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{إنَّ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . وَرُوِّينَا،
عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، إيجَابَ فَرْضِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا, وَقَالَتْ
فِي هَذِهِ الآيَةِ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا لاَ يَطُوفُونَ
بَيْنَهُمَا; فَلَمَّا كَانَ الإِسْلاَمُ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم.
قال أبو محمد: لَوْ لَمْ تَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَتْ غَيْرَ فَرْضٍ
لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي فَرْضِ ذَلِكَ
(7/97)
مَا
حدثناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ،
نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ،
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ لِي: أَحَجَجْتَ فَقُلْتُ:
نَعَمْ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ قَالَ قُلْتُ: لَبَّيْتُ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَقَدْ أَحْسَنْتَ طُفْ
بِالْبَيْتِ, وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحِلَّ".
قَالَ عَلِيٌّ: بِهَذَا صَارَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي
الْعُمْرَةِ فَرْضًا.
وَأَمَّا الرَّمَلُ بَيْنَهُمَا: فَنا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ
الْمَرْوَزِيِّ، نا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، نا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ
عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: إنْ أَمْشِ فَقَدْ
رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي, وَإِنْ أَسْعَ فَقَدْ
رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ
عَلَيْكُمْ السَّعْيَ" فَإِنَّمَا رَوَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، عَنْ
امْرَأَةٍ لَمْ تُسَمَّ; وَقَدْ قِيلَ: هِيَ بِنْتُ أَبِي تَجْرَاةَ وَهِيَ
مَجْهُولَةٌ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِوُجُوبِهِ, وَمَنْ عَجَزَ، عَنِ الْخَبَبِ
الْمَذْكُورِ مَشَى، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.
(7/98)
831 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِالْحَجِّ تَصَيُّدُ شَيْءٍ مِمَّا يُصَادُ لِيُؤْكَلَ, وَلاَ وَطْءٌ كَانَ لَهُ حَلاَلاً قَبْلَ إحْرَامِهِ, وَلاَ لِبَاسُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لِبَاسِ الْمُحْرِمِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَهَذَا أَيْضًا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
(7/98)
832
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إمَّا مِنْ أَهْلِهَا,
أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِلإِحْرَامِ بِهَا
إلَى الْحِلِّ، وَلاَ بُدَّ فَيَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْحِلِّ شَاءَ, وَيُهِلُّ
بِهَا فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَانِ
بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِيَعْتَمِرَ
مِنْهُ وَاعْتَمَرَ عليه السلام مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي
الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَنَا
أَبُو عَاصِمٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ، نا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
(7/98)
833
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى
الْمِيقَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ, أَوْ
لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ, وَالْهَدْيُ إمَّا مِنْ الإِبِلِ, أَوْ الْبَقَرِ, أَوْ
الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَ لاَ هَدْيَ مَعَهُ وَهَذَا هُوَ الأَفْضَلُ فَفَرْضٌ
عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلاَ بُدَّ لاَ يَجُوزُ لَهُ
غَيْرُ ذَلِكَ; فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ; أَوْ بِقِرَانِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ
فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ إهْلاَلَهُ ذَلِكَ بِعُمْرَةٍ يَحِلُّ إذَا
أَتَمَّهَا, لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ; ثُمَّ إذَا أَحَلَّ مِنْهَا ابْتَدَأَ
الإِهْلاَلَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا مِنْ مَكَّةَ وَهَذَا يُسَمَّى: مُتَمَتِّعًا.
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ
يُشْعِرَ هَدْيَهُ إنْ كَانَ مِنْ الإِبِلِ, وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَدِيدَةٍ
فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يُدْمِيَهُ ثُمَّ يُقَلِّدَهُ,
وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ نَعْلاً فِي حَبْلٍ وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِ الْهَدْيِ
وَإِنْ جَلَّلَهُ بِجَلٍّ فَحَسَنٌ, فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ مِنْ الْغَنَمِ فَلاَ
إشْعَارَ فِيهِ لَكِنْ يُقَلِّدُهُ رُقْعَةَ جِلْدٍ فِي عُنُقِهِ; فَإِنْ كَانَ
مِنْ الْبَقَرِ فَلاَ إشْعَارَ فِيهِ، وَلاَ تَقْلِيدَ كَانَتْ لَهُ أَسْنِمَةٌ
أَوْ لَمْ تَكُنْ. ثُمَّ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ مَعًا, لاَ
يُجْزِئُهُ إلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ قَالَ: لَبَّيْكَ بِحَجٍّ
وَعُمْرَةٍ; أَوْ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا, أَوْ حَجَّةً وَعُمْرَةً; أَوْ
نَوَى كُلَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ, وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ;
وَهَذَا يُسَمَّى: الْقِرَانَ.
وَمَنْ سَاقَ مِنْ الْمُعْتَمِرِينَ الْهَدْيَ فَعَلَ فِيهِ مِنْ الإِشْعَارِ,
وَالتَّقْلِيدِ مَا ذَكَرْنَا; وَنُحِبُّ لَهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنْ
يَشْتَرِطَ فَيَقُولَ عِنْدَ إهْلاَلِهِ: "اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ
تَحْبِسُنِي", فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَصَابَهُ أَمْرٌ مَا يَعُوقُهُ، عَنْ
تَمَامِ مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَحَلَّ، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ; لاَ هَدْيَ، وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ
اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتَهُ.
بُرْهَانُ مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي
عُمَرَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ
أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ, وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ
بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ" , قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِحَجٍّ, وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ; وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا أَوَّلُ أَمْرِهِ عليه السلام بِذِي الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ
ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ الإِهْلاَلَ بِلاَ شَكٍّ, إذْ هُوَ نَصُّ
الْحَدِيثِ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا
(7/99)
أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبُو
نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، نا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْت
مَكَّة مُتَمَتِّعًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُك الآنَ مَكِّيَّةً فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ,
وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ, وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلاَلاً حَتَّى إذَا كَانَ
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّذِي قَدِمْتُمْ
بِهَا مُتْعَةً".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ حَجَّةِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "حَتَّى إذَا كَانَ آخِرَ طَوَافٍ
عَلَى الْمَرْوَةِ", قَالَ عليه السلام: "لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ
مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"
فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الآُخْرَى وَقَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي
الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ, لاَ بَلْ لاَِبَدٍ أَبَدٍ".
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا
وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ: "الظُّهْرَ أَرْبَعًا
وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ" ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى
الصُّبْحِ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ
حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ
النَّاسُ بِهِمَا, فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى إذَا
كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ.
نا حمام بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْكَشْوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ، نا عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
نا مَالِكٌ, وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ, ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، وَلاَ يَحِلَّ
حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا".
قال أبو محمد: فَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ بُرْهَانُ كُلِّ مَا قلنا
وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: فَفِي الأَوَّلِ
الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ،
(7/100)
وَلاَ
هَدْيَ مَعَهُ بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ
يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا". وَفِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ
الَّذِي مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ
وَعُمْرَةٍ قَارِنًا، وَلاَ هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلاَ بُدَّ;
ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه
وسلم كُلُّ مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ عُمُومًا بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ, وَأَنَّ
هَذَا هُوَ آخِرُ أَمْرِهِ عَلَى الصَّفَا بِمَكَّةَ; وَأَنَّهُ عليه السلام
أَخْبَرَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ مَعَهُ,
وَتَأَسَّفَ إذْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ, وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ بَاقٍ
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَقَدْ أَمِنَّا أَنْ يُنْسَخَ
أَبَدًا; وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَدْ أَجَازَ الْكَذِبَ
عَلَى خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا تَعَمُّدُهُ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ;
وَفِيهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا
لإِنَّ الْحَجَّ لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِعُمْرَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لَهُ يَكُونُ بِهَا
مُتَمَتِّعًا أَوْ بِعُمْرَةٍ مَقْرُونَةٍ مَعَهُ، وَلاَ مَزِيدَ. وَفِي
الْحَدِيثِ الرَّابِعِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَقْرُنَ بَيْنَ الْحَجِّ,
وَالْعُمْرَةِ:.وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَمُجَاهِدٌ, وَعَطَاءٌ,
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ, وَغَيْرُهُ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا أَبُو إسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا
أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنِي يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا طَافَ رَجُلٌ بِالْبَيْتِ إنْ كَانَ حَاجًّا إلاَّ
حَلَّ بِعُمْرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ, وَلاَ طَافَ وَمَعَهُ هَدْيٌ
إلاَّ اجْتَمَعَتْ لَهُ: حَجَّةٌ, وَعُمْرَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ
أَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ
قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ، وَلاَ
غَيْرُ حَاجٍّ إلاَّ حَلَّ. فَقُلْت لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ قَالَ:
مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
قُلْت: فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:
هُوَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ. وَكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ
يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ
وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ مَا تَمَّتْ حَجَّةُ
رَجُلٍ قَطُّ إلاَّ بِمُتْعَةٍ إلاَّ رَجُلٌ اعْتَمَرَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ،
نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نا
سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى
(7/101)
الأَشْعَرِيِّ
قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ
فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْتَ" قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلاَلِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ" قُلْتُ: لاَ,
قَالَ: "طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ, فَطُفْتُ
بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ
قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي
إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ, وَإِمَارَةِ عُمَرَ; فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إذْ
جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
فِي شَأْنِ النُّسُكِ قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ
بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ
فَأَتَمُّوا بِهِ, فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا هَذَا
الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ قَالَ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ
يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ.
قال أبو محمد: هَذَا أَبُو مُوسَى قَدْ أَفْتَى بِمَا قلنا مُدَّةَ إمَارَةِ أَبِي
بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما, وَلَيْسَ تَوَقُّفُهُ
لِمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَوَقَّفَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا رُوِيَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا قَوْلُهُ لِعُمَرَ مَا الَّذِي
أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُمَرُ. وَأَمَّا قَوْلُ
عُمَرَ رضي الله عنه فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَلاَ إتْمَامَ لَهُمَا إلاَّ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ,
وَأُمِرَ بِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عليه السلام لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ فَإِنَّ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ حَفْصَةُ، رضي الله عنها، رَوَتْ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بَيَانَ فِعْلِهِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ
أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلاَ
أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَلِيٌّ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الأَشْعَرِيُّ، نا
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، نا حَجَّاجٌ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرِ، نا
يُونُسُ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ،
هُوَ ابْنُ عَازِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ, لَوْ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ,
وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ". فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ
مِنْ رَأْيٍ رَآهُ عُمَرُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ رُجُوعُهُ عَنْهُ; وَقَدْ خَالَفُوهُ
فِيهِ أَيْضًا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي
(7/102)
كِتَابِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ فَلْيَسُقْ هَدْيَهُ مَعَهُ.
نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ،
نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ
الْمُعْتَمِرِ قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَحَجَجْت مَعَهُ فِي ذَلِكَ
الْعَامِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ: يَا
أَبَا سَعِيدٍ إنِّي رَجُلٌ بَعِيدُ الشُّقَّةِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَإِنِّي
قَدِمْت مُهِلًّا بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً
وَأَحِلَّ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ عَلَى الْحَسَنِ وَشَاعَ قَوْلُهُ بِمَكَّةَ
فَأَتَى عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقَ
الشَّيْخُ, وَلَكِنَّا نَفْرُقُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: لَيْسَ إنْكَارُ أَهْلِ الْجَهْلِ حُجَّةً عَلَى سُنَنِ اللَّهِ
تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَنْ أَهَلَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى
مِمَّنْ لَهُ مُتْعَةٌ بِالْحَجِّ خَالِصًا أَوْ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَهِيَ
مُتْعَةُ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ إلَى
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ
سَأَلَ، عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي
الْحَجِّ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُفْرِدُ الْحَجَّ وَيَذْبَحُ فَقَدْ دَخَلَتْ
لَهُ عُمْرَةٌ فِي الْحَجِّ فَوَجَبَتَا لَهُ جَمِيعًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: مَنْ جَاءَ
حَاجًّا فَأَهْدَى هَدْيًا فَلَهُ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، نا خُصَيْفٌ،
عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ
يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَ خُصَيْفٌ: وَكُنْت
مَعَ مُجَاهِدٍ فَأَتَاهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُلَيْمٍ وَقَدْ خَرَجَ حَاجًّا
فَسَأَلَ مُجَاهِدًا فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدٌ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً, فَقَالَ: هَذَا
أَوَّلُ مَا حَجَجْت فَلاَ تُشَايِعُنِي نَفْسِي فَأَيُّ ذَلِكَ تَرَى أَتَمَّ
أَنْ أَمْكُثَ كَمَا أَنَا أَوْ أَجْعَلَهَا عُمْرَةً قَالَ خُصَيْفٌ: فَقُلْت
لَهُ: أَظُنُّ هَذَا أَتَمَّ لِحَجِّك أَنْ تَمْكُثَ كَمَا أَنْتَ فَرَفَعَ
مُجَاهِدٌ تَبِنَةً مِنْ الأَرْضِ وَقَالَ: مَا هُوَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا, وَهُوَ
قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
بِإِبَاحَةِ فَسْخِ الْحَجِّ لاَ بِإِيجَابِهِ وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ.
قَالَ عَلِيٌّ: رَوَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لاَ هَدْيَ
لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلَّ بِأَوْكَدِ أَمْرٍ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ, وَعَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ, وَحَفْصَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ, وَفَاطِمَةُ بِنْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم,
وَعَلِيٌّ, وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَبُو مُوسَى
الأَشْعَرِيُّ, وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ,
وَابْنُ عُمَرَ, وَسَبْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ, وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ,
وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ, وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ
مِنْ التَّابِعِينَ; وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ مَنْ لاَ يُحْصِيهِ إلاَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ, فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ هَذَا.
(7/103)
وَاحْتَجَّ
مَنْ خَالَفَ كُلَّ هَذَا بِاعْتِرَاضَاتٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا;
مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي
الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ, وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ
وَعُمْرَةٍ; وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِالْحَجِّ, فأما مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ, وَأَمَّا مَنْ
أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا
حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ،
عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ
عُرْوَةَ, وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ، عَنْ رَجُلٍ ذَكَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم: "أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَحَلَّ". فَقَالَ عُرْوَةُ، عَنْ
عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ: قَالَتْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ
ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ, ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ
بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ
ذَلِكَ, ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْته أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ, ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ مُعَاوِيَةُ, وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ, ثُمَّ حَجَجْت مَعَ الزُّبَيْرِ أَبِي فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ
بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ رَأَيْت
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ, ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ،
وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ
أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ, وَقَدْ
رَأَيْت أُمِّي, وَخَالَتِي تَقْدُمَانِ لاَ تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ
الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لاَ تَحِلاَّنِ, وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي
أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ
بِعُمْرَةٍ قَطُّ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا, وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا
ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ".
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
بَشِيرٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّ مَنْ
كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ, أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَلَمْ
يَحْلِلْ حَتَّى قَضَى مَنَاسِكَ الْحَجِّ, وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ
طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ
حَجًّا".
قال أبو محمد: حَدِيثُ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ,
وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْهَا مُنْكَرَانِ,
وَخَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ السَّقَطِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ
جَعْفَرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُتَّلِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عِيسَى الْجَوْهَرِيُّ السُّدَّانِيُّ، نا
(7/104)
أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الأَثْرَمُ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكٍ،
عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا فَقَالَ أَحْمَدُ: إيشِ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ مِنْ الْعَجَبِ هَذَا خَطَأٌ, قَالَ الأَثْرَمُ: فَقُلْت لَهُ:
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِخِلاَفِهِ قَالَ أَحْمَدُ: نَعَمْ,
وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ.
قال أبو محمد: وَلاَِبِي الأَسْوَدِ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي هَذَا
الْبَابِ لاَ خَفَاءَ بِفَسَادِهِ, وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
نَوْفَلٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ:
حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ كُلَّمَا
مَرَّتْ بِالْحَجُونِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ
هَاهُنَا, وَنَحْنُ يَوْمئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا
فَاعْتَمَرْت أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ, وَالزُّبَيْرُ, وَفُلاَنٌ, وَفُلاَنٌ;
فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ.
قال علي: وهذا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ; لإِنَّ عَائِشَةَ، رضي الله
عنها، لَمْ تَعْتَمِرْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَبْلَ الْحَجِّ أَصْلاً;
لاَِنَّهَا دَخَلَتْ وَهِيَ حَائِضٌ حَاضَتْ بِسَرَفٍ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ
إلاَّ بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ يَوْمَ النَّحْرِ هَذَا أَمْرٌ فِي شُهْرَةِ
الشَّمْسِ; وَلِذَلِكَ رَغِبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ
يَعْمُرَهَا بَعْدَ الْحَجِّ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَرَوَاهُ،
عَنْ عَائِشَةَ: عُرْوَةُ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ,
وَالأَسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.
وَبَلِيَّةٌ أُخْرَى فِي هَذَا الْخَبَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ فِيهِ: ثُمَّ
أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ, وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, لإِنَّ
عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ; وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, كُلَّهُمْ رَوَوْا: أَنَّ الإِحْلاَلَ كَانَ يَوْمَ
دُخُولِهِمْ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ إهْلاَلَهُمْ
بِالْحَجِّ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ يَوْمُ مِنًى وَبَيْنَ يَوْمِ
إحْلاَلِهِمْ يَوْمَ إهْلاَلِهِمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صُبْحَ
رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ, وَالأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ قَدْ
ذَكَرْنَاهَا فِي كُتُبِنَا وَذَكَرَهَا النَّاسُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ فِي
الْمُسْنَدِ; فَظَهَرَ عَوَارُ رِوَايَةِ أَبِي الأَسْوَدِ. وَقَدْ رَوَى
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم مَنْ لاَ هَدْيَ لَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ وَأَنَّهُمْ فَسَخُوهُ, وَلاَ
يُعْدَلُ أَبُو الأَسْوَدِ بِالزُّهْرِيِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، نا اللَّيْثُ،
هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي
صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى
فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ
(7/105)
مِنْهُ
حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ
بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُقَصِّرُ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ
بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ"; قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ
عُرْوَةَ: إنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي
تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ
مَا أَخْبَرَ بِهِ سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ مَنْ
لاَ يُذْكَرُ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ وَهُمْ:
الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ; وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ,
وَذَكْوَانُ مَوْلاَهَا وَكَانَ يَؤُمُّهَا, وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ, وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ أَخَصُّ بِعَائِشَةَ وَأَعْلَمُ
وَأَضْبَطُ وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
الْغَيْلاَنِيُّ، نا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ الْعَقَدِيُّ، نا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَفِيهِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم لاَِصْحَابِهِ: "اجْعَلُوهَا عُمْرَةً" فَأَحَلَّ
النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ, فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَذَوِي الْيَسَارَةِ ثُمَّ
أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا.
وَيَكْفِي مِنْ كُلِّ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ الثَّلاَثَةَ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي الأَسْوَدِ, وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ إنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَةٌ
لاَ مُسْنَدَةٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مَوْقُوفٍ فَكَيْفَ إذَا رَوَى بِضْعَةٌ
وَعِشْرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ، عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفَ
ذَلِكَ.
وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِحَدِيثَيْ أَبِي الأَسْوَدِ, وَحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: إنَّ
الَّذِينَ أَهَلُّوا بِحَجٍّ, أَوْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ
النَّحْرِ إنَّمَا كَانُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا
أَوْ أَضَافَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ كَمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَتَخْرُجُ حِينَئِذٍ هَذِهِ
الأَخْبَارُ سَالِمَةً لإِنَّ مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ عَنْهَا فِيهِ زِيَادَةٌ
لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو الأَسْوَدِ, وَلاَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ لَوْ
كَانَ مَا رَوَيَا مُسْنَدًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ مُسْنَدًا وَنَحْمِلُ حَدِيثَ
أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فِي حَجِّ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَسَائِرِ
مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُوقُونَ الْهَدْيَ فَتَتَّفِقُ الأَخْبَارُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِنَهْيِ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ، عَنْ ذَلِكَ.
(7/106)
قال
أبو محمد: هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لاَِنَّهُ إنْ كَانَ نَهْيُهُمَا رضي الله
عنهما حُجَّةً فَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا النَّهْيُ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ, وَهُمْ
يُخَالِفُونَهُمَا فِي ذَلِكَ.
نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ،
نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ, وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ هُشَيْمٌ:
أَنَا خَالِدُ هُوَ الْحَذَّاءُ وَقَالَ حَمَّادٌ: عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ ثُمَّ اتَّفَقَ أَيُّوبُ, وَخَالِدٌ كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُنْهِي عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ
عَلَيْهِمَا; هَذَا لَفْظُ أَيُّوبَ; وَفِي رِوَايَةِ خَالِدٍ: أَنَا أُنْهِي
عَنْهُمَا, وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاء, وَمُتْعَةُ الْحَجِّ.
وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى، عَنِ الْمُتْعَةِ
يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
نَبِيهٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَمِعَ رَجُلاً يُهِلُّ
بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُهِلِّ; فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُخَالِفُونَهُمَا وَيُجِيزُونَ الْمُتْعَةَ حَتَّى أَنَّهَا
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَفْضَلُ مِنْ الإِفْرَادِ, فَسُبْحَانَ
مَنْ جَعَلَ نَهْيَ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما، عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ
حُجَّةً وَلَمْ يَجْعَلْ نَهْيَهُمَا، عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَضَرْبَهُمَا
عَلَيْهَا حُجَّةً إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَبَاحَهَا سَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ قلنا: وَقَدْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَلاَ فَرْقَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، نا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، نا الْفِرْيَابِيُّ، نا أَبَانُ بْنُ أَبِي
حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ
قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ
لَنَا الْمُتْعَةَ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْنَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ
كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله
عليه وسلم وَعَنْ عُثْمَانَ: كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لَنَا لَيْسَتْ لَكُمْ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ خَالَفَهُ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ,
وَالشَّافِعِيُّونَ, لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبَاحَةِ مُتْعَةِ الْحَجِّ
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ بِلاَ شَكٍّ,
لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلَى الْقَوْلِ بِهَا فِي الْحَجِّ;
وَهَؤُلاَءِ مُخَالِفُونَ لِهَذَا الْخَبَرِ إنْ كَانَ مَحْمُولاً عِنْدَهُمْ
عَلَى مُتْعَةِ الْحَجِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: لَوْ اعْتَمَرْت فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ حَجَجْت لَجَعَلْت
مَعَ حَجَّتِي عُمْرَةً. وَرُوِّينَاهُ
(7/107)
أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِهِ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمُرَقَّعِ، عَنْ أَبِي
ذَرٍّ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لَنَا خَاصَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمِ بْنِ الأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ فِيمَنْ حَجَّ
ثُمَّ فَسَخَهَا عُمْرَةً: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ،
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لاَِحَدٍ
بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً إنَّمَا كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ إنَّ مُتْعَةَ الْحَجِّ
خَاصَّةً لَهُمْ حُجَّةٌ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: إنَّ فَسْخَ الْحَجِّ خَاصَّةً لَهُمْ
حُجَّةٌ; لاَ سِيَّمَا وَذَلِكَ الإِسْنَادُ عَنْهُ صَحِيحٌ; لاَِنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ; وَهَذِهِ الأَسَانِيدُ عَنْهُ
وَاهِيَةٌ; لاَِنَّهَا، عَنِ الْمُرَقَّعِ, وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ, وَهُمَا
مَجْهُولاَنِ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ
فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَبُو مُوسَى فَلَمْ يَرَيَا ذَلِكَ
خَاصَّةً، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ أَنَّهَا خَاصَّةٌ
لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ إلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ; لإِنَّ
أَوَامِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لُزُومِ الإِنْسِ, وَالْجِنِّ,
الطَّاعَةُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا.
فإن قيل: هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ قلنا: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا مَتَى وُجِدَ
أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقُولُ فِي آيَةٍ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ
أَنْ يُقَالَ بِقَوْلِهِ; وَأَقَرَّ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ: إنَّهَا
خَاصَّةٌ, وَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ، عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَفَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا قَالَ:
"لَكُمْ خَاصَّةً".
قال أبو محمد الْحَارِثُ بْنُ بِلاَلٍ مَجْهُولٌ وَلَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ هَذَا
الْخَبَرَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ; وَقَدْ صَحَّ خِلاَفُهُ بِيَقِينٍ; كَمَا
أَوْرَدْنَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ
مَالِكٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذْ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ
الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لاَِبَدٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ لاَِبَدِ الأَبَدِ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ عَارِمٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَنْ طَاوُوس، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالاَ جَمِيعًا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُهِلُّونَ بِالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُ
شَيْءٌ; فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً, وَأَنْ نَحِلَّ
إلَى نِسَائِنَا فَفَشَتْ فِي ذَلِكَ الْقَالَةُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم فَقَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا
وَاَللَّهِ لاََنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُمْ, وَلَوْ أَنِّي
اسْتَقْبَلْتُ
(7/108)
مِنْ
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ, وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ
لاََحْلَلْتُ فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
"هِيَ لَنَا أَوْ لِلأَبَدِ قَالَ: لاَ بَلْ لِلأَبَدِ".
قال أبو محمد: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ.
قال أبو محمد: فَبَطَلَ التَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ وَأُمِنَ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا,
وَوَاللَّهِ إنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ ثُمَّ عَارَضَ أَمْرَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلاَمِ أَحَدٍ وَلَوْ أَنَّهُ كَلاَمُ أُمَّيْ
الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ, وَعَائِشَةَ, وَأَبَوَيْهِمَا، رضي الله عنهم،
لَهَالِكٌ; فَكَيْفَ بِأُكْذُوبَاتٍ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي هُوَ
أَوْهَنُ الْبُيُوتِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلاَلٍ, وَالْمُرَقَّعِ,
وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ الَّذِينَ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ فِي الْخَلْقِ,
وَمُوسَى الرَّبَذِيِّ, وَكَفَاك وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ,
وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "دَخَلَتْ
الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ
جَوَازَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ دُونَ مَا بَيَّنَهُ جَابِرٌ, وَابْنُ عَبَّاسٍ
مِنْ إنْكَارِهِ عليه السلام أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ لَهُمْ خَاصَّةً أَوْ
لِعَامِهِمْ دُونَ ذَلِكَ, وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا.
قال أبو محمد: وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ, وَهِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَبَرَ
الثَّابِتَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ: "الْحِلُّ
كُلُّهُ" فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إنَّمَا أَمَرَهُمْ عليه السلام بِذَلِكَ
لِيُوقِفَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَوْلاً
وَعَمَلاً.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ
بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ لِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: هَبْكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ
أَنْ يَكُونَ أَبِحَقِّ أَمْرٍ أَمْ بِبَاطِلٍ فَإِنْ قَالُوا: بِبَاطِلٍ
كَفَرُوا, وَإِنْ قَالُوا: بِحَقٍّ قلنا: فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ عليه السلام بِذَلِكَ
لاَِيِّ وَجْهٍ كَانَ قَدْ صَارَ حَقًّا وَاجِبًا, ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا
الْهَوَسُ الَّذِي قَالُوهُ فَلاَِيِّ مَعْنًى كَانَ يَخُصُّ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ
يَسُقْ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ.
وَأَطَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ هَذَا الْجَاهِلَ الْقَائِلَ بِذَلِكَ قَدْ
عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ بِهِمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
عَامًا بَعْدَ عَامٍ قَبْلَ الْفَتْحِ, ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ
الْفَتْحِ, ثُمَّ قَالَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ:
مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ شَاءَ أَنْ
يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ
فَلْيَفْعَلْ; فَفَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ, فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ
أَبَلَغَ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، مِنْ الْبَلاَدَةِ, وَالْبَلَهِ,
وَالْجَهْلِ أَنْ لاَ يَعْرِفُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ جَائِزَةٌ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ عَمِلُوهَا مَعَهُ عليه السلام عَامًا بَعْدَ عَامٍ
بَعْدَ عَامٍ [فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ]
(7/109)
حَتَّى
يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ لِيَعْلَمُوا جَوَازَ
ذَلِكَ, تَاللَّهِ إنَّ الْحَمِيرَ لِتُمَيِّزَ الطَّرِيقَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ
هَذَا; فَكَمْ هَذَا الإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى مُدَافَعَةِ السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ فِي نَصْرِ التَّقْلِيدِ مَرَّةً بِالْكَذِبِ الْمَفْضُوحِ,
وَمَرَّةً بِالْحَمَاقَةِ الْمَشْهُورَةِ, وَمَرَّةً بِالْغَثَاثَةِ وَالْبَرْدِ
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى السَّلاَمَةِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي جَوَازِ الإِفْرَادِ بِالْحَجِّ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ
الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا".
قال أبو محمد: كُلُّ مُسْلِمٍ فَلاَ يَشُكُّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم لَمْ يَعْلَمْ هَذَا إلاَّ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ لاَ
يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا أَصْلاً;، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ وَحْيَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ لاَ يُتْرَكُ بِشَكٍّ لاَِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَشُكُّ.فَصَحَّ أَنَّ هَذَا
الشَّكَّ مِنْ قِبَلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ لاَ مِنْ قِبَلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ عليه
السلام لَكَانَ ذَلِكَ إذْ كَانَ الإِفْرَادُ مُبَاحًا, ثُمَّ نُسِخَ بِأَمْرِهِ
عليه السلام مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ بِالْمُتْعَةِ، وَلاَ بُدَّ, وَمَنْ مَعَهُ
الْهَدْيُ بِالْقِرَانِ، وَلاَ بُدَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَظَهَرَ الْحَقُّ وَاضِحًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ, وقال مالك: الإِفْرَادُ أَفْضَلُ, وَوَافَقَنَا هُوَ
وَالشَّافِعِيُّ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا, وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا لِمَنْ
سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ لَمْ يَسُقْهُ. وقال الشافعي مَرَّةً: الإِفْرَادُ
أَفْضَلُ, وَمَرَّةً قَالَ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً قَالَ: الْقِرَانُ
أَفْضَلُ; وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَائِزٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا أَبُو
حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ
الإِفْرَادُ, وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ
لَمْ يَسُقْهُ إلاَّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى
مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الإِشْعَارُ: فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعٍ، نا قَالَ: نا
مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ
عَلِيٍّ الْفَلاَّسُ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا شُعْبَةُ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ
فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا مِنْ الشِّقِّ الأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا
وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَبِهِ إلَى عَمْرِو بْنِ
عَلِيٍّ، نا وَكِيعٌ حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ بُدْنَهُ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا أَبُو
النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ،
(7/110)
نا
عَبْدُ الْوَاحِدِ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، نا الأَعْمَشُ، نا إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَتْ: كُنْت أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ
الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلاَلاً.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ,
وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَمَنْصُورٍ, كُلِّهِمْ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ
الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَأْتِ فِي الْبَقَرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا, وَرُوِّينَا كَمَا
نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا بِأَنْ يَقْسِمَ لُحُومَ الْبُدْنِ وَجَلاَّلِهَا;
فَصَحَّ التَّجْلِيلُ فِيهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مِسْهَرٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ هَدْيَ
إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ شِئْت
فَأَشْعِرْ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تُشْعِرْ, وَإِنْ شِئْت فَقَلِّدْ, وَإِنْ شِئْت
فَلاَ تُقَلِّدْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي إشْعَارِ الْبَدَنَةِ فَقَالَتْ: إنْ شِئْت,
إنَّمَا تُشْعِرُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا بَدَنَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُشْعِرُ فِي الشِّقِّ الأَيْمَنِ حِينَ
يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُشْعِرُهَا مِنْ الأَيْمَنِ وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، نا أَفْلَحُ، هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: رَأَيْت الْقَاسِمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ;
وَأَبِي سُلَيْمَانَ; وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: رَأَيْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَفْتِلُ
الْقَلاَئِدَ لِلْغَنَمِ تُسَاقُ مَعَهَا هَدْيًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الْغَنَمَ يُؤْتَى بِهَا مُقَلَّدَةً. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ
عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَسُوقُونَ الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ
بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ; وَعَنْ وَكِيعٍ،
عَنْ بَسَّامٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
قَالَ: رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: رَأَيْت الْغَنَمَ تُقَلَّدُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: رَأَيْت الْغَنَمَ تَقْدُمُ مَكَّةَ مُقَلَّدَةً.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ
الإِشْعَارَ, وَهُوَ مُثْلَةٌ قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ طَامَّةٌ مِنْ طَوَامِّ
الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
أُفٍّ لِكُلِّ عَقْلٍ يَتَعَقَّبُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَيَلْزَمُهُ أَنْ تَكُونَ الْحِجَامَةُ, وَفَتْحُ الْعِرْقِ مِثْلَهُ
(7/111)
فَيُمْنَعُ
مِنْ ذَلِكَ, وَأَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مِنْ قَطْعِ الأَنْفِ, وَقَلْعِ
الأَسْنَانِ, وَجَدْعِ الآُذُنَيْنِ: مُثْلَةٌ; وَأَنْ يَكُونَ قَطْعُ السَّارِقِ
وَالْمُحَارِبِ: مُثْلَةً; وَالرَّجْمُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ: مُثْلَةً,
وَالصَّلْبُ لِلْمُحَارِبِ: مُثْلَةً, إنَّمَا الْمُثْلَةُ فِعْلُ مَنْ بَلَّغَ
نَفْسَهُ مَبْلَغَ انْتِقَادِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا
هُوَ الَّذِي مَثَّلَ بِنَفْسِهِ; وَالإِشْعَارُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
وَالنَّهْيُ، عَنِ الْمُثْلَةِ كَانَ قَبْلَ قِيَامِ ذَلِكَ بِأَعْوَامٍ; فَصَحَّ
أَنَّهُ لَيْسَ مُثْلَةً وَهَذِهِ قَوْلَةٌ: لاَ يُعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ
فِيهَا مُتَقَدِّمٌ مِنْ السَّلَفِ, وَلاَ مُوَافِقٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ
عَصْرِهِ إلاَّ مَنْ ابْتَلاَهُ اللَّهُ بِتَقْلِيدِهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْبَلاَءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ, وَمَالِكٌ:
يُشْعِرُ فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قَالُوا: قَدْ
رَوَيْتُمْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَتْ بَدَنَةٌ
وَاحِدَةٌ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ وَإِذَا كَانَتْ بَدَنَتَيْنِ
قَلَّدَ إحْدَاهُمَا فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ, وَالآُخْرَى فِي الأَيْسَرِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ
قلنا: هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ; وَعَلَى كُلِّ حَالٍ
فَلَيْسَ هُوَ قَوْلُكُمْ, وَسَالِمٌ ابْنُهُ أَوْثَقُ وَأَجَلُّ وَأَعْلَمُ بِهِ
مِنْ نَافِعٍ رَوَى عَنْهُ الإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ كَمَا
أَوْرَدْنَا, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِابْنِ عُمَرَ فِي فِعْلٍ قَدْ
اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ فَمَرَّةً عَلَيْهِمْ وَمَرَّةً لَيْسَ لَهُمْ, وَهُمْ
قَدْ خَالَفُوا قَوْلَهُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ لاَ
هَدْيَ إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ
الْمَالِكِيُّونَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تَقُولُوا أَنْتُمْ: بِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ هَدْيًا إلاَّ
مَا أَشْعَرَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتُمْ آنِفًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأُشْعِرَ فِي سَنَامِهَا قلنا:
لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمْرٌ بِالإِشْعَارِ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَقُلْنَا
بِإِيجَابِهِ مُسَارِعِينَ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ
فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَأُدْنِيَتْ
إلَيْهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا; لاَِنَّهُ هُوَ عليه السلام تَوَلَّى بِيَدِهِ
إشْعَارَهَا, بِذَلِكَ صَحَّ الأَثَرُ عَنْهُ عليه السلام كَمَا ذَكَرْنَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ, وَابْنِ عُمَرَ إشْعَارَ الْبَقَرِ فِي
أَسْنِمَتِهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الشَّاةُ لاَ تُقَلَّدُ. وَلاَ حُجَّةَ فِي
أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ
كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي الْهَدْيِ, فَمِنْ الْبَاطِلِ
احْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَرُوِّينَا، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الإِبِلُ تُقَلَّدُ, وَتُشْعَرُ, وَالْغَنَمُ لاَ
تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ, وَالْبَقَرُ تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ وقال أبو
حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ تُقَلَّدُ الْغَنَمُ وَرَأَى مَالِكٌ إشْعَارَ الْبَقَرِ
إنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ وَمَقْلُوبٌ; بَلْ الإِبِلُ: تُقَلَّدُ, وَتُشْعَرُ;
وَالْبَقَرُ: لاَ تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ, وَالْغَنَمُ: تُقَلَّدُ, وَلاَ
تُشْعَرُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يُقَلَّدُ إلاَّ هَدْيُ الْمُتْعَةِ, وَالْقِرَانِ,
وَالتَّطَوُّعِ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ فَقَطْ: وَلاَ يُقَلَّدُ: هَدْيُ
الإِحْصَارِ, وَلاَ الْجِمَاعِ, وَلاَ جَزَاءِ الصَّيْدِ. وقال مالك,
(7/112)
وَالشَّافِعِيُّ:
يُقَلَّدُ كُلُّ هَدْيٍ وَيُشْعَرُ; وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ فِعْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَعْمَاهُ الْهَوَى وَأَصَمَّهُ: إنَّمَا
مَعْنَى مَا رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ مِنْ هَدْيِ الْغَنَمِ مُقَلَّدَةً; إنَّمَا
هُوَ أَنَّهَا فَتَلَتْ قَلاَئِدَ الْهَدْيِ مِنْ الْغَنَمِ أَيْ مِنْ صُوفِ
الْغَنَمِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا اسْتِسْهَالٌ لِلْكَذِبِ الْبَحْتِ وَخِلاَفٌ لِمَا رَوَاهُ
النَّاسُ عَنْهَا مِنْ إهْدَائِهِ عليه السلام الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الاِشْتِرَاطُ: فَلِمَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ
بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهَا: أَرَدْتِ الْحَجَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَجِدُنِي
إلاَّ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي
حَيْثُ حَبَسْتَنِي, وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِضُبَاعَةَ حُجِّي
وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ, كُلِّهِمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِضُبَاعَةَ أَهِّلِي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي
حَيْثُ تَحْبِسُنِي.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ ضُبَاعَةَ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ
مُتَوَاتِرَةٌ لاَ يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ عَنْهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنْ حَجَجْت وَلَسْت
صَرُورَةً فَاشْتَرَطَ إنْ أَصَابَنِي مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ أَوْ حَبْسٌ فَأَنَا
حِلٌّ. وَرُوِّينَا أَيْضًا الأَمْرَ بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ:
وَكِيعٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ, كُلِّهِمْ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى:، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَفْرِدْ الْحَجَّ
وَاشْتَرِطْ, فَإِنَّ لَك مَا اشْتَرَطْت, وَلِلَّهِ عَلَيْك مَا شَرَطْت.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى رَجُلاً
وَاقِفًا بِعَرَفَةَ قَالَ لَهُ: أَشَارَطْتَ قَالَ: نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَمَّةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ إذَا
أَرَادَ الْحَجَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ إنْ تَيَسَّرَتْ, أَوْ عُمْرَةٌ إنْ
أَرَادَ الْعُمْرَةَ وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ.
(7/113)
وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَيْرَةَ بْنِ
زِيَادٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ: حُجَّ وَاشْتَرِطْ, وَقُلْ: اللَّهُمَّ
الْحَجُّ أَرَدْت وَلَهُ عَمَدْت فَإِنْ تَيَسَّرَ وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ لِلْحَجِّ خَرَجْت وَلَهُ
عَمَدْت فَإِنْ قَضَيْت فَهُوَ الْحَجُّ وَإِنْ حَالَ دُونَهُ شَيْءٌ فَهِيَ
عُمْرَةٌ; وَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ عُرْوَةَ بِأَنْ يَشْتَرِطَ كَذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَمَّارٍ، هُوَ ابْنُ
يَاسِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَرَدْت الْحَجَّ فَاشْتَرِطْ. وَمِنْ طَرِيقِ
كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالاِشْتِرَاطِ فِي
الْحَجِّ.
فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ, وَعُثْمَانُ, وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ,
وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ
التَّابِعِينَ عُمَيْرَةُ بْنُ زِيَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ إنْ تَيَسَّرَ, وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ إنْ
تَيَسَّرَتْ, اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ إنْ تَيَسَّرَتْ وَإِلاَّ
فَلاَ حَرَجَ عَلَيَّ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الرَّبِيعُ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ, وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ, قَالاَ جَمِيعًا فِي الْمُحْرِمِ
يَشْتَرِطُ: قَالاَ جَمِيعًا: لَهُ شَرْطُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنْ
عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَلْقَمَةُ, وَالأَسْوَدُ يَشْتَرِطَانِ فِي
الْحَجِّ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ أَرَدْت الْحَجَّ فَأَرْسِلْ إلَيَّ
عَبِيدَةُ هُوَ السَّلْمَانِيُّ أَنْ اشْتَرِطْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ
قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَشْتَرِطُ فِي الْحَجِّ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ
إنَّك قَدْ عَرَفْت نِيَّتِي وَمَا أُرِيدُ; فَإِنْ كَانَ أَمْرًا تُتِمُّهُ
فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ حَرَجَ. وَعَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ
يَشْتَرِطُ فِي الْعُمْرَةِ; وَجَاءَ أَيْضًا نَصًّا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ, وَعِكْرِمَةَ وقال الشافعي: إنْ صَحَّ
الْخَبَرُ قُلْت بِهِ.
قال أبو محمد: قَدْ صَحَّ الْخَبَرُ وَبَالَغَ فِي الصِّحَّةِ فَهُوَ قَوْلُهُ
وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدُ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي.سُلَيْمَانَ
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَ، عَنِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي
الْحَجِّ قَالَ: لاَ أَعْرِفُهُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ اضْطِرَابًا فَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ
الْمُغِيرَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَشْتَرِطُوا عِنْدَ
الإِحْرَامِ وَكَانُوا لاَ يَرَوْنَ الشَّرْطَ شَيْئًا لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ
اُبْتُلِيَ وَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، أَنَّهُ قَالَ كَانُوا
يَكْرَهُونَ أَنْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَجِّ.
قال أبو محمد: هَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ, مَرَّةً كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ
الشَّرْطَ, وَمَرَّةً كَانُوا يَكْرَهُونَهُ, فَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا تَرْكُ
رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ جُمْلَةً لاِضْطِرَابِهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالاَ:
الْمُشْتَرِطُ وَغَيْرُ الْمُشْتَرِطِ سَوَاءٌ إذَا أَحْصَرَ فَلْيَجْعَلْهَا
عُمْرَةً.
(7/114)
وَمِنْ
طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ قَوْلِ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هَذَا, وَالصَّحِيحُ، عَنْ عَطَاءٍ خِلاَفُ هَذَا. وَمِنْ
طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى
الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ شَيْئًا. وَعَنْ طَاوُوس الاِشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ
لَيْسَ شَيْئًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى الاِشْتِرَاطَ
فِي الْحَجِّ شَيْئًا. وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَحَمَّادٍ مِثْلُ
هَذَا; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالْحَنَفِيِّينَ.
قال أبو محمد: وَشَغَبُوا فِي مُخَالَفَةِ السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ
بِأَنْ قَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ
يُفْتُونَ مَنْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يَحِلَّ
بِعُمْرَةٍ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ; فَقَدْ خَالَفُوا الآيَةَ فِي إتْمَامِ
الْحَجِّ; وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ
هَذِهِ الآيَةُ وَأُمِرَ بِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَنَا قَدْ أَمَرَ بِالاِشْتِرَاطِ
فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِالْقَدَرِ
النَّافِذِ; فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْ الآيَةَ إذَا أَخَذْنَا بِبَيَانِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهَا بِآرَائِكُمْ الْفَاسِدَةِ إلَى
مُخَالَفَتِكُمْ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ خِلاَفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} قلنا: كَذَبَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ
هَذَا الْخَبَرَ خِلاَفٌ لِهَذِهِ الآيَةِ; بَلْ أَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهَا إذْ
قُلْتُمْ: مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّ إلاَّ بِعُمْرَةٍ بِرَأْيٍ لاَ
نَصَّ فِيهِ; وَأَمَّا نَحْنُ.فَقُلْنَا بِهَذِهِ الآيَةِ: إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ
كَمَا أَمَرَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ وَأَمَرَ بِبَيَانِهَا
لَنَا
قال أبو محمد: وَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ السُّنَّةَ مُعَارِضَةً لِلْقُرْآنِ
فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّوَايَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبْعِ
دِينَارٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ إذْ يَقُولُ تَعَالَى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. لإِنَّ حَدِيثَ
الاِشْتِرَاطِ لَمْ يُضْطَرَبْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ; وَقَدْ اضْطَرَبَ فِي حَدِيثِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ
عَلَيْهَا وَلَمْ يَصِحَّ قَطُّ خَبَرٌ فِي تَحْدِيدِ الْقَطْعِ فِي عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ بَلْ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْقُرْآنِ حَقًّا; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَقَالَ
تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَالَ تَعَالَى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وَلاَ
حَرَجَ, وَلاَ عُسْرَ, وَلاَ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَكْثَرُ مِنْ
إيجَابِ الْبَقَاءِ عَلَى حَالِ الإِحْرَامِ, وَمَنْعِ الثِّيَابِ, وَالطِّيبِ,
وَالنِّسَاءِ, لِمَنْ قَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ; فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآيَاتُ لَكَفَتْ فِي وُجُوبِ
إحْلاَلِ مَنْ عَاقَهُ عَائِقٌ، عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, فَكَيْفَ
وَالسُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ نَصًّا
(7/115)
وَشَغَبَ
بَعْضُهُمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ
مِائَةَ شَرْطٍ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ,
كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ".
قال أبو محمد: هَذَا مِنْ أَعْجَبْ شَيْءٍ لأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا هُوَ
أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, وَالاِشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ هُوَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى مَنْصُوصٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ}. {وَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} . وَقَوْله
تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا} . وَإِنَّمَا الشُّرُوطُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى فَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي أَبَاحُوا: مِنْ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا عَلَى فُلاَنَةَ امْرَأَتِهِ فَهِيَ طَالِقٌ, وَكُلَّ أَمَةٍ
اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ. وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّدَاقِ لاَ
يَلْزَمُ إلاَّ إلَى كَذَا وَكَذَا عَامًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وَكَبَيْعِ السُّنْبُلِ وَعَلَى الْبَائِعِ
دَرْسُهُ. وَكَنُزُولِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِأَيْدِيهِمْ الأَسْرَى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُمْنَعُوا مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ، وَلاَ مِنْ
رَدِّهِمْ إلَى بِلاَدِ الْكُفْرِ وَسَائِرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي
أَبَاحُوا; وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رَوَاهُ عُرْوَةُ, وَعَطَاءٌ,
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وطَاوُوس وَرُوِيَ عَنْهُمْ خِلاَفُهُ.
قال أبو محمد:.فَقُلْنَا: سَمِعْنَاكُمْ تَقْبَلُونَ هَذَا فِي الصَّاحِبِ إذَا
رَوَى الْخَبَرَ وَخَالَفَهُ فَأَنْكَرْنَاهُ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِالآبِدَةِ إذْ
جَعَلْتُمْ تَرْكَ التَّابِعِ لِمَا رَوَى حُجَّةً فِي تَرْكِ السُّنَنِ; وَهَذَا
إنْ أَدْرَجْتُمُوهُ بَلَغَ إلَيْنَا وَإِلَى مَنْ بَعْدَنَا فَصَارَ كُلُّ مَنْ
بَلَغَهُ حَدِيثٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَرَكَهُ كَائِنًا مَنْ
كَانَ مِنْ النَّاسِ حُجَّةً فِي رَدِّ السُّنَنِ; وَهَذَا حُكْمُ إبْلِيسَ
اللَّعِينِ, وَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ رَأْيِ مَنْ
ذَكَرْتُمْ; وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ رِوَايَتِهِمْ; لأَنَّهُمْ ثِقَاتٌ
عُدُولٌ وَلَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الْخَطَإِ فِي الرَّأْيِ. وَلاَ عَجَبَ
مِمَّنْ يَعْتَرِضُ فِي رَدِّ السُّنَنِ بِأَنَّ طَاوُوسًا, وَعَطَاءً,
وَعُرْوَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ: خَالَفُوا مَا رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ
لَوْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى صَبْغِ قَمِيصِهِ أَخْضَرَ فَقَالُوا لَهُ: بَلْ
اُصْبُغْهُ أَحْمَرَ لَمْ يَرَ رَأْيَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةً، وَلاَ أَلْزَمَ
نَفْسَهُ الأَخْذَ بِهِ ثُمَّ رَأْيُهُمْ حُجَّةٌ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَلَئِنْ كَانَ خَالَفَ هَؤُلاَءِ مَا رَوَوْا فَقَدْ رَوَاهُ
غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ: كَعِكْرِمَةَ, وَعَطَاءٍ;، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ
عَطَاءٍ إلاَّ الْقَوْلُ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ,
وَأَخَذَا بِهِ.
وَقَالُوا: لَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا فَقَدْ
عَرَفَهُ: عُمَرُ, وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ,
(7/116)
وَعَائِشَةُ,
وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَعَمَّارٌ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَخَذُوا بِهِ, وَهَذَا
مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ بَلْ لَيْسَ لاِبْنِ عُمَرَ
هَاهُنَا خِلاَفٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِإِبْطَالِهِ, وَإِنَّمَا قَالَ: لاَ
أَعْرِفُهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ عُمَرَ رَأَى الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ
وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَخَالَفُوهُ وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ
ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
الإِهْلاَلُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ السُّنَّةُ فَخَالَفُوهُ وَتَعَلَّقُوا
بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ وَقَالَ عُمَرُ, وَعُثْمَانُ,
بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ فَخَالَفُوهُمَا وَمَعَهُمَا السُّنَّةُ
وَتَعَلَّقُوا بِهِمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ إذْ جَاءَ
عَنْهُمَا خِلاَفُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّهُمْ
مُغْرَمُونَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَنِ, وَمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ فِيمَا جَاءَ
عَنْهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ السُّنَنِ:
وَالْقَوْمُ غَرْقَى فِي بِحَارِ هَوَاهُمْ ... وَبِكُلِّ مَا يُرْدِي الْغَرِيقَ
تَعَلَّقُوا
وَذَكَرُوا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَجِّ، وَلاَ
يَرَوْنَهُ شَيْئًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَلاَمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ
مِنْ أَنَّهُ يَصِفُهُمْ بِفَسَادِ الرَّأْيِ وَالتَّلاَعُبِ; إذْ يَشْتَرِطُونَ
مَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ, وَلاَ يَصِحُّ, وَلاَ يَجُوزُ, وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ لاَ
عَقْلَ لَهُ, وَيَكْفِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا صَحَّتْ لَمْ
يَحِلَّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهَا, وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً فِي
مُعَارَضَتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ, وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ,
وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ, وَالْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَ فِي
صَلاَةٍ فَعَجَزَ، عَنْ إتْمَامِهَا قَائِمًا, وَعَنِ الرُّكُوعِ, وَعَنِ
السُّجُودِ: سَقَطَ عَنْهُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ دَخَلَ
فِي صَوْمِ فَرْضٍ فَعَجَزَ، عَنْ إتْمَامِهِ: سَقَطَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلَّفْهُ;
وَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ, وَقَالُوا هَاهُنَا: مَنْ دَخَلَ فِي حَجِّ فَرْضٍ, أَوْ
تَطَوُّعٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, كَذَلِكَ فَعَجَزَ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْقُطَا عَنْهُ;
بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ.
(7/117)
834 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا جَوَازُ تَقْدِيمِ لَفْظَةِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ, أَوْ لَفْظَةِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ; فَلاَِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَبَدَأَ بِلَفْظَةِ الْحَجِّ; وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَلاَ نُبَالِي أَيُّ ذَلِكَ قُدِّمَ فِي اللَّفْظِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/117)
835 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا جَاءَ الْقَارِنُ إلَى مَكَّةَ عَمِلَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا قلنا فِي الْعُمْرَةِ إلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْمُلَ فِي الثَّلاَثِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ فَرْضًا فِي الْحَجِّ ثُمَّ إذَا أَتَمَّ ذَلِكَ أَقَامَ مُحْرِمًا كَمَا هُوَ إلَى يَوْمِ مِنًى وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ نَهَضَ الْقَارِنُ, وَالْمُتَمَتِّعُ إلَى مِنًى فَيَبْقَيَانِ بِهَا نَهَارَهُمَا وَلَيْلَتَهُمَا فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَهَضُوا كُلُّهُمْ إلَى
(7/117)
مَسَائِلُ
مِنْ هَذَا الْبَابِ
836 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَأَهْلٌ غَيْرُ حَاضِرِينَ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ صَوْمَ; لإِنَّ أَهْلَهُ
حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَنْ حَجَّ بِأَهْلِهِ فَتَمَتَّعَ, فَإِنْ
أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِأَهْلِهِ بِمَكَّةَ فَأَهْلُهُ
حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بِهَا إلاَّ أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ فَأَقَلَّ فَلَيْسَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعَلَيْهِ
الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ. وَقَدْ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَهْلُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم، بِأَهْلِهِمْ فَوَجَبَ
عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ.فَصَحَّ أَنَّ مَنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَيْسَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَإِنَّمَا
أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِمَكَّةَ أَرْبَعًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ,
ثُمَّ رَجَعْنَا، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنَّهُ إنْ أَقَامَ بِأَهْلِهِ
بِمَكَّةَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَأَقَلَّ فَلَيْسَ مِمَّنْ أَهْلُهُ حَاضِرُو
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا مُذْ
يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَى أَنْ يُهِلُّ بِالْحَجِّ فَهُوَ مِمَّنْ أَهْلُهُ حَاضِرُوا
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ
بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يُقْصِرُ الصَّلاَةَ. وَإِنْ كَانَ مَكِّيٌّ لاَ
أَهْلَ لَهُ أَصْلاً, أَوْ لَهُ أَهْلٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَتَمَتَّعَ
فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أَهْلُهُ
حَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالأَهْلُ: هُمْ الْعِيَالُ خَاصَّةً
هَاهُنَا; لإِنَّ كُلَّ مَنْ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
قُرَيْشٍ فَإِنَّ أَهْلَهُمْ كَانُوا بِمَكَّةَ يَعْنِي أَقَارِبَهُمْ فَلَمْ
يُسْقِطْ هَذَا عَنْهُمْ حُكْمَ الْهَدْيِ أَوْ الصَّوْمِ الَّذِي عَلَى
الْمُتَمَتِّعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ رَأْسٌ مِنْ
الْغَنَمِ أَوْ مِنْ الإِبِلِ أَوْ مِنْ الْبَقَرِ, أَوْ شِرْكٌ فِي بَقَرَةٍ أَوْ
نَاقَةٍ بَيْنَ عَشْرَةٍ فَأَقَلَّ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ أَوْ
بَعْضُهُمْ, أَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ نَصِيبَهُ لَحْمًا لِلأَكْلِ أَوْ
الْبَيْعِ أَوْ لِنَذْرٍ أَوْ لِتَطَوُّعٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَاسْمُ
الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الشَّاةِ, وَالْبَقَرَةِ, وَالْبَدَنَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ فِي ذَلِكَ الشَّاةَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَرُوِيَ عَنْهَا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ
عَنْهَا أَيْضًا, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ شَاةٌ
وَأَنَّهُ إنَّمَا فِي ذَلِكَ النَّاقَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ. كَمَا رُوِّينَا، عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ وَبَرَةَ
(7/149)
بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْت إلَى أَهْلِك أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاةٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ
عُمَرَ يَسْأَلُ، عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الشَّاةَ فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ: شَاةٌ شَاةٌ, وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ; لاَ; بَلْ بَقَرَةٌ, أَوْ
نَاقَةٌ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس التَّرْتِيبَ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ،
نا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ
طَاوُوس يَزْعُمُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِقَدْرِ يَسَارِ
الرَّجُلِ إنْ اسْتَيْسَرَ جَزُورٌ فَجَزُورٌ, وَإِنْ اسْتَيْسَرَ بَقَرَةٌ
فَبَقَرَةٌ, وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْسِرْ إلاَّ شَاةً فَشَاةً. قَالَ: وَكَانَ أَبِي
يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اسْتَيْسَرَ وَتَيَسَّرَ. قَالَ: فَإِنْ اسْتَيْسَرَ عَلَى
قَدْرِ يَسَارِهِ, وَتَيَسَّرَ مَا شَاءَ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ
مَنْصُورٍ أَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَا شُعْبَةُ، نا أَبُو جَمْرَةَ هُوَ
نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما، عَنِ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا وَسَأَلْته، عَنِ الْهَدْيِ فَقَالَ:
فِيهَا جَزُورٌ, أَوْ بَقَرَةٌ, أَوْ شَاةٌ, أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ; وَهَكَذَا
رُوِّينَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ, وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
فأما إجَازَةُ الشَّاةِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ: وَأَمَّا الشِّرْكُ فِي الدَّمِ فَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقُ, وَأَبُو ثَوْرٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ; إلاَّ أَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ قَالَ: لاَ يَجُوزُ الشِّرْكُ فِي الدَّمِ إلاَّ بِأَنْ يَكُونُوا
كُلُّهُمْ يُرِيدُونَهُ لِلْهَدْيِ, وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُمْ. وَقَالَ
صَاحِبُهُ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِأَنْ تَكُونَ
أَسْبَابُهُمْ وَاحِدَةً, مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَمَتِّعِينَ, أَوْ
كُلُّهُمْ مُفْتَدِينَ, وَنَحْوُ هَذَا. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: كَمَا
قلنا, إلاَّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ فِيهِ
أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ: فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ
طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَابْنِ سِيرِينَ,
كُلُّهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ
يَقُولُ: يَقُولُونَ: الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ,
مَا أَعْلَمُ النَّفْسَ تُجْزِئُ إلاَّ عَنِ النَّفْسِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْت أَشْعُرُ أَنَّ النَّفْسَ تُجْزِئُ
إلاَّ عَنِ النَّفْسِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْهُ،
(7/150)
أَنَّهُ
قَالَ: لاَ أَعْلَمُ وَمَا يُرَاقُ، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ
رَأْيُ ابْنِ سِيرِينَ; وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَكَمُ, وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ, مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ هَذَا وَهَذَا لاَ حُجَّةَ
فِيهِ, لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَجَعَ، عَنْ هَذَا إلَى إجَازَةِ الاِشْتِرَاكِ,
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ هَاهُنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَلاَ شَعَرَ
بِهِ, وَلَيْسَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ عَلِمَ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَحْمَدُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ مُوسَى الْعُقَيْلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْهَاشِمِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا عَرِيفُ
بْنُ دِرْهَمٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ, عَنْ سَبْعَةٍ.
قال أبو محمد: إجَازَتُهُ، عَنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ
بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا, وَقَدْ جَاءَ هَذَا
نَصًّا عَنْهُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ
نُمَيْرٍ، نا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ:
الْبَقَرَةُ, وَالْبَعِيرُ تُجْزِئُ، عَنْ سَبْعَةٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ أَلَهَا
سَبْعَةُ أَنْفُسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ أَفْتَوْنِي; فَقَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ قَدْ قَالَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ: مَا شَعَرْتُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ عُمَرَ, وَلَمْ يَمْنَعْ
مِنْ ذَلِكَ حَمَّادٌ, وَالْحَكَمُ, لَكِنْ كَرِهَاهُ فَقَطْ. فَصَحَّ أَنَّهُمَا
مُجِيزَانِ لِذَلِكَ, وَإِنَّمَا، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ رَأْيٌ لاَ، عَنْ أَثَرٍ
فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً. وَقَدْ ذَكَرْنَا،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ آنِفًا أَنَّهُ رَأَى الصَّوْمَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَمْ يُجِزْ
الشَّاةَ فِي ذَلِكَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:
سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عَمَّنْ يُهْدِي جَمَلاً فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ
أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ الْبَاطِلِ الْفَاحِشِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ, أَوْ
غَيْرُهُ حُجَّةً فِي مَكَان غَيْرَ حُجَّةٍ فِي مَكَان آخَرَ وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ
مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: "الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ,
وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ". وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُشْرِكُونَ السَّبْعَةَ فِي الْبَدَنَةِ
مِنْ الإِبِلِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقَرِّيِّ، عَنْ
حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْبَدَنَةُ، عَنْ
سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ زَافِرٍ الْعَبْسِيِّ قَالَ:
أَنَا وَأُمِّي أَخَذْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مِنْ بَقَرَةٍ، عَنْ
سَبْعَةٍ فِي الأَضْحَى. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ،
عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ: تُنْحَرُ
الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
(7/151)
عَنْ
عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ
سَبْعَةٍ. وَبِهِ إلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَصَحَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ أَيْضًا،
عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ, وَأَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَغَيْرِهِمْ.
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ،
عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أُبَيٌّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهَا فَنَحَرَ عليه السلام ثَلاَثًا
وَسِتِّينَ, فَأَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ, وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ،
نا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ،
عَنْ سَبْعَةٍ.
قال أبو محمد: فَصَحَّ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إجْمَاعٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ
إلاَّ عَنْ سَبْعَةٍ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم. فأما الصَّحَابَةُ، رضي الله
عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، نا
الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَلْيَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَضَرَ
النَّحْرُ فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ، عَنْ عَشَرَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، نا قَتَادَةُ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ: الْبَدَنَةُ، عَنْ عَشَرَةٍ.
فَهَذَا اخْتِلاَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, عَلَى أَنَّنَا إذَا
تَأَمَّلْنَا فِعْلَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَقَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ
فَإِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ,
وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ, وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ جَوَازِهِمَا، عَنْ أَكْثَرَ
مِنْ سَبْعَةٍ. وَكَذَلِكَ الأَثَرُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَيْضًا إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام: "نَحَرَ الْبَدَنَةَ، عَنْ
سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَهَذَا حَقٌّ وَدَيْنٌ, وَلَيْسَ فِيهِ
مَنْعُ مَنْ نَحَرَهُمَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ, أَوْ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ
سَبْعَةٍ" . وَكَذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
(7/152)
طَرِيقِ
أَبِي دَاوُد، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَقَرَةُ،
عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ". فَنَعَمْ, قَالَ: الْحَقُّ
وَقَوْلُهُ الْحَقُّ, وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْعٌ مِنْ جَوَازِهِمَا، عَنْ أَكْثَرَ
مِنْ سَبْعَةٍ إنْ جَاءَ بُرْهَانٌ بِذَلِكَ, وَإِلاَّ فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ
عَلَى ذَلِكَ بِالدَّعْوَى.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
السِّجِسْتَانِيِّ، نا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ
الرَّازِيّ قَالاَ جَمِيعًا: نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم ذَبَحَ عَمَّنْ اعْتَمَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ، هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
رضي الله عنها، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَلاَ نَرَى إلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ
يَحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ
فَأَحْلَلْنَ.
قال أبو محمد: كُنَّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ تِسْعًا خَرَجَتْ مِنْهُنَّ
عَائِشَةُ لاَِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَكِنَّهَا أَرْدَفَتْ حَجًّا عَلَى
عُمْرَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي أَثَرٍ آخَرَ فَبَقِيَ ثَمَانٍ لَمْ يَسُقْنَ
الْهَدْيَ فَأَحْلَلْنَ كَمَا تَسْمَعُ وَنَحَرَ عليه السلام عَنْهُنَّ كُلِّهِنَّ
بَقَرَةً وَاحِدَةً فَهَذَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ
أَنَّهُ عليه السلام أَهْدَى، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ قلنا: هَذَا لَفْظٌ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ حَدِيثًا, وَفِيهِ: فَأَتَيْنَا بِلَحْمٍ, فَقُلْتُ:
مَا هَذَا قَالُوا: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ نِسَائِهِ
الْبَقَرَ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ عَمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ مِنْ
ابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَبَيَّنَ مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ
الْمَاجِشُونِ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ
"وَفِيهِ قَالَتْ: فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ,
فَقُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ
أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ. فَبَيَّنَ سُفْيَانُ فِي هَذَا
(7/153)
الْخَبَرِ
وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ نَفْسُهُ أَنَّ
تِلْكَ الْبَقَرَ كَانَتْ أَضَاحِيَ, وَالأَضَاحِيُّ غَيْرُ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ
فِي التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ، عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا
أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ وَنَجْمَعَ النَّفَرَ مِنَّا فِي الْفِدْيَةِ وَذَلِكَ
حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي هَدْيِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ".
قال أبو محمد: هَذَا سَنَدٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ, وَبَيَانٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ,
وَالْبَقَرُ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ; فَنَظَرْنَا فِي
الآيَةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا يَقُولُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَ
"مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ فَجَازَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ بِظَاهِرِ
الآيَةِ.
فإن قيل: فَمِنْ أَيْنَ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى الْعَشَرَةِ فَقَطْ قلنا:
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَشْتَرِكَ فِي هَدْيِ فَرْضٍ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ وَالثَّانِي: مَا
رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُسَدَّدٌ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، نا
سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ
حُنَيْنٍ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام "قَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا
بِعَشْرِ شِيَاهٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ إجْمَاعُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا مَعَ ظَاهِرِ الآيَةِ
بِأَنَّ شَاةً تُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِي التَّمَتُّعِ,
وَالإِحْصَارِ, وَالتَّطَوُّعِ, وَقَدْ عَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَشْرَ شِيَاهٍ بِبَعِيرٍ. فَصَحَّ أَنَّ الشَّاةَ بِإِزَاءِ عُشْرِ الْبَعِيرِ
جُمْلَةً;، وَأَنَّ الْبَقَرَةَ كَالْبَعِيرِ فِي جَوَازِ الاِشْتِرَاكِ فِيهَا
فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا. فَصَحَّ أَنَّ الْبَعِيرَ
وَالْبَقَرَةَ يُجْزِئَانِ عَمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ, وَعَشْرُ
شِيَاهٍ تُجْزِئُ، عَنْ عَشْرَةٍ, فَالْبَعِيرُ, وَالْبَقَرَةُ يُجْزِئُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَنْ عَشَرَةٍ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَبِهِ نَقُولُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ اخْتِلاَفِ أَغْرَاضِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْهَدْيِ
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ
نَصِيبَهُ لِلْبَيْعِ, أَوْ لِلأَكْلِ لاَ لِلْهَدْيِ فَلَمْ تَحْصُلْ
الْبَدَنَةُ, وَلاَ الْبَقَرَةُ مُذَكَّاةً لِلْهَدْيِ الْمَقْصُودِ بِهِ إلَى
اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَحُجَّةُ زُفَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْهَدْيُ
الْمَذْكُورُ إذَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُحْصِرُ, وَالْمُتَمَتِّعُ,
وَالْمُتَطَوِّعُ, وَالْقَارِنُ, فَلَمْ يَحْصُلْ مُذَكًّى لِمَا قَصَدَهُ بِهِ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, وَالذَّكَاةُ لاَ تَتَبَعَّضُ.
(7/154)
قال
أبو محمد: وَهَذَا لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَوْرَدْنَا أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ
يَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنْهُمْ فِي الْهَدْيِ وَ، أَنَّهُ قَالَ عليه السلام:
"الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ" فَعَمَّ
عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ اتَّفَقَتْ أَغْرَاضُهُمْ مِمَّنْ اخْتَلَفَتْ;
وَإِنَّمَا أُمِرْنَا فِي الْهَدْيِ بِالتَّذْكِيَةِ وَبِالنِّيَّةِ عَمَّا
يَقْصِدُهُ الْمَرْءُ, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى" فَحَصَلَتْ الْبَدَنَةُ, وَالْبَقَرَةُ مُذَكَّاةٌ إذْ ذُكِّيَتْ
كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرِ مَالِكِهَا وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى
عَلَيْهَا; ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ مِنْهَا نِيَّةٌ, قَالَ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} فَأَحْكَامُ
جُمْلَتِهَا أَنَّهَا مُذَكَّاةٌ; وَحُكْمُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَا نَوَاهُ
فِيهِ مَالِكُهُ, وَلاَ فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ سَبْعَةٍ مِنْ
الْبَقَرَةِ, أَوْ الْبَعِيرِ وَبَيْنَ سَبْعِ شِيَاهٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي
أَنَّهُمْ, وَإِنْ كَانَتْ أَغْرَاضُهُمْ مُتَّفِقَةً وَكَانَ سَبَبُهُمْ
كُلُّهُمْ وَاحِدًا, فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمَهُ وَأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ
أَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْضِهِمْ, وَلاَ يَقْبَلُ مِنْ
بَعْضِهِمْ;، وَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْمُتَقَبَّلِ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُهْدِيَهُ إلاَّ بَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ
بِالْحَجِّ, وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَنْحَرَهُ مَتَى شَاءَ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُهْدِيَهُ, وَيَنْحَرَهُ إلاَّ بِمِنًى أَوْ
بِمَكَّةَ; فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ تَعَالَى
عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, لاَ عَلَى مَنْ لَمْ
يَتَمَتَّعْ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِلاَ شَكٍّ فَهُوَ مَا لَمْ يُحْرِمْ
بِالْحَجِّ فَلَمْ يَتَمَتَّعْ بَعْدُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَإِذْ لَمْ
يَتَمَتَّعْ بَعْدُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَالْهَدْيُ غَيْرُ وَاجِبٍ
عَلَيْهِ, وَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُ وَاجِبٍ، عَنْ وَاجِبٍ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي
ذَلِكَ; وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّهُ إنْ بَدَا لَهُ فَلَمْ يَحُجَّ
مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ
عَلَيْهِ هَدْيٌ بَعْدُ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَلاَ يُجْزِئُهُ مَا
لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا ذَبْحُهُ وَنَحْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَِنَّ هَذَا الْهَدْيَ قَدْ
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَوَّلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ, وَلَمْ يَحُدَّ آخِرَ
وَقْتَ وُجُوبِهِ بِحَدٍّ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ دَيْنٌ بَاقٍ أَبَدًا
حَتَّى يُؤَدَّى; وَالأَمْرُ بِهِ ثَابِتٌ حَتَّى يُؤَدَّى; وَمَنْ خَصَّهُ
بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُجْزِئُ هَدْيُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ,
وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ بَلْ هُوَ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ,
وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِطٌ; وَالْعَجَبُ مِنْ تَجْوِيزِ أَبِي حَنِيفَةَ
تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ وَإِجَازَةِ أَصْحَابِهِ لِمَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ
الْخَمِيسِ فَصَامَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ ثُمَّ لاَ
يُجِيزُونَ هَدْيَ الْمُتْعَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ.
(7/155)
وَأَمَّا
قَوْلُنَا: إنَّهُ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى فَإِنَّ قَوْمًا
قَالُوا: يُجْزِئُ فِي كُلِّ بَلَدٍ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ
مَوْضِعَ أَدَائِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ
تَعَالَى قَصْرَهُ عَلَى مَكَان دُونَ مَكَان لَبَيَّنَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ
فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَلَمْ
يَقُلْ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ, وَلاَ فِي هَدْيِ الْمُحْصِرِ: {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا} . فإن قيل: نَقِيسُ الْهَدْيَ عَلَى الْهَدْيِ فِي ذَلِكَ قلنا:
الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ
الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ إنْ صَحَّحْتُمْ قِيَاسَكُمْ هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى
هَدْيِ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَزِمَكُمْ أَنْ تَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي تَعْوِيضِ
الإِطْعَامِ مِنْ الْهَدْيِ وَالصِّيَامِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَأَنْتُمْ لاَ
تَقُولُونَ هَذَا; فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِكُمْ وَتَنَاقُضُهُ.
قال أبو محمد: لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} {لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . فَجَاءَ النَّصُّ بِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ
تَعَالَى مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَأَنَّ الْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ تَعَالَى فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ حُكْمَ الْهَدْيِ كُلِّهِ كَحُكْمِ
الْبُدْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "قَدْ نَحَرْتُ هُنَا, وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ". نا
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُسَدَّدٌ، نا حَفْصُ
بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ: "هَذَا
الْمَنْحَرُ, وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ" وَقَالَ عليه السلام فِي
مِنًى: "هَذَا الْمَنْحَرُ, وَفِجَاجُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ" فَصَحَّ
أَنَّهُ حَيْثُمَا نُحِرَتْ الْبُدْنُ, وَالإِهْدَاءُ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ
وَمِنًى وَهُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ فَقَدْ أَصَابَ النَّاحِرُ, وَأَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ نَحْرُ الْبُدْنِ وَالْهَدْيِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إلاَّ مَا خَصَّهُ
النَّصُّ مِنْ هَدْيِ الْمُحْصِرِ, وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا عَطِبَ قَبْلَ
بُلُوغِهِ مَكَّةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ قَالاَ: كُلُّ مَا كَانَ
مِنْ هَدْيٍ فَهُوَ بِمَكَّةَ, وَالصِّيَامُ وَالإِطْعَامُ حَيْثُ شِئْتَ وَعَنْ
مُجَاهِدٍ: انْحَرْ حَيْثُ شِئْت.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ سَاكِنِينَ فِي الْحَرَمِ فَلاَ
يَلْزَمُهُ فِي تَمَتُّعِهِ هَدْيٌ، وَلاَ صَوْمٌ, وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي
تَمَتُّعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُسِيءٌ فِي تَمَتُّعِهِ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ
(7/156)
يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مَا
قُلْتُمْ لَقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ; فَصَحَّ أَنَّ الْمُتْعَةَ إنَّمَا هِيَ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ.
قال أبو محمد: لَيْسَ كَمَا قَالُوا; لإِنَّ الْهَدْيَ أَوْ الصَّوْمَ الَّذِي
أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّمَتُّعِ إنَّمَا هُوَ نُسُكٌ زَائِدٌ
وَفَضِيلَةٌ وَلَيْسَ جَبْرًا لِنَقْصٍ كَمَا ظَنَّ مَنْ لاَ يُحَقِّقُ; فَهُوَ
لَهُمْ لاَ عَلَيْهِمْ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ,
وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً, وَلاََحْلَلْتُ" أَوْ كَمَا قَالَ عليه السلام;
فَأَخْبَرَ عليه السلام بِفَضْلِ الْمُتْعَةِ, وَأَنَّهَا أَفْضَلُ أَعْمَالِ
الْحَجِّ, وَأَسْقَطَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْهَدْيَ، عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ
وَالصَّوْمَ فِيهَا لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ, وَظَاهِرُهُ الرِّفْقُ بِهِمْ,
لاَِنَّهُ لاَ شَكَّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَلَّفَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ
حَرَجًا عَلَيْهِمْ لِسُهُولَةِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِمْ وَلاِِمْكَانِهَا لَهُمْ
كُلَّ يَوْمٍ بِخِلاَفِ أَهْلِ الآفَاقِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَيُبْطِلُ قَوْلَ
الْمُخَالِفِ: أَنَّ الآيَةَ لَوْ كَانَتْ كَمَا ظَنَّ لَحُرِّمَتْ الْعُمْرَةُ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ; وَهَذَا خِلاَفُ مَا
جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْعُمْرَةِ, وَأَنَّهَا كَفَّارَةٌ
لِمَا بَيْنَهُمَا, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ.
رُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا الْحَجَّاجُ، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ
مَكَّةَ هَدْيٌ فِي الْمُتْعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا
هُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ, قَالَ هُشَيْمٌ: نا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ, وَيُونُسُ
بْنُ عُبَيْدٍ, قَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنِ النَّخَعِيِّ, وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ
الْحَسَنِ, وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ
عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ; ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ,
وَالْحَسَنُ, وَالنَّخَعِيُّ, قَالُوا كُلُّهُمْ: لَيْسَ عَلَى الْمَكِّيِّ هَدْيٌ
فِي الْمُتْعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ,
وَمَعْمَرٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ, وَقَالَ مَعْمَرٌ, عَنِ
الزُّهْرِيِّ; ثُمَّ اتَّفَقَ الزُّهْرِيُّ, وَعَطَاءٌ قَالاَ جَمِيعًا فِي
الْمَكِّيِّ يَمُرُّ بِالْمِيقَاتِ فَيَعْتَمِرُ مِنْهُ: إنَّهُ لَيْسَ
بِمُتَمَتِّعٍ وَبِهَذَا نَقُولُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
نا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا خَرَجَ
الْمَكِّيُّ إلَى الْمِيقَاتِ فَتَمَتَّعَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
قال أبو محمد: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَهْلَهُ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَزَعَمَ الْمَالِكِيُّونَ: أَنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا جُعِلَ عَلَى
الْمُتَمَتِّعِ لاِِسْقَاطِهِ سَفَرَ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ.
(7/157)
قال
علي: وهذا بَاطِلٌ بَحْتٌ, وَالْعَجَبُ مِنْ تَسْهِيلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَفْتَضِحُونَ بِهِ مِنْ قُرْبٍ,
وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْعِلَّةُ نَفْسُهَا مَوْجُودَةٌ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي
آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ, ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ فَقَدْ
أَسْقَطَ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ, وَأَنْتُمْ لاَ تَرَوْنَ عَلَيْهِ هَدْيًا، وَلاَ
صَوْمًا, ثُمَّ تَقُولُونَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ خَرَجَ
إلَى مَا وَرَاءَ أَبْعَدِ الْمَوَاقِيتِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْهُ, وَهُوَ
مِنْ أَهْلِ مِصْرَ, أَوْ الشَّامِ, أَوْ الْعِرَاقِ أَنَّهُ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِ،
وَلاَ صَوْمَ, وَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُ السَّفَرَيْنِ, وَيَقُولُونَ فِيمَنْ كَانَ
مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ لاَ يُرِيدُ حَجًّا,
وَكَانَتْ حَاجَتُهُ بِعُسْفَانَ, أَوَبِبَطْنٍ; فَلَمَّا صَارَ بِهَا بَدَا لَهُ
فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَحَجَّ بَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ
الْحَجِّ: فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ, وَهُوَ قَدْ أَسْقَطَ السَّفَرَيْنِ إلَى
الْحَجِّ, وَإِلَى الْعُمْرَةِ أَيْضًا; وَلَعَمْرِي مَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ
دِينٌ, أَوْ عَقْلٌ أَنْ يُطْلِقَ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ عِلْمَ لَهُ
بِهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَالْمُتَمَتِّعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ
الْهَدْيُ هُوَ مَنْ ابْتَدَأَ عُمْرَتَهُ بِأَنْ يُحْرِمَ لَهَا فِي أَحَدِ
أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلاً, وَيُتِمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ يَحُجَّ
مِنْ عَامِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ إلَى
مَنْزِلِهِ أَوْ إلَى أُفُقٍ أَبْعَدَ مِنْ مَنْزِلِهِ, أَوْ مِثْلِهِ أَوْ
أَقْرَبَ مِنْهُ, أَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ, اعْتَمَرَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ عُمَرًا
كَثِيرَةً أَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ; فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ هِلاَلِ
شَوَّالٍ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ, وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ, وَلاَ صَوْمَ إنْ حَجَّ
مِنْ عَامِهِ, أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ عَمِلَ بَعْضَ عُمْرَتِهِ
أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ لَمْ يَعْمَلْ مِنْهَا
شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلاَّ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَشْهُرِ
الْحَجِّ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا: فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، نا
إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْد قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَيُّهَا
النَّاسُ إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَيْسَ بِاَلَّذِي تَصْنَعُونَ يَتَمَتَّعُ
أَحَدُكُمْ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ, وَلَكِنَّ الْحَاجَّ إذَا فَاتَهُ
الْحَجُّ أَوْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ أَوْ كُسِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ
فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً, وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ, وَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ:
الْمُتْعَةُ لِمَنْ أُحْصِرَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُتَمَتِّعُ هُوَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَيِّ أَشْهُرِ
السَّنَةِ كَانَتْ عُمْرَتُهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ, ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ, فَهَذَا عَلَيْهِ الْهَدْيُ
أَوْ الصَّوْمُ; وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ
حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ
الصَّوْمُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: إذَا أَهَلَّ
(7/158)
بِالْعُمْرَةِ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ, وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ
ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى
الْمِيقَاتِ فَاعْتَمَرَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ الْمُتَمَتِّعُ إلاَّ مِنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَإِنْ
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إذَا أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَإِذَا
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ, وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ
حَفْصٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَقَالَ
وَكِيعٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالاَ
جَمِيعًا: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ فَلَيْسَ
بِمُتَمَتِّعٍ, ذَاكَ مَنْ أَقَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ. وَبِهِ إلَى وَكِيعٍ، نا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَقَالَ
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالاَ جَمِيعًا: مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُتَمَتِّعُ هُوَ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ قَبْلَهَا, ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ
عَامِهِ, فَإِنْ خَرَجَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ
الصَّلاَةُ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ حَتَّى يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ
الْحَجِّ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ
فَإِذَا سَافَرَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ أَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ قَالَ: لاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ طَافَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ,
ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ, رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ
الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ
قَالَتْ: أَحْرَمْنَا بِالْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فِي
شَوَّالٍ فَسَأَلْنَا الْفُقَهَاءَ وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ فَكُلُّهُمْ قَالَ:
هِيَ مُتْعَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ مَطَرٍ
بِصَلاَتِهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ أَهَلَّ فِي
رَمَضَانَ وَطَافَ فِي شَوَّالٍ قَالاَ جَمِيعًا: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي
طَافَ فِيهِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا رَجَعَ إلَى
(7/159)
أَهْلِهِ
قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَبَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ
مُتَمَتِّعًا; فَإِنْ أَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَهُوَ كُلُّهُ
قَوْلُ سُفْيَانَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَدَخَلَ
الْحَرَمَ قَبْلَ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ دَخَلَ
الْحَرَمَ بَعْدَ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَابْنِ
جُرَيْجٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إذَا دَخَلَ الْمُحْرِمُ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ
يَرَى هِلاَلَ شَوَّالٍ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بَعْدَ
أَنْ يَرَى هِلاَلَ شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إذَا مَكَثَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ
قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلَ قَوْلِنَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ
اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي
الْحِجَّةِ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ اسْتَمْتَعَ, وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ,
أَوْ الصِّيَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ أَنَّ
قَوْمًا اعْتَمَرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى الْمَدِينَةِ
فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِمْ الْهَدْيُ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي مَنْ قَدِمَ
فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُعْتَمِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ: لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يَأْتِيَ مِنْ
مِيقَاتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, قُلْت لَهُ: أَرَأْيٌ أَمْ عِلْمٌ قَالَ: بَلْ
عِلْمٌ.
قال أبو محمد: إنَّمَا وَافَقْنَا عَطَاءً فِي أَنَّهُ لاَ يَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ
إلاَّ مَنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَنْ قَدِمَ
فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُحْرِمًا ثُمَّ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَلَّ ثُمَّ
اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَيْسَ مُتَمَتِّعًا, بَلْ هُوَ
مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّ فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ, وَأَبُو عَوَانَةَ, قَالَ
أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَقَالَ
هُشَيْمٌ: أَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ وَسَعِيدٌ
قَالاَ: فِي الْمُتَمَتِّعِ عَلَيْهِ الْهَدْيُ, وَإِنْ رَجَعَ إلَى بِلاَدِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إنْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ
مِنْ عُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ فَأَتَمَّ
عُمْرَتَهُ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ
إلَى بَلَدِهِ أَوْ أَهَلَّ بِعُمْرَتِهِ كَذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَلَمْ
يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ, فَمَا دُونِهَا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ عَلَيْهِ
الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, فَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ,
وَطَافَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ, ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ
فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ
عَلَى ذَلِكَ
(7/160)
إلاَّ،
أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَجَعَ إلَى مَا وَرَاءَ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ
فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَقَالُوا: مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَلاَ هَدْيَ مَعَهُ
فَإِنَّهُ يَحِلُّ إذَا أَتَمَّ عُمْرَتَهُ, فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهَدْيِهِ
فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ, فَإِنْ
حَلَّ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ لاِِحْلاَلِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ أَهَلَّ
بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ فَأَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ ثُمَّ أَقَامَ
بِمَكَّةَ أَوْ رَجَعَ إلَى أُفُقٍ دُونَ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ
عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, فَإِنْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَلَيْسَ
مُتَمَتِّعًا وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَمِرُ فِي شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ,
ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أُفُقِهِ أَوْ أُفُقٍ مِثْلِ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ فَلَيْسَ
مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ,
ثُمَّ أَقَامَ أَوْ خَرَجَ إلَى مَا دُونَ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَهُوَ
مُتَمَتِّعٌ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ; فَإِنْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ
الْمَوَاقِيتِ أَوْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْسِيمِهِ بَيْنَ الأَرْبَعَةِ
الأَشْوَاطِ وَالأَقَلِّ فِيمَا يَكُونُ بِهِ مُتَمَتِّعًا, فَقَوْلٌ لاَ
يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ,
وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ,
وَلاَ تَابِعٍ; وَلاَ قِيَاسٍ. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنَّهُ
عَوَّلَ عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ فِي الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ طَافَتْ
أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الْمُتْعَةِ, وَقَوْلُ عَطَاءٍ أَيْضًا
فِيهَا خَطَأٌ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
الْحَائِضَ أَنْ لاَ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَلاَِنَّهُ تَقْسِيمٌ بِلاَ دَلِيلٍ
أَصْلاً.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمُعْتَمِرَ الَّذِي مَعَهُ الْهَدْيُ
الْمُرِيدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ حَجِّهِ فَإِنَّهُ
بَنَى عَلَى الآثَارِ الْوَارِدَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِأَمْرِهِ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِ, وَمَنْ لاَ
هَدْيَ مَعَهُ بِالإِحْلاَلِ; وَالاِحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الآثَارِ لِقَوْلٍ أَبِي
حَنِيفَةَ جَهْلٌ مُظْلِمٌ وَقَوْلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ, أَوْ تَعَمُّدٌ مِمَّنْ
يَعْلَمُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكِلاَهُمَا
بَلِيَّةٌ; لإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الآثَارِ إنَّمَا وَرَدَتْ بِأَنَّهُ عليه
السلام أَمَرَ مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ مِنْ الْمُفْرِدِينَ لِلْحَجِّ
وَالْقَارِنِينَ بِالإِحْلاَلِ, وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يَقْرِنَ
بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ; وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ
مُعْتَمِرًا لَمْ يُقْرِنْ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا
فِي ذِكْرِنَا عَمَلَ الْحَجِّ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ السَّعْيِ
لِعُمْرَتِهِ حَتَّى يَهُلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ فَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ, وَلاَ لَهُ أَيْضًا مُتَعَلَّقٌ فِي ذَلِكَ لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ
بِسُنَّةٍ, وَلاَ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِقَوْلِ
صَاحِبٍ, وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ قِيَاسٍ.
(7/161)
وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ أَصْلاً, وَإِنَّمَا هِيَ آرَاءٌ
مَحْضَةٌ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي سَائِرِ الأَقْوَالِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ
مِنْ هَذَا الْحُكْمِ: أَحَدُهَا: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ
الْحَجِّ, وَالثَّانِي: مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ أَوْ رَجَعَ إلَى
بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ; وَالثَّالِثُ:
مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثُمَّ اعْتَمَرَ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ; وَالرَّابِعُ: هَلْ
الْمُتَمَتِّعُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ كَمَا قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَمْ لَيْسَ
هَذَا مُتَمَتِّعًا؟
فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ هَذَا فَوَجَدْنَا غَيْرَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَدْ خَالَفُوهُ; وَوَجَدْنَاهُ قَوْلاً بِلاَ
دَلِيلٍ; بَلْ الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى خَطَئِهِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى
مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إدْرَاكِ الْحَجِّ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ:
مُحْصَرًا, وَلَمْ يُسَمِّهِ: مُتَمَتِّعًا وَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ
حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ, قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنْ الْهَدْيِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَفَرَّقَ
تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا; فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُقَالَ: هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ طَاوُوس: إنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ, فَوَجَدْنَاهُ
خَطَأً; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَصَحَّ بِنَصِّ
الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مُتَمَتِّعًا إلاَّ مَنْ حَجَّ بَعْدَ عُمْرَتِهِ
لِوُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ اعْتَمَرَ بَعْضَ عُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ
الْحَجِّ أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا, وَبَعْضَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا, وَفِيمَنْ أَقَامَ مِنْ هَؤُلاَءِ بِمَكَّةَ حَتَّى
حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَمْ يُقِمْ لَكِنْ خَرَجَ إلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ
فِيهَا الصَّلاَةُ أَوْ لاَ تُقْصَرُ, أَوْ إلَى مِيقَاتٍ أَوْ وَرَاءَ مِيقَاتٍ
إلَى بَلَدِهِ أَوْ مِثْلِ بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ بَلَدِهِ, ثُمَّ حَجَّ
مِنْ عَامِهِ فَكَانَ كُلُّ هَؤُلاَءِ مُمْكِنًا فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ
اسْمُ: مُتَمَتِّعٌ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَمُمْكِنًا أَنْ لاَ يَقَعَ
عَلَيْهِ أَيْضًا اسْمُ: مُتَمَتِّعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقِعَ عَلَى أَحَدٍ
إيجَابُ غَرَامَةِ هَدْيٍ أَوْ إيجَابُ صَوْمٍ بِالظَّنِّ إلاَّ بِبَيَانٍ جَلِيٍّ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُ ذَلِكَ, فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ.
فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا يَحْيَى بْنُ
بُكَيْرٍ، نا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَأَهْدَى وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ
(7/162)
مِنْ
ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى,
فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ, فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى
فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَيَقْصُرْ وَيَحِلَّ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ
وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ; فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ مَنْ هُوَ الْمُتَمَتِّعُ
الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِهَذَا أَصْحَابَهُ
الْمُتَمَتِّعِينَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَهُمْ قَوْمٌ ابْتَدَءُوا
الإِحْرَامَ لِعُمْرَتِهِمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجُّوا فِي تِلْكَ
الأَشْهُرِ فَخَرَجَ بِهَذَا الْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ أَنْ يَكُونَ
مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كُلُّ مَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ
عُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ أَقَلِّهَا;
لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُخَاطِبْ بِهَذَا الْحُكْمِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ
هَذِهِ الصِّفَاتِ بِلاَ شَكٍّ وَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ فِي أَمْرِ هَؤُلاَءِ
بِيَقِينٍ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ عَمِلَ الأَكْثَرَ مِنْ
عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا
دُونَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهَا شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ;، وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ وَيُقَالُ لَهُ
أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ
هُوَ الأَكْثَرُ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَقَلِّ; لإِنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَك
وَعِنْدَنَا إحْرَامُ مُدَّةٍ ثُمَّ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ, ثُمَّ سَبْعَةِ أَطَوَافً
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; فَالْبَاقِي بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْوَاطِ قَدْ
يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا مَضَى لَهُ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ. وَيُقَالُ لِمَنْ
قَالَ: إنْ عَمِلَ مِنْ عُمْرَتِهِ شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ
مُتَمَتِّعٌ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا دُونَ أَنْ تَقُولَ: إنْ عَمِلَ الأَكْثَرَ
مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ;، وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ
أَصْلاً; وَكِلْتَا الدَّعْوَتَيْنِ تُعَارِضُ الآُخْرَى, وَكِلْتَاهُمَا لاَ
شَيْءَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبَقِيَ أَمْرُ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ اعْتِمَارِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى
بَلَدِهِ أَوْ إلَى بَلَدٍ فِي الْبُعْدِ مِثْلِ بَلَدِهِ, أَوْ إلَى وَرَاءِ
مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ, أَوْ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ, أَوْ إلَى
مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ: فَوَجَدْنَا هَذَا الْخَبَرَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُبَيِّنِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ لَمْ
يَشْتَرِطْ فِيهِ عَلَى مَنْ خَاطَبَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ إقَامَةً بِمَكَّةَ
وَتَرْكَ خُرُوجٍ مِنْهَا أَصْلاً {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى}، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرْطِ
التَّمَتُّعِ لَمَا أَغْفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانَهُ حَتَّى
نَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى بَيَانٍ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ, وَظَنٍّ كَاذِبٍ,
وَتَدَافُعٍ مِنْ الأَقْوَالِ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي
هَذَا الْخَبَرِ الثَّابِتِ: وَيَحِلَّ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ بَيَانٌ
بِإِبَاحَةِ الْمُهْلَةِ بَيْنَ الإِحْلاَلِ وَالإِهْلاَلِ; وَلاَ مَانِعَ لِمَنْ
عَرَضَتْ لَهُ مِنْهُمْ، رضي
(7/163)
الله
عنهم، حَاجَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ، عَنْ مَكَّةَ لَهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ
الإِقَامَةُ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ شُرُوطِ التَّمَتُّعِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَصَحَّ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِنَصِّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ هُوَ مَنْ أَهَلَّ
بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ فِي تِلْكَ الأَشْهُرِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ
سَقَطَ عَنْهُ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ اللَّذَانِ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى
أَحَدَهُمَا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ
مَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدٍ مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ فَلَيْسَ
بِمُتَمَتِّعٍ وَهَكَذَا يُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدٍ
فِي الْبُعْدِ مِثْلِ بَلَدِهِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا
وَهَلاَّ خَصَّصَتْ بِسُقُوطِ التَّمَتُّعِ مَنْ خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ فَقَطْ;
وَيُقَالُ لَهُمَا جَمِيعًا: هَلاَّ قُلْتُمَا مَنْ خَرَجَ إلَى وَرَاءِ مِيقَاتٍ
فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ؟
قال أبو محمد: لاَ مَخْلَصَ لَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَصْلاً إلاَّ أَنْ
يَقُولَ قَائِلُهُمْ: كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ
مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَنَقُولُ لِمَنْ قَالَ هَذَا: قُلْت
الْبَاطِلَ, وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، وَلاَ مِنْ مِثْلِ بَلَدِهِ
فِي الْبُعْدِ، وَلاَ مِنْ مِيقَاتٍ، وَلاَ بُدَّ; بَلْ أَنْتُمْ مُجْمِعُونَ
مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لِلْحَجِّ
لَوْ خَرَجَ تَاجِرًا أَوْ مُسَافِرًا لِبَعْضِ الأَمْرِ قَبْلَ مِقْدَارٍ مَا إنْ
أَرَادَ الْحَجَّ كَانَتْ لَهُ مُهْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْتِ الَّذِي إذَا
أَهَلَّ فِيهِ أَدْرَكَ الْحَجَّ عَلَى سَعَةٍ وَمَهْلٍ, فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
الْخُرُوجُ إلَى مَكَّةَ حِينَئِذٍ أَصْلاً, وَأَنَّهُ إنْ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ
لِحَاجَتِهِ فَقَرُبَ وَقْتُ الْحَجِّ وَهُوَ بِمُسْتَطِيعٍ لَهُ فَحَجَّ مِنْ
ذَلِكَ الْمَكَانِ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ بِأَتَمِّ مَا يَلْزَمُهُ,
وَأَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَأْتِ لِلْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ أَصْلاً.
وَكَذَلِكَ لاَ خِلاَفَ فِيمَنْ جَازَ عَلَى مِيقَاتٍ لاَ يُرِيدُ حَجًّا, وَلاَ
عُمْرَةً, وَلاَ دُخُولَ مَكَّةَ لَكِنْ لِحَاجَةٍ لَهُ فِي رِهَاطٍ أَوْ فِي
بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِهْلاَلُ مِنْ هُنَالِكَ,
وَأَنَّهُ إنْ بَدَا لَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, وَقَدْ تَجَاوَزَ
الْمِيقَاتَ فَإِنَّهُ يُهِلُّ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ, وَحَجُّهُ تَامٌّ
وَعُمْرَتُهُ تَامَّةٌ, وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَلْزَمُهُ.
فَصَحَّ أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مِنْ بَلَدِ الإِنْسَانِ,
أَوْ مِنْ مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ, أَوْ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَنْ لَمْ
يَمُرَّ بِهِ, وَهُوَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
مِنْ شُرُوطِ الْحَجِّ, وَلاَ الْعُمْرَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ
الْفَاسِدَةُ جِدًّا, وَكَانَ تَعَارُضُهَا وَتَوَافُقُهَا بُرْهَانًا فِي فَسَادِ
جَمِيعِهَا, فَإِنْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إنْ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ
فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ; لإِنَّ أَهْلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ لَهُمْ التَّمَتُّعُ
قلنا لَهُ: قَدْ قُلْتَ الْبَاطِلَ, وَاحْتَجَجْت لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ,
وَلِدَعْوَى كَاذِبَةٍ, وَكَفَى بِهَذَا مَقْتًا. فَإِنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ
(7/164)
الْمَوَاقِيتِ
فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ صَوْمَ فِي
التَّمَتُّعِ قلنا: قُلْت الْبَاطِلَ وَادَّعَيْت مَا لاَ يَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ
صَحَّ لَك لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْك; لإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِمْ,
وَلاَ صَوْمَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَحُجَّ
كَذَلِكَ, بَلْ الْهَدْيُ عَلَيْهِ, أَوْ الصَّوْمُ; فَهَلاَّ إذْ كَانَ عِنْدَك
مَنْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتٍ فَمَا دُونَهُ إلَى مَكَّةَ يَصِيرُ فِي حُكْمِ مَنْ
هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ,
جَعَلْت أَيْضًا الْمُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ
فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عَنْهُمَا فَظَهَرَ تَنَاقُضُ هَذَا الْقَوْلِ
الْفَاسِدِ أَيْضًا. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى مَكَان تُقْصَرُ
فِيهِ الصَّلاَةُ, سَقَطَ عَنْهُ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ: مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا،
وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَصْلاً. فَإِنْ قَالَ: لاَِنَّهُ
قَدْ سَافَرَ إلَى الْحَجِّ قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَمَا الَّذِي جَعَلَ
سَفَرَهُ مُسْقِطًا لِلْهَدْيِ, وَالصَّوْمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ هَاتُوا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلاَ سَبِيلَ إلَى
ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا غَلِطَ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَأَصْحَابُهُ فِي إيجَابِهِمْ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ:
أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِي الْخَبَرِ
رضي الله عنه وَإِنْ كَانَ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَإِنَّهُ
بَيَّنَ إثْرَ هَذَا الْكَلاَمِ صِفَةَ عَمَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَذَكَرَ أَنَّهُ عليه السلام بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ
بِالْحَجِّ فَذَكَرَ صِفَةَ الْقِرَانِ. وَهَكَذَا صَحَّ فِي سَائِرِ الأَخْبَارِ
مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ, وَعَائِشَةَ, وَحَفْصَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ,
وَأَنَسٍ, وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ قَارِنًا. فَصَحَّ أَنَّ
الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عليه السلام إذْ أَهْدَوْا بِأَنْ لاَ يَحِلُّوا إنَّمَا
كَانُوا قَارِنِينَ وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله
عنها، أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ
مَعَ عُمْرَتِهِ فَعَادَ احْتِجَاجُهُمْ عَلَيْهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فإن قال قائل: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَابْتَدَأَ عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; ثُمَّ
أَقَامَ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ حَجَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ
عَلَيْهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصَّوْمُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ
قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَإِذَا خَرَجَ بَيْنَ عُمْرَتِهِ, وَحَجِّهِ مِنْ
مَكَّةَ أَمُتَمَتِّعٌ هُوَ أَمْ لاَ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ أَوْ
الصَّوْمُ إلاَّ مَنْ أَجْمَعَ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ
قلنا: هَذَا خَطَأٌ, وَمَا أَجْمَعَ النَّاسُ قَطُّ عَلَى مَا قُلْتُمْ; وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الْمُحْصَرُ لاَ
مَنْ حَجَّ بَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ, وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الإِجْمَاعِ مَعَ
وُرُودِ بَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم; لإِنَّ فِي الْقَوْلِ بِهَذَا
إيجَابَ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ عليه السلام مَا لَمْ يُجْمِعْ النَّاسُ
عَلَيْهَا; وَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ بَلْ إذَا تَنَازَعَ النَّاسُ
(7/165)
رَدَدْنَا
ذَلِكَ إلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرَّدَّ إلَيْهِ مِنْ
الْقُرْآنِ, وَالسُّنَّةِ لاَ نُرَاعِي مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ
بَيَانِ السُّنَّةِ فِي أَحَدِ أَقْوَالِ الْمُتَنَازِعِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجِبُ الْوُقُوفُ بِالْهَدْيِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ وَقَفَ
بِهَا فَحَسَنٌ, وَإِلاَّ فَحَسَنٌ; فَإِنَّ مَالِكًا وَمَنْ قَلَّدَهُ قَالَ: لاَ
يُجْزِئُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي يُبْتَاعُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ أَنْ يُوقَفَ
بِعَرَفَةَ، وَلاَ بُدَّ; وَإِلاَّ فَلاَ يُجْزِئُ إنْ كَانَ وَاجِبًا; فَإِنْ
كَانَ تَطَوُّعًا فَلَمْ يُوقَفْ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ، وَلاَ
بُدَّ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْحَرَ بِمِنًى, فَإِنْ اُبْتِيعَ الْهَدْيُ فِي
الْحِلِّ ثُمَّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ أَجْزَأَ, وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ بِعَرَفَةَ
وَالإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: لاَ يَكُونُ هَدْيًا إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ وَوَقَفَ
بِعَرَفَةَ: وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَسُفْيَانُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ:
لاَ مَعْنَى لِلتَّعْرِيفِ بِالْهَدْيِ سَوَاءٌ اُبْتِيعَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي
الْحِلِّ, إنْ عَرَّفَ فَجَائِزٌ, وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْ فَجَائِزٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الْعُلَمَاءِ لاَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ, وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا أَصْلاً
لاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ
سَلَفٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ مَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُ
اللَّيْثِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ لَهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ, وَإِسْرَائِيلَ, وَيُونُسَ بْنِ يُونُسَ, قَالَ حَجَّاجٌ: عَنْ
عَطَاءٍ; وَقَالَ إسْرَائِيلُ: عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ طَاوُوس
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَ بِالْبُدْنِ.
قال علي: وهذانِ مُرْسَلاَنِ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ, ثُمَّ إنَّ
الْحَجَّاجَ, وَإِسْرَائِيلَ, وَثُوَيْرًا كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ هَذَا فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ
لِمَالِكٍ لاَِنَّهُ شَرَطَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْهَا,
وَهَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا سِيقَ مِنْ الْمَدِينَةِ بِلاَ
خِلاَفٍ; وَمَالِكٌ لاَ يُوجِبُ التَّوْقِيفَ بِعَرَفَةَ فِيمَا أُدْخِلَ مِنْ
الْحِلِّ. وَيُحْتَجُّ لِقَوْلِ اللَّيْثِ أَيْضًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ هَدْيَ إلاَّ مَا قُلِّدَ,
وَسِيقَ, وَوُقِفَ بِعَرَفَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ هَدْيٍ لَمْ يُشْعَرْ وَيُقَلَّدْ وَيُفَضْ بِهِ مِنْ
عَرَفَةَ فَلَيْسَ بِهَدْيٍ إنَّمَا هِيَ ضَحَايَا.
قَالَ عَلِيٌّ: مَالِكٌ لاَ يُحْتَجُّ لَهُ بِهَذَا; لاَِنَّهُ لاَ يَرَى
التَّرْكَ لِلتَّقْلِيدِ وَلِلإِشْعَارِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا
رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ،
(7/166)
عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنْ شِئْت فَعَرِّفْ الْهَدْيَ, وَإِنْ شِئْت
فَلاَ تُعَرِّفْ بِهِ إنَّمَا أَحْدَثَ النَّاسُ السِّيَاقَ مَخَافَةَ
السُّرَّاقِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا
الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: دَعَا الأَسْوَدُ مَوْلًى لَهُ فَأَمَرَهُ
أَنْ يُخْبِرَنِي بِمَا قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ, فَقَالَ: نَعَمْ سَأَلْتُ
عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْت: أُعَرِّفُ بِالْهَدْيِ فَقَالَتْ: لاَ
عَلَيْك أَنْ لاَ تُعَرِّفَ بِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ
لاَ تُعَرِّفَ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ
بَدَنَةٍ أُدْخِلَتْ مِنْ الْحِلِّ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ هَدْيًا إلاَّ مَا عُرِّفَ بِهِ
مِنْ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: لَمْ يَأْتِ أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قُرْآنٍ,
وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ يَجِبُ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
أَحَدِهِمَا, وَلاَ قِيَاسَ يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا; لإِنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ
إنَّمَا تَلْزَمُ النَّاسَ لاَ الإِبِلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَلاَ هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ غَيْرُ الْهَدْيِ الَّذِي
سَاقَ مَعَ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ, وَهُوَ هَدْيُ تَطَوُّعٍ سَوَاءٌ
مَكِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَكِّيٍّ فَإِنَّ مَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ
عَلَى الْقَارِنِ هَدْيٌ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِي
تَعْوِيضِ الصَّوْمِ مِنْهُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا, وَلَيْسَ عَلَى الْمَكِّيِّ
عِنْدَهُمَا هَدْيٌ, وَلاَ صَوْمٌ إنْ قَرَنَ, كَمَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي
التَّمَتُّعِ. وقال مالك: لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ أَنَّ مَكِّيًّا قَرَنَ. وقال أبو
حنيفة: إنْ تَمَتَّعَ الْمَكِّيُّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لاَ هَدْيَ, وَلاَ صَوْمَ
وَإِنْ قَرَنَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ بُدَّ;، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَوَّضَ
مِنْهُ صَوْمٌ وَجَدَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَجِدْ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ
مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ: وَالْمَكِّيُّ عِنْدَهُ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي أَحَدِ
الْمَوَاقِيتِ فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ قَالَ: فَإِنْ تَمَتَّعَ مَنْ هُوَ
سَاكِنٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ قَرَنَ; فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَلَهُ أَنْ
يَأْكُلَ مِنْهُ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ وُجُوهٌ جَمَّةٌ مِنْ
الْخَطَأِ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ تَقْسِيمٌ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ قِرَانِ الْمَكِّيِّ وَبَيْنَ تَمَتُّعِهِ,
وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قِرَانِ غَيْرِ الْمَكِّيِّ وَبَيْنَ تَمَتُّعِهِ بِلاَ
بُرْهَانٍ. الثَّالِثُ تَعْوِيضُهُ الصَّوْمَ مِنْ هَدْيِ غَيْرِ الْمَكِّيِّ,
وَمَنْعُهُ مِنْ تَعْوِيضِهِ الصَّوْمَ مِنْ هَدْيِ الْمَكِّيِّ; كُلُّ ذَلِكَ
رَأْيٌ فَاسِدٌ لاَ سَلَفَ لَهُ فِيهِ, وَلاَ دَلِيلَ أَصْلاً. فَقَالُوا: إنَّ
الْمَكِّيَّ إذَا قَرَنَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي إسَاءَةٍ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا
وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي إسَاءَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ
يُعَوِّضَ مِنْ هَدْيهِ دَمٌ وَهَذَا قَاتِلُ الصَّيْدِ مُحْرِمًا دَاخِلٌ فِي
أَعْظَمِ الإِسَاءَةِ وَأَشَدِّ الإِثْمِ, وَقَدْ عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
هَدْيِهِ صَوْمًا وَإِطْعَامًا وَخَيَّرَهُ فِي أَيِّ ذَلِكَ شَاءَ وَهَذَا
الْمُحْصَرُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إسَاءَةٍ بَلْ مَأْجُورٌ مَعْذُورٌ وَلَمْ
يُعَوِّضْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَدْيِهِ صَوْمًا، وَلاَ إطْعَامًا; فَكَمْ هَذَا
التَّخْلِيطُ وَالْخَبْطُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْعِ الشَّرَائِعِ
الْفَاسِدَةِ فِيهِ؟
(7/167)
وَأَيْضًا:
فَالْمَكِّيُّ عِنْدَهُمْ إذَا تَمَتَّعَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي إسَاءَةٍ أَوْ غَيْرُ
دَاخِلٍ فِي إسَاءَةٍ لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, فَإِنْ كَانَ دَاخِلاً فِي
إسَاءَةٍ فَلِمَ لَمْ يَجْعَلُوا عَلَيْهِ هَدْيًا كَاَلَّذِي جَعَلُوا فِي
الْقِرَانِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ دَاخِلاً فِي إسَاءَةٍ فَمِنْ أَيْنَ
وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ إذَا قَرَنَ فِي إسَاءَةٍ فَهَلْ فِيمَا يَأْتِي بِهِ
الْمَمْرُورُونَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَمَّا نَحْنُ فَلَيْسَ الْمَكِّيُّ، وَلاَ
غَيْرُهُ مُسِيئًا فِي قِرَانِهِ، وَلاَ فِي تَمَتُّعِهِ بَلْ هُمَا مُحْسِنَانِ
فِي كُلِّ ذَلِكَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلاَ فَرْقَ; فَسَقَطَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ لِعَظِيمِ تَنَاقُضِهِ وَفَسَادِهِ, وَأَمَّا مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ,
فَإِنَّهُمَا قَاسَا الْقِرَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ فِي الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: الْقِيَاسُ كُلُّهُ خَطَأٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ لاَ شَبَهَ بَيْنَ الْقَارِنِ
وَالْمُتَمَتِّعِ; لإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْعَلُ بَيْنَ عُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ
إحْلاَلاً، وَلاَ يَجْعَلُ الْقَارِنُ بَيْنَ عُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ إحْلاَلاً.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَنَا لاَ يَطُوفُ إلاَّ
طَوَافًا وَاحِدًا، وَلاَ يَسْعَى إلاَّ سَعْيًا وَاحِدًا وَالْمُتَمَتِّعُ
يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقَارِنَ لاَ
بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ لَمْ
يُرِدْ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ, وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا لاَ يَكُونُ
إلاَّ عَلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، وَلاَ عِلَّةَ تَجْمَعُ
بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ هِيَ إسْقَاطُ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ قلنا:
هَذِهِ عِلَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لاَ دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى صِحَّتِهَا وَقَدْ
أَرَيْنَاكُمْ بُطْلاَنَهَا مِرَارًا, وَأَقْرَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ
وَعَمِلَ عُمْرَتَهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ
شَوَّالٍ إثْرَ إحْلاَلِهِ مِنْهَا ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَبْرَحْ
حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَلاَ
صَوْمَ; وَقَدْ أَسْقَطَ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ إلَى مَا
دُونَ التَّنْعِيمِ دَاخِلَ الْعَامِ لِحَاجَةٍ فَلَمَّا صَارَ هُنَالِكَ وَهُوَ
لاَ يُرِيدُ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً بَدَا لَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَاعْتَمَرَ مِنْ
التَّنْعِيمِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ; ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ مِنْ
عَامِهِ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ صَوْمَ عِنْدَهُمَا; وَهُوَ قَدْ أَسْقَطَ
السَّفَرَيْنِ جَمِيعًا سَفَرَ الْحَجِّ وَسَفَرَ الْعُمْرَةِ. ثُمَّ يَقُولاَنِ
فِيمَنْ حَجَّ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ إثْرَ ظُهُورِ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَاعْتَمَرَ,
ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْبَيْدَاءِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ بَرِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ, أَوْ إلَى مَدِينَةِ الْفُسْطَاطِ, وَهُوَ مِنْ أَهْلِ
الإِسْكَنْدَرِيَّة عِنْدَ مَالِكٍ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ: فَعَلَيْهِ
الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, وَهُوَ لَمْ يُسْقِطْ سَفَرًا أَصْلاً; فَظَهَرَ
فَسَادُ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي لاَ عِلَّةَ أَفْسَدَ مِنْهَا, وَلاَ أَبْطَلَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِمَّنْ يَرَى الْهَدْيَ فِي الْقِرَانِ
بِأَنْ قَالَ: قَدْ صَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ,
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْقِرَانَ: تَمَتُّعًا, وَهُمْ
الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ; فَإِذْ الْقِرَانُ تَمَتُّعٌ فَالْهَدْيُ فِيهِ, أَوْ
الصَّوْمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي إيجَابِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ.
(7/168)
قال
أبو محمد: لاَ يَخْتَلِفُ هَؤُلاَءِ، رضي الله عنهم، وَلاَ غَيْرُهُمْ فِي أَنَّ
عَمَلَ الْمُهِلِّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا هُوَ عَمَلٌ غَيْرُ عَمَلِ الْمُهِلِّ
بِعُمْرَةٍ فَقَطْ, ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ بِإِهْلاَلٍ آخَرَ مُبْتَدَأً;
فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ هُوَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَهَبْكَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يُسَمَّى تَمَتُّعًا إلاَّ أَنَّهُمَا
عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي
ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ
عليه السلام بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, فَكَانَ مِنْ النَّاس مَنْ أَهْدَى
فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ, فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى
فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَيَقْصُرْ وَيَحِلَّ; ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يَجْعَلَ مَعَ عُمْرَتِهِ
حَجًّا. فَصَحَّ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِالْهَدْيِ, أَوْ الصَّوْمِ وَلَمْ يَأْمُرْ
الْقَارِنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، نا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الْحِجَّةِ فَكُنْتُ
فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ
وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِي فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ
وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَلَمَّا كَانَتْ
لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّنَا أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ
الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْدَفَنِي, وَخَرَجَ بِي إلَى التَّنْعِيمِ
فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ, وَقَضَى اللَّهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا وَلَمْ يَكُنْ
فِي ذَلِكَ هَدْيٌ, وَلاَ صَدَقَةٌ, وَلاَ صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ أَنا
مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ
وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" فَصَحَّ
أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً, وَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام فِي ذَلِكَ هَدْيًا،
وَلاَ صَوْمًا.
(7/169)
فإن
قيل: إنَّهَا، رضي الله عنها، رَفَضَتْ عُمْرَتَهَا. قلنا: إنْ كُنْتُمْ
تُرِيدُونَ أَنَّهَا حَلَّتْ مِنْهَا فَقَدْ كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ; لإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا أَنَّ طَوَافَهَا وَسَعْيَهَا
يَكْفِيهَا لِحَجَّتِهَا وَعُمْرَتِهَا, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكْفِيَهَا، عَنْ
عُمْرَةٍ قَدْ أَحَلَّتْ مِنْهَا; وَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنَّهَا
رَفَضَتْهَا وَتَرَكَتْهَا بِمَعْنَى أَخَّرَتْ عَمَلَ الْعُمْرَةِ مِنْ
الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتَّى أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَطَافَتْ وَسَعَتْ
لِحَجَّتِهَا وَعُمْرَتِهَا مَعًا فَنَعَمْ, وَهَذَا قَوْلُنَا. فإن قيل: فَإِنَّ
وَكِيعًا رَوَى هَذَا الْخَبَرَ فَجَعَلَ قَوْلَهَا, وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ
هَدْيٌ، وَلاَ صَوْمٌ مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ قلنا: فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
نُمَيْرٍ, وَعَبْدَةَ جَعَلاَهُ مِنْ كَلاَمِ عَائِشَةَ, وَمَا ابْنُ نُمَيْرٍ
دُونَ وَكِيعٍ فِي الْحِفْظِ, وَالثِّقَةِ, وَكَذَلِكَ عَبْدَةٌ; وَكِلاَ
الرِّوَايَتَيْنِ حَقٌّ قَالَتْهُ هِيَ, وَقَالَهُ هِشَامٌ, وَنَحْنُ أَيْضًا
نَقُولُهُ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَهْدَى، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ قلنا:
نَعَمْ, وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ الإِهْدَاءِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ
كَانَ أَضَاحِيَ, لاَ هَدْيَ مُتْعَةٍ, وَلاَ هَدْيًا، عَنْ قِرَانٍ.
قال أبو محمد: وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ, وَجَابِرٍ وُجُوبُ الْهَدْيِ
عَلَى الْقَارِنِ قلنا: أَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ فَإِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ, فَعَبْدُ السَّلاَمِ ضَعِيفٌ, وَأَبُو مَعْشَرٍ
مِثْلُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يُولَدْ إلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ جَابِرٍ فَرُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ
عُبَيْدَةَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ بِغَيْرِ هَدْيٍ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ
أَحَدًا مِنَّا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ, فَمُوسَى ضَعِيفٌ, وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ
عَجِبَ أَلْبَتَّةَ; ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِقَوْلِنَا;
لإِنَّ ظَاهِرَهَا الْمَنْعُ مِنْ الْقِرَانِ دُونَ أَنْ يَسُوقَ مَعَ نَفْسِهِ
هَدْيًا, وَهَكَذَا نَقُولُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا لَكَانَ لاَ
حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكَانَ
قَدْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ مَعَ
قَوْمٍ، عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مَا كَفَّارَتُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
كَفَّارَتُهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرَيْنِ, وَيَرْجِعُونَ بِأَجْرٍ فَلَوْ كَانَ
عَلَيْهِ هَدْيٌ لاََفْتَاهُمْ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَرَنَ بَيْنَ
حَجٍّ, وَعُمْرَةٍ, وَلَمْ يُهْدِ قَالَ الْحَكَمُ: وَقَرَنَ أَيْضًا شُرَيْحٌ
بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, وَلَمْ يُهْدِ. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ
(7/170)
إسْمَاعِيلَ،
هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: إذَا قَرَنَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَاةٌ, فَقَالَ ابْنُ
عُمَرَ: الصِّيَامُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاةٍ قلنا: نَعَمْ, وَأَنْتُمْ أَوَّلُ
مَنْ خَالَفَ ابْنَ عُمَرَ فِي هَذَا; وَمِنْ التَّلاَعُبِ فِي الدِّينِ أَنْ
تُوجِبُوا قَوْلَ الصَّاحِبِ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا إذَا وَافَقَ قَوْلَ
أَبِي حَنِيفَةَ, أَوْ مَالِكٍ, أَوْ الشَّافِعِيِّ, وَغَيْرَ حُجَّةٍ إذَا
خَالَفَهُمْ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ, مِنْ مُعْتَمِرٍ,
أَوْ قَارِنٍ, أَوْ مُتَمَتِّعٍ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ; فَفَرَضَ عَلَيْهِ
أَنْ يَجْعَلَ آخِرَ عَمَلِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, فَإِنْ تَرَدَّدَ بِمَكَّةَ
بَعْدَ ذَلِكَ أَعَادَ الطَّوَافَ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَطُفْ
بِالْبَيْتِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ, وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ بِأَقْصَى
الدُّنْيَا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ, فَإِنْ خَرَجَ، عَنْ مَنَازِلِ مَكَّةَ
فَتَرَدَّدَ خَارِجًا مَاشِيًا, فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ إلاَّ
الَّتِي تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ
تَنْتَظِرَ طُهْرَهَا لِتَطُوفَ لَكِنْ تَخْرُجُ كَمَا هِيَ; فَإِنْ حَاضَتْ
قَبْلَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ فَلاَ بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَظِرَ حَتَّى تَطْهُرَ,
وَتَطُوفَ, وَتُحْبَسُ عَلَيْهَا الْكِرَى وَالرُّفْقَةُ: فَلَمَّا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ قَالَ: نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ
سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ
يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، نا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ
عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ
بَعْدَمَا أَفَاضَتْ فَذَكَرَتْ حَيْضَتَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ عليه السلام: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَاضَتْ
بَعْدَ الإِفَاضَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"فَلْتَنْفِرْ".
قال أبو محمد: فَمَنْ خَرَجَ وَلَمْ يُوَدِّعْ مِنْ غَيْرِ الْحَائِضِ فَقَدْ
تَرَكَ فَرْضًا لاَزِمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ قَوْمًا نَفَرُوا وَلَمْ يُوَدِّعُوا
فَرَدَّهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَدَّعُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَخُصَّ عُمَرُ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ. وقال مالك:
بِتَحْدِيدِ مَكَان إذَا بَلَغَهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ
يُوجِبْهُ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَدَّ عُمَرُ
(7/171)
ابْنُ
الْخَطَّابِ نِسَاءً مِنْ ثَنِيَّةَ هَرْشَى كُنَّ أَفَضْنَ يَوْمَ النَّحْرِ
ثُمَّ حِضْنَ فَنَفَرْنَ فَرَدَّهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطُفْنَ بِالْبَيْتِ,
ثُمَّ بَلَغَ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَا صَنَعَ فَتَرَكَ صُنْعَهُ
الأَوَّلَ.
قال أبو محمد: هَرْشَى هِيَ نِصْفُ الطَّرِيقِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ
بَيْنَ الأَبْوَاءِ وَالْجُحْفَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ الأَبْوَاءِ وَبِهَا
عَلَمَانِ مَبْنِيَّانِ عَلاَمَةً; لاَِنَّهُ نِصْفُ الطَّرِيقِ. وَقَدْ رُوِيَ
أَثَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
أَفْتَيَاهُ فِي الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ, ثُمَّ تَحِيضُ
أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ".
قال أبو محمد: الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ; ثُمَّ لَوْ
صَحَّ لَكَانَ دَاخِلاً فِي جُمْلَةِ أَمْرِهِ عليه السلام أَنْ لاَ يَنْفِرَ
أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ وَعُمُومُهُ, وَكَأَنْ يَكُونَ
أَمْرُهُ عليه السلام الْحَائِضَ الَّتِي أَفَاضَتْ بِأَنْ تَنْفِرَ حُكْمًا
زَائِدًا مَبْنِيًّا عَلَى النَّهْيِ الْمَذْكُورِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ
لِيُسْتَعْمَلَ الْخَبَرَانِ مَعًا، وَلاَ يُخَالَفَ شَيْءٌ مِنْهُمَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَنْ تَرَكَ عَمْدًا أَوْ بِنِسْيَانٍ شَيْئًا مِنْ طَوَافِ
الإِفَاضَةِ أَوْ مِنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
فَلْيَرْجِعْ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا مُمْتَنِعًا مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ, فَإِنْ خَرَجَ ذُو الْحِجَّةِ قَبْلَ أَنْ
يَطُوفَ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ لِطَوَافِ
الْوَدَاعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ النِّسَاءِ فَلاَِنَّ طَوَافَ الإِفَاضَةِ
فَرْضٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّهَا شَوَّالٌ, وَذُو الْقَعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ
يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ
أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَكُونَ مُخَالِفًا لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا
امْتِنَاعُهُ مِنْ النِّسَاءِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ
فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهُوَ مَا لَمْ يُتِمَّ فَرَائِضَ الْحَجِّ
فَهُوَ فِي الْحَجِّ بَعْدُ. وَأَمَّا رُجُوعُهُ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَلَيْسَ
هُوَ فِي حَجٍّ, وَلاَ فِي عُمْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ, وَلاَ أَنْ
يَمْتَنِعَ مِنْ النِّسَاءِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ
رَسُولُ اللَّهِ, وَلاَ إحْرَامَ إلاَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ لِطَوَافٍ
مُجَرَّدٍ فَلاَ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ مَنْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى خَرَجَ
ذُو الْحِجَّةِ, أَوْ حَتَّى وَطِئَ عَمْدًا فَحَجُّهُ بَاطِلٌ, فَلِمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ
الْجَهْضَمِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: إنِّي أَمْسَيْتُ وَلَمْ أَرْمِ قَالَ: "ارْمِ، وَلاَ
حَرَجَ" فَأَمَرَ عليه السلام بِالرَّمْيِ الْمَذْكُورِ, وَأَمْرُهُ
(7/172)
فَرْضٌ,
وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي تَأْخِيرِهِ فَهُوَ بَاقٍ مَا
دَامَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ شَيْءٌ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ
الْحَجِّ; لاَِنَّهُ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إنْ
ذَكَرَ, وَهُوَ بِمِنًى رَمَى, وَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَنْفِرَ فَإِنَّهُ
يَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ وَيُحَافِظُ عَلَى الْمَنَاسِكِ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يُبْطِلُ حَجَّ الْمُسْلِمِ بِأَنْ
بَاشَرَ امْرَأَتَهُ حَتَّى أَمْنَى مِنْ غَيْرِ إيلاَجٍ, وَلاَ نَهْيَ، عَنْ
ذَلِكَ أَصْلاً لاَ فِي قُرْآنٍ, وَلاَ فِي سُنَّةٍ, وَلاَ جَاءَ بِإِبْطَالِ
حَجَّةٍ بِذَلِكَ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ, ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ
حَجَّهُ بِتَرْكِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, وَتَرْكِ مُزْدَلِفَةَ, وَقَدْ
صَحَّ الأَمْرُ بِهِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ يُجْزِئُ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
طَوَافٌ وَاحِدٌ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَهُمَا جَمِيعًا, وَسَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَهُمَا جَمِيعًا, كَالْمُفْرِدِ
سَوَاءٌ سَوَاءٌ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا
اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُمْ:
اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي, ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ
بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ, وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحْلِقْ,
وَلاَ قَصَّرَ, وَلاَ أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمُ
النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ, وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، نا
وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمَتْ, وَلَمْ تَطُفْ
بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا, وَقَدْ أَهَلَّتْ
بِالْحَجِّ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفَرِ:
"يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" فَأَبَتْ, فَبَعَثَ بِهَا
مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ
بَعْدَ الْحَجِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، نا
زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِي عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ، عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ; وَفِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
دَخَلَ عَلَيْهَا, وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ:
(7/173)
"مَا
شَأْنُكِ" قَالَتْ: [شَأْنِي أَنِّي] قَدْ حِضْتُ, وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ,
وَلَمْ أَحْلِلْ, وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ
الآنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هَذَا أَمْرٌ
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي, ثُمَّ أَهِلِّي
بِالْحَجِّ" فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ
طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ
جَمِيعًا".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَا أَشْهَبُ أَنَّ مَالِكًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ ابْنَ
شِهَابٍ وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَاهُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ
بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, ثُمَّ حَلُّوا, ثُمَّ طَافُوا
طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ; وَأَمَّا الَّذِينَ
كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، نا أَبُو
الْمُصْعَبِ, وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَكَانِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: نا
الدَّرَاوَرْدِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلْيَطُفْ
لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا".
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لِلْقَارِنِ سَعْيٌ وَاحِدٌ,
وَلِلْمُتَمَتِّعِ سَعْيَانِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَكْفِيك لَهُمَا طَوَافُك الأَوَّلُ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَعْنِي الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَلَفَ لِي
طَاوُوس مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ إلاَّ طَوَافًا وَاحِدًا. وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
لِلْقَارِنِ طَوَافًا وَاحِدًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خِلاَفَ مَا
يَحْفَظُ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، نا أَبُو
بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: لَوْ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا تُخِصُّ لَهُمَا طَوَافًا
وَاحِدًا وَلَكُنْتُ مُهْدِيًا يَعْنِي سُوقَ الْهَدْيِ قَبْلَ الإِحْرَامِ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ,
(7/174)
وَسَالِمِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ,
وَالزُّهْرِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي
ثَوْرٍ, وَدَاوُد, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ, وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الصُّبَيّ بْنَ مَعْبَدٍ قَرَنَ
بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ,
وَلَمْ يَحِلَّ بَيْنَهُمَا وَأَهْدَى, وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ, فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ, ويَاسِين الزَّيَّاتِ قَالَ يَاسِين:
عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ وَقَالَ عَبَّادٌ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ
بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ, ثُمَّ قَعَدَ
فِي الْحِجْرِ سَاعَةً, ثُمَّ قَامَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا لِحَجِّهِ, ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى أَنَّ النَّبِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ
لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ. وَرُوِيَ، عَنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ
وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ; وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ أُذَيْنَةَ; وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ
بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ, وَمِنْ
طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَزِيَادِ بْنِ
مَالِكٍ, وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ
أَبُو نَصْرِ بْنُ عَمْرٍو, وَالرَّجُلُ السُّلَمِيُّ, وَالرَّجُلُ الْعُذْرِيُّ,
وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أُذَيْنَةَ, وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ, وَزِيَادُ
بْنُ مَالِكٍ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ:
يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ
بْنِ زَاذَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مَالِكٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ, ثُمَّ اتَّفَقَ زِيَادُ بْنُ مَالِكٍ, وَأَبُو إِسْحَاقَ
كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَارِنِ طَوَافَانِ, وَسَعْيَانِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الأَسْوَدِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا قَرَنْتَ بَيْنَ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ فَطُفْ طَوَافَيْنِ وَاسْعَ سَعْيَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ,
وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَرُوِيَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ
يَزِيدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ;
وَأَشَارَ نَحْوَهُ الأَوْزَاعِيُّ وَهَا هُنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
(7/175)
قَالَ:
نا جَهْمُ بْنُ وَاقِدٍ الأَنْصَارِيُّ سَأَلَتْ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ
فَقُلْتُ: قَرَنْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَقَالَ: تَطُوفُ طَوَافَيْنِ
بِالْبَيْتِ وَيُجْزِئُك سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى السَّعْيَ
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ; فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ
عِنْدَهُ سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا; لاَِنَّهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَا شَغَبَ بِهِ, مَنْ يَرَى أَنْ يَطُوفَ الْقَارِنُ
طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَاقِطٌ
كُلُّهُ لاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رَوَوْا فِي
ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يَصِحُّ مِنْهُ, وَلاَ كَلِمَةٌ
وَاحِدَةٌ, وَلَكِنَّهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ صَحِيحٌ إلاَّ عَنِ
الأَسْوَدِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ.
أَمَّا حَدِيثُ الضَّبِّيِّ بْنِ مَعْبَدٍ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُدْرِكْ
الضَّبِّيَّ, وَلاَ سَمِعَ مِنْهُ, وَلاَ أَدْرَكَ عُمَرَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ,
وَقَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ: مُجَاهِدٌ, وَمَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الضَّبِّيِّ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ طَوَافًا, وَلاَ
طَوَافَيْنِ, وَلاَ سَعْيًا, وَلاَ سَعْيَيْنِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ
قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَطْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَمُرْسَلٌ; ثُمَّ هُوَ أَيْضًا، عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ;، وَلاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِرِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ, فَعَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ,
ويَاسِين, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ جِدًّا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ, فَسَقَطَ كُلُّ ذَلِكَ,
وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ الرِّوَايَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ.
وَوَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرًا لِمَنْ يُعَارِضُ رِوَايَةَ
عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَعُرْوَةَ, عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَةُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ, كِلاَهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُفُونَاتِ الذَّفِرَةِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ فَأَبُو نَصْرِ بْنِ عَمْرٍو, وَعَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ أُذَيْنَةَ, وَزِيَادُ بْنُ مَالِكٍ, وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي
عُذْرَةَ, وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى مَنْ هُمْ وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ
فَلَمْ يُدْرِكْهُ عَلِيًّا، وَلاَ وَلَدًا إلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ، عَنِ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ, فَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ
وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
فَزِيَادُ بْنُ مَالِكٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلَمْ
يُولَدْ إلاَّ سَنَةَ مَوْتِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ بَعْدَهَا.
فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يُعَارِضُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَرِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرِوَايَةَ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ
الصَّحَابَةِ جُمْلَةً, وَرِوَايَةَ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ, وَرِوَايَةَ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ كُلِّ
مَنْ قَرَنَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
(7/176)
صلى
الله عليه وسلم بِهَذِهِ النَّطَائِحِ الْمُتَرَدِّيَاتِ, وَهَذَا لِمَنْ
تَأَمَّلَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَكْدَحُ فِيهِ مَا جَاءَ
بَعْدَهُ لَوْ جَاءَ فَكَيْفَ وَكُلُّهُ بَاطِلٌ مُطْرَحٌ؟
قال أبو محمد: وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رَوَاهُ
طَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرَوَاهُ عَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ, وَرَوَاهُ طَاوُوس، عَنْ سُرَاقَةَ, كُلُّهُمْ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ تَحْتَاجَ الْعُمْرَةُ إلَى عَمَلٍ غَيْرِ
عَمَلِ الْحَجِّ, وَقَدْ دَخَلَتْ فِيهِ; وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا
احْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ السُّقَّاطِ الَّذِينَ يُؤْنَسُ بِالْخَيْرِ
فَقْدُهُمْ مِنْهُ, وَيُوحَشُ مِنْهُ وُجُودُهُمْ فِيهِ. ثُمَّ يَقُولُونَ فِي
الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِهِ مَنْ قَرَنَ بَيْنَ
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يَطُوفَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا
وَاحِدًا: هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ, نَعَمْ, إنَّهُ لَمِنْ
رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ الثِّقَةِ الْمَأْمُونِ, لاَ مِنْ رِوَايَةِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ, وَعَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ, ويَاسِين الزَّيَّاتِ,
الْمُطْرَحَيْنِ الْمَتْرُوكَيْنِ. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ: أَنَّ فِي رِوَايَةِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أُذَيْنَةَ الْمَذْكُورِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ لِمَنْ بَدَأَ بِالإِهْلاَلِ بِالْحَجِّ أَنْ يُرْدِفَ عَلَيْهِ عُمْرَةً
فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا رَوَى ابْنُ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ
الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ حُجَّةً خَالَفَ لَهَا
السُّنَنَ الثَّابِتَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ, وَلَمْ يَجْعَلْ مَا رَوَاهُ
ابْنُ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَدَأَ
بِالإِهْلاَلِ بِالْحَجِّ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ عُمْرَةً: حُجَّةً, فَمَا هَذَا
التَّلاَعُبُ وَلَئِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي
أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ حُجَّةً: إنَّهَا لَحُجَّةٌ فِي الْوَجْهِ الآخَرِ, وَلَئِنْ
لَمْ تَكُنْ حُجَّةً فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَمَا هِيَ حُجَّةٌ فِي الآخَرِ.
ثُمَّ اعْتَرَضُوا فِي الآثَارِ الْوَارِدَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ
مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا, وَلَوْ أَنَّ
الَّذِي احْتَجَّ بِهَذَا يَسْتَحْيِي مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ النَّاسِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَبْلُغَ إلَى الْحَيَاءِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ, ثُمَّ مِنْ الَّذِي إلَيْهِ
مَعَادُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَرَدَعَهُ عَنْ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ.
وَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَفِيهِ مِنْ تَمَتُّعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ, ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ
فَوَصَفَ عَمَلَ الْقِرَانِ وَسَمَّاهُ: تَمَتُّعًا.
وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْمُجَاهِرَ بِهَذِهِ الْعَظِيمَةِ يُنَاظِرُ الدَّهْرَ
فِي إثْبَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا, ثُمَّ
أَضْرَبَ، عَنْ ذَلِكَ الآنَ وَجَعَلَ يُوهِمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا,
وَهَذَا مِنْ الْغَايَةِ فِي السَّمَاجَةِ وَالصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ,
وَاعْتَرَضَ فِي الآثَارِ الْمَذْكُورَةِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ
(7/177)
مِنْ
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اُرْفُضِي الْعُمْرَةَ, وَدَعِي
الْعُمْرَةَ, وَاتْرُكِي الْعُمْرَةَ, وَامْتَشِطِي, وَانْقُضِي رَأْسَكِ,
وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" وَأَوْهَمَ هَذَا الْمُكَابِرُ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ:
أَنَّهَا أَحَلَّتْ مِنْ الْعُمْرَةِ; وَهَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ مَعْنَى اُرْفُضِي
الْعُمْرَةَ, وَدَعِي الْعُمْرَةَ, وَاتْرُكِي الْعُمْرَةَ, وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ
أَنْ تَدَعَ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ وَتَتْرُكَهُ, وَتَرْفُضَ
عَمَلَ الْعُمْرَةِ مِنْ أَجْلِ حَيْضِهَا, وَتُدْخِلَ حَجًّا عَلَى عُمْرَتِهَا,
فَتَكُونَ قَارِنَةً, فَإِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ حِينَئِذٍ لِلْعُمْرَةِ
وَلِلْحَجِّ.
وَأَمَّا نَقْضُ الرَّأْسِ وَالاِمْتِشَاطُ فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الإِحْرَامِ
بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا حِينَئِذٍ
طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ
لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْفِيَهَا طَوَافُهَا
وَسَعْيُهَا لِعُمْرَةٍ قَدْ أَحَلَّتْ مِنْهَا لَوْلاَ الْهَوَى الْمُعْمِي
الْمُصِمُّ الْمُقْحِمُ فِي بِحَارِ الضَّلاَلَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ.
فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا كَفَاهَا طَوَافُهَا وَسَعْيُهَا لِحَجِّهَا
وَعُمْرَتِهَا اللَّذَيْنِ كَانَتْ قَارِنَةً بَيْنَهُمَا; هَذَا مَا لاَ يَحِيلُ
عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ, وَلَمْ يَجِدْ مَا يُمَوِّهُ بِهِ فِي حَدِيثِ
جَابِرٍ, وَلاَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا
بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مِنْ الصَّحَابَةِ طَافُوا لَهُمَا طَوَافًا
وَاحِدًا. فَرَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ عَلِيًّا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي حَجِّهِ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ, فَلَمْ يَقُلْ مَا
قَالَ إلاَّ عَنْ عِلْمٍ فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: إنَّك تَنْسِبُ
إلَى عَلِيٍّ الْبَاطِلَ, وَقَوْلاً لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ قَطُّ, ثُمَّ لَوْ
ثَبَتَ عَنْهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ أَبْطَنَ
بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَ بِهِ مِنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِ عَلِيٍّ;
وَإِذْ صَارَ عَلِيٌّ هَاهُنَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَإِطْرَاحُ السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ; وَأَقْوَالِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلٍ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ,
فَهَلاَّ وَجَبَ تَقْلِيدُهُ فِي الثَّابِتِ عَنْهُ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ
الأَوْلاَدِ, وَمِنْ قَوْلِهِ: إنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسَ
شِيَاهٍ; وَسَائِرِ مَا خَالَفُوهُ فِيهِ لِمَا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا تَرَكُوا
هَاهُنَا وَلَكِنَّ الْهَوَى إلَهٌ مَعْبُودٌ.
وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ
قَالَتْ لاُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي بَيْعِهَا غُلاَمًا مِنْ زَيْدٍ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ, ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ
بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا: أَبْلِغْ زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ
جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ: مِثْلُ هَذَا
لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ,
وَجَابِرٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ
وَاحِدٌ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ, وَلَكِنْ حَسْبُهُمْ وَنَصْرُ
الْمَسْأَلَةِ الْحَاصِلَةِ الْحَاضِرَةِ بِمَا يُمْكِنُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/178)
ويجزِى
في الهدي المعيب والسالم أحب إلينا ولا تجزِئ جذعة من الإبل ولا من البقرِ ولا من
الغنم إلا في جزاء الصيد فقط
...
837 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ: الْمَعِيبُ, وَالسَّالِمُ أَحَبُّ
إلَيْنَا، وَلاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ مِنْ الإِبِلِ, وَلاَ مِنْ الْبَقَرِ, وَلاَ
مِنْ الْغَنَمِ, إلاَّ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَقَطْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعَرْجَاءِ
الْبَيِّنِ عَرَجُهَا, وَالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا,
(7/178)
وَالْمَرِيضَةِ
الْبَيِّنِ مَرَضُهَا, وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لاَ تُنَقَّى, وَأَنْ لاَ يُضَحَّى
بِشَرْقَاءَ, وَلاَ خَرْقَاءَ, وَلاَ مُقَابِلَةٍ, وَلاَ مُدَابِرَةٍ, إنَّمَا
جَاءَ فِي الأَضَاحِيّ نَصًّا, وَالآُضْحِيَّةُ غَيْرُ الْهَدْيِ, وَالْقِيَاسُ
بَاطِلٌ. وَقَدْ وَافَقْنَا الْمُخَالِفَ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِ الْهَدْيِ
وَالآُضْحِيَّةِ فِي الإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ, وَحُكْمُهُ إذَا عَطِبَ قِبَلَ
مَحِلِّهِ. فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ حُكْمُ الْهَدْيِ عَلَى الأَضَاحِيّ
فِي مَكَان, وَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ فِي مَكَان آخَرَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ
مُفَرِّقٍ بَيْنَ ذَلِكَ, وَالْهَدْيُ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ, وَلاَ
تَجُوزُ الآُضْحِيَّةَ عِنْدَهُمْ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ; فَبَطَلَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجَذَعَةُ: فَلِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ
يَحْيَى أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ خَالَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ
قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ هَذَا الْيَوْمَ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ, وَإِنِّي عَجَّلْتُ نَسِيكَتِي
لاُِطْعِمَ أَهْلِي, وَجِيرَانِي, وَأَهْلَ دَارِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "أَعِدْ نُسُكًا" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ عِنْدِي عِنَاقَ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَقَالَ عليه
السلام: "هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ, وَلاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَكَ".
وَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ عليه السلام وَابْتِدَاءُ قَضِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهَا
وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى الآُضْحِيَّةَ لَوْ قَالَ عليه
السلام: "وَلاَ تُجْزِئُ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك", فَكَانَ يَكُونُ
الضَّمِيرُ مَرْدُودًا إلَى الآُضْحِيَّةَ; لَكِنْ ابْتَدَأَ عليه السلام
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهَا; فَعَمَّ وَلَمْ
يَخُصَّ. وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا جَزَاءَ الصَّيْدِ بِنَصِّ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَعَمَّ تَعَالَى أَيْضًا, وَوَجَبَ أَنْ
يُجْزِئَ الْجَذَعُ بِمِثْلِهِ, وَالصَّغِيرُ بِمِثْلِهِ, وَالْمَعِيبُ بِمِثْلِهِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/179)
(6/177)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق