الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

ج5. وج6.كتاب : 5.المحلى المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي

 

كتاب : 5.المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

838. - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَ, فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ, فَإِنْ غَطَّى قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ, فَلاَ يُسَمَّى: عُرْيَانَ, فَإِنْ انْكَشَفَ سَاهِيًا لَمْ يَضُرَّهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ كُنَّا نُنَادِي أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}.

(7/179)


839 - مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَائِزٌ, وَلِلنُّفَسَاءِ, وَلاَ يَحْرُمُ إلاَّ عَلَى الْحَائِضِ فَقَطْ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ حَاضَتْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَمَرَهَا عليه السلام بِأَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ, وَلَمْ يَنْهَهَا، عَنِ الطَّوَافِ;

(7/179)


840 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مِنْ الطَّوَافِ إلاَّ شَوْطٌ أَوْ بَعْضُهُ, أَوْ أَشْوَاطٌ, فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَتَقْطَعُ، وَلاَ بُدَّ, فَإِذَا طَهُرَتْ بَنَتْ عَلَى مَا كَانَتْ طَافَتْهُ, وَلَهَا أَنْ تَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; لاَِنَّهَا لَمْ تُنْهَ إلاَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ. وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى إجَازَةِ كُلِّ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ, لإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَهَا، عَنْ ذَلِكَ, فَكَذَلِكَ لَمْ يَنْهَ الْجُنُبَ, وَلاَ النُّفَسَاءَ, عَنِ الطَّوَافِ, وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/180)


841 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَطَعَ طَوَافَهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِكَلَلٍ بَنَى عَلَى مَا طَافَ, وَكَذَلِكَ السَّعْيُ; لاَِنَّهُ قَدْ طَافَ مَا طَافَ كَمَا أُمِرَ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُهُ, فَلَوْ قَطَعَهُ عَابِثًا فَقَدْ بَطَلَ طَوَافُهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَطُفْ كَمَا أُمِرَ.

(7/180)


842 - مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ رَاكِبًا جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُ الْجَمْرَةِ: لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ثَنِيّ أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ هُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ

(7/180)


843 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّبَاعُدُ، عَنِ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ إلاَّ فِي الزِّحَامِ; لإِنَّ التَّبَاعُدَ عَنْهُ عَمَلٌ بِخِلاَفِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبَثٌ لاَ مَعْنَى لَهُ فَلاَ يَجُوزُ.

(7/181)


844 - مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ جَائِزٌ, وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ, وَعِنْدَ غُرُوبِهَا, وَيَرْكَعُ عِنْدَ ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الزُّهْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ بِإِسْنَادِهِ: وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ, وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: الطَّوَافُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصَّلاَةُ حِينَئِذٍ إثْرَ الطَّوَافِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ: وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: إنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ جُمْلَةً فَمَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ فَقَدْ تَحَكَّمَ بِلاَ دَلِيلٍ.

(7/181)


845 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ فِي رَمْيِ الْجَمْرَةِ, وَالْحَلْقِ, وَالنَّحْرِ, وَالذَّبْحِ, وَطَوَافِ الإِفَاضَةِ, وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهَا شِئْت عَلَى أَيُّهَا شِئْت لاَ حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَادَ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ, وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ وَقَالَ: إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ قَالَ فَمَا رَأَيْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ، عَنْ شَيْءٍ إلاَّ قَالَ: افْعَلُوا، وَلاَ حَرَجَ". وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(7/181)


ومن لم يبِت ليالي منى بمنى فقد أساء ولا شي عليه
...
846 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبِتْ لَيَالِيَ مِنًى بِمِنًى فَقَدْ أَسَاءَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الرِّعَاءَ وَأَهْلَ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَلاَ نَكْرَهُ لَهُمْ الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ مِنًى; بَلْ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدْعُوا يَوْمًا. فَصَحَّ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الرَّمْيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى لَيْسَ فَرْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا أَبِي، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى فَأَذِنَ لَهُ.
قال أبو محمد: فَأَهْلُ السِّقَايَةِ مَأْذُونٌ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ, وَبَاتَ عليه السلام بِمِنًى وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَبِيتِ بِهَا, فَالْمَبِيتُ بِهَا سُنَّةٌ, وَلَيْسَ فَرْضًا, لإِنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا هُوَ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.
فإن قيل: إنَّ إذْنَهُ لِلرِّعَاءِ وَتَرْخِيصَهُ لَهُمْ وَإِذْنَهُ لِلْعَبَّاسِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ بِخِلاَفِهِمْ قلنا: لاَ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ مِنْهُ عليه السلام أَمْرٌ بِالْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ, فَكَانَ يَكُون هَؤُلاَءِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ سَائِرِ مَنْ أُمِرُوا, وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ أَمْرٌ عليه السلام فَنَحْنُ نَدْرِي أَنَّ هَؤُلاَءِ

(7/184)


مَأْذُونٌ لَهُمْ, وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، وَلاَ مَنْهِيًّا فَهُمْ عَلَى الإِبَاحَةِ: رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "لاَ يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ أَيَّامَ مِنًى" وَصَحَّ هَذَا عَنْهُ رضي الله عنه وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ هَذَا; وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمَبِيتَ بِغَيْرِ مِنًى أَيَّامَ مِنًى, وَلَمْ يَجْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ لِمَنْ كَانَ لَهُ مَتَاعٌ بِمَكَّةَ أَنْ يَبِيتَ بِهَا لَيَالِي مِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا رَمَيْت الْجِمَارَ فَبِتْ حَيْثُ شِئْت. وَبِهِ إلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ، نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى فِي ضَيْعَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِمَكَّةَ وَآخِرَهُ بِمِنًى أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِمِنًى وَآخِرَهُ بِمَكَّةَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ بَاتَ لَيَالِيَ مِنًى بِمَكَّةَ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَعَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَبِتْ بِمِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا بَاتَ دُونَ الْعَقَبَةِ أَهْرَقَ دَمًا. وقال أبو حنيفة: بِمِثْلِ قَوْلِنَا, وَقَالَ سُفْيَانُ: يُطْعِمُ شَيْئًا, وقال مالك: مَنْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى بِغَيْرِ مِنًى أَوْ أَكْثَرَ لَيْلَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ بَاتَ الأَقَلَّ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي التَّشْرِيقِ فِي غَيْرِ مِنًى فَلْيَتَصَدَّقْ بِمُدٍّ فَإِنْ بَاتَ لَيْلَتَيْنِ, فَمُدَّانِ فَإِنْ بَاتَ ثَلاَثًا فَدَمٌ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثُ دَمٍ, وَفِي لَيْلَتَيْنِ ثُلُثَا دَمٍ وَفِي ثَلاَثِ لَيَالٍ دَمٌ.
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَقْوَالُ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا يَعْنِي الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِإِطْعَامِ شَيْءٍ أَوْ بِإِيجَابِ دَمٍ, أَوْ بِمُدٍّ, أَوْ مُدَّيْنِ, أَوْ ثُلُثِ دَمٍ, أَوْ ثُلُثَيْ دَمٍ, أَوْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَبِيتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ, أَوْ أَقَلَّهُ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَالْقَوْلُ بِهِ لاَ يَجُوزُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَالِكٍ, وَلاَ لِلشَّافِعِيِّ فِي أَقْوَالِهِمْ هَذِهِ سَلَفًا أَصْلاً, لاَ مِنْ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ تَابِعٍ.

(7/185)


847 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى يَوْمَيْنِ, ثُمَّ نَفَرَ, وَلَمْ يَرْمِ الثَّالِثَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ, وَمَنْ رَمَى الثَّالِثَ فَهُوَ أَحْسَنُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وقال أبو حنيفة: إنْ نَفَرَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ إلَى اللَّيْلِ لَزِمَهُ أَنْ يَرْمِي الثَّالِثَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, وَحُكْمٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ.

(7/185)


848 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتِّعَةُ بِعُمْرَةٍ إنْ حَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَفَرْضُهَا أَنْ تُضِيفَ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا إنْ كَانَتْ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ عَامِهَا وَتَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ حَاشَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, فَإِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ, وَهَذَا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ بِذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.

(7/186)


849 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ الْغُسْلُ فِي الْحَجِّ فَرْضًا إلاَّ الْمَرْأَةَ تُهِلُّ بِعُمْرَةٍ تُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَتَحِيضُ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَهَذِهِ تَغْتَسِلُ، وَلاَ بُدَّ وَتُقْرِنُ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا; وَالْمَرْأَةُ تَلِدُ قَبْلَ أَنْ تُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ, أَوْ بِالْقِرَانِ: فَفُرِضَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ, وَلْتُهِلَّ بِالْحَجِّ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حِضْتُ وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحِلَّ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الآنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" . وَلاَِمْرِهِ عليه السلام, أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ إذْ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ; وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِائْتِمَارِهَا لَهُ عليه السلام, وَأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَغْتَسِلاَ لَكَانَتَا عَاصِيَتَيْنِ, وَقَدْ أَعَاذَهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ ذَلِكَ.

(7/186)


850 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ تَعَمَّدَ مَعْصِيَةً أَيَّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِحَجِّهِ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ لِلإِفَاضَةِ وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ; فَإِنْ أَتَاهَا نَاسِيًا لَهَا, أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي نِسْيَانِهَا, وَحَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ تَامَّانِ فِي نِسْيَانِهِ كَوْنَهُ فِيهِمَا, وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ بَرَاءَتُهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ, فَمَنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُمَا فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إبْطَالُهُمْ الْحَجَّ بِتَقْبِيلِهِ امْرَأَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فَيُمْنِي وَلَمْ يَنْهَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ، عَنْ هَذَا; ثُمَّ لاَ يُبْطِلُونَهُ بِالْفُسُوقِ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ, وَتَرْكِ الصَّلاَةِ, وَسَائِرِ الْفُسُوقِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
وأعجب مِنْ ذَلِكَ إبْطَالُ أَبِي حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِوَطْءِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُؤَاخِذُ بِالنِّسْيَانِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ الْحَجَّ بِتَعَمُّدِ الْقَصْدِ إلَى أَنْ يَلُوطَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ يُلاَطَ بِهِ, فَهَلْ فِي الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ وأعجب شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا، وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يَأْتُوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،

(7/186)


851 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَمْكَنَهُ تَجْدِيدُ الإِحْرَامِ فَلْيَفْعَلْ وَيَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ وَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ وَأَفْسَدَهُ, وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: فِي سِبَابِ الْمُحْرِمِ دَمٌ; وَهُمْ يَجْعَلُونَ الدَّمَ فِيمَا لاَ يُكْرَهُ فِيهِ مِنْ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَجْعَلُونَهُ فِي السِّبَابِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحَجِّ.

(7/187)


852 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ مَغْصُوبٍ, أَوْ جَلاَّلٍ بَطَلَ حَجُّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ, وَأَمَّا مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَأَنْفَقَهُ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يَتَوَلَّ هُوَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ فَحَجُّهُ تَامٌّ.
أَمَّا الْمَغْصُوبُ, فَلاَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلِمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِيّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَهْمِ، نا عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْجَلاَّلَةِ فِي الإِبِلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا. وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ التَّنُّورِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رُكُوبِ الْجَلاَّلَةِ.
قال أبو محمد: وَالْجَلاَّلَةُ هِيَ الَّتِي عَلَفُهَا الْجُلَّةُ وَهِيَ الْعَذِرَةُ; فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ; لاَِنَّهُ عَاصٍ فِي وُقُوفِهِ عَلَيْهِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ طَاعَةٌ وَفَرْضٌ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ وَقَالَ عليه السلام: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ فَمَنْ وَقَفَ بِهَا حَامِلاً لِمَالٍ حَرَامٍ, فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ بَلْ وَقَفَ عَاصِيًا, فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ, وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لِلْحَرَامِ عَالِمًا بِهِ فَلَيْسَ عَاصِيًا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَقَدْ وَقَفَ كَمَا أُمِرَ, وَعَفَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَطَرِيقُهُ: فَهُوَ إنْ كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُبَاشِرْ

(7/187)


853 - مَسْأَلَةٌ: وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ, وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ مُحَسِّرٍ; لإِنَّ عَرَفَةَ مِنْ الْحِلِّ, وَبَطْنَ عُرَنَةَ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ غَيْرُ عَرَفَةَ; وَأَمَّا مُزْدَلِفَةُ فَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ; وَبَطْنُ مُحَسِّرٍ مِنْ الْحِلِّ فَهُوَ غَيْرُ مُزْدَلِفَةَ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا أَبُو نَصْرٍ النِّمَارُ هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا، عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ, وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا، عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ".

(7/188)


854 - مَسْأَلَةٌ: وَرَمْيُ الْجِمَارِ بِحَصًى قَدْ رُمِيَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُهَا رَاكِبًا حَسَنٌ; أَمَّا رَمْيُهَا بِحَصًى قَدْ رُمِيَ بِهِ فَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُ رُفِعَ, وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تُرِكَ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ هِضَابًا تَسُدُّ الطَّرِيقَ قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَإِنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ رَمْيُ هَذِهِ الْحَصَى مِنْ عَمْرٍو فَيُسْتَقْبَلُ مِنْ زَيْدٍ, وَقَدْ يَتَصَدَّقُ الْمَرْءُ بِصَدَقَةٍ فَلاَ يَقْبَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ; ثُمَّ يَمْلِكُ تِلْكَ الْعَيْنَ آخَرُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا فَتُقْبَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا رَمْيُهَا رَاكِبًا: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعٌ، نا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ, لاَ ضَرْبَ, وَلاَ طَرْدَ, وَلاَ إلَيْكَ إلَيْكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ: رَمْيُ الْجَمْرَتَيْنِ الآخِرَتَيْنِ رَاكِبًا أَفْضَلُ

(7/188)


855 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الْحَجَّ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْحَلاَلِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالأَمَةِ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ فَإِنْ وَطِئَهَا نَاسِيًا; لاَِنَّهُ فِي عَمَلِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ أَيْضًا حَجُّ الْمَوْطُوءَةِ وَعُمْرَتُهَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ; فَمَنْ جَامَعَ فَلَمْ يَحُجَّ, وَلاَ اعْتَمَرَ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَأَمَّا النَّاسِي, وَالْمُكْرَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.

(7/189)


856 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَطِئَ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ أَوْ شَيْءٌ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ كَمَا قلنا, قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . فَصَحَّ أَنَّ مَنْ رَفَثَ وَلَمْ يُكْمِلْ حَجَّهُ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَبْطُلُ الْحَجُّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ عَرَفَةَ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وقال مالك: إنْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ بَطَلَ حَجُّهُ, وَإِنْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ, وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ. فأما قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ عَرَفَةَ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا لإِنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَبِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِبَعْضِ قَوْلِهِ دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحَجُّ كَعَرَفَةَ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ" لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ غَيْرَ عَرَفَةَ أَيْضًا; وَقَدْ وَافَقَنَا الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ امْرَأً لَوْ قَصَدَ عَرَفَةَ فَوَقَفَ بِهَا فَلَمْ يُحْرِمْ، وَلاَ لَبَّى, وَلاَ طَافَ, وَلاَ سَعَى فَلاَ حَجَّ لَهُ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ".

(7/189)


857 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ وَطِئَ عَامِدًا كَمَا قلنا فَبَطَلَ حَجُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى عَمَلٍ فَاسِدٍ بَاطِلٍ لاَ يُجْزِئُ عَنْهُ لَكِنْ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ, فَإِنْ أَدْرَكَ تَمَامَ الْحَجِّ فَلاَ شَيْءَ

(7/189)


858 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَهُوَ يَظُنُّهُ التَّاسِعَ, وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْعَاشِرَةَ: فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْهَا; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه السلام الْوُقُوفَ بِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا. فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَقِفْ فِي وَقْتٍ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِيهِ فِيهِ. وَقَدْ تَيَقَّنَ الإِجْمَاعُ مِنْ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْخَالِفِ, وَالسَّالِفِ: أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْحَادِيَةَ

(7/191)


عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ حَجَّ لَهُ, وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهَا الْعَاشِرَةُ, وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ.

(7/192)


859 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِعِلْمٍ أَوْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ إلاَّ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَرَوْهُ رُؤْيَةً تُوجِبُ أَنَّهَا الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَفَرَضَ عَلَيْهِ الْوُقُوفَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ, وَإِلاَّ فَحَجُّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدَ نَفَرٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ فَذَهَبَ بِهِمْ سَالِمٌ إلَى ابْنِ هِشَامٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ فَلَمْ يَقْبَلْهُمْ فَوَقَفَ سَالِمٌ بِعَرَفَةَ لِوَقْتِ شَهَادَتِهِمْ, ثُمَّ دَفَعَ, فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَفَ مَعَ النَّاسِ.

(7/192)


860 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ فِي عَقْلِهِ فَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ, وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلاَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَحَجُّهُ تَامٌّ; لإِنَّ الإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُبْطِلاَنِ عَمَلاً تَقَدَّمَ أَصْلاً, وَلاَ جَاءَ بِذَلِكَ نَصٌّ أَصْلاً، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلَيْسَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" : فَذَكَرَ "النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَالْمُبْتَلَى حَتَّى يُفِيقَ وَالصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ" بِمُوجِبِ بُطْلاَنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ فَقَطْ, فَإِذَا أَفَاقُوا صَارُوا عَلَى حُكْمِهِمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(7/192)


861 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَلَمْ يُفِقْ, وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, سَوَاءٌ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ أَوْ لَمْ يَقِفْ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ شَيْئًا مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ سَلاَمِ الإِمَامِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ; فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ. فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَنَامَتْ, أَوْ جُنَّتْ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تَقِفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَلَمْ تُفِقْ، وَلاَ انْتَبَهَتْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهَا, وَسَوَاءٌ وَقَفَ بِهَا بِمُزْدَلِفَةَ, أَوْ لَمْ يَقِفْ, لإِنَّ الأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجْزِي عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ إلاَّ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَيْهِ مُؤَدًّى بِإِخْلاَصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ كَمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ

(7/192)


862 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنْ الرِّجَالِ فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ ذَكَرَ هَذَا الإِنْسَانُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ, وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/194)


863 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَصَيِّدًا لَهُ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ أَوْ عُمْرَتُهُ لِبُطْلاَنِ إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآيَةَ, فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا فِي إحْرَامِهِ فَإِذَا فَعَلَ فَلَمْ يُحْرِمْ كَمَا أُمِرَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَهُ بِإِحْرَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَعَمُّدُ قَتْلِ صَيْدٍ, وَهَذَا الإِحْرَامُ هُوَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ الإِحْرَامِ الَّذِي فِيهِ تَعَمُّدُ قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَمْ يَأْتِ بِالإِحْرَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ تَعَمُّدَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ فُسُوقٌ, وَمَنْ فَسَقَ فِي حَجِّهِ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلَمْ يَحُجَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَبْدُ الْوَارِثُ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَسَمَّاهُمْ: حُرُمًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا إقْدَامٌ مِنْهُمْ عَظِيمٌ عَلَى تَقْوِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ, وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى حُرُمًا, قَبْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ, وَنَهَاهُمْ إذَا كَانُوا حُرُمًا، عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ, وَمَا سَمَّاهُمْ تَعَالَى قَطُّ

(7/194)


864- مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَكُلُّ فُسُوقٍ تَعَمَّدَهُ الْمُحْرِمُ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَقَدْ بَطَلَ إحْرَامُهُ, وَحَجُّهُ, وَعُمْرَتُهُ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَصَحَّ أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْفُسُوقَ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ, أَوْ عُمْرَتِهِ, فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَقَدْ أَخْبَرَ عليه السلام: أَنَّ "الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَقَالَ عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: أَنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ كَمَا تَلَوْنَا فَأَبْطَلُوا الْحَجَّ بِالرَّفَثِ وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ; وأعجب مِنْ هَذَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَنْ وَطِئَ فِي إحْرَامِهِ نَاسِيًا غَيْرَ عَامِدٍ، وَلاَ ذَاكِرٍ لاَِنَّهُ مُحْرِمٌ امْرَأَتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَطْأَهَا قَبْلَ الإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ; فَلَوْ تَعَمَّدَ اللِّيَاطَةَ بِذَكَرٍ, أَوْ أَنْ يُلاَطَ بِهِ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَإِحْرَامُهُ مَبْرُورٌ فَأُفٍّ لِهَذَا الْقَوْلِ عَدَدَ الرَّمْلِ, وَالْحَصَى, وَالتُّرَابِ فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِأَنْ يَأْتِيَ مَا حُرِّمَ فِي حَالِ الإِحْرَامِ فَقَطْ, لاَ بِمَا هُوَ حَرَامٌ قَبْلَ الإِحْرَامِ, وَفِي الإِحْرَامِ وَبَعْدَ الإِحْرَامِ قلنا: وَعَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ الْفَاسِدِ سَأَلْنَاكُمْ، وَلاَ حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ, وَأَنْتُمْ تُبْطِلُونَ الصَّلاَةَ بِكُلِّ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ, قَبْلَهَا, وَفِيهَا, وَبَعْدَهَا, كَمَا تُبْطِلُونَهَا بِمَا حُرِّمَ فِيهَا فَقَطْ. وَقَدْ نَقَضْتُمْ هَذَا الأَصْلَ الْفَاسِدَ فَلَمْ تُبْطِلُوا الإِحْرَامَ بِتَعَمُّدِ لِبَاسِ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِمَّا هُوَ حَلاَلٌ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ, فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الْفَاسِدَ فَأَيْنَ الْقِيَاسَ الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ بِزَعْمِكُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكَّدَ الْحَجَّ وَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ الْفُسُوقِ فِيهِ, كَمَا خَصَّهُ بِتَحْرِيمِ الرَّفَثِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ.
أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ الرَّازِيّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ بِمِصْرَ، نا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامِ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

(7/195)


بْنِ نُمَيْرٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَابِرٍ الأَحْمَسِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي امْرَأَةٍ حَجَّتْ مَعَهَا مُصْمِتَةً: قُولِي لَهَا: تَتَكَلَّمُ فَإِنَّهُ لاَ حَجَّ لِمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ الْقُومِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. أَمَرَ الَّذِي أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا.
قال أبو محمد: وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى أَنْ يُوجِدُوا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْفُسُوقَ لاَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ; وَأَمَّا مَنْ فَسَقَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لاِِحْرَامِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ إحْرَامُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَهُ، وَلاَ أَتَى بِإِحْرَامِهِ بِخِلاَفِ مَا أُمِرَ بِهِ عَامِدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/196)


865 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجِدَالُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ فِي وَاجِبٍ وَحَقٍّ, وَقِسْمٌ فِي بَاطِلٍ; فَاَلَّذِي فِي الْحَقِّ وَاجِبٌ فِي الإِحْرَامِ وَغَيْرِ الإِحْرَامِ قَالَ تَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وَمَنْ جَادَلَ فِي طَلَبِ حَقٍّ لَهُ فَقَدْ دَعَا إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَسَعَى فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَاطِلِ, وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ جَادَلَ فِي حَقٍّ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ وَفِي الْبَاطِلِ عَمْدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ مُبْطِلٌ لِلإِحْرَامِ وَلِلْحَجِّ لقوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/196)


866 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يُلَبِّ فِي شَيْءٍ مِنْ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ بَطَلَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَإِنْ لَبَّى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ, وَالاِسْتِكْثَارُ أَفْضَلُ; فَلَوْ لَبَّى وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ فَلاَ حَجَّ لَهُ، وَلاَ عُمْرَةَ لاَِمْرِ جِبْرِيلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ, فَمَنْ لَمْ يُلَبِّ أَصْلاً أَوْ لَبَّى وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَحُجَّ، وَلاَ اعْتَمَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلَوْ أَنَّهُمْ، رضي الله عنهم، إذْ أَمَرَهُمْ عليه السلام بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَبَوْا لَكَانُوا عُصَاةً بِلاَ شَكٍّ, وَالْمَعْصِيَةُ فُسُوقٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ الْحَجَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ لَبَّى مَرَّةً وَاحِدَةً رَافِعًا صَوْتَهُ فَقَدْ لَبَّى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ: مُلَبٍّ وَعَلَى فِعْلِهِ اسْمُ: التَّلْبِيَةِ, فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَمَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ, وَالْفَرَائِضُ لاَ تَكُونُ إلاَّ مَحْدُودَةً لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهَا, وَمَا لاَ حَدَّ لَهُ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; لإِنَّ فِي إلْزَامِهِ تَكْلِيفَ مَا لاَ يُطَاقُ وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.

(7/196)


وجائز للمحرِمين من الرجال والنساء أن يتظلوا في المحامل
...
867- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَتَظَلَّلُوا فِي الْمَحَامِلِ

(7/196)


868 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكَلاَمُ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ جَائِزٌ, وَذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ; لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِمَنْعٍ مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَمَا لَمْ يُفَصِّلْ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/197)


869 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ, وَلاَ لاِمْرَأَةٍ, أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ تَتَزَوَّجَ, وَلاَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ مِنْ وَلِيَّتِهِ, وَلاَ أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةَ نِكَاحٍ مُذْ يُحْرِمَانِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ

(7/197)


870 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ, وَأَنْ يَسْتَقِيَ بِيَدِهِ مِنْهَا, وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ بِالْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ وَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ هَكَذَا فَاصْنَعُوا, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ لاَ نُرِيدُ أَنْ نُغَيِّرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ أَمْرَ شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَمِنْ شَرَابِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ النَّبِيذِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ طَاوُوس: هُوَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

(7/201)


871 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ صَلاَّهُمَا مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ. فَلَوْ أَدْرَكَ الإِمَامَ فِي الْعَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ وَيَنْوِيَ بِهَا الظُّهْرَ، وَلاَ بُدَّ, لاَ يُجْزِيه غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا

(7/201)


872 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي طَوَافِ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ صَلاَةُ جِنَازَةٍ, أَوْ عَرَضَ لَهُ بَوْلٌ, أَوْ حَاجَةٌ, فَلْيُصَلِّ وَلْيَخْرُجْ لِحَاجَتِهِ, ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى طَوَافِهِ وَيُتِمَّهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي سَعْيِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: أَمَّا فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فَيَبْتَدِئُ، وَلاَ بُدَّ إلاَّ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَبْنِي; وَأَمَّا فِي طَوَافِ التَّطَوُّعِ فَيَبْنِي فِي كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَقْسِيمٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ قَطَعَ لِحَاجَةٍ, وَلاَ بِإِبْطَالِ مَا طَافَ مِنْ أَشْوَاطِهِ وَسَعَى, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَإِنَّمَا افْتَرَضَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ سَبْعًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِوُجُوبِ اتِّصَالِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ, وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَبَثًا فَلاَ عَمَلَ لِعَابِثٍ، وَلاَ يُجْزِئُهُ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، نا قَاسِمُ

(7/202)


ابْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، نا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ طَافَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ, ثُمَّ أَصَابَهُ حَرٌّ فَدَخَلَ الْحِجْرَ فَجَلَسَ, ثُمَّ خَرَجَ فَبَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ الإِنْسَانُ فِي الطَّوَافِ لِيَسْتَرِيحَ وَفِيمَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي طَوَافِهِ لِيَذْهَبَ وَلِيَقْضِ حَاجَتَهُ, ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا كَانَ طَافَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/203)


873 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِحْصَارُ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ, قَارِنًا كَانَ, أَوْ مُتَمَتِّعًا, مِنْ عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ كَسْرٍ, أَوْ خَطَأِ طَرِيقٍ, أَوْ خَطَأٍ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ سِجْنٍ, أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ: فَهُوَ مُحْصِرٌ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ شَرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, أَوْ الْعُمْرَةِ, أَوْ لَمْ يَشْرَعْ بَعْدُ, قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا, مَضَى لَهُ أَكْثَرُ فَرْضِهِمَا أَوْ أَقَلُّهُ, كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلاَ هَدْيَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ غَيْرِهِ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ، وَلاَ بُدَّ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يُحِلُّ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ, وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ بُدَّ, كَمَا قلنا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَوَّضُ مِنْ هَذَا الْهَدْيِ صَوْمٌ، وَلاَ غَيْرُهُ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يَجِدَهُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ.
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الإِحْصَارِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ: نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ: لاَ إحْصَارَ إلاَّ مِنْ عَدُوٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, قَالَ: لَمَّا أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيَبْقَى بِهَا ثَلاَثًا، وَلاَ يَدْخُلَهَا إلاَّ بِجُلْبَانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ, وَلاَ يَخْرُجُ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا, وَلاَ يَمْنَعُ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فَسَمَّى الْبَرَاءُ مَنْعَ الْعَدُوِّ: إحْصَارًا. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: الإِحْصَارُ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ, وَالْكَسْرِ; وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ. وَأَمَّا الْحَصْرُ: فَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْحَصْرُ, وَالْمَرَضُ, وَالْكَسْرُ, وَشِبْهُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ حَصْرَ إلاَّ مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ. وَعَنْ طَاوُوس قَالَ: لاَ حَصْرَ الآنَ, قَدْ ذَهَبَ الْحَصْرُ.

(7/203)


وَعَنْ عَلْقَمَةَ: الْحَصْرُ الْخَوْفُ وَالْمَرَضُ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الْحَصْرُ مَا حَبَسَهُ مِنْ حَابِسٍ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ خَوْفٍ, أَوْ ابْتِغَاءِ ضَالَّةٍ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْحَصْرُ مَا مَنَعَهُ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ عَدُوٍّ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الإِحْصَارِ, وَالْحَصْرِ. فَرُوِّينَا، عَنِ الْكِسَائِيِّ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: أَحُصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ, وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ, أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ, قِيلَ فِيهِ: أُحْصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ; وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَمْرِ الْحُدَيْبِيَةِ إذْ مَنَعَ الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إتْمَامِ عُمْرَتِهِ, وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْعَ الْعَدُوِّ إحْصَارًا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَهُمْ فِي اللُّغَةِ فَوْقَ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَأَبِي عُبَيْدٍ, وَالْكَسَائِيّ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}.
فَهَذَا هُوَ مَنْعُ الْعَدُوِّ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ إنَّمَا مَنَعَهُمْ مِنْ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ الْكُفَّارُ بِلاَ شَكٍّ; وَبَيَّنَ ذَلِكَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فَصَحَّ أَنَّ الإِحْصَارَ, وَالْحَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ, وَأَنَّهُمَا اسْمَانِ يَقَعَانِ عَلَى كُلِّ مَانِعٍ مِنْ عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمُحْصِرِ الْمَمْنُوعِ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ, أَوْ عُمْرَتِهِ. فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ بِحَجٍّ مَرِضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ, فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ; فَإِنْ اعْتَمَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إذَا بَرَأَ, ثُمَّ حَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ, فَإِنْ لَمْ يَزُرْ الْبَيْتَ حَتَّى يَحُجَّ وَيَجْعَلَهُمَا سَفَرًا وَاحِدًا فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ: سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَوْ هَدَيَانِ وَسَفَرٌ وَهَذَا عَنْهُ مُنْقَطِعٌ لاَ يَصِحُّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ لُدِغَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّفُوذِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ, فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيَ أَحَلَّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَفْتَى فِي مَرِيضٍ مُحْرِمٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ: بِأَنْ يَنْحَرَ عَنْهُ بَدَنَةً; ثُمَّ لِيُهِلَّ عَامًا قَابِلاً بِمِثْلِ إهْلاَلِهِ الَّذِي أَهَلَّ بِهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ مَرِضَ بِوَقْعَةٍ مِنْ رَاحِلَتِهِ, قَالاَ جَمِيعًا: لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ, يَكُونُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يُصَلِّ إلَى الْبَيْتِ.
وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ أُحْصِرَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ

(7/204)


عُمَرَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْت كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ حِينَ حَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت عُمْرَةً; ثُمَّ قَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ إنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَجِّ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ حَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ وَكَانَ مُهِلًّا بِعُمْرَةٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، رضي الله عنهم، نَحَرَ وَحَلَّ وَانْصَرَفَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ, "أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرُّوا عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَرِيضُ بِالسُّقْيَا فَأَقَامَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ وَبَعَثَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ فَقَدِمَا عَلَيْهِ, وَأَنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِرَأْسِهِ فَحُلِقَ, ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ عَنْهُ بَعِيرًا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: إنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا كَانَ بِالْعَرَجِ مَرِضَ, فَلَمَّا أَتَى السُّقْيَا بِرَسْمٍ فَكَانَ أَوَّلُ إفَاقَتِهِ أَنْ أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَحُلِقَ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحَرَ عَنْهُ بِهَا جَزُورًا.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَمِرًا فَهَذَا عَلِيٌّ, وَالْحُسَيْنُ, وَأَسْمَاءُ رَأَوْا أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيُهْدِيَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ, وَهُوَ قَوْلُنَا. وَعَنْ عَلْقَمَةَ فِي الْمُحْصِرِ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا ذُبِحَ حَلَّ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلْقَمَةَ أَيْضًا: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا إنْ حَلَّ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وَالشَّعْبِيِّ: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَرُوِّينَا عَنْهُمْ أَيْضًا: حَاشَا الشَّعْبِيَّ: إنْ حَلَّ دُونَ الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ, وَلاَ يَحِلُّ إلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَاعَدَهُمْ لِبُلُوغِهِ مَكَّةَ وَنَحْرِهِ. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: عَلَيْهِ هَدْيَانِ.
وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا: وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالاَ جَمِيعًا: عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس لَيْسَ عَلَى الْقَارِنِ إلاَّ هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَيْضًا: إنْ أَحَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ فِدْيَةُ الأَذَى إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ شَاةٌ.

(7/205)


وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ يَحِلُّ بِهِ, ثُمَّ يُهِلُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَا كَانَ أَهَلَّ بِهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَثَلاَثُ عُمَرَ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمُحْصِرِ إذَا رَجَعَ لاَ يَحِلُّ مِنْهُ إلاَّ رَأْسُهُ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مَنْ أُحْصِرَ بِالْحَرْبِ نَحَرَ حَيْثُ حُبِسَ وَحَلَّ مِنْ النِّسَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمٍ, وَابْنُ سِيرِينَ: يَبْعَثُ هَدْيَهُ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا إذَا حَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ. وقال أبو حنيفة فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأُحْصِرَ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ فَيُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ, وَيَحِلُّ, وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا أَقَامَ مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا وَلَهُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ بِنَحْرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَالَ: وَالْمُعْتَمِرُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ مَتَى شَاءَ, وَالإِحْصَارُ عِنْدَهُ بِالْعَدُوِّ, وَالْمَرَضِ, وَبِكُلِّ مَانِعٍ سِوَاهُمَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, فَإِنْ تَمَادَى مَرَضُهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَكَمَا قلنا وَإِنْ هُوَ أَفَاقَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ كَمَا كَانَ; فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَأَفَاقَ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَ مَضَى وَقَضَى عُمْرَتَهُ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ حَلَّ إذَا نَحَرَ عَنْهُ الْهَدْيَ. وقال مالك: إنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ حُبِسَ وَيُحِلُّ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ, فَإِنْ لَمْ يُهْدِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مَعَهُ قَدْ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ, فَإِنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ لَكِنْ بِحَبْسٍ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنَّهُ لاَ يُحِلُّ إلاَّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ, وَلَوْ بَقِيَ كَذَلِكَ إلَى عَامٍ آخَرَ. وقال الشافعي: إذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ, أَوْ بِسِجْنٍ فَإِنَّهُ يُهْدِي وَيُحِلُّ حَيْثُ كَانَ مِنْ حِلٍّ, أَوْ حَرَمٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ; فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَدْيٍ فَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَحِلُّ إلاَّ حَتَّى يُهْدِيَ; وَالآخَرُ يُحِلُّ, وَالْهَدْيُ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قِيلَ: عَلَيْهِ إطْعَامٌ, أَوْ صِيَامٌ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ فَإِنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يُحِلَّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ, فَإِنْ لَمْ يُفِقْ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ طَافَ, وَسَعَى, وَحَلَّ, وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
قال أبو محمد: أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, وَبِغَيْرِ عَدُوٍّ فَفَاسِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ وَأَمَّا إسْقَاطُ الْهَدْيِ، عَنِ الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, أَوْ غَيْرِهِ فَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَأَمَّا إيجَابُ الْقَضَاءِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ.
فإن قيل: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَمَرَ بَعْدَ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ قلنا: نَعَمْ, وَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ عَامًا آخَرَ لِمَنْ أَحَبَّ, وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ إيجَابِهِ فَرْضًا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِ إلاَّ حَجَّةً وَاحِدَةً وَعُمْرَةً فِي الدَّهْرِ, فَلاَ

(7/206)


يَجُوزُ إيجَابُ أُخْرَى, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ فَيُوقَفُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُحْصِرِ بِمَرَضٍ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ, فَقَوْلٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلاَ أَوْجَبَهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بَلْ هُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ كَمَا أَوْرَدْنَا وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يُرْوَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ أَصْلاً.
فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قلنا نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى إنَّ الْمُحْصِرَ لاَ يُحِلُّ إلاَّ بِالطَّوَافِ. وَاَلَّذِي قَالَ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هُوَ الَّذِي قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}. وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحِلَّ وَيَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَتِهِ الَّتِي صُدَّ فِيهَا، عَنِ الْبَيْتِ, وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ أَوَامِرِهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ: بِبَعْثِهِ هَدْيًا يَحِلُّ بِهِ, فَقَوْلٌ لاَ يُؤَيِّدُهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا. فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. قلنا: نَعَمْ, وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمُحْصَرِ وَحْدَهُ, بَلْ هُوَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ سَاقَ هَدْيًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى عُمُومِ الآيَةِ.
فَالْحَاجُّ, وَالْقَارِنُ إذَا كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى, فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ. وَالْمُعْتَمِرُ إذَا أَتَمَّ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ فَقَدْ بَلَغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ. وَالْمُحْصَرُ إذَا صُدَّ فَقَدْ بَلَغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ إنْ كَانَ مَعَ هَؤُلاَءِ هَدْيٌ, وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَطُّ: إنَّ الْمُحْصَرَ لاَ يُحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ هَدْيُهُ مَكَّةَ, بَلْ هُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ نَسَبَهُ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ; فَظَهَرَ خَطَأُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي الإِحْصَارِ, فَلاَ يُحْفَظُ قَوْلٌ مِنْهَا بِتَمَامِهِ وَتَقْسِيمِهِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَصْلاً.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّجُوعَ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. فَوَجَدْنَا حُكْمَ الإِحْصَارِ يَرْجِعُ: إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ عُمُومُ إيجَابِ الْهَدْيِ عَلَى كُلِّ مَنْ أُحْصِرَ بِأَيِّ وَجْهٍ أُحْصِرَ. وَإِلَى فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، عَنِ الْبَيْتِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَحَلُّوا بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَإِلَى أَمْرِهِ عليه السلام مَنْ حَجَّ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَإِلَى مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ

(7/207)


ابْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَصْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى" فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ, وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالاَ: صَدَقَ ". فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَنْتَظِمُ كُلَّ مَا قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فإن قيل: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرَى, وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ هَدْيٍ قلنا: إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِيجَابِ الْهَدْيِ, فَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لاِِسْقَاطِ الْهَدْيِ، وَلاَ لاِِيجَابِهِ, فَوَجَبَ إضَافَةُ مَا زَادَهُ الْقُرْآنُ إلَيْهِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ اللاَّزِمَ لِلنَّاسِ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولاً عَلَى مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ, وَبِهَذَا تَتَأَلَّفُ الأَخْبَارُ.
فإن قيل: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا قلنا: الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا رَوَى لاَ فِي رَأْيِهِ وَقَدْ يَنْسَى, أَوْ يَتَأَوَّلُ; وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْهِينَ بِمَا رَوَى لِمَا رُوِيَ عَنْهُ مِمَّا يُخَالِفُ مَا رَوَى أَوْلَى مِنْ تَوْهِينِ مَا رَوَى بِمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ خِلاَفِهِ لِمَا رَوَى, لإِنَّ الطَّاعَةَ عَلَيْنَا إنَّمَا هِيَ لِمَا رَوَى لاَ لِمَا رَأَى بِرَأْيِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفُ مَا رُوِيَ لَكَانَ الْحَجَّاجُ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, قَدْ رَوَيَاهُ وَلَمْ يُخَالِفَاهُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَنْحَرُ هَدْيَ الإِحْصَارِ إلاَّ فِي الْحَرَمِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ نَهَضَ بِالْهَدْيِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ حَتَّى نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عليه السلام، وَلاَ أَوْجَبَهُ, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ عَمَلاً عَمِلَهُ, وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لاَِمْرِهِ عليه السلام. وَرُوِّينَا خَبَرًا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْبُدْنِ لِلْهَدْيِ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو حَاضِرٍ الأَزْدِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/208)


874 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ احْتَاجَ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِمَرَضٍ, أَوْ صُدَاعٍ, أَوْ لِقَمْلٍ, أَوْ لِجُرْحٍ بِهِ, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فَلْيَحْلِقْهُ, وَعَلَيْهِ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيُّهَا شَاءَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا. إمَّا أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَأَمَّا أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُتَغَايِرِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ، وَلاَ بُدَّ, وَأَمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ يَصُومَ, أَوْ يُطْعِمَ, أَوْ يَنْسَكَ الشَّاةَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ دُونَ بَعْضٍ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَطَلَ حَجُّهُ, فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِهِ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ إثْمَ، وَلاَ كَفَّارَةَ بِأَيِّ وَجْهٍ قَطَعَهُ, أَوْ نَزَعَهُ.

(7/208)


بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّخْيِيرُ فِي أَيِّ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَعْمَالِ أَحَبَّ, وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ كَمْ يَصُومُ، وَلاَ بِكَمْ يَتَصَدَّقُ، وَلاَ بِمَاذَا يَنْسَك وَفِي الآيَةِ أَيْضًا حَذْفٌ بَيَّنَهُ الإِجْمَاعُ, وَالسُّنَّةُ وَهُوَ: فَحَلَقَ رَأْسَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً, وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ لَهُ: آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ: نَعَمْ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم احْلِقْ, ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا, أَوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ اطْعَمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
قال أبو محمد: هَذَا أَكْمَلُ الأَحَادِيثِ وَأَبْيَنُهَا, وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ: فِي بَعْضِهَا أَوْ نُسُكِ مَا تَيَسَّرَ. وَبَعْضُهَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَئِذٍ: "أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ". وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, فَذَكَرَ فِيهِ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبَانُ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ فِيهِ أَوْ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَخْبَرَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ; وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ" قَالَ: مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ, لِكُلِّ

(7/209)


مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ: "هَلْ تَجِدُ مِنْ نَسِيكَةٍ" قَالَ: لاَ, قَالَ: وَهِيَ شَاةٌ قَالَ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ "أَمَعَكَ دَمٌ" قَالَ: لاَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلاَثَةِ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ" لَمْ يَسْمَعْهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ كَعْبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَنَذْكُرُ الآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ: "أَمَعَكَ هَدْيٌ" قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ, قَالَ: "إنَّهُ مَا اسْتَيْسَرَ" قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ قَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمُضْطَرِبَةُ كُلُّهَا إنَّمَا هِيَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَمَّا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعُ تَمْرٍ فَهُوَ، عَنْ أَشْعَثَ الْكُوفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَلْبَتَّةَ; وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبٍ: إيجَابُ التَّرْتِيبِ, وَأَنْ لاَ يَجْزِيَ الصِّيَامُ, وَلاَ الصَّدَقَةُ إلاَّ عِنْدَ عَدَمِ النُّسُكِ, وَذَلِكَ الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ كَعْبٍ, فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا: فَسَقَطَا مَعًا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ, وَأَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَفِيهَا أَيْضًا: إيجَابُ التَّرْتِيبِ, وَقَدْ خَالَفَهُمَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَذَكَرَهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النُّسُكِ أَوْ الصَّوْمِ, أَوْ الصَّدَقَةِ, ثُمَّ وَجَدْنَا شُعْبَةَ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي هَذَا الْخَبَرِ: فَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ: نِصْفَ صَاعٍ حِنْطَةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ: ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, وَلَمْ يَذْكُرْ لِمَاذَا؟
قال أبو محمد: وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ, وَبِنُصُوصِ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا أَيْضًا.فَصَحَّ أَنَّ جَمِيعَهَا وَهْمٌ إلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ: فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ شُعْبَةَ قَدْ

(7/210)


اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ, فَوَجَبَ تَرْكُ مَا اضْطَرَبُوا فِيهِ, إذْ لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ, وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الَّذِي لَمْ يَضْطَرِبْ الثِّقَاتُ مِنْ رُوَاتِهِ فِيهِ, وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ، عَنْ قَضَايَا شَتَّى لَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ, وَأَمَّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلاً. ثُمَّ وَجَدْنَا أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ قَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ وَأَبَانُ لاَ يُعْدَلُ فِي الْحِفْظِ بِدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَلاَ بِأَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَلاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِ إحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا; لاَِنَّهَا كُلُّهَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ, فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ, فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ, فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فَوَجَبَ أَخْذُ مَا رَوَاهُ أَبُو قِلاَبَةَ, وَالشَّعْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, لِثِقَتِهِمَا وَلاَِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِسَائِرِ الأَحَادِيثِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَالِمًا عَامِدًا بِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَخَلَّى الْبَعْضَ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ: فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى, وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فُسُوقٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِمَرَضٍ, أَوْ أَذًى بِهِ فَقَطْ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَبَ فِدْيَةٌ, أَوْ غَرَامَةٌ, أَوْ صِيَامٌ, لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ شَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْعَاصِي عَلَى الْمُطِيعِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَأَمَّا مَنْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِذَلِكَ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ، وَلاَ أَتَى مُنْكَرًا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ إلاَّ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ وَنَهَى جُمْلَةً عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْقَزَعُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ شَعْرِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ، عَنْ ذَلِكَ, وَقَالَ: احْلِقُوا كُلَّهُ, أَوْ اُتْرُكُوا كُلَّهُ".
قال أبو محمد: وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ لاَ تَصِحُّ, مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ وَيُهْدِيَ بَقَرَةً وَهَذَا مُرْسَلٌ، عَنْ مَجْهُولٍ.

(7/211)


وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ كَعْبًا ذَبَحَ بَقَرَةً بِالْحُدَيْبِيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَمَّا كَانَ أَبُوهُ ذَبَحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي فِدْيَةِ رَأْسِهِ فَقَالَ: بَقَرَةً مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ, وَغَيْرِهِ, عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمَاذَا افْتَدَى أَبُوهُ فَقَالَ بِبَقَرَةٍ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: افْتَدَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ مِنْ أَذًى كَانَ بِرَأْسِهِ فَحَلَقَهُ بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا أَبُو مَعْشَرٍ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَلْقَمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَقَتَادَةَ, وطَاوُوس, وَعَطَاءٍ, كُلُّهُمْ قَالَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَعِكْرِمَةَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ صِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ, أَوْ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ.
رُوِّينَا ذَلِكَ: مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ: أَنَا مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا تَيَسَّرَ, فَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ نُسُكِ مَا شَاءَ, وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةٍ, أَوْ دَقِيقُ حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنُ: لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ: إنْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ فَأَقَلَّ صَدَقَةٌ, وَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَالْفِدْيَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ إنْ حَلَقَ عُشْرَ رَأْسِهِ فَصَدَقَةٌ فَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالُوا كُلُّهُمْ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لاَ يُجْزِئُهُ بَدَلُهُ صِيَامٌ, وَلاَ إطْعَامٌ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ: لَيْسَ فِي حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ شَيْءٌ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ وَاسْتِهْزَاءٌ وَشَبِيهٌ بِالْهَزْلِ, نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ, وَلاَ

(7/212)


يُحْفَظُ هَذَا السُّخَامُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُمْ. وقال مالك: إنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ شَعَرَاتٍ نَاسِيًا, أَوْ جَاهِلاً أَوْ عَامِدًا فَيُطْعِمُ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ فَإِنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ مَا يَكُونُ فِيهِ إمَاطَةَ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
قال علي: وهذا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وقال الشافعي, وَالأَوْزَاعِيُّ فِي نَتْفِ شَعْرَةٍ أَوْ حَلْقِهَا عَامِدًا وَنَاسِيًا: مُدٌّ, وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ كَذَلِكَ مُدَّانِ, وَفِي الثَّلاَثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ دَمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ أَحَبَّ فَشَاةٌ, وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مُدَّانِ مِمَّا يَأْكُلُ, وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَيْسَ فِي الشَّعْرَتَيْنِ، وَلاَ فِي الشَّعْرَةِ شَيْءٌ, وَفِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ دَمٌ وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ نَحَا إلَى هَذَا وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا فِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ لِلْمُحْرِمِ: دَمٌ, النَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ: قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً، عَنْ مُحْرِمٍ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لِدَوَاءٍ قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ، عَنِ الشَّجَّةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَبَاحَ ذَلِكَ لَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَوْضِعُ النُّسُكِ وَالإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُحْصِرِ نُسُكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ رضي الله تعالى عنهما فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ بِالسُّقْيَا، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم مُخَالِفًا وَنُسُكُ حَلْقِ الرَّأْسِ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إذْ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النُّسُكِ بِمَكَّةَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس قَالَ: مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ, وَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ دَمٍ وَاجِبٍ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَذْبَحَهُ إلاَّ بِمَكَّةَ.
رُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْت.
ال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِالنُّسُكِ مَكَانًا دُونَ مَكَان إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.

(7/213)


875 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِنُورَةٍ فَهُوَ حَالِقٌ فِي اللُّغَةِ فَفِيهِ مَا فِي الْحَالِقِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَلَقَهُ فَإِنْ نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَحْلِقْهُ; وَالنَّتْفُ غَيْرُ الْحَلْقِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ وَالْفِدْيَةُ فِي الْحَلْقِ لاَ فِي النَّتْفِ.

(7/214)


876 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَصَيَّدَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِقِرَانٍ أَوْ بِحَجَّةِ تَمَتُّعٍ مَا بَيْنَ أَوَّلِ إحْرَامِهِ إلَى دُخُولِ وَقْتِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, أَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ, أَوْ مُحِلٌّ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لاِِحْرَامِهِ أَو لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ, أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ لِقَتْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ كَفَّارَةَ وَلاَ إثْمَ وَذَلِكَ الصَّيْدُ جِيفَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, فَإِنْ قَتَلَهُ عَامِدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى, وَحَجُّهُ بَاطِلٌ وَعُمْرَتُهُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}.
فَصَحَّ يَقِينًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَامِدِ لِقَتْلِهِ, الذَّاكِرِ لاِِحْرَامِهِ, أَوْ; لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ, لإِنَّ إذَاقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَالَ الأَمْرِ وَعَظِيمَ وَعِيدِهِ بِالاِنْتِقَامِ مِنْهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُخْطِئِ أَلْبَتَّةَ, وَلاَ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ لِلْمَعْصِيَةِ الْقَاصِدِ إلَيْهَا; فَبَطَلَ يَقِينًا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ إيجَابُ حُكْمٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ الْقَاصِدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَمَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ, وَعُمَرُ: يَسْأَلُ رَجُلاً قَتَلَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَقَدْ تَعَمَّدْت رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْت قَتْلَهُ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَرَاك إلاَّ أَشْرَكْت بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ; أَعْمِدْ إلَى شَاةٍ فَاذْبَحْهَا فَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَأَسِقْ إهَابَهَا.
قال أبو محمد: فَلَوْ كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً عِنْدَ عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ لَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ; لاَِنَّهُ كَانَ يَكُونُ فُضُولاً مِنْ السُّؤَالِ لاَ مَعْنَى لَهُ

(7/214)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مَدِينَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ أَبُو مَدِينَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ السَّدُوسِيُّ تَابِعِيٌّ, سَمِعَ أَبَا مُوسَى, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيق شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ قَالَ: السُّنَّةُ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْمَالِكِيِّينَ يَجْعَلُونَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إذْ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ، عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمَرْأَةِ يُقْطَعُ لَهَا ثَلاَثُ أَصَابِعَ لَهَا ثَلاَثُونَ مِنْ الإِبِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ لَهَا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَلَيْسَ لَهَا إلاَّ عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي; فَجَعَلُوهُ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا. وَقَدْ خَالَفَ سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُمَا; ثُمَّ لَمْ يَجْعَلُوا هَاهُنَا حُجَّةَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ أَنَّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً, وَمَعَهُ الْقُرْآنُ, وَالصَّحَابَةُ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: لاَ يُحْكَمُ إلاَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ فِيمَنْ أَصَابَ الْجَنَادِبَ خَطَأً قَالُوا: لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَابَهَا مُتَعَمِّدًا حُكِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ خَطَأً, وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ عَامِدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَسَعْدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَشَغَبَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً فَقِسْنَا عَلَيْهِ قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً.
قال علي: هذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ فَارَقُوا حُكْمَ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا; أَمَّا كَوْنُهُ خَطَأً; فَلاَِنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَنَّ مَا خَرَجَ، عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ مَخْصُوصًا أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ,

(7/215)


وَالأَصْلُ أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَخَرَجَ عِنْدَهُمْ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً، عَنْ أَصْلِهِ, فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَقِيسُوا حُكْمَ الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى الْوَاطِئِ فِيهِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا, وَقَتْلُ الصَّيْدِ أَشْبَهُ بِالْوَطْءِ مِنْهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ; لإِنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ ثُمَّ حُرِّمَ, بَلْ لَمْ يَزَلْ حَرَامًا مُذْ آمَنَ, أَوْ مُذْ وُلِدَ إنْ كَانَ وُلِدَ عَلَى الإِسْلاَمِ. وَأَمَّا الْوَطْءُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَكَانَا حَلاَلَيْنِ, ثُمَّ حُرِّمَا بِالصَّوْمِ وَبِالإِحْرَامِ فَجَمَعَتْهُمَا هَذِهِ الْعِلَّةُ فَأَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِلْقِيَاسِ هُنَا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُوجَبَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ أَوْجَبُوهَا هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ; وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ قَاسُوا الْخَطَأَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي كِلَيْهِمَا وَلَمْ يَقِيسُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا فَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَلَمْ يُوجِبُوهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَبَاطِلٌ. وَأَيْضًا فَلَمْ يَقِيسُوا نَاسِي التَّسْمِيَةِ فِي التَّذْكِيَةِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا فِيهَا مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ هُنَالِكَ; وَتَفْرِيقِ الْحُكْمِ هَاهُنَا. وَالشَّافِعِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي فِيمَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ وَبَيْنَ الْعَامِدِ, وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَسَاوَوْا هَاهُنَا بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ, وَهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ. وَقَالُوا: لَيْسَ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ أَنَّ الْمُخْطِئَ بِخِلاَفِهِ وَذَكَرُوا مَا نَحْتَجُّ بِهِ نَحْنُ وَمَنْ وَافَقَنَا مِنْهُمْ مِنْ النُّصُوصِ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ, لاَِنَّنَا إذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَمْ نُوجِبْ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ بَلْ أَبْطَلْنَاهُمَا جَمِيعًا, وَالْقِيَاسُ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ, وَدَلِيلُ الْخِطَابِ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِخِلاَفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُمْ فَتَلَوَّنُوا هَاهُنَا مَا شَاءُوا, فَمَرَّةً يَحْكُمُونَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قِيَاسًا, وَمَرَّةً يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ حُكْمِهِ أَخْذًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مُضَادٌّ لِلآخَرِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ، وَلاَ السُّنَّةَ وَنُوقِفُ أَمْرَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلاَ نَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ، وَلاَ بِحُكْمٍ آخَرَ, بِخِلاَفِ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ; لَكِنْ نَطْلُبُ حُكْمَهُ فِي نَصٍّ آخَرَ فَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ وَلَمْ نَقُلْ قَطُّ هَاهُنَا: إنَّهُ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْطِئُ بِخِلاَفِهِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا, لَكِنْ

(7/216)


قلنا: لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلاَّ الْمُتَعَمِّدُ وَحْدُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْمُخْطِئِ لاَ بِإِيجَابِ جَزَاءٍ عَلَيْهِ، وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِهِ فِي نَصٍّ آخَرَ, إذْ لَيْسَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَوْجُودًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ أَحَدٌ سِوَاهُ; فَإِذَا وَجَدْنَا حُكْمَهُ حَكَمْنَا بِهِ, إمَّا مُوَافِقًا لِهَذَا الْحُكْمِ الآخَرِ, وَأَمَّا مُخَالِفًا لَهُ, فَفَعَلْنَا: فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ الْجُنَاحَ، عَنِ الْمُخْطِئِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَأَنَّهُ قَدْ عَفَا، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ, وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَوَجَبَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنْ لاَ يَلْزَمَ قَاتِلُ الصَّيْدِ خَطَأً أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ شَرْعُ صَوْمٍ, وَلاَ غَرَامَةُ هَدْيٍ, أَوْ إطْعَامٌ أَصْلاً; فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ مُتْلِفُ أَمْوَالِ النَّاسِ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا بِالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَكَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ, وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ أَخْطَئُوا فِيهِ. أَمَّا كَوْنَهُ خَطَأً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ فَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْمِثْلَ, أَوْ الْقِيمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ, وَجَعَلَ فِي الصَّيْدِ جَزَاءً مِنْ النَّعَمِ لاَ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ فِي الإِحْلاَلِ, أَوْ إطْعَامًا, أَوْ صِيَامًا, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ; فَسَوَّوْا بَيْنَ حُكْمَيْنِ قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ جُرْأَةٌ شَدِيدَةٌ وَخَطَأٌ لاَئِحٌ; وَأَمَّا خَطَؤُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ قِيَاسًا, وَأَوْجَبُوا هَاهُنَا قِيَاسًا, وَالْقَوْمُ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ, وَإِنَّمَا هُمْ فِي شَبَهِ اللَّعِبِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ قَاسُوا مُتْلِفَ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مُتْلِفِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَمْدًا, وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْقِيمَةُ فَقَطْ, وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلُ مِنْ النَّعَمِ, أَوْ الإِطْعَامُ, أَوْ الصِّيَامُ, فَقَدْ تَرَكُوا قِيَاسَهُمْ الْفَاسِدَ.
فَإِنْ قَالُوا: اتَّبَعْنَا الْقُرْآنَ قلنا: فَالْتَزَمُوا اتِّبَاعَهُ فِي الْعَامِدِ خَاصَّةً وَإِسْقَاطُ الْجُنَاحِ، عَنِ الْمُخْطِئِ, وَأَوْجَبُوا فِي الصَّيْدِ: الْقِيمَةَ كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَرَدَ قِيَاسَهُ الْفَاسِدَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ لاَ يَرَوْنَ ضَمَانَ مَا وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ إلاَّ أَنْ تُسْتَهْلَكَ الأَوْلاَدِ, وَيَرَى عَلَى مَنْ أَخَذَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَلَدَ عِنْدَهُ, ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ: أَنْ يَضْمَنَ الآُمَّ وَالأَوْلاَدَ, فَأَيْنَ قِيَاسُهُ الصَّيْدَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ؟
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ, وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَكُلَّ ذِي

(7/217)


مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ كَمَا حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الإِحْرَامِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ لاَ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً, فَنَقَضُوا قِيَاسَهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُحَرِّمْ قَتْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ قلنا: وَلاَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءَ إلاَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ فأما الْتَزَمُوا النُّصُوصَ كَمَا وَرَدَتْ، وَلاَ تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ, وَأَمَّا اُطْرُدُوا قِيَاسَكُمْ فَأَوْجِبُوا الْجَزَاءَ فِي الْخِنْزِيرِ; وَفِي السِّبَاعِ, وَفِي ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ, كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وقال بعضهم: إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْمُخْطِئِ مِثْلُهُ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مِنْ أَسْخَفِ كَلاَمٍ فِي الأَرْضِ, وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَامِدًا فِي جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ, لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ قَاتِلِهِ مُخْطِئٌ مِثْلُهُ, وَإِلاَّ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَافْتِرَاؤُهُ عَلَى خَالِقِهِ لاِِخْبَارِهِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَاتِلِ الْخَطَأِ. قلنا: وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُخْطِئٍ وَكُلِّ عَامِدٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ تَمْوِيهًا غَيْرَ هَذَا وَهُوَ كُلُّهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ الصَّيْدَ حَرَامٌ أَكْلُهُ; فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلاً وَنَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْ لَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَزَّ وَجَلَّ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حَسَنٍ سَلِيمٍ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الذَّكَاةِ هُوَ غَيْرُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْقَتْلِ; فَإِذْ هُوَ غَيْرُهُ فَالْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ ذَكَاةً; وَإِذْ لَيْسَ هُوَ ذَكَاةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَيَوَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: فَهَلاَّ خَصَّصْتُمْ الْعَامِدَ بِذَلِكَ قلنا: نَصُّ الآيَةِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ, وَسَمَّى إتْلاَفَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْحَرَمِ قَتْلاً وَحَرَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَأَوْجَبَ حُكْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ خَاصَّةً بِخِلاَفِ النَّهْيِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الآيَةِ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ إحْرَامِهِ بِذَلِكَ: فَلاَِنَّهُ بِلاَ خِلاَفٍ مَعْصِيَةٌ, وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا فُسُوقٌ; وَالإِحْرَامُ يَبْطُلُ بِالْفُسُوقِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَمِنْ شَنَعِ الأَقْوَالِ وَفَاسِدِهَا إبْطَالُ الْمَالِكِيِّينَ الْحَجَّ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَمْنَعْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, ثُمَّ لَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى أَشَدَّ الْوَعِيدِ فِيهِ وَهُوَ قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا. وَأَبْطَلُوا هُمْ,

(7/218)


وَالْحَنَفِيُّونَ الإِحْرَامَ بِالْوَطْءِ نَاسِيًا وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحْرِمِ. وَأَبْطَلُوا هُمْ, وَالشَّافِعِيُّونَ الْحَجَّ بِالإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِهِ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/219)


877 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَنَّ كِتَابِيًّا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/219)


878 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ وَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ وَهِيَ: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا, وَمَاعِزُهَا وَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الصَّيْدَ الَّذِي قَتَلَ مِمَّا قَدْ حَكَمَ بِهِ عَدْلاَنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله, وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَحْكِيمَ حُكْمَيْنِ الآنَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ مَسَاكِينَ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلاَثَةٌ, وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ إلَى مَا يُشْبِعُ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ النَّاسِ, فَصَامَ بَدَلَ كُلِّ إنْسَانٍ يَوْمًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظَةِ "أَوْ" وَأَوْجَبَ مِنْ الْمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا. فَصَحَّ أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ إذَا حَكَمَا بِمِثْلٍ فِي ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ فَرْضًا لاَزِمًا لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ; وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ وَالتَّابِعُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ حُكْمُ صَاحِبَيْنِ; وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّابِعِينَ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حُكْمِ صَاحِبٍ, وَأَوْجَبَ تَعَالَى طَعَامَ مَسَاكِينَ, وَهَذَا بِنَاءً لاَ يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ, وَيَقَعُ عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهِ إلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ; فَكَانَ إيجَابُ عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ قَوْلاً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ وَوَجَبَ إطْعَامُ الثَّلاَثَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لاَ أَقَلَّ, فَإِنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعُ خَيْرٍ. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ فِي هَذَا عَدَدًا مَحْدُودًا مِنْ الْمَسَاكِينِ لاَ يُوجِبُهُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الإِطْعَامِ لاَ يَقْتَضِيه وَظَاهِرُ الآيَةِ لَمَا أَغْفَلَهُ عَمْدًا، وَلاَ نَسِيَهُ, وَلَبَيَّنَهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ, وَكَفَّارَةِ الْعَوْدِ لِلظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الأَيْمَانِ, وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ, وَكَفَّارَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى فِي الإِحْرَامِ, فَإِذَا لَمْ يَنُصَّ تَعَالَى هُنَا عَلَى عَدَدٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ عَلَى صِفَةٍ بِعَيْنِهَا فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الآيَةِ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكّ

(7/219)


879 - مَسْأَلَةٌ: وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ, وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ, وَثَوْرِ الْوَحْشِ, وَالآُرْوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ, وَالآُيَّلِ: بَقَرَةٌ, وَفِي الْغَزَالِ, وَالْوَعِلِ وَالظَّبْيِ: عَنْزٌ, وَفِي الضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ, وَالأَرْنَبِ وَأُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ, وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ, وَكَذَلِكَ فِي الْوَرَلِ

(7/226)


وَالضَّبُعِ, وَفِي الْحَمَامَةِ, وَكُلِّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ مِنْ الطَّيْرِ: شَاةٌ, وَكَذَلِكَ الْحُبَارَى وَالْكُرْكِيُّ, والبلدج, وَالإِوَزُّ الْبَرِّيُّ, وَالْبُرَكُ الْبَحْرِيُّ, وَالدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ, وَالْكَرَوَانُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَلاَ يَخْلُو الْمِثْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ, أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ, أَوْ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ; فَوَجَدْنَا الْمُمَاثَلَةَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مَعْدُومَةً مِنْ الْعَالَمِ جُمْلَةً لإِنَّ كُلَّ غَيْرَيْنِ فَلَيْسَا مِثْلَيْنِ فِي تَغَايُرِهِمَا فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْمُمَاثَلَةِ مِنْ أَقَلِّ الْوُجُوهِ, وَهُوَ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَوَجَدْنَا كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا, فَهُوَ يُمَاثِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ بُدَّ وَهُوَ الْخَلْقُ, لإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ وَهُوَ مَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا. وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ لاََجْزَأَتْ الْعَنْزُ بَدَلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ, وَالنَّعَامَةِ; لاَِنَّهُمَا حَيَّانِ مَخْلُوقَانِ مَعًا; وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ. فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ, وَأَظْهَرِهَا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلاَّ أَقْوَالٌ مَحْصُورَةٌ فَبَطَلَتْ كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدًا فَهُوَ الْحَقُّ بِلاَ شَكٍّ; فَهَذَا مُوجَبُ الْقُرْآنِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ, فَعَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْقَدِّ وَهَيْئَةِ الْجِسْمِ, لإِنَّ الْكَبْشَ أَشْبَهُ النَّعَمِ بِالضَّبُعِ وَبِهَذَا جَاءَ حُكْمُ السَّلَفِ الطَّيِّبِ رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الضَّبُعِ فَقَالَ: "هُوَ صَيْدٌ وَجَعَلَ فِيهِ كَبْشًا إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ رَبَاحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ جَمِيعًا: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ فَهُمْ: عُمَرُ, وَعَلِيٌّ, وَجَابِرٌ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا فَلَمْ يُخَالِفْهُ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَعُثْمَانَ, وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالُوا فِي النَّعَامَةِ: بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ, وَمُعَاوِيَةَ, قَالاَ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ يَعْنِي مِنْ الإِبِلِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَلاَ شَيْءَ أَشْبَهُ بِالنَّعَامَةِ

(7/227)


مِنْ النَّاقَةِ فِي طُولِ الْعُنُقِ, وَالْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهِ بَدَنَةٌ, وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا فِيهِ بَقَرَةٌ وَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, قَالَ عَطَاءٌ: وَفِي الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي الْقَادِرِ الْعَظِيمِ مِنْ الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَهَذَا صَحِيحٌ عَنْهُمَا وَهُمَا ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا فَوَجَدْنَا حِمَارَ الْوَحْشِ أَشْبَهَ بِالْبَقَرَةِ مِنْهُ بِالنَّاقَةِ, لإِنَّ الْبَقَرَ, وَحِمَارَ الْوَحْشِ, ذَوَا شَعْرٍ وَذَنَبٍ سَابِغٍ وَلَيْسَ لَهُمَا سَنَامٌ, وَالنَّاقَةُ ذَاتُ وَبَرٍ وَذَنَبٍ قَصِيرٍ وَسَنَامٍ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْبَقَرَةِ لِقُوَّةِ الْمُمَاثَلَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآُيَّلِ: بَقَرَةٌ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي الثَّيْتَلِ: بَقَرَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَطَاءٍ فِي الْغَزَالِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: الشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ كَمَا تَقَعُ عَلَى الضَّأْنِيَّةِ. وَعَنْ سَعْدٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فِي الظَّبْيِ: تَيْسٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَزَيْدٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي الضَّبِّ: جَدْيٌ رَاعٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَطَارِقِ بْنِ شِهَابٍ مِثْلُهُ أَيْضًا فَقَالَ مَالِكٌ, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ هَذَا. وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الضَّبِّ: شَاةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي الضَّبِّ: حُفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ لإِنَّ خِلاَفَ حُكْمِ عُمَرَ, وَطَارِقٍ, وَمَنْ مَعَهُمَا لاَ يُجَوِّزُ خِلاَفَهُ, لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدْلٍ مِنَّا مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ الْقُرْآنَ فِي الْمُمَاثَلَةِ; وَقَوْلُ عَطَاءٍ حَادِثٌ بَعْدَهُمْ, وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ مَعَ خِلاَفِ قَوْلِهِمَا, وَقَوْلِ مَالِكٍ لِلْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِ عُمَرَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ, وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ عُمَرَ فِي الأَرْنَبِ: عَنَاقٌ, وَهِيَ الْجَدْيُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعَمْرِو بْنِ حَبَشِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ فَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا, وَالْمُمَاثَلَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْقُرْآن. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَمُجَاهِدٍ فِي الْيَرْبُوع: سَخْلَةٌ, أَوْ جَفْرَةٌ, وَهُمَا سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: فِيهِ حُكُومَةٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِيهِ قِيمَتُهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقال مالك فِي الأَرْنَبِ, وَالضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ قِيمَتُهُ يُبْتَاعُ بِهِ طَعَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لَمْ يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ, وَلاَ السُّنَّةُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ.

(7/228)


فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الأَضَاحِيِّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، وَلاَ مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكُنْتُمْ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْقِيَاسِ لاَِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْكَبْشَ, وَالتَّيْسَ, أَفْضَلُ فِي الأَضَاحِيِّ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَإِنَّ الذَّكَرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الآُنْثَى, وَتَقُولُونَ فِي الْهَدْيِ كُلِّهِ: إنَّ الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ: أَفْضَلُ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَإِنَّ الإِنَاثَ أَفْضَلُ فِيهَا مِنْ الذُّكُورِ; فَمَرَّةً تَقِيسُونَ حُكْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ, وَمَرَّةً تُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحْكَامِهَا بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ" . قلنا: نَعَمْ, وَاَلَّذِي أَخْبَرَ بِهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ مِثْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُول مِنْ النَّعَمِ, وَلَيْسَ بَعْضُ كَلاَمِهِ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ, بَلْ كُلُّهُ فُرِضَ اسْتِعْمَالُهُ, وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ لِشَيْءٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يَنْهَ قَطُّ عليه السلام، عَنْ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِاسْمِهِ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ مَا دُونَ الْجَذَعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ لَمْ يُجْزِ فِيمَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِإِيجَابِ شَاةٍ فَقَطْ. وَأَمَّا الْجَذَعَةُ فَلاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَيْضًا; لإِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا عُمُومٌ, إلاَّ حَيْثُ أُوجِبَتْ بِاسْمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, فَقَطْ, مَعَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ: لاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاتِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إنَّمَا يُرَاعَى الْمِثْلُ فِي الْقَدِّ وَالصُّورَةِ لاَ مَا لاَ يُعْرَفُ إلاَّ بَعْدَ فَرِّ الأَسْنَانِ فَصَحَّ أَنَّ الْجَذَعَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْوَرَلِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ عَظِيمًا فِي مِقْدَارِ الشَّاةِ فَكَذَلِكَ, وَإِلاَّ فَفِيهِ, وَفِي الْقُنْفُذِ: جَدْيٌ صَغِيرٌ. وَعَنْ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَمَامَةِ: شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدَ. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: كُلُّ مَا يَعُبُّ كَمَا تَعُبُّ الشَّاةُ فَفِيهِ شَاةٌ بِهَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّبْسِيِّ, وَالْقُمْرِيِّ, وَالْحُبَارَى, وَالْقَطَاةِ, وَالْحَجَلَةِ شَاةٌ شَاةٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا أَيْضًا. وَكَذَلِكَ فِي الْكَرَوَانِ, وَابْنِ الْمَاءِ. وَرُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ, وَسَالِمٍ: ثُلُثُ مُدٍّ: خَيْرٌ مِنْ حَجَلَةٍ.
قال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا خِلاَفُ مَا حَكَمَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَعَطَاءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْهُدْهُدِ: دِرْهَمٌ, وَفِي الْوَطْوَاطِ: ثُلُثَا دِرْهَمٍ, وَفِي الْعُصْفُورِ: نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَعَنْ عُمَرَ فِي الْجَرَادَةِ: تَمْرَةٌ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ شَيْءَ فِيهَا; لاَِنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ, وَهَذَا خَطَأٌ; لاَِنَّهَا إنْ غُمِسَتْ فِي الْبَحْرِ مَاتَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمٌ.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْكِيمٍ فِي الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ لاَ فِي الإِطْعَامِ، وَلاَ فِي الصِّيَامِ,

(7/229)


فَلاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ, وَإِنَّمَا هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ, فَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ جُزِيَ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ مِنْ كِبَارِ النَّعَمِ، وَلاَ صِغَارِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} لإِنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ صَيْدٍ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ وَهُوَ لاَ مِثْلَ لَهُ مِنْهَا, لإِنَّ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي خُلِقَ صَغِيرًا جِدًّا كَصِغَارِ الْعَصَافِيرِ وَالْجَرَادِ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي كَبِيرِ الصَّيْدِ وَصَغِيرِهِ إلاَّ فِدْيَةً طَعَامَ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَهُ صِيَامًا: فَوَجَبَ فِي الْجَرَادَةِ فَمَا فَوْقَهَا إلَى النَّعَامَةِ, وَفِي وَلَدِ أَصْغَرِ الطَّيْرِ إلَى حِمَارِ الْوَحْشِ: إطْعَامُ ثَلاَثَةِ مَسَاكِينَ فَقَطْ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ صِيَامَ فِي الإِسْلاَمِ أَقَلُّ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ, فَفِي كُلِّ صَغِيرٍ مِنْهَا صَوْمُ يَوْمٍ فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُ بِكِبَرِ جِسْمِهِ إنْسَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً فَأَكْثَرَ: فَلِكُلِّ آكِلٍ صَوْمُ يَوْمٍ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى. فإن قيل: إنَّ هَذَا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَلَفَ قلنا: نَحْنُ لاَ نَدَّعِي الإِحَاطَةَ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ كُلِّهِمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ نَقُولُ وَنَقْطَعُ: أَنَّ مَنْ ادَّعَى الإِحَاطَةَ بِأَقْوَالِهِمْ فَقَدْ كَذَبَ كَذِبًا مُتَيَقَّنًا لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَلاَ نُنْكِرُ الْقَوْلَ بِمَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ رِوَايَةٌ، عَنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَنَا قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لاَ تَقُولُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ إنْسَانًا قَالَ بِمَا فِيهِمَا; بَلْ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا ضَلاَلٌ وَبِدْعَةٌ وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ, وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
وَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ" . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا مِثْلُهُ. وَعَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْجَرَادَ نَثْرُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ, وَأَبَاحَ أَكْلَهُ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدَهُ; فَهَذَا قَوْلٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ كَعْبٌ: ذُكِرَ لِعُمَرَ أَنِّي أَصَبْت جَرَادَتَيْنِ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا نَوَيْت فِي نَفْسِك قُلْت: دِرْهَمَيْنِ, فَقَالَ عُمَرُ: تَمْرَتَانِ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَتَيْنِ, امْضِ لِمَا نَوَيْت فِي نَفْسِك. فَهَذَا عُمَرُ, وَكَعْبٌ: جَعَلاَ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمًا فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ جَرَادَةً: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو

(7/230)


ابْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْجَرَادَةِ تَمْرَةٌ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَرَادَةٍ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ بِأَنْ يَقْصِدَ بِقَبْضَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فِي الْجَرَادَةِ إذَا صَادَهَا الْمُحْرِمُ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ رَابِعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ: فِي الْجَرَادَةِ لَيْسَ فِيهَا فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ فَإِنْ قَتَلَهَا عَمْدًا أَطْعَمَ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْجَرَادَةِ قَالَ: يُطْعِمُ كِسْرَةً فَهَذَا قَوْلٌ خَامِسٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ صَيْدًا لَيْسَ لَهُ نِدٌّ مِنْ النَّعَمِ: إنَّهُ يُهْدِي ثَمَنَهُ إلَى مَكَّةَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنْ عِكْرِمَةَ فِيهِ ثَمَنُهُ فَهَذَا قَوْلٌ سَادِسٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهَذَا قَوْلٌ سَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ أَكْلَ الْجَرَادِ لِلْمُحْرِمِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ جَزَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: نَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخْذِ الْجَرَادِ فِي الْحَرَمِ قَالَ: لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِ مَا أَخَذُوهُ, فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ كَمَا أَوْرَدْنَا, فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٌّ لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ أَبَا الْمُهَزِّمِ وَهُوَ هَالِكٌ وَفِي الآُخْرَى مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَبِالْعِيَانِ يَرَى النَّاسُ الْجَرَادَ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْبَرِّ يَفْقِسُ عَنْهُ الْبَيْضُ وَفِي الْبَرِّ يَبْقَى حَتَّى يَمُوتَ, وَأَنَّهُ لَوْ غُمِسَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مَلْحٍ لَمَاتَ فِي مِقْدَارِ مَا يَمُوتُ فِيهِ سَائِرُ حَيَوَانِ الْبَرِّ إذَا غُمِسَ فِي الْمَاءِ, وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَقُولُ الْكَذِبَ; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَصَحَّ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ بِلاَ شَكٍّ. وَالأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَكَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ

(7/231)


دِرْهَمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْجَرَادَة: تَمْرَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كِسْرَةٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ: يُطْعِمُ شَيْئًا إنْ أَصَابَهَا عَمْدًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا لاَ نِدَّ لَهُ مِنْ النَّعَمِ: ثَمَنُهُ يُهْدِيهِ إلَى مَكَّةَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: ثَمَنُهُ وَالْجَرَادَةُ مِمَّا لاَ نِدَّ لَهَا مِنْ النَّعَمِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَنْعُ مِنْ صَيْدِهَا وَلَمْ يَجْعَلاَ فِيهَا شَيْئًا. فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ مَا قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ كُلَّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَنَّى لَهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ: مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, أَوْ الطَّيْرِ صِغَارُهَا فِي صِغَارِهِ, وَكِبَارُهَا فِي كِبَارِهِ, فَفِي رَأْلِ النَّعَمِ: فَصِيلٌ مِنْ الإِبِلِ. وَفِي وَلَدِ كُلِّ مَا فِيهِ بَقَرَةٌ عُجَيْلٌ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ, وَفِيمَا فِيهِ شَاةٌ, حَمَلٌ, أَوْ جَدْيٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وقال مالك: فِي صِغَارِهَا مَا فِي كِبَارِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لإِنَّ الْكَبِيرَ لَيْسَ مِثْلاً لِلصَّغِيرِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي فَرْخَيْ حَمَامَةٍ وَأُمِّهِمَا بِثَلاَثَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَيُفْدَى الْمَعِيبُ بِمَعِيبٍ مِثْلِهِ, وَالسَّالِمُ بِسَالِمٍ, وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَالآُنْثَى بِالآُنْثَى لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: فِي الظَّبْيَةِ الْوَالِدِ: شَاةٌ وَالِدٌ. وَفِي الْحِمَارَةِ الْوَحْشِ النَّتُوجِ بَقَرَةٌ نَتُوجٌ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَرَأَيْت لَوْ أَصَبْت صَيْدًا فِيهِ نَقْصٌ أَوْ عَوَرٌ أَغْرَمُ مِثْلَهُ قَالَ: نَعَمْ, قُلْت: الْوَفِيُّ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ: نَعَمْ وَفِي وَلَدِ الضَّبُعِ وَلَدُ الْكَبْشِ لإِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ الضِّبَاعِ لاَ يُسَمَّى ضَبُعًا إنَّمَا يُسَمَّى الْفَرْغَلَ. وَالسُّلَحْفَاةُ هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ, لإِنَّ عَيْشَهَا الدَّائِمَ فِي الْبَرِّ فَفِيهَا الْجَزَاءُ بِصَغِيرٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَمَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَاءِ أَبَدًا لاَ يُفَارِقُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا عَاشَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِيهِ: نِصْفُ الْجَزَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَحْرِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ صَيْدَ الْبَرِّ فَلَيْسَ إلاَّ حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَلاَلٌ حَرَامٌ مَعًا, وَلاَ لاَ حَلاَلٌ، وَلاَ حَرَامٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/232)


880 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْضُ النَّعَامِ وَسَائِرِ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمَا: لإِنَّ الْبَيْضَ لَيْسَ صَيْدًا, وَلاَ يُسَمَّى صَيْدًا, وَلاَ يُقْتَلُ, وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ صَيْدِ الْبَرِّ فَقَطْ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ مَيِّتٍ فَلاَ جَزَاءَ لَهُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ حَيٍّ فَمَاتَ فَجَزَاؤُهُ بِجَنِينٍ مِنْ مِثْلِهِ; لاَِنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ. وقال مالك: فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ: عُشْرُ الْبَدَنَةِ, وَفِي بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ, عُشْرُ الشَّاةِ, قَالَ: لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلاَ لِلْحَلاَلِ إذَا شَوَاهُ الْمُحْرِمُ أَوْ كَسَرَهُ. وقال الشافعي: فِيهِ قِيمَتُهُ فَقَطْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا; وَأَخْطَأَ خَطَأً آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ جَزَاؤُهُ بِثَمَنِهِ وَالْجَزَاءُ بِالثَّمَنِ لاَ يُوجَدُ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَهُمْ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا أَشَدَّ الإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي قَوْلِنَا فِي الْجَرَادِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الاِشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ حَيْثُ صَحَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَوَازِهِ, ثُمَّ أَجَازُوهُ هَاهُنَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ يُعْرَفُ قَبْلَهُمْ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُقَوَّمُ الْبَدَنَةُ, أَوْ الشَّاةُ, ثُمَّ نَأْخُذُ عُشْرَ تِلْكَ الْقِيمَةِ فَنُطْعِمُ بِهِ قلنا: هَذَا خَطَأٌ رَابِعٌ فَاحِشٌ لاَِنَّكُمْ تُلْزِمُونَهُ وَتَأْمُرُونَهُ بِمَا تَنْهَوْنَهُ عَنْهُ مِنْ وَقْتِكُمْ فَتُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ بَدَنَةٍ, وَعُشْرَ شَاةٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إهْدَاؤُهُ, إنَّمَا يَلْزَمُهُ طَعَامٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعُشْرِ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ, وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَخَامِسُهَا: احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ الَّذِي فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. فَقُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ وَتَشْبِيهٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ الْمُشَبَّهِ بِالْبَاطِلِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَلاَ فِي جَنِينِ الأَمَةِ: عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ, وَلاَ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ; وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام: غُرَّةً عَبْدًا, أَوْ أَمَةً فَقَطْ, وَلاَ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ قِيمَةً; بَلْ جَعَلَهَا مِائَةً مِنْ الإِبِلِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّاسِ فِي هَذَا فَإِنَّنَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضًا وَتَتْمِيرَ وَحْشٍ فَقَالَ لَهُ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ حَرْفًا حَرْفًا.

(7/233)


قال أبو محمد: الأَوَّلُ مُرْسَلٌ, وَفِي الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ فِيهِمَا نَهْيٌ، عَنْ أَكْلِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكٌ مِنْهُ عليه السلام وَقَدْ يَتْرُكُ مَا لَيْسَ حَرَامًا كَمَا تَرَكَ الضَّبَّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ. وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهَا مُحْرِمٌ فَقَالَ عليه السلام: "فِي كُلِّ بَيْضَةٍ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَبُو الزِّنَادِ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ, وَقَالَ بِهَذَا بَعْضُ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ أَفْتَى بِذَلِكَ عَلَى مُحْرِمٍ أَشَارَ لِحَلاَلٍ إلَى بَيْضِ نَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ تُرْسِلُ الْفَحْلَ عَلَى إبِلِك فَإِذْ تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سَمَّيْت عَدَدَ مَا أَصَبْت مِنْ الْبَيْضِ فَقُلْت: هَذَا هَدْيٌ ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْك ضَمَانُ مَا فَسَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَعْجَبْ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَجَبٍ مَا هُوَ إلاَّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْبَيْضُ فِي السُّوقِ يُتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إبِلٌ فَإِنَّ فِيهِ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ; وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ. أَوْ ثَمَنُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ, أَوْ ثَمَنُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا بَيْضُ الْحَمَامِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ وَعَطَاءٍ كِلاَهُمَا قَالَ: إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،

(7/234)


عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ مَكَّةَ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ; وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ فَدِرْهَمٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِنِصْفِ دِرْهَمٍ طَعَامٌ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي بَيْضِ حَمَامِ مَكَّةَ: دِرْهَمٌ وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ الْحِلِّ: مُدٌّ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيهِ ثَمَنُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْبَيْضَةِ: دِرْهَمٌ فَهِيَ أَقْوَالٌ كَمَا تَرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ صَوْمَ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامَ مِسْكِينٍ فِيهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنَيْهِ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَابْنِ سِيرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْهَا لِقَاحَ نَاقَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ, وَمُعَاوِيَةَ, وَعَطَاءٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ ثَمَنَهَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ لِقَاحُ نَاقَةٍ وَمَنْ لاَ إبِلَ لَهُ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: فِي الْبَيْضَةِ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: فِي الْبَيْضَةِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ, وَثَالِثُهَا: فِيهَا نِصْفُ دِرْهَمٍ, فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ فَدِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَرَابِعُهَا: فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ دِرْهَمٌ, وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ الْحِلِّ مُدٌّ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَخَامِسُهَا: فِيهَا ثَمَنُهَا وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ. فَخَرَجَ قَوْلاَ: مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُمَا قَائِلٌ مِنْ السَّلَفِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/235)


881 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُجْزَى الْهَدْيُ فِي ذَلِكَ إلَّا مُوقَفًا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.

(7/235)


وأما الاطعام والصيام فحيث شاء لأن الله لم يحد لهما موضعاً
...
882 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ فَحَيْثُ شَاءَ, لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ لَهُمَا مَوْضِعًا.

(7/235)


883 - مَسْأَلَةٌ: وَصَيْدُ كُلِّ مَا سَكَنَ الْمَاءَ مِنْ الْبِرَكِ, أَوْ الأَنْهَارِ, أَوْ الْبَحْرِ, أَوْ الْعُيُونِ أَوْ الآبَارِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُهُ وَأَكْلُهُ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} فَسَمَّى تَعَالَى كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ بَحْرًا, وَحَتَّى لَوْ لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَ صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَكُلِّ مَا ذَكَرْنَا حَلاَلاً بِلاَ خِلاَفٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ حُرِّمَ بِالإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ

(7/235)


884 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِيمَا أُصِيبَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُ حَلاَلٌ, أَوْ مُحْرِمٌ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} الآيَةَ. فَمَنْ كَانَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَاسْمُ "حَرَمٍ" يَقَعُ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى عَمَّنْ أَصَابَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيِّ, وَبَعْضِ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ وَهُمَا حَرَّتَانِ بِهَا مَعْرُوفَتَانِ, وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ كَحَرَمِ مَكَّةَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ جَزَاءَ فِيهِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اُمْتُحِنَ بِتَقْلِيدِهِمَا بِخَبَرَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ كَانَ يَتَصَيَّدُ بِالْعَقِيقِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ بِالْمَدِينَةِ وَالنَّهْيِ، عَنْ صَيْدِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ وَحْشٌ فَكَانَ يَلْعَبُ فَإِذَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَعَ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ الصَّيْدَ إذَا صِيدَ فِي الْحِلِّ, ثُمَّ أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ حَلَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(7/236)


885 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لاَِنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ حَرَمٌ, فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْقَاتِلُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الصَّيْدُ، وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ; أَمَّا سُقُوطُ الْجَزَاءِ فَلاَِنَّهُ لَيْسَ حَرَمًا وَأَمَّا عِصْيَانُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فَلاَِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ جَزَاءٌ إنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهُ فَقَطْ; وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا كَانَ حَرَمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ فَذَكَرَ كَلاَمًا فِيهِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ, وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبِي، نا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ.

(7/236)


886 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقَارِنُ, وَالْمُعْتَمِرُ, وَالْمُتَمَتِّعُ: سَوَاءٌ فِي الْجَزَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِي حِلٍّ أَصَابُوهُ, أَوْ فِي حَرَمٍ إنَّمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَالشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفة عَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ فَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ; ثُمَّ قَالَ: إنْ قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا فِيهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصَّدَقَةُ فَقَطْ, وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامٌ وَهَذَا تَخْلِيطٌ آخَرُ, وَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَ بِهِ قَبْلَهُ; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَهُوَ حَرَمٌ جَزَاءَ مِثْلِ مَا قَتَلَ, لاَ جَزَاءَ مِثْلَيْ مَا قَتَلَ; فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فِي كِلاَ الْمَوْضِعَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ سُئِلُوا، عَنِ الصَّيْدِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَمَا سَأَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَارِنٌ هُوَ, أَمْ مُفْرِدٌ, أَمْ مُعْتَمِرٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/237)


887 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ عَامِدِينَ لِذَلِكَ كُلُّهُمْ, فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَلَيْسَ فِي الصَّيْدِ إلاَّ مِثْلُهُ لاَ أَمْثَالُهُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّ مَوَالِيَ لاِبْنِ الزُّبَيْرِ قَتَلُوا ضَبُعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَسَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: اذْبَحُوا كَبْشًا فَقَالُوا، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا فَقَالَ: بَلْ كَبْشٌ وَاحِدٌ جَمِيعَكُمْ وَهَذَا فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ; وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَرُوِيَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالشَّعْبِيِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ النَّخَعِيِّ, وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.

(7/237)


888 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مَرَّةٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بِمُسْقِطٍ لِلْجَزَاءِ عَنْهُ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ, بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ عَمْدًا, فَهُوَ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ مَعَ النِّقْمَةِ عَلَى الْعَائِدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/238)


889 - مَسْأَلَةٌ: وَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ مَا عَدَا الصَّيْدَ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَاجِ, وَالإِوَزِّ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْبُرَكِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْحَمَامِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ, وَالْخَيْلِ, وَكُلِّ مَا لَيْسَ صَيْدًا الْحِلُّ وَالْحَرَمُ سَوَاءٌ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحَرِّمْهُ; وَكَذَلِكَ يَذْبَحُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا الْحَلاَلُ فِي الْحَرَمِ بِلاَ خِلاَفٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.

(7/238)


890 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, وَلِلْمُحِلِّ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ قَتْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ, وَالآُسْدِ وَالسِّبَاعِ, وَالْقَمْلِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَقِرْدَانِ

(7/238)


891 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ دُخُولُ الْحَمَّامِ, وَالتَّدَلُّكُ, وَغَسْلُ رَأْسِهِ بِالطِّينِ, وَالْخِطْمِيِّ, وَالاِكْتِحَالُ, وَالتَّسْوِيكُ, وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ, وَشَمُّ الرَّيْحَانِ, وَغَسْلُ ثِيَابِهِ, وَقَصُّ أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ, وَنَتْفُ إبْطِهِ, وَالتَّنَوُّرُ, وَلاَ حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي مَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَمُدَّعِي الإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: كَاذِبٌ عَلَى جَمِيعِ الآُمَّةِ, قَائِلٌ مَا لاَ عِلْمَ بِهِ وَمَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً فَقَدْ أَوْجَبَ شَرْعًا فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِوَسَخِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا. وَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ, وَيَنْزِعُ ضِرْسَهُ, إنْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ طَرَحَهُ, أَمِيطُوا عَنْكُمْ الأَذَى إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا. وَأَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بِشَمِّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا, وَأَنْ يَقْطَعَ ظُفْرَهُ إذَا انْكَسَرَ, وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ إذَا آذَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:

(7/246)


رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْضَ بَنِيهِ أَحْسَبُهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ, وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى ضِفَّةِ الْبَحْرِ, وَهُمَا يَتَمَاقَلاَنِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ: يُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا وَيُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا: فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْت أُطَاوِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ النَّفَسَ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فِي الْحِيَاضِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أُمَاقِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ الْمُمَاقَلَةُ: التَّغْطِيسُ فِي الْمَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ هُوَ، وَابْنُ عُمَرَ بِإِخَاذِ بِالْجُحْفَةِ يَتَرَامَسَانِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ.
قال أبو محمد: الإِخَاذُ الْغَدِيرُ وَالتَّرَامُسُ التَّغَاطُسُ. وَرَأَى مَالِكٌ عَلَى مَنْ غَيَّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ: الْفِدْيَةَ, وَخَالَفَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا; وَاخْتَلَفَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَاحْتَكَمَا إلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ, وَوَجَّهَا إلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ فَوَجَدَهُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ, وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَنْقُضَ رَأْسَهَا وَتَمْتَشِطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الْعُمْرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي، عَنْ غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُمَشِّطَ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ الْمَرْأَةَ الْحَرَامَ وَتَقْتُلَ قَمْلَ غَيْرِهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالاَ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ الْمُحْرِمِ الْحَمَّامَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قلنا: رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَجِّ, وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الأَظْفَارِ, وَنَتْفُ الإِبْطِ, وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَصُّ الشَّارِبِ, وَالْفِطْرَةُ سُنَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهَا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يَجْعَلُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ, أَوْ أُبِيحَ لَهُ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ: كَفَّارَةً أَوْ غَرَامَةً, ثُمَّ لاَ يَجْعَلُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي فُسُوقِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ شَيْئًا, لاَ فِدْيَةً, وَلاَ غَرَامَةً, بَلْ يَرَى حَجَّهُ ذَلِكَ تَامًّا مَبْرُورًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ,

(7/247)


وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال مالك: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَالإِبَاحَةُ عَنْهُ أَصَحُّ. وقال أبو حنيفة: إنْ قَلَّمَ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ, أَرْبَعَ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ مِنْ يَدَيْهِ, وَمِنْ كُلِّ رِجْلٍ مِنْ رِجْلَيْهِ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ مَا شَاءَ, فَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَ كَفٍّ وَاحِدَةٍ فَقَطْ, أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ يَدَيْنِ, أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ, أَوْ مِنْ يَدَيْهِ, وَرِجْلَيْهِ مَعًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ قَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: يُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ زُفَرُ, وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنْ قَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ مِنْ يَدَيْنِ وَرِجْلٍ, أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ وَيَدٍ: فَعَلَيْهِ دَمٌ فَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ أُصْبُعٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَلِّمَ جَمِيعَ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ: فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وقال مالك: مَنْ قَلَّمَ مِنْ أَظْفَارِهِ مَا يُمِيطُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا فَلْيُطْعِمْ مُدًّا, فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَمُدَّيْنِ, فَإِنْ قَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي لاَ حَظَّ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الصَّوَابِ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ آنِفًا: لاَ بَأْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ أَنْ يَطْرَحَهُ عَنْهُ وَأَنْ يُمِيطَ، عَنْ نَفْسِهِ الأَذَى. وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ جَعَلَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَعَنْ عَطَاءٍ: إنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ لاَِذًى بِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ قَصَّهَا لِغَيْرِ أَذًى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَعَنْهُ, وَعَنِ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ الْمُنْكَسِرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ قَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكَسِرَ: فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: إنْ نَزَعَ الْمُحْرِمُ ضِرْسَهُ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى فِي إمَاطَةِ الأَذَى الدَّمَ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ فِي إيجَابِ إمَاطَةِ الأَذَى بِقَلْعِ الضِّرْسِ, وَنَعِمَ, وَفِي الْبَوْلِ, وَفِي الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ إمَاطَةُ أَذًى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ طُرُقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ: إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِغَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.

(7/248)


892 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ, أَوْ وَهَبَهُ لِمُحْرِمٍ, أَوْ اشْتَرَاهُ مُحْرِمٌ: فَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ, وَلِمَنْ فِي الْحَرَمِ مِلْكُهُ, وَذَبْحُهُ, وَأَكْلُهُ وَكَذَلِكَ

(7/248)


مَنْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ فِي مَنْزِلِهِ قَرِيبًا, أَوْ بَعِيدًا, أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُ كَمَا كَانَ أَكْلُهُ, وَذَبْحُهُ وَمِلْكُهُ, وَبَيْعُهُ, وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً التَّصَيُّدُ لِلصَّيْدِ وَتَمَلُّكُهُ وَذَبْحُهُ حِينَئِذٍ فَقَطْ, فَلَوْ ذَبَحَهُ لَكَانَ مَيْتَةً, وَلَوْ انْتَزَعَهُ حَلاَلٌ مِنْ يَدِهِ لَكَانَ لِلَّذِي انْتَزَعَهُ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ أَحَلَّ, إلاَّ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ تَمَلُّكًا بَعْدَ إحْلاَلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. وَقَالَ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَاتَانِ الآيَتَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا, وَالشَّيْءُ الْمُتَصَيَّدُ هُوَ الْمُحَرَّمُ مِلْكُهُ وَذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ كَيْفَ كَانَ فَحَرَّمُوا عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ جُمْلَةً وَإِنْ صَادَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلٌ وَإِنْ ذَبَحَهُ الْحَلاَلُ. وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ, وَأَوْجَبُوا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ وَفِي دَارِهِ صَيْدٌ أَوْ فِي يَدِهِ, أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ أَنْ يُطْلِقَهُ, وَأَسْقَطُوا عَنْهُ مِلْكَهُ أَلْبَتَّةَ, وَلَمْ يُبِيحُوا لاَِحَدٍ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ, أَوْ تَمَلُّكَهُ, أَوْ ذَبْحَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ التَّصَيُّدُ لاَ الشَّيْءَ الْمُتَصَيَّدَ وَهُوَ مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ صَيْدُهُ لِمَا يَتَصَيَّدُ فَقَطْ. وَقَالُوا: قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} هُوَ التَّصَيُّدُ أَيْضًا نَفْسُهُ الْمُحَرَّمُ فِي الآيَةِ الآُخْرَى.
وَاسْتَدَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى مَا قَالَتْهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَالُوا: فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِالإِحْلاَلِ هُوَ بِلاَ شَكٍّ الْمُحَرَّمُ عَلَيْنَا بِالإِحْرَامِ لاَ غَيْرُهُ. وَقَالُوا: لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ الصَّيْدِ إلاَّ عَلَى مَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْشِيًّا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ فَإِذَا تُمُلِّكَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ بَعْدُ.
قال أبو محمد: فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ هُمَا اللَّذَانِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ الآيَةِ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ مَا عَدَاهُمَا فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ لاَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ أَصْلاً فَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي أَيِّ الْقَوْلَيْنِ يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ الْبُرْهَانُ: فَوَجَدْنَا أَهْلَ الْمَقَالَةِ الآُولَى يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: "إنَّا حُرُمٌ لاَ نَأْكُلُ الصَّيْدَ" . وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بِلَفْظِ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ".
رُوِّينَا اللَّفْظَ الأَوَّلَ: مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَاللَّفْظَ الثَّانِيَ: مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ

(7/249)


طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ: إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ رُوِّينَاهُمَا مِنْ طُرُقٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ, وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دَاوُد.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ظَبْيٌ مَذْبُوحَةٌ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا, وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الآُخْرَى: فَوَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي ثُمَّ رَكِبْتُ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي فَقُلْتُ لاَِصْحَابِي: نَاوِلُونِي سَوْطِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ فَقَالُوا: لاَ وَاَللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَنَزَلْتُ فَتَنَاوَلْتُهُ; ثُمَّ رَكِبْتُ فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ, وقال بعضهم: لاَ تَأْكُلُوهُ, وَكَانَ النَّبِيُّ عليه السلام أَمَامَنَا فَحَرَّكْتُ فَرَسِي فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ: هُوَ حَلاَلٌ فَكُلُوهُ. أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ ثِقَةٌ اسْمُهُ نَافِعٌ رَوَى عَنْهُ أَبُو النَّضْرِ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، نا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، نا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَبُو قَتَادَةَ مُحِلٌّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَأَكَلَهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ, وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ, فَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ, وَمِنَّا مَنْ أَكَلَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ, وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّوْحَاءِ وَهُمْ حُرُمٌ إذَا حِمَارٌ مَعْقُورٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ أَنْ

(7/250)


يَأْتِيَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ, فَأَمَرَ عليه السلام أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ". وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَطَلْحَةَ كَمَا ذَكَرْنَا, وَأَبِي هُرَيْرَةَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَنِي قَوْمٌ مُحْرِمُونَ، عَنْ مُحَلِّينَ أَهْدَوْا لَهُمْ صَيْدًا قَالَ: فَأَمَرْتهمْ بِأَكْلِهِ, ثُمَّ لَقِيت عُمَرَ فَأَخْبَرْته, فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لاََوْجَعْتُك. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَمِيرُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارِ وَحْشٍ قَدْ عَقَرَهُ فَابْتَاعَهُ كَعْبُ بْنُ مُسْلِمٍ فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقُدُورُ تَغْلِي بِهِ, فَقَالَ مُعَاذٌ: لاَ يُطِيعُنِي أَحَدٌ إلاَّ أَكْفَأَ قِدْرَهُ فَأَكْفَأَ الْقَوْمُ قُدُورَهُمْ فَلَمَّا وَافَوْا عُمَرَ قَصَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ قِصَّةَ الْحِمَارِ, قَالَ عُمَرُ: مَا بَأْسُ ذَلِكَ وَمَنْ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ لَعَلَّك أَفْتَيْت بِذَلِكَ يَا مُعَاذُ قَالَ: نَعَمْ فَلاَمَهُ عُمَرُ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَأَبِي ذَرٍّ, وَمُجَاهِدٍ, وَاللَّيْثِ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: فَكَانَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا صِحَاحًا كُلُّهَا, فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا كَمَا هِيَ دُونَ أَنْ يُزَادَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَقَعُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ, فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ فَوَجَدْنَا فِيهَا إبَاحَةَ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ لِلْمُحْرِمِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَوَجَدْنَاهَا لَيْسَ فِيهَا نَهْيُ الْمُحْرِمِ، عَنْ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهَا قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ, وَلَوْلاَ أَنَّنَا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ" فَإِنَّمَا فِيهِ رَدُّ الصَّيْدِ عَلَى مُهْدِيهِ, لأَنَّهُمْ حُرُمٌ وَتَرْكُ أَكْلِهِ لأَنَّهُمْ حُرُمٌ; وَهَذَا فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام وَلَيْسَ أَمْرًا, وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَمْرُهُ وَإِنَّمَا فِي فِعْلِهِ الاِئْتِسَاءُ بِهِ فَقَطْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام: "أَمَّا أَنَا فَلاَ آكُلُ مُتَّكِئًا". وَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ فَلَمْ يُحَرِّمْ بِذَلِكَ الأَكْلَ مُتَّكِئًا لَكِنْ هُوَ الأَفْضَلُ. وَلَمْ يُحَرَّمْ أَيْضًا أَكْلُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ" لَكِنْ كَانَ تَرْكُ أَكْلِهِ أَفْضَلَ. وَهَكَذَا رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلاَ حَرَجَ فِي أَكْلِهِ أَصْلاً، وَلاَ كَرَاهَةَ لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَبَاحَهُ وَأَكَلَهُ أَيْضًا, فَمَرَّةً أَكَلَهُ, وَمَرَّةً لَمْ يَأْكُلْهُ, وَمَرَّةً قَبِلَهُ, وَمَرَّةً لَمْ يَقْبَلْهُ فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ مُبَاحٌ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضُ نَعَامٍ وَتَتْمِيرُ وَحْشٍ فَقَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ، وَلاَ يَصِحُّ فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّصَيُّدَ فِي الْبَرِّ فَقَطْ. وَصَحَّ أَنَّ قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} نَهْيٌ، عَنْ قَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِ الْمَرْءِ حَرَمًا, وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ قَتْلاً بِلاَ خِلاَفٍ فِي الشَّرِيعَةِ, وَالْقَتْلُ

(7/251)


لَيْسَ ذَكَاةً.فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ تَذْكِيَتِهِ, وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِنَهْيٍ، عَنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ التَّصَيُّدِ فَهُوَ حَلاَلٌ.
وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سَكَنَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ, وَهِيَ حَرَمٌ كَمَكَّةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَهُ, وَلَمْ يَزَلْ عليه السلام يُهْدَى لَهُ الصَّيْدُ وَلاَِصْحَابِهِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْمَدِينَةَ حَيًّا فَيُبْتَاعُ وَيُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ وَيُتَمَلَّكُ, وَمُذَكًّى فَيُبَاعُ وَيُؤْكَلُ, هَذَا أَمْرٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ أَحَدٌ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ, وَكَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَهِيَ حَرَمٌ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ يُحَدِّث هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ أَنَّ عَطَاءً يَكْرَهُ مَا أُدْخِلَ مِنْ الصَّيْدِ مِنْ الْحِلِّ أَنْ يُذْبَحَ فِي الْحَرَامِ, فَقَالَ هِشَامٌ: وَمَا عِلْمُ عَطَاءٍ, وَمَنْ يَأْخُذُ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَعْنِي عَمَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الأَقْفَاصِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام يُقَدِّمُونَ بِهَا الْقَمَارِيَّ وَالْيَعَاقِيبَ لاَ يَنْهَوْنَ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْحَرَمُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الإِحْرَامُ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصُّ أَصْلاً فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ إحْلاَلِهِ فِي يَدِ إنْسَانٍ قَدْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ ارْتِجَاعُهُ وَانْتِزَاعُهُ مِنْ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ, وَلَئِنْ كَانَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ مَلَكَهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى عَوْدَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ صَادَ مُحِلٌّ صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ حَرَمَ مَكَّةَ حَيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَإِنْ بَاعَهُ فُسِخَ بَيْعُهُ, فَإِنْ بَاعَهُ مِمَّنْ يَذْبَحُهُ أَوْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَنَاقُضٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ حَيًّا ثُمَّ يُذْبَحَ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: رَأَيْت الصَّيْدَ يُبَاعُ بِمَكَّةَ حَيًّا فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
قال أبو محمد: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ, وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, لإِنَّ كِلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ حَرَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِبُ فِيمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَمَلَّكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَنْ يُؤَدِّيَ لِصَاحِبِهِ صَيْدًا مِثْلَهُ يَبْتَاعُهُ لَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ, وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ، وَلاَ يُؤْكَلُ الَّذِي قُتِلَ لاَِنَّهُ مَيْتَةٌ, إذْ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ.

(7/252)


قال أبو محمد: وَهَا هُنَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ, أَحَدُهُمَا: قَوْمٌ قَالُوا: لَحْمُ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ هُوَ أَوْ يُصَدْ لَهُ, وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِلنَّبِيِّ عليه السلام وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلاَّ مَا اصْطَدْتُمْ وَصِيدَ لَكُمْ". فَرُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ أُتِيَ بِصَيْدٍ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَلَمْ يَأْكُلْهُ هُوَ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا عَجَبًا لَك تَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ مِمَّا لَسْت آكِلاً فَقَالَ عُثْمَانُ: إنِّي أَظُنُّ إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي, فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ فَسَاقِطٌ, لاَِنَّهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرَوَاهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ, وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ كِلاَهُمَا يَقُولُ فِيهِ: عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ, وَلاَ يَذْكُرَانِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْمَرٌ سَمَاعَ يَحْيَى لَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا: شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا: أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَرَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَذَكَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ.
فَلاَ يَخْلُو الْعَمَلُ فِي هَذَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تُغَلَّبَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لاَ سِيَّمَا وَفِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ سَمَاعَ يَحْيَى مِنْ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْمَرًا. وَتَسْقُطَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ جُمْلَةً لاَِنَّهُ اضْطَرَبَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِرِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ, وَأَبِي مُحَمَّدٍ, وَابْنِ مَوْهَبٍ, الَّذِينَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِمْ لاَِنَّهُ لاَ يَشُكُّ ذُو حِسٍّ أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ. إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ, وَتَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ, وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فِي مَكَان وَاحِدٍ فِي صَيْدٍ وَاحِدٍ, وَيُؤْخَذُ بِالزَّائِدِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا مَنْ رَوَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ قَدْ أَثْبَتَ خَبَرًا وَزَادَ عِلْمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ, فَوَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ، وَلاَ بُدَّ وَتَرْكُ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ

(7/253)


أَنَّ أَبَا النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ سَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَتِهِ, ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ, فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِنْ أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ. فَصَحَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُثْمَانَ, وَالزُّبَيْرِ, وَاسْتِحْسَانٌ, لاَ مَنْعٌ, وَلاَ عَنْ أَثَرٍ عِنْدَهُمَا, وَمِثْلُ هَذَا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ, وَلاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَصِدْ الْحِمَارَ إلاَّ لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ مَا لَمْ يُشِرْ لَهُ إلَيْهِ أَوْ يَأْمُرْهُ بِصَيْدِهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَأَشْفَقُوا مِنْهُ, فَسُئِلَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ: "هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَكُلُوهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ قَالُوا: لاَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا كَانَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ لَهُ: نَعَمْ إلاَّ أَنَّ الْيَقِينَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام، وَلاَ حَكَمَ بِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَلاَ تُؤْخَذُ الدِّيَانَةُ بِالتَّكَهُّنِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بِإِشَارَتِهِمْ إلَيْهِ, أَوْ أَمْرِهِمْ إيَّاهُ, أَوْ عَوْنِهِمْ لَهُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ لَبَيَّنَهُ عليه السلام, فَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حُكْمَ لِذَلِكَ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي مُحْرِمٍ كَانَ بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى حَجَلَةً فَأَمَرَ مُحِلًّا بِذَبْحِهَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/254)


893 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَمَرَ مُحْرِمٌ حَلاَلاً بِالتَّصَيُّدِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيَأْتَمِرُ لَهُ فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَاتِلُ لِلصَّيْدِ فَهُوَ حَرَامٌ, وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَأْتَمِرُ لَهُ، وَلاَ يُطِيعُهُ فَلَيْسَ الْمُحْرِمُ هَاهُنَا قَاتِلاً, بَلْ أَمَرَ بِمُبَاحٍ حَلاَلٍ لِلْمَأْمُورِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلاَلٌ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ مَيْتَةً لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الذَّكَاةُ خَالِصَةً, وَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّهُ لاَِنَّهُ قَاتِلٌ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحِلِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/254)


894 - مَسْأَلَةٌ: وَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ وَيُبَاشِرَهَا مَا لَمْ يُولِجْ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ إلاَّ عَنِ الرَّفَثِ, وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ, فَقَطْ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ

(7/254)


895 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا, أَوْ تَدَاوَى بِطِيبٍ, أَوْ مَسَّهُ طِيبُ الْكَعْبَةِ, أَوْ مَسَّ طِيبًا لِبَيْعٍ, أَوْ شِرَاءٍ, أَوْ لَبِسَ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ نَاسِيًا, أَوْ لِضَرُورَةٍ طَالَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ, أَوْ قَصُرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلاَ يَكْدَحُ ذَلِكَ فِي حَجِّهِ, وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ، عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ ذَلِكَ سَاعَةَ يَذْكُرُهُ أَوْ سَاعَةَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ, وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَحْلِقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَدْهُنَ بِمَا شَاءَ, فَلَوْ تَعَمَّدَ لِبَاسَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَوْ فِعْلَ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ.

(7/255)


بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عُفِيَ لاُِمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" فَالْمُسْتَكْرَهُ عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَالْمَرْأَةُ الْمُكْرَهَةُ عَلَى الْجِمَاعِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَحَجُّهُمْ تَامٌّ, وَإِحْرَامُهُمْ تَامٌّ. وقال أبو حنيفة: مَنْ غَطَّى رَأْسَهُ, أَوْ وَجْهَهُ, أَوْ لَبِسَ مَا نُهِيَ عَامِدًا, أَوْ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, فَإِنْ حَلَقَ قَفَاهُ لِلْحِجَامَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وقال مالك: مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَاطَ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الَّتِي عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ, وَلاَ يَحْتَجِمُ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ, فَإِنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وقال الشافعي: لاَ شَيْءَ فِي النِّسْيَانِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إلاَّ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فَقَطْ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَ: وَلاَ يَحْلِقُ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً. قال أبو محمد: أَمَّا أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرَةُ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ، وَلاَ نَعْلَمُهَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ; لإِنَّ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ: دَعْوَى فَاسِدَةٌ. وقال بعضهم: هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: كَذَبَ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ} فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللِّبَاسَ لاَ يَقِلُّ فِي النَّهَارِ بَلْ قَدْ يُوضَعُ لِلْقَائِلَةِ, وَأَخْبَرَ أَنَّ اللِّبَاسَ يَقِلُّ إلَى بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ يَكُونُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالنَّخَعِيِّ, أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُرِقْ دَمًا قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ لاَِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ صَدَقَةً لاَ دَمًا;، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَرَاهُ حَقًّا, ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, وَلَوْ كَانَتْ إمَاطَتُهُ الأَذَى بِغَيْرِ حَلْقِ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ لاََوْجَبَ الْفِدْيَةَ: الْبَوْلُ, وَالْغَائِطُ, وَالأَكْلُ, وَالشُّرْبُ, وَالْغُسْلُ لِلْحَرِّ وَالتَّرَوُّحِ, وَالتَّدَفُّؤُ لِلْبَرْدِ, وَقَلْعُ الضِّرْسِ لِلْوَجَعِ, فَكُلُّ هَذَا إمَاطَةُ أَذًى. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى إسْقَاطِهِ الْفِدْيَةَ فِي أَكْثَرَ

(7/256)


مِنْ ذَلِكَ قلنا: حَسْبُنَا وَإِيَّاكُمْ إقْرَارُكُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى إبْطَالِ عِلَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إمَاطَةِ أَذًى تَجِبُ فِيهِ فِدْيَةٌ, وَإِلْزَامُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ شَرْعٌ لاَ يُجَوِّزُ إلْزَامَهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كَذَبُوا; لأَنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُورِدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَشَرَةٍ مِنْ صَاحِبٍ, وَتَابِعٍ فِي ذَلِكَ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُهُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى إزَالَتِهِ، عَنْ نَفْسِهِ إلاَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى إنْبَاتِهِ.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَهَلْ زِدْتُمْ إلاَّ دَعْوَى لاَ بُرْهَانَ لَهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ الْخَبِيصَ الأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَعْنِي الْمُزَعْفَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ شُمَيْسَةَ الأَزْدِيَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَهَا: اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت غَيْرَ الإِثْمِدِ أَمَا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ, وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ.
وَمِنْ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ امْرَأَةً مُحْرِمَةً اكْتَحَلَتْ بِإِثْمِدٍ أَنْ تُهْرِقَ دَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا مَرْوَانُ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، نا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ قَالَ: رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَلُوقُ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَكَانَ مُحْرِمًا وَعَنْ عَطَاءٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: إنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَيْحَانًا, أَوْ مَسَّ طِيبًا: أَهْرَقَ دَمًا. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ.
قال أبو محمد: لَمْ يُخْبِرْ عليه السلام أَنَّ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً، وَلاَ فِدْيَةً وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا أَغْفَلَ ذَلِكَ, وَكَانَ عليه السلام كَثِيرَ الشَّعْرِ أَفْرَعَ وَإِنَّمَا نُهِينَا، عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الإِحْرَامِ وَالْقَفَا لَيْسَ رَأْسًا، وَلاَ هُوَ مِنْ الرَّأْسِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ

(7/257)


أَنَّهُ أَمَرَ مُحْرِمًا احْتَجَمَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِصِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ نُسُكٍ; فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَهَذَا عَلَيْهِمْ; لأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الدَّمَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ إنْ حَلَقَ لَهَا شَعْرًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ يَحْتَجِمُ الصَّائِمُ, وَلَمْ يَشْتَرِطْ تَرْكَ حَلْقِ الْقَفَا.
وَعَنْ طَاوُوس يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إذَا كَانَ وَجِعًا وَمَا نَعْلَمُ مَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَرَاقَ دَمًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ: إنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا الاِدِّهَانُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ وَ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ مُرَّةِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: رَآنَا أَبُو ذَرٍّ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَقَالَ: اُدْهُنُوا أَيْدِيَكُمْ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعَالِجَ الْمُحْرِمُ يَدَيْهِ بِالدَّسَمِ, وَأَنْ يَدْهُنَ بِالسَّمْنِ رَأْسَهُ لِصُدَاعٍ أَصَابَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: مَنْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلاَ بَأْسَ بِالأَدْهَانِ الْفَارِسِيَّةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي الطِّيبِ الْفِدْيَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالسَّمْنِ, أَوْ الزَّيْتِ, أَوْ الْبَنَفْسَجِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ: كَانَ الْحَكَمُ, وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ فِي الْمُحْرِمِ يُدَاوِي قُرُوحًا بِرَأْسِهِ وَجَسَدِهِ: إنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ نَاسِيًا: فَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمُحْرِمِ يُغَطِّي رَأْسَهُ نَاسِيًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى; فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَالْكَفَّارَةُ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِمِثْلِهِ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّاسِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أَجَازَا لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ الطَّعَامِ, وَفِيهِ الزَّعْفَرَانُ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَأْثُرُ قَوْلَهُ، عَنْ أَحَدٍ.
وَعَنْ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ: إبَاحَةُ الْخَبِيصِ الْمُزَعْفَرِ لِلْمُحْرِمِ. وَمِثْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, فِي لِبَاسِ الْقَمِيصِ, وَالْقَلَنْسُوَةِ, وَالْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ أَنَّهُ يُهْرِقُ دَمًا: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لاَِقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ فَسَقَ, وَالْفُسُوقُ يُبْطِلُ الْحَجَّ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/258)


896 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ الْمِنْطَقَةَ عَلَى إزَارِهِ إنْ شَاءَ أَوْ عَلَى جِلْدِهِ وَيَحْتَزِمَ بِمَا شَاءَ, وَيَحْمِلَ خُرْجَهُ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ وَرِدَاءَهُ إنْ شَاءَ, وَيَحْمِلَ مَا شَاءَ مِنْ الْحُمُولَةِ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ, أَوْ لِجَرْحٍ, وَيَجْبُرَ كَسْرَ ذِرَاعِهِ, أَوْ سَاقِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى جِرَاحِهِ, وَخُرَّاجِهِ, وَقَرْحِهِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَيُحْرِمُ فِي أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ حَاشَا

(7/258)


مَا صُبِغَ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} إلاَّ أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مُحْرِمًا مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْحَبْلِ أَلْقِهِ. وبه إلى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لاَ تَعْقِدْ عَلَيْكَ شَيْئًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ لِلْمُحْرِمِ فأما الأَثَرُ فَمُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ عَمَّنْ سَمِعَ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
قال أبو محمد: كِلاَهُمَا وَتَمْرَةٌ وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس قَالاَ جَمِيعًا: رَأَيْنَا ابْنَ عُمَرَ قَدْ شَدَّ حَقْوَيْهِ بِعِمَامَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ:، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَخِّصُ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ عَلَى حَقْوَيْهِ, وَفِي الْمِنْطَقَةِ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: لاَ بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ حَاجًّا فَرَمَلَ حَتَّى رَأَيْت مِنْطَقَتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَلَى بَطْنِهِ.
قال أبو محمد: لاَ شَكَّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى إحْرَازِ نَفَقَتِهِ, وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَرَأَى مَالِكٌ عَلَى مَنْ عَصَبَ رَأْسَهُ فِدْيَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ يَعْصِبُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِسَيْرٍ، وَلاَ بِخِرْقَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ شَدَّ شَعْرَهُ بِسَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكِلاَهُمَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ شَيْئًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءَ: يَنْحَلُّ إزَارِي يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ: اعْقِدْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَوَشَّحَ الْمُحْرِمُ بِثَوْبِهِ وَيَعْقِدَهُ عَلَى قَفَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ ثَوْبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَبَاحَ لِبَاسَ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَمُجَاهِدٌ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ يَنْكَسِرُ

(7/259)


ظُفْرُهُ: أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ مُرَارَةً وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، نا مَنْصُورٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالاَ جَمِيعًا: يَجْبُرُ الْمُحْرِمُ عَظْمَهُ إذَا انْكَسَرَ, قَالاَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُحْرِمِ, أَوْ شُجَّ عَصَبَ عَلَى الشَّجِّ وَالْكَسْرِ وَعَقَدَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَرْحَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى الْجَرْحِ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ لِلْمُحْرِمِ: الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ, وَأَنْ يَحْمِلَ الْخُرْجَ عَلَى رَأْسِهِ, وَنَحْوَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ بَأْسًا. وَأَبَاحَ مَالِكٌ لِبَاسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَتُهُ, وَمَنَعَهُ لِبَاسَهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَةُ غَيْرِهِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةَ. وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْعَضُدِ لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَ شَدَّهَا عَلَى جِلْدِهِ, وَمَنَعَ مِنْ شَدِّهَا فَوْقَ الإِزَارِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً فَأَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا, وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُمَا. وَمَنَعَ مَالِكٌ الْمُحْرِمَ مِنْ حَمْلِ خُرْجٍ لِغَيْرِهِ عَلَى رَأْسِهِ, وَرَأَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً, وَأَبَاحَ لَهُ حَمْلَهُ عَلَى رَأْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ لاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةُ حَمْلِ الْمُحْرِمِ الْمِكْتَلَ عَلَى رَأْسِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رَأَى عُمَرُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا أَخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَبِسَ ثَوْبًا مُوَرَّدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَ ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ لِلْمُحْرِمِ قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ، وَلاَ رَأَيْتُمْ فِيهِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ فَأَبَاحُوا الْمُصَبَّغَاتِ وَلَمْ يَقِيسُوهَا عَلَى الْوَرْسِ وَالْمُعَصْفَرِ, كَمَا قَاسُوا كُلَّ مَنْ أَمَاطَ بِهِ أَذًى عَلَى حَالِقٍ رَأْسَهُ, وَكَمَا قَاسُوا جَارِحَ الصَّيْدِ عَلَى قَاتِلِهِ; وَكَمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً.

(7/260)


897 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ بِمَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ، وَلاَ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا, وَلاَ مِنْ حَشِيشِهِ حَاشَا الإِذْخِرَ فَإِنَّ جَمْعَهُ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَرْعَى إبِلَهُ أَوْ بَعِيرَهُ أَوْ مَوَاشِيَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ وَجَدَ غُصْنًا قَدْ قَطَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ وَقَعَ فَفَارَقَ جِذْمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ حِينَئِذٍ. فَإِنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً فَإِنَّ سَلْبَهُ حَلاَلٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ

(7/260)


اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ, وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا لَيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلَّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ, وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ".
قال أبو محمد: هَذَا مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ إرْعَاءِ الْمَوَاشِي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِكَرَاهِيَةِ الرَّعْيِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَهَذَا تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَخْذَ السَّنَى وَسَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَهَذَا أَيْضًا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّنَى وَبَيْنَ سَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَسُفْيَانُ: بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى قَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغُصْنِ فَمَا فَوْقَهُ إلَى الدَّوْحَةِ: قِيمَةُ ذَلِكَ, فَإِنْ بَلَغَ هَدْيًا أَهْدَاهُ, فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيًا فَقِيمَتُهُ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ, أَوْ صَاعُ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ صِيَامٌ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلاَ صِيَامٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الدَّوْحَةِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهَا بَقَرَةٌ, وَفِي الْوَتَدِ مُدٌّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فِي الدَّوْحَة: بَقَرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فِي الدَّوْحَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ, أَوْ خَمْسَةٌ, أَوْ سَبْعَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا بِمَكَّةَ وَمَا نَعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فِي قَوْلِهِمَا سَلَفًا.
وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَجُوزُ شَرْعُ هَدْيٍ, وَلاَ إيجَابُ صِيَامٍ, وَلاَ إلْزَامُ غَرَامَةِ إطْعَامٍ, وَلاَ صَدَقَةٍ, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ; وَهَذَا مِمَّا تَرَكَتْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الْمَذْكُورَةُ الْقِيَاسَ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ قَاسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ فِي صَيْدِهِ وَلَمْ يَقِيسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى إيجَابِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَكِلاَهُمَا حَرَمٌ مُحَرَّمٌ صَيْدُهُ. وَقَاسَ مَالِكٌ إيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَى اللاَّبِسِ

(7/261)


وَالْمُتَطَيِّبِ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَالِقِ رَأْسِهِ, وَلَمْ يَقِسْ إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ, وَفِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى وُجُوبِهِ فِي صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ لاَ وَجْهَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/262)


898 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُسْفَكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ دَمٌ بِقِصَاصٍ أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يُقَامَ فِيهَا حَدٌّ, وَلاَ يُسْجَنَ فِيهَا أَحَدٌ, فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ، عَنِ الْحَرَمِ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنْ يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ, وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا إخْرَاجُ الْعَاصِي مِنْهُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَتَطْهِيرُهُ مِنْ الْعُصَاةِ وَاجِبٌ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ يُسَمَّى ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمُتَمَلَّكِ، وَلاَ الْحِجَامَةُ, وَلاَ فَتْحُ الْعِرْقِ: سَفْكَ دَمٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا, ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ: فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا نَدَهْتُهُ يَعْنِي حَرَمَ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وَجَدْت قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا عَرَضْت لَهُ.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَخُصُّوا مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ مِمَّنْ أَصَابَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ; ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَفَرَّقَ عَطَاءٌ, وَمُجَاهِدٌ بَيْنَهُمَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ خَرَّجَ قَوْمًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَصَلَبَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ قَتَلَ, ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ قَالَ: يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ. وقال أبو حنيفة: تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ الْقَتْلَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ فِيهِ حَدُّ قَتْلٍ، وَلاَ قَوَدٍ حَتَّى يَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَتْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فَاسِدٌ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَبَاحَ الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ حَجَّةً أَصْلاً, وَلاَ سَلَفًا, إلاَّ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ, وَمَنْ بَعَثَهُ, وَالْحَجَّاجَ, وَمَنْ بَعَثَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ فَلْيَدْفَعْ، عَنْ نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/262)


899 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُخْرَجُ شَيْءٌ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلاَ حِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ

(7/262)


900 - مَسْأَلَةٌ: وَمِلْكُ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا جَائِزٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَحِلُّ بَيْعُ دُورِهَا، وَلاَ إجَارَتُهَا. وَمَنَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ كِرَائِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعَ مِنْ التَّبْوِيبِ عَلَى دُورِهَا; وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ خَبَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ لاَ يَصِحَّانِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ مَلَكَ الصَّحَابَةُ بِهَا دُورَهُمْ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّه عليه السلام فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ, وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ رَبْعًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ رَسُولُهُ عليه السلام فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِيهَا.

(7/263)


901 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَحَلاَلٌ سَلْبُهُ كُلَّ مَا مَعَهُ فِي حَالِهِ تِلْكَ وَتَجْرِيدُهُ إلاَّ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَقَطْ; فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إنَّ سَعْدًا أَبَاهُ رَكِبَ إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلاَمِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلاَمِهِمْ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: إنِّي اسْتَعْمَلْتُك عَلَى مَا هَاهُنَا فَمَنْ رَأَيْتَهُ يَخْبِطُ شَجَرًا أَوْ يَعْضِدُهُ: فَخُذْ حَبْلَهُ وَفَأْسَهُ قُلْت: آخُذُ رِدَاءَهُ قَالَ: لاَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يُعْرَفُ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْحَشِيشِ لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الاِحْتِطَابِ وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِكُلِّ حَالٍ.

(7/263)


902 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى عَرَفَةَ أَوْ إلَى مِنًى أَوْ إلَى مَكَان ذَكَره مِنْ الْحَرَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى لاَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ لِلصَّلاَةِ هُنَالِكَ, أَوْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ, وَلاَ أَنْ يَعْتَمِرَ إلاَّ أَنْ يَنْذِرُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْكَبْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَإِنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي طَرِيقٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ يُعَوِّضُ مِنْهُ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامًا.

(7/263)


903 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا, أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَكَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلاَّ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ مَنَاسِكَ عَمَلِهِ; لإِنَّ هَذَا هُوَ الْحَجُّ, فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ فَكَمَا قَالَ عَطَاءٌ: مِنْ حَيْثُ نَوَى, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلْيَمْشِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَشْيٍ وَلْيَرْكَبْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى بِمَا نَذَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/266)


904 - مَسْأَلَةٌ: وَدُخُولُ مَكَّةَ بِلاَ إحْرَامٍ جَائِزٌ; لإِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام إنَّمَا جَعَلَ الْمَوَاقِيتَ لِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ يُرِيدُ حَجًّا, أَوْ عُمْرَةً, وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِمَنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً, فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلاَّ بِإِحْرَامٍ فَهُوَ إلْزَامُ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ إلْزَامُهُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِمًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. وقال أبو حنيفة: أَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمِيقَاتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ بِإِحْرَامٍ بِعُمْرَةٍ

(7/266)


905 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ, أَوْ يَعْتَمِرَ, وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ، وَلاَ اعْتَمَرَ قَطُّ فَلْيَبْدَأْ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتِهِ, وَلاَ يُجْزِيهِ إلاَّ ذَلِكَ, وَلاَ يُجْزِيه أَنْ يَحُجَّ نَاوِيًا لِلْفَرْضِ وَلِنَذْرِهِ, وَلاَ لِحَجَّةِ فَرْضٍ وَعُمْرَةِ نَذْرٍ, وَلاَ لِحَجَّةِ نَذْرٍ وَعُمْرَةِ فَرْضٍ; لإِنَّ عَقْدَ اللَّهِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ قَبْلَ نَذْرِهِ, فَإِنْ أَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَاصٍ وَالْمَعْصِيَةُ لاَ تَنُوبُ، عَنِ الطَّاعَةِ، وَلاَ يُجْزِي عَمَلٌ وَاحِدٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ مُفْتَرَضَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ فَالْعُمْرَةُ الْمُوجَبَةُ عَلَيْهِ لَسَوْقِ الْهَدْيِ هِيَ غَيْرُ الَّتِي نَذَرَ; فَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ عَمَلٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ، عَنْ صَلاَتَيْنِ, وَوَافَقُونَا نَعْنِي الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ صَوْمُ يَوْمٍ، عَنْ يَوْمَيْنِ, وَلاَ رَقَبَةٌ، عَنْ رَقَبَتَيْنِ، وَلاَ زَكَاةٌ، عَنْ زَكَاتَيْنِ, فَتَنَاقَضُوا, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ فَقَالَ: هَذِهِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ وَفِي بِنَذْرِك وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: يَبْدَأُ بِالْفَرِيضَةِ فِيمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ وَفِي هَذَا خِلاَفٌ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ

(7/267)


قَالاَ جَمِيعًا: تُجْزِئُهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ, وَأَبُو يُوسُفَ: مَنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَنَوَى بِعَمَلِهِ فَرْضَهُ, وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، عَنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ, وَتَبْطُلُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فَحَجَّ يَنْوِي نَذْرَهُ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ، عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ تَطَوُّعٌ، وَلاَ تُجْزِي، عَنِ النَّذْرِ.
قال أبو محمد: الْعَمَلُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِمَا لَزِمَهُ كَمَا أُمِرَ.

(7/268)


906 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ أَهْدَى هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَكَّةَ, أَوْ مِنًى فَلْيَنْحَرْهُ, وَلْيُلْقِ قَلاَئِدَهُ فِي دَمِهِ وَلِيُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ; وَإِنْ قَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ ضَمِنَ مِثْلَ مَا قَسَّمَ. فَلَوْ قَالَ: شَأْنُكُمْ بِهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَلاَ بَأْسَ;، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ، وَلاَ رُفَقَاؤُهُ مِنْهُ شَيْئًا, فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُمْ مِنْهُ أَدَّى إلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِثْلَ مَا أَكَلَ فَقَطْ الْغَنَمُ, وَالْبَقَرُ, وَالإِبِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَإِنْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ, وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَمَعْمَرٍ, كُلِيهِمَا، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ يَعْطَبُ: لِيَنْحَرْهُ, ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ, أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهِ غُرِّمَ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَطِبَ فَلْيَنْحَرْهُ, ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ, وَإِنْ شَاءَ أَهْدَى; وَإِنْ شَاءَ تَقَوَّى بِهِ فِي ثَمَنِ أُخْرَى وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي التَّطَوُّعِ مِثْلُهُ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنِي حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي الْهَدْيِ يَعْطَبُ فِي الطَّرِيقِ: كُلُوهُ، وَلاَ تَدَعُوهُ لِلْكِلاَبِ, وَالسِّبَاعِ, فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَأَهْدُوا مَكَانَهُ هَدْيًا, وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتُمْ فَلاَ تُهْدُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَهْدُوا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَطِبَتْ لَهُ بَدَنَةُ تَطَوُّعٍ فَنَحَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَأَكَلَهَا وَلَمْ يُهْدِ مَكَانَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَهُوَ تَطَوُّعٌ فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ, ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهُ, ثُمَّ كُلْهُ إنْ شِئْت, وَاهْدِهِ إنْ شِئْت وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ: كُلْ وَأَطْعِمْ وَلَيْسَ عَلَيْك الْبَدَلُ وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ أَيْضًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَكُلْ مِنْ التَّطَوُّعِ, وَلاَ تَأْكُلْ مِنْ الْوَاجِبِ. وَرُوِّينَا قَوْلاً آخَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: يَدْعُهَا تَمُوتُ.
فَرَجَعْنَا إلَى السُّنَّةِ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ

(7/268)


مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ فُلاَنٍ الأَسْلَمِيِّ ثَمَانِ عَشْرَةَ بَدَنَةً فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ أُزْحِفَ عَلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "تَنْحَرُهَا ثُمَّ تَصْبِغُ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَاجِيَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ فَقَالَ: "إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ" فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ هَدْيٍ.
قال أبو محمد: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَهَذَا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام; لاَِنَّهُ إذَا تَوَلَّى تَوْزِيعَهَا: فَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا. وقال مالك: إنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْهَدْيَ كُلَّهُ. وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً فَيَغْرَمُ عَنْهَا نَاقَةً مِنْ أَصْلِهَا, وَهَذَا عُدْوَانٌ لاَ شَكَّ فِيهِ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يَغْرَمُ إلاَّ مِثْلَ مَا أَكَلَ. وَهَذَا مِمَّا يَتَنَاقَضُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, فَأَخَذَا فِيهِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَرَكَا رَأْيَهُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ مَا رُوِيَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/269)


907 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ، عَنْ وَاجِبٍ وَهِيَ سِتَّةُ أَهْدَاءٍ فَقَطْ لاَ سَابِعَ لَهَا إمَّا جَزَاءُ صَيْدٍ, وَأَمَّا هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ, وَأَمَّا هَدْيُ الإِحْصَارِ, وَأَمَّا نُسُكُ فِدْيَةِ الأَذَى, وَأَمَّا هَدْيُ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْكَعْبَةِ فَرَكِبَ, وَأَمَّا نَذْرُ هَدْيٍ. وَهَذَا الْهَدْيُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ, وَقِسْمٌ مَنْذُورٌ بِعَيْنِهِ فَإِنْ عَطِبَ الْوَاجِبُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَعَلَ بِهِ صَاحِبُهُ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَيُهْدِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ حَاشَا الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَلاَ يُبَدِّلُهُ; لاَِنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا هَدْيٌ وَاجِبٌ فِي مَالِهِ وَذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَمَّا عَلَيْهِ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ عَطِبَ أَوْ لَمْ يَعْطَبْ. وَأَمَّا الْمَنْذُورُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَارِجٌ، عَنْ مَالِهِ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ إلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ فَيُهْلِكَهُ فَيَضْمَنَهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي نَذَرَهُ لَهُ; لاَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ تَحَكُّمِ الْمَرْءِ فِي هَدْيِهِ مَا لَمْ يُبْلِغْهُ مَحِلَّهُ فَمُبْطِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّعُ يَعْطَبُ قَبْلَ مَحِلِّهِ بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا. وَالتَّطَوُّعُ ثَلاَثَةُ أَهْدَاءٍ لاَ رَابِعَ لَهَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فِي قِرَانٍ

(7/269)


أَوْ فِي عُمْرَةٍ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ, أَوْ أَهْدَى وَهُوَ لاَ يُرِيدُ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً.

(7/270)


908 - مَسْأَلَةٌ: وَيَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَلاَ بُدَّ كَمَا قلنا، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأَهْدَاءِ الْوَاجِبَةِ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَإِنْ أَكَلَ ضَمِنَ مِثْلَ مَا أَكَلَ فَقَطْ, وَلاَ يُعْطَى فِي جِزَارَةِ الْهَدْيِ شَيْءٌ مِنْهُ أَصْلاً وَيَتَصَدَّقُ بِجِلاَلِهِ وَجُلُودِهِ، وَلاَ بُدَّ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} , وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ جَابِرٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً, ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ, ثُمَّ أَمَرَ فِي كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام بِأَخْذِ الْبِضْعَةِ وَطَبْخِهَا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الأَكْلِ مِنْ بَعْضِ الْهَدْيِ دُونَ بَعْضٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، نا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا فِي الْمَسَاكِينِ، وَلاَ يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا.
قال أبو محمد: مَنْ جَعَلَ بَعْضَ أَوَامِرِهِ عليه السلام فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ تَحَكَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الْقَوْلِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابَك ثُلُثًا وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى آلِ عُتْبَةَ ثُلُثًا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

(7/270)


الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا: ثُلُثٌ لاَِهْلِك, وَثُلُثٌ لَك, وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ يُدْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بِضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ وَنَذْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلاَ مِنْ النَّذْرِ، وَلاَ مِمَّا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ خَمْسَةٌ: النَّذْرُ, وَالْمُتْعَةُ, وَالتَّطَوُّعُ, وَالْوَصِيَّةُ, وَالْمُحْصَرُ, إلاَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا. وقال أبو حنيفة: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ الْمُتْعَةُ, وَالْقِرَانُ, وَالتَّطَوُّعُ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ وقال مالك: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ التَّطَوُّعَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ, وَجَزَاءَ الصَّيْدِ, وَفِدْيَةَ الأَذَى, وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ آرَاءٌ مُجَرَّدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُؤْكَلَ مِنْ كُلِّ هَدْيٍ إلاَّ مَا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ. فَقُلْنَا: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ لِلْمَسَاكِينِ, وَأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالإِحْصَارِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ وقال بعضهم: قِسْنَا هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى هَدْيِ الْقِرَانِ. فَقُلْنَا: أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيًا يَلْزَمُهُ بَعْدَ قِرَانِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَدْيٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضًا فَقَدْ أَلْزَمَ صَاحِبَهُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَطْعَهُ مِنْهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَا قَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَنْهُ إلاَّ بِنَصٍّ; لَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ إنْ شَاءُوا; لأَنَّهُمْ غَيْرُهُ إلاَّ مَا سُمِّيَ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَأْكُلُوا مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/271)


909 - مَسْأَلَةٌ: وَالآُضْحِيَّةُ لِلْحَاجِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا هِيَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لاَ يُضَحِّي الْحَاجُّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَمْرُو النَّاقِدُ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَرَى إلاَّ الْحَجَّ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ فَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهَا وَقَدْ حَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حَاضَتْ, فَقَالَ لَهَا عليه السلام: "فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" قَالَتْ: فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ

(7/271)


نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هِيَ ضَحَايَا. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ الْحَسَنَ أَبَاهُ تَمَتَّعَ فَذَبَحَ شَاتَيْنِ شَاةً لِمُتْعَتِهِ وَشَاةً لاُِضْحِيَّتِهِ. وَقَدْ حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَلَى الآُضْحِيَّةَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْحَاجُّ مِنْ الْفَضْلِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.

(7/272)


910 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَافَقَ الإِمَامُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ: جَهَرَ, وَهِيَ صَلاَةُ جُمُعَةٍ, وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَيْضًا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ; لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِالنَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَمِنًى مِنْ عَرَفَةَ وَمِنًى.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: إذَا وَافَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ: جَهَرَ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَجَّةَ النَّبِيِّ عليه السلام فَقَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَلَمْ يَخْطُبْ" قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزُ: وَفَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِثْلَ ذَلِكَ. وبه إلى إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ الظُّهْرَ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ: فَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ فِيهِ كُلُّ بَلِيَّةٍ. إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ مَتْرُوكٌ مِنْ الْكُلِّ, ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ, وَفِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ ابْنِ أَبِي يَحْيَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ; ثُمَّ الْكَذِبُ فِيهِ ظَاهِرٌ; لإِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام إنَّمَا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْفٍ، نا أَبُو الْعَمِيسِ، نا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".
فإن قيل: إنَّ الآثَارَ كُلَّهَا إنَّمَا فِيهَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قلنا: نَعَمْ, وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ نَفْسُهَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ أَنَّهُ عليه

(7/272)


السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا, وَالْجَهْرُ أَيْضًا لَيْسَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي أَنَّ ظُهْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْجَمَاعَةِ رَكْعَتَانِ.

(7/273)


911 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لَهُمَا; فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَحُجَّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال الشافعي: هُوَ فِي سَعَةٍ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا مُتَوَجَّهٌ إلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ; فَلاَ يَخْلُو الْمُسْتَطِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ لاَ يَكُونُ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ; فَإِنْ كَانَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي عَامِهِ وَهُوَ قَوْلُنَا, وَهُوَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مُعَطِّلُ فَرْضٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ فَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ مَفْسُوحًا لَهُ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ الْمَلاَمَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْمَلاَمَةُ لاَ تَلْحَقُ أَحَدًا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصَحَّ أَنَّهُ مَلُومٌ فِي حَيَاتِهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ إلاَّ فِي آخِرِهَا قلنا: لاَ بَيَانَ عِنْدَكُمْ مَتَى افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ, وَمُمْكِنٌ أَنْ لاَ يَكُونَ اُفْتُرِضَ إلاَّ عَامَ حَجَّ عليه السلام, وَمَا لاَ نَصَّ بَيِّنًا فِيهِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ, إلاَّ أَنَّنَا مُوقِنُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَدَعُ الأَفْضَلَ إلاَّ لِعُذْرٍ مَانِعٍ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ. فَإِنْ ذَكَرُوا تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا. قلنا: هَذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَأَوْجِدُونَا نَصًّا بَيِّنًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُكُمْ حِينَئِذٍ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/273)


912 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّمَا تُرَاعَى الاِسْتِطَاعَةُ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَدَثَتْ لَهُ فِيهِ الاِسْتِطَاعَةُ فَيُدْرِكُ الْحَجَّ فِي وَقْتِهِ وَالْعُمْرَةَ, فَإِنْ اسْتَطَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ الْعَامِ كُلِّهِ وَبَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا، وَلاَ لَزِمَهُ الْحَجُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ إلاَّ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَيَكُونُ قَارِنًا, أَوْ مُتَمَتِّعًا.

(7/273)


913 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ اسْتَطَاعَ كَمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ بَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ أَدَاؤُهُمَا عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ إلاَّ بِأُجْرَةٍ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ لاَ يَلْزَمُ غَيْرُ هَذَا, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ, فَتَكُونُ الإِجَارَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَجِّ

(7/273)


914 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَعْلُومَاتُ وَاحِدَةٌ, وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةٌ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وَالتَّعْجِيلُ الْمَذْكُورُ وَالتَّأْخِيرُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِلاَ خَوْفٍ مِنْ أَحَدٍ فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ يَوْمُ النَّحْرُ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فَهَذِهِ بِلاَ شَكٍّ أَيَّامُ النَّحْرِ الَّتِي تُنْحَرُ فِيهَا بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ, وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَقَوْله تَعَالَى: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهَذَا قَوْلُنَا. وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ هَذَا, وَقَبْلُ وَبَعْدُ, فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ إلاَّ بِنَصٍّ, وَأَمَّا بِالدَّعْوَى وَقَوْلِ قَائِلٍ قَدْ خُولِفَ فَلاَ. صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ, وَأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ. رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ هُشَيْمٍ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زِرٍّ, وَنَافِعٍ, قَالَ زِرٌّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا: الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, اذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْت, وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا حَمَّادٌ بْن عِيسَى الْجُهَنِيُّ، نا جَعْفَرُ

(7/275)


ابْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، نا ابْنُ عَجْلاَنَ، نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, وَالْمَعْدُودَاتُ: ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ, فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ.وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إلاَّ تَعَلَّقَهُ بِابْنِ عُمَرَ, وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلاَفَ هَذَا, وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٌّ, فَلَيْسَ التَّعَلُّقُ بِبَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَاحْتَجَّ الآخَرُونَ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا قلنا: نَعَمْ وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي أَنَّهُ أَمَرَ بِذَكَرِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَطْ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ, وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِالنَّحْرِ لِلَّهِ تَعَالَى يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ; لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/276)


915 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْحَجَّ بِالصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ حَجٌّ وَأَجْرٌ, وَهُوَ تَطَوُّعٌ, وَلِلَّذِي يَحُجُّ بِهِ أَجْرٌ, وَيَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ وَاقَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَحِلُّ لَهُ, وَيُطَافُ بِهِ, وَيُرْمَى عَنْهُ الْجِمَارُ إنْ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ. وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ ذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُدَرَّبُوا وَيُعَلَّمُوا الشَّرَائِعَ مِنْ الصَّلاَةِ, وَالصَّوْمِ إذَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَيُجَنَّبُوا الْحَرَامَ كُلَّهُ, وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِأَنْ يَأْجُرَهُمْ, وَلاَ يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ إثْمًا حَتَّى يَبْلُغُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا سُفْيَانُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ".
قال أبو محمد: وَالْحَجُّ عَمَلٌ حَسَنٌ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} . فإن قيل: لاَ نِيَّةَ لِلصَّبِيِّ قلنا: نَعَمْ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إنَّمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ الْمُخَاطَبَ الْمَأْمُورَ الْمُكَلَّفَ, وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَلاَ مُكَلَّفًا، وَلاَ مَأْمُورًا وَإِنَّمَا أَجْرُهُ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدٌ عَلَيْهِ كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلاَ نِيَّةَ لَهُ، وَلاَ عَمَلَ بِأَنْ يَأْجُرَهُ بِدُعَاءِ ابْنِهِ لَهُ بَعْدَهُ وَبِمَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ, أَوْ صِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, وَلاَ فَرْقَ, وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَإِذَا الصَّبِيُّ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي صَيْدٍ إنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي إحْرَامِهِ, وَلاَ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لاَِذًى بِهِ, وَلاَ عَنْ تَمَتُّعِهِ, وَلاَ لاِِحْصَارِهِ; لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلَوْ لَزِمَهُ هَدْيٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ الصِّيَامَ وَهُوَ فِي الْمُتْعَةِ, وَحَلْقِ الرَّأْسِ, وَجَزَاءِ الصَّيْدِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا،

(7/276)


وَلاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ بِشَيْءِ مِمَّا ذَكَرْنَا, إنَّمَا هُوَ مَا عَمِلَ, أَوْ عُمِلَ بِهِ أُجِرَ, وَمَا لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الصِّبْيَانُ يَحْضُرُونَ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام, صَحَّتْ بِذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ: كَصَلاَتِهِ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَحُضُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُ الصَّلاَةَ, وَسَمَاعِهِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ، عَنْ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ طَائِفٌ وَحَامِلٌ, فَهُمَا عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ, كَمَا هُوَ طَائِفٌ وَرَاكِبٌ, وَلاَ فَرْقَ.

(7/277)


916 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا وَيَشْرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, فَإِنْ فَاتَتْهُ عَرَفَةُ, أَوْ مُزْدَلِفَةُ, فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ. أَمَّا تَجْدِيدُهُ الإِحْرَامَ فَلاَِنَّهُ قَدْ صَارَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ; لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ كَانَ تَطَوُّعَا وَالْفَرْضُ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ.

(7/277)


917 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ, ثُمَّ ارْتَدَّ, ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحَدُ قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ, وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَهَا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِيهَا: لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ تُشْرِكَ, وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ, وَإِنَّمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ, أَوْ صَلَّى, أَوْ صَامَ, أَوْ زَكَّى, لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَنِ الْوَاجِبِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا: {وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ فِي إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ لاَ هُمْ، وَلاَ نَحْنُ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ, بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ, وَهَذَا هُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ, لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ، عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ. وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ. فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.

(7/277)


918 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَةٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, وَلاَ لُقَطَةُ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ جَمِيعَ عَمَلِ حَجِّهِ. إلاَّ لِمَنْ يَنْشُدُهَا أَبَدًا لاَ يُحَدُّ تَعْرِيفُهَا بِعَامٍ، وَلاَ بِأَكْثَرَ، وَلاَ بِأَقَلَّ, فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا قَطْعًا مُتَيَقِّنًا حَلَّتْ حِينَئِذٍ لِوَاجِدِهَا, بِخِلاَفِ سَائِرِ اللُّقَطَاتِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٌ، نا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَبَسَ، عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ, وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ بَعْدِي, فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا, وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
قال أبو محمد: لَيْسَتْ هَذِهِ إلاَّ صِفَةَ الْحَرَمِ لاَ الْحِلِّ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

(7/278)


وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ فَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ, فَأَحَلَّهَا عليه السلام لِلْمُنْشِدِ وَأَوْجَبَ تَعْرِيفَهَا بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ. وَقَالَ عليه السلام: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". وَاللُّقَطَةُ هِيَ غَيْرُ مَالِ الْمُلْتَقِطِ فَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا هُوَ لِيُوجَدَ مَنْ يَعْرِفُهَا أَوْ صَاحِبُهَا فَهَذَا الْحُكْمُ لاَزِمٌ, فَإِذَا يَئِسَ بِيَقِينٍ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ, إذْ مِنْ الْبَاطِلِ تَعْرِيفُ مَا يُوقَنُ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ, وَإِذَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ حَلَّتْ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ لِمُنْشِدِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام نَهَى، عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ.
قال أبو محمد: الْحَاجُّ هُوَ مَنْ هُوَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَلَيْسَ حَاجًّا بَعْدُ, وَأَمَّا بَعْدَ إتْمَامِهِ عَمَلَ الْحَجِّ فَقَدْ حَجّ وَلَيْسَ حَاجًّا الآنَ, وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَاجًّا مَجَازًا, كَمَا أَنَّ الصَّائِمَ, أَوْ الْمُصَلِّيَ, أَوْ الْمُجَاهِدَ, إنَّمَا هُوَ صَائِمٌ, وَمُصَلٍّ, وَمُجَاهِدٍ, مَا دَامَ فِي عَمَلِ ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عليه السلام، عَنْ لُقَطَةٍ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا, إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهَى عليه السلام، عَنْ أَخْذِهَا, أَوْ نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا, فأما أَخْذُهَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَنَهَى عليه السلام، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ, وَتَرْكُهَا إضَاعَةٌ لَهَا بِلاَ شَكٍّ, وَحِفْظُهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عليه السلام، عَنْ تَمَلُّكِهَا
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْهَ، عَنْ حِفْظِهَا، وَلاَ عَنْ تَعْرِيفِهَا, وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِعَيْنِهَا, هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا فَإِذَا يَئِسَ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا بِيَقِينٍ فَكُلُّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ فِي مَصَالِحِ عِبَادِهِ, وَالْمُلْتَقِطُ أَحَدُهُمْ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا, وَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَحُكْمِ الْحَاجِّ لِقَوْلِهِ عليه السلام: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/279)


919 - مَسْأَلَةٌ: وَمَكَّةُ أَفْضَلُ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى, نَعْنِي الْحَرَمَ وَحْدَهُ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ عَرَفَاتٍ فَقَطْ. وَبَعْدَهَا مَدِينَةُ النَّبِيِّ عليه السلام نَعْنِي حَرَمَهَا وَحْدَهُ. ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ, نَعْنِي الْمَسْجِدَ وَحْدَهُ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وقال مالك: الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ, وَاحْتَجَّ

(7/279)


مُقَلِّدُوهُ بِأَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ. مِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا, وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ, وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لاَِهْلِ مَكَّةَ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام حَرَّمَهَا كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا كَمَا دَعَا إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَقَدْ دَعَا عليه السلام لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا دَعَا لاَِبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَلاَِصْحَابِهِ رضي الله عنهم فَهَلْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مُسَاوَاتِنَا فِي الْفَضْلِ هَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ. وَقَدْ حَرَّمَ عليه السلام: الدِّمَاءَ, وَالأَعْرَاضَ, وَالأَمْوَالَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلٍ; وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي تَمْرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا, اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ, وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ. وَبِخَبَرٍ صَحِيحٍ فِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ, وَنَعَمْ, هِيَ وَاَللَّهِ مُبَارَكَةٌ, وَإِنَّمَا دَعَا إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} . وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الثِّمَارَ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِمَّا بِمَكَّةَ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَدْعُ لِلْمَدِينَةِ بِأَنْ تَهْوِي أَفْئِدَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ هَوِيِّهَا إلَى مَكَّةَ; لإِنَّ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ لاَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَصَحَّ أَنَّ دُعَاءَهُ عليه السلام لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الرِّزْقِ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فِي شَيْءٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام: "الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا, وَإِنَّمَا تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ" ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ, وَفِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ, وَفِي خَاصٍّ لاَ فِي عَامٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ, وَمَنْ أَجَازَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام الْكَذِبَ فَهُوَ كَافِرٌ; وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ}. فَصَحَّ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَخْبَثُ الْخَلْقِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ, وَكَذَلِكَ قَدْ خَرَجَ: عَلِيٌّ, وَطَلْحَةُ, وَالزُّبَيْرُ, وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ, وَمُعَاذٌ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, عَنِ الْمَدِينَةِ, وَهُمْ مِنْ أَطْيَبِ الْخَلْقِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ مُسْلِمٍ حَاشَا الْخَوَارِجَ فِي بُغْضِهِمْ. فَصَحَّ يَقِينًا

(7/280)


لاَ يَمْتَرِي فِيهِ إلاَّ مُسْتَخِفٌّ بِالنَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ بِالْمَدِينَةِ تَنْفِي الْخُبْثَ إلاَّ فِي خَاصٍّ مِنْ النَّاسِ, وَفِي خَاصٍّ مِنْ الزَّمَانِ لاَ عَامٍّ.
وَقَدْ جَاءَ كَلاَمُنَا هَذَا نَصًّا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزُ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ: "أَلاَ إنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ يُخْرِجُ الْخَبَثَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ" . وَمِنْ طَرِيق أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "لَيْسَ بَلَدٌ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ, إلاَّ الْمَدِينَةَ, وَمَكَّةَ, عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ بِالسَّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ" وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لاَ بِنَصٍّ, وَلاَ بِدَلِيلٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام: "مَا مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ إنَّمَا هُوَ سَيَطَؤُهُ أَمْرُهُ وَبُعُوثُهُ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا" , وَسَكَّانُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ أَخْبَثُ الْخُبْثِ, وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُصِيبَتِنَا فِي ذَلِكَ; فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" وَذَكَرَ مِثْلُ هَذَا حَرْفًا حَرْفًا فِي فَتْحِ الشَّامَ, وَفَتْحِ الْعِرَاقِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ, هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ, وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً عَنْهَا إلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ".
قال أبو محمد: إنَّمَا أَخْبَرَ عليه السلام بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ, وَالشَّامِ, وَالْعِرَاقِ, وَبِلاَدِ الرَّخَاءِ, وَهَذَا لاَ شَكَّ فِيهِ, وَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ, وَلاَ ذِكْرَ لِمَكَّةَ أَصْلاً.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام أَيْضًا بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْبِلاَدِ لَهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ أَيْضًا فِي خَاصٍّ لاَ عَامٍّ وَهُوَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا طَلَبَ رَخَاءٍ, أَوْ لِعَرَضِ دُنْيَا; وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْهَا لِجِهَادٍ, أَوْ لِحُكْمٍ بِالْعَدْلِ, أَوْ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ دِينَهُمْ فَلاَ, بَلْ الَّذِي خَرَجُوا لَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُقَامِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.

(7/281)


بُرْهَانُ ذَلِكَ خُرُوجُهُ عليه السلام عَنْهَا لِلْجِهَادِ وَأَمْرُهُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَالْوَعِيدُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, وَكَذَلِكَ بَعْثَتُهُ عليه السلام أَصْحَابَهُ إلَى الْيَمَنِ, وَالْبَحْرَيْنِ, وَعُمَانَ لِلدُّعَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ, وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَهُوَ عليه السلام يَقُولُ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" فَبِلاَ شَكٍّ أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُمْ فِي إخْرَاجِهِمْ لِذَلِكَ. فَصَحَّ قَوْلُنَا: وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ فِي هَذَا فِي دَعْوَاهُمْ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً عَنْهَا" فَهَذَا الْحَقُّ وَعَلَى مَنْ يَرْغَبُ، عَنِ الْمَدِينَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ فَمَا هُوَ بِمُسْلِمٍ, وَكَذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ مَنْ رَغِبَ، عَنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى" وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ: أَنَّ مِنْ الْمَدِينَةِ تُفْتَحُ الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ وَقَدْ فُتِحَتْ خُرَاسَانُ, وَسِجِسْتَانُ, وَفَارِسُ, وَكَرْمَانُ, مِنْ الْبَصْرَةِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى فَضْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا" وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ، عَنْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِلاَ شَكٍّ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ وَهُوَ الْيَوْمَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَوَا حُزْنَاهُ وَوَا أَسَفَاهُ وَمَا الإِسْلاَمُ ظَاهِرًا إلاَّ فِي غَيْرِهَا وَنَسْأَلُ اللَّهُ إعَادَتَهَا إلَى أَفْضَلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ عليه السلام. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِزِيَادَةٍ كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، نا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، نا عَاصِمُ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا" فَفِي هَذَا أَنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ بَيْنَ مَسْجِدِ مَكَّةَ, وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَع رَاحِلَتَهُ مِنْ حُبِّهَا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُحِبُّهَا. وَنَعَمْ هَذَا حَقٌّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ مِنْ حُبِّهِ مَكَّةَ, وَلاَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَكِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ".
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلاَّ أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ, أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ, وَمَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللَّهُ, وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ, وَالْمَلاَئِكَةِ

(7/282)


وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ, لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلاَ عَدْلاً". وَقَوْلُهُ عليه السلام: "مَثَلُ هَذَا فِيمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا". وَهَذَا صَحِيحٌ, وَإِنَّمَا فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ كَادَ أَهْلَهَا، وَلاَ يَحِلُّ كَيْدُ مُسْلِمٍ, فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى، عَنْ مَكَّةَ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَصَحَّ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ ظَلَمَ بِمَكَّةَ كَالْوَعِيدِ عَلَى مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لاَْوَائِهَا وَشَدَّتِهَا إلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَة"ِ فَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَضِّ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى شِدَّتِهَا وَأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ شَفِيعًا وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام يَشْفَعُ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا, وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةَ" وَهَذَا لاَ يَكُونُ إلاَّ بِمَكَّةَ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ" أَوْ أَشَدَّ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا دَعَا عليه السلام بِهَذَا كَمَا تَرَى فِي أَحَدِ الأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُحَبِّبَهَا إلَيْهِمْ كَحُبِّهِمْ مَكَّةَ, وَأَمَّا أَشَدُّ مِنْ حُبِّهِمْ مَكَّةَ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ الأَمْرَيْنِ أُجِيبَ بِهِ دُعَاؤُهُ عليه السلام, وَحُبُّ الْبَلَدِ يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ وَالآُلْفَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ عَلَى مَكَّةَ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدٍ" يَعْنِي سُقُوطَهُ خَيْرٌ مِنْ الأَنْبَاطِ وَمَا فِيهَا. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" وَأَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا مِنْ هَذَا أَنَّ مَكَّةَ مِنْ الدُّنْيَا فَمَوْضِعُ قَابِ قَوْسٍ مِنْ تِلْكَ الرَّوْضَةِ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوهُ, وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مِصْرُ, وَالْكُوفَةُ, وِرَاؤُنَا: خَيْرًا مِنْ مَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "سَيْحَانُ, وَجَيْحَانُ, وَالْفُرَاتُ, وَالنِّيلُ, كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ" وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ: أَنَّ هَذِهِ الْبِلاَدَ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ, خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ, وَأَنَّ هَذِهِ الأَنْهَارَ مُهْبَطَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ, هَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ {إنَّ لَكَ أَنْ لاَ تَجُوعَ فِيهَا، وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا، وَلاَ تَضْحَى} فَهَذِهِ صِفَةُ الْجَنَّةِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ، وَلاَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ, وَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ. فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ الْجَنَّةِ إنَّمَا

(7/283)


هُوَ لَفْظُهَا, وَأَنَّ الصَّلاَةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ, وَأَنَّ تِلْكَ الأَنْهَارَ لِبَرَكَتِهَا أُضِيفَتْ إلَى الْجَنَّةِ, كَمَا تَقُولُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ; وَكَمَا قِيلَ فِي الضَّأْنِ: إنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ, وَكَمَا قَالَ عليه السلام: "إنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ" فَهَذَا فِي أَرْضِ الْكُفْرِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ مَا ادَّعُوهُ وَظَنُّوهُ لَمَا كَانَ الْفَضْلُ إلاَّ لِتِلْكَ الرَّوْضَةِ خَاصَّةً لاَ لِسَائِرِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ. قلنا: يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْجُحْفَةَ, وَخَيْبَرَ, وَوَادِيَ الْقُرَى أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ; لاَِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا لاَ يَقُولُونَهُ, وَلاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ, فَبَطَلَ تَظَنُّنُهُمْ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَتَأَوَّلُونَ الأَخْبَارَ الصِّحَاحَ بِلاَ بُرْهَانٍ مِثْلُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَمِثْلُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرُ ذَلِكَ, ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى الأَخْبَارِ الَّتِي قَدْ صَحَّ الْبُرْهَانُ مِنْ الْقُرْآنِ, وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحِسِّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فَيُرِيدُونَ حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا, إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ دَاوُد، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ فَهَذَا بِمَكَّةَ فَاَلَّذِي بِمَكَّةَ مِنْ هَذَا كَاَلَّذِي لِلْمَدِينَةِ, إذْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْجَنَّةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ".
قال أبو محمد: تَأَوَّلُوا هُمْ أَنَّ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونِ الأَلْفِ, وَقُلْنَا نَحْنُ: بَلْ هَذَا الاِسْتِثْنَاءُ; لإِنَّ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَكِلاَ التَّأْوِيلَيْنِ مُحْتَمَلٌ. نَعَمْ, تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلاَةَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ, وَلاَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى أَحَدِ هَذِهِ التَّأْوِيلاَتِ دُونَ الآخَرِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ, وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ" وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَكَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ أَيْضًا;

(7/284)


وَاَللَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَنْهَا كَمَا يَصْرِفُهُ، عَنِ الْمَدِينَةِ وَالْمَلاَئِكَةُ تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ كَمَا أَخْبَرَ عليه السلام: أَنَّهُ "يَتَعَاقَبُ فِينَا مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ".
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "هِيَ طَيِّبَةٌ" وَنَعَمْ, هِيَ وَاَللَّهِ طَيِّبَةٌ, وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً.
فَهَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مَا لَهُمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ سِوَى هَذِهِ, وَكُلُّهَا لاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَاحْتَجُّوا عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَمَكَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ, وَفِيهَا بَيْتُهُ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا, أَنْتَ الْقَائِلُ: لَمَكَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ, وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا; ثُمَّ انْصَرَفَ.
قال أبو محمد: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ لَمْ يُنْكِرْ لِعُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ مَا قَرَّرَهُ عَلَيْهِ بَلْ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ عُمَرُ.فَصَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ وَهُوَ صَاحِبٌ كَانَ يَقُولُ: مَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ، عَنْ عُمَرَ: لاَ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ, وَلاَ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ; وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيرُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَطْ, وَنَحْنُ نُوجِدُهُمْ، عَنْ عُمَرَ تَصْرِيحًا بِأَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، نا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيّ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُول: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُول: "صَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام" وَهَذَا سَنَدٌ كَالشَّمْسِ فِي الصِّحَّةِ, فَهَذَانِ صَاحِبَانِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ, وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إِيلِيَا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ, وَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ. فَهَذَا سَعِيدٌ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُصَرِّحُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ مَوْضُوعَةٍ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا. مِنْهَا: خَبَرٌ رُوِّينَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ فِي مَيِّتٍ رَآهُ: دُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا, قَالُوا: وَالنَّبِيُّ عليه السلام دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ تُرْبَتِهَا خُلِقَ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَهِيَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ. وَهَذَا خَبَرٌ

(7/285)


مَوْضُوعٌ; لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ بِالْجُمْلَةِ, قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى اطِّرَاحِهِ ثُمَّ هُوَ أَيْضًا، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ يَحْيَى مُرْسَلٌ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ أُنَيْسُ بْنُ يَحْيَى وَالطَّرِيقُ الآُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْفَضْلُ لِقَبْرِهِ عليه السلام فَقَطْ, وَإِلاَّ فَقَدْ دُفِنَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ, وَقَدْ دُفِنَ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام مِنْ إبْرَاهِيمَ, وَإِسْحَاقَ, وَيَعْقُوبَ, وَمُوسَى, وَهَارُونَ, وَسُلَيْمَانَ, وَدَاوُد عليهم السلام, وَغَيْرِهِمْ بِالشَّامِ, وَلاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ.
وَمِنْهَا "اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ بِالسَّيْفِ وَفُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ" وَهَذَا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ, وَهَذَا مِنْ وَضْعِهِ بِلاَ شَكٍّ; لاَِنَّهُ رَوَاهُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام, وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ الْعَجِيبِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْلُكَ إلَيْهِ إلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْمَزْبَلَةِ, وَهَذَا إسْنَادٌ لاَ يَنْفَرِدُ بِمِثْلِهِ إلاَّ ابْنُ زُبَالَةَ دُونَ سَائِرِ مَنْ رَوَى، عَنْ مَالِكٍ مِنْ الثِّقَاتِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ الْبَحْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مَدَائِنِ الْيَمَنِ كَصَنْعَاءَ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهَا لَمْ تُفْتَحْ بِسَيْفٍ إلاَّ بِالْقُرْآنِ فَقَطْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ فَضْلَهَا عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي فِيهَا مِنْهَا وَهَذَا مِنْ رِوَايَة الْكَذَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَرِهَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ سَيِّدُهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَكَّةَ لِيُحْشَرُوا غُرَبَاءَ مَطْرُودِينَ، عَنْ وَطَنِهِمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إنَّهُ عليه السلام رَثَا لِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ تَمَامِ نُسُكِهِ أَنْ يَبْقَى بِمَكَّةَ إلاَّ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَقَطْ; فَإِذَا خَرَجَتْ مَكَّةَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، عَنْ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا النَّبِيُّ عليه السلام فَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ بَعْدَهَا بِلاَ شَكٍّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبَزَّارِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هَيَّاجٍ، نا الْفُضَيْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبُو نُعَيْمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ عليه السلام يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ تَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ فِي الأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ: بَلَى وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ, فَهَذَا نَصُّ مَا قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمِنْهَا: "اللَّهُمَّ إنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ بِلاَدِكَ إلَيَّ فَأَسْكِنِي أَحَبَّ الْبِلاَدِ إلَيْكَ" وَهَذَا مَوْضُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مُرْسَلٌ.

(7/286)


وَمِنْهَا: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ هَكَذَا تَصْرِيحٌ رُوِّينَا مِنْ طُرُقٍ. أَحَدُهَا: مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ صَاحِبِ هَذِهِ الْفَضَائِحِ كُلِّهَا الْمُنْفَرِدِ بِوَضْعِهَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ الرَّدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيّ عليه السلام، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ هَذَا مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِيه أَحَدٌ. وَالثَّالِثُ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ الصَّائِغِ صَاحِبِ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الرَّدَّادِ الْمَذْكُورِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ قَالَ رَافِعٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ هَذَا ضَعِيفٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَابْنُ الرَّدَّادِ مَجْهُولٌ وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ الْعَجِيبِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلَكَ عَلَيْهِ إلاَّ عَلَى هَذِهِ الزَّوَايِغِ الْوَحْشَةِ.
وهذا الخبر رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, قَالَ مُسْلِمٌ "، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: خَطَبَ مَرْوَانُ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ أَسْمَعُك ذَكَرْت مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا, وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَنَا فِي أَدِيمٍ خُولاَنِيٍّ إنْ شِئْتُمْ أَقْرَأْتُكُمْ فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ سَمِعْت بَعْضَ ذَلِكَ ".
قال أبو محمد: فَهَكَذَا كَانَ الْحَدِيثُ فَبَدَّلَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ عَصَبِيَّةً عَجَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِهَا الْفَضِيحَةَ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَصِفَةِ الْحَمَاقَةِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
قال علي: هذا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نُورِدُ الآثَارَ الصَّحِيحَةَ وَالْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ فِي فَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا, أَوَّلُ ذَلِكَ: حَبْسُ اللَّهِ تَعَالَى الْفِيلَ عَنْهَا وَإِهْلاَكُهُ جَيْشَ رَاكِبِهِ إذْ أَرَادَ غَزْوَ مَكَّةَ. ثُمَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّه عليه السلام فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ إذْ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ: خَلاََتْ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: "مَا خَلاََتْ، وَلاَ هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} , وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} , وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ

(7/287)


اللَّهِ}, وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} , وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} , ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا تَمَامَ الصَّلاَةِ, وَالْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ, فَهِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ إلاَّ بِالْقَصْدِ نَحْوَهَا, وَإِلَيْهَا الْحَجُّ الْمُفْتَرَضُ, وَالْعُمْرَةُ الْمُفْتَرَضَةُ, وَإِنَّمَا فُرِضَتْ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مَا لَمْ تُفْتَحْ مَكَّةُ فَلَمَّا فُتِحَتْ بَطَلَتْ الْهِجْرَةُ, فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ لِمَكَّةَ ثُمَّ لِلْمَدِينَةِ, وَأَمَرَ عليه السلام أَنْ لاَ يُسْفَكَ فِيهَا دَمٌ, وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ, وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ وَنَهَى عليه السلام أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا أَحَدٌ أَوْ يَسْتَدْبِرَهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ هُوَ أَخُوهُ قَالَ: سَمِعْت أَبِي هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلاَ أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا: أَلاَ شَهْرُنَا هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا: أَلاَ بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: أَلاَ أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا: أَلاَ يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ, وَأَمْوَالَكُمْ, وَأَعْرَاضَكُمْ, إلاَّ بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا, فِي بَلَدِكُمْ هَذَا مِنْ شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا, كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلاَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي حَجَّتِهِ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً". فَقُلْنَا: يَوْمُنَا هَذَا قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً. فَقُلْنَا: بَلَدُنَا هَذَا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. فَهَذَانِ: جَابِرٌ, وَابْنُ عُمَرَ يَشْهَدَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَرَّرَ النَّاسَ عَلَى أَيِّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُ مَكَّةُ وَصَدَّقَهُمْ فِي ذَلِكَ, وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي إجَابَتِهِمْ إيَّاهُ عليه السلام بِأَنَّ بَلَدَهُمْ ذَلِكَ, وَهُمْ بِمَكَّةَ, فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ. فَصَحَّ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ أَنَّ مَكَّةَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْمَدِينَةِ, وَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الْمَدِينَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ أَعْظَمَ الْحُرْمَةِ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِلأَفْضَلِ، وَلاَ بُدَّ, لاَ لِلأَقَلِّ فَضْلاً.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ بِالْحَجُونِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ وَلَوْ لَمْ أُخْرَجْ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ, لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَلاَ تَحِلُّ لاَِحَدٍ بَعْدِي" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ

(7/288)


ابْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَقَفَ بِالْحَجُونِ فَقَالَ: "إنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْ تُرِكْتُ فِيكِ مَا خَرَجْتُ مِنْكِ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، نا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ, وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَلَمَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْت مَعْمَرًا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ فِي سُوقِ الْجَزُورَةِ بِمَكَّةَ: وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْبِلاَدِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ: نا اللَّيْثُ، وَ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ خَالِدٍ, وَقَالَ إِسْحَاقُ: نا يَعْقُوبُ، وَ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفِ، نا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ; ثُمَّ اتَّفَقَ عُقَيْلٌ, وَصَالِحٌ, وَكِلاَهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْجَزُورَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ لِمَكَّةَ: وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ, وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. لَمْ يَخْتَلِفْ عُقَيْلٌ, وَصَالِحٌ, فِي شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهِ عليه السلام, إلاَّ أَنَّ عَقِيلاً قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ الصَّحَابَةِ زُهْرِيُّ النَّسَبِ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، نا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْرَوَيْهِ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، نا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْجَزُورَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: "وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ, وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ" مَا خَرَجْتُ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ رَوَاهُ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام أَبُو هُرَيْرَةَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ وَرَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَرَوَاهُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ. وَرَوَاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, والدراوردي وَرَوَاهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَصْحَابُهُ الثِّقَاتُ: مَعْمَرٌ, وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ, وَعُقَيْلٌ, وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهُ يُونُسُ بْنُ زَيْدٍ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ خَالِدٍ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ الْجَمْعِ الْغَفِيرِ, وَلاَ مَقَالَ لاَِحَدٍ بَعْدَ هَذَا.

(7/289)


حدثنا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ, وَأَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مُرَّةَ قَالاَ جَمِيعًا: نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، نا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: "صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلاَةٍ". قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ فَقَالَ: ثِقَةٌ, وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ ثِقَةٌ مَا أَصَحَّ حَدِيثَهُ, هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُرَّةَ فِي رِوَايَتِهِ صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ, وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَة صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ صَحِيحٌ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
فَرُوِيَ الْقَطْعُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا أَوْرَدَنَا، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: جَابِرٌ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ الزُّبَيْرِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ. خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَرَوَاهَا، عَنْ هَؤُلاَءِ: أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ: عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَالأَعْمَشُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ, وَالزُّهْرِيُّ, وَحَبِيبُ الْمُعَلَّمُ, مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ: وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وَأَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ الضَّرِيرُ, وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ, وَمَعْمَرٌ, وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَعُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ, وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدٍ, وَيُونُسُ بْنُ زَيْدٍ مِنْهُمْ: ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ مَنْ لاَ يُحْصَى كَثْرَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ, وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْوِيًّا عَنْهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَسْلَمَ الْمُنْقِرِيُّ: قُلْت لِعَطَاءٍ: آتِي مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُصَلِّي فِيهِ قَالَ: فَقَالَ لِي عَطَاءٌ: طَوَافٌ وَاحِدٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/290)


كتاب الجهاد
باب الجهاد
والجهاد فرض على المسلمين
...
بسم الله الرحمن الرحيم بِك اللَّهُمَّ أَسْتَعِينُ
كِتَابُ الْجِهَادِ
920 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَامَ بِهِ مِنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَغْزُوهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَيَحْمِي ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُهُ، عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلاَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ نا مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} فَلاَ أَحَدَ مِنْ النَّاسِ إِلاَّ خَفِيفٌ أَوْ ثَقِيلٌ.
وَمِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَهْمٍ الأَنْطَاكِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وُهَيْبٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ" قال أبو محمد: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ نَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثًا إلَى بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: "لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا".

(7/291)


922 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَنْزِلَ الْعَدُوُّ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُمْكِنُهُ إعَانَتُهُمْ أَنْ يَقْصِدَهُمْ مُغِيثًا لَهُمْ أَذِنَ الأَبَوَانِ أَمْ لَمْ يَأْذَنَا إِلاَّ أَنْ يَضِيعَا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَهُ, فَلاَ يَحِلُّ لَهُ تَرْكُ مَنْ يَضِيعُ مِنْهُمَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا آدَم نَا شُعْبَةُ نَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُسَدَّدٌ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: لاَ طَاعَةَ لأََحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

(7/292)


923 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَفِرَّ، عَنْ مُشْرِكٍ, وَلاَ عَنْ مُشْرِكَيْنِ وَلَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ أَصْلاً; لَكِنْ يَنْوِي فِي رُجُوعِهِ التَّحَيُّزَ إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إنْ رَجَا الْبُلُوغَ إلَيْهِمْ, أَوْ يَنْوِي الْكَرَّ إلَى الْقِتَالِ, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ تَوْلِيَةَ دُبُرِهِ هَارِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ مَا لَمْ يَتُبْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمِنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} . قَالَ قَوْمٌ: إنَّ الْفِرَارَ لَهُ مُبَاحٌ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا خَطَأٌ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.ِ
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: "إنْ فَرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَدْ فَرَّ, وَإِنَّ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ".
قال أبو محمد: أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ خَالَفُوهُ فِي مِئِينَ مِنْ الْقَضَايَا, مِنْهَا قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ, وَإِخْبَارُهُ أَنَّهُ لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ, وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, أَوْ كَلاَمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الآيَةُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِيهَا; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لاَ نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ بِإِبَاحَةِ الْفِرَارِ، عَنِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ; وَإِنَّمَا فِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فِينَا ضَعْفًا, وَهَذَا حَقٌّ إنَّ فِينَا لَضَعْفًا، وَلاَ قَوِيَّ إِلاَّ وَفِيهِ ضَعْفٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ

(7/292)


فَهُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي لاَ يَضْعُفُ، وَلاَ يُغْلَبُ. وَفِيهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَنَّا فَلَهُ الْحَمْدُ وَمَا زَالَ رَبُّنَا تَعَالَى رَحِيمًا بِنَا يُخَفِّفُ عَنَّا فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ الَّتِي أَلْزَمْنَا. وَفِيهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنَّا مِائَةٌ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ, وَإِنْ يَكُنْ مِنَّا أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ, وَهَذَا حَقٌّ, وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمِائَةَ لاَ تَغْلِبُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَلاَ أَقَلَّ أَصْلاً; بَلْ قَدْ تَغْلِبُ ثَلاَثَمِائَةٍ, نَعَمْ وَأَلْفَيْنِ وَثَلاَثَ آلاَفٍ، وَلاَ أَنَّ الأَلْفَ لاَ يَغْلِبُونَ إِلاَّ أَلْفَيْنِ فَقَطْ لاَ أَكْثَرَ، وَلاَ أَقَلَّ, وَمَنْ ادَّعَى هَذَا فِي الآيَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ وَادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ أَثَرٌ, وَلاَ إشَارَةٌ, وَلاَ نَصٌّ, وَلاَ دَلِيلٌ, بَلْ قَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}, فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلاً, وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ فَارِسٍ بَطَلٍ شَاكِي السِّلاَحِ قَوِيٍّ لَقِيَ ثَلاَثَةً مِنْ شُيُوخِ الْيَهُودِ الْحَرْبِيِّينَ هَرْمَى مَرْضَى رِجَالَةً عُزَّلاً أَوْ عَلَى حَمِيرٍ, أَلَهُ أَنْ يَفِرَّ عَنْهُمْ لَئِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَيَأْتُنَّ بِطَامَّةٍ يَأْبَاهَا اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ, وَإِنْ قَالُوا: لاَ لَيَتْرُكُنَّ قَوْلَهُمْ. وَكَذَلِكَ نَسْأَلُهُمْ، عَنْ أَلْفِ فَارِسٍ, نُخْبَةٍ, أَبْطَالٍ, أَمْجَادٍ, مُسلَّحِينَ, ذَوِي بَصَائِرَ, لَقَوْا ثَلاَثَةَ آلاَفٍ, مِنْ مَحْشُودَةِ بَادِيَةِ النَّصَارَى, رِجَالَةً, مُسَخَّرِينَ أَلْهَمَ أَنْ يَفِرُّوا عَنْهُمْ.
وَرُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ, إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلآيَةِ بِلاَ دَلِيلٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى, قَالاَ جَمِيعًا: نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ نَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ: كَانَتْ "الأَنْفَالُ" مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ الأُُبُلِّيُّ نَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ, وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ, وَأَكْلُ الرِّبَا, وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ, وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ" فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ

(7/293)


السُّيُوفِ". فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ, وَإِسْلاَمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى بِلاَ شَكٍّ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ الأَنْفَالِ الَّتِي فِيهَا الآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ غَيْرَهُ كَمَا نا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمَرْوَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ, نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ نَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَجُلاً سَأَلَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلاً حَمَلَ عَلَى الْكَتِيبَةِ وَهُمْ أَلْفٌ, أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ الْبَرَاءُ لاَ, وَلَكِنَّ التَّهْلُكَةَ: أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدِهِ وَيَقُولُ: لاَ تَوْبَةَ لِي. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إذَا لَقِيتُمْ فَلاَ تَفِرُّوا.
وَعَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ: الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَلَمْ يَخُصُّوا عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ, وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ, وَلاَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ, عَلَى الْعَسْكَرِ الْجَرَّارِ وَيَثْبُتَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَقَدْ ذَكَرُوا حَدِيثًا مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَقُوا الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ, أَوْ أَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرَاكَ قَاتِلٌ هَؤُلاَءِ كُلَّهُمْ اجْلِسْ, فَإِذَا نَهَضَ أَصْحَابُكَ فَانْهَضْ وَإِذَا شَدُّوا فَشُدَّ" وَهَذَا مُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام: أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَهُ مَا يُضْحِكُ اللَّهُ مِنْ عَبْدِهِ قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا فَنَزَعَ الرَّجُلُ دِرْعَهُ وَدَخَلَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه.

(7/294)


924- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ تَحْرِيقُ أَشْجَارِ الْمُشْرِكِينَ, وَأَطْعِمَتِهِمْ, وَزَرْعِهِمْ وَدُورِهِمْ, وَهَدْمُهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نِيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وَقَدْ أَحْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ فِي طَرَفِ دُورِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ أَوْ غَدِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: لاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ يَنْهَى أَبُو بَكْرٍ، عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا; لأََنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَيْضًا مُبَاحٌ كَمَا فِي الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ, وَلَمْ يَقْطَعْ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا نَخْلَ خَيْبَرَ, فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/294)


925 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ عَقْرُ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانِهِمْ أَلْبَتَّةَ لاَ إبِلٍ, وَلاَ بَقَرٍ, وَلاَ غَنَمٍ, وَلاَ خَيْلٍ, وَلاَ دَجَاجٍ, وَلاَ حَمَامٍ, وَلاَ أَوَزًّ, وَلاَ بِرَكٍ, وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلاَّ لِلأَكْلِ فَقَطْ, حَاشَا الْخَنَازِيرَ جُمْلَةً فَتُعْقَرُ, وَحَاشَا الْخَيْلَ فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ فَقَطْ, وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ, أَوْ لَمْ يَأْخُذُوهَا أَدْرَكَهَا الْعَدُوُّ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهَا, أَوْ لَمْ يُدْرِكُوهَا وَيُخَلَّى كُلُّ ذَلِكَ،

(7/294)


926 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ، وَلاَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ, إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ مَنْجًى مِنْهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ حِينَئِذٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

(7/296)


927 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أُصِيبُوا فِي الْبَيَاتِ أَوْ فِي اخْتِلاَطِ الْمَلْحَمَةِ، عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا سُفْيَانُ نَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَقَالَ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.

(7/296)


928 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ قَتْلُ كُلِّ مَنْ عَدَا مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُقَاتِلٍ, أَوْ غَيْرِ مُقَاتِلٍ, أَوْ تَاجِرٍ, أَوْ أَجِيرٍ وَهُوَ الْعَسِيفُ أَوْ شَيْخٍ كَبِيرٍ كَانَ ذَا رَأْيٍ, أَوْ لَمْ يَكُنْ, أَوْ فَلَّاحٍ, أَوْ أُسْقُفٍ, أَوْ قِسِّيسٍ, أَوْ رَاهِبٍ, أَوْ أَعْمَى, أَوْ مُقْعَدٍ لاَ تُحَاشِ أَحَدًا. وَجَائِزٌ اسْتِبْقَاؤُهُمْ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ

(7/296)


929 - مَسْأَلَةٌ: وَيُغْزَى أَهْلُ الْكُفْرِ مَعَ كُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الأُُمَرَاءِ, وَغَيْرِ فَاسِقٍ, وَمَعَ الْمُتَغَلِّبِ وَالْمُحَارِبِ, كَمَا يُغْزَى مَعَ الإِمَامِ, وَيَغْزُوهُمْ الْمَرْءُ وَحْدَهُ إنْ قَدَرَ أَيْضًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} , وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ هَاهُنَا: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فُسَّاقٌ فَلَمْ يَخُصَّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ, وَكُلُّ مَنْ دَعَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الصَّلاَةِ الْمُؤَدَّاةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى, وَالصَّدَقَةِ الْمَوْضُوعَةِ مَوَاضِعَهَا, وَالْمَأْخُوذَةِ فِي حَقِّهَا, وَالصِّيَامِ كَذَلِكَ, وَالْحَجِّ كَذَلِكَ, وَالْجِهَادِ كَذَلِكَ, وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا; فَفَرْضٌ إجَابَتُهُ لِلنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ. وَكُلُّ مَنْ دَعَا مِنْ إمَامٍ حَقٍّ, أَوْ غَيْرِهِ, إلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ, وَلاَ طَاعَةَ, كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ, وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَقَالَ عليه السلام: "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلاَلاً فَنَادَى فِي النَّاسِ

(7/299)


إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.

(7/300)


930 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ غَزَا مَعَ فَاسِقٍ فَلْيَقْتُلْ الْكُفَّارَ وَلِيُفْسِدْ زُرُوعَهُمْ وَدُورَهُمْ وَثِمَارَهُمْ, وَلْيَجْلِبْ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنَّ إخْرَاجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إلَى نُورِ الإِسْلاَمِ فَرْضٌ يَعْصِي اللَّهَ مَنْ تَرَكَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ, وَإِثْمُهُمْ عَلَى مَنْ غَلَّهُمْ, وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ أَقَلُّ مِنْ تَرْكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَوْنِهِمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهِ, وَلاَ إثْمَ بَعْدَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ نَهَى، عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ بِإِسْلاَمِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ فِسْقِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لاَ يُحَاسَبُ غَيْرُهُ بِفِسْقِهِ.

(7/300)


931 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَمْلِكُ أَهْلُ الْكُفْرِ الْحَرْبِيُّونَ مَالَ مُسْلِمٍ, وَلاَ مَالَ ذِمِّيٍّ أَبَدًا إِلاَّ بِالأَبْتِيَاعِ الصَّحِيحِ, أَوْ الْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ, أَوْ بِمِيرَاثٍ مِنْ ذِمِّيٍّ كَافِرٍ, أَوْ بِمُعَامَلَةٍ صَحِيحَةٍ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ, فَكُلُّ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مَالِ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ, أَوْ آبِقٍ إلَيْهِمْ, فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ, فَمَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا, دَخَلُوا بِهِ أَرْضَ الْحَرْبِ, أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَلاَ يُكَلَّفُ مَالِكُهُ عِوَضًا، وَلاَ ثَمَنًا, لَكِنْ يُعَوِّضُ الأَمِيرُ مَنْ كَانَ صَارَ فِي سَهْمِهِ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يَنْفُذُ فِيهِ عِتْقُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ, وَلاَ صَدَقَتِهِ, وَلاَ هِبَتِهِ, وَلاَ بَيْعِهِ, وَلاَ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ, وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَغْصِبُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ, وَلاَ فَرْقَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَلِمَنْ سَلَفَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ سِوَى هَذَا. أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهِ لاَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ, وَلاَ بَعْدَهَا, لاَ بِثَمَنٍ, وَلاَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ, وَهُوَ لِمَنْ صَارَ فِي سَهْمِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمْ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقْضِي بِذَلِكَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ مُكَاتَبًا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ بَكْرُ بْنُ قِرْوَاشَ عَنْهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إنْ افْتَكَّهُ سَيِّدُهُ فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ, وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْتَكَّهُ فَهُوَ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ، عَنْ عَلِيٍّ: مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: هُوَ فَيْءُ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُرَدُّ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ حُرًّا أَوْ مُعَاهَدًا. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ هَذَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ إنْ أُدْرِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ, فَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى قُسِمَ فَهُوَ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ لاَ يُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ لاَ بِثَمَنٍ, وَلاَ بِغَيْرِهِ. هَكَذَا رُوِّينَاهُ

(7/300)


وكذلك لو نزل أهل الحرب عندك تجارًا بأمان أو رسلاً أو مستأمنين مستجرين
...
932- مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَك تُجَّارًا بِأَمَانٍ, أَوْ رُسُلاً, أَوْ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَجِيرِينَ, أَوْ مُلْتَزِمِينَ لاََنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا فَوَجَدْنَا بِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمِينَ, أَوْ أَهْلَ ذِمَّةٍ, أَوْ عَبِيدًا, أَوْ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ, أَوْ مَالاً لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ: فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِلاَ عِوَضٍ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى أَصْحَابِهِ, وَلاَ يَحِلُّ لَنَا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَهْدٍ أُعْطُوهُ عَلَى خِلاَفِ هَذَا; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ".
وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا مَا يَقُولُ لَوْ عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى أَنْ لاَ نُصَلِّيَ, أَوْ لاَ نَصُومَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا, أَوْ تَذَمَّمُوا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ كُلُّ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ, أَوْ لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ, وَيُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ بِلاَ عِوَضٍ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ حَرْبِيِّينَ. وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا; أَوْ رَسُولاً دَخَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَى أَسِيرًا, أَوْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ, أَوْ ابْتَاعَ مَتَاعًا لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ, فَخَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ: اُنْتُزِعَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ, وَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ, وَهُوَ مِنْ خَسَارَةِ الْمُشْتَرِي, وَأُطْلِقَ الأَسِيرُ بِلاَ غَرَامَةٍ لِمَا ذَكَرنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ, وَأَظْلَمَ الظُّلْمِ: أَخْذُ الْمُشْرِكِ لِلْمُسْلِمِ, أَوْ لِمَالِهِ, أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمَالِهِ, وَالظُّلْمُ لاَ يَجُوزُ إمْضَاؤُهُ بَلْ يُرَدُّ وَيُفْسَخُ.
فَلَوْ أَنَّ الأَسِيرَ قَالَ لِمُسْلِمٍ, أَوْ لِذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ: افْدِنِي مِنْهُمْ, وَمَا تُعْطِيهِمْ دَيْنٌ لَك عَلَيَّ, فَهُوَ كَمَا قَالَ, وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ, لأََنَّهُ اسْتَقْرَضَهُ فَأَقْرَضَهُ, وَهَذَا حَقٌّ. وقال مالك, وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ نَزَلَ حَرْبِيُّونَ بِأَمَانٍ وَعِنْدَهُمْ مُسْلِمَاتٌ مَأْسُورَاتٌ: لَمْ يُنْتَزَعْنَ مِنْهُمْ, وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَوْ تَذَمَّمَ حَرْبِيُّونَ وَبِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ: فَهُمْ بَاقُونَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ عَبِيدٌ لَهُمْ كَمَا كَانُوا.
وَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ لاَ نَعْلَمُ قَوْلاً أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْهُمَا, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا, وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْقَوْلُ لَوْ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ شُيُوخٌ مُسْلِمُونَ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَيُتْرَكُونَ وَذَلِكَ أَوْ لَوْ أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ مَصَاحِفَ أَيُتْرَكُونَ يَمْسَحُونَ بِهَا الْعَذِرَ، عَنْ أَسْتَاهِهِمْ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَتَمَّ الْبَرَاءَةِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.

(7/306)


933- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ أَبِي جَنْدَلٍ, وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهُ وَلَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ تَمَّ بَيْنَهُمْ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى أَجَارَهُ لَهُ مُكَرَّزُ بْنُ حَفْصٍ مِنْ أَنْ يُؤْذَى. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الآيَةِ عَهْدَهُمْ فِي رَدِّ النِّسَاءِ, ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "بَرَاءَةٌ" بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْعَهْدَ كُلَّهُ وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي "بَرَاءَةٌ" أَيْضًا: {كَيْف يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآيَةَ فَأَبْطَلَ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ لِلْمُشْرِكِينَ حَاشَا الَّذِينَ عَاهَدُوا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} , وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ وَلَمْ يُقِرَّهُ, وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُشْرِكِينَ إِلاَّ الْقَتْلَ, أَوْ الإِسْلاَمَ, وَلأََهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَأَمَّنَ الْمُسْتَجِيرَ وَالرَّسُولَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَتَهُ وَيَسْمَعَ الْمُسْتَجِيرُ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى بِلاَدِهِمَا، وَلاَ مَزِيدَ, فَكُلُّ عَهْدٍ غَيْرِ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ; لأََنَّهُ خِلاَفُ شَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلاَفُ أَمْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَغَيْرِهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَفِيهِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ

(7/307)


تَرُدَّهُ إلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ" , قَالَ: "فَوَاَللَّهِ إذًا لاَ أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا" , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَأَجِزْهُ لِي" قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ, قَالَ مُكَرَّزٌ، هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ الأَحْنَفِ: بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ فَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ كُلِّهِمْ وَحَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانُ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا قَالَ: نَعَمْ, إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ, وَمِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَهَذَا خَبَرٌ مِنْهُ عليه السلام مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ, وَآخَرَ: يُخْبِرَانِ، عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَفِيهِ: فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو, وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا, وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ, وَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرْجِعَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ: {إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} الآيَةَ.

(7/308)


934- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْكُفَّارِ فَعَاهَدُوهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَأَطْلَقُوهُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ, وَلاَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا, وَلاَ يَحِلُّ لِلإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْطِلاَقِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْدُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِفِدَائِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَإِسَارُ الْمُسْلِمِ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ, وَأَخْذُ الْكَافِرِ أَوْ الظَّالِمِ مَالَهُ فِدَاءً مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ, فَلاَ يَحِلُّ إعْطَاءُ الْبَاطِلِ, وَلاَ الْعَوْنُ عَلَيْهِ, وَتِلْكَ الْعُهُودُ وَالأَيْمَانُ الَّتِي أَعْطَاهُمْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا, لأََنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهَا, إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى الْخَلاَصِ إِلاَّ بِهَا, وَلاَ يَحِلُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" وَهَكَذَا كُلُّ عَهْدٍ أَعْطَيْنَاهُمْ, حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ أَيْدِيهمْ, فَإِنْ عَجَزْنَا، عَنْ اسْتِنْقَاذِهِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْنَا فِدَاؤُهُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ

(7/308)


"أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالشَّافِعِيِّ.

(7/309)


935- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ فِدَاءُ الأَسِيرِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إمَّا بِمَالٍ, وَأَمَّا بِأَسِيرٍ كَافِرٍ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُرَدَّ صَغِيرٌ سُبِيَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ إلَيْهِمْ لاَ بِفِدَاءٍ، وَلاَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ; لأََنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْم الإِسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ, فَهُوَ وَأَوْلاَدُ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ.

(7/309)


936- مَسْأَلَةٌ: وَمَا وَهَبَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ, أَوْ التَّاجِرِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَهِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالَ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ, وَكَذَلِكَ مَا ابْتَاعَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ فَهُوَ ابْتِيَاعٌ صَحِيحٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالاً لِمُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ; لأََنَّهُمْ مَالِكُونَ لأََمْوَالِهِمْ مَا لَمْ يَنْتَزِعْهَا الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ إلَى أَنْ أَوْرَثَنَا إيَّاهَا, وَالتَّوْرِيثُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ, وَإِلَّا فَلَمْ يُورَثْ بَعْدَمَا لَمْ تَقْدِرْ أَيْدِينَا عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْغَانِمِ لَهَا, لاَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَغْنَمْهَا.

(7/309)


937- مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ, أَوْ لَمْ يَخْرُجَ, أَوْ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَسْلَمَ, كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَجَمِيعُ مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ; أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ, أَوْ الَّذِي تَرَكَ وَرَاءَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ عَقَارٍ, أَوْ دَارٍ, أَوْ أَرْضٍ, أَوْ حَيَوَانٍ, أَوْ نَاضٍّ; أَوْ مَتَاعٍ فِي مَنْزِلِهِ, أَوْ مُودَعًا, أَوْ كَانَ دَيْنًا: هُوَ كُلُّهُ لَهُ, لاَ حَقَّ لأََحَدٍ فِيهِ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ غَنِمُوهُ أَوْ افْتَتَحُوا تِلْكَ الأَرْضَ. وَمَنْ غَصَبَهُ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ, أَوْ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ: رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ وَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ, وَأَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ. وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ إنْ سُبُوا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا, وَهِيَ رَقِيقٌ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ سَهْمَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ, وَبِلاَ خِلاَفٍ, وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: مُسْلِمٌ; وَإِذْ هُوَ مُسْلِمٌ, فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . فَصَحَّ أَنَّ دَمَهُ, وَبَشَرَتَهُ, وَعِرْضَهُ, وَمَالَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ, وَنِكَاحُ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى نِكَاحِهِمْ, وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا أَقَرَّهُ, وَمِنْهُ خُلِقَ عليه السلام, وَلَمْ يُخْلَقْ إِلاَّ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ, فَهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا لاَ يَفْسُدُ شَيْءٌ, وَلاَ غَيْرُهُ إِلاَّ مَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِفَسَادِهِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لاَ يُنَازِعُونَنَا فِي أَنَّ دَمَهُ, وَعِرْضَهُ, وَبَشَرَتَهُ, حَرَامٌ ثُمَّ يَضْطَرِبُونَ فِي أَمْرِ مَالِهِ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَقَوْلُنَا هَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة: إنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ هُنَاكَ حَتَّى تَغَلَّبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ حُرٌّ, وَأَمْوَالُهُ كُلُّهَا لَهُ, لاَ يُغْنَمُ مِنْهَا شَيْئًا, وَلاَ مِمَّا كَانَ لَهُ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ,

(7/309)


938- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَامْرَأَتُهُ حُرَّةٌ لاَ تُسْتَرَقُّ; لأََنَّ الْجَنِينَ حِينَئِذٍ بَعْضُهَا, وَلاَ يُسْتَرَقُّ, لأََنَّهُ جَنِينٌ مُسْلِمٌ. وَمَنْ كَانَ بَعْضُهَا حُرًّا فَهِيَ كُلُّهَا حُرَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلاَفِ حُكْمِهَا إذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ قَبْلَ إسْلاَمِ أَبِيهِ لأََنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُهَا, وَهُوَ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/311)


939- مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ ذِمِّيٌّ, أَوْ حَرْبِيٌّ فَحِينَ إسْلاَمِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ. لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا وَإِلَّا فَلاَ. فَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, فَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَهَا, فَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا أَسْلَمَتْ هِيَ, أَمْ لَمْ تُسْلِمْ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَسَاعَةَ إسْلاَمِهِ قَدْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ, أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَأَكْثَرَ. لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا إنْ أَسْلَمَتْ, وَإِلَّا فَلاَ, سَوَاءٌ حَرْبِيَّيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ كَانَا. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم. وَبِهِ يَقُولُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ, وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ, وَقَتَادَةُ, وَالشَّعْبِيُّ, وَغَيْرُهُمْ. وقال أبو حنيفة: أَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ الآخَرِ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ الإِسْلاَمَ عَلَى الَّذِي لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمَا; فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ أَبَى فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ, وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبَ فَخَرَجَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَسَاعَةَ حُصُولِهَا فِي دَارِ الإِسْلاَمِ يَقَعُ الْفَسْخُ بَيْنَهُمَا لاَ قَبْلَ ذَلِكَ; فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَاضَتْ ثَلاَثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ هُوَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ وَعَلَيْهَا أَنْ تَبْتَدِئَ ثَلاَثَ حِيَضٍ أُخَرَ عِدَّةً مِنْهُ, وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا. قَالَ: فَلَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ وَقْتِهِ. وقال مالك: إنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا, فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. قَالَ: فَلَوْ أَسْلَمَ هُوَ, وَهِيَ غَيْرُ كِتَابِيَّةٍ عُرِضَ الإِسْلاَمُ عَلَيْهَا, فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ أَبَتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَةَ إبَائِهَا, فَلَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ عَكْسَ قَوْلِ مَالِكٍ إنْ أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ, فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ, وَإِلَّا فَبِتَمَامِهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ, وَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ وَقْتَ الْفُرْقَةِ فِي الْحِينِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ, وَالشَّافِعِيُّ: وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَتُرَاعَى الْعِدَّةُ, فَإِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا, وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى تَمَّتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَحَدُ قَوْلِيِّ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
قال أبو محمد: أُمًّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ, لأََنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ, وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَدُّوا وَقْتَ عَرْضِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ, وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ لأََحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ لَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ, مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(7/312)


[وَرُوِّينَا] مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ, أَوْ النَّصْرَانِيِّ: كَانَ أَحَقَّ بِبُضْعِهَا, لأََنَّ لَهُ عَهْدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فَأَقَرَّهُنَّ عُمَرُ عِنْدَهُ قَالَ شُعْبَةُ: قُلْت لِلْحُكْمِ: عَمَّنْ هَذَا قَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَابْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ, وَالْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ وَقَالَ غُنْدَرُ: نَا شُعْبَةُ نَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُغِيرَةُ, وَمَنْصُورٌ, وَحَمَّادٌ, كُلُّهُمْ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: فِي ذِمِّيَّةٍ أَسْلَمَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ, قَالَ: تُقَرُّ عِنْدَهُ وَبِهِ أَفْتَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا فَهَذَا قَوْلٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ آخَرُ: صَحَّ عَنْهُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ, وَقَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ: أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَخَيَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ, وَإِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ ثَالِثٌ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ بِشْرٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مِنْ ابْن أَخٍ لَهُ نَصْرَانِيٍّ فَرَكِبَ عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ; فَكَتَبَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ: إنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ; وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا; فَلَمْ يُسْلِمْ, فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا, فَتَزَوَّجَهَا عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا, لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ أَلْبَتَّةَ ابْتِدَاءَ عَقْدِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ مِنْ كَافِرٍ أَسْلَمَ إثْرَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ.
وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ رَابِعٌ لاَ يَصِحُّ عَنْهُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: أَنْبَأَنِي ابْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ, عُرِضَ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ فَأَبَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيَّ كَانَ نَاكِحًا بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَأَسْلَمَتْ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إمَّا أَنْ تُسْلِمَ وَأَمَّا أَنْ نَنْتَزِعَهَا مِنْك فَأَبَى, فَنَزَعَهَا عُمَرُ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مُضَرَ التَّغْلِبِيَّ، عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ التَّمِيمِيَّةُ, وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ, فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا.

(7/313)


أَبُو إِسْحَاقَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ وَالسَّفَّاحُ, وَدَاوُد بْنُ كُرْدُوسٍ مَجْهُولاَنِ. وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَلْقَمَةَ, وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرِينَ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا: هُوَ أَمْلَكُ بِبُضْعِهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ هِجْرَتِهَا.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرِهَا. وَقَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إنْ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا, فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا إِلاَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا سُلْطَانٌ. وَأَمَّا مِنْ رَاعَى عَرْضَ الإِسْلاَمِ فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبِي أَنْ يُسْلِمَ فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ بِوَاحِدَةٍ وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ إبَايَتِهِ بَعْدَ إسْلاَمِهَا وَقَدْ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ مَعَهَا. وَأَمَّا مَنْ رَاعَى الْعِدَّةَ فَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَأَمَّا قَوْلُنَا فَمَرْوِيٌّ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَنَّ جَدَّهُ وَجَدَّتَهُ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ فَأَسْلَمَتْ جَدَّتُهُ; فَفَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَهُمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ, أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ تُسْلِمُ تَحْتَ الْيَهُودِيِّ, أَوْ النَّصْرَانِيِّ. قَالَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا, الإِسْلاَمُ يَعْلُو، وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ وَبِهِ يُفْتِي حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَنَا حِلٌّ, وَنِسَاؤُنَا عَلَيْهِمْ حَرَامٌ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِيَّيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا, قَالَ: قَدْ انْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمَا وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي نَصْرَانِيَّةٍ أَسْلَمَتْ تَحْتَ نَصْرَانِيٍّ قَالَ: قَدْ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي كَافِرَةٍ تُسْلِمُ تَحْتَ كَافِرٍ. قَالُوا: قَدْ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَدِيِّ بْنِ عَدِيِّ: هَذَا بِعَيْنِهِ أَيْضًا. وَعَنِ الْحَسَنِ, ثَابِتٌ أَيْضًا: أَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا جَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَمَا نَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا تُقَرُّ عِنْدَهُ وَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا; فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: نِكَاحُ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِغَيْرِ يَقِينٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ قَالَ: نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، وَمُحَمَّدُ

(7/314)


ابْنُ عَمْرٍو الرَّازِيّ, وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ النُّفَيْلِيُّ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ, وَقَالَ الرَّازِيّ: نَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ, وَقَالَ الْحُلْوَانِيُّ: نَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ أَوْ ابْنُ هَارُونَ أَحَدُهُمَا بِلاَ شَكٍّ, ثُمَّ اتَّفَقَ سَلَمَةُ, وَابْنُ سَلَمَةَ, وَيَزِيدُ, كُلُّهُمْ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ. زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. وَزَادَ سَلَمَةُ: بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَزَادَ يَزِيدُ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ. وَقَالُوا: قَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ كُفَّارِ الْعَرَبِ عَلَى نِسَائِهِمْ, وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ, وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ مَا ذَكَرنَا, فأما قَوْلُهُمْ: إنَّ نِكَاحَ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِغَيْرِ يَقِينٍ فَصَدَقُوا, وَالْيَقِينُ قَدْ جَاءَ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَصَحِيحٌ يَعْنِي حَدِيثَ زَيْنَبَ مَعَ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنهما، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لأََنَّ إسْلاَمَ أَبِي الْعَاصِ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ, وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ بَعْدُ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْمُشْرِكِ, وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِإِسْلاَمِ الْعَرَبِ فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى خَبَرٍ صَحِيحٍ بِأَنَّ إسْلاَمَ رَجُلٍ تَقَدَّمَ إسْلاَمَ امْرَأَتِهِ, أَوْ تَقَدَّمَ إسْلاَمُهَا فَأَقَرَّهُمَا عليه السلام عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ; فَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأََنَّهُ إطْلاَقُ الْكَذِبِ, وَالْقَوْلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدَ, وَامْرَأَةَ صَفْوَانَ أَسْلَمَتْ قَبْلَ صَفْوَانَ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمَا بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَمْ يُجَدِّدَا عَقْدًا وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ قَطُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
قال أبو محمد: وَهُنَا شَغَبَ الْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ: فأما الشَّافِعِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا كُلِّهِ وَبِحَدِيثِ أَبِي الْعَاصِ وَجَعَلُوا الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْعِدَّةَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَبْكُمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ كُلُّ مَا ذَكَرنَا مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي أَمْرِ أَبِي الْعَاصِ, وَأَمْرِ هِنْدَ, وَامْرَأَةِ صَفْوَانَ, وَسَائِرِ مَنْ أَسْلَمَ: إنَّمَا هُوَ الْعِدَّةُ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا ذِكْرُ عِدَّةٍ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا أَصْلاً, وَلاَ عِدَّةَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مِنْ طَلاَقٍ, أَوْ وَفَاةٍ, وَالْمُعْتَقَةُ تَخْتَارُ نَفْسَهَا, وَلَيْسَتْ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ كَافِرٍ, وَلاَ الْبَاقِيَةُ عَلَى الْكُفْرِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ, وَلاَ الْمُرْتَدَّةُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ, فَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمُونَا بِهَذِهِ الْعِدَّةِ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ أَبَدًا إِلاَّ بِالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ; فَكَيْفَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ فِي أَوَّلِ بَعْثِ أَبِيهَا عليه السلام لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ, ثُمَّ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ وَكَانَ بَيْنَ إسْلاَمِهَا وَإِسْلاَمِهِ أَزْيَدُ مِنْ ثَمَانِي

(7/315)


عَشْرَةَ سَنَةً وَقَدْ وَلَدَتْ فِي خِلاَلِ هَذَا ابْنَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي الْعَاصِ فَأَيْنَ الْعِدَّةُ لَوْ عَقَلْتُمْ؟
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنْ مَوَّهُوا بِامْرَأَةِ صَفْوَانَ. عُورِضُوا بِهَذَا, وَأَبِي سُفْيَانَ, وَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ذُكِّرُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} , فَظُهْر فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ, فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى رُجُوعَ الْمُؤْمِنَةِ إلَى الْكَافِرِ.
وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَكُلُّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ هَجَرَ الْكُفْرَ الَّذِي قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ مُهَاجِرٌ. وَنَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ نِكَاحَهَا مُبَاحٌ لَنَا. فَصَحَّ انْقِطَاعُ الْعِصْمَةِ بِإِسْلاَمِهَا. وَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لاَ يُمْسِكَ عِصْمَةً كَافِرَةً.فَصَحَّ أَنَّ سَاعَةَ يَقَعُ الإِسْلاَمُ, أَوْ الرِّدَّةُ, فَقَدْ انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْكَافِرِ, وَعِصْمَةُ الْكَافِرَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَكَانَا كَافِرَيْنِ, أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ تَخْلِيطٌ, وَقَوْلٌ فِي الدِّينِ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/316)


940- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِمَّا سِوَى الْيَهُودِ, وَالنَّصَارَى, أَوْ الْمَجُوسِ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, أَوْ قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, كَانَ بِذَلِكَ مُسْلِمًا تَلْزَمُهُ شَرَائِعُ الإِسْلاَمِ, فَإِنْ أَبَى الإِسْلاَمَ قُتِلَ. وَأَمَّا مِنْ الْيَهُودِ, وَالنَّصَارَى, وَالْمَجُوسِ, فَلاَ يَكُونُ مُسْلِمًا بِقَوْلِ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, إِلاَّ حَتَّى يَقُولَ: وَأَنَا مُسْلِمٌ, أَوْ قَدْ أَسْلَمْتُ, أَوْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ حَاشَا الإِسْلاَمَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى نَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمُّ قُلْ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ نَا هُشَيْمٌ نَا حُصَيْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ, وَطَعَنْتُهُ فَقَتَلْتُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ

(7/316)


رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا فَقَالَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
قال أبو محمد: فَهَذَا فِي آخِرِ الإِسْلاَمِ, وَحَدِيثُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُعْظَمِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْهُ, وَقَدْ كَفَّ الأَنْصَارِيُّ كَمَا تَرَى، عَنْ قَتْلِهِ إذْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَلْزَمْ أُسَامَةَ قَوَدٌ لأََنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ يَظُنُّهُ كَافِرًا فَلَيْسَ قَاتِلَ عَمْدٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ الْحُلْوَانِيُّ نَا أَبُو تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ نَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلاَمٍ، عَنْ زَيْدٍ يَعْنِي أَخَاهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَمٍ قَالَ: نَا أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ; فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا, فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي قُلْتُ: أَلاَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي ثُمَّ ذَكَر الْحَدِيثَ, وَفِي آخِرِهِ إنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ: [لَقَدْ] صَدَقْت وَإِنَّك لَنَبِيٌّ, ثُمَّ انْصَرَفَ.
فَفِي هَذَا الْخَبَرِ ضَرَبَ ثَوْبَانُ رضي الله عنه الْيَهُودِيَّ إذْ لَمْ يَقُلْ: رَسُولَ اللَّهِ, وَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ, إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لاََنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ: إنَّك لَنَبِيٌّ, وَلَمْ يُلْزِمْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَرْكَ دِينِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا أَبُو رَوْحٍ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ نَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدٍ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" . وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.

(7/317)


941- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْ يَهُودِيٍّ, وَلاَ نَصْرَانِيٍّ, وَلاَ مَجُوسِيٍّ: جِزْيَةٌ, إِلاَّ بِأَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْنَا, وَأَنْ لاَ يَطْعَنُوا فِيهِ, وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ; لِحَدِيثِ ثَوْبَان

(7/317)


الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, قَالَ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ: مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ: إنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ إلَيْكُمْ لاَ إلَيْنَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قُتِلَ.

(7/318)


942 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: إنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الإِسْلاَمِ بَاطِنًا غَيْرَ الظَّاهِرِ الَّذِي يَعْرِفهُ الأَسْوَدُ وَالأَحْمَرُ, فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ، وَلاَ بُدَّ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ.

(7/318)


943- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ عَبْدٍ, أَوْ أَمَةٍ كَانَا لِكَافِرَيْنِ, أَوْ أَحَدِهِمَا أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ, أَوْ فِي غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ: فَهُمَا حُرَّانِ, فَلَوْ كَانَا كَذَلِكَ لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَا: فَهُمَا حُرَّانِ سَاعَةَ إسْلاَمِهِمَا, وَكَذَلِكَ مُدَبَّرُ الذِّمِّيِّ, أَوْ الْحَرْبِيِّ, أَوْ مُكَاتَبُهُمَا, أَوْ أُمُّ وَلَدِهِمَا, أَيُّهُمْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ إسْلاَمِهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ, أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا, وَلاَ يَرْجِعُ الَّذِي أَسْلَمَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَعْطَى مِنْهَا قَبْلَ إسْلاَمِهِ, وَيَرْجِعُ بِمَا أَعْطَى مِنْهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِ فَيَأْخُذُهُ لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى بِهَذَا أَحْكَامَ الدِّينِ بِلاَ شَكٍّ, وَأَمَّا تَسَلُّطُ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ فَلاَ, وَالرِّقُّ أَعْظَمُ السَّبِيلِ, وَقَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِسْلاَمِ, وَنَسْأَلُ مَنْ بَاعَهُمَا عَلَيْهِ: لِمَ تَبِيعُهُمَا أَهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ أَمْ غَيْرُ مَمْلُوكَيْنِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا.
فَإِنْ قَالَ: لَيْسَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ صَدَقَ وَهُوَ قَوْلُنَا وَإِذْ لَمْ يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَهُمَا حُرَّانِ, وَإِنْ قَالَ: هُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ. قلنا: فَلِمَ تُبْطِلُ مِلْكَهُ الَّذِي أَنْتَ تُصَحِّحُهُ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إقْرَارِك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ سَاعَةً, أَوْ سَاعَتَيْنِ, أَوْ يَوْمًا, أَوْ يَوْمَيْنِ, أَوْ جُمُعَةً, أَوْ جُمُعَتَيْنِ, أَوْ شَهْرًا, أَوْ شَهْرَيْنِ, أَوْ عَامًا, أَوْ عَامَيْنِ, أَوْ بَاقِيَ عُمُرِهَا, أَوْ عُمُرِهِ, وَكَيْفَ صَحَّ إقْرَارُك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ مُدَّةَ تَعْرِيضِهِمَا لِلْبَيْعِ وَلَمْ يَصِحَّ, وَلَمْ يَصِحَّ إبْقَاؤُهُمَا فِي مِلْكِهِ أَكْثَرَ, وَلَعَلَّهُمَا لاَ يَسْتَبِيعَانِ فِي شَهْرٍ; أَوْ أَكْثَرَ, وَهَلَّا أَقْرَرْتُمُوهُمَا فِي مِلْكِهِ وَحُلْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمُدَبَّرِ, وَأُمِّ الْوَلَدِ, وَالْمُكَاتَبِ إذَا أَسْلَمُوا وَلَئِنْ كَانَ يَجُوزُ إبْقَاؤُهُمْ فِي مِلْكِهِ إنَّ ذَلِكَ لَجَائِزٌ فِي الْعَبْدِ, وَلَئِنْ حَرُمَ إبْقَاءُ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ لَيَحْرُمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرِ, وَالْمُكَاتَبِ، وَلاَ فَرْقَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ, وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا، عَنْ كَافِرٍ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا, أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً, فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُمْ يَفْسَخُونَ ذَلِكَ الشِّرَاءَ. فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ فَسَخْتُمُوهُ وَهَلَّا بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُونَ إذَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِهِ وَمَا الْفَرْقُ فَإِنْ قَالُوا: لأََنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ. قلنا: نَعَمْ, فَكَانَ مَاذَا، وَلاَ يَخْلُو ابْتِيَاعُهُ لَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ.
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ لِمَا لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ. قلنا: صَدَقْتُمْ, فَكَيْفَ أَحْلَلْتُمْ تَمَلُّكَهُ لَهُمَا مُدَّةَ تَعْرِيضِكُمْ

(7/318)


ومن سى من أهل الحري من الرجال وله زوجة
...
944- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سُبِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَهُ زَوْجَةٌ, أَوْ مِنْ النِّسَاءِ وَلَهَا زَوْجٌ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَهَا, أَوْ لَمْ يُسْبَ مَعَهَا, وَلاَ سُبِيَتْ مَعَهُ فَهُمَا عَلَى زَوْجِيَّتِهِمَا فَإِنْ أَسْلَمَتْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ تُسْلِمْ لِمَا قَدَّمْنَا وَأَمَّا بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ فَلأََنَّ نِكَاحَ أَهْلِ الشِّرْكَ صَحِيحٌ قَدْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّ سِبَاءَهُمَا, أَوْ سَبَاءَ أَحَدِهِمَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُمَا.
فإن قيل: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قلنا: نَعَمْ, إذَا أَسْلَمَتْ حَلَّتْ لِسَيِّدِهَا الْمُسْلِمِ, وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا لَكَانَ مَنْ لَهُ أَمَةٌ نَاكِحٌ تَحِلُّ لَهُ; لأََنَّهَا مِلْكُ يَمِينِهِ, وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ الْحَاضِرُونَ مِنْ خُصُومِنَا. وَقَدْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ ابْتَاعَ أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ فَبَيْعُهَا طَلاَقُهَا، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا, لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

(7/322)


945- مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّ الأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ أَسْلَمَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلاَدِهِمَا مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا الأُُمُّ أَسْلَمَتْ أَوْ الأَبُ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَصْحَابِهِمْ كُلِّهِمْ. وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأَبِ, لاَ بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ. وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: لاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ, وَأَمَّا بِإِسْلاَمِ الأَبِ فَلاَ; لأََنَّهُمْ تَبَعٌ لِلأُُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ, وَالرِّقِّ لاَ لِلأَبِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ جَعَلَهُمْ بِإِسْلاَمِ الأَبِ خَاصَّةً مُسْلِمِينَ حُجَّةً أَصْلاً, وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ابْنِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زِنَا اسْتِكْرَاهٍ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِهَا وَهَذَا تَرْكٌ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِمْ, وَوَافَقُونَا أَنَّهُ إنْ أَسْلَمَ الأَبَوَانِ, أَوْ أَحَدُهُمَا, وَلَهُمَا بَنُونَ وَبَنَاتٌ قَدْ بَلَغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَبِهِ نَقُولُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَالْبَالِغُ مُخَاطَبٌ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْكُفْرِ أَوْ الذِّمَّةِ, وَلَيْسَ غَيْرُ الْبَالِغِ مُخَاطَبًا كَمَا قَدَّمْنَا قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ, وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ حَزَوَّرًا قَدْ قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ فَهُوَ عَلَى دِينِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ; لأََنَّهُ لَيْسَ بَالِغًا, وَمَا لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغُ لاَ مَنْ بَلَغَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا مَنْ قَاسَ الدِّينَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ

(7/322)


اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَبْدِيلُ دِينِ الإِسْلاَمِ لأََحَدٍ، وَلاَ يُتْرَكُ أَحَدٌ يُبَدِّلُهُ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِهِ عَلَى تَبْدِيلِهِ فَقَطْ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} , فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ فِي الآخِرَةِ دِينٌ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَ دِينِ الإِسْلاَمِ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَيُقَرَّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى يُعَبِّرَ، عَنْ نَفْسِهِ; فَمَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إقْرَارِهِ عَلَى مُفَارَقَةِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ عَلَيْهِ أَقْرَرْنَاهُ, وَمَنْ لاَ لَمْ نُقِرَّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلاَمِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ".
قال أبو محمد: فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُتْرَكُ أَحَدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الإِسْلاَمِ إِلاَّ مَنْ اتَّفَقَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ, أَوْ تَنْصِيرِهِ, أَوْ تَمْجِيسِهِ فَقَطْ, فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُمَجِّسْهُ أَبَوَاهُ, وَلاَ نَصَّرَاهُ, وَلاَ هَوَّدَاهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا وُلِدَ عَلَيْهِ مِنْ الإِسْلاَمِ، وَلاَ بُدَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ وَهَلَ قَوْمٌ فِي هَذِهِ الآيَةِ وَهَذِهِ الأَخْبَارِ وَهِيَ بَيِّنَةٌ وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْفُسِ حِينَ خَلَقَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا، عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ عَطَاءٍ فِي هَذَا. فَمَرَّةً قَالَ كَقَوْلِنَا: إنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أَيِّ أَبَوَيْهِ أَسْلَمَ. وَمَرَّةً قَالَ: هُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلاَمِ أُمِّهِمْ لاَ بِإِسْلاَمِ أَبِيهِمْ. وَمَرَّةً قَالَ: أَيُّهُمَا أَسْلَمَ وَرِثَا جَمِيعًا مَنْ مَاتَ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِمَا وَوَرِثَهُمَا صِغَارُ وَلَدِهِمَا. رُوِّينَا هَذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ رُوِّينَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا قَالاَ جَمِيعًا فِي الصَّغِيرِ يَكُونُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا فَيَمُوتُ: إنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُغِيرَةِ قَالَ عَمْرٌو: عَنِ الْحَسَنِ, وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالاَ جَمِيعًا فِي نَصْرَانِيَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا: إنَّ أَوْلاَهُمَا بِهِمْ الْمُسْلِمُ يَرِثُهُمْ وَيَرِثُونَهُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ أَسْلَمَ جَدُّ الصَّغِيرِ, أَوْ عَمُّهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أَيِّهِمَا أَسْلَمَ, وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: الأَمْرُ

(7/323)


فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِينَا الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ، وَلاَ يُشَكُّ فِيهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ الآنَ أَنَّ النَّصْرَانِيِّينَ بَيْنَهَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَتْ الأُُمُّ وَرِثَتْهُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا بَقِيَ فَلِلْمُسْلِمِينَ, فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ نَصْرَانِيَّيْنِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ مُسْلِمٍ, أَوْ أُخْتٌ مُسْلِمَةٌ وَرِثَهُ أَخُوهُ, أَوْ أُخْتُهُ كِتَابَ اللَّهِ, ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ هَذَا لِعَطَاءٍ, وَسُلَيْمَانُ فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ أَدْرَكَ التَّابِعِينَ الأَكَابِرَ. وَلَسْنَا نَرَاهُ مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِ جَدٍّ, وَلاَ عَمٍّ, وَلاَ أَخٍ, وَلاَ أُخْتٍ, إذَا اجْتَمَعَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ, أَوْ تَنْصِيرِهِ, أَوْ تَمْجِيسِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(7/324)


946- مَسْأَلَةٌ: وَوَلَدُ الْكَافِرَةِ الذِّمِّيَّةِ, أَوْ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ زِنًا, أَوْ إكْرَاهٍ مُسْلِمٌ, وَلاَ بُدَّ; لأََنَّهُ وُلِدَ عَلَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ كَمَا ذَكَرنَا، وَلاَ أَبَوَيْنِ لَهُ يُخْرِجَانِهِ مِنْ الإِسْلاَمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.

(7/324)


947 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سُبِيَ مِنْ صِغَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا, أَوْ دُونَهُمَا هُوَ مُسْلِمٌ, وَلاَ بُدَّ; لأََنَّ حُكْمَ أَبَوَيْهِ قَدْ زَالَ، عَنِ النَّظَرِ لَهُ, وَصَارَ سَيِّدُهُ أَمْلَكَ بِهِ, فَبَطَلَ إخْرَاجُهُمَا لَهُ، عَنِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا خَلَّادٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لاَ يَدْعُ يَهُودِيًّا, وَلاَ نَصْرَانِيًّا يُهَوِّدُ وَلَدَهُ, وَلاَ يُنَصِّرُهُ فِي مِلْكِ الْعَرَبِ وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالْمُزَنِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/324)


948- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ كَنْزًا مِنْ دَفْنِ كَافِرٍ غَيْرِ ذِمِّيٍّ جَاهِلِيًّا كَانَ الدَّافِنُ, أَوْ غَيْرَ جَاهِلِيٍّ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ حَلاَلٌ, وَيَقْسِمُ الْخُمُسَ حَيْثُ يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ, وَلاَ يُعْطِي لِلسُّلْطَانِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ شَيْئًا إِلاَّ إنْ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ فَيُعْطِيه الْخُمُسَ فَقَطْ, وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي فَلاَةٍ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ, أَوْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ, أَوْ أَرْضِ عَنْوَةٍ, أَوْ أَرْضِ صُلْحٍ; أَوْ فِي دَارِهِ, أَوْ فِي دَارِ مُسْلِمٍ, أَوْ فِي دَارِ ذِمِّيٍّ, أَوْ حَيْثُ مَا وَجَدَهُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ كَمَا ذَكَرنَا, وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ حُرٌّ, أَوْ عَبْدٌ, أَوْ امْرَأَةٌ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} , وَمَالُ الْكَافِرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ غَنِيمَةٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" وَمِنْ حَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ نَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهَا: أَصَبْت كَنْزًا فَرَفَعْته إلَى السُّلْطَانِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "بِفِيك الْكَثْكَثُ", الْكَثْكَثُ التُّرَابُ

(7/324)


949- مَسْأَلَةٌ: وَيُقْسَمُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَخُمُسُ الْغَنِيمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: فَسَهْمٌ يَضَعُهُ الإِمَامُ حَيْثُ يَرَى مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ صَلاَحٌ وَبِرٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ ثَانٍ لِبَنِي هَاشِمٍ, وَالْمُطَّلِبِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ, غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ, وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ, وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ, وَصَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلاَ حَظَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ, وَلاَ لِحُلَفَائِهِمْ, وَلاَ لِبَنِي بَنَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلاَ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى سِوَاهُمْ, وَلاَ لِكَافِرٍ مِنْهُمْ. وَسَهْمٌ ثَالِثٌ لِلْيَتَامَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَسَهْمٌ رَابِعٌ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ خَامِسٌ لأَبْنِ السَّبِيلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْمَسَاكِينَ, وَابْنَ السَّبِيلِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَةِ ذَلِكَ وَالْيَتَامَى هُمْ الَّذِينَ قَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَقَطْ; فَإِذَا بَلَغُوا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ اسْمُ الْيُتْمِ وَخَرَجُوا مِنْ السَّهْمِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} , فَلاَ يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا: وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي الْمُطَّلِبِ, وَتَرَكَ: بَنِي نَوْفَلٍ, وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ, قَالَ: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنُو هَاشِمٍ لاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ, فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا, وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لاَ نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلاَ إسْلاَمٍ, وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" وَهَذَا بَيِّنٌ جَلِيٌّ وَإِسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.

(7/327)


نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَرَجٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ الْعَبْقَسِيُّ الْمَكِّيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيُّ نَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ نَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ نَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرنَا, وَفِيهِ قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ وَالنَّوَى. وَهَذَا أَيْضًا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ, وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ تَعَالَى, وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ, وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ نَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ نَا أَبِي نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْد بْنِ مَنْجُوفٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إلَى خَالِدٍ لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ فَاصْطَفَى عَلِيٌّ مِنْهَا سَبِيَّةً فَأَصْبَحَ يَقْطُرُ رَأْسَهُ, فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَ هَذَا الرَّجُلُ قَالَ بُرَيْدَةَ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا, فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ, قَالَ: "أَتُبْغِضُ عَلِيًّا" قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: "فَأَحِبَّهُ, فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" . وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ امْرِئٍ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَحْدُودٌ مَعْرُوفُ الْقَدْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ "قَالَ" أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكَلِّمَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ, وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَسَمْتَ لأَِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا, وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ", قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ, وَلاَ لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسِ كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ, قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ, وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ. فَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ, فَهُوَ مَا كَانَ عليه السلام يَعُودُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِ, وَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَشَدَّ, وَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَهُمْ الْحَقَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فَيُعِيذُ اللَّهُ تَعَالَى أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ ذَلِكَ.

(7/328)


وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ نَا يَحْيَى أَبِي بُكَيْرٍ نَا أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ قَاضِي الرَّيِّ، عَنْ مُطَرِّفٍ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَيَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَحَيَاةَ عُمَرَ, فَأَتَى بِمَالٍ فَدَعَانِي فَقَالَ: خُذْهُ فَقُلْتُ: لاَ أُرِيدُهُ, قَالَ: خُذْهُ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ, قُلْتُ: قَدْ اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ, فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى نَجْدَةَ: وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي، عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ; وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُمْ, فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا.
فَهَذِهِ الأَخْبَارُ الصِّحَاحُ الْبَيِّنَةُ، وَلاَ يُعَارِضُهَا مَا لاَ يَصِحُّ, أَوْ مَا مَوَّهَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ, وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ نَا الْحَكَمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خُمُسُ الْخُمُسِ سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى, وَسَهْمُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَيْضًا أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} , قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى, وَخُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدٌ, وَيُقْسَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ, فَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا, ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ, فَخُمُسٌ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ, وَخُمُسٌ لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَخُمُسٌ لِلْيَتَامَى, وَخُمُسٌ لأَبْنِ السَّبِيلِ, وَخُمُسٌ لِلْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ, وَآخِرُ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لِلذَّكَرِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَيْ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ أَصْلاً وَلَيْسَ مِيرَاثًا فَيُقْسَمُ كَذَلِكَ, وَإِنَّمَا هِيَ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, فَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ. وقال مالك: يُجْعَلُ الْخُمُسُ كُلُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ, وَيُعْطَى أَقْرِبَاءُ

(7/329)


رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا يَرَى الإِمَامُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ. قَالَ أَصْبَغُ بْنُ فَرَجٍ: أَقْرِبَاؤُهُ عليه السلام هُمْ جَمِيعُ قُرَيْشٍ. وقال أبو حنيفة: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ: الْفُقَرَاءِ, وَالْمَسَاكِينِ, وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لأََنَّهَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ نَصًّا, وَخِلاَفُ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ, وَلاَ يُعْرَفُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ, وَقَدْ تَقَصَّيْنَا كُلَّ مَا شَغَبُوا بِهِ فِي كِتَابِ الإِيصَالِ, وَجِمَاعُ كُلِّ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ تَأَمَّلَهُ أَنَّهُمْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِيِّ, وَنُظَرَائِهِ, أَوْ مُرْسَلَةٍ, أَوْ صِحَاحٍ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ أَصْلاً, أَوْ قَوْلٍ، عَنْ صَاحِبٍ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ، وَلاَ مَزِيدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/330)


950- مَسْأَلَةٌ: وَتُقْسَمُ الأَرْبَعَةُ الأَخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ, أَوْ الْغَنِيمَةَ, لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ: لَهُ سَهْمٌ, وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ, وَلِلرَّاجِلِ, وَرَاكِبِ الْبَغْلِ, وَالْحِمَارِ, وَالْجَمَلِ: سَهْمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ: لَهُ سَهْمٌ, وَلِفَرَسِهِ سَهْمٌ, وَلِسَائِرِ مَنْ ذَكَرنَا سَهْمٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ. وقال أحمد: لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ, وَلِرَاكِبِ الْبَعِيرِ سَهْمَانِ, وَلِغَيْرِهِمَا سَهْمٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا لَهُ بِآثَارٍ ضَعِيفَةٍ. مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ بْن جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ, وَالرَّاجِلِ سَهْمًا. مُجَمِّعٌ مَجْهُولٌ وَأَبُوهُ كَذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ, وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ نَافِعٍ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، عَنْ مَكْحُولٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ فَضِيحَةٌ مَجْهُولٌ, وَمُرْسَلٌ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ: لاَ أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ; فَيُقَالُ لَهُ: وَتُسَاوِي بَيْنَهُمَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ; فَإِذَا جَازَتْ الْمُسَاوَاةُ فَمَا مَنَعَ التَّفْضِيلَ ثُمَّ هُوَ يُسْهِمُ لِلْفَرَسِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتَلْ عَلَيْهِ, وَلاَ يُسْهِمُ لِلْمُسْلِمِ التَّاجِرِ, وَلاَ الأَجِيرِ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلاَ; فَقَدْ فَضَّلَ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ, ثُمَّ هُوَ يَقُولُ فِي إنْسَانٍ قَتَلَ كَلْبًا لِمُسْلِمٍ, وَعَبْدًا مُسْلِمًا فَاضِلاً, وَخِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ: قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, فَإِنَّهُ يُؤَدِّي فِي الْكَلْبِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, وَفِي الْخِنْزِيرِ

(7/330)


ذَلِكَ, وَلاَ يُعْطِي فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَاعْجَبُوا لِهَذَا الرَّأْيِ السَّاقِطِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّلاَمَةِ, فَقَدْ فَضَّلَ الْبَهِيمَةَ عَلَى الإِنْسَانِ.
قَالُوا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى السَّهْمَيْنِ. فَقُلْنَا لَهُمْ: إنْ كُنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَلَّمْنَاكُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ وَدَعَوَاكُمْ الإِجْمَاعَ هَاهُنَا كَذِبٌ وَمَا نَدْرِي لَعَلَّ فِيمَنْ أَخْطَأَ كَخَطَئِكُمْ, ثُمَّ مَنْ يَقُولُ: لاَ يُفَضَّلُ فَارِسٌ عَلَى رَاجِلٍ, كَمَا لاَ يُفَضَّلُ رَاكِبُ الْبَغْلِ عَلَى الرَّاجِلِ, وَكَمَا لاَ يُفَضَّلُ الشُّجَاعُ الْبَطَلُ الْمُبْلِي, عَلَى الْجَبَانِ الضَّعِيفِ الْمَرِيضِ. ثُمَّ لَوْ طَرَدْتُمْ أَصْلَكُمْ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ تُسْقِطُوا الزَّكَاةَ، عَنْ كُلِّ مَا أَوْجَبْتُمُوهَا فِيهِ مِنْ الْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَلَبَطَلَ قَوْلُكُمْ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ لأََنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَهَذَا يَهْدِمُ عَلَيْكُمْ أَكْثَرَ مَذَاهِبِكُمْ.
وَرَوَوْا: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ, وَهُمْ يَرَوْنَ حُكْمَ عُمَرَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ سُنَّةً, فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلُوهُ سُنَّةً أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ, وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ نَا زَائِدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا يَوْمَ خَيْبَرَ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ لِصِحَّتِهِ, وَلأََنَّهُ لَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الأَخْبَارُ لَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَيْهَا, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ يَجُوزُ رَدُّهَا. وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَالْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ, ذُكِرَ ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ. وَبِهِ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/331)


951- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ حَضَرَ بِخَيْلٍ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ إِلاَّ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ فَقَطْ, وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْهَمُ لِكُلِّ فَرَسٍ مِنْهَا وَهَذَا لاَ يَقُومُ بِهِ بُرْهَانٌ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لِلزُّبَيْرِ لِفَرَسَيْنِ قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ لاَ يَصِحُّ, وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِيهِ هُوَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ لِلزُّبَيْرِ, وَسَهْمِ الْقُرْبَى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, وَسَهْمَيْنِ لِلْفَرَسِ.

(7/331)


ويسهم للأجير وللتاجر وللعبد وللحر والمريض والصحييح سواء سواء كلهم
...
952- مَسْأَلَةٌ: وَيُسْهَمُ لِلأَجِيرِ, وَلِلتَّاجِرِ, وَلِلْعَبْدِ, وَلِلْحُرِّ, وَالْمَرِيضِ, وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ كُلُّهُمْ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} وَلِلأَثَرِ الَّذِي أَوْرَدْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُ عليه السلام قَسَمَ لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام حُرًّا مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ أَجِيرًا مِنْ غَيْرِهِ, وَلاَ تَاجِرًا مِنْ سِوَاهُ, فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي كِتَابِهِ إلَى نَجْدَةَ تَسْأَلُنِي، عَنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ, هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَحْذِيَا فَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَقَوْلٍ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ, وَالصَّرْفِ, وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى, وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: نَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَاتِي فَكَلَّمُوا فِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ السَّيْفَ فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ, فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ, فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. فَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ; لأََنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ. وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَجُرُّ السَّيْفَ, وَهَذَا صِفَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ. وَهَكَذَا نَقُولُ: إنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لاَ يُسْهَمُ لَهُ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ فَضَالَةِ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ وَفِينَا مَمْلُوكُونَ فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ, وَهَذَا مُنْقَطِعٌ; لأََنَّهُ إنْ كَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ مُحَمَّدٌ فَلَمْ يُدْرِكْ فَضَالَةَ;، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ; وَإِنْ كَانَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ فَالثَّوْرِيُّ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسِنِينَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيّ أَخْبَرَنَا عِيسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسِ اللِّهْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ أَبِي يَقْسِمُ لِلْحُرِّ وَلِلْعَبْدِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ خَالِهِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ قَالَ: قَسَمَ لِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ كَمَا قَسَمَ لِسَيِّدِي. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, قَالُوا: مَنْ شَهِدَ الْبَأْسَ مِنْ حُرٍّ, أَوْ عَبْدٍ, أَوْ أَجِيرٍ, فَلَهُ سَهْمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرٌ،

(7/332)


عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي الْغَنَائِمِ يَسْبِيهَا الْجَيْشُ قَالَ: إنْ أَعَانَهُمْ التَّاجِرُ, وَالْعَبْدُ: ضُرِبَ لَهُ بِسِهَامِهِمْ مَعَ الْجَيْشِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَناهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا شَهِدَ التَّاجِرُ, وَالْعَبْدُ, قُسِمَ لَهُ, وَقُسِمَ لِلْعَبْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا غُنْدَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ, وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنْ يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ, وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, فَهَلاَّ أَسْهَمُوا لِلْعَبْدِ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ ذَكَرُوا فِي الأَجِيرِ خَبَرَيْنِ فِيهِمَا أَنَّ أَجِيرًا اُسْتُؤْجِرَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ بِثَلاَثَةِ دَنَانِيرَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عليه السلام سَهْمًا غَيْرَهَا فَلاَ يَصِحَّانِ. لأََنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحِمْصِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو سَلَمٍ مَجْهُولٌ, وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّ يَعْلَى بْنَ مُنَيَّةَ وَعَاصِمَ بْنَ حَكِيمٍ, وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الدَّيْلَمِيِّ مَجْهُولاَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ, وَابْنُ سِيرِينَ وَالأَوْزَاعِيُّ, وَاللَّيْثُ: لاَ يُسْهَمُ لِلأَجِيرِ.وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُسْهَمُ لَهُمَا إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلاَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُسْهَمُ لِلتَّاجِرِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ: يُسْهَمُ لِلأَجِيرِ.

(7/333)


953- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُسْهَمُ لأَمْرَأَةٍ, وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ قَاتَلاَ, أَوْ لَمْ يُقَاتِلاَ وَيُنْفَلاَنِ دُونَ سَهْمِ رَاجِلٍ;، وَلاَ يَحْضُرُ مَغَازِي الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ أَصْلاً, وَلاَ يُنْفَلُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ قَعْنَبٍ نَا سُلَيْمَانُ، هُوَ ابْنُ بِلاَلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ.
قال أبو محمد: لَوْ بَلَغَ بِالنَّفْلِ لَهَا سَهْمَ رَاجِلٍ لَكَانَ قَدْ أَسْهَمَ لَهُنَّ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: لاَ يُرْضَخُ لَهُنَّ وَهَذَا خَطَأٌ, وَخِلاَفُ الأَثَرِ الْمَذْكُورِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ نَا رُفَيْعُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنِي حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ أَنَّهَا غَزَتْ مَعَ

(7/333)


رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِتِّ نِسْوَةٍ قَالَتْ: فَأَسْهَمَ لَنَا عليه السلام كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ. وَهَذَا إسْنَادٌ مُظْلِمٌ, رَافِعٌ, وَحَشْرَجٌ: مَجْهُولاَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ وَلِلصِّبْيَانِ وَالْخَيْلِ وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ مَجْهُولٍ قَالَ: أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْخَيْلِ وَهَذَا أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو خَالِدِ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ النَّاسِ غَنَائِمَهُمْ فَأَعْطَى كُلَّ إنْسَانٍ دِينَارًا وَجَعَلَ سَهْمَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا شُعْبَةُ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَيْحَانَ قَالَ: شَهِدَ مَعَ أَبِي مُوسَى أَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ مَجْزَأَةَ بْنِ ثَوْرٍ فَأَسْهَمَ لَهُنَّ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ أَهْلَ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا لأََنَّهُ إذَا أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ وَهُوَ بَهِيمَةٌ فَالْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِالسَّهْمِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا.
قال أبو محمد: فِعْلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْقَاضِي عَلَى مَا سِوَاهُ, وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَغَيْرُ مُخَاطَبِينَ, وَأَمَّا النَّفَلُ لِلصِّبْيَانِ أَيْضًا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَلاَ بَأْسَ, لأََنَّهُ فِي جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ, وَأَمَّا الْكَافِرُ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْزُو بِالْيَهُودِ فَيُسْهِمُ لَهُمْ كَسِهَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِّينَاهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا صِحَاحٍ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ حَيِّ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ غَزَا بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ فَرَضَخَ لَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلَتْ الشَّعْبِيَّ، عَنِ الْمُسْلِمِينَ يَغْزُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَدْرَكْت الأَئِمَّةَ الْفَقِيهَ مِنْهُمْ وَغَيْرَ الْفَقِيهِ يَغْزُونَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَقْسِمُونَ لَهُمْ, وَيَضَعُونَ عَنْهُمْ مِنْ جِزْيَتِهِمْ; فَذَلِكَ لَهُمْ نَفْلٌ حَسَنٌ وَالشَّعْبِيُّ وُلِدَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ عَلِيٍّ وَأَدْرَكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ لِلْمُشْرِكِ إذَا حَضَرَ كَسَهْمِ الْمُسْلِمِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ سُئِلَ، عَنْ أَهْلِ الْعَهْدِ يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: لَهُمْ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ مَا جُعِلَ لَهُمْ فَهُوَ لَهُمْ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُسْهَمُ لَهُمْ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَلاَ يُرْضَخُ لَهُمْ, وَلاَ يُسْتَعَانُ بِهِمْ.
قال أبو محمد: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ, وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِالْمُرْسَلِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا, لأََنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّاسَ عَلَى هَذَا, وَلاَ نَعْلَمُ لِسَعْدٍ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ يَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ, لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي هَذَا هُوَ مَا رُوِّينَاهُ

(7/334)


مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ بْنُ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ، أَنَّهُ قَالَ: "فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لأََحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا" . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ حَقَّ فِي الْغَنَائِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

(7/335)


954- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اُضْطُرِرْنَا إلَى الْمُشْرِكِ فِي الدَّلاَلَةِ فِي الطَّرِيقِ اُسْتُؤْجِرَ لِذَلِكَ بِمَالٍ مُسَمًّى مِنْ غَيْرِ الْغَنِيمَةِ. لَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى نَا هِشَامُ، هُوَ ابْنُ يُوسُفَ نَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: "وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ هَادِيًا يَعْنِي بِالطَّرِيقِ".

(7/335)


955- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَهُ سَلَبُهُ قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ, أَوْ لَمْ يَقُلْهُ كَيْفَمَا قَتَلَهُ صَبْرًا, أَوْ فِي الْقِتَالِ، وَلاَ يُخَمَّسُ السَّلَبُ قَلَّ, أَوْ كَثُرَ, وَلاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ فِي الْحُكْمِ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ, أَوْ خَشِيَ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْهُ, أَوْ أَنْ يُخَمَّسَ فَلَهُ أَنْ يُغَيِّبَهُ, وَيُخْفِيَ أَمْرَهُ. وَالسَّلَبُ: فَرَسُ الْمَقْتُولِ, وَسَرْجُهُ, وَلِجَامُهُ, وَكُلُّ مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ, وَحِلْيَةٍ, وَمَهَامِيزَ وَكُلُّ مَا مَعَهُ مِنْ سِلاَحٍ, وَكُلُّ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي نِطَاقِهِ أَوْ فِي يَدِهِ, أَوْ كَيْفَمَا كَانَ مَعَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ ابْنِ أَفْلَحَ هُوَ عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فِي حَدِيثٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو نُعَيْمٍ نَا أَبُو الْعُمَيْسِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اُطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ" قَالَ سَلَمَةُ: فَقَتَلْتُهُ, فَنَفَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَبَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: "مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ" فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلاَبَهُمْ.

(7/335)


956- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ نَفَّلَ الإِمَامُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْخُمُسِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ مَنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَهُ مِمَّنْ أَغْنَى، عَنِ الْمُسْلِمِينَ, وَمِمَّنْ مَعَهُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي يَنْتَفِعُ بِهِنَّ أَهْلُ الْجَيْشِ, وَمَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ: فَحَسَنٌ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ أَتَى بِمَغْنَمٍ فِي الدُّخُولِ رُبْعَ مَا سَاقَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَأَقَلَّ, أَوْ ثُلُثَ مَا سَاقَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَأَقَلَّ, لاَ أَكْثَرَ أَصْلاً: فَحَسَنٌ, لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لأََنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قِسْمَةِ عَامَّةِ الْجَيْشِ, وَالْخُمُسُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ كُلُّهُ.

(7/340)


وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ نَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْت: أَبَا وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْت مَكْحُولاً قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ جَارِيَةَ سَمِعْتُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَقُولُ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلَ الرُّبْعَ فِي الْبَدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ مَمْطُورٍ الْحَبَشِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبَدَاءَةِ الرُّبْعَ وَفِي الْقُفُولِ الثُّلُثَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ لِي مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ نَفْلَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ الْخُمُسِ" وَقَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ نَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشُّعَبِيِّ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْمِهِ يُرِيدُ الشَّامَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ لَك أَنْ تَأْتِيَ الْكُوفَةَ وَأُنْفِلُكَ الثُّلُثَ مِنْ بَعْدِ الْخُمْسِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ وَشَيْءٍ؟
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُنَفِّلُونَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى إذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: الْخُمُسُ قَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لأََهْلِهِ الَّذِينَ سَمَّى, فَالنَّفَلُ مِنْهُ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً, وَهُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ, وَسَائِرُ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ, فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى إخْرَاجَهُ, أَوْ أَوْجَبَ إخْرَاجَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ إِلاَّ السَّلَبُ جُمْلَةً لِلْقَاتِلِ, وَتَنْفِيلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرُّبْعِ فَأَقَلَّ, أَوْ الثُّلُثِ فِي الْقُفُولِ فَأَقَلَّ. وَكَذَلِكَ كَمَا رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, لاَ نَفْلَ إِلاَّ بَعْدَ الْخُمْسِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/341)


957- مَسْأَلَةٌ: وَتُقْسَمُ الْغَنَائِمُ كَمَا هِيَ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ تُبَاعُ, لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِبَيْعِهَا, وَتُعَجَّلُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ, وَتُقْسَمُ الأَرْضُ وَتُخَمَّسُ, كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ, وَلاَ فَرْقَ,

(7/341)


فَإِنْ طَابَتْ نُفُوسُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ عَلَى تَرْكِهَا أَوْقَفَهَا الإِمَامُ حِينَئِذٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلاَ, وَمَنْ أَسْلَمَ نَصِيبَهُ كَانَ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى حَقِّهِ, لاَ يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: تُبَاعُ الْغَنِيمَةُ وَتُقْسَمُ أَثْمَانُهَا وَتُوقَفُ الأَرْضُ، وَلاَ تُقْسَمُ، وَلاَ تَكُونُ مِلْكًا لأََحَدٍ. وقال أبو حنيفة: الإِمَامُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَسَّمَهَا وَإِنْ شَاءَ أَوْقَفَهَا, فَإِنْ أَوْقَفَهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ, وَلاَ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.
قال أبو محمد: يُبَيِّنُ مَا قلنا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَثْمَانِ مَا غَنِمْتُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُسَدَّدٌ نَا أَبُو الأَحْوَصِ نَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ. فَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا قَسَّمَ أَعْيَانَ الْغَنِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا هُوَ فِيمَا غَنِمُوا, فَبَيْعُ حُقُوقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضًا مِنْ جَمِيعِهِمْ أَوَّلِهِمْ، عَنْ آخِرِهِمْ لاَ يَحِلُّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . فَإِنْ رَضِيَ الْجَيْشُ كُلُّهُمْ بِالْبَيْعِ إِلاَّ وَاحِدًا فَلَهُ ذَلِكَ وَيُعْطَى حَقَّهُ مِنْ عَيْنِ الْغَنِيمَةِ, وَيُبَاعُ إنْ أَرَادَ الْبَيْعَ قَالَ تَعَالَى: {لاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَبِهَذَا جَاءَتْ الآثَارُ فِي حُنَيْنٍ, وَبَدْرٍ, وَغَيْرِهِمَا, كَقَوْلِ عَلِيٍّ: إنَّهُ وَقَعَ لِي شَارِفٌ مِنْ الْمَغْنَمِ, وَكَوُقُوعِ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ, وَكَذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ, وَقَعَتْ فِي سَهْمِي يَوْمَ جَلُولاَءَ جَارِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكْرَهُ بَيْعَ الْخُمْسِ حَتَّى يُقْسَمَ, وَلاَ نَعْرِفُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَصْلاً.
وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ مَطْلَ ذِي الْحَقِّ لِحَقِّهِ ظُلْمٌ, وَتَعْجِيلَ إعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَرْضٌ, وَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ, أَوْ قُتِلَ فِي الْحَرْبِ فَلاَ سَهْمَ لَهُ. قَالَ: فَلَوْ خَرَجُوا، عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَلَحِقَ بِهِمْ مَدَدٌ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ فَحَقُّهُمْ مَعَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَقَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ; بَلْ كُلُّ مَنْ شَهِدَ شَيْئًا مِنْ الْقِتَالِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ الْغَنِيمَةِ, أَوْ شَهِدَ شَيْئًا مِنْ جَمْعِ الْغَنِيمَةِ فَحَقُّهُ فِيهَا يُورَثُ عَنْهُ, وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا فَهَلْ سُمِعَ بِظُلْمٍ أَقْبَحَ مِنْ مَنْعِ مَنْ قَاتَلَ وَغَنِمَ وَإِعْطَاءِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلاَ غَنِمَ وَأَمَّا الأَرْضُ, فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا. فَرُوِّينَا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ, وَبِلاَلاً, وَغَيْرَهُمْ دَعَوْا إلَى قِسْمَةِ الأَرْضِ, وَأَنَّ عُمَرَ, وَعَلِيًّا, وَمُعَاذًا, وَأَبَا عُبَيْدَةَ, رَأَوْا إبْقَاءَهَا رَأْيًا مِنْهُمْ, وَإِذْ تَنَازَعُوا فَالْمَرْدُودُ إلَيْهِ هُوَ مَا افْتَرَضَ

(7/342)


اللَّهُ تَعَالَى الرَّدَّ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فَوَجَدْنَا مَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا افْتَتَحْت قَرْيَةَ إِلاَّ قَسَّمْتهَا كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ. أَوَّلُهَا: إقْرَارُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ خَيْبَرَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ نَظَرًا لأَخِرِ الْمُسْلِمِينَ, وَاَلَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَنْظَرَ لأََوَّلِ الْمُسْلِمِينَ وَلأَخِرِهِمْ مِنْ عُمَرَ, فَمَا رَأَى هَذَا الرَّأْيَ; بَلْ أَبْقَى لأَخِرِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَبْقَى لأََوَّلِهِمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فأما الْغَنِيمَةُ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ, وَأَبْقَى لَهُمْ مَوَارِيثَ مَوْتَاهُمْ, وَالتِّجَارَةَ, وَالْمَاشِيَةَ, وَالْحَرْثَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرَ الزُّبَيْرُ, وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَحَقُّ بِالأَتِّبَاعِ مِنْ بَعْضٍ; فَحَتَّى لَوْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَا ظَنُّوهُ بِهِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, وَلَكَانَ رَأْيًا مِنْهُ غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ, وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ وَعُمَرُ قَوْلُهُ كَقَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وهذا الخبر مِنْ عُمَرَ يُكَذِّبُ كُلَّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةٍ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ خَيْبَرَ كُلَّهَا, فَهُمْ دَأَبًا يَسْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِ قَوْلِ عُمَرَ نَصْرًا لِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ وَظَنِّهِمْ الْكَاذِبِ.
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لاَ تُفْتَحُ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَّمْتهَا كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ, فَهَذَا رُجُوعٌ مِنْ عُمَرَ إلَى الْقِسْمَةِ.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ صَحِيحٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا, وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا, وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ. قَالُوا: فَهَذَا هُوَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى الأَرْضِ, وَهُوَ يُوجِبُ إيقَافَهَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِلْخَبَرِ بِالْبَاطِلِ وَادِّعَاءٌ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ دَلِيلٍ, وَلاَ يَخْلُو هَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ فَقَطْ, أَوْ قَدْ يَجْمَعُهُمَا جَمِيعًا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجِزْيَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ إذَا فُتِحَتْ وَهُوَ قَوْلُنَا لأََنَّ الْجِزْيَةَ بِلاَ شَكٍّ وَاجِبَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلاَ نَصَّ يُوجِبُ الْخَرَاجَ الَّذِي يَدَّعُونَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْذَارٌ مِنْهُ عليه السلام بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي آخِرِ الأَمْرِ, وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ وَيَعُودُونَ كَمَا بَدَءُوا, وَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ قَدْ ظَهَرَ وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ فَعَادَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.

(7/343)


قال أبو محمد: فَإِذْ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فَلْنَذْكُرْ الآنَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فَسَوَّى تَعَالَى بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَرِّقْ, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ مَا صَارَ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ مَالٍ, أَوْ أَرْضٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} . الآية.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمُسْنَدِيُّ نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ، عَنْ سَالِمِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا, وَلاَ فِضَّةً إنَّمَا غَنِمْنَا الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ, وَالْمَتَاعَ, وَالْحَوَائِطَ. فَصَحَّ أَنَّ الْحَوَائِطَ, وَهِيَ: الضِّيَاعُ, وَالْبَسَاتِينُ: مَغْنُومَةٌ كَسَائِرِ الْمَتَاعِ فَهِيَ مُخَمَّسَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَالْمُخَمَّسُ مَقْسُومٌ بِلاَ خِلاَفٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ, كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا, وَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا, وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ, ثُمَّ هِيَ لَكُمْ" وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ مَحِيصَ عَنْهُ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ, وَخَيْبَرَ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ: أَنَّ مَالِكًا قَلَّدَ هَاهُنَا عُمَرَ, ثُمَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ وَقْفٌ, فَلَمْ يُخْبِرْ كَيْفَ يَعْمَلُ فِي خَرَاجِهَا, وَأَقَرَّ أَنَّهُ لاَ يَدْرِي فِعْلَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ, فَهَلْ فِي الأَرْضِ أَعْجَبُ مِنْ جَهَالَةٍ تُجْعَلُ حُجَّةً وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ غَيْرِ قَوِيَّةٍ جَاءَتْ، عَنْ عُمَرَ, وَتَرَكَ سَائِرَ مَا رُوِيَ عَنْهُ, وَتَحَكَّمُوا فِي الْخَطَأِ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَقَدْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الإِيصَالِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ فَكَيْفَ وَالرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ الصَّحِيحَةُ هِيَ قَوْلُنَا كَمَا نا أحمد بن محمد بن الجسور نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ رِفَاعَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَا أَبُو عُبَيْدٍ نَا هُشَيْمٌ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَجَعَلَ لَهُمْ عُمَرُ رُبْعَ السَّوَادِ فَأَخَذُوا سَنَتَيْنِ, أَوْ ثَلاَثًا, فَوَفَدَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَعَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا جَرِيرُ لَوْلاَ أَنِّي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَكُنْتُمْ عَلَى مَا جُعِلَ لَكُمْ, وَأَرَى النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا فَأَرَى أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. فَفَعَلَ جَرِيرٌ ذَلِكَ, فَقَالَتْ أُمُّ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ أَبِي هَلَكَ وَسَهْمُهُ ثَابِتٌ فِي السَّوَادِ وَإِنِّي لَمْ أُسْلِمْ. فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: يَا أُمَّ كُرْزٍ إنَّ قَوْمَك قَدْ صَنَعُوا مَا قَدْ عَلِمْت, فَقَالَتْ: إنْ كَانُوا صَنَعُوا مَا صَنَعُوا فَإِنِّي لَسْت أُسْلِمُ حَتَّى تَحْمِلَنِي عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ وَتَمْلاَُ كَفَّيَّ ذَهَبًا. فَفَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ, فَكَانَتْ الذَّهَبُ نَحْوَ ثَمَانِينَ دِينَارًا, فَهَذَا أَصَحُّ مَا جَاءَ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا, فَإِنَّهُ لَمْ يُوقِفْ حَتَّى اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغَانِمِينَ وَوَرَثَةَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ; وَهَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ أَنْ

(7/344)


يُظَنَّ بِعُمَرَ غَيْرُهُ, وَرُبَّ قَضِيَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ تَخْمِيسِهِ السَّلَبَ وَإِمْضَائِهِ سَائِرَهُ لِلْقَاتِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَمِنْ عَجَائِبِهِمْ إسْقَاطُهُمْ الْجِزْيَةَ، عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالاَ: إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَرْضٌ وَضَعْنَا عَنْهُ الْجِزْيَةَ وَأَخَذْنَا مِنْهُ خَرَاجَهَا.
نا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ أُلَّيْسٍ أَسْلَمَا فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنْ يَرْفَعَ الْجِزْيَةَ، عَنْ رُءُوسِهِمَا وَأَنْ يَأْخُذَ الطَّسْقَ مِنْ أَرْضَيْهِمَا.
نا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ دُهْقَانَةَ مِنْ نَهْرِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ فَقَالَ عُمَرُ: ادْفَعُوا إلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ. نَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الرَّفَيْلَ دُهْقَانَ النَّهْرَيْنِ أَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ عُمَرُ فِي أَلْفَيْنِ, وَوَضَعَ، عَنْ رَأْسِهِ الْجِزْيَةَ, وَأَلْزَمَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ. فإن قيل: حَدِيثُ ابْنِ عَوْنٍ مُرْسَلٌ قلنا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَإِذْ رُوِيَ الْمُرْسَلُ، عَنْ مُعَاذٍ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ كَانَ حُجَّةً وَالآنَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

(7/345)


958- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ إِلاَّ الإِسْلاَمُ, أَوْ السَّيْفُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَاشَا أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً, وَهُمْ الْيَهُودُ, وَالنَّصَارَى, وَالْمَجُوسُ فَقَطْ, فَإِنَّهُمْ إنْ أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الصَّغَارِ. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ: أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيًّا مِنْ الْعَرَبِ خَاصَّةً فَالإِسْلاَمُ أَوْ السَّيْفُ. وَأَمَّا الأَعَاجِمُ فَالْكِتَابِيُّ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ, وَيُقَرُّ جَمِيعَهُمْ عَلَى الْجِزْيَةِ.
قال أبو محمد: هَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} , وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى عَرَبِيًّا مِنْ عَجَمِيٍّ فِي كِلاَ الْحُكْمَيْنِ.

(7/345)


وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجْرٍ; فَصَحَّ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَلَوْلاَ ذَلِكَ مَا خَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَ رَبِّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: "إنَّمَا أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ ثُمَّ تُؤَدِّي إلَيْهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ" فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا; لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ, وَأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَجَمِ لاَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ. فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ, وَأَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا عَنَى بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَعْضَ الْعَجَمِ لاَ كُلَّهُمْ, وَبَيَّنَ تَعَالَى مَنْ هُمْ, وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَطْ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ عليه السلام: تُؤَدِّي إلَيْكُمْ الْجِزْيَةَ وَلَوْ قَلَبُوا لاََصَابُوا وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ. وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ. فَقُلْنَا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعَرَبَ الْوَثَنِيِّينَ يُكْرَهُونَ عَلَى الإِسْلاَمِ, وَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُكْرَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكْرَهَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى الإِسْلاَمِ فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نُكْرِهَهُ, وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/346)


959- مَسْأَلَةٌ: وَالصَّغَارُ هُوَ أَنْ يَجْرِيَ حُكْمُ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِمْ, وَأَنْ لاَ يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ, وَلاَ مِمَّا يُحَرَّمُ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَبَنُو تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ, وَيَجْمَعُ الصَّغَارَ شُرُوطُ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَيْهِمْ.
نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الصَّفَّارُ نَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبِيعُ بْنُ تَغْلِبَ نَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الْعَيْزَارِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كَتَبْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ: أَنْ لاَ يُحْدِثُوا فِي مَدِينَتِهِمْ، وَلاَ مَا حَوْلَهَا دَيْرًا, وَلاَ كَنِيسَةً, وَلاَ قَلِيَّةً، وَلاَ صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ, وَلاَ يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا, وَلاَ يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ, وَلاَ يُؤْوُوا جَاسُوسًا, وَلاَ يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُعَلِّمُوا أَوْلاَدَهُمْ الْقُرْآنَ, وَلاَ يُظْهِرُوا شِرْكًا, وَلاَ يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَاتِهِمْ مِنْ الإِسْلاَمِ إنْ أَرَادُوهُ, وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ, وَيَقُومُوا لَهُمْ

(7/346)


مِنْ مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ, وَلاَ يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ: فِي قَلَنْسُوَةٍ, وَلاَ عِمَامَةٍ, وَلاَ نَعْلَيْنِ, وَلاَ فَرْقِ شَعْرٍ, وَلاَ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ, لاَ يَرْكَبُوا سُرُجًا, وَلاَ يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا, وَلاَ يَتَّخِذُوا شَيْئًا مِنْ السِّلاَحِ, وَلاَ يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ, وَلاَ يَبِيعُوا الْخُمُورَ, وَأَنْ يَجُزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ, وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُمَا كَانُوا, وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ, وَلاَ يُظْهِرُوا صَلِيبًا، وَلاَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ, وَلاَ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا إِلاَّ ضَرْبًا خَفِيفًا, وَلاَ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يُخْرِجُوا سَعَانِينَ، وَلاَ يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ, وَلاَ يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ, وَلاَ يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوهُ فَلاَ ذِمَّةَ لَهُمْ, وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا: أَنْ لاَ يُجَاوِرُونَا بِخِنْزِيرٍ.
قال أبو محمد: وَمِنْ الصَّغَارِ أَنْ لاَ يُؤْذُوا مُسْلِمًا, وَلاَ يَسْتَخْدِمُوهُ, وَلاَ يَتَوَلَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ السُّلْطَانِ يَجْرِي لَهُمْ فِيهِ أَمْرٌ عَلَى مُسْلِمٍ.

(7/347)


960- مَسْأَلَةٌ: وَالْجِزْيَةُ لاَزِمَةٌ لِلْحُرِّ مِنْهُمْ وَالْعَبْدِ, وَالذَّكَرِ, وَالأُُنْثَى, وَالْفَقِيرِ الْبَاتِّ, وَالْغَنِيِّ الرَّاهِبِ سَوَاءٌ مِنْ الْبَالِغِينَ خَاصَّةً, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الدِّينَ لاَزِمٌ لِلنِّسَاءِ كَلُزُومِهِ لِلرِّجَالِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ فَرَضَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ, عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ عُتَقَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وقال مالك: لاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ, أَوْ كَافِرٌ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِ مَالِكٍ حُجَّةً أَصْلاً.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ مَنْ جَرَتْ علَيْهِ الْمَوَاسِي إِلاَّ النِّسَاءَ قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفْتُمْ هَذَا الْحُكْمَ فَأَسْقَطْتُمُوهَا، عَنِ الْمُعْتَقِينَ, وَالرُّهْبَانِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا آثَارٌ مُرْسَلَةٌ وَهِيَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ.
قال أبو محمد عَلَى هَذَا الإِسْنَادِ عَوَّلُوا فِي أَخْذِ التَّبِيعِ مِنْ الثَّلاَثِينَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْمُسِنَّةِ

(7/347)


مِنْ الأَرْبَعِينَ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ خَبَرٌ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ غَيْرَ حُجَّةٍ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: مَنْ كَرِهَ الإِسْلاَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ, أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ لاَ يُحَوَّلُ، عَنْ دِينِهِ وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ: دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عَرَضِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ نَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ: "فِي الْحَالِمِ, أَوْ الْحَالِمَةِ دِينَارٌ, أَوْ عِدْلُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ".
قال أبو محمد: الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْنَدِ وَيَأْخُذُونَ بِهِ إذَا وَافَقَهُمْ, فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا هَاهُنَا بِهَا فَلاَ مُرْسَلَ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاسِيلِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّمَا مُعَوَّلُنَا عَلَى عُمُومِ الآيَةِ فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ قلنا: فَلاَ تَأْخُذُوهَا مِنْ الْمَرْضَى, وَلاَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلاَدِ الْكُفْرِ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأَسْوَاقَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا. فَإِنْ قَالُوا: أَوَّلُ الآيَةِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قلنا: نَعَمْ, أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ إنْ قَاتَلُونَا حَتَّى يُعْطِيَ جَمِيعُهُمْ الْجِزْيَةَ، عَنْ يَدٍ كَمَا فِي نَصِّ الآيَةِ; لأََنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ يُقِيمُونَ أَضْعَافَ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ مَقَامَ الْجِزْيَةِ, ثُمَّ يَضَعُونَهَا عَلَى النِّسَاءِ, ثُمَّ يَأْبَوْنَ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ نَهَى عُمَرُ، عَنْ أَخْذِهَا مِنْ النِّسَاءِ قلنا: قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ الأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَأَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُ, وَفِي أَلْفِ قَضِيَّةٍ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا كَثِيرًا, فَلاَ نَدْرِي مَتَى هُوَ عُمَرُ حُجَّةٌ, وَلاَ مَتَى هُوَ لَيْسَ حُجَّةً فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كُذِّبُوا, وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِدُوا نَهْيًا، عَنْ ذَلِكَ، عَنْ غَيْرِ عُمَرَ وَمَسْرُوقٌ أَدْرَكَ مُعَاذًا وَشَاهَدَ حُكْمَهُ بِالْيَمَنِ, وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُخَالِفَ مُعَاذٌ مَا كَتَبَ إلَيْهِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ نَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يُقَاتَلُ أَهْلُ الأَوْثَانِ عَلَى الإِسْلاَمِ, وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ, وَهَذَا عُمُومٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَهُوَ قَوْلُنَا. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلاَّ مِنْ كِتَابِيٍّ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ: فَالإِسْلاَمُ, أَوْ الْقَتْلُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ.

(7/348)


فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, وَلاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَبْقَى مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ لاَ يُسْلِمُ, وَلاَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ, وَلاَ يُقْتَلُ; لأََنَّهُ خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الأُُمَّةِ فِي النِّسَاءِ مُكَلَّفَاتٍ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ وَمُفَارَقَةِ الْكُفْرِ مَا يَلْزَمُ الرِّجَالَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, فَلاَ يَحِلُّ إبْقَاؤُهُنَّ عَلَى الْكُفْرِ بِغَيْرِ قَتْلٍ، وَلاَ جِزْيَةٍ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, وَيُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ, إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ هَذِهِ اللَّوَازِمَ كُلَّهَا هِيَ عَلَى النِّسَاءِ كَمَا هِيَ عَلَى الرِّجَالِ, وَأَنَّ أَمْوَالَهُنَّ فِي الْكُفْرِ مَغْنُومَةٌ كَأَمْوَالِ الرِّجَالِ; فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُنَّ لاَ يَعْصِمْنَ دِمَاءَهُنَّ وَأَمْوَالَهُنَّ إِلاَّ بِمَا يَعْصِمُ الرِّجَالُ بِهِ أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ, أَوْ الْجِزْيَةِ إنْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/349)


961- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ لاَ فِي عَسْكَرٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ عَسْكَرٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ. وقال مالك: إنْ كَانَ عَسْكَرٌ مَأْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ, وَقَدْ يُهْزَمُ الْعَسْكَرُ الْمَأْمُونُ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُخَصُّ بِلاَ نَصٍّ.

(7/349)


962- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ تَجْرِي عَلَى التُّجَّارِ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُحْمَلَ إلَيْهِمْ سِلاَحٌ, وَلاَ خَيْلٌ, وَلاَ شَيْءٌ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَعَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَغَيْرِهِمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ".
قال أبو محمد: مَنْ دَخَلَ إلَيْهِمْ لِغَيْرِ جِهَادٍ, أَوْ رِسَالَةٍ مِنْ الأَمِيرِ فَإِقَامَةُ سَاعَةٍ إقَامَةٌ,

(7/349)


963- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا غَنِمَ جَيْشٌ, أَوْ سَرِيَّةٌ شَيْئًا خَيْطًا فَمَا فَوْقَهُ وَأَمَّا الطَّعَامُ فَكُلُّ مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ مَا اُضْطُرُّوا إلَى أَكْلِهِ وَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا غَيْرَهُ. وَأَمَّا مَا يُقْدَرُ عَلَى حَمْلِهِ فَجَائِزٌ إفْسَادُهُ وَأَكْلُهُ, وَإِنْ لَمْ يُضْطَرُّوا إلَيْهِ. وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا مَلَكُوهُ, وَأَمَّا مَا لَمْ يَمْلِكُوهُ مِنْ صَيْدٍ, أَوْ حَجَرٍ, أَوْ عَوْدِ شَعْرٍ, أَوْ ثِمَارٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَهُوَ كُلُّهُ مُبَاحٌ كَمَا هُوَ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ فَرْقَ, قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ, حَتَّى إذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ; فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا; فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ, أَوْ شِرَاكَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "شِرَاكٌ, أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ وَالطَّعَامُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمْ".
فَإِنْ ذَكَر ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ غَنِمَ جَيْشٌ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا وَعَسَلاً فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْخُمُسُ فَهَذَا عَلَيْهِمْ; لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنْ كَثُرَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ خُمِّسَ، وَلاَ بُدَّ, وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّ الآيَةَ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَهِيَ قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. وَحَدِيثُ الْغُلُولِ زَائِدٌ عَلَيْهِ, فَيَخْرُجُ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْخُمْسِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ هَذَا; لأََنَّ الأَخْذَ بِالزَّائِدِ فَرْضٌ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهُ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ الآيَةَ, وَحَدِيثَ الْغُلُولِ غَيْرُ مَنْسُوخَيْنِ مُذْ نَزَلاَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَيْضًا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعِنَبَ وَالْعَسَلَ فَنَأْكُلُهُ، وَلاَ نَرْفَعُهُ فَهَذَا بَيِّنٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ; إذْ لَمْ يَرْفَعُوهُ فَأَكْلُهُ خَيْرٌ مِنْ إفْسَادِهِ, أَوْ تَرْكِهِ, وَهَكَذَا نَقُولُ.
فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ ابْنِ مُغَفَّلٍ فِي جِرَابِ الشَّحْمِ, فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ فَيَقُولُونَ: لاَ يَحِلُّ أَخْذُ الْجِرَابِ وَإِنَّمَا يَحِلُّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الشَّحْمُ فَقَطْ. وَهَذَا خَبَرٌ قَدْ رُوِّينَاهُ بِزِيَادَةِ بَيَانٍ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ

(7/350)


نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ, وَمُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالاَ: نَا شُعْبَةُ، عَنْ حَمِيدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِي خَيْبَرَ فَدُلِّيَ إلَيْنَا جِرَابٌ فِيهِ شَحْمٌ فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ وَنَوَيْنَا أَنْ لاَ نُعْطِيَ أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفِي يَبْتَسِمُ, فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ آخُذَهُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَكَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيُّ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فَأَصَابُوا إبِلاً وَغَنَمًا وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فَعَجَّلُوا فَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ, ثُمَّ قَسَّمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَلَمْ يُبِحْ لَهُمْ أَكْلَ شَيْءٍ إذْ قَدْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ قَدْ حَضَرَتْ فَيَصِلُ كُلُّ ذِي حَقٍّ إلَى حَقِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/351)


964- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَالْخُمْسُ فِيمَا أُصِيبَ, وَالْبَاقِي لِمَنْ غَنِمَهُ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} , وَقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} . وقال أبو حنيفة: لاَ خُمُسَ إِلاَّ فِيمَا أَصَابَتْهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تِسْعَةٌ فَأَكْثَرُ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِمُخَالَفَتِهَا الْقُرْآنَ, وَالسُّنَنَ, وَالْمَعْقُولَ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} فَلَمْ يَخُصَّ بِأَمْرِ الإِمَامِ، وَلاَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَوْ أَنَّ إمَامًا نَهَى، عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوَجَبَتْ مَعْصِيَتُهُ فِي ذَلِكَ, لأََنَّهُ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ، وَلاَ طَاعَةَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} وَهَذَا خِطَابٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, فَكُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} , وَقَالَ تَعَالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انْفِرُوا جَمِيعًا} .

(7/351)


965- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.

(7/351)


966- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا فَلاَ يَدْخُلُ إِلاَّ لَيْلاً, وَمَنْ قَدِمَ لَيْلاً فَلاَ يَدْخُلُ إِلاَّ نَهَارًا إِلاَّ لِعُذْرٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَسَارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(7/351)


967- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُقَلَّدَ الإِبِلُ فِي أَعْنَاقِهَا شَيْئًا, وَلاَ أَنْ يُسْتَعْمَلُ الْجَرَسُ فِي الرِّفَاقِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ أَنَّ أَبَا بَشِيرٍ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَرْسَلَ عليه السلام رَسُولاً: "لاَ تُبْقِيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةً مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةً إِلاَّ قَطَعْتَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ نَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَصْحَبُ الْمَلاَئِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ, أَوْ جَرَسٌ" . وَصَحَّ النَّهْيُ، عَنِ الْجَرَسِ، عَنْ عَائِشَةَ, وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْي، عَنْ تَقْلِيدِ أَعْنَاقِ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا أَثَرٌ0

(7/352)


968- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ تَحْلِيَةُ السُّيُوفِ, وَالدَّوَاةِ, وَالرُّمْحِ, وَالْمَهَامِيزِ, وَالسُّرُجِ, وَاللِّجَامِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْفِضَّةِ وَالْجَوْهَرِ، وَلاَ شَيْءَ مِنْ الذَّهَبِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فَأَبَاحَ لَنَا لِبَاسَ اللُّؤْلُؤِ, وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} , فَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ حَلاَلٌ إِلاَّ مَا فُصِّلَ لَنَا تَحْرِيمُهُ وَلَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُ الْفِضَّةِ أَصْلاً إِلاَّ فِي الآنِيَةِ فَقَطْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ نَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ نَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِضَّةً.
قال أبو محمد: فَقَاسَ قَوْمٌ عَلَى السَّيْفِ وَالْخَاتَمِ الْمُصْحَفَ وَالْمِنْطَقَةَ وَمَنَعُوا مِنْ سَائِرِ ذَلِكَ; فَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا، وَلاَ النُّصُوصَ اتَّبَعُوا. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ تَحْرِيمِهِمْ التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ فِي السُّرُجِ وَاللِّجَامِ، وَلاَ نَهْيَ فِي ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِمْ لِبَاسَ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ, وَقَدْ صَحَّ تَحْرِيمُهُ جُمْلَة.

(7/352)


969- مَسْأَلَةٌ: وَالرِّبَاطُ فِي الثُّغُورِ حَسَنٌ, وَلاَ يَحِلُّ الرِّبَاطُ إلَى مَا لَيْسَ ثَغْرًا كَانَ فِيمَا مَضَى ثَغْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بِدْعَةٌ عَظِيمَةٌ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ بَهْرَامُ الدَّارِمِيُّ نَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ نَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ سَمِعْتُ: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ, وَإِنَّ مَنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ, وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ, وَأَمِنَ مِنْ الْفَتَّانِ".
قال أبو محمد: وَكُلُّ مَوْضِعٍ سِوَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانَ ثَغْرًا وَدَارَ حَرْبٍ, وَمَغْزَى جِهَادٍ; فَتَخْصِيصُ مَكَان مِنْ الأَرْضِ كُلِّهَا بِالْقَصْدِ لأََنَّ الْعَدُوَّ ضَرَبَ فِيهِ دُونَ سَائِرِ الأَرْضِ كُلِّهَا ضَلاَلٌ, وَحُمْقٌ, وَإِثْمٌ, وَفِتْنَةٌ, وَبِدْعَةٌ. فَإِنْ كَانَ لِمَسْجِدٍ فِيهِ فَهَذَا أَشَدُّ فِي الضَّلاَلِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّفَرِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ حَاشَا مَسْجِدَ مَكَّةَ, وَمَسْجِدَهُ بِالْمَدِينَةِ, وَمَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَإِنْ كَانَ سَاحِلَ بَحْرٍ فَسَاحِلُ الْبَحْرِ كُلِّهِ مِنْ شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا سَوَاءٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ سَاحِلِ بَحْرٍ وَسَاحِلِ نَهْرٍ فِي الدِّينِ, وَلاَ فَضْلَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ أَثَرُ نَبِيٍّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ فَالْقَصْدُ إلَيْهِ حَسَنٌ, قَدْ تَبَرَّكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْضِعِ مُصَلَّاهُ وَاسْتَدْعُوهُ لِيُصَلِّيَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي مَوْضِعٍ يَتَّخِذُونَهُ مُصَلًّى فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ عليه السلام.

(7/353)


970- مَسْأَلَةٌ: وَتَعْلِيمُ الرَّمْي عَلَى الْقَوْسِ وَالإِكْثَارُ مِنْهُ فَضْلٌ حَسَنٌ سَوَاءٌ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ نَا ابْنُ وَهْبٍ نَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ وَيَكْفِيكُمْ اللَّهُ فَلاَ يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِسَهْمِهِ". وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ, ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى".

(7/353)


971- مَسْأَلَةٌ: وَالْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ, وَالْحَمِيرِ, وَعَلَى الأَقْدَامِ: حَسَنٌ, وَالْمُنَاضَلَةُ

(7/353)


972 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّبَقُ هُوَ أَنْ يُخْرِجَ الأَمِيرُ, أَوْ غَيْرُهُ مَالاً يَجْعَلُهُ لِمَنْ سَبَقَ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ, فَهَذَا حَسَنٌ. وَيُخْرِجُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا مَالاً فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ: إنْ سَبَقْتنِي فَهُوَ لَك, وَإِنْ سَبَقْتُك فَلاَ شَيْءَ لَك عَلَيَّ, وَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْك, فَهَذَا حَسَنٌ. فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَجُوزَانِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ مَالٍ فِي سَبَقٍ غَيْرِ هَذَا أَصْلاً لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا. فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالاً يَكُونُ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ فِي الْخَيْلِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْخَيْلِ أَيْضًا إِلاَّ بِأَنْ يُدْخِلاَ مَعَهَا فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ يُمْكِنُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا, وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ يَسْبِقَهُمَا, وَلاَ يُخْرِجُ هَذَا الْفَارِسُ مَالاً أَصْلاً فَأَيُّ الْمُخْرِجَيْنِ لِلْمَالِ سَبَقَ أَمْسَكَ مَالَهُ نَفْسَهُ وَأَخَذَ مَا أَخْرَجَ صَاحِبُهُ حَلاَلاً, وَإِنْ سَبَقَهُمَا الْفَارِسُ الَّذِي أَدْخَلاَ وَهُوَ يُسَمَّى الْمُحَلِّلُ أَخَذَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ سُبِقَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَا عَدَا هَذَا فَحَرَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى السَّابِقِ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ نَا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ" يَعْنِي وَهُوَ لاَ يُؤْمِنُ أَنْ يُسْبَقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ, وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يُسْبَقَ فَهُوَ قِمَارٌ.
قال أبو محمد: مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب الجهاد بحمد الله وجسن عونه وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(7/354)


كتاب الأضاحي
باب الأضاحي
الأضحية سنة حسنة وليست فرضاً و من تركها غير راغب عنها فلا حرج عليه في ذلك
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الأَضَاحِيِّ
973- مَسْأَلَةٌ: الأُُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ, وَلَيْسَتْ فَرْضًا, وَمَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْهَا فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ ضَحَّى، عَنْ امْرَأَتِهِ, أَوْ وَلَدِهِ, أَوْ أَمَتِهِ فَحَسَنٌ, وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ إذَا أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ, لاَ بِحَلْقٍ, وَلاَ بِقَصٍّ، وَلاَ بِنُورَةٍ، وَلاَ بِغَيْرِ ذَلِكَ, وَمَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُضَحِّيَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ نَا أَبِي نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو نَا عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَأَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلْمٍ الْبَلْخِيّ ثِقَةٌ أَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَأَى هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ" . فَقَوْلُهُ عليه السلام: فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بُرْهَانٌ بِأَنَّ الأُُضْحِيَّةَ مَرْدُودَةٌ إلَى إرَادَةِ الْمُسْلِمِ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَيْسَ فَرْضًا. وقال أبو حنيفة: الأُُضْحِيَّةُ فَرْضٌ, وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُضَحِّيَ، عَنْ زَوْجَتِهِ فَجَمَعَ وُجُوهًا مِنْ الْخَطَأِ, أَوَّلُهَا: إيجَابُهَا عَلَيْهِ, ثُمَّ إيجَابُهَا عَلَى امْرَأَتِهِ; وَإِذْ هِيَ فَرْضٌ فَهِيَ كَالزَّكَاةِ, وَمَا يَلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُزَكِّيَ، عَنْ امْرَأَتِهِ, وَلاَ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهَا هَدْيَ مُتْعَةٍ, وَلاَ جَزَاءَ صَيْدٍ, وَلاَ فِدْيَةَ حَلْقِ الرَّأْسِ مِنْ الأَذَى. ثُمَّ خِلاَفُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ ظُفْرِهِ شَيْئًا كَمَا ذَكَرْنَا.

(7/355)


فإن قيل: كَيْفَ لاَ تَكُونُ فَرْضًا وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ فَرْضًا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ: أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ, وَلاَ مِنْ ظُفْرِهِ إذَا أَهَلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ حَتَّى يُضَحِّيَ قلنا: نَعَمْ, لأََنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ, وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالأُُضْحِيَّةِ, فَلَمْ نَتَعَدَّ مَا حَدَّ, وَكُلُّ سُنَّةٍ لَيْسَتْ فَرْضًا, فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا مَفْرُوضَةً لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِهَا كَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَلاَةٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَلَّا يُصَلِّيَهَا إِلاَّ بِوُضُوءٍ, وَإِلَى الْقِبْلَةِ, إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا, وَأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا وَيَرْكَعَ, وَيَسْجُدَ, وَيَجْلِسَ، وَلاَ بُدَّ, وَكَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصُومَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَجْتَنِبُهُ الصَّائِمُ وَإِلَّا فَلَيْسَ صَوْمًا. وَهَكَذَا كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي الدِّيَانَةِ, وَالأُُضْحِيَّةُ كَذَلِكَ إنْ أَدَّاهَا كَمَا أُمِرَ وَإِلَّا فَهِيَ شَاةُ لَحْمٍ وَلَيْسَتْ أُضْحِيَّةً. فإن قيل: فَقَدْ جَاءَ مَا حَقُّ امْرِئٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ, وَلَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ عليه السلام دَلِيلاً عِنْدَكُمْ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ فَرْضًا, بَلْ هِيَ عِنْدَكُمْ فَرْضٌ قلنا: نَعَمْ, لأََنَّهُ قَدْ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الآيَةَ فَأَخَذْنَا بِهَذَا وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِإِيجَابِ الأُُضْحِيَّةِ, وَلَوْ جَاءَ لاََخَذْنَا بِهِ.
وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا خَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي رَمْلَةَ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِعَرَفَةَ: "إنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَى وَعَتِيرَةً, أَتَدْرُونَ مَا الْعَتِيرَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النَّاسُ الرَّجَبِيَّةَ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِعَرَفَةَ: "عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ أَنْ يَذْبَحُوا فِي كُلِّ رَجَبٍ شَاةً وَفِي كُلِّ أَضْحَى شَاةً" . وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ نَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ نَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زُرَارَةَ بْنِ كَرِيمِ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "مَنْ شَاءَ فَرَّعَ, وَمَنْ شَاءَ لَمْ يُفَرِّعْ وَمَنْ شَاءَ عَتَرَ, وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَعْتِرْ, وَفِي الْغَنَمِ أُضْحِيَّتُهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ الطَّبَرِيِّ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَحْيَى حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ أُمِّ بِلاَلٍ الأَسْلَمِيَّةِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَحُّوا بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ" . وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ بِالأَضْحَى وَلَمْ تُكْتَبْ" . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ أَنْعُمٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ غَنْمٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ أَنْ نُضَحِّيَ وَيَأْمُرُ أَنْ نُطْعِمَ مِنْهَا

(7/356)


الْجَارَ وَالسَّائِلَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا الرَّبِيعُ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالأَضْحَى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلْيُضَحِّ" . وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَسَرَّةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِي نَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ هُرْمُزٍ الأَعْرَجُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبْ مُصَلَّانَا وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ".
أَمَّا حَدِيثُ مِخْنَفٍ فَعَنْ أَبِي رَمْلَةَ الْغَامِدِيِّ, وَحَبِيبِ بْنِ مِخْنَفٍ وَكِلاَهُمَا مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ فَهُوَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَكِلاَهُمَا مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ بِلاَلٍ فَفِيهِ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى هِيَ مَجْهُولَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَيَّاشٍ فَفِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ كَذَّابٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَفِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ, وَابْنُ أَنْعُمٍ وَكِلاَهُمَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ فَمُرْسَلٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكِلاَ طَرِيقَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيِّ فَلَيْسَ مَعْرُوفًا بِالثِّقَةِ فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي ذَلِكَ.
وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فَقَالُوا: هُوَ الأُُضْحِيَّةُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ وَضَعَ الْيَدَ عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلاَةِ, وَلَعَلَّهُ نَحْرُ الْبُدْنِ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ. كَمَا رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ قَالَ: إنَّهَا الأَضَاحِيُّ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} وَهَذَا لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْفَرْضِ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النُّسُكَ لَنَا فَهُوَ فَضْلٌ لاَ فَرْضٌ. وَذَكَرُوا الْخَبَرَ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ ذَبْحًا, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا أَمْرُهُ عليه السلام بِإِعَادَةِ الذَّبْحِ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ لأََنَّهُ أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام, وَلاَ نَكِرَةَ فِي وُجُودِ أَمْرٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ فَرْضًا وَيَكُونُ الْعِوَضُ مِنْهُ فَرْضًا فَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا فِيمَنْ تَطَوَّعَ بِيَوْمٍ لَيْسَ فَرْضًا فَأَفْطَرَ عَمْدًا أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ فَرْضٌ. وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَجَّ تَطَوُّعًا فَأَفْسَدَهُ: أَنَّ قَضَاءَهُ فَرْضٌ, وَإِنَّمَا يُرَاعِي أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا وُجِدَ فِيهِ فَهُوَ فَرْضٌ, وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَلَيْسَ فَرْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: "وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ" فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرَ فَرْضٍ صِحَّةُ الإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَنْ ضَحَّى

(7/357)


بِبَعِيرٍ فَنَحَرَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ يَذْبَحَ فَصَحَّ أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إيجَابَ الأُُضْحِيَّةِ: مُجَاهِدٌ, وَمَكْحُولٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: لَمْ يَكُونُوا يُرَخِّصُونَ فِي تَرْكِ الأُُضْحِيَّةِ إِلاَّ لِحَاجٍّ, أَوْ مُسَافِرٍ. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ يَصِحُّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي سُرَيْحَةَ حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدَ الْغِفَارِيِّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ, وَعُمَرَ وَمَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَدَعَ الأُُضْحِيَّةَ وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَحْسِبَ النَّاسُ أَنَّهَا حَتْمٌ وَاجِبٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا أَبُو الأَحْوَصِ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُسْلِمٍ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي بِلاَلٌ: مَا كُنْت أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْت بِدِيكٍ, وَلاََنْ آخُذَ ثَمَنَ الأُُضْحِيَّةِ فَأَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ مُقْتِرٍ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الأُُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ حُوَيْصٍ الأَزْدِيُّ قَالَ: ضَلَّتْ أُضْحِيَّتِي قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَهَا فَسَأَلْت ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لاَ يَضُرُّك هَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَعْطَى مَوْلًى لَهُ دِرْهَمَيْنِ وَقَالَ: اشْتَرِ بِهِمَا لَحْمًا وَمَنْ لَقِيَك فَقُلْ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال أبو محمد: لاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ. وَصَحَّ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَ، أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أَتَصَدَّقَ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَنْ عَطَاءٍ, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَنْ طَاوُوس, وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلْقَمَةَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.

(7/358)


974- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجْزِي فِي الأُُضْحِيَّةِ الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا, بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ, مَشَتْ أَوْ لَمْ تَمْشِ. وَلاَ الْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْجَرَبُ مَرَضٌ فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا لاَ يَبِينُ أَجْزَأَ. وَلاَ تَجْزِي الْعَجْفَاءُ الَّتِي لاَ تُنْقِي، وَلاَ تَجْزِي الَّتِي فِي أُذُنِهَا شَيْءٌ مِنْ النَّقْصِ أَوْ الْقَطْعِ, أَوْ الثَّقْبِ النَّافِذِ, وَلاَ الَّتِي فِي عَيْنِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَيْبِ, أَوْ فِي عَيْنَيْهَا كَذَلِكَ, وَلاَ الْبَتْرَاءُ فِي ذَنَبِهَا. ثُمَّ كُلُّ عَيْبٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهَا تَجْزِي بِهِ الأُُضْحِيَّةُ كَالْخَصْيِ, وَكَسْرِ الْقَرْنِ دَمِيَ, أَوْ لَمْ يَدْمَ

(7/358)


وَالْهَتْمَاءُ وَالْمَقْطُوعَةُ الأَلْيَةِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ لاَ تَحَاشَّ شَيْئًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى الْقَطَّانِ, وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ شُعْبَةَ كُلِّهِمْ: نَا شُعْبَةُ سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ فَيْرُوزَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِي فِي الأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا, وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا, وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا, وَالْكَسِيرُ الَّتِي لاَ تُنْقِي" . قَالَ الْبَرَاءُ: فَمَا كَرِهْت مِنْهُ فَدَعْهُ, وَلاَ تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: الَّتِي لاَ تُنْقِي هِيَ الَّتِي لاَ شَيْءَ مِنْ الشَّحْمِ لَهَا, فَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ عَجْفَاءَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأُُذُنَ وَأَنْ لاَ نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ, وَلاَ بِمُدَابَرَةٍ, وَلاَ بَتْرَاءَ, وَلاَ خَرْقَاءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ نَا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ, وَالأُُذُنَ, وَلاَ نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ, وَلاَ مُقَابَلَةٍ, وَلاَ مُدَابَرَةٍ, وَلاَ خَرْقَاءَ, وَلاَ شَرْقَاءَ. قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْت لأََبِي إِسْحَاقَ: مَا الْمُقَابَلَةُ قَالَ: تَقْطَعُ طَرَفَ الأُُذُنِ, قُلْت: فَمَا الْمُدَابَرَةُ قَالَ تَقْطَعُ مُؤَخِّرَ الأُُذُنِ, قُلْت فَمَا الشَّرْقَاءُ قَالَ: تَشُقُّ الأُُذُنَ, قُلْت: فَمَا الْخَرْقَاءُ قَالَ: تَخْرِقُ أُذُنَهَا السِّمَةُ.
نَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ نَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيّ نَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ نَا أَبُو كَامِلٍ مُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ نَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الأَضَاحِيِّ قَالَ قَيْسٌ: قُلْت لأََبِي إِسْحَاقَ: سَمِعْته مِنْ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: نَا عَلِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيل الْبُخَارِيِّ مُؤَلِّفِ الصَّحِيحِ قَالَ شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ الصَّايِدِيُّ: سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَوَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَشْوَعَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ النُّعْمَانِ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: سَلِيمَةُ

(7/359)


الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ وَسَعِيدُ بْنُ أَشْوَعَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ. فَصَحَّ هَذَا الْخَبَرُ,.وَبِهِ يَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا وَقَالَ فِي الأُُضْحِيَّةِ: لاَ مُقَابَلَةَ, وَلاَ مُدَابَرَةَ, وَلاَ شَرْقَاءَ, سَلِيمَةُ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَلِيمُ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الأُُضْحِيَّةِ أَنَّهُ كَرِهَ نَاقِصَ الْخَلْقِ وَالسِّنِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ.
وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ. وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يُضَحَّى بِالأَبْتَرِ, وَاحْتَجُّوا بِأَثَرَيْنِ رَدِيئَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَظَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اشْتَرَيْتُ كَبْشًا لأَُضَحِّيَ بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ فَقَطَعَهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ" , وَالآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُضَحَّى بِالْبَتْرَاءِ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا. جَابِرٌ كَذَّابٌ, وَحَجَّاجٌ سَاقِطٌ, وَعَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ رِيحٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ: إجَازَةُ الْبَتْرَاءِ فِي الأُُضْحِيَّةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّ الْقَطْعَ فِي الأُُذُنِ بِالنِّصْفِ فَأَكْثَرَ. وَلأََبِي حَنِيفَةَ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: إنْ ذَهَبَ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الأُُذُنِ, أَوْ الذَّنَبِ, أَوْ الأَلْيَةِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ: أَجْزَأَتْ فِي الأُُضْحِيَّةِ, فَإِنْ ذَهَبَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لَمْ تُجْزِ. وَالآخَرُ أَنَّهُ حَدَّ ذَلِكَ بِالنِّصْفِ مَكَانَ الثُّلُثِ. قَالَ: فَإِنْ خُلِقَتْ بِلاَ أُذُنٍ أَجْزَأَتْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ تُجْزِي. وقال مالك: إنْ كَانَ الْقَرْنُ ذَاهِبًا لاَ يَدْمَى أَجْزَأَتْ, فَإِنْ كَانَ يَدْمَى لَمْ تُجْزِ, وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ فِي الْعَرْجَاءِ: إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ: أَجْزَأَتْ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا, وَلاَ يُعْرَفُ التَّحْدِيدُ الْمَذْكُورُ بِالثُّلُثِ, أَوْ النِّصْفِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ لاَ تَصِحُّ فِي الْعَرْجَاءِ إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعُ مِنْ الْعَرْجَاءِ جُمْلَةً. وَيُقَالُ لِمَنْ صَحَّحَ هَذَا: إنَّ الْمَنْسَكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى ذِرَاعٍ وَأَقَلَّ وَيَكُونُ عَلَى فَرْسَخٍ فَأَيَّ ذَلِكَ تُرَاعُونَ وَرُوِيَ فِي الأَعْضَبِ أَثَرٌ أَنَّهُ لاَ يُجْزِي، وَلاَ يَصِحُّ, لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيِّ بْنِ كُلَيْبٍ, وَلَيْسَ مَشْهُورًا عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، عَنْ عَلِيٍّ. وَجَاءَ خَبَرٌ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِي الْمُسْتَأْصَلَةُ قَرْنُهَا، وَلاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حُمَيْدٍ الرُّعَيْنِيُّ، عَنْ أَبِي مُضَرَ وَهُمَا مَجْهُولاَنِ. وَحَدِيثٌ آخَرُ فِي أَنَّهُ لاَ تُجْزِي الْجَدْعَاءُ، وَلاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ.

(7/360)


975- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تُجْزِي فِي الأَضَاحِيِّ جَذَعَةٌ، وَلاَ جَذَعٌ أَصْلاً لاَ مِنْ الضَّأْنِ، وَلاَ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ وَيُجْزِي مَا فَوْقَ الْجَذَعِ, وَمَا دُونَ الْجَذَعِ, وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَالظِّبَاءِ, وَالْبَقَرِ: هُوَ مَا أَتَمَّ عَامًا كَامِلاً وَدَخَلَ فِي الثَّانِي مِنْ أَعْوَامِهِ, فَلاَ يَزَالُ جَذَعًا حَتَّى يُتِمَّ عَامَيْنِ وَيَدْخُلَ فِي الثَّالِثِ فَيَكُونُ ثَنِيًّا حِينَئِذٍ. هَكَذَا قَالَ فِي الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ الْكِسَائِيُّ, وَالأَصْمَعِيُّ, وَأَبُو عُبَيْدٍ, وَهَؤُلاَءِ عُدُولُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ, وَقَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ. وَقَالَهُ الْعَدَبَّسُ الْكِلاَبِيُّ, وَأَبُو فَقْعَسٍ الأَسَدِيُّ, وَهُمَا ثِقَتَانِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرِ وَالظِّبَاءِ أَبُو فَقْعَسٍ, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ. وَالْجَذَعُ مِنْ الإِبِلِ مَا أَكْمَلَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَدَخَلَ فِي الْخَامِسَةِ, فَهُوَ جَذَعٌ إلَى أَنْ يَدْخُلَ السَّادِسَةَ فَيَكُونُ ثَنِيًّا هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا اشْتَرَيْت أُضْحِيَّةً فَاسْتَسْمِنْ فَإِنْ أَكَلْت أَكَلْت طَيِّبًا, وَإِنْ أَطْعَمْت أَطْعَمْت طَيِّبًا, وَاشْتَرِ ثَنِيًّا فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ نَا هُبَيْرَةُ بْنُ يَرِيمَ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ضَحُّوا بِثَنِيٍّ فَصَاعِدًا, وَسَلِيمِ الْعَيْنِ وَالأُُذُنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: ضَحُّوا بِثَنِيٍّ فَصَاعِدًا, وَلاَ تُضَحُّوا بِأَعْوَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ تُجْزِي إِلاَّ الثَّنِيَّةُ فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا حُصَيْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: رَأَيْت هِلاَلَ بْنَ يَسَافٍ يُضَحِّي بِجَذَعٍ مِنْ الضَّأْنِ فَقُلْت: أَتَفْعَلُ هَذَا فَقَالَ: رَأَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ

(7/361)


يُضَحِّي بِجَذَعٍ مِنْ الضَّأْنِ. فَهَذَا حُصَيْنٌ قَدْ أَنْكَرَ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ فِي الأُُضْحِيَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: يُجْزِي مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الإِبِلِ، عَنْ وَاحِدٍ فِي الأُُضْحِيَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يُجْزِي الْحُوَارُ، عَنْ وَاحِدٍ يَعْنِي الأُُضْحِيَّةَ وَالْحُوَارُ هُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ سَاعَةَ تَلِدُهُ.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا هَذَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ خَالَهُ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي عَنَاقَ لَبَنٍ, وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ قَالَ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلاَ تُجْزِي جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْيَامِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ قَالَ: "اذْبَحْهَا وَلَنْ تُجْزِيَ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ". وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْبَرَاءَ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَقَطَعَ عليه السلام أَنْ لاَ تُجْزِيَ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ, فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ تَخْصِيصُ نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بِذَلِكَ; وَلَوْ أَنَّ مَا دُونَ الْجَذَعَةِ لاَ يُجْزِي لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ فَقَالَ: إنَّ حَدِيثَ أَبِي بُرْدَةَ هَذَا قَدْ رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ فَقَالَ فِيهِ إنَّ عِنْدِي عَنَاقًا جَذَعَةً فَهَلْ تُجْزِي عَنِّي قَالَ: نَعَمْ, وَلَنْ تُجْزِيَ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. قلنا: نَعَمْ, وَالْعَنَاقُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الضَّانِيَةِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالَ الْعَدَبَّسُ الْكِلاَبِيُّ, وَأَبُو فَقْعَسٍ الأَسَدِيُّ, وَكِلاَهُمَا مِمَّا نَقَلَ الأَئِمَّةُ عَنْهُمَا اللُّغَةَ: الْجَفْرُ, وَالْعَنَاقُ, وَالْجَدْيُ, مِنْ أَوْلاَدِ الْمَاعِزِ إذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ, وَكَذَلِكَ مِنْ أَوْلاَدِ الضَّأْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ مُطَرِّفَ بْنَ طَرِيفٍ رَوَاهُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ, قَالَ: "اذْبَحْهَا، وَلاَ تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ" . قلنا: نَعَمْ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ، عَنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ, فَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى، عَنِ الْبَرَاءِ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُجْزِي جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" هِيَ الزَّائِدَةُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مَنْ لَمْ يَرْوِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ, وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ خَبَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَحُكْمٌ وَارِدٌ لاَ يَسَعُ أَحَدًا

(7/362)


تَرْكُهُ. وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بِرِوَايَةِ مُطَرِّفٍ هَذَا مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْجَذَعِ إِلاَّ مِنْ الْمَاعِزِ فَقَطْ, وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ الْجِذَاعِ كُلِّهَا مِمَّا عَدَا الضَّأْنِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ, بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. كَمَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ قَدْ رَوَاهُ زَكَرِيَّا، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ عِنْدِي شَاةً خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ قَالَ: "ضَحِّ بِهَا فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَةٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا لاَ تُجْزِي، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. وَكَذَلِكَ رِوَايَتُنَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي جَذَعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ أَفَأَذْبَحُهَا فَرَخَّصَ لَهُ. قَالَ أَنَسٌ: فَلاَ أَدْرِي أَبْلَغَتْ رُخْصَةٌ مِنْ سِوَاهُ أَمْ لاَ فَلَمْ يَجْعَلْ الْمُخَالِفُونَ سُكُوتَ زَكَرِيَّا عَمَّا زَادَهُ غَيْرُهُ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ خُصُوصٌ, وَلاَ سُكُوتَ أَنَسٍ، عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا وَمَغِيبُ ذَلِكَ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي رَدِّ الزِّيَادَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُهُمَا فَمَا الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَاجِبًا أَخْذُهَا, وَزِيَادَةُ مَنْ زَادَ لَفْظَةَ "الْجَذَعَةِ" لاَ يَجِبُ أَخْذُهَا إنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ يُمْكِنُ أَنْ يُشْغَبَ بِهِ, وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ قَعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرِهِ وَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ" قَالُوا: بَلَى ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ ثُمَّ انْكَفَأَ إلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا وَإِلَى جَذِيعَةٍ مِنْ الْغَنَمِ فَقَسَّمَهَا بَيْنَنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا لِيُضَحُّوا بِهَا, وَلاَ أَنَّهُمْ ضَحَّوْا بِهَا وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ, وَالْكَذِبُ لاَ يَحِلُّ. وَأَيْضًا فَاسْمُ الْغَنَمِ يَقَعُ عَلَى الْمَاعِزِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الضَّأْنِ, فَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَهُمْ فِي إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الضَّأْنِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الْمَعْزِ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِالْجِذَاعِ مِنْ الْمَاعِزِ فَلَيْسَ حُجَّةً فِي إبَاحَةِ التَّضْحِيَةِ بِجِذَاعِ الضَّأْنِ, وَالنَّهْيُ قَدْ صَحَّ عَامًّا فِي أَنْ لَا تُجْزِئَ جَذَعَةٌ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ.
وَخَبَرٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ أَيْضًا وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً إلَّا أَنْ تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ

(7/363)


مَعَ وُجُودِ الْمُسِنَّاتِ فَقَدْ خَالَفُوهُ وَهُمْ يُصَحِّحُونَهُ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُصَحِّحُهُ, لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ مَا لَمْ يَقُلْ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ, هُوَ أَقَرَّ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ, رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ خَبَرُ الْبَرَاءِ نَاسِخًا لَهُ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" خَبَرٌ قَاطِعٌ ثَابِتٌ مَا دَامَتْ الدُّنْيَا, نَاسِخٌ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ, لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كَذِبًا, وَلَا يَنْسُبُ الْكَذِبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا كَافِرٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْجِذَاعَ مِنْ الضَّأْنِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِجِذَاعٍ مِنْ الضَّأْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ؟ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ. وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ بِلَالٍ الْأَسْلَمِيَّةِ شَهِدَ أَبُوهَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَحُّوا بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ ابْنِ النُّعَيْمَانِ عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ كِدَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي كِبَاشٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نِعْمَ, أَوْ نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ" . وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمَّدُ إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّد مِنْ الْمَعْزِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنَ رَافِعٍ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: "يَا مُحَمَّدُ إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ الْمُسِنِّ مِنْ الْمَعْزِ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ مُسْهِرٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَضَحُّوا بِالْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةِ مِنْ الْمَعْزِ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآثَارِ إلَّا قَلِيلُ الْعِلْمِ بِوَهْيِهَا فَيُعْذَرُ, أَوْ قَلِيلُ الدِّينِ يَحْتَجُّ بِالْأَبَاطِيلِ الَّتِي لَا يَحِلُّ أَخْذُ الدِّينِ بِهَا: أَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ فَمِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَرِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ لَهُ غَيْرُ مُسْنَدَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ ذَلِكَ,

(7/364)


وَهُمْ لَا يَجْعَلُونَ قَوْلَ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ مُسْنَدًا, وَلَا قَوْلَ جَابِرٍ: كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْنَدًا, وَلَا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ كَانَ يُرَدُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْوَاحِدَةِ مُسْنَدًا, وَكُلُّهَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ, ثُمَّ يَجْعَلُونَ هَذَا الْخَبَرَ السَّاقِطَ الْوَاهِيَ مُسْنَدًا, وَهَذَا قِلَّةُ حَيَاءٍ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْكَلَامِ فِي الدِّينِ, وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا - عَنْ مَجْهُولٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ بِلَالٍ فَهُوَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى - وَلَا يُدْرَى مَنْ هِيَ - عَنْ أُمِّ بِلَالٍ - وَهِيَ مَجْهُولَةٌ - وَلَا نَدْرِي لَهَا صُحْبَةٌ أَمْ لَا؟ وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ - وَهُوَ هَالِكٌ - وَطَرِيقُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأُولَى أَسْقَطَهَا كُلَّهَا وَفَضِيحَةُ الدَّهْرِ; لِأَنَّهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - عَنْ كِدَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَا نَدْرِي مَنْ هُوَ؟ عَنْ أَبِي كِبَاشٍ الَّذِي جَلَبَ الْكِبَاشَ الْجَذَعَةَ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَارَتْ عَلَيْهِ. هَكَذَا نَصُّ حَدِيثِهِ, وَهُنَا جَاءَ مَا جَاءَ أَبُو كِبَاشٍ وَمَا أَدْرَكَ مَا أَبُو كِبَاشٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ, وَكَذَلِكَ خَبَرُ الشَّيْخِ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ, وَكَفَاك بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأُخْرَى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ مُرْسَلٌ. وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ كُلُّهَا بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي لَا مَغْمَزَ فِيهَا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ; لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ الْأَنْعَامِ بِلَا شَكٍّ, وَقَدْ كَانَ نَزَلَ حُكْمُهَا بِلَا شَكٍّ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَ قِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ, وَضَحَّى أَبُو بُرْدَةَ وَقَوْمٌ مَعَهُ بِيَقِينٍ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ. فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا لَكَانَ قَوْلُهُ عليه السلام: "لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" , نَاسِخًا لَهَا بِلَا شَكٍّ, وَمَنْ ادَّعَى عَوْدَةَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ فَقَدْ كَذَبَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ, فَكَيْفَ وَكُلُّهَا بَاطِلٌ لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَذَكَرُوا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إجَازَةَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فَذَكَرُوا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يُجْزِي مِنْ الضَّأْنِ الْجَذَعُ, وَعَنْ حِبَّةَ الْعُرَنِيِّ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ مَعَ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يُجْزِي مِنْ الْبُدْنِ, وَمِنْ الْبَقَرِ, وَمِنْ الْمَعْزِ الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ سَمِينَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِجِدَاءٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ سَمِينَةٍ عَظِيمَةٍ تُجْزِي فِي الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعِ الْمَعْزِ مَعَ قَوْلِهِ: لَا تُجْزِي إلَّا الثَّنِيَّةُ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعٍ مِنْ الضَّأْنِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ

(7/365)


أُضَحِّيَ بِمُسِنٍّ مِنْ الْمَعْزِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا بَأْسَ بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ إنِّي لَأُضَحِّي بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَإِنَّهَا لَتَرُوجُ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ - فَهُمْ سِتَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَرُوِّينَا إجَازَةَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَعَنْ كَعْبٍ, وَعَطَاءٍ, وَطَاوُسٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَأَبِي رَزِينٍ, وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ - فَهُمْ سَبْعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا يُجْزِي مِنْ الْمَاعِزِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: كُلُّ هَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ فَمُنْقَطِعَةٌ, وَالْأُخْرَى وَاهِيَةٌ, ثُمَّ لَيْسَ فِيهَا الْمَنْعُ مِنْ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَاعِزِ وَلَا مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكُنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنْهُ خِلَافَهَا كَمَا قَدَّمْنَا قَبْلُ, وَإِذَا وُجِدَ خِلَافٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالْوَاجِبُ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ إلَّا اخْتِيَارُ الضَّأْنِ عَلَى الْمَاعِزِ فَقَطْ وَالْمَنْعُ مِمَّا دُونَ الثَّنِيِّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَقَطْ لَا مِنْ الْمَاعِزِ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ قَبْلُ خِلَافَ هَذَا كَمَا أَوْرَدْنَا فَهُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذَا جَاءَ الِاخْتِلَافُ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَقَدْ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ, كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا فِيهَا اخْتِيَارُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَلَيْسَ فِيهَا الْمَنْعُ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ, وَكَذَلِكَ عَنْ سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, فَكَيْفَ وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَكَمْ قِصَّةً خَالَفُوا فِيهَا جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ؟ كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَا مَسْأَلَةٍ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الرِّوَايَةَ صَحَّتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَجَابِرٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بِأَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ كَالْحَجِّ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلَافٌ لَهُمْ; فَجَعَلُوا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ فَذَكَرَ فِيهِنَّ الْحَجَّ, وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ خِلَافًا فِي ذَلِكَ, ثُمَّ لَا يَجْعَلُونَ تَصْرِيحَهُ بِأَنَّ مَا دُونَ الْجَذَعِ لَا يُجْزِي خِلَافًا فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم أَنْ يُضَحَّى بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَاعِزِ, وَبِالْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, كَمَا نُورِدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَجَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُورِدُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَرَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ, وَالشَّافِعِيِّينَ أَصْلًا فِي إجَازَتِهِمْ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْمَاعِزِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَعْمَةَ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا فَأَعْطَانِي عَتُودًا مِنْ الْمَعْزِ, فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إنَّهُ جَذَعٌ؟ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا قَالَ الْبُخَارِيُّ: نَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ, وَقَالَ مُسْلِمٌ: نَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَمْرٌو, وَابْنُ رُمْحٍ عَلَى أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُمَا عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي

(7/366)


الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: ضَحِّ أَنْتَ بِهِ هَذَا لَفْظُ عَمْرٍو, وَلَفْظُ ابْنِ رُمْحٍ ضَحِّ بِهِ أَنْتَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْعَتُودُ هُوَ الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ بِلَا خِلَافٍ - وَهَذَانِ خَبَرَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَقَدْ أَجَازَ التَّضْحِيَةَ بِالْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ فِيهِمَا اثْنَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ, وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ جَوَازَ الْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ خَيْرًا مِنْهُ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ الْبَرَاءِ؟ قُلْنَا: خَبَرُ الْبَرَاءِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِ الْجَذَعِ مِنْ الْمَعْزِ دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ بِالْمَنْعِ إلَّا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ.
وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي فِيهَا إبَاحَةُ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ جُمْلَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: مُجَاشِعٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "الْجَذَعُ تُوفِي مِمَّا تُوفِي مِنْهُ الثَّنِيَّةُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا يُوسُفُ هُوَ ابْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي نَا أَبُو الرَّبِيعِ هُوَ الزَّهْرَانِيُّ نَا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا يُؤَمَّرُ عَلَيْنَا فِي الْمَغَازِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُمِّرَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إنِّي شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْيَوْمَ يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ فَطَلَبَنَا الْمُسِنَّ فَغَلَتْ عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الْجَذَعَ يَفِي مِمَّا يَفِي مِنْهُ الْمُسِنُّ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَمُجَاشِعٌ السُّلَمِيُّ هُوَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ - مَشْهُورٌ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ أَسْلَمَ, وَأَنْفَقَ, وَقَاتَلَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ, وَهُوَ فَتْحُ كَرْمَانَ, وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ, وَالْآخَرُ جَيِّدٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ لَا تَخْفَى صِحَّةُ صُحْبَتِهِ مِنْ بُطْلَانِهَا. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَرِمٍ, اللَّهُ أَحَقُّ بِالْغِنَى وَالْكَرَمِ, وَأَحَبُّهُنَّ إلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهِ أَحَبُّهُنَّ إلَيَّ بِأَنْ أَقْتَنِيَهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَأَنْ أُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ عَظِيمَةٍ تَجُوزُ فِي الصَّدَقَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَحِّيَ بِجِدَاءٍ فَهَذَا عُمُومٌ فِي الْجَذَعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, قَالَا جَمِيعًا: نَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي السَّوِيَّةِ

(7/367)


التَّمِيمِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ عَلَيَّ بَدَنَةٌ أَتُجْزِي عَنِّي جَذَعَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ جَذَعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ الْهَمْدَانِيُّ قُلْت لِطَاوُسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّا نَدْخُلُ السُّوقَ فَنَجِدُ الْجَذَعَ مِنْ الْبَقَرِ السَّمِينِ الْعَظِيمِ فَنَخْتَارُ الثَّنِيَّ لِسِنِّهِ فَقَالَ طَاوُسٍ: أَحَبُّهُمَا إلَيَّ أَسْمَنُهُمَا وَأَعْظَمُهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُجْزِي الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ - يَعْنِي فِي الْأَضَاحِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: يُجْزِي الْجَذَعُ عَنْ سَبْعَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يُجْزِي مِنْ الْإِبِلِ الْجَذَعُ فَصَاعِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: يُضَحَّى بِالْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ, وَالْبَقَرِ عَنْ ثَلَاثَةٍ, وَمَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ عَنْ وَاحِدٍ - فَهَذِهِ أَسَانِيدُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَعَنْ طَاوُسٍ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ فِي جَوَازِ الْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي الْأَضَاحِيِّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ الْجَذَعِ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْبُدْنِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ, وَلَا يُعَارِضُ بِهِ ابْنَ جُرَيْجٍ إلَّا جَاهِلٌ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالنَّاسِخُ لِهَذَا كُلِّهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ وَمِنْ الْبَاطِلِ الْبَحْتِ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَوْلُ نَاسِخًا لِإِبَاحَةِ بَعْضِ الْجِذَاعِ دُونَ بَعْضٍ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا فِي النَّهْيِ عَنْ الْجِذَاعِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ خَبَرًا أَصْلًا إلَّا هَذَا اللَّفْظَ فَمِنْ أَيْنَ خَصُّوا بِهِ جِذَاعَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ جِذَاعِ الضَّأْنِ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا جِذَاعَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى جِذَاعِ الْمَاعِزِ؟ قُلْنَا: وَهَلَّا قِسْتُمُوهَا عَلَى جِذَاعِ الضَّأْنِ الْجَائِزَةِ عِنْدَكُمْ, وَمَا الَّذِي جَعَلَ قِيَاسَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى الْمَاعِزِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الضَّأْنِ؟ لَا سِيَّمَا وَالْجَذَعُ عِنْدَكُمْ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ يَجْزِيَانِ فِي الزَّكَاةِ, فَهَلَّا قِسْتُمْ جَوَازَهَا فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى جَوَازِهَا فِي الزَّكَاةِ - فَلَاحَ أَنَّهُمْ لَا النَّصَّ اتَّبَعُوا, وَلَا الْقِيَاسَ عَرَفُوا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَيَقُولُونَ أَيْضًا: إنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ الشَّاةُ, أَوْ الْمَاعِزُ, أَوْ الْبَقَرَةُ أَوْ النَّاقَةُ ضُحِّيَ بِوَلَدِهَا مَعَهَا - فَتَنَاقَضُوا وَأَجَازُوا فِي الْأُضْحِيَّةِ الصَّغِيرَ جِدًّا. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا هُوَ تَبَعٌ؟ قُلْنَا: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ, وَعَرِّفُونَا مَا مَعْنَى تَبَعٌ؟ أَهُوَ بَعْضُهَا - فَهَذَا كَذِبٌ بِالْعِيَانِ, بَلْ هُوَ غَيْرُهَا, وَهُوَ ذَكَرٌ وَهِيَ أُنْثَى, وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا, فَهُوَ قَوْلُنَا, وَلَا فَضْلَ فِي ذَلِكَ.

(7/368)


قال علي: ذكرنا في أول كلامنا ههنا في الأضاحي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يضحي أن لا يمس من شعره ولا من أظافره شياً
...
976- مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا هَهُنَا فِي الأَضَاحِيِّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لاَ يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا" , وَلَمْ نَذْكُرْ اعْتِرَاضَ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْيَانِ فَاسْتَدْرَكْنَا هَهُنَا مَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ

(7/368)


أَنَّهَا أَفْتَتْ بِذَلِكَ. وَنا حَمَامٌ نَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ نَا مُسَدَّدٌ نَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ نَا ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ هُوَ يَحْيَى أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ كَانَ يُفْتِي بِخُرَاسَانَ: أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً, وَدَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَكُفَّ، عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ. قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: نَعَمْ, فَقُلْت: عَمَّنْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ: عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ مُسَدَّدٌ: وَنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يَكْرَهَ أَنْ يَحْلِقَ الصِّبْيَانُ فِي الْعَشْرِ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَخَالَفَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمَا حُجَّةً أَصْلاً, إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ, قَالُوا: وَهُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ.
وَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ هَذَا الْخَبَرَ فَقَالَ: فَهَلاَّ اجْتَنَبَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ غَيْرَ هَذَا أَصْلاً, وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ: أَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِالأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ; فَالأَحْتِجَاجُ بِهِ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ سَعِيدٍ, وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ الَّتِي أَلْزَمَنَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ رِوَايَتُهُ وَرِوَايَةُ غَيْرِهِ مِنْ الثِّقَاتِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ سَعِيدٍ خِلاَفُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُوَ أَوْلَى بِسَعِيدٍ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ قَدْ يَتَأَوَّلُ سَعِيدٌ فِي الأَطِّلاَءِ أَنَّهُ بِخِلاَفِ حُكْمِ سَائِرِ الشَّعْرِ, وَأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ شَعْرُ الرَّأْسِ فَقَطْ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: كَمَا قُلْتُمْ لِمَا رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ خِلاَفُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ; لأََنَّهُ لاَ يَدَعُ مَا رُوِيَ إِلاَّ لِمَا هُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْهُ; فَالأَوْلَى بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم خِلاَفَ مَا رُوِيَ، عَنْ سَعِيدٍ: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، عَنْ سَعِيدٍ, إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلاَفِ مَا رَوَى فَهَذَا اعْتِرَاضٌ أَوْلَى مِنْ اعْتِرَاضِكُمْ. وَخَامِسُهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِ سَعِيدٍ فِي الأَطِّلاَءِ فِي الْعَشْرِ إنَّمَا أَرَادَ عَشْرَ الْمُحَرَّمِ لاَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ; وَإِلَّا فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ أَرَادَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ.
وَاسْمُ الْعَشْرِ يُطْلَقُ عَلَى عَشْرِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَسَادِسُهَا: أَنْ نَقُولَ: لَعَلَّ سَعِيدًا رَأَى ذَلِكَ لِمَنْ لاَ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ, فَهَذَا صَحِيحٌ, وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ فَفَاسِدٌ, لأََنَّ الدِّينَ لاَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ عِكْرِمَةَ وَرَأْيِهِ, إنَّمَا هَذَا مِنْهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ

(7/369)


كُلُّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لأََنَّهُ لَيْسَ إذَا وَجَبَ أَنْ لاَ يَمَسَّ الشَّعْرَ, وَالظُّفْرَ, بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ, كَمَا أَنَّهُ إذَا وَجَبَ اجْتِنَابُ الْجِمَاعِ وَالطِّيبِ, لَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ اجْتِنَابُ مَسِّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ. فَهَذَا الصَّائِمُ فَرْضٌ عَلَيْهِ اجْتِنَابُ النِّسَاءِ, وَلاَ يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ الطِّيبِ, وَلاَ مَسُّ الشَّعْرِ, وَالظُّفْرِ وَكَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ, وَهَذِهِ الْمُعْتَدَّةُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الْجِمَاعُ وَالطِّيبُ, وَلاَ يَلْزَمُهَا اجْتِنَابُ قَصِّ الشَّعْرِ وَالأَظْفَارِ. فَظَهَرَ حَمَاقَةُ قِيَاسِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ, وَهَذِهِ فُتْيَا صَحَّتْ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلاَ يُعْرَفُ فِيهَا مُخَالِفٌ مِنْهُمْ لَهُمْ, فَخَالَفُوا ذَلِكَ بِرَأْيِهِمْ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلاً, فَخَالَفُوا الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/370)


977- مَسْأَلَةٌ: وَالأُُضْحِيَّةُ جَائِزَةٌ بِكُلِّ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ ذِي أَرْبَعٍ, أَوْ طَائِرٍ, كَالْفَرَسِ, وَالإِبِلِ, وَبَقَرِ الْوَحْشِ, وَالدِّيكِ, وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْحَلاَلِ أَكْلُهُ, وَالأَفْضَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا طَابَ لَحْمُهُ وَكَثُرَ وَغَلاَ ثَمَنُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي الأَضَاحِيِّ قَوْلَ بِلاَلٍ: مَا أُبَالِي لَوْ ضَحَّيْت بِدِيكٍ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ابْتِيَاعِهِ لَحْمًا بِدِرْهَمَيْنِ وَقَالَ: هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ هَذَا هُوَ الَّذِي عَوَّلُوا عَلَيْهِ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِالأَثَرِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" وَثَّقُوهُ هُنَالِكَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ. وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ يُجِيزُ الأُُضْحِيَّةَ بِبَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَبِالظَّبْيِ أَوْ الْغَزَالِ، عَنْ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ التَّضْحِيَةَ بِمَا حَمَلَتْ بِهِ الْبَقَرَةُ الإِنْسِيَّةُ مِنْ الثَّوْرِ الْوَحْشِيِّ, وَبِمَا حَمَلَتْ بِهِ الْعَنْزُ مِنْ الْوَعْلِ. وقال مالك: لاَ تُجْزِي إِلاَّ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ. وَرَأَى مَالِكٌ: النَّعْجَةَ, وَالْعَنْزَ, وَالتَّيْسَ أَفْضَلَ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ: فِي الأُُضْحِيَّةِ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فَرَأَيَا الإِبِلَ أَفْضَلَ, ثُمَّ الْبَقَرَ, ثُمَّ الضَّأْنَ, ثُمَّ الْمَاعِزَ وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً فَنُورِدُهَا أَصْلاً, إِلاَّ أَنْ يَدَّعُوا إجْمَاعًا فِي جَوَازِهَا مِنْ هَذِهِ الأَنْعَامِ, وَالْخِلاَفَ فِي غَيْرِهَا. فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَيُعَارِضُونَ بِمَا صَحَّ فِي ذَلِكَ، عَنْ بِلاَلٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, وَهَذَا عِنْدَهُمْ حُجَّةٌ إذَا وَافَقَهُمْ. وَأَمَّا مُرَاعَاةُ الإِجْمَاعِ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَيُتْرَكُ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ, فَهَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَذَاهِبِهِمْ إِلاَّ يَسِيرًا جِدًّا مِنْهَا, وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لاَ يُوجِبُوا فِي الصَّلاَةِ, أَوْ الصَّوْمِ, وَالْحَجِّ, وَالزَّكَاةِ وَالْبُيُوعِ, إِلاَّ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ, وَفِي هَذَا هَدْمُ مَذْهَبِهِمْ كُلِّهِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْمَرْدُودُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَهُوَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّدَّ إلَيْهِ فَوَجَدْنَا النُّصُوصَ تَشْهَدُ لِقَوْلِنَا, وَذَلِكَ أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى, فَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ نَصُّ سُنَّةٍ حَسَنٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِهِ فِعْلُ خَيْرٍ.

(7/370)


نَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ نَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى نَا ابْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إلَى الْجُمُعَةِ كَمَثَلِ مَنْ يُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ كَمَنْ يُهْدِي بَيْضَةً".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقَرْنَ, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً, وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً".
فَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ هَدْيُ دَجَاجَةٍ, وَعُصْفُورٍ, وَتَقْرِيبُهُمَا, وَتَقْرِيبُ بَيْضَةٍ; وَالأُُضْحِيَّةُ تَقْرِيبٌ بِلاَ شَكٍّ, وَفِيهِمَا أَيْضًا فَضْلُ الأَكْبَرِ فَالأَكْبَرِ جِسْمًا فِيهِ وَمَنْفَعَةً لِلْمَسَاكِينِ, وَلاَ مُعْتَرِضَ عَلَى هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَصْلاً.
قال أبو محمد: وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنَمِ الْخَبَرُ الثَّابِتُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَالْخَبَرُ الَّذِي أَوْرَدْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ فَفِيهَا أَمْرُهُ عليه السلام فِي الأَضَاحِيِّ بِالنَّحْرِ. وَلاَ يَخْلُو هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عليه السلام أَمَرَ بِالنَّحْرِ فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ, أَوْ فِي الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الْغَنَمِ, فَهَذَا مُبْطِلٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ: إنَّ النَّحْرَ فِي الْغَنَمِ لاَ يَحِلُّ, وَلاَ يَكُونُ ذَكَاةً فِيهَا, وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ عليه السلام فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَحَسُنَ الْمُحَالُ الْبَاطِلُ الْمُمْتَنِعُ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عليه السلام يَحُضُّ أُمَّتَهُ وَأَصْحَابَهُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِالإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَعَ عَظِيمِ الْكُلْفَةِ فِيهَا وَغُلُوِّ أَثْمَانِهَا وَيَتْرُكُونَ الأَرْخَصَ وَالأَقَلَّ ثَمَنًا وَهُوَ أَفْضَلُ, وَهَذِهِ إضَاعَةُ الْمَالِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى, وَإِنَّمَا التَّضْحِيَةُ بِالْغَنَمِ ضَأْنِهَا وَمَاعِزِهَا رِفْقٌ بِالنَّاسِ لِقِلَّةِ أَثْمَانِهَا وَتَفَاهَةِ أَمْرِهَا وَتَخْفِيفٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، عَنِ الأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ فِي النَّفَقَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهَذَا مِمَّا لاَ شَكَّ فِيهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الضَّأْنَ أَفْضَلُ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَضْحَى: يَا مُحَمَّدُ إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّدِ مِنْ الْمَعْزِ, وَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّدِ مِنْ الْبَقَرِ, وَإِنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنْ السَّيِّدِ مِنْ الإِبِلِ, وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ ذَبْحًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ لَفَدَى بِهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.

(7/371)


وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: مَرَّ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي فَطِيمَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشٍ أَقَرْنَ أَعْيَنَ فَقَالَ عليه السلام: "مَا أَشْبَهَ هَذَا الْكَبْشَ بِالْكَبْشِ الَّذِي ذَبَحَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام".
وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَنَسٍ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: خَيْرُ الأُُضْحِيَّةِ الْكَبْشُ.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَخْبَارٌ مَكْذُوبَةٌ: أَمَّا خَبَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَعُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ فَعَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا, ضَعَّفَهُ جِدًّا وَاطَّرَحَهُ أَحْمَدُ, وَأَسَاءَ الْقَوْلَ فِيهِ جِدًّا وَلَمْ يُجِزْ الرِّوَايَةَ بِهِ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَزِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَخَبَرُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمُرْسَلٌ مَعَ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَفِي الْخَبَرِ الْمَنْسُوبِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّهُ فَدَى اللَّهُ بِهِ إبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَفْدِ إبْرَاهِيمَ بِلاَ شَكٍّ وَإِنَّمَا فَدَى ابْنَهُ. وَأَمَّا الأَحْتِجَاجُ بِأَنَّهُ فَدَى الذَّبِيحَ بِكَبْشٍ فَبَاطِلٌ, مَا صَحَّ ذَلِكَ قَطُّ, وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ أُرْوِيَّةً, وَهَبْكَ لَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُ سَائِرِ الْكِبَاشِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ, وَلاَ كَانَ أَمْرُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أُضْحِيَّةً فَلاَ مَدْخَلَ لِلأَضَاحِيِّ فِيهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلَى قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّأْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ لاَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي كَبْشِ الذَّبِيحِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} فِي نَاقَةِ صَالِحٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الإِبِلُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّأْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ لاَ بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي كَبْشِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِذِكْرِ الأَثَرِ الَّذِي فِيهِ الصَّلاَةُ فِي مَبَارِكِ الْغَنَمِ وَالنَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ فِي مَعَاطِنِ الإِبِلِ, لأََنَّهُ جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ. فَقُلْنَا: فَلْيَكُنْ هَذَا عِنْدَكُمْ دَلِيلاً فِي فَضْلِ الْغَنَمِ عَلَيْهَا فِي الْهَدْيِ, وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِهَذَا.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُكْتَبَ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا: فَقَدْ أَهْدَى غَنَمًا مُقَلَّدَةً كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ أَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ مِنْ الْبَقَرِ; فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ هَذَا الأَسْتِدْلاَل فِي الأَضَاحِيِّ وَأَيْضًا: فَقَدْ ضَحَّى عليه السلام بِالْبَقَرِ.

(7/372)


رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي حَدِيثٍ لَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ وَهَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ آخِرُ عَمَلِهِ عليه السلام وَلَمْ يُضَحِّ بَعْدَهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ نَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَر"َ . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى. وَالنَّحْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ فِي الْغَنَمِ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُ فِي الإِبِلِ وَعَلَى تَكَرُّهٍ فِي الْبَقَرِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُضَحِّي بِالإِبِلِ وَالْبَقَرِ, أَوْ يَتْرُكُ قَوْلَهُ فَيُجِيزُ النَّحْرَ فِي الْغَنَمِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِفِعْلٍ فَعَلَهُ عليه السلام مُبَاحُ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ غَيْرُهُ بِإِقْرَارِ الْمُحْتَجِّ عَلَى نَصِّ قَوْلِهِ عليه السلام فِي تَفْضِيلِ الإِبِلِ, ثُمَّ الْبَقَرِ, ثُمَّ الضَّأْنِ.
رُوِّينَا، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِجَزُورٍ مِنْ الإِبِلِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي مَرَّةً بِنَاقَةٍ, وَمَرَّةً بِبَقَرَةٍ, وَمَرَّةً بِشَاةٍ, وَمَرَّةً لاَ يُضَحِّي. فأما قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَضْلِ الْمَاعِزِ عَلَى الْبَقَرِ, وَالإِبِلِ, وَفَضْلِ الْبَقَرِ عَلَى الإِبِلِ: فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُتَعَلَّقًا أَصْلاً، وَلاَ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/373)


978- مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ ذَبْحِ الأُُضْحِيَّةِ أَوْ نَحْرِهَا هُوَ أَنْ يُمْهِلَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, ثُمَّ تَبْيَضَّ وَتَرْتَفِعَ, وَيُمْهِلَ حَتَّى يَمْضِيَ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُُولَى بَعْدَ ثَمَانِ تَكْبِيرَاتٍ "أُمَّ الْقُرْآنِ" وَسُورَةَ "ق" وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ سِتِّ تَكْبِيرَاتٍ "أُمَّ الْقُرْآنِ" وَسُورَةَ: "اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" بِتَرْتِيلٍ وَيُتِمُّ فِيهِمَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ, وَيَجْلِسُ, وَيَتَشَهَّدُ, وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ أَوْ يَنْحَرُهَا الْبَادِي, وَالْحَاضِرُ, وَأَهْلُ الْقُرَى, وَالصَّحَارِي, وَالْمُدُنِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ; فَمَنْ ذَبَحَ, أَوْ نَحَرَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ، وَلاَ بُدَّ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ, وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ صَلاَةِ الإِمَامِ, وَلاَ لِمُرَاعَاةِ تَضْحِيَتِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ, ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ". وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، هُوَ

(7/373)


ابْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَبْدِلْهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ نَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى, ثُمَّ خَطَبَ فَأَمَرَ مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ أَنْ يُعِيدَ ذَبْحًا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْت جُنْدُبًا يَقُولُ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى قَوْمٍ قَدْ نَحَرُوا وَذَبَحُوا فَقَالَ: "مَنْ نَحَرَ وَذَبَحَ قَبْلَ صَلاَتِنَا فَلْيُعِدْ, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ أَوْ يَنْحَرْ فَلْيَذْبَحْ وَلْيَنْحَرْ بِاسْمِ اللَّهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ نَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلاَ يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَالْوَقْتُ الَّذِي حَدَّدْنَا هُوَ وَقْتُ صَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُجِزْ التَّضْحِيَةَ قَبْلَ تَمَامِ الْخُطْبَةِ، وَلاَ مَعْنَى لِهَذَا لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُدَّ وَقْتَ الأُُضْحِيَّةِ بِذَلِكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إنْ ضَحَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَهُ.
وقال أبو حنيفة: أَمَّا أَهْلُ الْمُدُنِ وَالأَمْصَارِ فَمَنْ ضَحَّى مِنْهُمْ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَةِ الإِمَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ وَلَمْ يُضَحِّ, وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي فَإِنْ ضَحَّوْا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الأَضْحَى أَجْزَأَهُمْ. وقال مالك: مَنْ ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ الإِمَامُ فَلَمْ يُضَحِّ; ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الإِمَامُ هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ; وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ أَمِيرُ الْبَلْدَةِ, وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلاَةَ الْعِيدِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَوْرَدْنَا بِلاَ بُرْهَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَلاَ حُجَّةَ لَهُ أَصْلاً, وَخِلاَفٌ لِلْخَبَرِ أَيْضًا إذْ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ بِمُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ غَيْرِهِ. وَنَقُولُ لِلطَّائِفَتَيْنِ مَعًا: أَرَأَيْتُمْ إنْ ضَيَّعَ الإِمَامُ صَلاَةَ الأَضْحَى وَلَمْ يُضَحِّ أَتَبْطُلُ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَضَاحِيِّ عَلَى النَّاسِ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا, بَلْ هُوَ الْحَقُّ أَنَّ الإِمَامَ إنْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَحْسَنَ وَهُوَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتِ تَضْحِيَتِهِ, وَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكَادِحٍ فِي عَدَالَتِهِ, لأََنَّهُ لَمْ يُعَطِّلْ فَرْضًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحِيلٍ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ النَّاسِ فِي أَضَاحِيهِمْ. وَنَقُولُ لِلْمَالِكِيِّينَ أَيْضًا: أَرَأَيْتُمْ إنْ ضَحَّى الإِمَامُ قَبْلَ وَقْتِ صَلاَةِ الأَضْحَى أَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا لأََضَاحِيِّ النَّاسِ.
فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ, أَتَوْا بِعَظِيمَةٍ وَإِنْ قَالُوا: لاَ, صَدَقُوا, وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ فِي مُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ الإِمَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ

(7/374)


أَهْلِ الْقُرَى وَأَهْلِ الْمُدُنِ، عَنْ عَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَمَا نَعْرِفُ قَوْلَ مَالِكٍ فِي مُرَاعَاةِ تَضْحِيَةِ الإِمَامِ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/375)


979- مَسْأَلَةٌ: وَالأُُضْحِيَّةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْحَاجِّ بِمَكَّةَ وَلِلْمُسَافِرِ كَمَا هِيَ لِلْمُقِيمِ، وَلاَ فَرْقَ, وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وَالأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ. وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ, وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّضْحِيَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام بَادِيًا مِنْ حَاضِرٍ, وَلاَ مُسَافِرًا مِنْ مُقِيمٍ, وَلاَ ذَكَرًا مِنْ أُنْثَى, وَلاَ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ حَاجًّا مِنْ غَيْرِهِ, فَتَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِالْبَقَرِ، عَنْ نِسَائِهِ بِمَكَّةَ وَهُنَّ حَوَاجُّ مَعَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحُجُّ فَلاَ يُضَحِّي وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ لَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ أُضْحِيَّةٌ. وَالْحَارِثُ كَذَّابٌ. وَعَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لاَ يُضَحُّونَ فِي الْحَجِّ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَنْعٌ لِلْحَاجِّ، وَلاَ لِلْمُسَافِرِ مِنْ التَّضْحِيَةِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُهَا فَقَطْ, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نَا الْهَرَوِيُّ نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ سَافَرَ مَعِي تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَمَّا ذَبَحْنَا أُضْحِيَّتَهُ أَخَذَ مِنْهَا بَضْعَةً فَقَالَ: آكُلُهَا وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَحُجُّ، وَلاَ يُضَحِّي وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَحُجُّونَ مَعَهُمْ الْوَرِقُ وَالذَّهَبُ فَلاَ يُضَحُّونَ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِيَتَفَرَّغُوا لِنُسُكِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَجَجْت فَهَلَكَتْ نَفَقَتِي فَقَالَ أَصْحَابِي: أَلاَ نُقْرِضُك فَتُضَحِّيَ فَقُلْت: لاَ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْنَعُوا مِنْهَا وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِنَصٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ خَيْرًا.

(7/375)


980- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ مَنْ نَوَى أَنْ يُضَحِّيَ بِحَيَوَانٍ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنْ يُضَحِّيَ بِهِ، وَلاَ بُدَّ, بَلْ لَهُ أَنْ لاَ يُضَحِّيَ بِهِ إنْ شَاء إِلاَّ أَنْ يَنْذُرَ ذَلِكَ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الأُُضْحِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَإِذْ لَيْسَتْ فَرْضًا فَلاَ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَهَا نَصٌّ، وَلاَ نَصَّ إِلاَّ فِيمَنْ ضَحَّى قَبْلَ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فِي أَنْ يُعِيدَ; وَفِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَفِيَ بِالنَّذْرِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ أُضْحِيَّتَهُ مِمَّنْ يُضَحِّي بِهَا وَيَشْتَرِي خَيْرًا مِنْهَا وَعَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لَهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهَا وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ, كَرَاهَةَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لِمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ حُجَّةً.

(7/375)


981- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَكُونُ الأُُضْحِيَّةُ أُضْحِيَّةً إِلاَّ بِذَبْحِهَا, أَوْ نَحْرِهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلاً وَلَهُ مَا لَمْ يَذْبَحْهَا, أَوْ يَنْحَرْهَا كَذَلِكَ أَنْ لاَ يُضَحِّيَ بِهَا وَأَنْ يَبِيعَهَا وَأَنْ يَجُزَّ صُوفَهَا وَيَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ وَيَأْكُلَ لَبَنَهَا وَيَبِيعَهُ, وَإِنْ وَلَدَتْ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَلَدَهَا أَوْ يَمْسِكَهُ أَوْ يَذْبَحَهُ, فَإِنْ ضَلَّتْ فَاشْتَرَى غَيْرَهَا, ثُمَّ وَجَدَ الَّتِي ضَلَّتْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَبْحُهَا، وَلاَ ذَبْحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا, فَإِنْ ضَحَّى بِهِمَا, أَوْ بِأَحَدِهِمَا, أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَقَدْ أَحْسَنَ, وَإِنْ لَمْ يُضَحِّ أَصْلاً فَلاَ حَرَجَ, وَإِنْ اشْتَرَاهَا وَبِهَا عَيْبٌ لاَ تُجْزِي بِهِ فِي الأَضَاحِيِّ كَعَوَرٍ, أَوْ عَجَفٍ: أَوْ عَرَجٍ, أَوْ مَرَضٍ, ثُمَّ ذَهَبَ الْعَيْبُ وَصَحَّتْ جَازَ لَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, وَلَوْ أَنَّهُ مَلَكَهَا سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ ذَلِكَ, ثُمَّ أَصَابَهَا عَيْبٌ لاَ تُجْزِي بِهِ فِي الأُُضْحِيَّةِ قَبْلَ تَمَامِ ذَكَاتِهَا, وَلَوْ فِي حَالِ التَّذْكِيَةِ لَمْ تُجْزِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَإِذْ هِيَ كَذَلِكَ فَلاَ تَكُونُ أُضْحِيَّةً إِلاَّ حَتَّى يُضَحِّيَ بِهَا، وَلاَ يُضَحِّيَ بِهَا إِلاَّ حَتَّى تَتِمَّ ذَكَاتُهَا بِنِيَّةِ التَّضْحِيَةِ فَهِيَ مَا لَمْ يُضَحِّ بِهَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا أَحَبَّ كَسَائِرِ مَالِهِ وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَأَجَازَ أَنْ يُضَحِّيَ بِاَلَّتِي يُصِيبُهَا عِنْدَهُ الْعَيْبُ فَقَدْ خَالَفَ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَهَارًا وَلَزِمَهُ إنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً مَعِيبَةً فَصَحَّتْ عِنْدَهُ أَنْ لاَ تُجْزِئَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا: رُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إذَا اشْتَرَيْت الأُُضْحِيَّةَ سَلِيمَةً فَأَصَابَهَا عِنْدَك عَوَارٌ, أَوْ عَرَجٌ فَبَلَغَتْ الْمَنْسَكَ فَضَحِّ بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً سَلِيمَةً فَاعْوَرَّتْ عِنْدَهُ قَالَ: يُضَحِّي بِهَا وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
رُوِّينَاهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَإِبْرَاهِيمَ: وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَضَلَّتْ قَالَ: لاَ يَضُرُّك وَعَنِ الْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ ضَلَّتْ أُضْحِيَّتُهُ فَاشْتَرَى أُخْرَى فَوَجَدَ الأُُولَى أَنَّهُ يَذْبَحُهُمَا جَمِيعًا, قَالَ حَمَّادٌ: يَذْبَحُ الأُُولَى. وقال أبو حنيفة: إنْ اشْتَرَاهَا صَحِيحَةً, ثُمَّ عَجِفَتْ عِنْدَهُ حَتَّى لاَ تُنْقِي أَجْزَأَتْهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا, فَلَوْ اعْوَرَّتْ عِنْدَهُ لَمْ تُجْزِهِ, فَلَوْ أَنَّهُ إذْ ذَبَحَهَا أَصَابَ السِّكِّينُ عَيْنَهَا, أَوْ انْكَسَرَ رِجْلُهَا أَجْزَأَتْهُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَلاَ نَعْلَمُ هَذِهِ التَّقَاسِيمَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَجُزُّ صُوفَهَا، وَلاَ يَشْرَبُ لَبَنَهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلاَّ مَا فَضَلَ، عَنْ وَلَدِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً أَنَّ لَهُ أَنْ يَجِزَّ صُوفَهَا وَأَمَرَهُ الْحَسَنُ إنْ فَعَلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ, وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ: إنْ وَلَدَتْ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا وقال مالك: لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. رُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مَعَهُ بَقَرَةٌ قَدْ وَلَدَتْ؟ فَقَالَ:

(7/376)


كُنْت اشْتَرَيْتهَا لأَُضَحِّيَ بِهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لاَ تَحْلِبْهَا إِلاَّ فَضْلاً، عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الأَضْحَى فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا، عَنْ سَبْعَةٍ.

(7/377)


982 - مَسْأَلَةٌ: وَالتَّضْحِيَةُ جَائِزَةٌ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَوْمَ النَّحْرِ إِلاَّ أَنْ يُهِلَّ هِلاَلُ الْمُحَرَّمِ, وَالتَّضْحِيَةُ لَيْلاً وَنَهَارًا جَائِزٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: النَّحْرُ يَوْمٌ وَاحِدٌ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ. وَعَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى الذَّبْحَ إِلاَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَوْلٌ آخَرُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: النَّحْرُ فِي الأَمْصَارِ يَوْمٌ, وَبِمِنًى ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّ التَّضْحِيَةَ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: النَّحْرُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَاعِزٍ, أَوْ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّ أَبَاهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ: إنَّمَا النَّحْرُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ حَرْبِ بْنِ نَاجِيَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ النَّحْرُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا ذَبَحْت يَوْمَ النَّحْرِ, وَالثَّانِيَ, وَالثَّالِثَ فَهِيَ الضَّحَايَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: الأَضْحَى ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ إِلاَّ، عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ لأََنَّهُ، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ مَجْهُولٍ، عَنْ أَبِيهِ مَجْهُولٌ أَيْضًا. وَعَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ، عَنِ الْمِنْهَالِ وَهُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ; وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ وَأَبِي حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّ التَّضْحِيَةَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى نَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: هَكَذَا فِي كِتَابِي، وَلاَ أَدْرِي لَعَلَّهُ وَهْمٌ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(7/377)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: النَّحْرُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ: النَّحْرُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ وَكِيعٍ نَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ: النَّحْرُ مَا دَامَتْ الْفَسَاطِيطُ بِمِنًى.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: النَّحْرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيمَنْ نَسِيَ أَنْ يُضَحِّيَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: الأَضْحَى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, قَالاَ جَمِيعًا: الأَضْحَى إلَى هِلاَلِ الْمُحَرَّمِ لِمَنْ اسْتَأْنَى بِذَلِكَ. قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ النَّحْرُ يَوْمُ الأَضْحَى وَحْدَهُ فَقَالَ: إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَا عَدَاهُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ; فَلاَ تُوجَدُ شَرِيعَةٌ بِاخْتِلاَفٍ لاَ نَصَّ فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: صَدَقُوا, وَالنَّصُّ يُجِيزُ قَوْلَنَا عَلَى مَا نَأْتِي بِهِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٍ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ, وَمِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ ذَكَرْنَا قَضَايَا عَظِيمَةً خَالَفُوا فِيهَا جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, فَكَيْفَ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا إِلاَّ، عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ وَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفَ عَطَاءٌ, وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ, وَالْحَسَنُ, وَالزُّهْرِيُّ, وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: الإِجْمَاعَ, وَأُفٍّ لِكُلِّ إجْمَاعٍ يَخْرُجُ عَنْهُ هَؤُلاَءِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلاَفِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَلاَ نَعْلَمُ لِمَنْ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حُجَّةً أَيْضًا, إِلاَّ أَنَّ أَيَّامَ مِنًى ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ فَقَطْ وَلَيْسَ هَذَا حُجَّةً.
قال أبو محمد: الأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ وَقُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْخَيْرِ حَسَنٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ وَقْتٍ بِغَيْرِ نَصٍّ, فَالتَّقْرِيبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّضْحِيَةِ حَسَنٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ, وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلاَ إجْمَاعَ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدْ رُوِّينَا خَبَرًا يَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِهِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِهِ وَيُعِيذُنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْ نَحْتَجَّ بِمُرْسَلٍ, وَهُوَ مَا ناهُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ

(7/378)


نَا مُسْلِمٌ نَا يَحْيَى، -هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ،- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, قَالاَ جَمِيعًا بَلَغَنَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَضْحَى إلَى هِلاَلِ الْمُحَرَّمِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِيَ بِذَلِكَ" وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ وَأَصَحِّهَا فَيَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ: أَنْ يُضَحَّى بِاللَّيْلِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وقال مالك: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى لَيْلاً وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالَ قَائِلُهُمْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} قَالُوا: فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّيْلَ.
قال علي: وهذا مِنْهُمْ إيهَامٌ يُمَقِّتُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الآيَةِ ذَبْحًا, وَلاَ تَضْحِيَةً, وَلاَ نَحْرًا لاَ فِي نَهَارٍ, وَلاَ فِي لَيْلٍ, وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ أَفَتَرَى يَحْرُمُ ذِكْرُهُ فِي لَيَالِيِهِنَّ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا, وَلَيْسَ هَذَا النَّصُّ بِمَانِعٍ مِنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى وَحَمْدِهِ عَلَى مَا رَزَقَنَا مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِي الْعَامِ كُلِّهِ. وَهَذَا مِمَّا حَرَّفُوا فِيهِ الْكَلِمَ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ زَيْدًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَ النَّهَارِ. وَذَكَرُوا حَدِيثًا لاَ يَصِحُّ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُبَشَّرِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَلَبِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الذَّبْحِ بِاللَّيْلِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ فَضِيحَةُ الأَبَدِ, وَبَقِيَّةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ, وَمُبَشَّرُ بْنُ عُبَيْدٍ مَذْكُورٌ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَمْدًا, ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ الذَّبْحَ بِاللَّيْلِ فَيُخَالِفُونَهُ فِيمَا فِيهِ وَيَحْتَجُّونَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا. وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّحْرِ لاَ يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ فِيهَا وَكَانَ يَوْمُهُ تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ فِيهِ كَانَتْ لَيَالِي سَائِرِ أَيَّامِ التَّضْحِيَةِ كَذَلِكَ.
قال علي: وهذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ, لأََنَّ يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ مَبْدَأُ دُخُولِ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ وَقْتًا لِلتَّضْحِيَةِ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَ ابْيِضَاضِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَقْتٌ وَاسِعٌ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لاَ تَجُوزُ فِيهِ التَّضْحِيَةُ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ التَّضْحِيَةِ فَلاَ يُجِيزُوا التَّضْحِيَةَ فِيهَا إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا وَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ قَبْلَ مَالِكٍ مَنَعَ مِنْ التَّضْحِيَةِ لَيْلاً.

(7/379)


983- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ لِلْمُضَحِّي رَجُلاً كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ أَوْ يَنْحَرَهَا بِيَدِهِ, فَإِنْ ذَبَحَهَا أَوْ نَحَرَهَا لَهُ بِأَمْرِهِ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ أَوْ كِتَابِيٌّ أَجْزَأَهُ، وَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا وَسَمَّى اللَّهَ وَكَبَّرَ قَالَ مُسْلِمٌ نَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ نَا شُعْبَةُ أَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْت أَنَسًا فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ, فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ الأَقْتِدَاءَ بِهِ عليه السلام فِي هَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وَإِنَّمَا عَنَى عَزَّ وَجَلَّ بِيَقِينٍ مَا يُذَكُّونَهُ لاَ مَا يَأْكُلُونَهُ, لأََنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ, وَالدَّمَ, وَالْخِنْزِيرَ, وَمَا عُمِلَ بِالْخَمْرِ وَظَهَرَتْ فِيهِ; فَإِذْ ذَبَائِحُهُمْ وَنَحَائِرُهُمْ حَلاَلٌ, فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا لاَ وَجْهَ لَهُ. وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ قُلْت لأَِبْرَاهِيمَ: صَبِيٌّ لَهُ ظِئْرٌ يَهُودِيٌّ أَيَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ, وَمَعْمَرٌ, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ, وَقَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وَالزُّهْرِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: يَذْبَحُ نُسُكَك الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ إنْ شِئْت, قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْمَرْأَةُ إنْ شِئْت. وقال مالك: لاَ يَذْبَحُهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ, فَإِنْ ذَبَحَهَا كِتَابِيٌّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَضْمَنُهَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَذْبَحُ أَضَاحِيَّكُمْ الْيَهُودُ, وَلاَ النَّصَارَى, لاَ يَذْبَحُهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ وَعَنْ جَرِيرٍ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَك إِلاَّ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَيْضًا: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ مُسْلِمٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ كَانُوا يَقُولُوا: لاَ يَذْبَحُ النُّسُكَ إِلاَّ مُسْلِمٌ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا ذَكَرْنَا لأََنَّهُ، عَنْ عَلِيٍّ مُنْقَطِعٌ وَقَابُوسُ, وَأَبُو سُفْيَانَ ضَعِيفَانِ إِلاَّ أَنَّهُ، عَنِ الْحَسَنِ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: صَحِيحٌ، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ غَيْرِهِمْ, وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ أَثَرٍ سَقِيمٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ.

(7/380)


984- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي الأُُضْحِيَّةِ الْوَاحِدَةِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ, وَجَائِزٌ أَنْ يُضَحِّيَ الْوَاحِدُ بِعَدَدٍ مِنْ الأَضَاحِيِّ ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, وَالأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ, فَالأَسْتِكْثَارُ مِنْ الْخَيْرِ حَسَنٌ. وقال أبو حنيفة, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَإِسْحَاقُ, وَأَبُو ثَوْرٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: تُجْزِئُ الْبَقَرَةُ, أَوْ النَّاقَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ فَأَقَلَّ أَجْنَبِيِّينَ وَغَيْرَ أَجْنَبِيِّينَ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا, وَلاَ تُجْزِئُ، عَنْ أَكْثَرَ, وَلاَ تُجْزِئُ الشَّاةُ إِلاَّ، عَنْ وَاحِدٍ. وقال مالك: يُجْزِئُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنْ الإِبِلِ, أَوْ الْبَقَرِ, أَوْ الْغَنَمِ، عَنْ وَاحِدٍ, وَعَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ إذَا أَشْرَكَهُمْ فِيهَا تَطَوُّعًا، وَلاَ تُجْزِئُ إذَا اشْتَرَوْهَا بَيْنَهُمْ بِالشَّرِكَةِ، وَلاَ عَنْ أَجْنَبِيَّيْنِ فَصَاعِدًا.
قال أبو محمد: الأُُضْحِيَّةُ فِعْلُ خَيْرٍ وَتَطَوُّعٌ بِالْبِرِّ فَالأَشْتِرَاكُ فِي التَّطَوُّعِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ قَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} فَالْمُشْتَرِكُونَ فِيهَا فَاعِلُونَ لِلْخَيْرِ; فَلاَ مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الأَجْنَبِيِّينَ بِالْمَنْعِ, وَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ; لأََنَّهُ كُلَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَقَدْ أَبَاحَ اللَّيْثُ الأَشْتِرَاكَ فِي الأُُضْحِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لاَ مَعْنَى لَهُ أَيْضًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ, سَمِينَيْنِ, أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ, مَوْجُوءَيْنِ, فَيَذْبَحُ أَحَدَهُمَا، عَنْ أُمَّتِهِ مَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَلَهُ بِالْبَلاَغِ, وَيَذْبَحُ الآخَرَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. فَهَذَا أَثَرٌ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ, وَعَلَى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَوَّلَ الْمَالِكِيُّونَ فِي خَبَرِ الصَّلاَةِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْبَدَنَةُ، عَنْ وَاحِدٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ وَاحِدٍ, وَالشَّاةُ، عَنْ وَاحِدٍ, لاَ أَعْلَمُ شِرْكًا. وَصَحَّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: لاَ أَعْلَمُ دَمًا وَاحِدًا يُرَاقُ، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: لاَ تَكُونُ ذَكَاةُ نَفْسٍ، عَنْ نَفْسَيْنِ وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ. وَقَوْلٌ آخَرُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ, عَنْ سَبْعَةٍ

(7/381)


مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ: كُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ لأََنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يُجِزْ الرَّأْسَ الْوَاحِدَ إِلاَّ، عَنْ وَاحِدٍ, وَكَذَلِكَ ابْنُ سِيرِينَ, وَحَمَّادٌ, وَعَلِيٌّ أَجَازَ النَّاقَةَ أَوْ الْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لاَ أَكْثَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: الْبَقَرَةُ وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ.
وَعَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالْحَسَنِ قَالُوا كُلُّهُمْ: الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهَا وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَدْرَكْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ، عَنْ سَبْعَةٍ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ.
قال علي: هذا حَمَّادٌ قَدْ رَوَى مَا ذَكَرْنَا، عَنِ الصَّحَابَةِ, ثُمَّ خَالَفَ مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ إجْمَاعًا كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلاَءِ: وَعَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَقَرَةُ وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ: وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ حُذَيْفَةَ, وَجَابِرٍ, وَعَلِيٍّ, وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْبَدَنَةُ، عَنْ عَشَرَةٍ وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَمِمَّنْ أَجَازَ الأَشْتِرَاكَ فِي الأَضَاحِيّ بَيْنَ الأَجْنَبِيِّينَ الْبَقَرَةِ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالنَّاقَةِ، عَنْ سَبْعَةٍ: طَاوُوس, وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ, وَعَطَاءٌ, وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ. فأما ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ نَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ تُجْزِي، عَنْ سَبْعَةٍ فَقَالَ: كَيْفَ, أَوَّلُهَا سَبْعَةُ أَنْفُسٍ قُلْت: إنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ أَفْتَوْنِي فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ, وَعُمَرُ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا شَعُرْت فَهَذَا تَوَقُّفٌ مِنْ ابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَرِيفِ بْنِ دِرْهَمٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ كُلَّ رِوَايَةٍ رُوِيَتْ فِيهِ عَنْ صَاحِبٍ إِلاَّ رِوَايَةً، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَجَعَ عَنْهَا, وَخَالَفَ جُمْهُورَ التَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَمْنَعْ عليه السلام مِنْ الأَشْتِرَاكِ فِي التَّطَوُّعِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ, وَسَبْعَةٍ, بَلْ قَدْ أَشْرَكَ عليه السلام فِي أُضْحِيَّتِهِ جَمِيعَ أُمَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/382)


985- مَسْأَلَةٌ: فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُضَحٍّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَلاَ بُدَّ لَوْ لُقْمَةً فَصَاعِدًا, وَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَيْضًا مِنْهَا بِمَا شَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلاَ بُدَّ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا الْغَنِيَّ, وَالْكَافِرَ وَأَنْ يُهْدِيَ مِنْهَا إنْ شَاءَ ذَلِكَ. فَإِنْ نَزَلَ بِأَهْلِ بَلَدِ الْمُضَحِّي جَهْدٌ أَوْ نَزَلَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي جَهْدٍ جَازَ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ مِنْ حِينِ يُضَحِّي بِهَا إلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثِ لَيَالٍ كَامِلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ يَبْتَدِئُهَا بِالْعَدَدِ مِنْ بَعْدِ تَمَامِ التَّضْحِيَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُصْبِحَ فِي مَنْزِلِهِ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِ لَيَالٍ شَيْءٌ أَصْلاً لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ. فَإِنْ ضَحَّى لَيْلاً لَمْ يُعِدْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الثَّلاَثِ; لأََنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهَا شَيْءٌ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَلْيَدَّخِرْ مِنْهَا مَا شَاءَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو عَاصِمٍ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلاَ يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ"; فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ قَالَ: "كُلُوا , وَأَطْعِمُوا, وَادَّخِرُوا, فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَتْ لَهُ سَمِعْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ: إنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَحْمِلُونَ فِيهَا الْوَدَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا ذَاكَ" قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ قَالَ عليه السلام: "بَعْدُ كُلُوا, وَادَّخِرُوا, وَتَصَدَّقُوا" . فَهَذِهِ أَوَامِرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ نَدْبٌ فَقَدْ كَذَبَ, وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ وَيَكْفِيه أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَمْ يَحْمِلُوا نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ يُصْبِحَ فِي بُيُوتِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثٍ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ عَلَى الْفَرْضِ وَلَمْ يُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِلاَّ بَعْدَ إذْنِهِ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ, قَالَ عليه السلام: "إذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَاتْرُكُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَعَمَّ عليه السلام بِالإِطْعَامِ فَجَائِزٌ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ كُلَّ آكِلٍ, إذْ لَوْ حُرِّمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ عليه السلام {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} , {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَادِّخَارُ سَاعَةٍ فَصَاعِدًا يُسَمَّى ادِّخَارًا. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يَسْتَخْرِجُ بِعَقْلِهِ الْقَاصِرِ وَرَأْيِهِ الْفَاسِدِ عِلَلاً لأََوَامِر اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ عليه السلام لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهَا إِلاَّ دَعْوَاهُ الْكَاذِبَةُ, ثُمَّ يَأْتِي إلَى حُكْمٍ جَعَلَهُ عليه السلام مُوجِبًا لِحُكْمٍ آخَرَ فَلاَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ, وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَهْدَ الْحَالَّ بِالنَّاسِ

(7/383)


مُوجِبًا لِئَلَّا يَبْقَى عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ شَيْءٌ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ثُلُثًا وَنَتَصَدَّقَ بِثُلُثِهَا وَنُطْعِمَ الْجِيرَانَ ثُلُثَهَا. فَطَلْحَةُ مَشْهُورٌ بِالْكَذِبِ الْفَاضِحِ, وَعَطَاءٌ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلاَ وُلِدَ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ مُسَارِعِينَ إلَيْهِ, لَكِنْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: أَمَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُرْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بَضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْجَهْمِ نَا أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نَا الْهَرَوِيُّ نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ. عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: سَافَرَ مَعِي تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَمَّا ذَبَحْنَا أُضْحِيَّتَهُ فَأَخَذَ مِنْهَا بَضْعَةً فَقَالَ: آكُلُهَا فَقُلْت لَهُ: وَمَا عَلَيْك أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا فَقَالَ تَمِيمٌ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} فَتَقُولُ أَنْتَ: وَمَا عَلَيْك أَنْ لاَ تَأْكُلَ.
قال أبو محمد: حَمَلَ هَذَا الأَمْرَ تَمِيمٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَسَعُ أَحَدًا سِوَاهُ, وَتَمِيمٌ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مَوْلًى لأََبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: إذَا ذَبَحْتُمْ أَضَاحِيكُمْ فَأَطْعِمُوا, وَكُلُوا, وَتَصَدَّقُوا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا نَحْوُ هَذَا وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ; وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَيْسَ لِصَاحِبِ الأُُضْحِيَّةِ إِلاَّ رُبُعُهَا. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي أَخِي أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، هُوَ ابْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فِي الضَّحِيَّةِ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ فَنَقْدَمُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: "لاَ تَأْكُلُوا إِلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ" وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لأََنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "لَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ" لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ مِنْ ظَنِّ بَعْضِ رُوَاةِ الْخَبَرِ, يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْخَبَرِ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ مَذْكُورٌ عَنْهُ فِي رِوَايَتِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ, وَقَدْ حَمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ عليه السلام عَلَى الْوُجُوبِ, وَابْنُ عُمَرَ كَمَا ذَكَرْنَا.

(7/384)


وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْت مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَصَلَّى لَنَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَلاَ تَأْكُلُوا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لاَ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَّتِهِ فَوْقَ ثَلاَثٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ كَانَ عَامَ حَصْرِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ أَلْجَأَتْهُمْ الْفِتْنَةُ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ فَأَمَرَ لِذَلِكَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَهِدَ النَّاسُ وَدَفَّتْ الدَّافَّةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/385)


986- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَبِيعَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بَعْدَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا شَيْئًا: لاَ جِلْدًا, وَلاَ صُوفًا, وَلاَ شَعْرًا, وَلاَ وَبَرًا, وَلاَ رِيشًا, وَلاَ شَحْمًا, وَلاَ لَحْمًا, وَلاَ عَظْمًا, وَلاَ غُضْرُوفًا, وَلاَ رَأْسًا, وَلاَ طَرَفًا, وَلاَ حَشْوَةً, وَلاَ أَنْ يُصْدِقَهُ, وَلاَ أَنْ يُؤَاجِرَ بِهِ, وَلاَ أَنْ يَبْتَاعَ بِهِ شَيْئًا أَصْلاً, لاَ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ, وَلاَ غِرْبَالاً, وَلاَ مُنْخُلاً, وَلاَ تَابِلاً، وَلاَ شَيْئًا أَصْلاً. وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِكُلِّ ذَلِكَ, وَيَتَوَطَّأَهُ, وَيَنْسَخَ فِي الْجِلْدِ, وَيَلْبَسَهُ, وَيَهَبَهُ وَيُهْدِيَهُ, فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِهِبَةٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ مِيرَاثٍ, فَلَهُ بَيْعُهُ حِينَئِذٍ إنْ شَاءَ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَزَّارَ عَلَى ذَبْحِهَا, أَوْ سَلْخِهَا شَيْئًا مِنْهَا, وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهَا, وَكُلُّ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا فُسِخَ أَبَدًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ صَهْبَانَ قُلْت لأَبْنِ عُمَرَ: أَبِيعُ جِلْدَ بَقَرٍ ضَحَّيْت بِهَا فَرَخَّصَ لِي. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْهَدْيُ وَاجِبًا يَتَصَدَّقُ بِإِهَابِهِ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا بَاعَهُ إنْ شَاءَ. وَقَالَ أَيْضًا: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ جِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ عَلَيْك دَيْنٌ. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ جُلُودِ الأَضَاحِيِّ فَقَالَ: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا، وَلاَ دِمَاؤُهَا} إنْ شِئْت فَبِعْ, وَإِنْ شِئْت فَأَمْسِكْ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ الأَضَاحِيِّ, نِعْمَ الْغَنِيمَةُ تَأْكُلُ اللَّحْمَ وَتَقْضِي النُّسُكَ, وَيُرْجَعُ إلَيْك بَعْضُ الثَّمَنِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى مِثْلِ هَذَا إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا أَنْ يُبَاعَ بِهِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ: صَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ جِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ

(7/385)


وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُبَدِّلَ بِجِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ بَعْضُ مَتَاعِ الْبَيْتِ وَ أَنَّهُ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ وَأَرْخَصَ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ الْغِرْبَالُ وَالْمُنْخُلُ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ, وَلَكِنْ يَبْتَاعُ بِهِ بَعْضُ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْغِرْبَالِ, وَالْمُنْخُلِ, وَالتَّابِلِ. قَالَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ: أَيَبْتَاعُ بِهِ الْخَلُّ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَقُلْت لَهُ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلِّ وَالْغِرْبَالِ قَالَ: فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِ بِهِ الْخَلَّ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَطَرِيفٌ جِدًّا, وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَابِلِ, الْكَمُّونِ, وَالْفُلْفُلِ, وَالْكُسْبُرَةِ, وَالْكَرَاوْيَا, وَالْغِرْبَالِ, وَالْمُنْخُلِ. وَبَيْنَ الْخَلِّ, وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ, وَالْفَأْسِ, وَالْمِسْحَاةِ, وَالثَّوْبِ, وَالْبُرِّ, وَالنَّبِيذِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ فِي ابْتِيَاعِ: التَّوَابِلِ, وَالْغِرْبَالِ, وَالْمَنَاخِلِ, مِنْ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ خِلاَفُ كُلِّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ فَقُلْت لأَبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِإِهَابِ الْبُدْنِ قَالَ: يُتَصَدَّقُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جِلْدِ الأُُضْحِيَّةِ سِقَاءً يُنْبَذُ فِيهِ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ مُصَلًّى يُصَلِّي فِيهِ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: انْتَفِعُوا بِمُسُوكِ الأَضَاحِيِّ، وَلاَ تَبِيعُوهَا. وَعَنْ طَاوُوس أَنَّهُ عَمِلَ مِنْ جِلْدِ عُنُقِ بَدَنَتِهِ نَعْلَيْنِ لِغُلاَمِهِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ لاَ يُعْطَى الْجَزَّارُ جِلْدَ الْبَدَنَةِ، وَلاَ يُبَاعُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ مُجَاهِدًا, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ كَرِهَا أَنْ يُبَاعَ جِلْدُ الْبَدَنَةِ تَطَوُّعًا كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً.
قال أبو محمد: لَيْسَ إِلاَّ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ جُمْلَةً أَوْ مَنْ أَبَاحَ جُمْلَةً فَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ جُمْلَةً بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}.
قال علي: هذا حَقٌّ إذْ لَمْ يَأْتِ مَا يَخُصُّهُ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَضَاحِيِّ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "كُلُوا, وَأَطْعِمُوا, وَتَصَدَّقُوا, وَادَّخِرُوا" فَلاَ يَحِلُّ تَعَدِّي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالأَدِّخَارُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْحَبْسِ, فَأُبِيحَ لَنَا احْتِبَاسُهَا وَالصَّدَقَةُ بِهَا, فَلَيْسَ لَنَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الأُُضْحِيَّةَ إذَا قُرِّبَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَخْرَجَهَا الْمُضَحِّي مِنْ مِلْكِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ لَهُ النَّصُّ, فَلَوْلاَ الأَمْرُ الْوَارِدُ بِالأَكْلِ

(7/386)


وَالأَدِّخَارِ مَا حُلَّ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, فَخَرَجَ هَذَانِ، عَنِ الْحَظْرِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْحَظْرِ. وَهُمْ يَقُولُونَ وَنَحْنُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ كَذَلِكَ أَنَّ لَهُ اسْتِخْدَامَهَا وَوَطْأَهَا وَعِتْقَهَا، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ بَيْعُهَا, وَلاَ إصْدَاقُهَا, وَلاَ الإِجَارَةُ بِهَا, وَلاَ تَمْلِيكُهَا غَيْرَهُ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَا وَقَعَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ فَيُفْسَخُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَأَمَّا مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ، عَنْ يَدِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدُ فَلَهُ فِيهِ مَا لَهُ فِي سَائِرِ مَالِهِ، وَلاَ فَرْقَ.

(7/387)


987- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ بِالأُُضْحِيَّةِ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ ضَحَّى بِهَا وَلَمْ يَكُنْ اشْتَرَطَ السَّلاَمَةَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَيَّةً صَحِيحَةً وَبَيْنَ قِيمَتِهَا مَعِيبَةً, وَذَلِكَ لأََنَّهُ كَانَ لَهُ الرَّدُّ أَوْ الإِمْسَاكُ, فَلَمَّا بَطَلَ الرَّدُّ بِخُرُوجِهَا بِالتَّضْحِيَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَكْلُ مَالِ أَخِيهِ بِالْخَدِيعَةِ وَالْبَاطِلِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَزَادَ عَلَى حَقِّهَا الَّذِي يُسَاوِيهِ, لأََنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ, إِلاَّ أَنْ يُحَلَّ لَهُ ذَلِكَ الْمُبْتَاعُ فَلَهُ ذَلِكَ, لأََنَّهُ حَقُّهُ تَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا مُتَقَصًّى فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} فَالْخَدِيعَةِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.

(7/387)


988- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ اشْتِرَاطَ السَّلاَمَةَ فَهِيَ مَيْتَةٌ وَيَضْمَنُ مِثْلَهَا لِلْبَائِعِ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ، وَلاَ تُؤْكَلُ لأََنَّ السَّالِمَةَ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ هِيَ غَيْرُ الْمَعِيبَةِ. فَمَنْ اشْتَرَى سَالِمَةً وَأَعْطَى مَعِيبَةً فَإِنَّمَا أَعْطَى غَيْرَ مَا اشْتَرَى, وَإِذَا أَعْطَى غَيْرَ مَا اشْتَرَى فَقَدْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ, وَمَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَالتَّرَاضِي لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْمَعْرِفَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ لاَ بِالْجَهْلِ بِهِ, فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْعَيْبَ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ, وَالرِّضَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي عَقْدِ الصَّفْقَةِ لاَ بَعْدَهُ. وَمَنْ ذَبَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَقَدْ تَعَدَّى, وَالتَّعَدِّي مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَظُلْمٌ, وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّكَاةِ فَهِيَ طَاعَةٌ لَهُ تَعَالَى, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْصِيَةٍ, فَالذَّبْحُ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَذَكَاةٌ, هُوَ غَيْرُ الذَّبْحِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ وَعُدْوَانٌ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إِلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا, لاَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْعُدْوَانِ; فَلَيْسَتْ ذَكِيَّةً فَهِيَ مَيْتَةٌ, وَمَنْ تَعَدَّى بِإِتْلاَفِ مَالِ أَخِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ, وَالصَّفْقَةُ فَاسِدَةٌ فَالثَّمَنُ مَرْدُودٌ. وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَقَدْ تَنَاقَضَ, إذْ حَرَّمَ أَكْلَ مَا ذُبِحَ مِنْ صَيْد

(7/387)


989- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لاَ تُؤْكَلُ, وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلِلْغَائِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِأَنْ يُضَحَّى عَنْهُ وَهُوَ حَسَنٌ, لأََنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ, فَإِنْ ضُحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا, فَلَوْ ضَحَّى، عَنِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا مِنْ مَالِهِمَا فَهُوَ حَسَنٌ, وَلَيْسَتْ مَيْتَةً, لأََنَّهُ النَّاظِرُ لَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ أَمْرِ نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/388)


كتاب ما يحل أكله وما يحرم أكله
باب ما يحل أكله وما يحرم أكله
لا يحل أكل شئ من الخنزير
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ
قال أبو محمد: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْخِنْزِيرِ, لاَ لَحْمِهِ, وَلاَ شَحْمِهِ, وَلاَ جِلْدِهِ, وَلاَ عَصَبِهِ, وَلاَ غُضْرُوفِهِ, وَلاَ حَشْوَتِهِ, وَلاَ مُخِّهِ, وَلاَ عَظْمِهِ, وَلاَ رَأْسِهِ, وَلاَ أَطْرَافِهِ, وَلاَ لَبَنِهِ, وَلاَ شَعْرِهِ الذَّكَرُ وَالأُُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ، وَلاَ يَحِلُّ الأَنْتِفَاعُ بِشَعْرِهِ لاَ فِي خَرَزٍ, وَلاَ فِي غَيْرِهِ. وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ، وَلاَ اسْتِعْمَالُهُ مَسْفُوحًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ إِلاَّ الْمِسْكُ وَحْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلاَ مَا قُتِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ الذَّكَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا, إِلاَّ الْجَرَادُ وَحْدَهُ, فَإِنْ خُنِقَ شَيْءٌ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ ضُرِبَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ, أَوْ سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ فَمَاتَ, أَوْ نَطَحَهُ حَيَوَانٌ آخَرُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ, وَلاَ مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ أَوْ حَيَوَانٌ آخَرُ حَاشَا الصَّيْدِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ أُدْرِكَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَيًّا فَذُكِّيَ فَهُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ. وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ حَيَوَانٍ ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ

(7/388)


989- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَا يَسْكُنُ جَوْفَ الْمَاءِ، وَلاَ يَعِيشُ إِلاَّ فِيهِ فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ كَيْفَمَا وُجِدَ, سَوَاءٌ أُخِذَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ أَوْ مَاتَ فِي الْمَاءِ, طَفَا أَوْ لَمْ يَطْفُ, أَوْ قَتَلَهُ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ أَوْ بَرِّيٌّ هُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ أَكْلُهُ. وَسَوَاءٌ خِنْزِيرُ الْمَاءِ, أَوْ إنْسَانُ الْمَاءِ, أَوْ كَلْبُ الْمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ: قَتَلَ كُلَّ ذَلِكَ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ أَحَدٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَقَالَ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَخَالَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا كُلَّهُ وَقَالُوا: يَحِلُّ أَكْلُ مَا مَاتَ مِنْ السَّمَكِ وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ مَا لَمْ يَطْفُ عَلَى الْمَاءِ مِمَّا مَاتَ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ خَاصَّةً, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا طَفَا مِنْهُ عَلَى الْمَاءِ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْمَاءِ إِلاَّ السَّمَكُ وَحْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ خِنْزِيرِ الْمَاءِ، وَلاَ إنْسَانِ الْمَاءِ, وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ جُمْلَةً وَالإِنْسَانِ وَهَذَا خِنْزِيرٌ وَإِنْسَانٌ, قَالُوا: فَإِنْ ضَرَبَهُ حُوتٌ فَقَتَلَهُ أَوْ ضَرَبَهُ طَائِرٌ فَقَتَلَهُ أَوْ ضَرَبَتْهُ صَخْرَةٌ فَقَتَلَتْهُ أَوْ صَادَهُ وَثَنِيٌّ فَقَتَلَهُ فَطَفَا بَعْدَ كُلِّ هَذَا فَهُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي سَمَكَةٍ مَيِّتَةٍ بَعْضُهَا فِي الْبَرِّ وَبَعْضُهَا فِي الْمَاءِ: إنْ كَانَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ خَارِجَ الْمَاءِ أُكِلَتْ وَإِنْ كَانَ الرَّأْسُ فِي الْمَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْبَرِّ مِنْ مُؤَخَّرِهَا النِّصْفَ فَأَقَلَّ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْبَرِّ مِنْ مُؤَخَّرِهَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ حَلَّ أَكْلُهَا.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ تُعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُمْ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ وَلِلسُّنَنِ وَلأََقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلِلْقِيَاسِ وَلِلْمَعْقُولِ لأََنَّهَا تَكْلِيفٌ مَا لاَ يُطَاقُ مِمَّا لاَ سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ هَلْ مَاتَتْ وَهِيَ طَافِيَةٌ فِيهِ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَطْفُوَ أَوْ مَاتَتْ مِنْ ضَرْبَةِ حُوتٍ أَوْ مِنْ صَخْرَةٍ مُنْهَدِمَةٍ أَوْ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَلاَ يَعْلَمُ هَذَا إِلاَّ اللَّهُ أَوْ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ الْحُوتِ, وَمَا نَدْرِي لَعَلَّ الْجِنَّ لاَ سَبِيلَ لَهَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَمْ يُمْكِنُهَا عِلْمُ ذَلِكَ لأََنَّ فِيهِمْ غَوَّاصِينَ بِلاَ شَكٍّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} ثُمَّ لاَ بُدَّ لِلسَّمَكَةِ الَّتِي شَرَّعَ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ السَّخِيفَةَ مِنْ مُذَرِّعٍ يُذَرِّعُ مَا مِنْهَا خَارِجَ الْمَاءِ وَمَا مِنْهَا دَاخِلَ الْمَاءِ ثُمَّ مَا يُدْرِيهِ الْبَائِسُ لَعَلَّهُ كَانَ أَكْثَرُهَا فِي الْمَاءِ, ثُمَّ أَدَارَتْهَا الأَمْوَاجُ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ

(7/393)


لِهَذِهِ الْحَمَاقَاتِ الَّتِي لاَ تُشْبِهُ إِلاَّ مَا يَتَطَايَبُ بِهِ الْمُجَّانُ لأَِضْحَاكِ سُخَفَاءِ الْمُلُوكِ, وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي الأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ فِي أَنَّهُ لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ الرَّضْعَتَانِ: هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَلاَ نَأْخُذُ بِهَا إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ, ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَزِيدُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُقُولِ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ. نَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ كَثِيرًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَالإِنْسَانَ وَهَذَا خِنْزِيرٌ وَإِنْسَانٌ, وَقَدْ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ بِهَذَا أَيْضًا خَاصَّةً: فَلَيْسَ خِنْزِيرًا، وَلاَ إنْسَانًا لأََنَّهَا إنَّمَا هِيَ تَسْمِيَةُ مَنْ لَيْسَ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَتْ التَّسْمِيَةُ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ لَكَانَ مَنْ شَاءَ أَنْ يُحِلَّ الْحَرَامَ أَحَلَّهُ بِأَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِ شَيْءٍ حَلاَلٍ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُحَرِّمَ الْحَلاَلَ حَرَّمَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَهُ بِاسْمِ شَيْءٍ حَرَامٍ, فَسَقَطَ قَوْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ سُقُوطًا لاَ مِرْيَةَ فِيهِ وَبَقِيَ قَوْلٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ فِي تَحْرِيمِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا طَفَا فَلاَ تَأْكُلُوهُ وَمَا كَانَ عَلَى حَافَتَيْهِ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إبْرَاهِيمُ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَا حَسِرَ الْمَاءُ، عَنْ ضِفَّتَيْ الْبَحْرِ فَكُلْ وَمَا مَاتَ فِيهِ طَافِيًا فَلاَ تَأْكُلْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ فُضَيْلٍ أَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ فَلاَ تَأْكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي أَجِدُ الْبَحْرَ وَقَدْ جَعَلَ سَمَكًا قَالَ: لاَ تَأْكُلْ مِنْهُ طَافِيًا. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا طَفَا مِنْ السَّمَكِ فَلاَ تَأْكُلْهُ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ كَرِهُوا الطَّافِيَ مِنْ السَّمَكِ, وَبِتَحْرِيمِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَرُوِيَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِيمَا فِي الْبَحْرِ مِمَّا عَدَا السَّمَكِ قَوْلاَنِ, أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُؤْكَلُ, وَالآخَرُ لاَ يُؤْكَلُ حَتَّى يُذْبَحَ, وَهَهُنَا قَوْلٌ آخَرُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ قَالَ: نَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الْمَجُوسِ لِلسَّمَكِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذَكَاةُ الْحُوتِ فَكُّ لَحْيَيْهِ.==

 

الكتاب :6. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

قال أبو محمد: أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ وَتَقْسِيمُ أَحَدِ قَوْلَيْ الثَّوْرِيِّ فَيُبْطِلُهَا كُلَّهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نَا أَبُو خَيْثَمَةَ هُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً, قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَقُلْت لِجَابِرٍ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا قَالَ: نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلَى اللَّيْلِ وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ فَنَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ, ثُمَّ قَالَ: لاَ بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلاَثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنَيْهِ بِالْقِلاَلِ الدُّهْنَ وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلاَعِهِ فَأَقَامَهَا, ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ, فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَهُ.
قال أبو محمد: فَهَذَا لَيْسَ مِنْ السَّمَكِ بَلْ هُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ مَنْ ذَكَرْنَا وَلَيْسَ مِمَّا فُكَّتْ لَحْيَاه بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، عَنْ جَابِرٍ لِسَمَاعِ أَبِي الزُّبَيْرِ إيَّاهُ مِنْهُ, وَهَذَا بَيِّنٌ فِيهِ لِقَوْلِهِ لِجَابِرٍ فِي التَّمْرَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا وَإِذْ مَيْتَةُ الْبَحْرِ حَلاَلٌ فَصَيْدُ الْوَثَنِيِّ وَغَيْرِهِ لَهُ سَوَاءٌ لأََنَّهُ لاَ يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ إنَّمَا ذَكَاتُهُ مَوْتُهُ فَقَطْ, وَأَمَّا مَنْ حَرَّمَ الطَّافِيَ جُمْلَةً فَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ، عَنْ جَابِرٍ لاَ تَصِحُّ لأََنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ وَهُوَ مَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فَمُدَلَّسٌ عَنْهُ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَهِيَ، عَنْ عَلِيٍّ لاَ تَصِحُّ لأََنَّ ابْنَ

(7/395)


فُضَيْلٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَطِهِ, وَهِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ أَجْلَحَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنَّهُ صَحِيحٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ نَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا فَلاَ تَأْكُلُوهُ" وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ وَنُعَيْمِ بْنِ الْمُجْمِرِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُوا مَا حَسِرَ عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَى وَمَا وَجَدْتُمُوهُ طَافِيًا مِنْ السَّمَكِ فَلاَ تَأْكُلُوهُ".
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لأََنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَلَوْ صَحَّ لَمَا تَرَدَّدْنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فِي الْقَوْلِ بِهِ إِلاَّ أَنَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ لَوْ صَحَّ حُجَّةٌ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ وَلِكُلِّ مَا رُوِّينَا فِي ذَلِكَ، عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ لأََنَّهُمْ يُبِيحُونَ بَعْضَ الطَّافِي إذَا مَاتَ مِنْ عَارِضٍ عَرَضَ لَهُ لاَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَيُحَرِّمُونَ كَثِيرًا مِمَّا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ فَخَالَفُوا الْخَبَرَ فِي مَوْضِعَيْنِ, وَكَذَلِكَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا شَيْءٌ, وَأَمَّا ضَعْفُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, فَأَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَالآخَرُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَمَاعًا. نَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي نَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّخِيلُ نَا أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ قَالَ زَكَرِيَّا: نَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ, ثُمَّ اتَّفَقَ أَحْمَدُ وَالْحَسَنُ قَالاَ جَمِيعًا: نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ نَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: جِئْت أَبَا الزُّبَيْرِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابَيْنِ فَقُلْت لَهُ: هَذَا كُلُّهُ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ فَقَالَ: مِنْهُ مَا سَمِعْت مِنْهُ, وَمِنْهُ مَا حَدَّثْت عَنْهُ فَقُلْت: أَعْلِمْ لِي عَلَى مَا سَمِعْت فَأَعْلَمَ لِي عَلَى هَذَا الَّذِي عِنْدِي.
قال أبو محمد: فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَلاَ قَالَ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ جَابِرٌ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ بِإِقْرَارِهِ، وَلاَ نَدْرِي عَمَّنْ أَخَذَهُ فَلاَ يَجُوزُ الأَحْتِجَاجُ

(7/396)


بِهِ, وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ فَسَقَطَ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى بَيَانِهِ لَنَا. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ قَوْلنَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلاَلٌ لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا. نَا حُمَامُ نَا الْبَاجِيَّ نَا ابْنُ أَيْمَنَ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُسْلِمٍ نَا أَبُو ثَوْرٍ نَا مُعَلَّى نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: السَّمَكُ كُلُّهُ ذَكِيٌّ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: طَعَامُ الْبَحْرِ كُلْ مَا فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْحِيتَانُ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌْ} فَسَمَّى مَا يَلْتَقِمُ الإِنْسَانَ فِي بَلْعَةٍ وَاحِدَةٍ حُوتًا. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي أَحَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ, وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِإِبَاحَتِهِ، وَلاَ يُعْلَمُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى الطَّلْحِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنِ الْحِيتَانِ وَالْجَرَادِ فَقَالَ: الْحِيتَانُ وَالْجَرَادُ ذَكِيٌّ ذَكَاتُهُمَا صَيْدُهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَكَلَ سَمَكَةً طَافِيَةً. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ نَا مُعَلَّى نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ نَا أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ سَأَلَ، عَنْ سَمَكَةٍ طَافِيَةٍ فَقَالَ: كُلْ وَأَطْعِمْنِي. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ الْكَلاَعِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَدْرَكْت سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُونَ صَيْدَ الْمَجُوسِ مِنْ الْحِيتَانِ لاَ يَخْتَلِجُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي صُدُورِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ صَيْدَهُ ذَكَاتَهُ, وَبِأَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ يَقُولُ ابْنُ أَبِي

(7/397)


لَيْلَى وَالأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَطْفُو الْحُوتُ أَصْلاً إِلاَّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقَارِبَ الْمَوْتَ فَإِذَا مَاتَ طَفَا ضَرُورَةً، وَلاَ بُدَّ, فَتَخْصِيصُهُمْ الطَّافِيَ بِالْمَنْعِ وَإِبَاحَتُهُمْ مَا مَاتَ فِي الْمَاءِ تَنَاقُضٌ.

(7/398)


990- مسألة: وأما ما يعيش في الماء وفي البر فلا يحل أكله الا بذكاة كالسلحفاة والباليمرين وكلب الماء والسمور ونحو ذلك لانه من صيد البر ودوابه وان قتله المحرم جزاه وأما الضفدع فلا يحل أكله اصلا لما ذكرنا في كتاب الحج من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبحها فأغنى عن إعادته.

(7/398)


991- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ حَيَوَانٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ مَا دَامَ حَيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ فَحَرَّمَ عَلَيْنَا أَكْلَ مَا لَمْ نُذَكِّ, وَالْحَيُّ لَمْ يُذَكَّ بَعْدُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ذُبِحَ حَيَوَانٌ أَوْ نُحِرَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ حُكْمَ الْبَدَنِ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ, فَلاَ يَحِلُّ بَلْعُ جَرَادَةٍ حَيَّةٍ, وَلاَ بَلْعُ سَمَكَةٍ حَيَّةٍ, مَعَ أَنَّهُ تَعْذِيبٌ, وَقَدْ نُهِيَ، عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الْفُرَافِصَةِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إنَّ الذَّكَاةَ: الْحَلْقُ وَاللَّبَّةُ لِمَنْ قَدَرَ, وَذَرُوا الأَنْفُسَ حَتَّى تُزْهَقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/398)


992- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ بِفَتْلِ عُنُقٍ, وَلاَ بِشَدْخٍ, وَلاَ بِغَمٍّ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَلَيْسَ هَذَا ذَكَاةً.

(7/398)


993- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْعَذِرَةِ, وَلاَ الرَّجِيعِ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ أَبْوَالِ الْخُيُولِ, وَلاَ الْقَيْءِ, وَلاَ لُحُومِ النَّاسِ وَلَوْ ذُبِحُوا، وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْ الإِنْسَانِ إِلاَّ اللَّبَنَ وَحْدَهُ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ السِّبَاعِ ذَوَاتِ الأَنْيَابِ, وَلاَ أَكْلُ الْكَلْبِ, وَالْهِرِّ الإِنْسِيُّ وَالْبَرِّيُّ سَوَاءٌ، وَلاَ الثَّعْلَبِ, حَاشَا الضَّبُعِ وَحْدَهَا, فَهِيَ حَلاَلٌ أَكْلُهَا, وَلَوْ أَمْكَنَتْ ذَكَاةُ الْفِيلِ لَحَلَّ أَكْلُهُ أَمَّا الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ فَ. لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ، عَنِ الصَّلاَةِ وَهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ, وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ قَوْلَهُ عليه السلام: "َأكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ

(7/398)


994- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَّاتِ، وَلاَ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ مِنْ الطَّيْرِ وَهِيَ الَّتِي تَصِيدُ الصَّيْدَ بِمَخَالِبِهَا, وَلاَ الْعَقَارِبِ, وَلاَ الْفِئْرَانِ، وَلاَ الْحِدَاءِ, وَلاَ الْغُرَابِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ عليه السلام يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ, وَالْفَأْرَةِ, وَالْعَقْرَبِ, وَالْحُدَيَّا, وَالْغُرَابِ, وَالْحَيَّةِ, قَالَ: وَفِي الصَّلاَةِ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ نَا إسْمَاعِيلُ وَهُوَ عِنْدَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا عِنْدَ هَدْمٍ لَهُ رَأَى وَبِيصَ جَانٍّ فَقَالَ: اُقْتُلُوا فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيُّ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ قَتْلِ الْجِنَّانِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ إِلاَّ الأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا اللَّذَانِ يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ وَيَتْبَعَانِ مَا فِي بُطُونِ النِّسَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ صَيْفِي، هُوَ ابْنُ أَفْلَحَ أَخْبَرَنِي أَبُو السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ" . فَكُلُّ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِهِ فَلاَ ذَكَاةَ لَهُ, لأََنَّهُ عليه السلام نَهَى، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ, وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ شَيْءٍ يُؤْكَلُ, وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ قَوْلَهُ عليه السلام: خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فَذَكَرَ الْعَقْرَبَ, وَالْفَأْرَةَ, وَالْحِدَأَةَ, وَالْغُرَابَ, وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ. فَصَحَّ أَنَّ فِيهَا فِسْقًا, وَالْفِسْقُ مُحَرَّمٌ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. فَلَوْ ذُبِحَ مَا فِيهِ فِسْقٌ لَكَانَ مِمَّا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ; لأََنَّ ذَبْحَ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ

(7/403)


مَعْصِيَةٌ, وَالْمَعْصِيَةُ قَصْدٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ: رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهَا.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ قَتَلَ حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا قَتَلَ كَافِرًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ نَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ نَا أَبِي نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إنِّي لاََعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ, وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِهِ وَسَمَّاهُ فَاسِقًا, وَاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسِقًا, وَاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ الطَّيِّبَاتِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَنْ يَأْكُلُ الْغُرَابَ وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَرِهَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَكْلَ الْحِدَاءِ وَالْغُرَابِ حَيْثُ سَمَّاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَوَاسِقِ الدَّوَابِّ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ وَتَرْمِي الْغُرَابَ، وَلاَ تَقْتُلْهُ قلنا: رَوَاهُ مَنْ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَضْعِيفَهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَحَرَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ الْغُرَابَ الأَبْقَعَ, وَلَمْ يُحَرِّمْ الأَسْوَدَ; وَاحْتَجَّ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ ذَكَرَ الْغُرَابَ الأَبْقَعَ.
قال أبو محمد: الأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا عُمُومُ ذِكْرِ الْغُرَابِ هُوَ الزَّائِدُ حُكْمًا لَيْسَ فِي الَّذِي فِيهِ تَخْصِيصُ الأَبْقَعِ, وَمَنْ قَالَ: إنَّمَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: "الْغُرَابُ" الْغُرَابَ الأَبْقَعَ خَاصَّةً; لأََنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْغُرَابَ الأَبْقَعَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: فَقَدْ كَذَبَ, إذْ قَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ عليه السلام بِقَتْلِ الأَبْقَعِ فِي خَبَرٍ, وَبِقَتْلِ الْغُرَابِ جُمْلَةً فِي خَبَرٍ آخَرَ, وَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ. وَتَرَدَّدَ الْمَالِكِيُّونَ فِي هَذِهِ الدَّوَابِّ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ فَمَا يَمْتَرِي ذُو فَهْمٍ فِي أَنَّهُنَّ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَأَمَّا الْفِئْرَانُ فَمَا زَالَ جَمِيعُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ يَتَّخِذُونَ لَهَا الْقِطَاطَ, وَالْمَصَائِدَ الْقَتَّالَةَ, وَيَرْمُونَهَا مَقْتُولَةً عَلَى الْمَزَابِلِ, فَلَوْ كَانَ أَكْلُهَا حَلاَلاً لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي, وَمِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَبَاحُوا أَكْلَ الْحَيَّاتِ الْمُذَكَّاةِ, وَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِّيَ مِنْ قَفَاهُ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى تَذْكِيَةِ الْحَيَّاتِ إِلاَّ مِنْ أَقْفَائِهَا.
قال أبو محمد: وَهِيَ وَالْخَمْرُ تَقَعُ فِي التِّرْيَاقِ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاوِي, لأََنَّ الْمُتَدَاوِيَ مُضْطَرٌّ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.
وَأَمَّا ذَوَاتُ الْمَخَالِبِ مِنْ الطَّيْرِ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ أَحْمَدُ: نَا هُشَيْمٌ أَنَّ أَبَا بِشْرٍ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي وَحْشِيَّةَ أَخْبَرَهُ, وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: نَا أَبِي نَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَكَمُ, وَأَبُو بِشْرٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(7/404)


صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَلاَلٍ: وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ, وَأَحْمَدُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ. وَأَبَاحَ الْمَالِكِيُّونَ أَكْلَ سِبَاعِ الطَّيْرِ, وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ ابْتَلاَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْلِيدِهِ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَمْ يَسْمَعْهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَشَارَ إلَى خَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجَحْدَرِيُّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ.
قال أبو محمد: أَرَادَ هَذَا النَّاقِضُ أَنْ يَحْتَجَّ لِنَفْسِهِ فَدَفَنَهَا, وَأَرَادَ أَنْ يُوهِنَ الْخَبَرَ فَزَادَهُ قُوَّةً, لأََنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ هُوَ النَّجْمُ الطَّالِعُ ثِقَةً وَإِمَامَةً وَأَمَانَةً, فَكَيْفَ وَشُعْبَةُ, وَهُشَيْمٌ, وَالْحَكَمُ, وَأَبُو بِشْرٍ, كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَعْدِلُ بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِعَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ أَنْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يُسَمَّى ذَا مِخْلَبٍ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلاَّ الصَّائِدَ بِمِخْلَبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الدِّيكُ, وَالْعَصَافِيرُ, وَالزُّرْزُورُ, وَالْحَمَامُ, وَمَا لَمْ يَصِدْ, فَلاَ يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهَا ذَا مِخْلَبٍ فِي اللُّغَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/405)


995- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَلَزُونِ الْبَرِّيِّ, وَلاَ شَيْءٍ مِنْ الْحَشَرَاتِ كُلِّهَا كَالْوَزَغِ وَالْخَنَافِسِ, وَالنَّمْلِ, وَالنَّحْلِ, وَالذُّبَابِ, وَالدُّبْرِ, وَالدُّودِ كُلِّهِ طَيَّارَةٍ وَغَيْرِ طَيَّارَةٍ وَالْقَمْلِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَالْبَقِّ, وَالْبَعُوضِ وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} . وَقَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} . وَقَدْ صَحَّ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ أَوْ الصَّدْرِ, فَمَا لَمْ يُقْدَرْ فِيهِ عَلَى ذَكَاةٍ فَلاَ سَبِيلَ إلَى أَكْلِهِ: فَهُوَ حَرَامٌ, لأَمْتِنَاعِ أَكْلِهِ إِلاَّ مَيْتَةً غَيْرَ مُذَكًّى.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ مُبَاحٌ قَتْلُهُ: كَالْوَزَغِ, وَالْخَنَافِسِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَالْبَقِّ, وَالدُّبْرِ; وَقِسْمٌ مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ: كَالنَّمْلِ, وَالنَّحْلِ, فَالْمُبَاحُ قَتْلُهُ لاَ ذَكَاةَ فِيهِ, لأََنَّ قَتْلَ مَا تَجُوزُ فِيهِ الذَّكَاةُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ, وَمَا لاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ لاَ تَجُوزُ فِيهِ الذَّكَاةُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ: كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَلاَ ذَكَاةَ فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ عِنْدَ كُلِّ ذِي نَفْسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا قُتَيْبَةُ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ نَا عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنِ مَوْلَى بَنِي

(7/405)


زُرَيْقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَمَرَ عليه السلام بِطَرْحِهِ وَلَوْ كَانَ حَلاَلاً أَكْلُهُ مَا أَمَرَ بِطَرْحِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّحْلَةُ, وَالنَّمْلَةُ, وَالْهُدْهُدُ, وَالصُّرَدُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا.
قال أبو محمد: هَذَا يَقْضِي عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا فَأَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ لأََنَّ شَرِيعَةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم نَاسِخَةٌ لِكُلِّ دِينٍ سَلَفَ, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَتْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِلْقِرْدَانِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَتْلُ الأَوْزَاغِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ نَهَى، عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخِيفُوا الْهَوَامَّ قَبْلَ أَنْ تُخِيفَكُمْ. فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ حَدِيثَ غَالِبِ بْنِ حُجْرَةَ، عَنِ الْمِلْقَامِ بْنِ التَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أَسْمَعْ لِلْحَشَرَاتِ تَحْرِيمًا فَغَالِبُ بْنُ حُجْرَةَ, وَالْمِلْقَامُ مَجْهُولاَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ, لأََنَّهُ لَيْسَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ حُجَّةً عَلَى مَا قَامَ بِهِ بُرْهَانُ النَّصِّ.

(7/406)


996- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ تَوَحَّشَتْ أَوْ لَمْ تَتَوَحَّشْ, وَحَلاَلٌ أَكْلُ حُمُرِ الْوَحْشِ تَأَنَّسَتْ أَوْ لَمْ تَتَأَنَّسْ, وَحَلاَلٌ أَكْلُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ, فَأُكْفِئَتْ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. فَصَحَّ أَنَّهَا كُلَّهَا رِجْسٌ, وَإِهْرَاقُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْقُدُورَ بِهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ أَنَّ وَدَكَهَا وَشَحْمَهَا وَعَظْمَهَا وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا حَرَامٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ،

(7/406)


عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ. وَرُوِّينَا تَحْرِيمَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ, وَالْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ: وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, وَابْنِ عُمَرَ بِأَسَانِيدَ كَالشَّمْسِ. وَعَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ كَمَا ذَكَرْنَا, فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَيَأْمُرُ بِلُحُومِ الْخَيْلِ. وَقَدْ رُوِّينَا النَّهْيَ عَنْهَا، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ أَحَدِ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي لُحُومِ الْحُمُرِ قَالَ: هِيَ حَرَامٌ أَلْبَتَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَنَحَا نَحْوَهُ مَالِكٌ, فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَبَاحَهَا قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِيهَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ نَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ نَا أُبَيٌّ نَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ عَامِرِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ أَدْرِي أَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ حَمُولَةَ النَّاسِ فَكَرِهَ أَنْ تَذْهَبَ حَمُولَتُهُمْ, أَوْ حَرَّمَهُ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ لَحْمَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَهَذَا ظَنٌّ مِنْهُ, وَوَهْلَةٌ لأََنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَرِّمْهَا عليه السلام جُمْلَةً لَبَيَّنَ وَجْهَ نَهْيِهِ عَنْهَا, وَلَمْ يَدَعْ النَّاسَ إلَى الْحِيرَةِ; فَكَيْفَ وَقَوْلُهُ عليه السلام فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَيَبْطُلُ كُلُّ ظَنٍّ وَلَقَدْ كَانُوا إلَى الْخَيْلِ بِلاَ شَكٍّ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى الْحُمُرِ, فَمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى نَهْيٍ عَنْهَا; بَلْ أَبَاحَ أَكْلَهَا وَذَكَاتَهَا, إذْ كَانَتْ حَلاَلاً, وَبِذَلِكَ أَيْضًا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّمَا نَهَى عَنْهَا لأََنَّهَا لَمْ تُخَمَّسْ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ لأََنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَظَنٌّ كَاذِبٌ أَيْضًا بِلاَ بُرْهَانٍ, وَالدَّجَاجُ آكَلُ مِنْهَا لِلْعَذِرَةِ وَهِيَ حَلاَلٌ. فَإِنْ ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ احْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا} الآيَةَ قلنا: لَمْ يَبْلُغْهَا التَّحْرِيمُ وَلَوْ بَلَغَهَا لَقَالَتْ بِهِ, كَمَا فَعَلَتْ فِي الْغُرَابِ, وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الآيَةِ. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام فِي لُحُومِ الْحُمُرِ أَطْعِمْ أَهْلَكَ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ, فَإِنَّمَا كَرِهْتُ لَكُمْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ, أَلَيْسَ تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَتَرْعَى الْفَلاَةَ فَأَصِدْ مِنْهَا. فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ, لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ بِشْرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ, وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُوَيْمٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَوْ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ غَالِبِ

(7/407)


ابْنِ ديج، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَمِنْ طَرِيقِ سَلْمَى بِنْتِ النَّضْرِ الْخِضْرِيَّةِ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هِيَ. وَأَمَّا حُمُرُ الْوَحْشِ: فَكَمَا ذَكَرْنَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْلِيلَهَا. وقال مالك: إنْ دَجَنَ لَمْ يُؤْكَلْ وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ; فَهُوَ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلاَ يَصِيرُ الْوَحْشِيُّ مِنْ جِنْسِ الأَهْلِيِّ حَرَامًا بِالدُّجُونِ, وَلاَ يَصِيرُ الأَهْلِيُّ مِنْ جِنْسِ الْوَحْشِيِّ حَلاَلاً بِالتَّوَحُّشِ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ, وَالْخَيْلُ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ, وَالْحَمِيرِ, وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَحَرَّمَ الْمُجَثَّمَةَ. وَخَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَلَمْ يَنْهَنَا، عَنِ الْخَيْلِ. وَذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}. قَالُوا: فَذَكَرَ فِي الأَنْعَامِ الأَكْلَ, وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْخَيْلِ, وَالْبِغَالِ, وَالْحَمِيرِ. وَقَالُوا: الْبَغْلُ وَلَدُ الْحِمَارِ فَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْحَرَامِ حَرَامٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ فأما الأَخْبَارُ فَلاَ يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا: أَمَّا حَدِيثُ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ فَهَالِكٌ لأََنَّهُمْ مَجْهُولُونَ كُلُّهُمْ, ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ الْوَضْعِ, لأََنَّ فِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: غَزَوْت مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَهَذَا بَاطِلٌ; لأََنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ خَالِدٌ إِلاَّ بَعْدَ خَيْبَرَ بِلاَ خِلاَفٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ, فَعِكْرِمَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِهِ خَبَرًا مَوْضُوعًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ يُتَّهَمُ غَيْرَهُ: فأما أُدْخِلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْبَهُ لَهُ, وَأَمَّا الْبَلِيَّةُ مِنْ قَبَلِهِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ الإِيصَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ; وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِهِ، عَنْ جَابِرٍ, وَلاَ ذَكَرَ فِيهِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ فَصَحَّ مُنْقَطِعًا. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبِغَالَ وَقَدْ صَحَّ قَبْلُ، عَنْ جَابِرٍ إبَاحَةُ الْخَيْلِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الآيَةُ: فَلاَ ذِكْرَ فِيهَا لِلأَكْلِ لاَ بِإِبَاحَةٍ، وَلاَ بِتَحْرِيمٍ, فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا, وَلاَ ذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا الْبَيْعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمُوهُ لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الآيَةِ, وَإِبَاحَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهَا حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ

(7/408)


أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ, وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ, وَسُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, وَمَعْمَرٍ, وَأَبِي مُعَاوِيَةَ, وَأَبِي أُسَامَةَ, كُلُّهُمْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَعِيدِ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ لَحْمِ الْفَرَسِ فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ سَلَفُك يَأْكُلُونَهُ قُلْتُ: أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ أَدْرَكَ عَطَاءٌ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ مِنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ دُونَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: ذَبَحَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَسًا, قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: فَاقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ; وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ: فَأَكَلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: أُهْدِيَ لِلأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ لَحْمُ فَرَسٍ فَأَكَلَ مِنْهُ وبه إلى هُشَيْمٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا أَكَلْتُ لَحْمًا أَطْيَبَ مِنْ مَعْرَفَةِ بِرْذَوْنٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ لَحْمِ الْفَرَسِ, وَالْبَغْلِ, وَالْبِرْذَوْنِ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُهُ حَرَامًا، وَلاَ يُفْتِي أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَكْلِهِ.
قال أبو محمد: لَمْ يُحَرِّمْ الزُّهْرِيُّ الْبَغْلَ, وَأَمَّا فُتْيَا الْعُلَمَاءِ بِأَكْلِ الْفَرَسِ فَتَكَادُ أَنْ تَكُونَ إجْمَاعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةَ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ إِلاَّ رِوَايَةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ; لأََنَّهُ، عَنْ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَلْقَمَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُهُ فَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَلَوْ صَحَّ عِنْدَنَا فِي الْبَغْلِ نَهْيٌ لَقُلْنَا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَغْلَ وَلَدُ الْحِمَارِ, وَمُتَوَلِّدٌ مِنْهُ, فَإِنَّ الْبَغْلَ مُذْ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَهُوَ غَيْرُ الْحِمَارِ, وَلاَ يُسَمَّى حِمَارًا, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحِمَارِ, لأََنَّ النَّصَّ إنَّمَا جَاءَ بِتَحْرِيمِ الْحِمَارِ, وَالْبَغْلُ لَيْسَ حِمَارًا، وَلاَ جُزْءًا مِنْ الْحِمَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ: الْحِمَارُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ, وَالْفَرَسُ, وَالْبَغْلُ مِثْلُهُ, لأََنَّهُمَا ذَوَا حَافِرٍ مِثْلُهُ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْخَفِ قِيَاسٍ فِي الأَرْضِ, لأََنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَنْ عَارَضَك فَقَالَ: قَدْ صَحَّ تَحْلِيلُ الْفَرَسِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ, وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ ذَوَا حَافِرٍ مِثْلُهُ, فَهُمَا حَلاَلٌ; فَهَلْ أَنْتُمَا فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا فَرَسَا رِهَانٍ أَوْ مَنْ قَالَ لَك: حِمَارٌ وَحْشٌ حَلاَلٌ بِإِجْمَاعٍ وَهُوَ ذُو حَافِرٍ, فَالْفَرَسُ, وَالْبَغْلُ مِثْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ, بَلْ حِمَارُ الْوَحْشِ, وَالْفَرَسِ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْلِيلِهِمَا, وَالْحِمَارُ الأَهْلِيُّ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ, فَلاَ يَجُوزُ مُخَالَفَةُ النُّصُوصِ.
وَأَمَّا الْبَغْلُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسِ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} . فَالْبَغْلُ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لأََنَّهُ لَمْ يُفَصَّلْ

(7/409)


تَحْرِيمُهُ، وَلاَ يَحِلُّ مِنْ الْحِمَارِ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ النَّصُّ مِنْ مِلْكِهِ, وَبَيْعِهِ, وَابْتِيَاعِهِ, وَرُكُوبِهِ, فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(7/410)


997- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُ لَحْمِهِ فَحَرَامٌ بَيْعُهُ وَلَبَنُهُ, لأََنَّهُ بَعْضُهُ وَمَنْسُوبٌ إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إِلاَّ أَلْبَانَ النِّسَاءِ فَهِيَ حَلاَلٌ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَيُقَالُ: لَبَنُ الأَتَانِ, وَلَبَنُ الْخِنْزِيرِ, وَبَيْضُ الْغُرَابِ, وَبَيْضُ الْحَيَّةِ, وَبَيْضُ الْحِدَأَةِ كَمَا يُقَالُ يَدُ الْخِنْزِيرِ, وَرَأْسُ الْحِمَارِ, وَجَنَاحُ الْغُرَابِ, وَزِمِكَّى الْحِدَأَةِ، وَلاَ فَرْقَ.

(7/410)


998- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْهُدْهُدِ, وَلاَ الصُّرَدِ, وَلاَ الضِّفْدَعِ, لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا, كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.

(7/410)


999- مَسْأَلَةٌ: وَالسُّلَحْفَاةُ الْبَرِّيَّةُ وَالْبَحْرِيَّةُ حَلاَلٌ أَكْلُهَا, وَأَكْلُ بَيْضِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا مَعَ قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ السُّلَحْفَاةِ, فَهِيَ حَلاَلٌ كُلُّهَا وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ النُّسُورُ, وَالرَّخَمُ, والبلزج, وَالْقَنَافِذُ, وَالْيَرْبُوعُ, وَأُمُّ حَبِينٍ وَالْوَبْرُ, وَالسَّرَطَانُ, وَالْجَرَاذِينُ, وَالْوَرَلُ, وَالطَّيْرُ كُلُّهُ, وَكُلُّ مَا أَمْكَنَ أَنْ يُذَكَّى مِمَّا لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ. وَكَذَلِكَ الْخُفَّاشُ, وَالْوَطْوَاطُ, وَالْخَطَّافُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةَ أَكْلِ السُّلَحْفَاةِ, وَالسَّرَطَانِ. وَعَنْ طَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ: إبَاحَةُ أَكْلِ السُّلَحْفَاةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَى الْمُحْرِمَ، عَنْ قَتْلِ الرَّخَمَةِ وَجَعَلَ فِيهَا الْجَزَاءَ, فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: الْقُنْفُذُ خَبِيثٌ مِنْ الْخَبَائِثِ فَهُوَ، عَنْ شَيْخٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمَّ وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ, وَمَا خَالَفْنَاهُ.

(7/410)


1000- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ, وَلاَ شُرْبُ أَلْبَانِهَا, وَلاَ مَا تَصَرُّفُ مِنْهَا; لأََنَّهُ مِنْهَا وَبَعْضُهَا, وَلاَ يَحِلُّ رُكُوبُهَا, وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ مِنْ الإِبِلِ وَغَيْرِ الإِبِلِ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ خَاصَّةً. وَلاَ يُسَمَّى الدَّجَاجُ, وَلاَ الطَّيْرُ: جَلَّالَةً, وَإِنْ كَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ فَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا أَكَلَهَا فَانْقَطَعَ عَنْهَا الأَسْمُ حَلَّ أَكْلُهَا, وَأَلْبَانُهَا, وَرُكُوبُهَا. لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(7/410)


1001- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ مَا سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَرِّبًا بِتِلْكَ الذَّكَاةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى مَعَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ وَكَذَلِكَ مَا ذُكِّيَ مِنْ الصَّيْدِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَلَوْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى الْمَسِيحِ, أَوْ قَالَ عَلَى مُحَمَّدٍ, أَوْ ذَكَرَ سَائِرَ الأَنْبِيَاءِ, فَهُوَ حَلاَلٌ; لأََنَّهُ لَمْ يُهِلَّ بِهِ لَهُمْ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَسَوَاءٌ ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, أَوْ لَمْ يُذْكَرْ هُوَ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ ذَبَحَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ. وَقَالَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ: قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ: وَهَذَا لَيْسَ حُجَّةً فِي إبَاحَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى, لأََنَّ الَّذِي أَبَاحَ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ; وَعَلِمَ مَا يَقُولُونَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُحَرِّمُ عَلَيْنَا مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ, فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لأََمْرٍ آخَرَ, وَلاَ بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمَا جَمِيعًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ بِاسْتِثْنَاءِ الأَقَلِّ مِنْ الأَعَمِّ.
وَرُوِيَتْ فِي هَذَا رِوَايَاتٌ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي أُمَامَةَ, كُلُّهَا، عَنْ مَجَاهِيلَ, أَوْ، عَنْ كَذَّابٍ, أَوْ، عَنْ ضَعِيفٍ; وَلَكِنَّهُ صَحِيحٌ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَمَّا ذُبِحَ لِعِيدِ النَّصَارَى فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَّا مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَلاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذُبِحَ لِلْكَنِيسَةِ فَلاَ تَأْكُلْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا سَمِعْت النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: بِاسْمِ الْمَسِيحِ, فَلاَ تَأْكُلْ, وَإِذَا لَمْ تَسْمَعْ فَكُلْ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي ذَبِيحَةِ

(7/411)


النَّصْرَانِيِّ إذَا تَوَارَى عَنْك فَكُلْ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ, قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ تَسْمَعْهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنِ الْحَسَنِ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا ذُبِحَ لِلآلِهَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ وَكَّلَ بِهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا عَلَى ذَبَائِحِهِمْ, وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يُسَمُّوا اللَّهَ تَعَالَى. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إذَا سَمِعْتَ فِي الذَّبِيحَةِ غَيْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَلاَ تَأْكُلْ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا سَمِعْته يُهِلُّ بِالْمَسِيحِ, فَلاَ تَأْكُلْ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيُقَالُ لِمَنْ خَالَفَ هَذَا: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَبَائِحَهُمْ, وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْخِنْزِيرَ, أَفَيَأْكُلُهُ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: لاَ, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ فَيُقَالُ لَهُمْ: وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ سَوَاءً سَوَاءً, وَلاَ فَرْقَ.

(7/412)


1002- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا يَصِيدُهُ الْمُحْرِمُ فَقَتَلَهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ الْبِلاَدِ, أَوْ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ الْمَدِينَةِ فَقَطْ, فَقَتَلَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَكُلُّ قَتْلٍ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَحَرَامٌ أَكْلُ مَا أُمِيتَ بِهِ, لأََنَّهُ غَيْرُ الذَّكَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: أَكْلُهُ حَلاَلٌ, كَذَبِيحَةِ الْغَاصِبِ, وَالسَّارِقِ, وَلاَ فَرْقَ.

(7/412)


1003- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِعَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: إنْ تَرَكَ عَمْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, وَإِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا حَلَّ أَكْلُهُ. وقال الشافعي: هُوَ حَلاَلٌ تَرَكَ عَمْدًا, أَوْ نِسْيَانًا. رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا ابْنُ لَهِيعَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا خَرَجْتَ قَانِصًا لاَ تُرِيدُ إِلاَّ ذَلِكَ, فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ تَخْرُجُ, فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيك. وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ ذَبَحَ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤْكَلُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَكَلَ. وَعَنْ عَطَاءٍ إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فَكُلْ. وَرُوِّينَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إبَاحَةَ أَكْلِ مَا نُسِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ, وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ تَحْرِيمُهُ فِي تَعَمُّدِ تَرْكِ الذِّكْرِ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ أَهْلُ الإِبَاحَةِ لِذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَخِي سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ الْيَهُودُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَنَأْكُلُ مِمَّا قَتَلْنَا, وَلاَ نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ.
قال علي: هذا مِنْ التَّمْوِيهِ الْقَبِيحِ, وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ ذِكْرٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ لأَِبَاحَةِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ

(7/412)


1004- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَمَّى بِالْعَجَمِيَّةِ فَقَدْ سَمَّى كَمَا أُمِرَ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ لُغَةً مِنْ لُغَةٍ، وَلاَ تَسْمِيَةً مِنْ تَسْمِيَةٍ, فَكَيْفَمَا سَمَّى فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/414)


و من ذبح مال غيره بأمره فنسى أن يسمى الله تعالى
...
1005- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَبَحَ مَالَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى, أَوْ تَعَمَّدَ فَهُوَ ضَامِنٌ مِثْلَ الْحَيَوَانِ الَّذِي أَفْسَدَ, لأََنَّهُ مَيْتَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا فَقَدْ أَفْسَدَ مَالَ أَخِيهِ, وَأَمْوَالُ النَّاسِ تُضْمَنُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/414)


و لا يحل أكل ما نحره أو ذبحه إنسان من مال غيره
...
1006- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا نَحَرَهُ أَوْ ذَبَحَهُ إنْسَانٌ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ مَالِكِهِ بِغَصْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ تَعَدٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ وَيَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ نَظَرًا صَحِيحًا كَخَوْفِ أَنْ يَمُوتَ فَبَادَرَ بِذَكَاتِهِ, أَوْ نَظَرًا لِصَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ غَائِبٍ, أَوْ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ قَوْلَنَا أَبِحَقٍّ ذَبَحَ هَذَا الْحَيَوَانَ أَوْ نَحَرَ, أَمْ بِبَاطِلٍ, وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ: إنَّهُ ذَبَحَ بِحَقٍّ, فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَحَرَ وَذَبَحَ بِبَاطِلٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَكْلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَيَوَانَ حَرَامٌ أَكْلُهُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْنَا, فَالذَّكَاةُ حَقٌّ مَأْمُورٌ بِهِ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا حُرِّمَ مِنْ الْحَيَوَانِ إِلاَّ بِهِ, وَذَبْحُ الْمُعْتَدِي بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلاَ خِلاَفٍ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْفُرُوجَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ بِالْعَقْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ لاَ بِالْعَقْدِ الْمُحَرَّمِ: فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ أَنْ يُبِيحُوا الْحَيَوَانَ الْمُحَرَّمَ بِالْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَصَيُّدِ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ, وَبَيْنَ ذَبْحِ الْمُتَعَدِّي لِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ الثَّابِتَةُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ نَا وَكِيعٌ نَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ فَأَصَبْنَا غَنَمًا وَإِبِلاً فَعَجَّلَ الْقَوْمُ فَأَغْلَوْا بِهَا الْقُدُورَ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُكْفِئَتْ, ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنْ الْغَنَمِ بِجَزُورٍ. فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِهَرْقِ الْقُدُورِ الَّتِي فِيهَا اللَّحْمُ الْمَذْبُوحُ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَلاَلاً أَكْلُهُ مَا أَمَرَ بِهَرْقِهِ, لأََنَّهُ عليه السلام نَهَى، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ, وَأَنَّ ذَبْحَهُ وَنَحْرَهُ تَعَدٍّ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلاَ يُبِيحُ الأَكْلَ. وَمَا نَعْلَمُ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةً أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَوَّهَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ, فَاسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ فَأَكَلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ ثُمَّ قَالَ: أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا, فَأَرْسَلَتْ الْمَرْأَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرْسَلْتُ إلَى الْبَقِيعِ

(7/415)


مَنْ يَشْتَرِي لِي شَاةً فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إلَى جَارٍ لِي قَدْ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِلْ بِهَا إلَيَّ بِثَمَنِهَا, فَلَمْ يُوجَدْ فَأَرْسَلْتُ إلَى امْرَأَتِهِ, فَأَرْسَلَتْ إلَيَّ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْعِمِيهِ الأُُسَارَى.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, بَلْ هُوَ لَوْ صَحَّ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ: أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ، عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ يُدْرَى أَصَحَّتْ صُحْبَتُهُ أَمْ لاَ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَحِلَّ أَكْلَهُ، وَلاَ أَبَاحَ لأََحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْهُ, بَلْ أَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمَ الْكُفَّارَ الْمُسْتَحِلِّينَ لِلْمَيْتَةِ, وَلَعَلَّ أُولَئِكَ الأُُسَارَى كَانُوا مَرْضَى يَحِلُّ لَهُمْ التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ, مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ غَصْبًا، وَلاَ مَسْرُوقَةً, وَإِنَّمَا أَخَذَتْهَا بِشِرَاءٍ صَحِيحٍ عِنْدَ نَفْسِهَا, لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ مَالِكِهَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهَا لِمُسْلِمٍ, فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ تِلْكَ الشَّاةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ, وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ "ابْعَثْهَا إلَيَّ بِثَمَنِهَا" وَنَحْنُ نَأْتِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِهَا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ مُبَيَّنَةٌ عَلَيْهِمْ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ نَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ نا أَبُو الأَحْوَصِ هُوَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ النَّاسَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَجَهْدٌ, فَأَصَابُوا غَنَمًا فَانْتَهَبُوهَا, فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي, إذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي عَلَى قَوْسِهِ فَأَكْفَأَ قُدُورَنَا بِقَوْسِهِ ثُمَّ جَعَلَ يُرَمِّلُ اللَّحْمَ بِالتُّرَابِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ النُّهْبَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ الْمَيْتَةِ, أَوْ إنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِأَحَلَّ مِنْ النُّهْبَةِ; شَكَّ أَبُو الأَحْوَصِ فِي أَيَّتِهِمَا قَالَ عليه السلام. فَهَذَا ذَلِكَ الإِسْنَادُ نَفْسُهُ بِبَيَانٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ مِنْ إفْسَادِهِ صلى الله عليه وسلم اللَّحْمَ الْمَذْبُوحَ مُنْتَهَبًا غَيْرَ مَقْسُومٍ وَخَلَطَهُ بِالتُّرَابِ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ حَرَامٌ بَحْتٌ لاَ يَحِلُّ أَصْلاً, إذْ لَوْ حَلَّ لَمَا أَفْسَدَهُ عليه السلام; فَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنْ تَكُونَ طَرِيقٌ وَاحِدَةٌ حُجَّةً فِيمَا لاَ بَيَانَ فِيهَا مِنْهُ, وَلاَ تَكُونُ حُجَّةً فِيمَا فِيهَا الْبَيَانُ الْجَلِيُّ مِنْهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ النَّهْيَ، عَنْ أَكْلِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِ, وَلاَ نَعْلَمُ خِلاَفَ قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ عَنْ تَابِعٍ إِلاَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ, فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/416)


و لا يحل أكل ما ذبح أو نحر فخراً أو مباهاة
...
1007- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ فَخْرًا أَوْ مُبَاهَاةً لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهَذَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ

(7/416)


نَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ،- عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ". وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا رِبْعِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَارُودِ قَالَ: سَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ أَبِي سَبْرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ وَثِيلٍ هُوَ سُحَيْمٌ قَالَ: وَكَانَ شَاعِرًا نَافِرًا غَالِبًا أَبَا الْفَرَزْدَقِ الشَّاعِرُ بِمَاءٍ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَعْقِرَ هَذَا مِائَةً مِنْ إبِلِهِ وَهَذَا مِائَةً مِنْ إبِلِهِ إذَا وَرَدَتْ, فَلَمَّا وَرَدَتْ الإِبِلُ الْمَاءَ قَامَا إلَيْهَا بِالسُّيُوفِ فَجَعَلاَ يَكْسَعَانِ عَرَاقِيبَهَا, فَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى الْحُمُرَاتِ يُرِيدُونَ اللَّحْمَ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ فَخَرَجَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِهَا فَإِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ لاَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَةٌ ذَبَحَهَا الشُّعَرَاءُ فَخْرًا وَرِيَاءً, وَلاَ مَا ذَبَحَهُ الأَعْرَابُ عَلَى قُبُورِهِمْ, وَلاَ يُعْلَمُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِي هَذَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَكُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ, وَالْغَاصِبِ, وَالْمُتَعَدِّي لأََنَّ هَؤُلاَءِ بِلاَ شَكٍّ مِمَّنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَذَبَائِحُهُمْ وَنَحَائِرُهُمْ مِمَّنْ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ بِيَقِينٍ, إذْ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَعْصِيَ أَحَدٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلاَءِ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلاَ شَكٍّ, مُخَالِفُونَ لأََمْرِهِ فِي ذَلِكَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ, وَفِي ذَلِكَ الْعَقْرِ نَفْسِهِ.

(7/417)


1008- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا جَوَازُ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَمَصْلَحَةً فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ; فَحِفْظُ مَالِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَاجِبٌ وَبِرٌّ وَتَقْوَى, وَإِضَاعَتُهُ إثْمٌ وَعُدْوَانٌ وَحَرَامٌ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ نَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ بِأَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا فَقَالَ لأََهْلِهِ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ أَوْ أُرْسِلَ إلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا.

(7/417)


1009- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ خَرَجَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ مَيِّتَةٍ أَوْ طَائِرٍ مَيِّتٍ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ

(7/417)


1010- مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ طُبِخَ بَيْضٌ فَوُجِدَ فِي جُمْلَتِهَا بَيْضَةٌ فَاسِدَةٌ قَدْ صَارَتْ دَمًا أَوْ فِيهَا فَرْخٌ رُمِيَتْ الْفَاسِدَةُ وَأُكِلَ سَائِرُ الْبَيْضِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَالْحَلاَلُ حَلاَلٌ لاَ يُفْسِدُهُ مُجَاوَرَةُ الْحَرَامِ لَهُ, وَالْحَرَامُ حَرَامٌ لاَ يُصْلِحُهُ مُجَاوَرَةُ الْحَلاَلِ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/418)


1011- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ خُبْزٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ طُبِخَ أَوْ شُوِيَ بِعَذِرَةٍ أَوْ بِمَيْتَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ, لأََنَّهُ لَيْسَ مَيْتَةً، وَلاَ عَذِرَةً, وَالْعَذِرَةُ وَالْمَيْتَةُ حَرَامٌ, وَمَا أُحِلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَيْنُ الْعَذِرَةِ أَوْ الْمَيْتَةِ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ طَعَامٌ فِي خَمْرٍ, أَوْ فِي عَذِرَةٍ فَغُسِلَ حَتَّى لاَ يَكُونَ لِلْحَرَامِ فِيهِ عَيْنٌ فَهُوَ حَلاَلٌ, إذْ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ.

(7/418)


1012- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ حَيَوَانٌ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ لَوْ ذُكِّيَ فَحُلِبَ مِنْهُ لَبَنٌ فَاللَّبَنُ حَلاَلٌ, لأََنَّ اللَّبَنَ حَلاَلٌ بِالنَّصِّ, فَلاَ يُحَرِّمُهُ كَوْنُهُ فِي ضَرْعِ مَيْتَةٍ, لأََنَّهُ قَدْ بَايَنَهَا بَعْدُ, وَهُوَ وَمَا حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا ثُمَّ مَاتَتْ سَوَاءٌ, وَإِنَّمَا هُوَ لَبَنٌ حَلاَلٌ فِي وِعَاءٍ حَرَامٍ فَقَطْ, فَهُوَ وَاَلَّذِي فِي وِعَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ سَوَاءٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/418)


1013- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ السُّمِّ الْقَاتِلِ بِبُطْءٍ أَوْ تَعْجِيلٍ، وَلاَ مَا يُؤْذِي مِنْ الأَطْعِمَةِ, وَلاَ الإِكْثَارُ مِنْ طَعَامٍ يُمْرِضُ الإِكْثَارُ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانِ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ قَالَ: سَمِعْت أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ قَالَ شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ بِهِ دَوَاءً إِلاَّ الْهَرَمَ" .
قَالَ عَلِيٌّ: زِيَادٌ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ, وَسُفْيَانُ, وَسُفْيَانُ وَمِسْعَرٌ, وَأَبُو عَوَانَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ, وَغَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ هُمْ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ حُمِدَ لِتَرْكِ الدَّوَاءِ أَصْلاً, وَلاَ ذِكْرَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ, وَأَمْرُهُ عليه السلام بِالتَّدَاوِي: نَهْيٌ، عَنْ تَرْكِهِ, وَأَكْلُ الْمُضِرِّ: تَرْكٌ لِلتَّدَاوِي, فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/418)


1014- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ ذَكِيٍّ فَوُجِدَ فِي بَطْنِهِ جَنِينٌ مَيِّتٌ, وَقَدْ كَانَ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ مَيِّتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, فَلَوْ أُدْرِكَ حَيًّا فَذُكِّيَ حَلَّ أَكْلُهُ, فَلَوْ كَانَ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ حَلاَلٌ إِلاَّ إنْ كَانَ بَعْدُ دَمًا لاَ لَحْمَ فِيهِ, وَلاَ مَعْنَى لأَِشْعَارِهِ، وَلاَ لِعَدَمِ إشْعَارِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} . وَبِالْعِيَانِ نَدْرِي أَنَّ ذَكَاةَ الأُُمِّ لَيْسَتْ ذَكَاةً لِلْجَنِينِ الْحَيِّ, لأََنَّهُ غَيْرُهَا وَقَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى, فأما إذَا كَانَ لَحْمًا لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَهُوَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ حَيًّا فَيَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ. وَقَدْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَخْبَارٍ وَاهِيَةٍ: مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ وَعَطِيَّةُ هَالِكٌ. وَمِنْ طَرِيق إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ, مُجَالِدٌ ضَعِيفٌ, وَأَبُو الْوَدَّاكِ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّيْثِ عَنْهُ, أَوْ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ; فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ وَهَذَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ لاَ يُدْرَى مِمَّنْ أَخَذَهُ، عَنْ جَابِرٍ فَهُوَ، عَنْ مَجْهُولٍ عَلَى مَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ. ثُمَّ لَمْ يَأْتِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ شُعَيْبٍ, وَالْحَسَنِ بْنِ بِشْرٍ, وَعَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَدَّاحِ وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي حُذَيْفَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى قَالَ: ذُكِرَ لِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ إذَا أَشْعَرَ فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ أَبُو حُذَيْفَةَ ضَعِيفٌ, وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَسْقَطُ مِنْهُ ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَخِيهِ عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" إذَا أَشْعَرَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سَيِّئُ الْحِفْظِ, ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ. وَقَالُوا: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ إذَا تَمَّ وَأَشْعَرَ: فَذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَيُنْحَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ إذَا أَشْعَرَ جَنِينُ النَّاقَةِ فَكُلْهُ, فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَعَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى جَنِينِ نَاقَةٍ وَأَخَذَ بِذَنَبِهِ

(7/419)


وَقَالَ: هَذَا مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ نَحْرُ جَنِينِ النَّاقَةِ نَحْرُ أُمِّهِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وطَاوُوس, وَأَبِي ظَبْيَانَ, وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَنَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَالزُّهْرِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي جَنِينِ الْمَذْبُوحَةِ قَالَ: لاَ تَكُونُ ذَكَاةُ نَفْسٍ، عَنْ نَفْسَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَزُفَرَ, نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى غُنْدَرٌ، نا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا أَبُو الْمَيْمُونِ، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ الْبَجَلِيُّ، نا أَبُو زُرْعَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عُمَرَ النَّصْرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيَّانَ قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّاقَةُ تُذْبَحُ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ يَرْتَكِضُ فَيُشَقُّ بَطْنُهَا فَيَخْرُجُ جَنِينُهَا أَيُؤْكَلُ قَالَ: نَعَمْ, قُلْت: إنَّ الأَوْزَاعِيَّ قَالَ: لاَ يُؤْكَلُ, قَالَ: أَصَابَ الأَوْزَاعِيُّ فَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ: فَرُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَ: إذَا عَلِمَ أَنَّ مَوْتَ الْجَنِينِ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ أُكِلَ وَإِلَّا لَمْ يُؤْكَلْ, قِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ ذَلِكَ قَالَ: إذَا خَرَجَ لَمْ يَنْتَفِخْ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ مَوْتُهَا. وقال بعضهم: لاَ يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَشْعَرَ وَتَمَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَنَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ, قَالَ يَحْيَى: فَإِنْ خَرَجَ حَيًّا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ يُذَكَّى وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ, إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ خَرَجَ حَيًّا كُرِهَ أَكْلُهُ, وَلَيْسَ حَرَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ: أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ هُوَ حَلاَلٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَسُفْيَانَ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَالشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَقُلْنَا بِهِ مُسَارِعِينَ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الْقُرْآنِ لِقَوْلِ قَائِلٍ أَوْ قَائِلِينَ: فأما أَبُو حَنِيفَةَ, فَإِنَّهُ يُشَنِّعُ, بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَخِلاَفِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ, وَيَرَى ذَلِكَ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ, هَذَا مَكَانٌ خَالَفَ فِيهِ الصَّحَابَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالآثَارُ الَّتِي يَحْتَجُّ هُوَ بِأَسْقَطَ مِنْهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ, فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ الْجَنِينَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ حَيًّا, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إنْ

(7/420)


كَانَ عِنْدَهُ ذَكِيًّا بِذَكَاةِ أُمِّهِ أَنَّهُ إنْ عَاشَ وَكَبُرَ وَأَلْقَحَ وَنَتَجَ أَنَّهُ حَلاَلٌ أَكْلُهُ مَتَى مَاتَ, لأََنَّهُ ذُكِّيَ بَعْدُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا, فَكِلاَهُمَا خَالَفَ الإِجْمَاعَ, أَوْ مَا يَرَاهُ إجْمَاعًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/421)


ولا يحل الأكل ولا الشرب في نية الذهب أو الفضة لا لرجل ولا لأمرأة
...
1015- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ، وَلاَ الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لاَ لِرَجُلٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ, فَإِنْ كَانَ مُضَبَّبًا بِالْفِضَّةِ جَازَ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, لأََنَّهُ لَيْسَ إنَاءَ فِضَّةٍ, فَإِنْ كَانَ مُضَبَّبًا بِالذَّهَبِ, أَوْ مُزَيَّنًا بِهِ حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ, لأََنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ ذَهَبٍ وَحَلَّ لِلنِّسَاءِ لأََنَّهُ لَيْسَ إنَاءُ ذَهَبٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ" فَهَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ الذَّهَبَ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِهِ حِلٌّ لأَِنَاثِهَا". وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ بفالوذج فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَأَخْرَجَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى رَغِيفٍ وَأَكَلَهُ إِلاَّ أَنْ يَصِحَّ مَا نا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْعُذْرِيُّ قَاضِي سَرَقُسْطَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُطَّوِّعِيُّ، نا الْحَاكِمُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ بِنَيْسَابُورَ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ بِمَكَّةَ, قَالاَ جَمِيعًا، نا أَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَارِي، نا زَكَرِيَّا بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ, فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ". فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ قلنا بِهِ عَلَى نَصِّهِ, وَلَمْ يَحِلَّ الشُّرْبُ فِي إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ, وَإِنَّمَا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ لأََنَّ زَكَرِيَّا بْنَ إبْرَاهِيمَ لاَ نَعْرِفُهُ بِعَدْلٍ، وَلاَ جِرَاحَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: مَنْ شَرِبَ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ سَقَاهُ اللَّهُ جَمْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَشْرَبُ بِقَدَحٍ فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ، وَلاَ حَلَقَةُ فِضَّةٍ: وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِثْلُ هَذَا وَعَنْ آخَرِينَ إبَاحَتُهُ.

(7/421)


1016- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْقِرَانُ فِي الأَكْلِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُؤَاكَلِ, وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ أَنْتَ شَيْئَيْنِ شَيْئَيْنِ وَيَأْخُذَ هُوَ وَاحِدًا وَاحِدًا كَتَمْرَتَيْنِ وَتَمْرَةٍ, أَوْ تِينَتَيْنِ وَتِينَةٍ, وَنَحْوِ ذَلِكَ, إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كُلُّهُ لَك فَافْعَلْ فِيهِ مَا شِئْت. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا آدَم، نا شُعْبَةُ، نا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ وَهُوَ يَمُرُّ بِهِمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ لاَ تُقَارِنُوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْقِرَانِ إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ قَالَ شُعْبَةُ: الإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ.
قال علي: هذا أَعَمُّ مِمَّا رَوَاهُ سُفْيَانُ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ, فَإِذَا أَذِنَ الْمُؤَاكِلُ فَهُوَ حَقُّهُ تَرَكَهُ.

(7/422)


1017- مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا عُجِنَ بِالْخَمْرِ. أَوْ بِمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ. وَلَا قِدْرٌ طُبِخَتْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا عُجِنَ بِهِ الدَّقِيقُ وَطُبِخَ بِهِ الطَّعَامُ شَيْئًا حَلَالًا وَكَانَ مَا رَمَى فِيهِ مِنْ الْحَرَامِ قَلِيلًا لَا رِيحَ لَهُ فِيهِ وَلَا طَعْمَ وَلَا لَوْنَ. وَلَا يَظْهَرُ لِلْحَرَامِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ أَصْلًا فَهُوَ حَلَالٌ حِينَئِذٍ. وَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى مَنْ رَمَى فِيهِ شَيْئًا مِنْهُ. لِأَنَّ الْحَرَام إذَا بَطَلَتْ صِفَاتُهُ الَّتِي بِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ الِاسْمِ الَّذِي بِهِ نَصٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ الِاسْمُ عَنْهُ وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الِاسْمُ سَقَطَ التَّحْرِيمُ. لِأَنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ مَا يُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَالْخَمْرِ. وَالدَّمِ. وَالْمَيْتَةِ. فَإِذَا اسْتَحَالَ الدَّمُ لَحْمًا. أَوْ الْخَمْرُ خَلًّا. أَوْ الْمَيْتَةُ بِالتَّغَذِّي أَجْزَأَ فِي الْحَيَوَانِ الْأَكْلُ لَهَا مِنْ الدَّجَاجِ. وَغَيْرِهِ فَقَدْ سَقَطَ التَّحْرِيمُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَنْ خَالَفَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّبَنَ. لِأَنَّهُ دَمٌ اسْتَحَالَ لَبَنًا. وَأَنْ يُحَرِّمَ التَّمْرَ وَالزَّرْعَ الْمَسْقِيَّ بِالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ. وَلَزِمَهُ أَنْ يُبِيحَ الْعَذِرَةَ وَالْبَوْلَ. لِأَنَّهُمَا طَعَامٌ. وَمَاءٌ حَلَالَانِ اسْتَحَالَا إلَى اسْمٍ مَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُسَمَّى بِهِ. وَأَمَّا تَحْرِيمُ مَا عُجِنَ أَوْ طُبِخَ بِهِ. فَلِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي جَمِيعِ الشَّيْءِ الْمَعْجُونِ وَالْمَطْبُوخِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَثَرُ لِشَيْءٍ حَلَالٍ. وَكَانَ الْحَرَامُ لَا أَثَرَ لَهُ. فَقَدْ قُلْنَا الْآنَ مَا يَكْفِي.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَمْرٍو عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فِي الْمُرِّيِّ يُجْعَلُ فِيهِ الْخَمْرُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. ذَبَحَتْهُ النَّارُ وَالْمِلْحُ.

(7/422)


1018- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ جُبْنٍ عُقِدَ بِإِنْفَحَة مَيْتَةٍ لأََنَّ أَثَرَهَا ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ عَقْدُهَا لَهُ لِمَا ذَكَرَ آنِفًا وَهَكَذَا كُلُّ مَا مُزِجَ بِحَرَامٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/422)


1019- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ, لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ, فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَلَغْ فِيهِ فَهُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/422)


1020- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ مِنْ وَسَطِ الطَّعَامِ، وَلاَ أَنْ تَأْكُلَ مِمَّا لاَ يَلِيَك سَوَاءٌ كَانَ

(7/422)


1021- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ فَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِمَّا يَلِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَإِنْ أَدَارَ الصَّحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ, لأََنَّهُ لَمْ يُنْهَ، عَنْ ذَلِكَ, فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُدِيرَ الصَّحْفَةَ لأََنَّ وَاضِعَهَا أَمْلَكُ بِوَضْعِهَا, وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ إدَارَتَهَا إنَّمَا جَعَلَ لَهُ الأَكْلَ مِمَّا يَلِيهِ فَقَطْ, فَإِنْ كَانَتْ الْقَصْعَةُ وَالطَّعَامُ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُدِيرَهَا كَمَا يَشَاءُ, وَأَنْ يَرْفَعَهَا إذَا شَاءَ; لأََنَّهُ مَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلاَّ مِمَّا يَلِيهِ, لأََنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ عُمُومٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.

(7/424)


وتسمية اللّه تعالى فرض على كل كل عند ابتداء أكله ولا يحل لأَحد أن يأكل بشماله
...
1022- مَسْأَلَةٌ: وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى كُلِّ آكِلٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ أَكْلِهِ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ إِلاَّ أَنْ لاَ يَقْدِرَ فَيَأْكُلَ بِشِمَالِهِ لأََمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا بِالتَّسْمِيَةِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ. وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ" وَهَذَا عُمُومٌ فِي النَّهْيِ، عَنْ شِمَالِهِ وَشِمَالِ غَيْرِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". وَمَنْ تَحَكَّمَ فَجَعَلَ بَعْضَ الأَوَامِرِ فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.

(7/424)


1023- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الأَكْلُ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى تُغْسَلَ بِالْمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ

(7/424)


1024- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ السَّيْكَرَانِ لِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ مُسْكِرٍ, وَالسَّيْكَرَانُ مُسْكِرٌ فَإِنْ مَوَّهَ قَوْمٌ بِاللَّبَنِ وَالزُّوَانِ فَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لأََنَّ اللَّبَنَ وَالزُّوَانَ مُخَدِّرَانِ مُبْطِلاَنِ لِلْحَرَكَةِ لاَ يُسْكِرَانِ, وَالسَّيْكَرَانُ وَالْخَمْرُ مُسْكِرَانِ لاَ يُخَدِّرَانِ، وَلاَ يُبْطِلاَنِ الْحَرَكَةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/426)


1025- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ صَيْدٍ حَرَامٍ, أَوْ مَيْتَةٍ, أَوْ دَمٍ; أَوْ لَحْمِ سَبُعٍ أَوْ طَائِرٍ, أَوْ ذِي أَرْبَعٍ; أَوْ حَشَرَةٍ, أَوْ خَمْرٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَهُوَ كُلُّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَلاَلٌ حَاشَا لُحُومِ بَنِي آدَمَ وَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَنَاوَلَهُ: فَلاَ يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلاً لاَ بِضَرُورَةٍ، وَلاَ بِغَيْرِهَا. فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَلَمْ يَجِدْ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ: فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَعَ, وَيَتَزَوَّدَ حَتَّى يَجِدَ حَلاَلاً; فَإِذَا وَجَدَهُ عَادَ الْحَلاَلُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا كَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ. وَحَدُّ الضَّرُورَةِ أَنْ يَبْقَى يَوْمًا وَلَيْلَةً لاَ يَجِدُ فِيهَا مَا يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ, فَإِنْ خَشِيَ الضَّعْفَ الْمُؤْذِيَ الَّذِي إنْ تَمَادَى أَدَّى إلَى الْمَوْتِ, أَوْ قَطَعَ بِهِ، عَنْ طَرِيقِهِ وَشُغْلِهِ حَلَّ لَهُ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيمَا يَدْفَعُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْمَوْتَ بِالْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ لاَ فَضْلَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ إنْ وَجَدَ مِنْهَا نَوْعَيْنِ, أَوْ أَنْوَاعًا فَيَأْكُلُ مَا شَاءَ مِنْهَا لِلتَّذْكِيَةِ فِيهَا.
أَمَّا تَحْلِيلُ كُلِّ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَأَسْقَطَ تَعَالَى تَحْرِيمَ مَا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ, فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ, فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُنَا إذَا لَمْ يَجِدْ مَالَ مُسْلِمٍ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ فَهُوَ إذَا وَجَدَ مَالَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فَقَدْ وَجَدَ مَالاً قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِطْعَامِهِ مِنْهُ, فَحَقُّهُ فِيهِ, فَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ, فَإِنْ مُنِعَ ذَلِكَ ظُلْمًا فَهُوَ مُضْطَرٌّ حِينَئِذٍ. وَخَصَّصَ قَوْمٌ الْخَمْرَ بِالْمَنْعِ وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ بِلاَ بُرْهَانٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ, وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِأَنَّهَا لاَ تُرْوَى وَهَذَا خَطَأٌ مُدْرَكٌ بِالْعِيَانِ, وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَيْهَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْخِلاَعِ لاَ يَشْرَبُونَ الْمَاءَ أَصْلاً مَعَ شُرْبِهِمْ الْخَمْرَ. وَقَدْ اضْطَرَبُوا: فَرُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ: الأَسْتِغَاثَةَ بِالْخَمْرِ لِمَنْ اخْتَنَقَ بِلُقْمَةٍ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ

(7/426)


1026- مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِمَنْ كَانَ فِي طَرِيقِ بَغْيٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُمْتَنِعًا مِنْ حَقٍّ, بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُ فَلْيَتُبْ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَلْيُمْسِكْ عَنِ الْبَغْيِ وَلْيَأْكُلْ حِينَئِذٍ وَلْيَشْرَبْ مِمَّا اُضْطُرَّ إلَيْهِ حَلَالًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَاسِقٌ, آكِلُ حَرَام.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} فَإِنَّمَا أَبَاحَ تَعَالَى مَا حَرَّمَهُ بِالضَّرُورَةِ مَنْ لَمْ يَتَجَانَفْ لِإِثْمٍ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا: وَهَذَا قَوْلُ كُلِّ مَنْ نَعْلَمُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَّا الْمَالِكِيِّينَ, فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَانْتَظَرَ رِفَاقَهُمْ مِنْ الْمُحَارِبِينَ, وَحَاصَرَ قُرَاهُمْ وَمَدَنَهُمْ مِنْ الْبَاغِينَ لِسَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ, وَيَسْتَبِيحُ أَمْوَالَهُمْ وَفُرُوجَ الْمُسْلِمَاتِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا, فَلَمْ يَجِدْ

(7/427)


مَأْكَلًا إلَّا الْخَنَازِيرَ وَالْمَيْتَاتِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ أَكْلُهُ, فَأَعَانُوهُ عَلَى أَعْظَمِ الظُّلْمِ, وَأَشَدِّ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مَوَّهُوا هَهُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ مَا يَكُونُ مِنْ الإِبْهَامِ وَمَا أَمَرْنَاهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ بَلْ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ التَّوْبَةِ, فَلْيَنْوِهَا بِقَلْبِهِ, وَلْيُمْسِكْ عَنِ الْبَغْيِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْحَقِّ بِيَدَيْهِ, ثُمَّ يَأْكُلُ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ حَلَالًا لَهُ, وَمَا سَمِعْنَا بِقَوْلٍ أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنْ لَا يَأْمُرُوهُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْبَغْيِ, وَيُبِيحُوا لَهُ التَّقَوِّي عَلَى الإِفْسَادِ فِي الأَُرْضِ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ: رُوِّينَا عَنْ مُجَاهِدٍ {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَلَا عَادٍ عَلَيْهِمْ - قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ يَخْرُجُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ, أَوْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى, فَاضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ, إنَّمَا تَحِلُّ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا فَلْيَأْكُلْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: إذَا خَرَجَ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَكَلَ, وَإِنْ خَرَجَ إلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَا رُخْصَةَ لَهُ. وَمَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ سَابُورٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى الْبَاغِي, وَالْعَادِي, إنَّمَا هُوَ فِي الأَُكْلِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ فِي تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إسْنَادٌ فَاسِدٌ لَا يَصِحُّ, لِأَنَّ سَلَمَةَ بْنَ سَابُورٍ ضَعِيفٌ, وَعَطِيَّةَ مَجْهُولٌ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا لَا لِقَوْلِهِمْ, لِأَنَّ الْبَاغِيَ فِي الأَُكْلِ, وَالْعَادِيَ فِيهِ: هُوَ مِنْ أَكْلِهِ فِيمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ, وَآكِلُهُ فِي الْبَغْيِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَاغٍ فِي الأَُكْلِ وَعَادٍ فِيهِ, وَهَكَذَا نَقُولُ. وَمَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمْ: أَنَّ مَنْ خَرَجَ مُفْسِدًا فِي الأَُرْضِ فَاضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَهُ أَكْلُهَا مُصِرًّا عَلَى إفْسَادِهِ مُتَقَوِّيًا عَلَى ظُلْمِ الْمُسْلِمِينَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذَا خَطَأٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُضْطَرَّ مِنْ التَّحْرِيمِ, فَهُوَ بِلَا شَكٍّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّحْرِيمِ, وَإِذْ هُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ جُمْلَةً.

(7/428)


1027- مَسْأَلَةٌ: وَالسَّرَفُ حَرَامٌ, وَهُوَ النَّفَقَةُ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ, وَلَوْ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ قَدْرِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ أَوْ التَّبْذِيرُ فِيمَا لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ضَرُورَةً مِمَّا لاَ يَبْقَى لِلْمُنْفِقِ بَعْدَهُ غِنًى أَوْ إضَاعَةُ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ بِرَمْيِهِ عَبَثًا; فَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ سَرَفًا وَهُوَ حَلاَلٌ وَإِنْ كَثُرَتْ النَّفَقَةُ فِيهِ. وَقَوْلُنَا هَذَا رُوِّينَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقُلْتُ:

(7/428)


يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ". فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ نَفَقَةُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْرُوفِ, وَلاَ الْمُبَاحِ, إِلاَّ مَا أَبْقَى غِنًى, إِلاَّ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى قُوتِ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ, فَلاَ يَحِلُّ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ، وَلاَ تَضْيِيعُ مَنْ مَعَهُ, ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ, وَأَمَّا مَا دُونَ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلاَ تَعْتَدُوا}. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. فَمَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبَاطِلَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا هَذِهِ الآيَةُ فِي الْكُفَّارِ خَاصَّةً بِنَصِّ الآيَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}.
قال أبو محمد: التَّمْوِيهُ بِإِيرَادِ بَعْضِ آيَةٍ وَالسُّكُوتِ، عَنْ أَوَّلِهِمَا أَوْ آخِرِهَا عَادَةُ سُوءٍ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى خِزْيُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ, لأََنَّهُ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ وَكَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

(7/429)


1028- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا تَغَذَّى مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ أَكْلُهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ حَلاَلٌ: كَالدَّجَاجِ الْمُطْلَقِ, وَالْبَطِّ, وَالنَّسْرِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ جَدْيًا أُرْضِعَ لَبَنَ خِنْزِيرَةٍ لَكَانَ أَكْلُهُ حَلاَلاً حَاشَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَلَّالَةِ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ مَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْجَلَّالَةَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى تَحْلِيلُ الدَّجَاجِ وَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ الْقَذِرَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَكْلَهَا حَبَسَهَا ثَلاَثًا حَتَّى يَطِيبَ بَطْنُهَا.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَلْزَمُ لأََنَّهُ إنْ كَانَ حَبَسَهَا مِنْ أَجْلِ مَا فِي قَانِصَتِهَا مِمَّا أَكَلَتْ فَاَلَّذِي فِي الْقَانِصَةِ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ جُمْلَةً, لأََنَّهُ رَجِيعٌ, وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ اسْتِحَالَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي أُكِلَتْ فَلاَ يَسْتَحِيلُ لَحْمُهَا فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, وَلاَ فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ بَلْ قَدْ صَارَ مَا تَغَذَّتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَحْمًا مِنْ لَحْمِهَا, وَلَوْ حَرُمَ مِنْ ذَلِكَ لَحَرُمَ مِنْ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ مَا يَنْبُتُ عَلَى الزِّبْلِ وَهَذَا خَطَأٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَرَامَ إذَا اسْتَحَالَتْ صِفَاتُهُ وَاسْمُهُ بَطَلَ حُكْمُهُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَى ذَلِكَ الأَسْمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/429)


1029- مَسْأَلَةٌ: وَالْقِرْدُ حَرَامٌ أَكْلُهُ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَخَ نَاسًا عُصَاةً عُقُوبَةً لَهُمْ

(7/429)


1030- مَسْأَلَةٌ: وَأَكْلُ الطِّينِ لِمَنْ لاَ يَسْتَضِرُّ بِهِ حَلاَلٌ, وَأَمَّا أَكْلُ مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ مِنْ طِينٍ أَوْ إكْثَارٍ مِنْ الْمَاءِ أَوْ الْخُبْزِ: فَحَرَامٌ; لأََنَّهُ لَيْسَ مِمَّا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ لَنَا فَهُوَ حَلاَلٌ, وَأَمَّا كُلُّ مَا أَضَرَّ فَهُوَ حَرَامٌ, لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ, وَسُفْيَانَ, وَهُشَيْمٍ, وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ, وَابْنِ عُلَيَّةَ, وَعَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ, كُلُّهُمْ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ حَفِظَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ, فَمَنْ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يُحْسِنْ, وَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَحْرِيمِ الطِّينِ آثَارٌ كَاذِبَةٌ: مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيِّ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, وَمُرْسَلاَتٌ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ}.
قَالَ: وَالطِّينُ لَيْسَ مِمَّا أَخْرَجَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ. قال أبو محمد: وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ الَّذِي جَرَوْا عَلَى عَادَتِهِمْ فِيهِ فِي إيهَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ, وَإِنَّمَا يَأْتُونَ بِمَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ, وَهَذِهِ الآيَةُ حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ أَكْلِ مَا لَمْ يُخْرِجْ لَنَا مِنْ الأَرْضِ وَإِنَّمَا فِيهَا إبَاحَةُ مَا أَخْرَجَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ مَا عَدَا ذَلِكَ لاَ بِتَحْلِيلٍ، وَلاَ بِتَحْرِيمٍ; فَحُكْمُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الأَرْضِ مَطْلُوبٌ مِنْ غَيْرِهَا. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَانِعَةً مِنْ أَكْلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الأَرْضِ لَحَرُمَ أَكْلُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ بَرِّيِّهِ وَبَحْرِيِّهِ, وَلَحَرُمَ أَكْلُ الْعَسَلِ, والطرنجبين, وَالْبَرَدِ, وَالثَّلْجِ, لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ الأَرْضِ; فَالطِّينُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ فَكَيْفَ وَهُوَ مِمَّا فِي الأَرْضِ وَمِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الأَرْضِ لأََنَّهُ مَعَادِنُ فِي الأَرْضِ مُسْتَخْرَجَةً مِنْ الأَرْضِ, وَلَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ دِينٌ أَنْ لاَ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا

(7/430)


مِمَّا يَفْتَضِحُ فِيهِ مِنْ قُرْبٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْفِطَرِ وَالْكَمْأَةِ, وَلَحْمِ التَّيْسِ الْهَرِمِ أَضَرُّ مِنْ قَلِيلِ الطِّينِ, وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَرِيفَةٍ فَقَالَ: خُلِقْنَا مِنْ التُّرَابِ فَمَنْ أَكَلَ التُّرَابَ فَقَدْ أَكَلَ مَا خُلِقَ مِنْهُ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَعَلَى هَذَا الأَسْتِدْلاَلِ السَّخِيفِ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ لأََنَّنَا مِنْ الْمَاءِ خُلِقْنَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

(7/431)


1031- مَسْأَلَةٌ: وَالضَّبُّ حَلَالٌ, وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَكْلَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ الضَّبَّ. وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: لَا تَطْعَمُوهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا صَحِيحٌ: كَاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, وَأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَوَجَدْنَا ضِبَابًا فَبَيْنَمَا الْقُدُورُ تَغْلِي بِالضِّبَابِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فُقِدَتْ, وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ فَأَكْفِئُوهَا, فَأَلْقَيْنَا بِهَا" .هَذَا لَفْظُ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَلَفْظُ يَحْيَى نَحْوُهُ. وَمِنْهَا غَيْرُ صَحِيحٍ: مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ. وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ فِيهَا التَّوَقُّفُ فِيهِ كَاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ؟ فَقَالَ عليه السلام: "إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ" فَلَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَنْهَ وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا بِمَعْنَاهُ صَحِيحٌ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الضَّبِّ: "لَا آمُرُ بِهِ, وَلَا أَنْهَى عَنْهُ". وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأَُسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِضَبٍّ فَلَمْ يَأْكُلْهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ؟ قَالَ: لَا تُطْعِمُوهُمْ مَا لَمْ تَأْكُلُوا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَمَّا هَذِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ فَفِيهِ ضُعَفَاءُ وَمَجْهُولُونَ

(7/431)


فَسَقَطَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلَا شَكٍّ, لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. إنَّمَا أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ بِالضَّبَابِ خَوْفَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقَايَا مَسْخِ الأُُمَّةِ السَّالِفَةِ, هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ, فَإِنْ وَجَدْنَا عَنْهُ عليه السلام مَا يُؤَمِّنُ مِنْ هَذَا الظَّنِّ بِيَقِينٍ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْكَرَاهَةُ أَوْ الْمَنْعُ فِي الضَّبِّ, فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَاللَّفْظُ لَهُ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا, وَإِنَّ الْقِرَدَةَ, وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقِرَدَةَ ذُكِرَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا وَقَدْ كَانَتْ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ الْمَخَافَةَ مِنْهُ عليه السلام فِي الضِّبَابِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا مُسِخَ قَدْ ارْتَفَعَتْ, وَصَحَّ أَنَّ الضِّبَابَ لَيْسَتْ مِمَّا مُسِخَ, وَلَا مِمَّا مُسِخَ شَيْءٌ فِي صُوَرِهَا: فَحَلَّتْ. ثُمَّ وَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ: فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ, فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا, وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ, قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ. فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى تَحْلِيلِهِ, وَهَذَا هُوَ الآخَرُ النَّاسِخُ, لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بِلَا شَكٍّ لَمْ يَجْتَمِعْ قَطُّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ, وَحُنَيْنٍ, وَالطَّائِفِ, وَلَمْ يَغْزُ عليه السلام بَعْدَهَا إلَّا تَبُوكَ, وَلَمْ تُصِبْهُمْ فِي تَبُوكَ مَجَاعَةٌ أَصْلًا. وَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْخَبَرِ بِلَا مِرْيَةٍ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَصَحَّتْ إبَاحَتُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ: وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/432)


1033- مَسْأَلَةٌ: وَالأَرْنَبُ حَلاَلٌ, لأََنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهَا, وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا;

(7/432)


رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ أَوْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الأَرْنَبَ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبَاهُ كَرِهَا الأَرْنَبَ وَأَكَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ كَرِهَ الأَرْنَبَ. وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَهَا بِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا أَبُو مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِأَرْنَبٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهَا تَحِيضُ فَكَرِهَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: سَأَلَ جَرِيرُ بْنُ أَنَسٍ الأَسْلَمِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الأَرْنَبِ فَقَالَ: لاَ آكُلُهَا أُنْبِئْتُ أَنَّهَا تَحِيضُ.
قال أبو محمد: عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ هَالِكٌ وَحَدِيثُ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ, وَقَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَادَ أَرْنَبًا فَأَتَى بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا وَفَخْذَيْهَا فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِأَرْنَبٍ مَشْوِيَّةٍ فَلَمْ يَأْكُلْ عليه السلام مِنْهَا وَأَمَرَ عليه السلام الْقَوْمَ فَأَكَلُوا فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَحْلِيلِهَا وَقَدْ يَكْرَهُهَا عليه السلام خِلْقَةً, لاَ لأَِثْمٍ فِيهَا, وَنَحْنُ لَعَمْرُ اللَّهِ نَكْرَهُهَا جُمْلَةً، وَلاَ نَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهَا أَصْلاً, وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ.

(7/433)


1034- مَسْأَلَةٌ: وَالْخَلُّ الْمُسْتَحِيلُ، عَنِ الْخَمْرِ حَلاَلٌ تَعَمَّدَ تَخْلِيلَهَا أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِلاَّ أَنَّ الْمُمْسِكَ لِلْخَمْرِ لاَ يُرِيقُهَا حَتَّى يُخَلِّلَهَا أَوْ تَتَخَلَّلَ مِنْ ذَاتِهَا: عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَرَّحُ الشَّهَادَةِ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْخَمْرَ مُفَصَّلٌ تَحْرِيمُهَا, وَالْخَلُّ حَلاَلٌ لَمْ يُحَرَّمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ فَإِذًا الْخَلُّ حَلاَلٌ" , فَهُوَ بِيَقِينٍ غَيْرُ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ, وَإِذَا سَقَطَتْ، عَنِ الْعَصِيرِ الْحَلاَلِ صِفَاتُ الْعَصِيرِ وَحَلَّتْ فِيهِ صِفَاتُ الْخَمْرِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ عَصِيرًا حَلاَلاً, بَلْ هِيَ خَمْرٌ مُحَرَّمَةٌ, وَإِذَا سَقَطَتْ، عَنْ تِلْكَ الْعَيْنِ صِفَاتُ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ وَحَلَّتْ فِيهَا صِفَاتُ الْخَلِّ الْحَلاَلِ, فَلَيْسَتْ خَمْرًا مُحَرَّمَةً, بَلْ هِيَ خَلٌّ حَلاَلٌ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ إنَّمَا الأَحْكَامُ عَلَى الأَسْمَاءِ فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الأَسْمَاءُ بَطَلَتْ تِلْكَ الأَحْكَامُ الْمَنْصُوصَةُ عَلَيْهَا وَحَدَثَتْ لَهَا أَحْكَامُ الأَسْمَاءِ الَّتِي انْتَقَلَتْ إلَيْهَا فَلِلصَّغِيرِ حُكْمُهُ, وَلِلْبَالِغِ حُكْمُهُ, وَلِلْمَيِّتِ حُكْمُهُ, وَلِلدَّمِ حُكْمُهُ, وَلِلْغِذَاءِ الَّذِي اسْتَحَالَ مِنْهُ حُكْمُهُ, وَلِلَّبَنِ, وَاللَّحْمِ الْمُسْتَحِيلَيْنِ، عَنِ الدَّمِ حُكْمُهُمَا; وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ. وَلاَ مَعْنَى لِتَعَمُّدِ تَخْلِيلِهَا, أَوْ لِتَخْلِيلِهَا مِنْ ذَاتِهَا لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ

(7/433)


شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَإِنَّمَا الْحَرَامُ إمْسَاكُ الْخَمْرِ فَقَطْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ تَخْلِيلِهَا أَوْ تَرْكِ تَخْلِيلِهَا, بَلْ الْمُرِيدُ لِبَقَائِهَا خَمْرًا أَعْظَمُ إثْمًا وَأَكْثَرُ جُرْمًا مِنْ الْمُتَعَمِّدِ لأَِفْسَادِهَا وَالْقَاصِدِ لِتَغْيِيرِهَا وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: إذَا تَخَلَّلَتْ حَلَّتْ, وَإِنْ خُلِّلَتْ لَمْ تَحِلَّ وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيِّينَ: أَنَّ كُلَّ خَلٍّ تَوَلَّدَ مِنْ خَمْرٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عِصْيَانُ مُمْسِكِ الْخَمْرِ: فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ:، نا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى النَّخَعِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيذِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِسِقَاءٍ فَجُعِلَ فِيهِ زَبِيبٌ وَمَاءٌ جُعِلَ مِنْ اللَّيْلِ فَأَصْبَحَ فَشَرِبَ مِنْهُ يَوْمَهُ وَاللَّيْلَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ وَمِنْ الْغَدِ حَتَّى أَمْسَى فَشَرِبَ وَسَقَى فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فَأُهْرِقَ. فَلاَ يَحِلُّ إمْسَاكُ الْخَمْرِ أَصْلاً. فإن قيل: فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى خَلٍّ لاَ يَأْثَمُ مُعَانِيهِ قلنا: نَعَمْ, بِأَنْ يَكُونَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ يُلْقَى فِي الظَّرْفِ صَحِيحًا فَإِذَا كَانَ فِي اسْتِقْبَالِ الصَّيْفِ الَّذِي يَأْتِي عُصِرَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْعَصِرُ إِلاَّ الْخَلُّ الصِّرْفُ. وَلاَ يُسَمَّى خَمْرًا مَا لَمْ يَبْرُزْ مِنْ الْعِنَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ عَصَرَ الْعِنَبَ, أَوْ نَبَذَ الزَّبِيبَ أَوْ التَّمْرَ ثُمَّ صَبَّ عَلَى الْعَصِيرِ الْحُلْوِ أَوْ النَّبِيذِ الْحُلْوِ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا الْغَلَيَانُ مِثْلَ كِلَيْهِمَا خَلًّا حَاذِقًا, فَإِنَّهُ يَتَخَلَّلُ, وَلاَ يَصِيرُ خَمْرًا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/434)


1034 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّمْنُ الذَّائِبُ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ مَاتَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَمُتْ: فَهُوَ حَرَامٌ, لاَ يَحِلُّ إمْسَاكُهُ أَصْلاً, بَلْ يُهْرَاقُ, فَإِنْ كَانَ جَامِدًا أُخِذَ مَا حَوْلَ الْفَأْرِ فَرُمِيَ, وَكَانَ الْبَاقِي حَلاَلاً كَمَا كَانَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا عَدَا السَّمْنِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ أَوْ غَيْرُ الْفَأْرِ فَيَمُوتُ أَوْ لاَ يَمُوتُ فَهُوَ كُلُّهُ حَلاَلٌ كَمَا كَانَ, مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ, فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ الْحَرَامُ فَهُوَ حَرَامٌ. وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يَقَعُ فِيهِ غَيْرُ الْفَأْرِ فَيَمُوتُ أَوْ لاَ يَمُوتُ فَهُوَ حَلاَلٌ كُلُّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَغْيِيرُ الْحَرَامِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَا, وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْقِصَّةَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهَا وَعُمْدَتُهُ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا جَاءَ فِي السَّمْنِ الذَّائِبِ فِيهِ الْفَأْرُ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى مَا عَدَاهُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/434)


وما سقط من الطعام ففرض أكله ولعق الأصابع بعد تمام الأكل فرض
...
1035 - مَسْأَلَةٌ: وَمَا سَقَطَ مِنْ الطَّعَامِ فَفَرْضٌ أَكْلُهُ, وَلَعْقُ الأَصَابِعِ بَعْدَ تَمَامِ

(7/434)


1036 مَسْأَلَةٌ: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مُتَّكِئًا وَلَا نَكْرَهُهُ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا, لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَمَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلَالٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو نُعَيْمٍ نا مِسْعَرٌ هُوَ ابْنُ كِدَامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لَا آكُلُ مُتَّكِئًا" فَلَيْسَ هَذَا نَهْيًا أَصْلًا لَكِنَّهُ آثَرَ الْأَفْضَلَ فَقَطْ. فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ. قُلْنَا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَسْمَعْهُ جَعْفَرٌ مِنْ الزُّهْرِيِّ, قَالَ أَبُو دَاوُد: نا هَارُونُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّرْقَاءِ نا أَبِي نا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ نَفْسُهُ, فَسَقَطَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/435)


1037 - مَسْأَلَةٌ: وَغَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ حَسَنٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، نا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ".
قال أبو محمد: فَهَذَا نَدْبٌ لاَ أَمْرٌ, وَالْجُرَذُ رُبَّمَا عَضَّ أَصَابِعَ الْمَرْءِ إذَا شَمَّ فِيهَا رَائِحَةَ الطَّعَامِ وَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ غَسْلِ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ, وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنْ فِعْلِ الأَعَاجِمِ, وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَإِنَّ أَكْلَ الْخُبْزِ لَمِنْ فِعْلِ الأَعَاجِمِ, وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَهُ أَوْ كَرَاهِيَتَهُ لَنَا لَبَيَّنَهُ فإن قيل: فَقَدْ صَحَّ الْخَبَرُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قُرِّبَ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَقِيلَ لَهُ: أَلاَ تَتَوَضَّأ؟

(7/435)


1038- مَسْأَلَةٌ: وَحَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الأَكْلِ حَسَنٌ وَلَوْ بَعْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ, وَفِي كُلِّ حَالٍ.

(7/436)


1039- مَسْأَلَةٌ: وَقَطْعُ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ لِلأَكْلِ حَسَنٌ, وَلاَ نَكْرَهُ قَطْعَ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ لِلأَكْلِ أَيْضًا وَتُسْتَحَبُّ الْمَضْمَضَةُ مِنْ الطَّعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا سُفْيَانُ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ النُّعْمَانِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ سَوِيقًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ. وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ بِالْمَاءِ وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَمًا. وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام شَرِبَ لَبَنًا وَلَمْ يَتَمَضْمَضْ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا أَمْرٌ، وَلاَ نَهْيٌ فَهِيَ فِعْلٌ حَسَنٌ وَمُبَاحٌ: وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ بِالسِّكِّينِ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَجَاءَ خَبَرٌ فِيهِ: "لاَ تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ, فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الأَعَاجِمِ", وَهُوَ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ لِلْمَدِينِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/436)


والأكل في إناء مفضض بالجواهر والياقوت
...
1040- مَسْأَلَةٌ: وَالأَكْلُ فِي إنَاءٍ مُفَضَّضٍ بِالْجَوْهَرِ, وَالْيَاقُوتِ, وَفِي الْبَلُّورِ, وَالْجَزِعِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ مِنْ السَّرَفِ لأََنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ تَحْرِيمَهُ, وَمَا لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آنِيَةَ الذَّهَبِ, وَالْفِضَّةِ فَهِيَ حَرَامٌ وَأَمْسَكَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ حَلاَلٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا أَحَلَّ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ, وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: أَحَلَّ اللَّهُ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ, فَمَا أَحَلَّ

(7/436)


1041- مَسْأَلَةٌ: وَالثُّومُ, وَالْبَصَلُ, وَالْكُرَّاثُ حَلاَلٌ إِلاَّ أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَذْهَبَ الرَّائِحَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَلَهُ الْجُلُوسُ فِي الأَسْوَاقِ, وَالْجَمَاعَاتِ وَالأَعْرَاسِ وَحَيْثُ شَاءَ إِلاَّ الْمَسَاجِدَ لأََنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ إِلاَّ فِيهَا.

(7/437)


1042- مَسْأَلَةٌ: وَالْجَرَادُ حَلَالٌ إذَا أُخِذَ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا سَوَاءٌ بَعْدَ ذَلِكَ مَاتَ فِي الظُّرُوفِ أَوْ لَمْ يَمُتْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ نا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ [قَالَ] سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ لَا بَأْسَ بِالْجَرَادِ, وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ الْجَرَادُ ذَكَاةٌ كُلُّهُ, وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَرَادِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ, فَلَمْ يَسْتَثْنُوا فِيهِ حَالًا مِنْ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَحِلُّ وَإِنْ أُخِذَ حَيًّا إلَّا حَتَّى يُقْتَلَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَمْكُنُ فِيهِ, وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إنْ وُجِدَ مَيِّتًا فَإِنْ أُخِذَ حَيًّا حَلَّ كَيْفَ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ, رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَلْمَانَ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي الْجَرَادِ: مَا أُخِذَ وَهُوَ حَيٌّ ثُمَّ مَاتَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ أَخْذُ الْجَرَادِ ذَكَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} . فَمَا وُجِدَ مَيِّتًا فَهُوَ حَرَامٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . وَصَحَّ أَكْلُ الْجَرَادِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَّ بِالْحِسِّ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُمْكِنُ فِيهِ فَسَقَطَتْ, فَصَحَّ أَنَّ أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ نَالَتْهُ أَيْدِينَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إبَاحَةُ مَا نَالَتْهُ أَيْدِينَا حَيًّا دُونَ مَا نَالَتْهُ مَيِّتًا, وَصَحَّ فِي كُلِّ مَقْدُورٍ عَلَى تَذْكِيَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ وَالذَّكَاةُ الشَّقُّ وَهِيَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فِي الْجَرَادِ فَارْتَفَعَ حُكْمُهَا عَنْهُ رحمه الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} وَقَدْ صَحَّ

(7/437)


واكثار المرق حسن وتعاهد الجيران منه لو مرة فرض
...
1043- مَسْأَلَةٌ: وَإِكْثَارُ الْمَرَقِ حَسَنٌ, وَتَعَاهُدُ الْجِيرَانِ مِنْهُ وَلَوْ مَرَّةً فَرْضٌ; وَذَمُّ مَا قُدِّمَ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ, لَكِنْ إنْ اشْتَهَاهُ فَلْيَأْكُلْهُ وَإِنْ كَرِهَهُ فَلْيَدَعْهُ وَلْيَسْكُتْ. وَالأَُكْلُ مُعْتَمِدًا عَلَى يُسْرَاهُ مُبَاحٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا طَبَخْتُمْ اللَّحْمَ فَأَكْثِرُوا الْمَرَقَ وَأَطْعِمُوا الْجِيرَانَ" . وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا فَلْيُنَاوِلْهُ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ" يَعْنِي صَانِعَهُ, فَصَحَّ أَنَّ التَّعْلِيلَ مِنْ الْمَرَقِ مُبَاحٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ نا سُفْيَانُ عَنِ الأَُعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ - هُوَ الأَُشْجَعِيُّ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَسَارِ شَيْءٌ - وَرُوِيَ فِيهِ أَثَرٌ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ "زَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الأَُكْلِ" وَلَا حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/438)


كتاب التذكية
باب التذكية
لا يحل أكل شئ مما يحل أكله من حيوان البر طائره ودارجه
...
كِتَابُ التَّذْكِيَةِ
1044- مَسْأَلَةٌ: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ طَائِرُهُ وَدَارِجُهُ إِلاَّ بِذَكَاةٍ كَمَا قَدَّمْنَا حَاشَا الْجَرَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ وَالتَّذْكِيَةُ قِسْمَانِ, قِسْمٌ فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ, وَقِسْمٌ فِي غَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ; وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ; فَتَذْكِيَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا شَقٌّ فِي الْحَلْقِ وَقَطْعٌ يَكُونُ الْمَوْتُ فِي أَثَرِهِ. وَأَمَّا نَحْرٌ فِي الصَّدْرِ يَكُونُ الْمَوْتُ فِي أَثَرِهِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْدِ الشَّارِدِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الصَّيْدِ, وَهَذَا حُكْمٌ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وَالذَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ الشَّقُّ وَهُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى جُمْلَتِهِ إِلاَّ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْسِيمِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(7/438)


وأكمال الذبح هو أن يقطع الودجان والحلقوم والمرئ
...
1045 - مَسْأَلَةٌ: وَإِكْمَالُ الذَّبْحِ هُوَ أَنْ يُقْطَعَ الْوَدَجَانِ وَالْحُلْقُومُ, وَالْمَرِيءُ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ.

(7/438)


1046 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ قَطَعَ الْبَعْضَ مِنْ هَذِهِ الآرَابِ الْمَذْكُورَةِ فَأَسْرَعَ الْمَوْتُ كَمَا

(7/438)


1047- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا جَازَ ذَبْحُهُ جَازَ نَحْرُهُ, وَكُلُّ مَا جَازَ نَحْرُهُ جَازَ ذَبْحُهُ: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ, وَالْخَيْلُ, وَالدَّجَاجُ, وَالْعَصَافِيرُ, وَالْحَمَامُ, وَسَائِرُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ; فَإِنْ شِئْت فَاذْبَحْ, وَإِنْ شِئْت فَانْحَرْ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا. وقال مالك: الْغَنَمُ, وَالطَّيْرُ, تُذْبَحُ، وَلاَ تُنْحَرُ, فَإِنْ نُحِرَ شَيْءٌ مِنْهَا لَمْ يُؤْكَلْ وَأَمَّا الإِبِلُ فَتُنْحَرُ, فَإِنْ ذُبِحَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُؤْكَلْ, وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُذْبَحُ وَتُنْحَرُ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ سَلَفًا مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْلاً, إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْبَعِيرِ خَاصَّةً قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُهَا, وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَبْحَ الْجَمَلِ تَعْذِيبٌ لَهُ لِطُولِ عُنُقِهِ, وَغِلَظِ جِلْدِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ, وَمَا تَعْذِيبُهُ بِالذَّبْحِ إِلاَّ كَتَعْذِيبِهِ بِالنَّحْرِ، وَلاَ فَرْقَ, وَمَا جِلْدُهُ بِأَغْلَظَ مِنْ جِلْدِ الثَّوْرِ, وَمَا عُنُقُهُ بِأَطْوَلَ مِنْ عُنُقِ الإِبِلِ وَهُوَ يَرَى الذَّبْحَ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَمَا تَعْذِيبُ الْعُصْفُورِ, وَالْحَمَامَةِ, وَالدَّجَاجَةِ بِالنَّحْرِ إِلاَّ كَتَعْذِيبِهَا بِالذَّبْحِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ فَيُجِيزُونَ فِيهَا النَّحْرَ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ يَلْزَمُنَا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَإِنْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الإِبِلَ بِمِنًى, وَذَبَحَ الْكَبْشَيْنِ إذْ ضَحَّى بِهِمَا قلنا: نَعَمْ, وَهَذَا فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْفِعْلِ, وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِهِ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَهَذَا هُوَ الْفُتْيَا الْمُبِينَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهَا, لاَ الْعَمَلُ الَّذِي لَمْ يُنْهَ عَمَّا سِوَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ, وَلَمْ يَخُصَّا بِإِحْدَاهُمَا حَيَوَانًا مِنْ حَيَوَانٍ بَلْ هَتَفَ عُمَرُ بِذَلِكَ مُجْمَلاً، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَصْلاً. بَلْ قَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ بَعِيرٍ ضُرِبَ عُنُقُهُ بِالسَّيْفِ وَرَأَى ذَلِكَ ذَكَاةً وَحَيَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا وَهْبُ بْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ

(7/445)


عِكْرِمَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَ جَزُورًا وَهُوَ مُحْرِمٌ, وَالْجَزُورُ الْبَعِيرُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الذَّبْحَ فِي الْقُرْآنِ, فَإِنْ ذَبَحْت شَيْئًا يُنْحَرُ أَجْزَى عَنْك. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الذَّبْحُ مِنْ النَّحْرِ, وَالنَّحْرُ مِنْ الذَّبْحِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, قَالاَ جَمِيعًا: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ إنْ شِئْت ذَبَحْت وَإِنْ شِئْت نَحَرْت. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الذَّبْحُ فِيهِمْ, وَالنَّحْرُ فِيكُمْ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ, فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا" وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَبْحًا مِنْ نَحْرٍ, وَلاَ نَحْرًا مِنْ ذَبْحٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ هُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ حَدَّثَنِي جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ نُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى, وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ" . وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ اليامي، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا وَمِنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأََهْلِهِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدِينَةِ فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَحَرَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلاَ يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ الأَضَاحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى فَأَطْلَقَ عليه السلام فِي الأَضَاحِيِّ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ عُمُومًا وَفِيهَا الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِنَحْرٍ دُونَ ذَبْحٍ، وَلاَ بِذَبْحٍ دُونَ نَحْرٍ, وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ لاَ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ لَبَيَّنَهُ عليه السلام: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَرُوِّينَا عَنْهَا أَيْضًا ذَبَحْنَا فَرَسًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/446)


وأما غير المتمكن منه فذكاته أن يمات بذبح أو بنحر حيث أمكن منه من خاصرة
...
1049- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَمَكَّنِ مِنْهُ فَذَكَاتُهُ أَنْ يُمَاتَ بِذَبْحٍ أَوْ بِنَحْرٍ حَيْثُ

(7/446)


أَمْكَنَ مِنْهُ مِنْ خَاصِرَةٍ, أَوْ مِنْ عَجُزٍ, أَوْ فَخِذٍ, أَوْ ظَهْرٍ, أَوْ بَطْنٍ, أَوْ رَأْسٍ, كَبَعِيرٍ, أَوْ شَاةٍ, أَوْ بَقَرَةٍ, أَوْ دَجَاجَةٍ, أَوْ طَائِرٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: سَقَطَ فِي غَوْرٍ فَلَمْ يُتَمَكَّنْ مِنْ حَلْقِهِ, وَلاَ مِنْ لِبَتِهِ, فَإِنَّهُ يَطْعَنُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِمَا يُعَجِّلُ بِهِ مَوْتَهُ, ثُمَّ هُوَ حَلاَلٌ أَكْلُهُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اسْتَعْصَى مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهِ; فَإِنَّ ذَكَاتَهُ كَذَكَاةِ الصَّيْدِ, ثُمَّ يُؤْكَلُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِنَا. وقال مالك: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُذَكَّى أَصْلاً إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ.
قال أبو محمد: وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ حِمَارًا وَحْشِيًّا اسْتَعْصَى عَلَى أَهْلِهِ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: تِلْكَ أَسْرَعُ الذَّكَاةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ, وَشُعْبَةُ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَذُكِّيَ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ, فَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ مِنْهُ عَشِيرًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ, فَكَانَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْحَرَهُ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَجِزْ عَلَيْهِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَأَجَازَ عَلَيْهِ مِنْ شَاكِلَتِهِ فَأُخْرِجَ قِطَعًا قِطَعًا فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ عَشِيرًا بِدِرْهَمَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ سَمِعَ أَبَا رَاشِدٍ السَّلْمَانِيَّ قَالَ: كُنْت فِي مَنَائِحَ لأََهْلِي بِظَهْرِ الْكُوفَةِ أَرْعَاهَا فَتَرَدَّى بَعِيرٌ مِنْهَا فَنَحَرْتُهُ مِنْ قِبَلِ شَاكِلَتِهِ, فَأَتَيْت عَلِيًّا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اهْدِ لِي عَجُزَهُ: الشَّاكِلَةَ: الْخَاصِرَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَصَارَ أَسْفَلُهُ أَعْلاَهُ, قَالَ: فَسَأَلْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: قَطِّعُوهُ أَعْضَاءً وَكُلُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ: مَا أَعْجَزَك مِنْ الْبَهَائِمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ.
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ: ابْنُ مَسْعُودٍ, وَعَلِيُّ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنْ قَالِحٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَذُكِّيَ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ, فَقَالَ مَسْرُوقٌ: كُلُوهُ.

(7/447)


وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا حُرَيْثٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إذَا خَشِيت أَنْ يَفُوتَك ذَكَاتُهَا فَاضْرِبْ حَيْثُ أَدْرَكْت مِنْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْبَعِيرِ يَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ قَالَ: يُطْعَنُ حَيْثُ قَدَرُوا ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ مَقْتَلاً فَسُئِلَ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ذَكُّوهُ مِنْ أَدْنَى مَقْتَلِهِ; فَفَعَلُوا فَأَخَذَ الأَسْوَدُ مِنْهُ بِدِرْهَمَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْت الضَّحَّاكِ يَقُولُ فِي بَقَرَةٍ شَرَدَتْ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَالْحَسَنِ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَلاَ نَعْلَمُ لِمَالِكٍ فِي هَذَا سَلَفًا إِلاَّ قَوْلاً، عَنْ رَبِيعَةَ.
قال أبو محمد: وَقَالَ قَائِلُهُمْ: إنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَأَبِيحُوا قَتْلَهَا بِالْكِلاَبِ وَالْجَوَارِحِ.فَقُلْنَا: نَعَمْ, إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَهِيَ فِي ذَلِكَ كَالصَّيْدِ، وَلاَ فَرْقَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعَمِ وَالإِنْسِيَّاتِ فِي الذَّكَاةِ, فَهَلاَّ قَالُوا: إنَّ النِّعَمَ وَالإِنْسِيَّاتِ إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهَا فَمَنْزِلَتُهَا كَمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ يَوْمًا مَا لَكَانَ هَذَا أَصَحَّ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: إنِّي لأََرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُهْرَقَ مِنْ أَجْلِ كَلْبٍ وَلَغَ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ هَهُنَا: إنِّي لأََرَاهُ عَظِيمًا أَنْ يُعْمَدَ إلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ فَيُضَيَّعَ وَيُفْسَدَ لأََجْلِ أَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى لَبَّتِهِ, وَلاَ عَلَى حَلْقِهِ; فَلَوْ عُكِسَ كَلاَمُهُ لاََصَابَ; بَلْ الْعَظِيمُ كُلُّ الْعَظِيمِ هُوَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ" فَيَقُولُ قَائِلٌ بِرَأْيِهِ: لاَ يُرَاقُ, وَأَنْ يَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فَيُضَيَّعُ الْبَعِيرُ, وَالْبَقَرَةُ, وَالشَّاةُ, وَالدَّجَاجَةُ, وَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى تَذْكِيَتِهَا مِنْ أَجْلِ عَجْزِنَا، عَنْ أَنْ تَكُونَ التَّذْكِيَةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ; فَهَذَا هُوَ الْعَظِيمُ حَقًّا.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فَصَحَّ أَنَّ التَّذْكِيَةَ كَيْفَمَا قَدَرْنَا لاَ نُكَلَّفُ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا عَوَانَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْخَبَرَ وَفِيهِ فَنَدَّ بَعِيرٌ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ, فَأَهْوَى إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ

(7/448)


فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَدَّ عَلَيْنَا بَعِيرٌ فَرَمَيْنَاهُ بِالنَّبْلِ حَتَّى وَهَصْنَاهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَالَ عَلِيٌّ: الْوَهْصُ الْكَسْرُ وَالإِسْقَاطُ إلَى الأَرْضِ، وَلاَ يَبْلُغُ الْبَعِيرُ هَذَا الأَمْرَ إِلاَّ وَهُوَ مَنْفَذُ الْمُقَاتِلِ, وَقَدْ أُذِنَ عليه السلام فِي رَمْيِهِ بِالنَّبْلِ, وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا الْمَوْتُ بِإِصَابَتِهَا وَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ عليه السلام فِي ذَكَاتِهَا بِالرَّمْيِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَهُنَا خَبَرٌ لَوْ ظَفِرُوا بِمِثْلِهِ لَطَغَوْا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلاَّ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ قَالَ: "لَوْ طُعِنَتْ فِي فَخْذِهَا لاََجْزَأَكَ".
قال أبو محمد: أَبُو الْعَشْرَاءِ قِيلَ: اسْمُهُ أُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قَهْطَمٍ, وَقِيلَ: عُطَارِدُ بْنُ بَرْزٍ وَفِي الصَّحِيحِ الَّذِي قَدَّمْنَا كِفَايَةٌ. وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالصَّحَابَةِ, وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ, وَالْقِيَاسَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/449)


1049- مَسْأَلَةٌ: وَمَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ قَبْلَ تَمَامِ تَذْكِيَتِهَا فَبَانَ عَنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, فَإِنْ تَمَّتْ الذَّكَاةُ بَعْدَ قَطْعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أُكِلَتْ الْبَهِيمَةُ وَلَمْ تُؤْكَلْ تِلْكَ الْقِطْعَةُ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ لأََنَّهَا زَايَلَتْ الْبَهِيمَةَ وَهِيَ حَرَامٌ أَكْلُهَا فَلاَ تَقَعُ عَلَيْهَا ذَكَاةٌ كَانَتْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا لَمَّا قُطِعَتْ مِنْهُ.

(7/449)


1050- مَسْأَلَةٌ: وَمَا قُطِعَ مِنْهَا بَعْدَ تَمَامِ التَّذْكِيَةِ وَقَبْلَ مَوْتِهَا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ مَا دَامَتْ الْبَهِيمَةُ حَيَّةً فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ هِيَ وَحَلَّتْ الْقِطْعَةُ أَيْضًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} فَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى أَكْلَ شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجَنْبِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَوْتُ فَإِذَا مَاتَتْ فَالذَّكَاةُ وَاقِعَةٌ عَلَى جَمِيعِهَا إذْ ذُكِّيَتْ, فَاَلَّذِي قُطِعَ مِنْهَا مُذَكًّى فَإِذَا حَلَّتْ هِيَ حَلَّتْ أَجْزَاؤُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ حُكْمَ الْبَدَنِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَا يُذَكَّى, وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ عُمَرَ: أَقِرُّوا الأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ, وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ.

(7/449)


والتذكية من الذبح والنحر والطعن والضرب جائزة بكل شئ
...
1051- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّذْكِيَةُ مِنْ الذَّبْحِ, وَالنَّحْرِ, وَالطَّعْنِ, وَالضَّرْبِ جَائِزَةٌ بِكُلِّ شَيْءٍ إذَا قَطَعَ قِطْعَةَ السِّكِّينِ أَوْ نَفَذَ نَفَاذَ الرُّمْحِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: الْعُودُ الْمُحَدَّدُ, وَالْحَجَرُ الْحَادُّ, وَالْقَصَبُ الْحَادُّ وَكُلُّ شَيْءٍ حَاشَا آلَةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَحَاشَا السِّنِّ, وَالظُّفْرِ, وَمَا عُمِلَ مِنْ سِنٍّ, أَوْ مِنْ ظُفْرٍ مَنْزُوعَيْنِ وَإِلَّا عَظْمُ خِنْزِيرٍ, أَوْ عَظْمُ حِمَارٍ أَهْلِيٍّ, أَوْ عَظْمُ سَبُعٍ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ أَوْ الطَّيْرِ حَاشَا الضِّبَاعَ أَوْ عَظْمِ إنْسَانٍ فَلاَ يَكُونُ حَلاَلاً مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ حَرَامٌ.
وَالتَّذْكِيَةُ جَائِزَةٌ بِعَظْمِ الْمَيِّتَةِ وَبِكُلِّ عَظْمٍ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا, وَهِيَ جَائِزَةٌ بِمُدَى الْحَبَشَةِ وَمَا ذَكَّاهُ الزِّنْجِيُّ, وَالْحَبَشِيُّ, وَكُلُّ مُسْلِمٍ فَهُوَ حَلاَلٌ. فَلَوْ عُمِلَ مِنْ ضِرْسِ الْفِيلِ سَهْمٌ, أَوْ رُمْحٌ, أَوْ سِكِّينٌ: لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ بِهِ, لأََنَّهُ سِنٌّ. فَلَوْ عُمِلَتْ مِنْ سَائِرِ عِظَامِهِ هَذِهِ الآلاَتُ حَلَّ الذَّبْحُ, وَالنَّحْرُ, وَالرَّمْيُ بِهَا. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: التَّذْكِيَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ حَلاَلٌ حَاشَا السِّنَّ قَبْلَ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ الْفَمِ, وَحَاشَا الظُّفْرَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَعَ مِنْ الْيَدِ, فَإِنَّهُ لاَ يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ بِهِمَا لأََنَّهُ خَنْقٌ لاَ ذَبْحٌ. وقال الشافعي: كُلُّ مَا ذُكِّيَ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَحَلاَلٌ أَكْلُهُ حَاشَا مَا ذُكِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ الأَظْفَارِ كُلِّهَا, وَالْعِظَامِ كُلِّهَا, مَنْزُوعِ كُلِّ ذَلِكَ أَوْ غَيْرِ مَنْزُوعٍ, فَلاَ يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ سَوَاءً سَوَاءً إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُؤْكَلُ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ أَوْ رُمِيَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فأما قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ فَلاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمَا، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا فِيهِ سَلَفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَلاَ حُجَّةَ أَصْلاً لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ; بَلْ هُوَ خِلاَفُ السُّنَّةِ عَلَى مَا نُورِدُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً, وَبَقِيَ قَوْلُنَا, وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَاللَّيْثِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لاَقُو الْعَدُوِّ غَدًا وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ, وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ, وَسَأُحَدِّثُكَ, أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ, وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي التَّذْكِيَةِ بِإِسْنَادِهِ. فأما نَحْنُ فَتَعَلَّقْنَا بِنَهْيِهِ عليه السلام وَلَمْ نَتَعَدَّهُ وَلَمْ نُحَرِّمْ إِلاَّ مَا ذُبِحَ أَوْ رُمِيَ بِسِنٍّ أَوْ ظُفْرٍ فَقَطْ, وَلَمْ نَجْعَلْ الْعَظِيمَةَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ مِنْ الذَّكَاةِ إِلاَّ حَيْثُ جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَبًا لِذَلِكَ, وَهُوَ السِّنُّ, وَالظُّفْرُ فَقَطْ. وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ التَّذْكِيَةِ بِعِظَامِ الْخِنْزِيرِ, وَالْحِمَارِ الأَهْلِيِّ, أَوْ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, أَوْ الطَّيْرِ لقوله تعالى فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ فَهِيَ كُلُّهَا رِجْسٌ, وَالرِّجْسُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ, وَلاَ يَحِلُّ إمْسَاكُهَا إِلاَّ حَيْثُ أَبَاحَهَا نَصٌّ, وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ مِلْكُهَا وَرُكُوبُهَا

(7/450)


وَاسْتِخْدَامُهَا وَبَيْعُهَا وَابْتِيَاعُهَا يَعْنِي الْحُمُرَ فَقَطْ. وَمَنَعْنَا مِنْ التَّذْكِيَةِ بِعِظَامِ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, وَالطَّيْرِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا جُمْلَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَلَمْ نُحِلَّ مِنْهَا إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ النَّصُّ مِنْ تَمَلُّكِهَا لِلصَّيْدِ بِهَا وَابْتِيَاعِهَا لِذَلِكَ فَقَطْ وَإِلَّا فَهِيَ حَرَامٌ وَبَعْضُ الْحَرَامِ حَرَامٌ.
وَأَمَّا عَظْمُ الإِنْسَانِ فَلأََنَّ مُوَارَاتَهُ فَرْضٌ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُؤْمِنًا. وَأَبَحْنَا التَّذْكِيَةَ بِعِظَامِ الْمَيِّتَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا وَحُرِّمَ عليه السلام بَيْعُهَا وَالدُّهْنُ بِشَحْمِهَا, فَلاَ يَحْرُمُ مِنْ الْمَيِّتَةِ شَيْءٌ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ مَزِيدَ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ عَظْمٌ فَجَعَلَ الْعَظْمِيَّةَ عِلَّةٌ لِلْمَنْعِ مِنْ التَّذْكِيَةِ حَيْثُ كَانَ الْعَظْمُ أَوْ أَيُّ عَظْمٍ كَانَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ لأََنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُودِ رَسُولِهِ عليه السلام لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمَا عَجَزَ، عَنْ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الْعَظْمُ وَالظُّفْرُ, وَهُوَ عليه السلام قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُمِرَ عليه السلام بِالْبَيَانِ. فَلَوْ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ تَحْرِيمَ الذَّكَاةِ بِالْعَظْمِ لَمَا تَرَكَ أَنْ يَقُولَهُ، وَلاَ اسْتَعْمَلَ التَّحْلِيقَ وَالإِكْثَارَ بِلاَ مَعْنَى فِي الأَقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ السِّنِّ, فَهَذَا هُوَ التَّلْبِيسُ وَالإِشْكَالُ لاَ الْبَيَانُ, وَنَحْنُ وَهُمْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ عليه السلام حَكَمَ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّذْكِيَةِ بِالسِّنِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ عَظْمًا, وَنَحْنُ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ عليه السلام لَوْ أَرَادَ كُلَّ عَظْمٍ لَمَا سَكَتَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَادُوا فِي حُكْمِهِ عليه السلام مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَاقَضُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ, لأََنَّهُ عليه السلام جَعَلَ السَّبَبَ فِي مَنْعِ التَّذْكِيَةِ بِالظُّفْرِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ مُدَى الْحَبَشَةِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَطْرُدُوا أَصْلَهُمْ فَيَمْنَعُوا التَّذْكِيَةَ بِمُدَى الْحَبَشَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَتْ وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا فَإِنْ ادَّعَوْا هَهُنَا إجْمَاعًا كَانُوا كَاذِبِينَ قَائِلِينَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَرِهَ ذَبِيحَةَ الزِّنْجِيِّ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَجْعَلُ كَوْنَ مَا يُذَكَّى بِهِ مِنْ مُدَى الْحَبَشَةِ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِهِ إِلاَّ فِي الظُّفْرِ وَحْدَهُ, حَيْثُ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ نَجْعَلُ الْعَظْمِيَّةَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ بِمَا هِيَ فِيهِ إِلاَّ فِي السِّنِّ وَحْدَهُ, حَيْثُ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام, وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: يُذْبَحُ بِكُلِّ شَيْءٍ غَيْرِ أَرْبَعَةٍ السِّنِّ, وَالظُّفْرِ, وَالْعَظْمِ, وَالْقَرْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كُلُّ مَا فَرَى الأَوْدَاجَ وَأَهْرَاقَ الدَّمَ, إِلاَّ الظُّفْرَ, وَالنَّابَ, وَالْعَظْمَ.
وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا فَرَى الأَوْدَاجَ فَكُلٌّ إِلاَّ السِّنَّ, وَالظُّفْرَ. وَمِنْ طَرِيقِ

(7/451)


سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَدِيجُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: كَانَ يُكْرَهُ النَّابُ وَالظُّفْرُ.
قال أبو محمد: وَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ هَذِهِ السُّنَّةَ بِآرَائِهِمْ, وَلَيْسَ فِي الْعَجَبِ أَعْجَبُ مِنْ إخْرَاجِهِمْ الْعِلَلَ الْكَاذِبَةَ الْفَاسِدَةَ الْمُفْتَرَاةَ: مِنْ مِثْلِ تَعْلِيلِ الرِّبَا بِالأَدِّخَارِ وَالأَكْلِ, وَتَعْلِيلِ مِقْدَارِ الصَّدَاقِ بِأَنَّهُ عِوَضُ مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعُضْوُ, وَسَائِرُ تِلْكَ الْعِلَلِ السَّخِيفَةِ الْبَارِدَةِ الْمَكْذُوبَةِ, ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى مَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَبًا لِتَحْرِيمِ أَكْلِ مَا ذُكِّيَ بِهِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ عَظْمٌ وَإِنَّهُ مُدَى الْحَبَشَةِ، وَلاَ يُعَلِّلُونَ بِهِمَا بَلْ يَجْعَلُونَهُ لَغْوًا مِنْ الْكَلاَمِ وَيُخْرِجُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عِلَّةً كَاذِبَةً سَخِيفَةً وَهِيَ الْخَنْقُ. وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ أَطَالَ ظُفْرَهُ جِدًّا وَشَحَذَهُ وَرَقَّقَهُ حَتَّى ذَبَحَ بِهِ عُصْفُورًا صَغِيرًا فَبُرِيَ كَمَا تُبْرَى السِّكِّينُ أَيُؤْكَلُ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ, تَرَكُوا عِلَّتَهُمْ فِي الْخَنْقِ. وَإِنْ قَالُوا: يُؤْكَلُ, تَرَكُوا قَوْلَهُمْ فِي الظُّفْرِ الْمَنْزُوعِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُرَيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ" . قلنا: هَذَا خَبَرٌ سَاقِطٌ, لأََنَّهُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ، عَنْ مُرَيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ خَبَرُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ زَائِدًا عَلَيْهِ تَخْصِيصًا يَلْزَمُ إضَافَتُهُ إلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ لِيَسْتَعْمِلَ الْخَبَرَيْنِ مَعًا. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ أَرْنَبٍ ذَبَحْتُهَا بِظُفْرِي فَقَالَ: لاَ تَأْكُلْهَا فَإِنَّهَا الْمُنْخَنِقَةُ, وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا قَتَلْتهَا خَنْقًا, فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَخِلاَفُ قَوْلِهِمْ; لأََنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَشْتَرِطْهُ مَنْزُوعًا مِنْ غَيْرِ مَنْزُوعٍ.
وَأَمَّا مَنْعُنَا مِنْ أَكْلِ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ أَوْ رُمِيَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَبِالْبَاطِلِ تَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُ, وَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ بِيَقِينٍ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْكَلُ, وَهَذَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ مُفْتَرَضٌ مَأْمُورٌ بِهِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَاسْتِعْمَالُ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الذَّبْحِ, وَالنَّحْرِ, وَالرَّمْيِ: فِعْلٌ مُحَرَّمٌ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى. هَذَانِ قَوْلاَنِ مُتَيَقَّنَانِ بِلاَ خِلاَفٍ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَمِنْ الْبَاطِلِ الْبَحْتِ, وَالْكَذِبِ الظَّاهِرِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَ بِهِ مُؤَدِّيًا لِمَا أُمِرَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/452)


وما ثرد وخزق ولم ينفذ نفاذ السكين والسهم لم يحل أكل ما قتل به
...
1052- مَسْأَلَةٌ: وَمَا ثَرَدَ وَخَزَقَ وَلَمْ يَنْفُذْ نَفَاذَ السِّكِّينِ, وَالسَّهْمِ: لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ

(7/452)


مَا قُتِلَ بِهِ, وَكَذَلِكَ مَا ذُبِحَ بِمِنْشَارٍ, أَوْ بِمِنْجَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" . فَالْمُثْرِدُ وَالذَّابِحُ بِشَيْءٍ مُضْرِسٍ لَمْ يَذْبَحْ كَمَا أُمِرَ، وَلاَ ذَكَّى كَمَا أُمِرَ, فَهِيَ مَيْتَةٌ وَالْعَجَبُ مِنْ مَنْعِهِمْ الأَكْلَ هَهُنَا, لأََنَّهُ لَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَذْبَحْ بَلْ بِآلَةِ نُهِيَ عَنْهَا, ثُمَّ يُجِيزُونَ أَكْلَ مَا نُحِرَ أَوْ ذُبِحَ بِآلَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/453)


و لا يجوز التذكية بآلة ذهب أو مذهبة أصلاً للرجال
...
1053- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِآلَةٍ ذَهَبٍ أَوْ مُذَهَّبَةٍ أَصْلاً لِلرِّجَالِ, فَإِنْ فَعَلَ الرَّجُلُ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. فَإِنْ ذَكَّتْ بِهَا امْرَأَةٌ فَهُوَ حَلاَلٌ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ, لِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذَّهَبَ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِهِ وَإِبَاحَتِهِ إيَّاهُ لأَِنَاثِهَا. فَمَنْ ذَكَّى مِنْ الرِّجَالِ بِآلَةِ ذَهَبٍ أَوْ مُذَهَّبَةٍ فَقَدْ اسْتَعْمَلَ آلَةً مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهَا فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ وَالْمَرْأَةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.

(7/453)


1054- مَسْأَلَةٌ: التَّذْكِيَةُ بِآلَةِ فِضَّةٍ حَلاَلٌ, لأََنَّهُ لَمْ يُنْهَ إِلاَّ، عَنْ آنِيَتِهَا فَقَطْ, وَلَيْسَ السِّكِّينُ, وَالرُّمْحُ وَالسَّهْمُ, وَلاَ السَّيْفُ: آنِيَةٌ.

(7/453)


فمن لم يجد سناً أو ظفراً أو عظم سبع أو طائر
...
1055- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ سِنًّا, أَوْ ظُفْرًا, أَوْ عَظْمَ سَبُعٍ, أَوْ طَائِرٍ, أَوْ ذِي أَرْبَعٍ أَوْ خِنْزِيرٍ, أَوْ حِمَارٍ, أَوْ إنْسَانٍ, أَوْ ذَهَبٍ, وَخَشِيَ مَوْتَ الْحَيَوَانِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا ذُكِّيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ ذَكَاةٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَصْلاً, فَهُوَ عَادِمُ مَا يُذْكِي بِهِ, وَلَيْسَ مُضَيِّعًا لَهُ, لأََنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَا يَجُوزُ أَنْ يُذَكِّيَهُ بِهِ, فَذَلِكَ الْحَيَوَانُ غَيْرُ مُذَكًّى أَصْلاً.

(7/453)


1056- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ آلَةً مَغْصُوبَةً, أَوْ مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ وَخَشِيَ الْمَوْتَ عَلَى حَيَوَانِهِ ذَكَّاهُ بِهَا وَحَلَّ لَهُ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَحَرَامٌ عَلَى صَاحِبِ الآلَةِ مَنْعُهُ مِنْهَا إذَا خَشِيَ ضَيَاعَ مَالِهِ بِمَوْتِهِ جِيفَةً, فَإِذْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى صَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنْهَا, فَفُرِضَ عَلَى صَاحِبِ الْحَيَوَانِ أَخْذُهَا وَالتَّذْكِيَةُ بِهَا فَهُوَ مُطِيعٌ بِذَلِكَ أَحَبَّ صَاحِبُ الآلَةِ أَوْ كَرِهَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/453)


1057- مَسْأَلَةٌ: وَتَذْكِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ, وَالزِّنْجِيِّ, وَالأَقْلَفِ, وَالأَخْرَسِ, وَالْفَاسِقِ, وَالْجُنُبِ, وَالآبِقِ, وَمَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا, أَوْ غَيْرِ عَمْدٍ: جَائِزٌ أَكْلُهَا إذَا ذَكَّوْا وَسَمَّوْا عَلَى حَسْبِ طَاقَتِهِمْ, بِالإِشَارَةِ مِنْ الأَخْرَسِ, وَيُسَمَّى الأَعْجَمِيُّ بِلُغَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَخَاطَبَ كُلَّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ, وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ

(7/453)


وكل ماذبحه أو نحره يهودي أو نصراني أو مجوسي نساؤهم أو رجالهم فهو حلال لنا
...
1058- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَبَحَهُ, أَوْ نَحَرَهُ يَهُودِيٌّ, أَوْ نَصْرَانِيٌّ, أَوْ مَجُوسِيٌّ نِسَاؤُهُمْ, أَوْ رِجَالُهُمْ: فَهُوَ حَلاَلٌ لَنَا, وَشُحُومُهَا حَلاَلٌ لَنَا إذَا ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَلَوْ نَحَرَ الْيَهُودِيُّ بَعِيرًا أَوْ أَرْنَبًا حَلَّ أَكْلُهُ, وَلاَ نُبَالِي مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ. وقال مالك: لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شُحُومِ مَا ذَبَحَهُ الْيَهُودِيُّ, وَلاَ مَا ذَبَحُوهُ مِمَّا لاَ يَسْتَحِلُّونَهُ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لأََنَّهُ خِلاَفُ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} . وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَا ذَكَّوْهُ, لاَ مَا أَكَلُوهُ, لأََنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الْخِنْزِيرَ, وَالْمَيْتَةَ, وَالدَّمَ, وَلاَ يَحِلُّ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ وَمِنَّا, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَكَلُوهُ مِمَّا لَمْ يَأْكُلُوهُ {وَمَا كَانَ

(7/454)


رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَأَمَّا الْقُرْآنُ, وَالإِجْمَاعُ: فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ, وَصَحَّ الإِجْمَاعُ بِأَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ نَسَخَ كُلَّ دِينٍ كَانَ قَبْلَهُ, وَأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ أَوْ الإِنْجِيلُ, وَلَمْ يَتَّبِعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُشْرِكٌ, غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ, فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ شَرِيعَةٍ كَانَتْ فِي التَّوْرَاةِ, وَالإِنْجِيلِ, وَسَائِرِ الْمِلَلِ, وَافْتَرَضَ عَلَى الْجِنِّ, وَالإِنْسِ: شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ, فَلاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا حُرِّمَ فِيهِ, وَلاَ حَلاَلَ إِلاَّ مَا حُلِّلَ فِيهِ, وَلاَ فَرْضَ إِلاَّ مَا فُرِضَ فِيهِ وَمَنْ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ خِلاَفَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الأَئِمَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مِنْ حَدِيثِ جِرَابِ الشَّحْمِ الْمَأْخُوذِ فِي خَيْبَرَ فَلَمْ يَمْنَعْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهِ, بَلْ أَبْقَاهُ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلاَلٍ الْعَدَوِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَأَخَذْتُهُ وَالْتَزَمْتُهُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ. وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةً مَسْمُومَةً فَأَكَلَ مِنْهَا وَلَمْ يُحَرِّمْ عليه السلام مِنْهَا لاَ شَحْمَ بَطْنِهَا، وَلاَ غَيْرَهُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ تَقَعَ الذَّكَاةُ عَلَى بَعْضِ شَحْمِ الشَّاةِ دُونَ بَعْضٍ, وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِمْ هَهُنَا حُجَّةً أَصْلاً, لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قِيَاسٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَمِنْ طَعَامِنَا الشَّحْمُ, وَالْجَمَلُ, وَسَائِرُ مَا يُحَرِّمُونَهُ أَوْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى, ثُمَّ نَسَخَهُ وَأَبْطَلَهُ وَأَحَلَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام بِقَوْلِهِ تَعَالَى، عَنْ عِيسَى وَلأَُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى، عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيَّ الأُُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ، عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ثُمَّ يُصِرُّونَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُحَرِّمُونَهُ مِمَّا هُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ حَلاَلٌ لَهُمْ وَيَسْأَلُونَ، عَنِ الشَّحْمِ وَالْجَمَلِ أَحَلاَلٌ هُمَا الْيَوْمَ لِلْيَهُودِ أَمْ هُمَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ إلَى الْيَوْمِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ إلَى الْيَوْمِ كَفَرُوا, بِلاَ مِرْيَةٍ; إذْ قَالُوا: إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُمَا حَلاَلٌ صُدِّقُوا وَلَزِمَهُمْ تَرْكُ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ فِي ذَلِكَ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ يَهُودِيٍّ مُسْتَخْفٍ بِدِينِهِ يَأْكُلُ الشَّحْمَ فَذَبَحَ شَاةً. أَيَحِلُّ لَنَا أَكْلُ شَحْمِهَا لأَسْتِحْلاَلِ ذَابِحِهَا لَهُ أَمْ يَحْرُمُ عَلَيْنَا تَحْقِيقًا فِي اتِّبَاعِ دِينِ الْيَهُودِ دِينِ الْكُفْرِ وَدِينِ الضَّلاَلِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, وَكِلاَهُمَا خُطَّةُ خَسْفٍ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ لاَ يَسْتَحِلُّوا أَكْلَ مَا ذَبَحَهُ يَهُودِيٌّ يَوْمَ سَبْتٍ، وَلاَ أَكْلَ حِيتَانٍ صَادَهَا يَهُودِيٌّ يَوْمَ سَبْتٍ, وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعَلِيٍّ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَأَبِي أُمَامَةَ, وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَابْنِ

(7/455)


عُمَرَ: إبَاحَةَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ اشْتِرَاطٍ لِمَا يَسْتَحِلُّونَهُ مِمَّا لاَ يَسْتَحِلُّونَهُ. وَكَذَلِكَ، عَنْ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ, وَأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ, وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ, وَمَكْحُولٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَالْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ, وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ, وَعَطَاءٍ, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وطَاوُوس, وَعَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ, لَمْ نَجِدْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ إِلاَّ، عَنْ قَتَادَةَ ثُمَّ، عَنْ مَالِكٍ, وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ وَخَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ: فَإِنْ ذَكَرُوا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ الْجَدَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَجُوسٍ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلاَمِ فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَلاَ تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلاَ تُنْكَحُ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ. نا حُمَامٌ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ مُسْلِمٍ، نا أَبُو ثَوْرٍ إبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ مَرِيضٍ أَمَرَ مَجُوسِيًّا أَنْ يَذْبَحَ وَيُسَمِّيَ, فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ, وَأَبِي ثَوْرٍ.
قال أبو محمد: لَمْ يُفْسِحْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ كِتَابِيٍّ, وَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَجُوسِ وَمَا كَانَ لِيُخَالِفَ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا، عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. قلنا: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بِنَصِّ الآيَةِ نَهْيًا، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لاَ تَصْحِيحًا لَهُ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}.

(7/456)


و لايحل أكل ما ذكاه غير اليهودي والنصراني والمجوسي
...
1060- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَكَّاهُ غَيْرُ الْيَهُودِيِّ, وَالنَّصْرَانِيِّ, وَالْمَجُوسِيِّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مُرْتَدٌّ إلَى دِينٍ كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِ كِتَابِيٍّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ كِتَابِيٍّ إلَى دِينٍ كِتَابِيٍّ, وَلاَ مَا ذَكَّاهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينٍ كِتَابِيٍّ بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَنَا إِلاَّ مَا ذَكَّيْنَاهُ أَوْ ذَكَّاهُ الْكِتَابِيُّ كَمَا قَدَّمْنَا. وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا لَيْسَ كِتَابِيًّا لأََنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الإِسْلاَمِ إذْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِهِ, أَوْ الْقَتْلُ فَدُخُولُهُ فِي دِينٍ كِتَابِيٍّ غَيْرِ مَقْبُولٍ مِنْهُ، وَلاَ هُوَ مِنْ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ, وَالْمُرْتَدُّ مِنَّا إلَيْهِمْ كَذَلِكَ, وَالْخَارِجُ مِنْ دِينٍ كِتَابِيٍّ إلَى دِينٍ كِتَابِيٍّ

(7/456)


كَذَلِكَ, لأََنَّهُ إنَّمَا تَذَمَّمَ وَحَرُمَ قَتْلُهُ بِالدِّينِ الَّذِي كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ, فَخُرُوجُهُ إلَى غَيْرِهِ نَقْضٌ لِلذِّمَّةِ لاَ يَقَرُّ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/457)


1061- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ذَبَحَ وَهُوَ سَكْرَانُ أَوْ فِي جُنُونِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ فِي حَالِ ذَهَابِ عُقُولِهِمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنْ ذَكَّيَا بَعْدَ الصَّحْوِ وَالإِفَاقَةِ حَلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/457)


1062- مَسْأَلَةٌ: وَمَا ذَبَحَهُ أَوْ نَحَرَهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ حَتَّى يَبْلُغَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ، عَنْ ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ, وَالصَّبِيِّ لاَ يَقُولُ فِيهِمَا شَيْئًا. وَبِالْمَنْعِ مِنْهُمَا يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا. وَأَبَاحَهَا: النَّخَعِيُّ: وَالشَّعْبِيُّ, وَالْحَسَنُ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ.
قال أبو محمد: قَدْ وَافَقُونَا أَنَّ إنْكَاحَهُ لِوَلِيَّتِهِ, وَنِكَاحَهُ, وَبَيْعَهُ, وَابْتِيَاعَهُ, وَتَوْكِيلَهُ: لاَ يَجُوزُ, وَأَنَّهُ لاَ تَلْزَمُهُ صَلاَةٌ, وَلاَ صَوْمٌ, وَلاَ حَجٌّ, لأََنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِذَلِكَ، وَلاَ يُجْزِي حَجُّهُ، عَنْ غَيْرِهِ فَمِنْ أَيْنَ أَجَازُوا ذَبِيحَتَهُ؟

(7/457)


1063- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَذَكَّاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الآخَرِ, فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ مِثْلَ حِصَّتِهِ مُشَاعًا فِي حَيَوَانٍ مِثْلِهِ, فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلاً فَقِيمَتُهُ, إِلاَّ أَنْ يَرَى بِهِ مَوْتًا أَوْ تَعْظُمُ مُؤْنَتُهُ فَيَضِيعُ, فَلَهُ تَذْكِيَتُهُ حِينَئِذٍ, وَهُوَ حَلاَلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْلَ أَمْوَالِنَا بِالْبَاطِلِ. وَقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَبْحِهِ مَتَاعَ غَيْرِهِ, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَلاَحًا جَازَ كَمَا قلنا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِنَا.

(7/457)


1064- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَمَرَ أَهْلَهُ, أَوْ وَكِيلَهُ, أَوْ خَادِمَهُ بِتَذْكِيَةِ مَا شَاءُوا مِنْ حَيَوَانِهِ, أَوْ مَا احْتَاجُوا إلَيْهِ فِي حَضْرَتِهِ, أَوْ مَغِيبِهِ جَازَ ذَلِكَ, وَهِيَ ذَكَاةٌ صَحِيحَةٌ لأََنَّهُ بِإِذْنِهِ كَانَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَتَعَدَّ الْمُذَكِّي حِينَئِذٍ وَلَهُ ذَلِكَ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/457)


1065- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ كَسْرُ قَفَا الذَّبِيحَةِ حَتَّى تَمُوتَ فَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ تَمَامِ الذَّكَاةِ فَقَدْ عَصَى وَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا بِذَلِكَ, لأََنَّهُ لَمْ يُرِحْ ذَبِيحَتَهُ, إذْ كَسَرَ عُنُقَهَا, وَلَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا, لأََنَّهُ إذَا تَمَّتْ ذَكَاتُهَا فَقَدْ حَلَّ أَكْلُهَا بِذَلِكَ إذَا مَاتَتْ.

(7/457)


1066- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا غَابَ عَنَّا مِمَّا ذَكَّاهُ مُسْلِمٌ فَاسِقٌ, أَوْ جَاهِلٌ, أَوْ كِتَابِيٌّ فَحَلاَلٌ أَكْلُهُ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ أَبُو ثَابِتٍ الْمَدِينِيُّ، نا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا

(7/457)


1066- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا تَرَدَّى أَوْ أَصَابَهُ سَبُعٌ أَوْ نَطَحَهُ نَاطِحٌ, أَوْ انْخَنَقَ فَانْتَثَرَ دِمَاغُهُ, أَوْ انْقَرَضَ مُصْرَانُهُ, أَوْ انْقَطَعَ نُخَاعُهُ, أَوْ انْتَشَرَتْ حَشْوَتُهُ فَأُدْرِكَ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَيَاةِ فَذُبِحَ أَوْ نُحِرَ: حَلَّ أَكْلُهُ, وَإِنَّمَا حَرَّمَ تَعَالَى مَا مَاتَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
بُرْهَانُهُ: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ, وَلاَ نُبَالِي مِنْ أَيِّهِمَا مَاتَ قَبْلُ, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ بَلْ أَبَاحَ مَا ذَكَّيْنَا قَبْلَ الْمَوْتِ, فَلَوْ قَطَعَ السَّبُعُ حَلْقَهَا نُحِرَتْ وَحَلَّ أَكْلُهَا, وَلَوْ بَقِيَ فِي الْحَلْقِ مَوْضِعٌ يُذْبَحُ فِيهِ ذُبِحَتْ وَحَلَّ أَكْلُهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ وَجَدَ شَاةً لَهُمْ تَمُوتُ فَذَبَحَهَا فَتَحَرَّكَتْ فَسَأَلْت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ: إنَّ الْمَيْتَةَ لاَ تَتَحَرَّكُ; فَسَأَلْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: كُلْهَا إذَا طَرَفَتْ عَيْنُهَا, أَوْ تَحَرَّكَتْ قَائِمَةً مِنْ قَوَائِمهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا فَهِيَ ذَكِيٌّ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَفَرَى بَطْنَهَا فَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الأَرْضِ, فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَا سَقَطَ مِنْهَا إلَى الأَرْضِ فَلاَ تَأْكُلْهُ, وَأَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّيَهَا فَيَأْكُلَهَا.وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد الْخُرَيْبِيُّ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ هُوَ مُوسَى بْنُ رَافِعٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: رَأَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي دَارِنَا نَعَامَةً تَرْكُضُ بِرِجْلِهَا, فَقَالَ: مَا هَذِهِ قلنا: وَقِيذٌ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ, فَقَالَ: ذَكُّوهَا, فَإِنَّ الْوَقِيذَ مَا مَاتَ فِي وَقْذِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} قَالَ: هِيَ الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَا. {وَالْمَوْقُوذَةُ} الَّتِي تُوقَذُ فَتَمُوتُ. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} الَّتِي تَتَرَدَّى فَتَمُوتُ. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مِنْ هَذَا كُلِّهِ, فَإِذَا وَجَدْتهَا تَطْرِفُ عَيْنَهَا, أَوْ تُحَرِّكُ أُذُنَهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ: مُنْخَنِقَةً, أَوْ مَوْقُوذَةً, أَوْ مُتَرَدِّيَةً, أَوْ مَا أَكَلَ السَّبُعُ, أَوْ نَطِيحَةً فَهِيَ لَك حَلاَلٌ إذَا ذَكَّيْتَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ، عَنْ شَاةٍ بَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَهَا فَوَضَعَ قَصَبَهَا إلَى الأَرْضِ, ثُمَّ ذُبِحَتْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَقَطَ, مِنْ قَصَبِهَا إلَى الأَرْضِ

(7/458)


فَلاَ تَأْكُلْهُ, فَإِنَّهُ مَيْتَةٌ, وَكُلْ مَا بَقِيَ، وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ يَأْخُذُ إسْمَاعِيلُ, وَمَا نَعْلَمُ لِلْقَوْلِ الآخَرِ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ مُتَعَلِّقًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا وَجَدَ الْمَوْقُوذَةَ, وَالْمُتَرَدِّيَةَ, وَالنَّطِيحَةَ, وَمَا أَصَابَ السَّبُعُ: فَوَجَدْتَ تَحْرِيكَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَذَكِّهَا وَكُلْ. قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ ابْنَ أَخِي مَسْرُوقٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، عَنْ صَيْدِ الْمَنَاجِلِ فَقَالَ: إنَّهُ يَبِينُ مِنْهُ الشَّيْءُ وَهُوَ حَيٌّ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا مَا أَبَانَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَلاَ تَأْكُلْ وَكُلْ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُنْظَرُ مِنْ أَيِّ الأَمْرَيْنِ مَاتَ قَبْلُ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ, لأََنَّهُ لاَ يُقْدَرُ فِيهِ عَلَى بُرْهَانٍ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَنَسْأَلُهُ عَمَّنْ ذَبَحَ, أَوْ نَحَرَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى, ثُمَّ رَمَى رَامٍ حَجَرًا, وَشَدَخَ رَأْسَ الذَّبِيحَةِ, أَوْ النَّحِيرَةِ, بَعْدَ تَمَامِ الذَّكَاةِ فَمَاتَتْ لِلْوَقْتِ أَتُؤْكَلُ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَاعَى إنَّمَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِمَّا ذُكِّيَ, ثُمَّ لاَ نُبَالِي مِمَّا مَاتَ أَمِنْ الذَّكَاةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ لَنَا ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُلْزِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا, وَلاَ يُعَيِّنَهُ عَلَيْنَا.

(7/459)


كتاب الصيد
باب الصيد
ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر كله وحشية أو إنسية
...
كِتَابُ الصَّيْدِ
1067- مَسْأَلَةٌ: مَا شَرَدَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ كُلِّهِ وَحْشِيِّهِ وَأَنِيسِهِ لاَ تُحَاشِ شَيْئًا, لاَ طَائِرًا، وَلاَ ذَا أَرْبَعٍ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أَنْ يُرْمَى بِمَا يَعْمَلُ عَمَلَ الرُّمْحِ, أَوْ عَمَلَ السَّهْمِ, أَوْ عَمَلَ السَّيْفِ, أَوْ عَمَلَ السِّكِّينِ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ تَحِلُّ التَّذْكِيَةُ بِهِ, فَإِنْ أُصِيبَ بِذَلِكَ, فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ, فَإِنْ أُدْرِكَ حَيًّا إِلاَّ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ الْمَوْتِ السَّرِيعِ فَإِنْ ذُبِحَ, أَوْ نُحِرَ فَحَسَنٌ, وَإِلَّا فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ, وَإِنْ كَانَ لاَ يَمُوتُ سَرِيعًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ بِذَبْحٍ أَوْ نَحْرٍ, أَوْ بِأَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِ سَبُعٌ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ, أَوْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ, لاَ ذَكَاةَ لَهُ إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ: "إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُلْ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ

(7/459)


رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَرَقَ فَكُلْهُ, وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْهُ" . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: كَمَا رُوِّينَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: إذَا رَمَيْت بِالْحَجَرِ أَوْ الْبُنْدُقَةِ ثُمَّ ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ, وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ, وَابْنِ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كُلُّ وَحْشِيَّةٍ قَتَلْتَهَا بِحَجَرٍ, أَوْ بِخَشَبَةٍ, أَوْ بِبُنْدُقَةٍ فَكُلْهَا وَإِذَا رَمَيْتَ فَنَسِيتَ أَنْ تُسَمِّيَ فَكُلْ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: كُلُّ وَحْشِيَّةٍ قَتَلْتَهَا بِحَجَرٍ, أَوْ بِبُنْدُقَةٍ, أَوْ بِمِعْرَاضٍ فَكُلْ, وَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تَأْكُلَ فَأْتِنِي بِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ, وَالأَوْزَاعِيِّ. وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا، عَنْ عُمَرَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لاَ يَحْذِفَنَّ أَحَدُكُمْ الأَرْنَبَ بِعَصَاهُ أَوْ بِحَجَرٍ, ثُمَّ يَأْكُلُهَا وَلْيُذَكِّ لَكُمْ الأَسَلُّ: النَّبْلُ, وَالرِّمَاحُ.وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ عَمَّارٍ, وَسَلْمَانَ, وَسَعِيدٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . وَبِحَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ يَقُولُ: أَنَا أَبُو إدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا أَصَبْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكُلْ. قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ, لأََنَّ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي ذَكَرْنَا فَرَضَ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمَا فَيُسْتَثْنَى مِنْهُمَا مَا اسْتَثْنَى فِيهِ, فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ تَرْكُ نَصٍّ لِنَصٍّ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَيْنِ مِنْ الصَّيْدِ لَيْسَا عَلَى عُمُومِهِمَا, لأََنَّهُ قَدْ تَنَالُ فِيهِ الْيَدُ الْمَيْتَةَ, وَقَدْ تُصَابُ بِالْقَوْسِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ ذَكَاةً بِلاَ خِلاَفٍ. وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ لأََنَّهُمْ أَخَذُوا بِخَبَرِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ, وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَقَدْ امْتَنَعُوا مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ, وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ أُدْرِكَ حَيًّا إِلاَّ أَنَّهُ فِي سَبِيلِ الْمَوْتِ السَّرِيعِ فَلاَ بَأْسَ بِنَحْرِهِ وَذَبْحِهِ، وَلاَ بَأْسَ بِتَرْكِهِ, فَلأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَكْلِ مَا خُزِقَ, وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ ذَبْحِهِ, أَوْ نَحْرِهِ، وَلاَ أَمَرَ بِهِ فَهُوَ

(7/460)


حَلاَلٌ مُذَكًّى عَلَى كُلِّ حَالٍ, وَأَمَّا إذَا كَانَ لاَ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ مَوْتَ الْمُذَكَّى فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ بِذَكَاةٍ, لأََنَّ حُكْمَ الذَّكَاةِ إرَاحَةُ الْمُذَكَّى, وَتَعْجِيلُ الْمَوْتِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ إرْسَالِ الْجَارِحِ.

(7/461)


1068- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِهِ فَلاَ يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ مِنْ الصَّيْدِ, وَكُلُّ مَنْ قلنا: إنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ كَغَيْرِ الْكِتَابِيِّ وَالصَّبِيِّ, وَمَنْ تَصَيَّدَ بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكُلُّ مَنْ قلنا: إنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ أُكِلَ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ كَالْكِتَابِيِّ, وَالْمَرْأَةِ, وَالْعَبْدِ, وَغَيْرِهِمْ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ مِمَّا قُتِلَ مِنْ الصَّيْدِ بِعَمْدٍ, أَوْ بِنِسْيَانٍ لأََنَّ الصَّيْدَ ذَكَاةٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا بُرْهَانَ ذَلِكَ: فِي كَلاَمِنَا فِي كِتَابِ التَّذْكِيَةِ آنِفًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ أَكْلَ مَا قَتَلَهُ الْكِتَابِيُّونَ مِنْ الصَّيْدِ وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّ الصَّيْدَ ذَكَاةٌ, وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مَا ذَكَّوْا وَلَمْ يَخُصَّ ذَبِيحَةً مِنْ نَحِيرَةٍ مِنْ صَيْدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ هَذَا, فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ, فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ مَحْضٌ. فَإِنْ مَوَّهُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} . قلنا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَحَرَّمُوا بِهَذِهِ الآيَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوا إذًا, وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ وَقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} زَائِدٌ عَلَى مَا فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ, فَالأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ. وَقَوْلُنَا هَهُنَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَاللَّيْثِ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالثَّوْرِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ. وَالْقَوْلُ الآخَرُ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا أَصْلاً;، وَلاَ جَاءَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلاَ التَّابِعِينَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ صَيْدِهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَيُرْسِلُ الْمَجُوسِيُّ بَازِيَ قَالَ: نَعَمْ, إذَا أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبَك فَقَتَلَ فَكُلْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ, وَغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّ إذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْمَسِيحَ, فَسَوَاءٌ أَعْلَنَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوْ لَمْ يُعْلِنْ وَهَذَا بَاطِلٌ, لأََنَّنَا إنَّمَا نَتْبَعُ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَلاَ نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِآرَائِنَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَحَسْبُنَا إذَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَدْ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِهَا أَكْلَ مَا ذَكَّى، وَلاَ نُبَالِي مَا عَنَى, لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنَا بِمُرَاعَاةِ نِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى, أَوْ ذَكَرَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى, فَقَدْ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الأَكْلَ مَعَ وُجُودِهَا, لأََنَّهُ أَهَلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ, وَلاَ نُبَالِي بِنِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ,

(7/461)


إذْ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ إِلاَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً.

(7/462)


1069- مَسْأَلَةٌ: وَوَقْتُ تَسْمِيَةِ الذَّابِحِ اللَّهَ تَعَالَى فِي الذَّكَاةِ هِيَ مَعَ أَوَّلِ وَضْعِ مَا يَذْبَحُ بِهِ أَوْ يَنْحَرُ فِي الْجِلْدِ قَبْلَ الْقَطْعِ، وَلاَ بُدَّ. وَوَقْتُهَا فِي الصَّيْدِ مَعَ أَوَّلِ إرْسَالِ الرَّمْيَةِ أَوْ مَعَ أَوَّلِ الضَّرْبَةِ, أَوْ مَعَ أَوَّلِ إرْسَالِ الْجَارِحِ لاَ تُجْزِي قَبْلَ ذَلِكَ، وَلاَ بَعْدَهُ, لأََنَّ هَذِهِ مَبَادِئُ الذَّكَاةِ فَإِذَا شَرَعَ فِيهَا قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَقَدْ مَضَى مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ, وَإِذَا كَانَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي التَّذْكِيَةِ مُهْلَةٌ فَلَمْ تَكُنْ الذَّكَاةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ كَمَا أُمِرَ, فَلَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمُهْلَةِ وَبَيْنَ كَثِيرِهَا, وَلَوْ جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ جَازَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِطَرْفَتَيْنِ وَثَلاَثٍ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الأَمْرُ إلَى الْعَامِّ وَأَكْثَرَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ لِي, رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ" ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ "وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ". وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، نا الشَّعْبِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَكَانَ لِي جَارًا وَدَخِيلاً وَرَبِيطًا بِالنَّهَرَيْنِ, أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَ كَلْبِي آخَرَ قَدْ أَخَذَ لاَ أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ قَالَ: "فَلاَ تَأْكُلْ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ" فَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِرْسَالَ, إِلاَّ مَعَ التَّسْمِيَةِ بِلاَ مُهْلَةٍ, وَحَرَّمَ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَكَمِ الْبَلَوِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إنِّي أَخْرُجُ إلَى الصَّيْدِ فَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَخْرُجُ فَرُبَّمَا مَرَّ بِي الصَّيْدُ حَثِيثًا فَأُعَجِّلُ فِي رَمْيِهِ قَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا خَرَجْتَ قَانِصًا لاَ تُرِيدُ إِلاَّ ذَلِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ تَخْرُجُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيك، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ وَرِوَايَةُ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ ثُمَّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ الْبَلَوِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ.

(7/462)


1070- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ضُرِبَ بِحَجَرٍ, أَوْ عُودٍ, أَوْ فَرَى مَقَاتِلَهُ سَبُعٌ بَرِّيٌّ أَوْ طَائِرٌ كَذَلِكَ, أَوْ وَثَنِيٌّ, أَوْ مَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى فَأُدْرِكَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الْحَيَاةِ ذُكِّيَ بِالذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ, وَحَلَّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُ مِمَّا قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذَا "فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ" مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/462)


1071- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ وَضَعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا أَيْدِيَهُمْ عَلَى شَفْرَةٍ, أَوْ رُمْحٍ فَذَكَّوْا بِهِ حَيَوَانًا بِأَمْرِ مَالِكِهِ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى أَحَدُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَكَذَلِكَ, لَوْ رَمَى جَمَاعَةٌ سِهَامًا وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى أَحَدُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ فَأَصَابُوا صَيْدًا فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ وَهُوَ بَيْنَهُمْ إذَا أَصَابَتْ سِهَامُهُمْ مَقْتَلَهُ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى جَمِيعُهُمْ وَإِذَا لَمْ يُصِبْ أَحَدُهُمْ مَقْتَلَهُ, فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ, فَإِنْ كَانَ الَّذِي لَمْ يُصِبْ مَقْتَلَهُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَدٌ مِمَّنْ أَصَابَ مَقْتَلَهُ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ, وَهُوَ كُلُّهُ الَّذِي سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى بِخِلاَفِ الْقَوْلِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الْمُتَمَلَّكِ, وَذَلِكَ لأََنَّ التَّسْمِيَةَ صَحَّتْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَلاَلٌ, فأما الصَّيْدُ فَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ أَوْ بِأَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهَذَا لَمْ يُذَكِّهِ, لَكِنْ جَرَحَهُ فَلَمْ يَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ الَّذِي ذَكَّاهُ بِالتَّسْمِيَةِ, وَأَمَّا الْمُتَمَلَّكُ قَبْلَ أَنْ يُذَكَّى فَهُوَ مُذَكًّى بِتَسْمِيَةِ مَنْ سَمَّى, وَالْمِلْكُ بَاقٍ لِمَنْ سَلَفَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ كَمَا كَانَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/463)


1072- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَغَابَ عَنْهُ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ, ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا, فَإِنْ مَيَّزَ سَهْمَهُ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ أَصَابَ مَقْتَلَهُ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلاَ يَحِلُّ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَاهُ فَأَصَابَهُ, ثُمَّ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي مَاءٍ, فَإِنْ مَيَّزَ أَيْضًا سَهْمَهُ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ أَصَابَ مَقْتَلَهُ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلاَ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ حَدَّثَنِي عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي مَاءٍ فَغَرِقَ فَمَاتَ فَلاَ تَأْكُلْ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا غُنْدَرٌ، نا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إذَا عَرَفْتَ سَهْمَكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرًا لِغَيْرِهِ فَكُلْ".

(7/463)


1073- مَسْأَلَةٌ: وَسَوَاءٌ أَنْتَنَ أَمْ لَمْ يُنْتِنْ, وَلاَ يَصِحُّ الأَثَرُ الَّذِي فِيهِ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ, لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ, وَلاَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي قَالَ: كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ ذَكِيٌّ وَغَيْرُ ذَكِيٍّ وَإِنْ تَغَيَّبَ عَنْكَ مَا لَمْ يَضِلَّ أَوْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِكَ لأََنَّهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا, وَلاَ الأَثَرُ الَّذِي فِيهِ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ، وَلاَ تَأْكُلْ مَا أَنْمَيْتَ. وَتَفْسِيرُ الإِصْمَاءِ أَنْ تُقْعِصَهُ وَالإِنْمَاءُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِسَهْمِهِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْهُ فَيَجِدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَيِّتًا بِيَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ وَهَكَذَا رُوِّينَا تَفْسِيرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لأََنَّ رَاوِيَ الْمُسْنَدِ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مَسْمُولٍ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ. وَلاَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(7/463)


1074- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ فَمَنَعَهُ ذَلِكَ الأَمْرُ مِنْ الْجَرْيِ أَوْ الطَّيَرَانِ وَلَمْ يُصِبْ لَهُ مَقْتَلاً أَوْ أَصَابَ فَهُوَ لَهُ, وَلاَ يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ لأََنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ غَيْرَ

(7/464)


مُمْتَنِعٍ فَمَلَكَهُ بِذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/465)


1075- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا, أَيَّ عُضْوٍ كَانَ فَمَاتَ مِنْهُ بِيَقِينٍ مَوْتًا سَرِيعًا كَمَوْتِ سَائِرِ الذَّكَاةِ, أَوْ بَطِيئًا إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلاَّ وَقَدْ مَاتَ, أَوْ هُوَ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْحَاضِرِ: أَكَلَهُ كُلَّهُ, وَأَكَلَ أَيْضًا الْعُضْوَ الْبَائِنَ. فَلَوْ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ مَوْتًا سَرِيعًا وَأَدْرَكَهُ حَيًّا وَكَانَ يَعِيشُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ عَيْشِ الْمُذَكَّى, ذَكَّاهُ وَأَكَلَهُ, وَلَمْ يَأْكُلْ الْعُضْوَ الْبَائِنَ, أَيَّ عُضْوٍ كَانَ; لأََنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْهُ كَمَوْتِ الذَّكَاةِ فَهُوَ ذَكِيٌّ كُلُّهُ. فَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ حَيًّا فَهُوَ ذَكِيٌّ مَتَى مَاتَ مِمَّا أَصَابَهُ وَهُوَ مُذَكًّى كُلُّهُ, وَمَا كَانَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى, وَقَالَ عليه السلام, إذَا خُزِقَ فَكُلْ فَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ. وَإِذَا أُدْرِكَ حَيًّا فَذَكَاتُهُ فَرْضٌ لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالإِرَاحَةِ. وَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَاجِلِ فَلاَ مَعْنَى لِذَبْحِهِ حِينَئِذٍ، وَلاَ لِنَحْرِهِ لأََنَّهُ لَيْسَ إرَاحَةً بَلْ هُوَ تَعْذِيبٌ, وَهُوَ بَعْدُ مُذَكًّى, فَهُوَ حَلاَلٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَعِكْرِمَةَ, وَقَتَادَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَأَبِي ثَوْرٍ: إذَا رَمَى الصَّيْدَ فَغَدَا حَيًّا وَقَدْ سَقَطَ مِنْهُ عُضْوٌ, فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ سَائِرُهُ حَاشَا ذَلِكَ الْعُضْوِ, فَإِنْ مَاتَ حِينَ ذَلِكَ أُكِلَ كُلُّهُ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَسُفْيَانُ, وَالأَوْزَاعِيُّ: إنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ أَكَلَ النِّصْفَيْنِ مَعًا, فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقَلَّ مِنْ الأُُخْرَى, فَإِنْ كَانَتْ الْقِطْعَةُ الَّتِي فِي الرَّأْسِ هِيَ الصُّغْرَى أُكِلَ كِلْتَاهُمَا, وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي فِيهَا الرَّأْسُ هِيَ الْكُبْرَى أُكِلَتْ هِيَ وَلَمْ تُؤْكَلْ الأُُخْرَى. وقال الشافعي: إنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا يَمُوتُ بِهِ مَوْتَ الْمَنْحُورِ أَوْ الْمَذْبُوحِ أُكِلاَ مَعًا, وَإِنْ قَطَعَ مِنْهُ مَا يَعِيشُ بَعْدَهُ سَاعَةً فَأَكْثَرَ, ثُمَّ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ أُكِلَ, حَاشَا مَا قُطِعَ مِنْهُ. وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ حَدَّ الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ مُتَعَلِّقًا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/465)


1076- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى جَمَاعَةَ صَيْدٍ, وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَنَوَى أَيَّهَا أَصَابَ, فَأَيُّهَا أَصَابَ حَلاَلٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ. وَقَوْلِهِ عليه السلام: "إذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ" فَعَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَخُصَّ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا مِنْ الْجُمْلَةِ بِعَيْنِهِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.

(7/465)


1077- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ, وَإِنْ أَصَابَ غَيْرَهُ فَإِنْ أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ, فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَنْوِ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ يُدْرِكَ ذَكَاتَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ ذَبْحَ حَيَوَانٍ مُتَمَلَّكٍ بِعَيْنِهِ فَذَبَحَ غَيْرَهُ مُخْطِئًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لأََنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ قَاصِدًا إلَيْهِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".

(7/465)


1078- مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ أَنَّ امْرَأً رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ وَجَعَلَهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ, ثُمَّ رَمَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَتَلَهُ فَهُوَ مَيْتَةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ, لأََنَّهُ إذْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ ذَكَاتُهُ إِلاَّ بِالذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ, فَلَمْ يُذَكِّهِ كَمَا أُمِرَ, فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى, وَعَلَى قَاتِلِهِ إنْ كَانَ غَيْرَهُ ضَمَانُ مِثْلِهِ لِلَّذِي أَثْخَنَهُ, لأََنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِالإِثْخَانِ وَخُرُوجِهِ، عَنِ الأَمْتِنَاعِ, فَقَاتِلُهُ مُعْتَدٍ عَلَيْهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وَلَوْ جَرَحَهُ إِلاَّ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ بَعْدُ, فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ, لأََنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِالْخُرُوجِ، عَنِ الأَمْتِنَاعِ, فَمَا دَامَ مُمْتَنِعًا فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَعْدُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/466)


1079- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَصَبَ فَخًّا, أَوْ حِبَالَةً, أَوْ حَفَرَ زُبْيَةً كُلُّ ذَلِكَ لِلصَّيْدِ, فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ سِوَاهُ; فَإِنْ نَصَبَهَا لِغَيْرِ الصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَدَ صَيْدًا قَدْ صَادَهُ جَارِحٌ أَوْ فِيهِ رَمْيَةٌ قَدْ جَعَلْته غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . وَإِذَا نَوَى الصَّيْدَ فَقَدْ مَلَكَ كُلَّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا قَصَدَ تَمَلُّكَهُ, وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الصَّيْدَ فَلَمْ يَتَمَلَّكْ مَا وَقَعَ فِيهَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لِكُلِّ مَنْ تَمَلَّكَهُ وَكَذَلِكَ مَا عَشَّشَ فِي شَجَرَةٍ أَوْ جُدْرَانِ دَارِهِ هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ تَمَلُّكًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ أَخْبَرَهُ، عَنِ الْبَهْزِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ" , ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا كَانَ بِالأُُثَايَةِ إذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ وَفِيهِ سَهْمٌ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَثْبُتُ عِنْدَهُ لاَ يَرِيبُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ فَلَمْ يُذَكُّوهُ حَتَّى مَاتَ, فَهُوَ حَرَامٌ, لأََنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْمُرْ بِتَذْكِيَةِ ذَلِكَ الظَّبْيِ وَتَرَكَهُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَمَاهُ, وَهَذَا الْبَهْزِيُّ هُوَ كَانَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْحِمَارِ الْعَقِيرِ.

(7/466)


1080- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ مَاتَ فِي الْحِبَالَةِ, أَوْ الزُّبْيَةِ, لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ جَعَلَ هُنَالِكَ حَدِيدَةً أَمْ لَمْ يَجْعَلْ, لأََنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَذْكِيَتَهُ كَمَا أُمِرَ أَنْ يُذَكِّيَهُ بِهِ مِنْ رَمْيٍ أَوْ قَتْلِ جَارِحٍ, وَالْحَيَوَانُ كُلُّهُ حَرَامٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ, فَلاَ يَنْتَقِلُ إلَى التَّحْلِيلِ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي هَذَا. وَقَدْ أَبَاحَهُ بَعْضُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ عَمَّنْ وَضَعَ مِنْجَلَهُ فَيَمُرُّ بِهِ طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ فَكَرِهَ أَكْلَهُ وَسَأَلْتُ عَنْهُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا

(7/466)


1081- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ حَيَوَانًا وَحْشِيًّا حَيًّا أَوْ مُذَكًّى أَوْ بَعْضَ صَيْدِ الْمَاءِ كَذَلِكَ فَهُوَ لَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ بِلاَ خِلاَفٍ, فَإِنْ أَفْلَتَ وَتَوَحَّشَ وَعَادَ إلَى الْبَرِّ أَوْ الْبَحْرِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ أَبَدًا, وَلاَ يَحِلُّ لِسِوَاهُ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِ مَالِكِهِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَنَاسَلَ مِنْ الإِنَاثِ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". وَهَذَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُخَالِفِينَ مَعَنَا فَلاَ يَحِلُّ لِسِوَاهُ إِلاَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ سَائِرُ مَالِهِ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وقال مالك: إذَا تَوَحَّشَ فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنُ الْفَسَادِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ, وَالسُّنَّةِ, وَالنَّظَرِ, وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُمْ إنْ أَفْلَتَ فَأُخِذَ مِنْ يَوْمِهِ, أَوْ مِنْ الْغَدِ فَلاَ يَحِلُّ لِغَيْرِ مَالِكِهِ فَلِيُبَيِّنُوا لَنَا الْحَدَّ الَّذِي إذَا بَلَغَهُ خَرَجَ بِهِ، عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَيَسْأَلُونَ عَمَّنْ مَلَكَ وَحْشِيًّا فَتَنَاسَلَ عِنْدَهُ ثُمَّ شَرَدَ نَسْلُهَا فَإِنْ قَالُوا: يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ فِي الْعَالَمِ, لأََنَّ جَمِيعَهَا فِي أَوَّلِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَلَّكَةٍ ثُمَّ مُلِّكَتْ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَمَامِ الأَبْرَاجِ, وَالنَّحْلُ كُلُّ مَا مَيَّزَ فَهُوَ وَنَسْلُهُ لِمَالِكِهِ أَبَدًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَقَوْلُ اللَّيْثِ: مَنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِمَضْيَعَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا لاَ تُرَدُّ إلَى صَاحِبِهَا وَكَقَوْلِ اللَّيْثِ, أَوْ غَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ: مَا عَطِبَ فِي الْبَحْرِ مِنْ السُّفُنِ فَرَمَى الْبَحْرُ مَتَاعًا مِمَّا غَرِقَ فِيهَا فَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ لاَ لِصَاحِبِهِ, وَلَوْ قَامَتْ لَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ ظَاهِرَةُ الْبُطْلاَنِ, لأََنَّهُ إيكَالُ مَالِ مُسْلِمٍ, أَوْ ذِمِّيٍّ بِالْبَاطِلِ.

(7/467)


1082- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا حُكْمُ إرْسَالِ الْجَارِحِ, فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ الْجَارِحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَالْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي لاَ يَنْطَلِقُ حَتَّى يُطْلِقَهُ صَاحِبُهُ, فَإِذَا أَطْلَقَهُ انْطَلَقَ, وَإِذَا أَخَذَ وَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ شَيْئًا, فَإِذَا تَعَلَّمَ هَذَا الْعَمَلَ, فَبِأَوَّلِ مُدَّةٍ يُقْتَلُ، وَلاَ يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ حَلاَلٌ أَكْلُ مَا قَتَلَ مِمَّا أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إطْلاَقِهِ. وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ أَوْ بِرَضٍّ, أَوْ بِصَدْمٍ, أَوْ بِخَنْقٍ كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ. فَإِنْ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا فَذَلِكَ الصَّيْدُ حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا الْكَلْبُ, وَغَيْرُهُ مِنْ سِبَاعِ دَوَابِّ الأَرْبَعِ, وَالْبَازِي وَغَيْرُهُ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ، وَلاَ فَرْقَ. فأما الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . وَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ

(7/467)


1083- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ شَرِبَ الْجَارِحُ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ شَيْئًا وَحَلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا أَكْلَ مَا قَتَلَ إذَا أَكَلَ, وَلَمْ يَنْهَنَا، عَنْ أَكْلِ مَا قَتَلَ إذَا وَلَغَ فِي الدَّمِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ فَقَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى مُرْسِلِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/474)


1084- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْ الرَّأْسِ, أَوْ الرِّجْلِ, أَوْ الْحَشْوَةِ, أَوْ قِطْعَةً انْقَطَعَتْ مِنْهُ, فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَ, لأََنَّهُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ.

(7/474)


1085- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّهُ عَادَ فَأَكَلَ مِمَّا قَتَلَ لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ، عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا, لَكِنْ يَحْرُمُ أَكْلُ الَّذِي قَتَلَ وَأَكَلَ مِنْهُ فَقَطْ, وَلاَ يَحْرُمُ أَكْلُ مَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ. وقال أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ تَعْلِيمُهُ وَعَادَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ, فَلاَ يُؤْكَلُ مَا قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَيَعُودُ مُعَلَّمًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ تَعْلِيمُهُ, لَكِنْ يُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ حَتَّى لاَ يَأْكُلَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا, فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ, وَإِنْ قَتَلَ, إِلاَّ إنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ" فَقَدْ سَمَّاهَا عليه السلام مُعَلَّمَةً وَلَمْ يُسْقِطْ حُكْمَ التَّعْلِيمِ بِأَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهَا, بَلْ نَهَى، عَنْ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَطْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهُ, فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مُعَلَّمًا وَإِنْ أَكَلَ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا أَكَلَ فَبِئْسَ مَا عَلَّمْتَهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/474)


1086- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ مُرْسِلُهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الأَكْلَ مِنْهُ فَأَخَذَهُ وَالْجَارِحُ يُنَازِعُهُ إلَى الأَكْلِ مِنْهُ, لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ أَصْلاً, وَهُوَ مَيْتَةٌ, لأََنَّنَا عَلَى يَقِينٍ حِينَئِذٍ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ لاَ عَلَى مُرْسِلِهِ, وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم الأَكْلَ مِمَّا قَتَلَهُ الْجَارِحُ عَلَيْنَا.

(7/474)


1087- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ فَبَاقِيهِ حَلاَلٌ, لأََنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأَكْلِ مِنْهُ فَلَمْ يُمْسِكْ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى مُرْسِلِهِ, وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَإِذْ قَدْ صَحَّ تَحْلِيلُهُ بِذَلِكَ وَتَمَّتْ ذَكَاتُهُ فَلاَ يَضُرُّهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لأََنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ

(7/474)


1088- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ; ثُمَّ أَخَذَهُ مُرْسِلُهُ فَقَطَعَ لَهُ قِطْعَةً فَأَكَلَهَا أَوْ خَلَّاهُ بَيْنَ يَدِهِ يَأْكُلُهُ فَأَكَلَ مِنْهُ فَالْبَاقِي حَلاَلٌ, لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ إمْسَاكُهُ عَلَى مُرْسِلِهِ فَتَمَّتْ ذَكَاتُهُ بِذَلِكَ.

(7/475)


1089- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَسَوَاءٌ كَانَ مُتَمَلَّكًا أَوْ بَرِّيًّا مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَوْ دَوَابِّ الأَرْبَعِ غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ أُرْسِلَ أَوْ لَمْ يُرْسَلْ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَحُكْمُهُ أَنْ لاَ يُؤْكَلَ مَا قَتَلَ أَصْلاً, فَإِنْ أَدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةً مِنْ الرُّوحِ وَذَكَّى حَلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَاسْتَثْنَى تَعَالَى مَا ذَكَّيْنَا مِنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ. وَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَنَا حَيْوَةُ، هُوَ ابْنُ شُرَيْحٍ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ, وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ" فَلَمْ يَسْتَثْنِ عليه السلام رَجَاءَ حَيَاةٍ مِنْ غَيْرِهَا, فَاسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(7/475)


1090- مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا انْطَلَقَ الْجَارِحُ الْمُعَلَّمُ أَوْ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ مَا قَتَلَ إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ الرُّوحِ فَيُذَكَّى وَيُؤْكَلُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ اللَّهَ" فَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام الذَّكَاةَ إِلاَّ بِإِرْسَالِهِ مَعَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى, وَالذَّكَاةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِنْ الإِنْسَانِ الْمُذَكِّي وَقَصْدٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . وَصَحَّ بِالنَّصِّ أَنَّهُ إذَا أَرْسَلَ جَارِحَهُ الْمُعَلَّمَ وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى فَقَتَلَ الْجَارِحُ فَهِيَ ذَكَاةٌ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِي كَوْنِ مَا دُونَ ذَلِكَ ذَكَاةً نَصٌّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، عَنْ إنْسَانٍ كَانَ يُعَلِّمُ

(7/475)


1091- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَوَجَدَ الصَّيْدَ مَيِّتًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إِلاَّ إنْ كَانَ السَّهْمُ أَنْفَذَ مَقَاتِلَهُ إنْفَاذًا كَأَنْ يَمُوتَ مِنْهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُومًا لأََنَّ مَا قُتِلَ بِالسُّمِّ فَهُوَ مَيْتَةٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّهُ ذَكَاةٌ إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ فِيهِ بَقِيَّةُ رُوحٍ فَيُذَكَّى فَيَحِلَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/476)


1092- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ جَارِحٍ مُعَلَّمٍ فَحَلاَلٌ أَكْلُ مَا قَتَلَ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ عَلَّمَهُ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ, وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ بِسَهْمٍ صَنَعَهُ وَثَنِيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ" وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام تَعْلِيمَ مُسْلِمٍ مِنْ تَعْلِيمِ وَثَنِيٍّ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لاَ يُؤْكَلُ صَيْدُ جَارِحٍ عَلَّمَهُ مَنْ لاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذَكَّى.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ بَازِي الْمَجُوسِيِّ وَصَقْرِهِ; وَصَيْدُ الْمَجُوسِيِّ لِلسَّمَكِ كَرِهَهُ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ رُومَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لاَ تَأْكُلْ صَيْدَ كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ، وَلاَ مَا أَصَابَ بِسَهْمِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَا خُصَيْفٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ تَأْكُلْ مَا صِدْت بِكَلْبِ الْمَجُوسِ وَإِنْ سَمَّيْت فَإِنَّهُ مِنْ تَعْلِيمِ الْمَجُوسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ}. وَجَاءَ هَذَا الْقَوْلُ، عَنْ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} قَالُوا فَجَعَلَ التَّعْلِيمَ لَنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا, لأََنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْكَامِ الإِسْلاَمِ لاَزِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ صَحَابَةٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/476)


1093- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَصَيَّدَ بِجَارِحٍ أُخِذَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} وَهَذَا مُعْتَدٍ فَلاَ يَكُونُ التَّعَدِّي ذَكَاةً أَصْلاً. فَلَوْ أُدْرِكَ حَيًّا, أَوْ نَصَبَ الْمَرْءُ حِبَالَةً مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ, أَوْ رَمَى بِآلَةٍ مَأْخُوذَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَأَدْرَكَ كُلَّ ذَلِكَ فِيهِ بَقِيَّةُ حَيَاةٍ ذَكَّاهَا وَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ, وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِحِ, وَذَلِكَ السَّهْمِ, وَالرُّمْحِ, وَتِلْكَ الْحِبَالَةِ لِصَاحِبِ كُلِّ ذَلِكَ, لأََنَّ الصَّيْدَ الَّذِي لاَ مِلْكَ لأََحَدٍ عَلَيْهِ هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُ الآلَةِ, وَالْحِبَالَةِ, وَالْجَارِحِ; لأََنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ ذَلِكَ، وَلاَ أَرْسَلَهُ قَاصِدًا لِتَمَلُّكِ مَا أَصَابَ

(7/476)


1094- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَدَ مَعَ جَارِحِهِ جَارِحًا آخَرَ أَوْ سَبُعًا لَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا قَتَلَ الصَّيْدَ فَهُوَ مَيْتَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ فَيُذَكَّى فَيَحِلَّ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سُوَيْد بْنُ نَصْرٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَإِنْ خَالَطَ كَلْبُكَ كِلاَبًا فَقَتَلْنَ فَلَمْ يَأْكُلْنَ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ".

(7/477)


1095- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ إمْسَاكُ كَلْبٍ أَسْوَدَ بَهِيمٍ أَوْ ذِي نُقْطَتَيْنِ لاَ لِصَيْدٍ، وَلاَ لِغَيْرِهِ, وَلاَ يَحِلُّ تَعْلِيمُهُ, وَلاَ أَكْلُ مَا قَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ أَصْلاً, إِلاَّ أَنْ تُدْرَكَ ذَكَاتُهُ;، وَلاَ اتِّخَاذُ كَلْبٍ سِوَى ذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ لِزَرْعٍ, أَوْ مَاشِيَةٍ, أَوْ صَيْدٍ, أَوْ ضَرُورَةِ خَوْفٍ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ ثُمَّ نَهَى، عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْلاَ أَنَّ الْكِلاَبَ أُمَّةٌ مِنْ الأُُمَمِ لاََمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ, أَوْ صَيْدٍ, أَوْ مَاشِيَةٍ, فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ" وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَإِذَا حَرَّمَ عليه السلام آنِفًا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ أَوْ ذَا النُّقْطَتَيْنِ فَلاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُهُ, وَإِذْ لاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُهُ فَاِتِّخَاذُهُ مَعْصِيَةٌ, وَالذَّكَاةُ بِالْجَارِحِ طَاعَةٌ, وَلاَ تَنُوبُ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، عَنْ طَاعَتِهِ وَالْعَاصِي لَمْ يُذَكِّ كَمَا أُمِرَ فَهِيَ مَيْتَةٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَكْرَهُ صَيْدَ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ, لأََنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ صَيْدَ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَيْفَ نَأْكُلُ صَيْدَ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِقَتْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي أَكْلِ مَا قَتَلَ الْكَلْبُ الأَسْوَدُ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَحْمَدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أُمَمًا.
قال أبو محمد: سَوَاءٌ حَيْثُ كَانَتْ النُّقْطَتَانِ مِنْ جَسَدِهِ فَإِنْ كَانَتْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ أَكْثَرُ

(7/477)


1096- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ خَرَجَ بِجَارِحِهِ فَأَرْسَلَهُ وَسَمَّى وَنَوَى مَا أَصَابَ مِنْ الصَّيْدِ فَسَوَاءٌ فَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ مَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ الإِرْسَالِ مِنْ الصَّيْدِ; فَقَتَلَهُ فَأَكْلُهُ حَلاَلٌ, لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ: وَأَنْتَ تَرَى صَيْدًا مِنْ أَنْ لاَ تَرَاهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ زَيْدٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إنْ غَدَا بِكِلاَبٍ مُعَلَّمَةٍ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ يَغْدُو كَانَ كُلُّ شَيْءٍ صَادَهُ إلَى اللَّيْلِ حَلاَلاً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي إيَاسٍ قَالَ: إنَّا كُنَّا نَخْرُجُ بِكِلاَبِنَا إلَى الصَّيْدِ فَنُرْسِلُهَا, وَلاَ نَرَى شَيْئًا فَنَأْكُلُ مَا أَخَذَتْ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة: مَنْ رَمَى كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا إنْسِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ, فَلَوْ رَمَى أَسَدًا أَوْ ذِئْبًا أَوْ خِنْزِيرًا بَرِّيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ, فَلَوْ أَرْسَلَ جَارِحَهُ عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ غَيْرَهُ حَلَّ أَكْلُهُ فَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى سَمَكَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ تَخَالِيطُ لاَ تُعْقَلُ، وَلاَ يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلاَّ مِمَّنْ لاَ يَسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَسَوَاءٌ لاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهُ لأََنَّهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى, وَلاَ أَرْسَلَ جَارِحَهُ, وَلاَ سَهْمَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَ, فَهُوَ غَيْرُ مُذَكًّى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/478)


1097- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلاً لاَ الْمُبَاحُ اتِّخَاذُهُ، وَلاَ غَيْرُهُ; لِصِحَّةِ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ فَلَهُ أَخْذُهُ مِمَّنْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ بِلاَ ثَمَنٍ, وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَهُ, فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ وَالثَّمَنُ حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا هُوَ كَالرِّشْوَةِ فِي الْمَظْلَمَةِ, وَفِدَاءِ الأَسِيرِ, لأََنَّهُ أَخْذُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/478)


كتاب الأشرِبة وما يحل منها وما يحرم
باب الأشرِبة وما يحل منها وما يحرم
كل شئ أسكر كثير أحدا من الناس فالنقطة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير خمر حرام ملكه
...
كِتَابُ الأَشْرِبَةِ وَمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ
1098- مَسْأَلَةٌ: كُلُّ شَيْءٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ فَالنُّقْطَةُ مِنْهُ فَمَا فَوْقَهَا إلَى أَكْثَرِ الْمَقَادِيرِ: خَمْرٌ حَرَامٌ: مِلْكُهُ, وَبَيْعُهُ, وَشُرْبُهُ, وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى أَحَدٍ وَعَصِيرُ الْعِنَبِ, وَنَبِيذُ التِّينِ, وَشَرَابُ الْقَمْحِ, وَالسَّيْكَرَانِ, وَعَصِيرُ كُلِّ مَا سِوَاهَا وَنَقِيعُهُ, وَشَرَابُهُ طُبِخَ كُلُّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، وَلاَ فَرْقَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَفِي هَذَا اخْتِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ بَعْدَ صِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا: فَرُوِّينَا، عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: شَرَابُ الْبُسْرِ وَحْدَهُ

(7/478)


1099 - مَسْأَلَةٌ: وَحَدُّ الإِسْكَارِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الشَّرَابُ وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ التَّحْلِيلِ إلَى التَّحْرِيمِ هُوَ أَنْ يَبْدَأَ فِيهِ الْغَلَيَانُ وَلَوْ بِحَبَابَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْثَرَ, وَيَتَوَلَّدُ مِنْ شُرْبِهِ وَالإِكْثَارِ مِنْهُ عَلَى الْمَرْءِ فِي الأَغْلَبِ أَنْ يَدْخُلَ الْفَسَادُ فِي تَمْيِيزِهِ, وَيَخْلِطَ فِي كَلاَمِهِ بِمَا يَعْقِلُ وَبِمَا لاَ يَعْقِلُ, وَلاَ يَجْرِي كَلاَمُهُ عَلَى نِظَامِ كَلاَمِ التَّمْيِيزِ, فَإِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ الإِكْثَارِ مِنْ الشَّرَابِ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَذَلِكَ الشَّرَابُ مُسْكِرٌ حَرَامٌ, سَكِرَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ شَرِبَهُ سَوَاءٌ أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ, طُبِخَ أَوْ لَمْ يُطْبَخْ, ذَهَبَ بِالطَّبْخِ أَكْثَرُهُ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ, وَذَلِكَ الْمَرْءُ سَكْرَانُ, وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الشَّرَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِيهِ مَوْجُودَةً فَصَارَ لاَ يَسْكَرُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ الإِكْثَارِ مِنْهُ, فَهُوَ حَلاَلٌ, خَلٌّ لاَ خَمْرٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ سَكْرَانَ, وَإِنْ كَانَ قَدْ يَفْهَمُ بَعْضَ الأَمْرِ. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَقُومُ إلَى الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ ذَلِكَ وَالْمَجْنُونُ مِثْلُهُ سَوَاءً سَوَاءً قَدْ يَفْهَمُ الْمَجْنُونُ فِي حَالِ تَخْلِيطِهِ كَثِيرًا، وَلاَ يُخْرِجُهُ ذَلِكَ، عَنْ أَنْ يُسَمَّى مَجْنُونًا فِي اللُّغَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الْعَنْبَرِيُّ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ هُوَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْتَبِذْ فِي سِقَائِكَ وَأَوْكِهِ وَاشْرَبْهُ حُلْوًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلُنَا; لأََنَّهُ إذَا بَدَأَ يَغْلِي حَدَثَ فِي طَعْمِهِ تَغْيِيرٌ، عَنِ الْحَلاَوَةِ, وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ نَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لَيْسَ بِشُرْبِ الْعَصِيرِ وَبَيْعِهِ بَأْسٌ حَتَّى يَغْلِيَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَائِذٍ الأَسَدِيِّ قَالَ: سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، عَنِ الْعَصِيرِ فَقَالَ: اشْرَبْهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْعَصِيرِ قَالَ:

(7/506)


"اشْرَبْهُ حَتَّى يَغْلِيَ" وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ بِشَرَابِ الْعَصِيرِ بَأْسٌ مَا لَمْ يُزْبِدْ فَإِذَا أَزْبَدَ فَاجْتَنِبُوهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سُوَيْد بْنُ نُصَيْرٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي ثَابِتٍ الثَّعْلَبِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْعَصِيرِ: اشْرَبْهُ مَا دَامَ طَرِيًّا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْعَصِيرِ هَكَذَا, وَفِي مَا عَدَا الْعَصِيرِ إذَا تَجَاوَزَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَهَذَا حَدٌّ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ, لاَ يُعَضِّدُهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ, وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّمَشْقِيُّ نَا ثَابِتُ بْنُ عَجْلاَنَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ: اشْرَبْ الْعَصِيرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَا لَمْ يَغْلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: اشْرَبُوا الْعَصِيرَ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ, قَالَ: وَمَتَى يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ قَالَ: بَعْدَ ثَلاَثٍ, أَوْ قَالَ: فِي ثَلاَثٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مِينَا أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُول: نَهَى أَنْ يُشْرَبَ النَّبِيذُ بَعْدَ ثَلاَثٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ نَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مَا لَمْ يَغْلِ يَعْنِي الْعَصِيرَ. وَحَدَّتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كَانَ يَقُولُ: إذَا فَضَخْتَهُ نَهَارًا فَأَمْسَى فَلاَ تَقْرَبْهُ, وَإِذَا فَضَخْتَهُ لَيْلاً فَأَصْبَحَ, فَلاَ تَقْرَبْهُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِثَلاَثٍ: بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ هُوَ يَحْيَى الْبَهْرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِذَا أَمْسَى أَمَرَ بِهِ أَنْ يُهْرَاقَ أَوْ يُسْقَى. وَاحْتَجَّ مَنْ حَدَّ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو عُمَيْرٍ الرَّمْلِيُّ نَا ضَمْرَةُ، عَنِ السَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْنَابِهِمْ فَقَالَ: "زَبِّبُوهَا. قلنا: مَا نَصْنَعُ بِالزَّبِيبِ قَالَ: انْبِذُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَانْبِذُوهُ عَلَى عَشَائِكُمْ وَاشْرَبُوهُ عَلَى غَدَائِكُمْ وَانْبِذُوهُ فِي الشِّنَانِ، وَلاَ تَنْبِذُوهُ فِي الْقُلَلِ فَإِنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ، عَنْ عَصِيرِهِ

(7/507)


صَارَ خَلًّا".
هَذَا السَّيْبَانِيُّ بِالسِّينِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ هُوَ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كَانَ يُنْبَذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِقَاءٍ يُوكَأُ أَعْلاَهُ وَلَهُ عَزْلاَءُ يُنْبَذُ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عِشَاءً, وَيُنْبَذُ عِشَاءً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً.
قال أبو محمد: هَذَا الْخَبَرُ, وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحَانِ, وَلَيْسَا حَدًّا فِيمَا يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ; لأََنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ, وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الآخَرِ, إنَّمَا هَذَا عَلَى قَدْرِ الْبِلاَدِ وَالآنِيَةِ فَتَجِدُ بِلاَدًا بَارِدَةً لاَ يَسْتَحِيلُ فِيهَا مَاءُ الزَّبِيبِ إلَى ابْتِدَاءِ الْحَلاَوَةِ إِلاَّ بَعْدَ جُمُعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ, وَآنِيَةً غَيْرَ ضَارِيَةٍ كَذَلِكَ, وَتَجِدُ بِلاَدًا حَارَّةً وَآنِيَةً ضَارِيَةً يَتِمُّ فِيهَا النَّبِيذُ مِنْ يَوْمِهِ, وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام الَّذِي ذَكَرْنَا وَاشْرَبْهُ حُلْوًا وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ حَرَامٌ فَقَطْ. وقال أبو حنيفة: إذَا غَلَى وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ حِينَئِذٍ حَرَامٌ وَهَذَا قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَقَالَ آخَرُونَ: إذَا انْتَهَى غَلَيَانُهُ وَابْتَدَأَ بِأَنْ يَقِلَّ غَلَيَانُهُ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ. وَقَالَ آخَرُونَ إذَنْ إذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَأَمَّا حَدُّ سُكْرِ الإِنْسَانِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ السَّكْرَانِ فَقَالَ: أَنَا آخُذُ فِيهِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِيهِ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، عَنْ حَدِّ السَّكْرَانِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي إذَا اُسْتُقْرِئَ سُورَةً لَمْ يَقْرَأْهَا, وَإِذَا خُلِطَتْ ثَوْبُهُ مَعَ ثِيَابٍ لَمْ يُخْرِجْهُ. قال أبو محمد: وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِنَا فِي أَنْ لاَ يَدْرِيَ مَا يَقُولُ, وَلاَ يُرَاعِيَ تَمْيِيزَ ثَوْبِهِ, وقال أبو حنيفة لَيْسَ سَكْرَانَ إِلاَّ حَتَّى لاَ يُمَيِّزَ الأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ, وَأَبَاحَ كُلُّ سُكْرٍ دُونَ هَذَا فَاعْجَبُوا يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ.

(7/508)


1100- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نُبِذَ تَمْرٌ, أَوْ رُطَبٌ, أَوْ زَهْوٌ, أَوْ بُسْرٌ, أَوْ زَبِيبٌ مَعَ نَوْعٍ مِنْهَا أَوْ نَوْعٍ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ خُلِطَ نَبِيذُ أَحَدِ الأَصْنَافِ بِنَبِيذِ صِنْفٍ مِنْهَا, أَوْ بِنَبِيذِ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِهَا, أَوْ بِمَائِعِ غَيْرِهَا حَاشَا الْمَاءِ حَرُمَ شُرْبُهُ أَسْكَرَ أَوْ لَمْ يُسْكِرْ, وَنَبِيذُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ حَلاَلٌ, فَإِنْ مُزِجَ نَوْعٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ مَعَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا أَوْ نُبِذَا مَعًا, أَوْ خُلِطَ عَصِيرٌ بِنَبِيذٍ فَكُلُّهُ حَلاَلٌ: كَالْبَلَحِ وَعَصِيرِ الْعِنَبِ, وَنَبِيذِ التِّينِ, وَالْعَسَلِ, وَالْقَمْحِ, وَالشَّعِيرِ, وَغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا لاَ تَحَاشَ شَيْئًا: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ نَا عَفَّانَ

(7/508)


ابْنُ مُسْلِمٍ، نا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْعَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ, وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ, وَعَنْ خَلِيطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ, وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ, وَقَالَ: "انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ".
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا أَيْضًا آثَارًا مُتَوَاتِرَةً مُتَظَاهِرَةً فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ يَجْمَعُ كُلَّ مَا فِيهَا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الْمَذْكُورُ. وَبِهِ يَقُولُ جُمْهُورُ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى أَنْ يُنْتَبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا, وَالْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا, وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْبِذَ يَقْطَعُ مِنْ الثَّمَرَةِ مَا نَضِجَ مِنْهَا فَيَضَعُهُ وَحْدَهُ وَيَنْبِذُ التَّمْرَ وَحْدَهُ وَالْبُسْرَ وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْبُسْرَ فَيَقْطَعُونَ مِنْهُ كُلَّ مُذَنَّبٍ ثُمَّ يَأْخُذُ الْبُسْرَ فَيَفْضَخُهُ ثُمَّ يَشْرَبُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِقَطْعِ الْمُذَنَّبِ فَيَنْبِذُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ فَيَلْعَنُونَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا يَشْرَبُ الْخَلِيطَيْنِ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ.
قال أبو محمد: هَذَا عِنْدَهُمْ إذَا وَافَقَهُمْ إجْمَاعٌ, وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُثْمَانَ أَيْضًا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ مَنْ أُصَدِّقُ: أَنْ لاَ يَجْمَعَ بَيْنَ الْبُسْرِ, وَالرُّطَبِ, وَالتَّمْرِ, وَالزَّبِيبِ, قُلْت لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ: لاَ; قُلْت لِعَمْرٍو: فَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي الْحَبَلَةِ وَالنَّخْلَةِ, قَالَ: لاَ أَدْرِي, قُلْت لِعَمْرٍو: أَوْ لَيْسَ إنَّمَا نَهَى، عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النَّبِيذِ وَأَنْ يَنْبِذَ جَمِيعًا قَالَ: بَلَى, وَقُلْت لِعَطَاءٍ: أَذَكَرَ جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ غَيْرِ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ, وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ قَالَ: لاَ, إِلاَّ أَنْ أَكُونَ نَسِيتُ قُلْت لِعَطَاءٍ: أَيُجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ يُنْبَذَانِ, ثُمَّ يُشْرَبَانِ

(7/509)


حُلْوَيْنِ قَالَ: لاَ قَدْ نُهِيَ، عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَوْ نُبِذَ شَرَابٌ فِي ظَرْفٍ قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ لَمْ يُشْرَبْ حُلْوًا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ. فَهَذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لَمْ يَرَ النَّهْيَ يُتَعَدَّى بِهِ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي إحْدَى يَدَيَّ نَبِيذُ تَمْرٍ, وَفِي الأُُخْرَى نَبِيذُ زَبِيبٍ فَشَرِبْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا, وَلَوْ خَلَطْته لَمْ أَشْرَبْهُ. وَصَحَّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْبُسْرِ, وَالتَّمْرِ يُجْمَعَانِ فِي النَّبِيذِ فَقَالَ: لاََنْ تَأْخُذَ الْمَاءَ فَتَغْلِيَهُ فِي بَطْنِك خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا فِي بَطْنِك.
وقال مالك بِتَحْرِيمِ خَلِيطِ كُلِّ نَوْعَيْنِ فِي الأَنْتِبَاذِ وَبَعْدِ الأَنْتِبَاذِ, وَكَذَلِكَ فِيمَا عُصِرَ, وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ. وقال أبو حنيفة بِإِبَاحَةِ كُلِّ خَلِيطَيْنِ وَاحْتَجَّ لأََبِي حَنِيفَةَ مُقَلِّدُوهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مِسْعَرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْبَذُ لَهُ زَبِيبٌ فَيُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ أَوْ تَمْرٌ فَيُلْقَى فِيهِ زَبِيبٌ وَهَذَا لاَ شَيْءَ; لأََنَّهُ، عَنْ امْرَأَةٍ لَمْ تُسَمَّ. وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ يَحْيَى الْحَسَّانِيِّ أَنَا أَبُو بَحْرٍ نَا عَتَّابُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَتْنِي صَفِيَّةُ بِنْتُ عَطِيَّةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَقُولُ وَقَدْ سُئِلَتْ، عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَتْ: كُنْت آخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَأُلْقِيهِ فِي إنَاءٍ فَأَمْرُسُهُ, ثُمَّ أَسْقِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُرَدَّدٌ فِي السُّقُوطِ; لأََنَّهُ، عَنْ أَبِي بَحْرٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْحِمَّانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَطِيَّةَ، وَلاَ تُعْرَفُ مَنْ هِيَ فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَفَ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَرِضُ فِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ الأَنْصَارِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ" . وَأَبُو عُثْمَانَ مَشْهُورٌ قَاضِي الرَّيِّ رَوَى عَنْهُ الأَئِمَّةُ. وَزَادُوا ضَلاَلاً فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أُخْبِرْتُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ: أَجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَ: لاَ, قَالَ: لِمَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لِمَ قَالَ: سَكِرَ رَجُلٌ فَحَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ مَا شَرَابُهُ فَإِذَا هُوَ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ, فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَقَالَ: يُلْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيق أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النَّجْرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكْرَانَ وَقَالَ لَهُ: أَيُّ شَيْءٍ شَرِبْتَ قَالَ: تَمْرٌ وَزَبِيبٌ, قَالَ: لاَ تَخْلِطُوهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ يُلْقَى وَحْدَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

(7/510)


الْخُدْرِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِنَشْوَانَ فَقَالَ: "إنِّي لَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا إنَّمَا شَرِبْتُ زَبِيبًا وَتَمْرًا فِي إنَاءٍ. فَنُهِزَ بِالأَيْدِي وَخُفِقَ بِالنِّعَالِ وَنَهَى، عَنِ الزَّبِيبِ, وَالتَّمْرِ أَنْ يُخْلَطَا".
قال أبو محمد: أَمَا لِهَؤُلاَءِ الْمَخَاذِيلِ دِينٌ يَرْدَعُهُمْ, أَوْ حَيَاءٌ يَزَعُهُمْ, أَوْ عَقْلٌ يَمْنَعُهُمْ، عَنِ الأَحْتِجَاجِ بِالْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ; ثُمَّ بِمَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: أُخْبِرْت، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَلاَ يُسَمِّي مَنْ أَخْبَرَهُ, ثُمَّ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ النَّجْرَانِيِّ وَمَنْ النَّجْرَانِيُّ لَيْتَ شِعْرِي ثُمَّ هَبْكَ أَنَّنَا سَمِعْنَا كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَمِنْ ابْنِ عُمَرَ أَلَيْسَ قَدْ أَخْبَرَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ جَمْعِهِمَا وَأَمَرَ بِإِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَيْف يُجْعَلُ نَهْيُهُ نَفْسُهُ حُجَّةً فِي اسْتِبَاحَةِ مَا نَهَى عَنْهُ مَا بَعْدَ هَذَا الضَّلاَلِ ضَلاَلٌ, وَلاَ وَرَاءَ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ مُجَاهَرَةٌ, وَلَوْلاَ كَثْرَةُ مَنْ ضَلَّ بِاتِّبَاعِهِمْ لَكَانَ الإِعْرَاضُ عَنْهُمْ أَوْلَى. وَقَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنْ ذَلِكَ; لأََنَّ أَحَدَهُمَا يُعَجِّلُ غَلَيَانَ الآخَرِ. فَقُلْنَا: كَذَبْتُمْ وَقَفَوْتُمْ مَا لاَ عِلْمَ لَكُمْ بِهِ, وَافْتَرَيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، وَلاَ أَخْبَرَ بِهِ ثُمَّ هَبْ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُمْ أَلَيْسَ قَدْ نَهَى عليه السلام عَنْهُ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَانْهَوْا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ إنْ كَانَ فِي قُلُوبِكُمْ إيمَانٌ بِهِ فَإِنْ قَالُوا: هَذَا نَدْبٌ قلنا: كَذَبْتُمْ وَقُلْتُمْ مَا لاَ دَلِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ هَبْ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُمْ فَاكْرَهُوهُ إذًا وَانْدُبُوا إلَى تَرْكِهِ, وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عِنْدَكُمْ وَمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ أَصْلاً سَوَاءً. وَقَالُوا: إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِضِيقِ الْعَيْشِ, وَلأََنَّهُ مِنْ السَّرَفِ وَهَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ عَلَى قَائِلِهِ مَقْتَ اللَّهِ تَعَالَى; لأََنَّهُ كَذِبٌ بَحْتٌ, وَمَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ بَارِدٌ مِنْ الْكَذِبِ سَخِيفٌ مِنْ الْبُهْتَانِ; لأََنَّهُ مَا كَانَ قَطُّ عِنْدَ ذِي عَقْلٍ رِطْلُ تَمْرٍ وَرِطْلُ زَبِيبٍ, سَرَفًا, أَوْ رِطْلُ زَهْوٍ وَرِطْلُ بُسْرٍ سَرَفًا, وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ قَرِيبٌ, وَهُمَا بِلاَدُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ, وَرِطْلَ زَبِيبٍ, أَوْ رِطْلَ زَهْوٍ, وَرِطْلَ رُطَبٍ يُجْمَعَانِ سَرَفًا يَمْنَعُ مِنْهُ ضِيقُ الْعَيْشِ فَيُنْهَوْنَ عَنْهُ لِذَلِكَ، وَلاَ يَكُونُ مِائَةَ رِطْلِ تَمْرٍ, وَمِائَةَ رِطْلِ زَبِيبٍ, وَمِائَةَ رِطْل عَسَلٍ يُنْبَذُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ سَرَفًا. وَكَيْفَ يَكُونُ رِطْلَ تَمْرٍ, وَرِطْلَ زَهْوٍ يُنْبَذَانِ مَعًا سَرَفًا، وَلاَ وَيَكُونُ أَكْلُهُمَا مَعًا سَرَفًا كَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فِي الأَكْلِ مَعًا, لَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ سُخْفِ الْعَقْلِ, مَنْ هَذَا مِقْدَارُ عَقْلِهِ, وَلَقَدْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَكْلَ الدَّجَاجِ وَالنِّقْيِ وَالسُّكَّرِ أَدْخَلُ عَلَى أُصُولِكُمْ الْفَاسِدَةِ فِي السَّرَفِ, وَأَبْعَدُ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ, وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ, ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ, فَأَيُّ رَاحَةٍ لَكُمْ فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ ذُو سَعَةٍ مِنْ الْمَالِ, قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَوِي الْيَسَارَةِ, وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ بِالأُُجُورِ وَكَانَ فِيهِمْ عُثْمَانُ; وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ,

(7/511)


وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ, وَغَيْرُهُ وَفِينَا نَحْنُ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُو ضِيقٍ مِنْ الْعَيْشِ وَفَاقَةٍ شَدِيدَةٍ, فَالْعِلَّةُ بَاقِيَةٌ بِحَسْبِهَا, فَالنَّهْيُ بَاقٍ، وَلاَ بُدَّ, اسْخَفُوا مَا شِئْتُمْ لاََنْ تُفَوِّتُوا حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَافِعٍ قُلْت لأَبْنِ عُمَرَ: أَنْبِذُ نَبِيذَ زَبِيبٍ فَيُلْقَى لِي فِيهِ تَمْرٌ فَيَفْسُدُ عَلَيَّ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ مَجْهُولٌ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الرُّجُوعُ، عَنْ هَذَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا إسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِزَبِيبٍ وَتَمْرٍ أَنْ يُنْبَذَا لَهُ, ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ نَافِعٌ: فَلاَ أَدْرِي أَلِشَيْءٍ ذَكَرَهُ أَمْ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ ذَكَرَ النَّهْيَ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَشْهُورَةٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَجُلاً مِنْ جِيرَانِنَا قَالَ: سَمِعْت شِهَابَ بْنَ عَبَّادٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَقَالَ: لاَ يَضُرُّك أَنْ تَخْلِطَهُمَا جَمِيعًا أَوْ تُنْبَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ, فَلاَ أَكْثَرَ, أُسَامَةُ رَجُلٌ مِنْ جِيرَانِ شُعْبَةَ وَمَا نَعْلَمُ أَتَمَّ جَهْلاً, أَوْ أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ يَصِحُّ أَصْلاً ثُمَّ يُخَالِفُ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَان الضُّبَعِيِّ قَالَ: قُلْت لأَبْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي أَنْتَبِذْ فِي جَرَّةٍ خَضْرَاءَ نَبِيذًا حُلْوًا فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَيُقَرْقِرُ بَطْنِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ تَشْرَبْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَسْخُ النَّهْيِ، عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ. قلنا: النَّهْيُ وَاَللَّهِ، عَنْ خَلْطِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ أَصَحُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَسْخِ النَّهْيِ، عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ الَّذِي لَمْ يَأْتِ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ فَقَطْ, وَالنَّهْيُ، عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فِي الأَنْتِبَاذِ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَتَادَةَ, وَجَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ لاَ ضَعِيفٌ، وَلاَ قَوِيٌّ. وَقَالُوا: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ جَمْعِهِمَا فِي الإِنَاءِ, وَبَيْنَ جَمْعِهِمَا فِي الْبَطْنِ. فَقُلْنَا: لاَ يُعَارَضُ بِهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُُخْتَيْنِ وَبَيْنَ نِكَاحِهِمَا وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ عَارَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ الآبِقِ يُوجَدُ فِي الْمِصْرِ, وَبَيْنَ الآبِقِ يُوجَدُ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى ثَلاَثٍ لاََصَبْتُمْ. وَفِي فَرْقِكُمْ بَيْنَ السَّرِقَةِ مِنْ الْحِرْزِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ وَبَيْنَ سَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلاَ يُوجِبُ الْقَطْعَ, فَإِذَا اجْتَمَعَا فَسَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ حِرْزٍ وَجَبَ الْقَطْعُ, وَبَيْنَ الْقَهْقَهَةِ تَكُونُ فِي الصَّلاَةِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ, وَتَكُونُ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَلاَ تَنْقُضُهُ لَكَانَ أَسْلَمَ لَكُمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ،

(7/512)


عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَفْضَخَ الْعِذْقَ بِمَا فِيهِ, وَمَا نَعْلَمُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ غَيْرِهِ, عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لأَِبَاحَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَسَائِرِ مَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَفْوَانَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْت أَمْغَثُ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه الزَّبِيبَ غُدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً, وَأَمْغَثُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً, قَالَتْ: فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: لَعَلَّك تَجْعَلِينَ فِيهِ زَهْوًا قُلْت: رُبَّمَا فَعَلْت, فَقَالَ: فَلاَ تَفْعَلِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ نَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْخَلِيطَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْخَلِيطَيْنِ أَنْ يُشْرَبَا قلنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْخَلِيطَانِ قَالَ: "التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ, وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَا وِقَاءُ بْنُ إيَاسٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَجْمَعَ شَيْئَيْنِ نَبِيذًا مِمَّا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَكَانَ أَنَسٌ يَكْرَهُ الْمُذَنَّبَ مِنْ الْبُسْرِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَا شَيْئَيْنِ فَكُنَّا نَقْطَعُهُ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَنْ يُجْمَعَ التَّمْرُ, وَالزَّبِيبُ, وَالْبُسْرُ, وَالزَّهْوُ, وَالرُّطَبُ: اثْنَانِ مِنْهُمَا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَآخَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الأَنْتِبَاذِ مَعًا, أَوْ يَنْبِذَهُمَا فِي إنَاءٍ, فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ مَا يَنْبِذُ وَيَعْصِرُ كَذَلِكَ. قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَكُلُّهُ لاَ يَصِحُّ: أَمَّا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ: فَمُدَلَّسٌ لَمْ يَسْمَعْهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا أَوْرَدْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ مِنْ تَفْصِيلِ الأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ نَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ نَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ كِلاَبَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَ الْبُسْرِ وَالرُّطَبِ, وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا أَبُو عَامِرٍ هُوَ الْعَقَدِيُّ نَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ كِلاَبٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "انْتَبِذُوا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جَمِيعًا, وَلاَ تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ

(7/513)


جَمِيعًا" فَإِنَّمَا سَمِعَهُ يَحْيَى مِنْ كِلاَبِ بْنِ عَلِيٍّ, وَثُمَامَةَ بْنِ كِلاَبٍ, وَكِلاَهُمَا لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فَسَقَطَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ; لأََنَّ الْخَلِيطَيْنِ هَكَذَا مُطْلَقًا لاَ يُدْرَى مَا هُمَا أَهُمَا الْخَلِيطَانِ فِي الزَّكَاةِ أَمْ فِي مَاذَا وَأَيْضًا فَإِنَّ ثَرِيدَ اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ خَلِيطَانِ, وَاللَّبَنَ وَالْمَاءَ خَلِيطَانِ, فَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ مُرَادِهِ عليه السلام بِذَلِكَ, وَلاَ يُؤْخَذُ بَيَانُ مُرَادِهِ إِلاَّ مِنْ لَفْظِهِ عليه السلام فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الأَثَرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ الأُُبُلِّيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ, بَلْ كَانَ يَكُونُ حُجَّةً عَظِيمَةً قَاطِعَةً عَلَيْهِمْ; لأََنَّ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمْ يَعْرِفُوا مَا الْخَلِيطَانِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَفَسَّرَهُمَا لَهُمْ عليه السلام بِأَنَّهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمَا, فَلَوْ أَرَادَ غَيْرَهُمَا لَمَا سَكَتَ، عَنْ ذِكْرِهِ وَقَدْ سَأَلُوهُ الْبَيَانَ هَذَا مَا لاَ يُحِيلُ عَلَى مُسْلِمٍ; لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ أَعْظَمَ التَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ هَهُنَا شَيْئًا زَائِدًا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ لأَُمَّتِهِ فَقَدْ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَلْحَدَ فِي الدِّينِ بِلاَ شَكٍّ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا خَبَرُ أَنَسٍ فَمِنْ طَرِيقِ وِقَاءِ بْنِ إيَاسٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ, مَعَ أَنَّهُ كَلاَمٌ فَاسِدٌ لاَ يُعْقَلُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْبَتَّةَ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا مَعْنَى يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي النَّبِيذِ. فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ أَحَدُهُمَا غَلَيَانَ الآخَرِ قلنا: هَذَا الْكَذِبُ الْعَلاَنِيَةُ وَمَا يَغْلِي تَمْرٌ وَزَبِيبٌ جَمْعًا فِي النَّبِيذِ إِلاَّ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَغْلِي فِيهَا الزَّبِيبُ وَحْدَهُ; أَوْ التَّمْرُ وَحْدَهُ وَهُوَ عليه السلام لاَ يَقُولُ إِلاَّ الْحَقَّ; فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قِسْنَا سَائِرَ الْخَلْطِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ. فَقُلْنَا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأََنَّكُمْ لَسْتُمْ بِأَوْلَى أَنْ تَقِيسُوا التِّينَ, وَالْعَسَلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ اللَّبَنَ وَالسُّكَّرَ مَجْمُوعَيْنِ, أَوْ الْخَلَّ, وَالْعَسَلَ فِي السَّكَنْجَبِينِ مَجْمُوعَيْنِ, أَوْ الزَّبِيبَ, وَالْخَلَّ مَجْمُوعَيْنِ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ. فَإِنْ قَالُوا: لاَ نَتَعَدَّى النَّبِيذَ. قلنا لَهُمْ: بَلْ قِيسُوا عَلَى الْجَمْعِ فِي النَّبِيذِ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ النَّبِيذِ, أَوْ لاَ تَتَعَدَّوْا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ لاَ فِي نَبِيذٍ, وَلاَ غَيْرِهِ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/514)


1101- مَسْأَلَةٌ: وَالأَنْتِبَاذُ فِي الْحَنْتَمِ, وَالنَّقِيرِ, وَالْمُزَفَّتِ, وَالْمُقَيَّرِ, وَالدُّبَّاءِ, وَالْجِرَارِ الْبِيضِ, وَالسُّودِ, وَالْحُمْرِ, وَالْخُضْرِ, وَالصُّفْرِ, وَالْمُوَشَّاةِ, وَغَيْرِ الْمَدْهُونَةِ, وَالأَسْقِيَةِ, وَكُلُّ

(7/514)


ظَرْفٍ حَلاَلٌ, إِلاَّ إنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ, أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ غَيْرَ مَدْبُوغٍ, أَوْ إنَاءً مَأْخُوذًا بِغَيْرِ حَقٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا فِيمَا بَدَا لَكُمْ, وَإِيَّاكُمْ وَكُلَّ مُسْكِرٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الأَشْرِبَةِ إِلاَّ فِي ظُرُوفِ الأُُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا الْحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرُ نَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَهَيْتُكُمْ، عَنِ الظُّرُوفِ وَإِنَّ الظُّرُوفَ ظَرْفًا لاَ يُحِلُّ شَيْئًا، وَلاَ يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الظُّرُوفِ فَقَالَتْ الأَنْصَارُ: إنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا. قَالَ: فَلاَ إذًا. فَصَحَّ أَنَّ إبَاحَةَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الظُّرُوفِ نَاسِخَةٌ لِلنَّهْيِ, وَقَدْ كَانَ عليه السلام نَهَى عَنْهَا, فَقَدْ صَحَّ عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الأَنْتِبَاذِ وَالشُّرْبِ فِي الْحَنْتَمِ, وَالْمُقَيَّرِ, وَالدُّبَّاءِ, وَالْمَزَادَةِ الْمَجْبُوبَةِ, وَكُلِّ شَيْءٍ صُنِعَ مِنْ مَدَرٍ, وَالْجَرِّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ كُلَّ شَيْءٍ صُنِعَ مِنْ مَدَرٍ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمُزَادَةَ الْمَجْبُوبَةَ وَذَكَرَ الْجُرَّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الْمُزَفَّتِ, وَالْحَنْتَمِ, وَالنَّقِيرِ, وَالْجَرِّ. وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَنَسٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَعْمُرَ كُلِّهِمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَيْضًا مُسْنَدًا، عَنِ الْجَرِّ. وَعَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ الْجَرِّ الأَخْضَرِ وَالأَبْيَضِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ عليه السلام: نَهَى، عَنِ الْجَرِّ. فَهَؤُلاَءِ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رَوَوْا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيَ, وَرَوَاهُ عَنْهُمْ

(7/515)


أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ, وَهَذَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ وَلَمْ يَأْتِ النَّسْخُ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ فَقَطْ وَقَدْ ثَبَتَ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, وَعَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ, وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاخْتَلَفَ التَّابِعُونَ أَيْضًا. وَعَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ إذَا جَاءَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ, وَالآخَرُ نَقْلُ آحَادٍ: أَخَذْنَا بِالتَّوَاتُرِ, وَتَنَاقَضُوا هَهُنَا. وقال مالك: أَكْرَهُ أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ, وَالْمُزَفَّتِ فَقَطْ, وَأَبَاحَ الْجَرَّ كُلَّهُ غَيْرَ الْمُزَفَّتِ, وَالْحَنْتَمِ, وَالْمُقَيَّرِ وَهَذَا فَاسِدٌ جِدًّا; لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُ قَسَّمَ هَذَا التَّقْسِيمَ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَحْرُمُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الأَكْلَ. وَالشُّرْبَ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ إنَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُوجَدَ غَيْرُهُ فَيَغْسِلَ بِالْمَاءِ وَيَحِلُّ ذَلِكَ فِيهِ حِينَئِذٍ, وَالْبُرْهَانُ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الإِنَاءِ الْمَأْخُوذِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ تَحْرِيمَ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْبُغَ, فَبَقِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ لِصِحَّةِ الْبُرْهَانِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ مُذْ حُرِّمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/516)


1102- مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ هَذَا الدِّيوَانِ إبَاحَةَ الْخَمْرِ لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.

(7/516)


1103- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَلاَ إمْسَاكُهُ, وَلاَ الأَنْتِفَاعُ بِهِ, فَمَنْ خَلَّلَهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحَلَّ أَكْلُ ذَلِكَ الْخَلِّ, إِلاَّ أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ سَقَطَ، عَنِ الشَّرَابِ الْحَلاَلِ إذَا أَسْكَرَ وَصَارَ خَمْرًا فَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ بِغَلَبَةٍ أَوْ بِسَرِقَةٍ فَهُوَ حَلاَلٌ, إِلاَّ أَنْ يَسْبِقَ الَّذِي خَلَّلَهُ إلَى تَمَلُّكِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ لَهُ, كَمَا لَوْ سَبَقَ إلَيْهِ غَيْرِهِ, وَلاَ فَرْقَ; لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ نَا عَبْدُ الأَعْلَى أَبُو هَمَّامٍ نَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ, وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ" فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلاَ يَشْرَبْ، وَلاَ يَبِعْ" , قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ, وَسُلَيْمَانَ

(7/516)


1104- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ كَسْرُ أَوَانِي الْخَمْرِ, وَمَنْ كَسَرَهَا مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا, لَكِنْ تُهْرَقُ وَتُغْسَلُ الْفَخَّارُ, وَالْجُلُودُ, وَالْعِيدَانُ, وَالْحَجَرُ, وَالدُّبَّاءُ, وَغَيْرُ ذَلِكَ, كُلُّهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وقال مالك: يُكْسَرُ الْفَخَّارُ وَالْعُودُ وَيُشَقُّ الْجِلْدُ وَيُغْسَلُ مَا عَدَا ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ الآنَ مِنْ فَتْحِ الَّذِي أَهْدَى رَاوِيَةَ الْخَمْرِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا فَتَحَ الْمُزَادَةَ وَأَهْرَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه السلام بِخَرْقِهَا, وَنَهْيِهِ عليه السلام، عَنْ إضَاعَةِ

(7/517)


الْمَالِ, وَالْكَسْرُ وَالْخَرْقُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ, وَمُتْلِفُ مَالِ غَيْرِهِ مُعْتَدٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَسَرَ كُوزًا فِيهِ شَرَابٌ وَشَقَّ الْمَشَاعِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَهِيَ الزِّقَاقُ. وَهَذَا مُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: شَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زُقَاقَ الْخَمْرِ. وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه السلام شَقَّ زُقَاقَ الْخَمْرِ. وَبِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه السلام أَرَاقَ الْخَمْرَ وَكَسَرَ جِرَارَهَا. وَكُلُّ هَذَا لاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ.
أَمَّا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ: فَأَحَدُ طُرُقِهِ فِيهَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ الْخَوْلاَنِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ وَهُوَ نُسَيْرُ بْنُ ذُعْلُوقٍ وَهُوَ لاَ شَيْءَ. وَالثَّالِثُ: مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ طَلْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِيهِ عُمَرُ بْنُ صَهْبَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِيهِ أَيْضًا آخَرُ لَمْ يُسَمِّ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ مُطَّرَحٌ فَلَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي يَطْبُخُونَ فِيهَا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا الْخَمْرَ وَعَرَفَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا بِالْمَاءِ, ثُمَّ أَبَاحَ الأَكْلَ فِيهَا وَالشُّرْبَ, وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام.

(7/518)


1105- مَسْأَلَةٌ: وَفُرِضَ عَلَى مَنْ أَرَادَ النَّوْمَ لَيْلاً أَنْ يُوكِيَ قِرْبَتَهُ, وَيُخَمِّرَ آنِيَتَهُ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرِضُهُ عَلَيْهَا, وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَنْ يُطْفِئَ السِّرَاجَ, وَيُخْرِجَ النَّارَ مِنْ بَيْتِهِ جُمْلَةً إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إلَيْهَا لِبَرْدٍ أَوْ لِمَرَضٍ, أَوْ لِتَرْبِيَةِ طِفْلٍ, فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ لاَ يُطْفِئَ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: نَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ نَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ" فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا, وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ, وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا, وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا وَلَوْ أَنْ تَعْرِضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ

(7/518)


صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ" وَأَمَّا مَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.

(7/519)


1106- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَا عِكْرِمَةُ نَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ. وَرُوِيَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا مُسْنَدًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَرِبَ مِنْ فَمِ قِرْبَةٍ قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ; لأََنَّ أَحَدَهَا مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَدْ تُرِكَ وَفِيهِ الْبَرَاءُ ابْنُ بِنْتِ أَنَسٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَخَبَرٌ آخَرُ: مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَلاَ أَعْرِفُهُ. وَآخَرُ مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُوَافَقَةً لِمَعْهُودِ الأَصْلِ, وَالنُّهَى بِلاَ شَكٍّ إذَا وَرَدَ نَاسِخٌ لِتِلْكَ الإِبَاحَةِ بِلاَ شَكٍّ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَعُودَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا، وَلاَ يَأْتِي بِذَلِكَ بَيَانٌ جَلِيٌّ, إذَنْ كَانَ يَكُونُ الدِّينُ غَيْرَ مُبَيَّنٍ, وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا, وَهُوَ عليه السلام مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ. فإن قيل: قَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ فَمِ إدَاوَةٍ. قلنا: نَعَمْ, هَذَا حَسَنٌ; لأََنَّهُ الإِدَاوَةُ وَلَيْسَتْ قِرْبَةً، وَلاَ سِقَاءً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/519)


1107- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الشُّرْبُ قَائِمًا, وَأَمَّا الأَكْلُ قَائِمًا فَمُبَاحٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ, وَقُتَيْبَةُ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى, قَالَ هَدَّابٌ: نَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى: نَا عَبْدُ الأَعْلَى نَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ, وَقَالَ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ, ثُمَّ اتَّفَقَ هَمَّامٌ, وَهِشَامٌ, وَسَعِيدٌ, كُلُّهُمْ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَلَفْظُ هَدَّابٍ زَجَرَ، عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَذَكَرَ لأَبْنِ عُمَرَ قَوْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ. فإن قيل: قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ قَائِمًا

(7/519)


ولا يحل النفخ في الشرب ويستحب أن يبن الشارِب الإناء عن فمه ثلاثاً
...
1108- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ النَّفْخُ فِي الشُّرْبِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبِينَ الشَّارِبُ الإِنَاءَ، عَنْ فَمِهِ ثَلاَثًا لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا الثَّقَفِيُّ هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الأَعْلَى نَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ النَّفْخِ فِي الإِنَاءِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُسْنَدًا. فإن قيل: قَدْ رَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَحْسَبُهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قلنا: هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَقَدْ تُرِكَ وَحَتَّى لَوْ شَكَّ هِشَامٌ فِي إسْنَادِهِ فَلَمْ يَشُكَّ أَيُّوبُ، وَلاَ مَعْمَرٌ, وَكِلاَهُمَا فَوْقَ هِشَامٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو نُعَيْمٍ, وَأَبُو عَاصِمٍ قَالاَ: نَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ نَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثًا.
قال أبو محمد: التَّنَفُّسُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ النَّفْخُ فِيهِ كَمَا بَيَّنَهُ مَعْمَرٌ وَالتَّنَفُّسُ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ أَنْ يَتَنَفَّسَ بِإِبَانَتِهِ، عَنْ فِيهِ, إذْ لَمْ نَجِدْ مَعْنًى يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ.

(7/520)


1109- مَسْأَلَةٌ: وَالْكَرْعُ مُبَاحٌ, وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَ بِفَمِهِ مِنْ النَّهْرِ, أَوْ الْعَيْنِ, أَوْ السَّاقِيَةِ; إذْ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَهْيٌ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ فُلَيْحِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:، أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الأَنْصَارِ وَهُوَ فِي حَائِطِهِ: إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ وَإِلَّا كَرَعْنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَكْرَعُوا, وَلَكِنْ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ فَاشْرَبُوا فِيهَا, فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ إنَاءٍ أَطْيَبَ مِنْ الْيَدِ".
قال أبو محمد: فُلَيْحِ, وَلَيْثٌ مُتَقَارِبَانِ, فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ نَهْيٌ، وَلاَ أَمْرٌ, فَكُلُّ شَيْءٍ مُبَاحٌ; لِقَوْلِهِ عليه السلام الثَّابِتِ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَاتْرُكُوهُ فَلاَ وَاجِبَ أَنْ يُؤْتِيَ إِلاَّ مَا أُمِرَ بِهِ عليه السلام, وَلاَ وَاجِبَ أَنْ يَتْرُكَ إِلاَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ عليه السلام وَمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ وَاجِبَ، وَلاَ مُحَرَّمَ فَهُوَ مُبَاحٌ.

(7/521)


1110- مَسْأَلَةٌ: وَالشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ مُبَاحٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا نَهْيٌ, إنَّ مَا رُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُسْنَدًا وَقُرَّةُ هَذَا، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَيْوِيلَ وَهُوَ سَاقِطٌ وَلَيْسَ هُوَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ الَّذِي يَرْوِي، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ, ذَلِكَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يُشْرَبَ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ, أَوْ مِنْ عِنْدِ أُذُنِهِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَقَدْ خَالَفَهُمَا هَؤُلاَءِ.

(7/521)


1111- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ شَرِبَ فَلْيُنَاوِلْ الأَيْمَنَ مِنْهُ فَالأَيْمَنَ، وَلاَ بُدَّ كَائِنًا مَنْ كَانَ, وَلاَ يَجُوزُ مُنَاوَلَةُ غَيْرِ الأَيْمَنِ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَيْمَنِ, وَمَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُنَاوِلَ أَحَدًا فَلَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ أَمَامَهُ أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَوْ، عَنْ يَسَارِهِ: فَلْيُنَاوِلْ الأَكْبَرَ فَالأَكْبَرَ، وَلاَ بُدَّ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ دَارَهُمْ, قَالَ: فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ وَشُيِّبَ لَهُ مِنْ بِئْرٍ فِي الدَّارِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، عَنْ شِمَالِهِ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(7/521)


1112- مَسْأَلَةٌ: وَسَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ هُوَ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا" .
تم كتاب الأشربة بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما.

(7/522)


كتاب العقيقة
باب العقيقة
العقيقة فرض واجب يجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها
...
كِتَابُ الْعَقِيقَةِ
1113- مَسْأَلَةٌ: الْعَقِيقَةُ فَرْضٌ وَاجِبٌ يُجْبَرُ الإِنْسَانُ عَلَيْهَا إذَا فَضَلَ لَهُ، عَنْ قُوتِهِ مِقْدَارُهَا. وَهُوَ أَنْ يَذْبَحَ، عَنْ كُلِّ مَوْلُودٍ يُولَدُ لَهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ غُلاَمٍ أَوْ اسْمُ جَارِيَةٍ. إنْ كَانَ ذَكَرًا فَشَاتَانِ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَشَاةٌ وَاحِدَةٌ. يَذْبَحُ كُلَّ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ الْوِلاَدَةِ، وَلاَ تُجْزِئُ قَبْلَ الْيَوْمِ السَّابِعِ أَصْلاً فَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ ذَبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ مَتَى أَمْكَنَ فَرْضًا. وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَيُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ, هَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ لاَ فَرْضٌ. وَيُعَدُّ فِي الأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَوْمُ الْوِلاَدَةِ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ يَسِيرٌ. وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ, وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ, وَلاَ بَأْسَ بِكَسْرِ عِظَامِهَا. وَلاَ يُجْزِئُ فِي الْعَقِيقَةِ إِلاَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ إمَّا مِنْ الضَّأْنِ, وَأَمَّا مِنْ الْمَاعِزِ فَقَطْ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا لاَ مِنْ الإِبِلِ، وَلاَ مِنْ الْبَقَرِ الإِنْسِيَّةِ, وَلاَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ جَذَعَةٌ أَصْلاً, وَلاَ يُجْزِئُ مَا دُونَهَا مِمَّا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ. وَيُجْزَى الذَّكَرُ وَالأُُنْثَى مِنْ كُلِّ ذَلِكَ; وَيُجْزِئُ الْمَعِيبُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِي الأَضَاحِيّ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَجُوزُ فِيهَا, وَالسَّالِمُ أَفْضَلُ. وَيُسَمَّى الْمَوْلُودُ يَوْمَ وِلاَدَتِهِ, فَإِنْ أُخِّرَتْ تَسْمِيَتُهُ إلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ فَحَسَنٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَطْعَمَ أَوَّلَ وِلاَدَتِهِ التَّمْرَ مَمْضُوغًا وَلَيْسَ فَرْضًا. وَالْحُرُّ, وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ, وَالْمُؤْمِنُ, وَالْكَافِرُ كَذَلِكَ. وَهِيَ فِي مَالِ

(7/523)


الأَبِ أَوْ الأُُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ, أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلُودِ مَالٌ, فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَهِيَ فِي مَالِهِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ السَّابِعِ عُقَّ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ بُدَّ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَبِيبٌ، هُوَ ابْنُ الشَّهِيدِ وَيُونُسُ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ وَقَتَادَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا, وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ, كِلاَهُمَا، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الرَّبَابِ، عَنِ ابْنِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.
وَبِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَا عَفَّانَ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ" . نَا حُمَامٌ نَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ أَيْمَنَ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ نَا الْحُمَيْدِيُّ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ نَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ مَيْسَرَةَ الْفِهْرِيَّةَ مَوْلاَتُه مِنْ فَوْقُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ أُمَّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةَ تَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْعَقِيقَةِ: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ" فَسَّرَ عَطَاءٌ الْمُكَافَأَتَانِ بِأَنَّهُمَا الْمِثْلاَنِ. وَفَسَّرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّهُمَا الْمُتَقَارِبَتَانِ أَوْ الْمُتَسَاوِيَتَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِبَاعِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ لاَ يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إنَاثًا". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نَا يَزِيدُ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ نَا قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ غُلاَمٍ مُرْتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ نَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى نَا قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى

(7/524)


الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ حَتَّى تُذْبَحَ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُدَمَّى" فَكَانَ قَتَادَةَ إذَا سُئِلَ، عَنِ الدَّمِ كَيْفَ يُصْنَعُ قَالَ: "إذَا ذُبِحَتْ الْعَقِيقَةُ أُخِذَتْ مِنْهَا صُوفَةٌ فَاسْتُقْبِلَتْ بِهَا أَوْدَاجُهَا, ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَسِيلَ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الْخَيْطِ, ثُمَّ يُغْسَلُ رَأْسُهُ بَعْدُ وَيُحْلَقُ" . قَالَ أَبُو دَاوُد: أَخْطَأَ هَمَّامٌ إنَّمَا هُوَ يُسَمَّى.
قال أبو محمد: بَلْ وَهَمَ أَبُو دَاوُد; لأََنَّ هَمَّامًا ثَبَّتَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا قَتَادَةَ، عَنْ صِفَةِ التَّدْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَوَصَفَهَا لَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ نَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ قَالَ: أَمَرَنِي ابْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ فَسَأَلْته فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَصِحُّ لِلْحَسَنِ سَمَاعٌ مِنْ سَمُرَةَ إِلاَّ حَدِيثُ الْعَقِيقَةِ وَحْدَهُ فَهَذِهِ الأَخْبَارُ نَصُّ مَا قلنا وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ وَلَدَتْ لِلْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ غُلاَمًا فَقُلْت لَهَا: هَلَّا عَقَقْت جَزُورًا عَلَى ابْنِك قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ كَانَتْ عَمَّتِي عَائِشَةُ تَقُولُ عَلَى الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَلَى الْجَارِيَةِ شَاةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ نَا عَفَّانَ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُلَطِّخُهُ بِالدَّمِ, وَيُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِهِ فِضَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ مَكْحُولٍ: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمَوْلُودُ مُرْتَهِنٌ بِعَقِيقَتِهِ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ: إنَّ النَّاسَ يُعْرَضُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْعَقِيقَةِ كَمَا يُعْرَضُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَمِثْلُهُ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُصْنَعُ بِالْعَقِيقَةِ مَا يُصْنَعُ بِالأُُضْحِيَّةِ. وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَأْكُلُ أَهْلُ الْعَقِيقَةِ وَيُهْدُونَهَا أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ زَعَمُوا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ.

(7/525)


قال أبو محمد: أَمْرُهُ عليه السلام بِالْعَقِيقَةِ فَرْضٌ كَمَا ذَكَرْنَا لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِهِ عليه السلام عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ وَارِدٍ بِذَلِكَ, وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ كَذِبٌ وَقَفْوٌ لِمَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا: أَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابُنَا. وَمِمَّنْ قَالَ: بِالشَّاتَيْنِ، عَنِ الذَّكَرِ, وَشَاةِ، عَنِ الأُُنْثَى: الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَلاَ تُسَمَّى: "السَّخْلَةُ" شَاةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الأَضَاحِيّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُجْزِي جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" فَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَخُصُّ مِنْهُ إِلاَّ مَا خَصَّهُ نَصٌّ. وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الضَّانِيَةِ وَالْمَاعِزَةِ بِلاَ خِلاَفٍ إطْلاَقًا بِلاَ إضَافَةٍ وَقَالَ الأَعْشَى يَصِفُ ثَوْرًا وَحْشِيًّا:
فَلَمَّا أَضَاءَ الصُّبْحُ ثَارَ مُبَادِرًا ... وَكَانَ انْطِلاَقُ الشَّاةِ مِنْ حَيْثُ خَيَّمَا
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يُخَاطِبُ ظَبْيَةً:
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا أَأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
فَأَجَابَهُ أَخُو هِشَامٍ وَكِلاَهُمَا عَرَبِيٌّ أَعْرَابِيٌّ فَصِيحٌ:
فَلَوْ تُحْسِنُ التَّشْبِيهَ وَالشِّعْرَ لَمْ تَقُلْ ... لِشَاةِ النَّقَا أَأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سَلْمَى يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ:
فَبَيْنَا نَبْغِي الْوَحْشَ جَاءَ غُلاَمُنَا ... يَدِبُّ وَيُخْفِي شَخْصَهُ وَيُضَائِلُهُ
فَقَالَ شِيَاهٌ رَائِعَاتٌ بِقَفْرَةٍ ... بِمُسْتَأْسِدِ الْقِرْيَانِ حُوٌّ مَسَائِلُهُ
ثَلاَثٌ كَأَقْوَاسِ السِّرَاءِ وَمِسْحَلٌ ... قَدْ اخْضَرَّ مِنْ لَسِّ الْغَمِيرِ جَحَافِلُهُ
وَقَدْ خَرَمَ الطِّرَادَ عَنْهُ جِحَاشُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ نَفْسُهُ وَحَلاَئِلُهُ
ثُمَّ مَضَى فِي الْوَصْفِ إلَى أَنْ قَالَ:
فَتَبِعَ آثَارَ الشِّيَاهِ وَلِيدُنَا ... كَشُؤْبُوبِ غَيْثٍ يَحْفِشُ الأَكَمَ وَابِلُهُ
فَرَدَّ عَلَيْنَا الْعَيْرَ مِنْ دُونِ إلْفِهِ ... عَلَى رَغْمِهِ يَدْمَى نَسَاهُ وَفَائِلُهُ

(7/526)


فَسَمَّى: "الشِّيَاهَ" ثُمَّ فَسَّرَهَا بِأَنَّ لَهَا "مِسْحَلاً وَجِحَاشًا" وَأَنَّهَا عَيْرٌ وَأَتَانُهُ.
فإن قال قائل: فَهَلاَّ قُلْتُمْ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَبِأَخْذِ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَزَكَاةِ الإِبِلِ, وَفِي الْعَقِيقَةِ, وَالنُّسُكِ قلنا: لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ; لأََنَّ النَّصَّ فِي الزَّكَاةِ إنَّمَا جَاءَ كَمَا أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم نَصَّ كِتَابِهِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ فِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ" . وَاسْمُ الْغَنَمِ لاَ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ إِلاَّ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ فَقَطْ, فَوَجَبَ بِالأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الزَّكَاةِ أَنْ لاَ يَأْخُذَ إِلاَّ مِنْ الْغَنَمِ, وَلاَ يُعْطِي فِي زَكَاةِ الإِبِلِ إِلاَّ الْغَنَمَ. وَأَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْ الْغَنَمِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . وَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ, وَاَلَّذِي هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ, فَثَبَتَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الأَمْوَالِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهَا الصَّدَقَةُ, فَلاَ تُجْزِئُ مِنْ غَيْرِهَا إِلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ يَجْزِي كَزَكَاةِ الإِبِلِ مِنْ الْغَنَمِ, وَزَكَاةِ الْغَنَمِ مِنْ غَنَمٍ يَأْتِي بِهَا مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْعَقِيقَةُ, وَالنُّسُكُ فَقَدْ قلنا: لاَ يَقَعُ اسْمُ شَاةٍ بِالإِطْلاَقِ فِي اللُّغَةِ أَصْلاً عَلَى غَيْرِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى الظِّبَاءِ, وَحُمْرِ الْوَحْشِ, وَبَقَرِ الْوَحْشِ, اسْتِعَارَةً, وَبَيَانًا وَإِضَافَةً, لاَ عَلَى الإِطْلاَقِ أَصْلاً وَلَيْسَ الأَقْتِصَارُ عَلَى الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ إجْمَاعًا فِي الْعَقِيقَةِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيِّ قَالَ: سَمِعْت أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَقِيقَةُ وَلَوْ بِعُصْفُورٍ وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَزُورِ وَإِنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا لِئَلَّا يُدْعَى عَلَيْنَا الإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ. فإن قيل: فَهَلاَّ أَجَزْتُمْ أَنْ يَعُقَّ بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ لِحَدِيثِ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَرِيقُوا عَنْهُ دَمًا قلنا: ذَلِكَ خَبَرٌ مُجْمَلٌ, فَسَّرَهُ الَّذِي فِيهِ، عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ, تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ, فَكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ وَاجِبَةً, وَكَانَ مَنْ عَقَّ بِخِلاَفِهَا مُخَالِفًا لِهَذَا النَّصِّ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَحِلُّ, وَكَانَ مَنْ عَقَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوَافِقًا سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَحِلُّ سِوَاهُ. فإن قيل: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ الذَّبْحَ بَعْدَ السَّابِعِ قلنا: لأََنَّهُ قَدْ وَجَبَ الذَّبْحُ يَوْمَ السَّابِعِ وَلَزِمَ إخْرَاجُ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ الْمَالِ فَلاَ يَحِلُّ إبْقَاؤُهَا فِيهِ فَهُوَ دَيْنٌ وَاجِبٌ إخْرَاجُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ نَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ هُوَ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أُمَّهُ وَلَدَتْ غُلاَمًا فَقَالَتْ

(7/527)


لَهُ: يَا أَنَسُ لاَ يُرْضِعُهُ أَحَدٌ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ انْطَلَقْتُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَعَلَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ قُلْتُ: نَعَمْ, فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ وَدَعَا عليه السلام بِعَجْوَةٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلاَكَهَا فِي فِيهِ ثُمَّ قَذَفَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ فَجَعَلَ الصَّبِيُّ يَتَلَمَّظُهَا فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ نَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ أَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ نَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَمَا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُبَالِي أَنْ يَذْبَحَ الْعَقِيقَةَ قَبْلَ السَّابِعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا, وَلاَ يَجْزِي قَبْلَ السَّابِعِ; لأََنَّهُ خِلاَفُ النَّصِّ وَلَمْ تَجِبْ الْعَقِيقَةُ بَعْدُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إذَا لَمْ يُعَقَّ عَنْك فَعُقَّ، عَنْ نَفْسِك وَإِنْ كُنْت رَجُلاً. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالْعَقِيقَةِ يَوْمَ سَابِعِ الْمَوْلُودِ وَتَسْمِيَتِهِ. قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ كَسْرِ عِظَامِهَا شَيْءٌ. فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ قِيلَ لَهَا فِي الْعَقِيقَةِ بِجَزُورٍ, فَقَالَتْ: لاَ, بَلْ السُّنَّةُ أَفْضَلُ, عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ تُقْطَعُ جُدُولاً، وَلاَ يُكْسَرُ لَهَا عَظْمٌ فَيَأْكُلُ وَيُطْعِمُ وَيَتَصَدَّقُ, وَلْيَكُنْ

(7/528)


ذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ. قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ ثُمَّ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لأََنَّهُ عَمَّنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَعَنْ عَطَاءٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لاَ يُكْسَرَ لَهَا عَظْمٌ, فَإِنْ أَخْطَأَهُمْ أَنْ يَعُقُّوا يَوْمَ السَّابِعِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى السَّابِعِ الآخَرِ وَلَيْسَ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مِنْ عَقِيقَةِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إلَى الْقَابِلَةِ بِرِجْلِهَا, وَقَالَ: لاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْمًا قلنا: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ, وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِالْمُرْسَلِ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمَا بِذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ قَالَ: تُكْسَرُ عِظَامُهَا وَرَأْسُهَا، وَلاَ يُمَسُّ الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ فِي الْعَقِيقَةِ تُطْبَخُ بِمَاءٍ وَمِلْحٍ آرَابًا, وَتُهْدَى فِي الْجِيرَانِ, وَالصَّدِيقِ, وَلاَ يُتَصَدَّقُ مِنْهَا بِشَيْءٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: يُعَقُّ، عَنِ الْغُلاَمِ، وَلاَ يُعَقُّ، عَنِ الْجَارِيَةِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ, وَسَهْلِ بْنِ يُوسُفَ, قَالَ سَهْلٌ: عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى عَلَى الْجَارِيَةِ عَقِيقَةً وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ هُوَ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: لاَ يُعَقُّ، عَنِ الْجَارِيَةِ، وَلاَ كَرَامَةَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ يَلْزَمُ مِنْهَا شَيْءٌ, لاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي وَحَيٍّ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} وَلَمْ يَعْرِفْ أَبُو حَنِيفَةَ الْعَقِيقَةَ, فَكَانَ مَاذَا لَيْتَ شِعْرِي إذْ لَمْ يَعْرِفْهَا أَبُو حَنِيفَةَ مَا هَذَا بِنَكِرَةٍ فَطَالَمَا لَمْ يَعْرِفْ السُّنَنَ. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهَا وَاجِبَةً بِرِوَايَةٍ وَاهِيَةٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ نَسَخَ الأَضْحَى كُلَّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهُ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ; لأََنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَلاَ يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ إِلاَّ بِنَصٍّ مُسْنَدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله

(7/529)


عليه وسلم. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ, وَسُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِيهِ, قَالَ الثَّوْرِيُّ: مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ, وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ، عَنِ الْعَقِيقَةِ لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ, مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْ، عَنْ عَمِّهِ شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لاَ شَيْءَ; لأََنَّهُ، عَنْ رَجُلٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فِي الْخَلْقِ. وقال الشافعي, وَالنَّخَعِيُّ لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ, مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنْسُكَ، عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ, وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ.
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيفَةٌ, وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ; لأََنَّ فِيهِ إيجَابَ ذَلِكَ عَلَى الْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ, وَأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ الأَبَ إِلاَّ أَنْ يَشَأْ هَذَا نَصُّ الْخَبَرِ وَمُقْتَضَاهُ, فَهِيَ كَالزَّكَاةِ, وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي هَذَا، وَلاَ فَرْقَ وقال مالك: الْعَقِيقَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً, لَكِنَّهَا شَاةٌ، عَنِ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى سَوَاءً تُذْبَحُ يَوْمَ السَّابِعِ, وَلاَ يُعَدُّ فِيهَا يَوْمَ وِلاَدَتِهِ, فَإِنْ لَمْ يَعُقُّوا فِي السَّابِعِ عَقُّوا فِي الثَّانِي فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا لَمْ يَعُقُّوا بَعْدَ ذَلِكَ: وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا فِي أَنْ لاَ يُعَدَّ يَوْمُ الْوِلاَدَةِ, وَلاَ فِي الأَقْتِصَارِ عَلَى السَّابِعِ الثَّانِي فَقَطْ، وَلاَ نَدْرِي أَحَدًا قَالَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِشَاةٍ، عَنِ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى; فَقَدْ رُوِيَ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: مِنْهُمْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَسْمَاءُ أُخْتُهَا، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُمَا; لأََنَّهَا، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ أَوْ، عَنْ سُلاَفَةَ مَوْلاَةِ حَفْصَةَ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ أَوْ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ, وَهِيَ صَحِيفَةٌ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهَا قَبْلُ, لَكِنَّهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى هَذَا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ نَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ نَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنِ الْحَسَنِ كَبْشًا وَعَنِ الْحُسَيْنِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ التَّمْتَامُ نَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ نَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ شَاتَيْنِ. قال أبو محمد: وَهَذَانِ عِنْدَنَا أَثَرَانِ صَحِيحَانِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِمَا لَهُمْ, لِوُجُوهٍ, أَوَّلُهَا:

(7/530)


أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ كُرْزٍ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْعَدْلِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةَ نَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ سِبَاعِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أُمِّ كُرْزٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ أَسْأَلُهُ، عَنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ عَلَى الْغُلاَمِ شَاتَانِ, وَعَلَى الْجَارِيَةِ شَاةٌ, لاَ يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كَانَتْ أَمْ إنَاثًا. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَوْلِدَ الْحَسَنِ رضي الله عنه كَانَ "عَامَ أُحُدٍ "، وَأَنَّ مَوْلِدَ الْحُسَيْنِ رضي الله عنه كَانَ فِي الْعَامِ الثَّانِي لَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ بِسَنَتَيْنِ, فَصَارَ الْحُكْمُ لِقَوْلِ الْمُتَأَخِّرِ, لاَ لِفِعْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي إنَّمَا كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ عليه السلام. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نَا مُعَاذٌ نَا الْقَعْنَبِيُّ نَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّتْ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ حِينَ وَلَدَتْهُمَا شَاةً شَاةً.
قال أبو محمد: لاَ شَكَّ فِي أَنَّ الَّذِي عَقَّتْ بِهِ فَاطِمَةُ، رضي الله عنها، هُوَ غَيْرُ الَّذِي عَقَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعَ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّهُ عليه السلام عَقَّ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَبْشٍ وَعَقَّتْ فَاطِمَةُ، رضي الله عنها، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَاةٍ, فَحَصَلَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَبْشٌ وَشَاةٌ, كَبْشٌ وَشَاةٌ. وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا خَبَرًا لَوْ ظَفَرُوا بِمِثْلِهِ لاَسْتَبْشَرُوا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما بِكَبْشَيْنِ كَبِيرَيْنِ. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَالْعَجَبُ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَوَى ذَلِكَ الْخَبَرَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَرْسَلَهُ، عَنْ أَيُّوبَ وَبِأَقَلَّ مِنْ هَذَا يَتَعَلَّلُونَ فِي رَدِّ الأَخْبَارِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ, وَنَحْنُ لاَ نُرَاعِي هَذَا, وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الأَخْذِ بِالزَّائِدِ وَالآخَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تم كتاب العقيقة بحمد الله.

(7/531)


المجلد الثامن
كتاب النذور
مدخل
يكره النذر وينهى عنه ومع ذلك لو نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء به
...
كِتَابُ النُّذُورِ
1114 - مَسْأَلَةٌ: نَكْرَهُ النَّذْرَ وَنَنْهَى عَنْهُ ; لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا
فَرْضًا إذَا نَذَرَهَا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجَرَّدًا أَوْ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى ; أَوْ إنْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلاً لاَ ظُلْمَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ، وَلاَ لِمَعْصِيَةٍ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَقُولَ: صَوْمُ كَذَا وَكَذَا فَأَكْثَرَ، أَوْ حَجٌّ، أَوْ جِهَادٌ، أَوْ ذِكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ رِبَاطٌ، أَوْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ، أَوْ شُهُودُ جِنَازَةٍ، أَوْ زِيَارَةُ قَبْرِ نَبِيٍّ، أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ، أَوْ الْمَشْيُ أَوْ الرُّكُوبُ، أَوْ النُّهُوضُ إلَى مَشْعَرٍ مِنْ مَشَاعِرِ مَكَّةَ، أَوْ الْمَدِينَةِ، أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ عِتْقُ مُعَيَّنٍ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَيُّ طَاعَةٍ كَانَتْ: فَهَذَا هُوَ التَّقَرُّبُ الْمُجَرَّدُ. أَوْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إذَا خَلَّصَنِي مِنْ كَذَا، أَوْ إذَا مَلَّكَنِي أَمْرَ كَذَا، أَوْ إذَا جَمَعَنِي مَعَ أَبِي، أَوْ فُلاَنٍ صَدِيقِي، أَوْ مَعَ أَهْلِي صَدَقَةٌ، أَوْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَوْ يَقُولَ: عَلَيَّ لِلَّهِ إنْ أَنْزَلَ الْغَيْثَ، أَوْ إنْ صَحَحْت مِنْ عِلَّتِي، أَوْ إنْ تَخَلَّصْت، أَوْ إنْ مَلَكْت أَمْرَ كَذَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا. فَإِنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ، أَوْ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً: لَمْ يَلْزَمْ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ أَنْ يَصْبُغَ ثَوْبَهُ أَحْمَرَ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ طَاعَةً إنْ نَالَ مَعْصِيَةً، أَوْ إذَا رَأَى مَعْصِيَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ إنْ قُتِلَ فُلاَنٌ، أَوْ إنْ ضُرِبَ، وَذَلِكَ الْفُلاَنُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ إذَا أَرَانِي مَصْرَعَ فُلاَنٍ وَذَلِكَ الْفُلاَنُ مَظْلُومٌ: فَكُلُّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى فَقَطْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، فَقَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا

(8/2)


أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ خَادِمِي فُلاَنَةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، أَوْ إنْ زُرْت فُلاَنًا، فَكُلُّ هَذَا لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ كَفَّارَةٌ فِيهِ إِلاَّ الأَسْتِغْفَارُ فَقَطْ. فَإِنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَا خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا خَرَجَ مِنْ هَذَا مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ النَّذْرِ
فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: " إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنْ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " هَذَا لَفْظُ سُفْيَانَ. وَلَفْظُ شُعْبَةَ " إنَّهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ " مَكَانَ " إنَّهُ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ " وَاتَّفَقَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَصَحَّ أَيْضًا مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ " أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لاَ أَنْذِرُ أَبَدًا " وَهَذَا يُوجِبُ مَا قلنا: مِنْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِذَا وَقَعَ لَزِمَ وَاسْتُخْرِجَ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ. وَأَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} . وَقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. وَقَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . فَصَحَّ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَحَّ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ نَذَرَهُ فَقَدْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ مَعْصِيَتِهِ. فَقَدْ صَحَّ يَقِينًا أَنَّ النُّذُورَ وَالْعُقُودَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا إنَّمَا هِيَ نَذْرُ الطَّاعَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ نَذْرُ الطَّاعَةِ إِلاَّ مَا ذَكَرْنَا

(8/3)


مُذْ عَقَلْت لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، لاَ نَذْرَ إِلاَّ فِيمَا تَمْلِكُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنِ النَّذْرِ يُنْذِرُهُ الإِنْسَانُ فَقَالَ: إنْ كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ فَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا شَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ: إنِّي نَذَرْت إنْ نَجَا أَبِي مِنْ الأَسْرِ أَنْ أَقُومَ عُرْيَانًا، وَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَسْ ثِيَابَك، وَصُمْ يَوْمًا، وَصَلِّ قَائِمًا وَقَاعِدًا. وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مَعَ بَنِي أَخِيهِ يَتَامَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "اذْهَبْ فَكُلْ مَعَهُمْ. وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله تعالى عنه أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ سَاكِتَةً بِأَنْ تَتَكَلَّمَ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ: لاَ وَفَاءَ فِي نَذْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلاَ كَفَّارَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ". فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّ يَمِينٍ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَهَى عَنْهَا، فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: مَنْ أَخْرَجَ نَذْرَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ مِثْلَ مَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ إنْ كَلَّمْت فُلاَنًا، فَإِنْ كَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ. وقال الشافعي: كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَحَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَحَدِّهِ فَفِيهِ الْوَفَاءُ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ ; فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَقَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى الطَّلاَقِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لأََنَّ النَّذْرَ مَا قَصَدَ نَاذِرُهُ الرَّغْبَةَ فِي فِعْلِهِ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَاسْتَدْعَى مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْجِيلَ تَبْلِيغِهِ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَهَذَا بِخِلاَفِ ذَلِكَ، لأََنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الأَمْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ الْبِرِّ، وَإِبْعَادِهِ، عَنْ نَفْسِهِ جُمْلَةً وَمَنَعَ

(8/5)


نَفْسَهُ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْعَمَلَ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ نَاذِرًا، وَإِذْ لَيْسَ نَاذِرًا، فَلاَ وَفَاءَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَاصٍ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الأَلْتِزَامِ إذْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَصَارَ مَعْصِيَةً، وَلاَ وَفَاءَ لِنَذْرِ مَعْصِيَةٍ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا لَيْسَ نَذْرَ طَاعَةٍ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَيْسَ يَمِينًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَبَطَلَ أَنْ يَجِبَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، إذْ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ ;، وَلاَ سُنَّةٌ وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ إيَّاهُ عَلَى الطَّلاَقِ: فَالْخِلاَف أَيْضًا فِي الطَّلاَقِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَشْهَرِ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ فَظَهَرَ بُطْلاَنُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَبَاطِلٌ أَيْضًا، لأََنَّهُ لاَ يَمِينَ إِلاَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُوجِبْ عَزَّ وَجَلَّ كَفَّارَةً فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ بِغَيْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ فَخَطَأٌ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عِتْقٌ بِصِفَةٍ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ هُوَ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لاَ يَلْزَمُ. وَقَالُوا: قِسْنَا الْعِتْقَ الْمُعَيَّنَ عَلَى الطَّلاَقِ الْمُعَيَّنِ .فَقُلْنَا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لاَ يَصِحُّ قَوْلُكُمْ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَيَّنِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْيَمِينَ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَسْمَعْهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، إنَّمَا رَوَاهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ. وَخَبَرٌ آخَرُ: مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَطَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". وَخَبَرٌ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: : " لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ

(8/6)


يَمِينٍ " مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيُّ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَزِيَادَةٌ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ نَفْسَهُ. قَالَ الْمُعْتَمِرُ: فَقُلْت لِمُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَحَدَّثَكَهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ عِمْرَانَ فَقَالَ: لاَ وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ رَجُلٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، فَبَطَلَ جُمْلَةً. وَآخَرُ: مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى الأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ رَوْحٍ، عَنْ سَلَّامٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ هَالِكٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ; وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثْت، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ثُمَّ اتَّفَقَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ نَذْرَ فِي غَضَبٍ، وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ". أَحَدُهُمَا مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ، وَالآخَرُ مُرْسَلٌ وَعَمَّنْ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ سَاقِطٌ.
قال أبو محمد: ثُمَّ كُلُّ هَذَا عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ: مُخَالِفَانِ لَهُ: أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلاَ يَرَى فِيمَنْ أَخْرَجَ النَّذْرَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إِلاَّ الْوَفَاءَ بِهِ وَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا يَرَى كَفَّارَةَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا إذَا قَالَ: أَنَا كَافِرٌ إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ قُتِلَ الْيَوْمَ فُلاَنٌ، وَأَرَادَ الْيَمِينَ، وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ أَنْ يَكْفُرَ، أَوْ أَنْ يَلُوطَ، أَوْ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ أَصْلاً، فَخَالَفَ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا إلَى غَيْرِ سَلَفٍ يُعْرَفُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَمْ يَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّذُورِ فِي الْمَعْصِيَةِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ إِلاَّ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ ; فَكِلاَهُمَا مُخَالِفٌ لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا

(8/7)


، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ بِشَيْءٍ أَصْلاً وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَخْبَرَنِي أَبُو رَافِعٍ قَالَ: قَالَتْ لِي مَوْلاَتِي لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ، أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك ; فَأَتَيْت زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَجَاءَتْ مَعِي إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا زَيْنَبُ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ فَقَالَتْ لَهَا زَيْنَبُ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ: فَكَأَنَّهَا لَمْ تَقْبَلْ فَأَتَيْت حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ مَعِي إلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَك إنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ مَمْلُوكٍ حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ ; فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: يَهُودِيَّةٌ وَنَصْرَانِيَّةٌ خَلِّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ لِغَرِيمِهِ: إنْ فَارَقْتُك فَمَا لِي عَلَيْك فِي الْمَسَاكِين صَدَقَةٌ، فَفَارَقَهُ، إنَّ هَذَا لاَ شَيْءَ يَلْزَمُهُ فِيهِ. وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَفْتَى ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ قلنا: نَعَمْ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصِّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضٍ بِلاَ بُرْهَانٍ وَصَحَّ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ لَيْلَى بِنْتِ الْعَجْمَاءِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، وَكُلُّ مَالٍ لَهَا هَدْيٌ، وَهِيَ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ إنْ لَمْ تُطَلِّقْ امْرَأَتَك كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَاحِدَةً. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ: مَالِي ضَرَائِبُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَعَائِشَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ الْحُمْرَانِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْهُمَا. وَرُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: النَّذْرُ كَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ هَذَا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَحْوَهُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، فِيمَنْ قَالَ: مَالِي كُلُّهُ فِي رِتَاجِ الْكَعْبَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَصَحَّ عَنْ طَاوُوس، وَعَطَاءٍ، أَمَّا طَاوُوس فَقَالَ: الْحَالِفُ بِالْعَتَاقِ، وَمَالِي هَدْيٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ لِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا النَّحْوُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ فِيمَنْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ بَدَنَةٍ، أَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ حَجَّةٍ، أَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ: كُلُّ ذَلِكَ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ

(8/8)


وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا خِلاَفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ; لأََنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعِتْقَ الْمُعَيَّنَ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ هُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَشَرِيكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ .وَبِهِ يَقُولُ الطَّحَاوِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَأَحَدُ قَوْلَيْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى ابْنَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى مَكَّة بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ، وَقَالَ لَهُ: إنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِقَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا:
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاجِيَّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي تَمَّامٍ، ثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلاً آخَرَ وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ، عَنِ النَّذْرِ فَقَالَ: أَفْضَلُ الأَيْمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَاَلَّتِي تَلِيهَا يَقُولُ: الْعِتْقُ، ثُمَّ الْكِسْوَةُ، ثُمَّ الإِطْعَامُ، إِلاَّ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَرُوِّينَا مِثْلَ تَفْرِيقِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِخِلاَفِ قَوْلِهِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَاضِرٍ قَالَ: حَلَفَتْ امْرَأَةٌ: مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُعْتَقُ، وَأَمَّا قَوْلُهَا: مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِهَا. وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ. وَقَدْ خَالَفُوهُ أَيْضًا فِيهَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ إصْرٍ فَلاَ كَفَّارَةَ لَهُ وَالإِصْرُ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلاَقٍ، أَوْ عَتَاقٍ، أَوْ نَذْرٍ، أَوْ مَشْيٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ.
جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ سَاقِطٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا قَدْ خَالَفُوهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ ; لأََنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ فِيمَنْ أَتَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ كَفَّارَةٌ، إِلاَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا بِالْكَفَّارَةِ قلنا: نَعَمْ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَهَى، عَنِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ يَمِينًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَذْرًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ، إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ وَفَاءَ فِيهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فَحَصَلَ قَوْلُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ خَارِجًا، عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ السَّلَفِ.
وَمِمَّا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ فِيهَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ، وَهِيَ: مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَمَنْ نَذَرَ

(8/9)


أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، أَوْ الرُّكُوبَ، أَوْ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ بَاعَهُ، أَوْ عِتْقَ عَبْدِ فُلاَنٍ إنْ مَلَكَهُ. فأما الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ جَعَلْت مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُمَا قَالاَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِهِ. وَصَحَّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ هَؤُلاَءِ: فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِلاَّ أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ حَاشَا قُوتِ شَهْرٍ فَإِذَا أَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا كَانَ أَبْقَى لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَرَأَى فِيهِ إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَجْزِيهِ: رُوِّينَا ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَصَحَّ نَحْوُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ قَبْلُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُمَرُ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ جَعَلَ مَالَهُ هَدْيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْتَصِبَ أَحَدًا مَالَهُ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيُهْدِ خُمُسَهُ وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَسُبُعَهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَعُشُرُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: الْكَثِيرُ أَلْفَانِ، وَالْوَسَطُ أَلْفٌ، وَالْقَلِيلُ خَمْسُمِائَةٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى قَتَادَةَ، قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِرُبْعِ الْعُشْرِ كَمَا رُوِّينَا ذَلِكَ آنِفًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَسَوَّى بَيْنَ مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ بِصَدَقَةِ جُزْءٍ مِنْهُ سَمَّاهُ وَإِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْيَمِينِ بِذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ رَبِيعَةَ هَذَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَا رُوِّينَا

(8/10)


مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ قَالَ: إبِلِي نَذْرٌ، أَوْ هَدْيٌ، أَنَّهُ يُجْزِيه بَعِيرٌ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ: لَعَلَّهُ يُجْزِيه إنْ كَانَتْ إبِلُهُ كَثِيرَةً. وَقَالَ ابْنُ ذَرٍّ عَنْهُ: يُهْدِي جَزُورًا ثَمِينًا، وَيُمْسِكُ بَقِيَّةَ إبِلِهِ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَهُمْ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ نَذْرًا، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِكُلِّ نَوْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَقَطْ، كَالْمَوَاشِي، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابٌ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ، أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ.
قال أبو محمد: وَلاَ نَدْرِي مَا قَوْلُهُمْ فِي الْحُبُوبِ وَمَا يُزْرَعُ، وَالثِّمَارُ، وَالْعَسَلُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ هَذَا عِنْدَهُ نَعَمْ، وَفِي كُلِّ عَرَضٍ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ سَلَفٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: الْمَالُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} .
قال أبو محمد: الصَّدَقَةُ الْمَأْخُوذَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ، وَمَا اخْتَلَفَ قَطُّ عَرَبِيٌّ، وَلاَ لُغَوِيٌّ، وَلاَ فَقِيهٌ، أَنَّ الْحَوَائِطَ، وَالدُّورَ تُسَمَّى: مَالاً، وَأَمْوَالاً، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ وَلَهُ حَمِيرٌ، وَدُورٌ، وَضِيَاعٌ، فَإِنَّهُ حَانِثٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ: وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَقَالَ: إنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ". وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ أَنْ لاَ تُجْزِئَ صَدَقَةٌ أَصْلاً إِلاَّ بِمَالٍ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ فَقَطْ. وقال مالك: سَوَاءٌ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنْ قَالَ: مَالِي كُلُّهُ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ، فَإِنْ قَالَ: دُورِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَضِيَاعِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَثِيَابِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَرَقِيقِي كُلُّهُمْ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَلَمْ يَزَلْ هَكَذَا حَتَّى سَمَّى نَوْعًا نَوْعًا حَتَّى أَتَى عَلَى كُلِّ مَا يَمْلِكُ: لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَوَّلُهُ، عَنْ آخِرِهِ، لاَ يُجْزِيه مِنْهُ الثُّلُثُ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ، وَلاَ يُجْبَرُ. فَلَوْ قَالَ مَكَانَ الْمَسَاكِينِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ: لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذَلِكَ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالُوا: فَلَوْ نَذَرَ، أَوْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، إِلاَّ دِينَارًا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ إِلاَّ دِينَارًا: وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ لاَ قُرْآنَ يُعَضِّدُهُ، وَلاَ سُنَّةَ، وَلاَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلاَ قَوْلٌ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ بَلْ هُوَ

(8/11)


مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ. وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ، أَوْ دِرْهَمًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى الْفَلْسِ، وَحَبَّةِ الْخَرْدَلَةِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَرُبْعُ عُشْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَقَةً قَلِيلَةً، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ وَجْهَ لَهُ.
قال أبو محمد لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ مُتَعَلَّقٌ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ; وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ. فأما مَنْ قَالَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ " كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
قال علي: وهذا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ ; فَلاَ يَخْلُو النَّذْرُ بِصَدَقَةِ الْمَالِ كُلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ مَعْصِيَةً فَلاَ يَلْزَمُهُ أَصْلاً إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ مَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلِهَذَا الْخَبَرِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلْ لَيْسَ هُوَ نَذْرَ طَاعَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يُجْزِيه الثُّلُثُ، فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّتِهِ إذْ تَخَلَّفَ، عَنْ تَبُوكَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةً قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَنِصْفَهُ، قَالَ: لاَ ، قُلْتُ: فَثُلُثَهُ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ. وَبِخَبَرٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي، وَأُسَاكِنَكَ، وَأَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَ: يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ .
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بِمِثْلِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ "أَبَا لُبَابَةَ قَالَ:

(8/12)


يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ ".
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لأََنَّهَا كُلَّهَا مَرَاسِيلُ، وَالأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ ; لأََنَّ ابْنَ إدْرِيسَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا تَمْوِيهُ الْمَالِكِيِّينَ بِالأَحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَعَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ ; لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ كُلِّهِ بِتِلْكَ التَّقَاسِيمِ الْفَاسِدَةِ، وَبِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِصَدَقَةِ نِصْفِ مَالِهِ إذَا نَذَرَهُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ خِلاَفُ ذَلِكَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّذْرِ بِصَدَقَةِ جَمِيعِهِ، وَصَدَقَةِ نِصْفِهِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ إِلاَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ; لأََنَّهُ طَاعَةٌ مَنْذُورَةٌ فَهَهُنَا نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَقُولُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ، وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَلاَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحِبَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ تَخَلُّفِهِ، عَنْ تَبُوكَ وَ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلُهُ، وَزَادَ فِيهِ فَقُلْتُ: إنْ أُمْسِكَ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، أَوْ تَصَدَّقَ، عَنْ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأََهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ، عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا وَهَكَذَا ". وَالأَحَادِيثُ هَهُنَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الظَّفَرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(8/13)


أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ، مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ مِرَارًا وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلاَمَهُ هَذَا ثُمَّ أَخَذَهَا عليه السلام فَحَذَفَهُ بِهَا، فَلَوْ أَنَّهَا أَصَابَتْهُ لاََوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ وَقَالَ عليه السلام: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: خُذْ عَنَّا مَالَكَ، لاَ حَاجَةَ لَنَا بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أَنْ يَطْرَحُوا ثِيَابًا فَطَرَحُوا فَأَمَرَ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ، ثُمَّ حَثَّ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ " خُذْ ثَوْبَكَ ".
وَمِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى .
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى مَا يُبْقِي غِنًى، وَإِذَا كَانَ الصَّدَقَةُ بِمَا أَبْقَى غِنًى خَيْرًا وَأَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِمَا لاَ يُبْقِي غِنًى ; فَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ صَدَقَتَهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ لاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا، بَلْ حَطَّتْ مِنْ أَجْرِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ الأَجْرِ، أَوْ لاَ أَجْرَ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ فَلاَ يَحِلُّ إعْطَاؤُهُ فِيهِ ; لأََنَّهُ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَإِضَاعَةٌ لَهُ وَسَرَفٌ حَرَامٌ، فَكَيْفَ وَرَدُّهُ عليه السلام الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ بَيَانٌ كَافٍ
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وَقَوْلَهُ عليه السلام إذْ سُئِلَ " أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ فَقَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ ". وَقَوْلَهُ عليه السلام سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} . وَبِحَدِيثِي أَبِي مَسْعُودٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ ; فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا فَيَتَحَامَلُ فَيَجِيءُ بِالْمُدِّ، وَصَدَقَةِ أَبِي عَقِيلٍ بِصَاعِ تَمْرٍ فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ وَحُجَّةٌ لَنَا لاَ لَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا لأََنْفُسِهِمْ مَعَاشًا، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِلِّينَ، وَيُؤْثِرُونَ مِنْ

(8/14)


بَعْضِ قُوتِهِمْ. وَأَمَّا قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} فَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " جَهْدُ الْمُقِلِّ " فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَوْصُولَةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام: " وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " فَبَيَّنَ هَذَا الْقَوْلُ أَنَّهُ جَهْدُهُ بَعْدَ كَفَافِ مَنْ تَعُولُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثَا أَبِي مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ لَهُ غَلَّةٌ تَقُومُ بِهِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِ دِرْهَمَيْنِ كَانَا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُمَا فَإِنْ ذَكَرُوا صَدَقَةَ أَبِي بَكْرٍ بِمَا يَمْلِكُهُ قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم بِالصَّدَقَةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لأََهْلِكَ قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: مَا أَبْقَيْت لأََهْلِكَ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
قال أبو محمد: ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ بِلاَ شَكٍّ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ وَدَارٌ بِمَكَّةَ وَأَيْضًا: فَإِنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم لِيُضَيِّعَهُ فَكَانَ فِي غِنًى. فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ مُجْمَلاً، أَوْ مُنَوَّعًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ إِلاَّ بِمَا أَبْقَى لِنَفْسِهِ، وَلأََهْلِهِ غِنًى، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ. فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ سَعْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ قلنا: هُوَ عَلَيْكُمْ ; لأََنَّ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فِي الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَيْضًا فَقَدْ مَنَعَهُ عليه السلام مِنْ الصَّدَقَةِ بِنِصْفِهِ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ هَذَا، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ; وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ: بِرَدِّ مَا نَفَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ فَقَالَ: لاَ يَنْحَرْ ابْنَهُ، وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ، فَقِيلَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ تَكُونُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ كَفَّارَةٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ مَا رَأَيْت.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لأَبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ. أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هُوَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي شَبَّهَهَا بِطَاعَتِهِ فِي الظِّهَارِ، الْكَفَّارَةَ الَّتِي فِي الظِّهَارِ وَيَكْفِي هَذَا ثُمَّ لَوْ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ لَوَجَبَتْ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ فِيمَنْ

(8/15)


قَالَ لأَمْرَأَتِهِ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهَا لاَ تَحْرُمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ كَفَّارَةً وَهَذَا أَصَحُّ أَقْوَالِهِ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ غَيْرَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ فَأَمَرَهُ بِكَبْشٍ، قَالَ عَطَاءٌ: يُذْبَحُ الْكَبْشُ بِمَكَّةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَقُلْت لِعَطَاءٍ: نَذَرَ لَيَنْحَرَنَّ فَرَسَهُ أَوْ بَغْلَتَهُ فَقَالَ: جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ فَقُلْت لَهُ: أَمَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَبْشٍ فِي نَفْسِهِ، وَتَقُولُ فِي الدَّابَّةِ جَزُورٌ فَأَبَى عَطَاءٌ إِلاَّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا حُجَّةٌ لأَبْنِ عَبَّاسٍ ; لأََنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمْ يَنْذُرْ ذَبْحَ وَلَدِهِ، لَكِنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِهِ فَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَكَانَ نَذْرُ النَّاذِرِ نَحْرُ وَلَدِهِ أَوْ نَفْسِهِ مَعْصِيَةً مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُشَبَّهَ الْكَبَائِرُ بِالطَّاعَاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَا كَانَ ذَلِكَ الذَّبْحُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إسْمَاعِيلُ عليه السلام، فَبَطَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ وَرُوِّينَا عَنْهُ قَوْلاً ثَالِثًا أَيْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، قَالَ: لِيُهْدِ مِائَةَ نَاقَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْت سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: إنِّي كُنْت أَسِيرًا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَنَذَرْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، وَأَنْ أَنْحَرَ نَفْسِي، وَإِنِّي قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ قَالَ وَفِي عُنُقِهِ قِدٌّ فَأَقْبَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى امْرَأَةٍ سَأَلَتْهُ وَغَفَلَ، عَنِ الرَّجُلِ، فَانْطَلَقَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: ذَهَبَ لِيَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَجَاءَ، فَقَالَ: لَمَّا أَعْرَضْت عَنِّي انْطَلَقْت أَنْحَرُ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ فَعَلْت مَا زِلْت فِي نَارِ جَهَنَّمَ، اُنْظُرْ دِيَتَك فَاجْعَلْهَا فِي بُدْنٍ فَأَهْدِهَا فِي كُلِّ عَامٍ شَيْئًا، وَلَوْلاَ أَنَّك شَدَدْت عَلَى نَفْسِك لَرَجَوْت أَنْ يُجْزِيك كَبْشٌ وَهَذِهِ آثَارٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَفْتَى رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتَجِدُ مِائَةَ بَدَنَةٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْحَرْهَا، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا لَوْ أَمَرْته بِكَبْشٍ لاََجْزَأَ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَذْنَبْت ذَنْبًا لَئِنْ أَمَرْتنِي لاََنْحَرَنَّ السَّاعَةَ نَفْسِي وَاَللَّهِ لاَ أُخْبِرُكَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، لَعَلِّي أَنْ أُخْبِرَك بِكَفَّارَةٍ، قَالَ فَأَبَى، فَأَمَرَهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ وَهَذَا أَيْضًا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ سَاقِطَةٍ فِيهَا ابْنُ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ: أَنَّ عَلِيًّا، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ أَفْتَوْا فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُهْدِيَ ابْنَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُغِيرَةِ عَنِ

(8/16)


الثَّوْرِيِّ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ أَنَّهُمْ ثَلاَثَتُهُمْ سُئِلُوا، عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا: يَنْحَرُ بَدَنَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَكَبْشًا.
قال أبو محمد: فَهَذِهِ أَقْوَالٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صِحَاحٌ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله علية وسلم وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ لَمْ يُعْصَمْ مِنْ الْخَطَأِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ لاَ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَضَائِلُ وَمُشَاهَدٌ تَعْفُو، عَنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ نَذْرًا لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَكَرَ ; لأََنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَفِّيَهُ ثُمَّ سَأَلَ عِكْرِمَةَ فَنَهَاهُ، عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَأَمَرَهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ فَرَجَعَ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: لَيَنْتَهِيَنَّ عِكْرِمَةُ أَوْ لَيُوجِعَنَّ الأُُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، فَرَجَعَ إلَى عِكْرِمَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ: إذْ بَلَّغَتْنِي فَبَلِّغْهُ، أَمَّا هُوَ فَقَدْ ضَرَبَتْ الأُُمَرَاءُ ظَهْرَهُ، وَأَوْقَفُوهُ فِي تُبَّانِ شَعْرٍ، وَسَلْهُ، عَنْ نَذْرِك أَطَاعَةٌ لِلَّهِ هُوَ أَمْ مَعْصِيَةٌ فَإِنْ قَالَ: مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ أَمَرَك بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ قَالَ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، إذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ طَاعَةٌ لَهُ
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلاَءِ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ نَفْسِي فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم بِأَنْ يُهْدِيَ مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، قَالَ: فَإِنَّكَ لاَ تَجِدُ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْكَ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ: أَلَكَ مَالٌ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ مَا رُوِيَ، عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا، فَلاَ مَا يُوهَمُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ الْتَزَمُوا، وَلاَ النَّصَّ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ اتَّبَعُوا، وَلاَ بِالْمُرْسَلِ أَخَذُوا، وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ سَوَاءٌ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: مَنْ نَذَرَ نَحْرَ وَلَدِهِ، أَوْ نَحْرَ نَفْسِهِ، أَوْ نَحْرَ غُلاَمِهِ، أَوْ نَحْرَ وَالِدِهِ، أَوْ نَحْرَ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ إهْدَاءَهُ، أَوْ إهْدَاءَ وَلَدِهِ، أَوْ إهْدَاءَ وَالِدِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، إِلاَّ فِي وَلَدِهِ خَاصَّةً، فَيَلْزَمُهُ فِيهِ هَدْيُ شَاةٍ وَهَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ الَّذِي لاَ نَظِيرَ لَهُ وَوَافَقَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْهِ فِي عَبْدِهِ أَيْضًا شَاةٌ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَمَرَّةً قَالَ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي إنْ فَعَلْت كَذَا، فَحِنْثَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: وَمَرَّةً قَالَ: إنْ كَانَ نَوَى بِذَلِكَ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ هَدْيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لاَ هَدْيٌ، وَلاَ كَفَّارَةٌ. وَمَرَّةً قَالَ: إنْ نَذَرَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَعَلَيْهِ هَدْيٌ

(8/17)


وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُهُ: إنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ كَالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الأَبْنِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ ذَلِكَ بِمِنًى، أَوْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَمَا لَوْ نَذَرَهُ عِنْدَ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَخِلاَفٌ لِلسَّلَفِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَنْ قَالَ: أَنَا أَنْحَرُ ابْنِي عِنْدَ الْبَيْتِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَيَحُجَّ بِابْنِهِ وَيُهْدِيَ هَدْيًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: مَنْ قَالَ: أَنَا أَنْحَرُ فُلاَنًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَإِنَّهُ يُحِجُّهُ، أَوْ يُعْمِرُهُ، وَيُهْدِي، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدٌ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى فَقَطْ: وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَلاَ وَجْهَ لِلأَشْتِغَالِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ الأَسْتِغْفَارَ فَقَطْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِي ذَلِكَ بِكَفَّارَةٍ، وَلاَ هَدْيٍ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْت سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يُحَدِّثُ عَطَاءً أَنَّ رَجُلاً أَتَى إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: نَذَرْت لاََنْحَرَنَّ نَفْسِي فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَوْفِ مَا نَذَرْت، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَفَأَقْتُلُ نَفْسِي قَالَ لَهُ إذْنَ تَدْخُلُ النَّارَ، قَالَ لَهُ: أَلْبَسْت عَلَيَّ قَالَ: أَنْتَ أَلْبَسْت عَلَى نَفْسِك
قال أبو محمد: وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي ابْنُ عُمَرَ، صَحَّ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ فَقَالَ: نَذَرْت صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ . وَأَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهُ فَقَالَتْ: نَذَرْت أَنْ أَمْشِيَ حَاسِرَةً فَقَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِك، وَاخْتَمِرِي . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سُقُوطَ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ جُمْلَةً وَبِهَذَا نَقُولُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ نَحْرَ فَرَسِهِ أَوْ بَغْلَتِهِ، فَلْيَنْحَرْهُمَا لِلَّهِ،
وَكَذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ ; لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إلَى مَكَان سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ، أَوْ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّهُ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ رُكُوبًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى مَكَّةَ، أَوْ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ لَزِمَهُ ; لأََنَّهُ نَذْرُ طَاعَةٍ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ نُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى الْمَدِينَةِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، أَوْ رُكُوبًا، أَوْ اعْتِكَافًا، أَوْ نُهُوضًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَزِمَهُ. فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ

(8/18)


الأَفْضَلُ أَنْ يَنْهَضَ إلَى مَكَّةَ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُجْزِيه. وَالثَّانِي أَنْ يَنْهَضَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنْ نَذَرَ مَشْيًا، وَنُهُوضًا، أَوْ رُكُوبًا إلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ الأَرْضِ غَيْرِ هَذِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله علية وسلم نَهَى، عَنْ شَدِّ الرَّحَّالِ إِلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ فَقَطْ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله علية وسلم: " إنَّمَا الرِّحْلَةُ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ إيلْيَاءَ " فَصَارَ الْقَصْدُ إلَى مَا سِوَاهَا مَعْصِيَةً، وَالْمَعْصِيَةُ لاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذُرْهُ مِنْ صَلاَةٍ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي سَمَّى.، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ النُّهُوضِ، وَالذَّهَابِ، وَالْمَشْيِ، وَالرُّكُوبِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَشْيَ طَاعَةٌ، وَالرُّكُوبَ أَيْضًا طَاعَةٌ ; لأََنَّ فِيهِ نَفَقَةٌ زَائِدَةٌ فِي بِرٍّ. وَأَمَّا مَنْ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مَكَّةَ، أَوْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ هُنَالِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ فَرْضٍ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لَزِمَهُ ; لأََنَّ كَوْنَهُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهَا. وَإِنَّمَا قلنا: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي نَذْرِهِ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ فِيهَا لِلأَثَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله علية وسلم عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ قَالَ " لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ إذْ فَرَضَ، عَزَّ وَجَلَّ، الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ: هُنَّ خَمْسٌ، وَهُنَّ خَمْسُونَ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ " فَآمَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أَنْ تَكُونَ صَلاَةً مُفْتَرَضَةً، غَيْرَ الْخَمْسِ لاَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، مُعَيَّنَةً عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ أَبَدًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَعْمَالِ بِمِثْلِ هَذَا وَبِهَذَا أَسْقَطْنَا وُجُوبَ الْوَتْرِ فَرْضًا مَعَ وُرُودِ الأَمْرِ، وَوُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ فَرْضًا عَلَى الدَّاخِلِ الْمَسْجِدَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. فإن قيل: قَدْ قُلْتُمْ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا قُلْتُمْ قلنا: نَعَمْ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِمَكَّةَ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلاً قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ، أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام: صَلِّ هَهُنَا ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَهُنَا، ثُمَّ أَعَادَهَا، فَقَالَ: شَأْنَكَ إذًا ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(8/19)


قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: صَلِّ هَهُنَا، فَأَعَادَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَشَأْنَكَ إذًا ".
قال أبو محمد: وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدِ إيلْيَاءَ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِيهِ فَقَطْ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا. فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لِمَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ نَذَرَ الصَّلاَةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلِّ هَهُنَا يَعْنِي بِمَكَّةَ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُجُوبُ نَذْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَصَحَّ أَنَّهُ نَدْبٌ مُبَاحٌ وَكَانَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ لاَزِمًا لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَاجَعَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ وُسْعَهَا فَقَالَ عليه السلام: فَشَأْنَكَ إذًا تَبَيَّنَ وَصَحَّ أَنَّ أَمْرَهُ عليه السلام لَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ أَيْضًا، هَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ سِوَاهُ، وَلاَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرُ غَيْرَهُ فَصَارَ كُلُّ ذَلِكَ نَدْبًا فَقَطْ. فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُوجِبُونَ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ فَرْضًا قلنا: نَعَمْ، عَلَى الْكِفَايَةِ لاَ مُتَعَيِّنًا عَلَى أَحَدٍ بِعَيْنِهِ. وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا عَمَّنْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ كَانَتْ صَلاَةً سَادِسَةً وَبَدَّلَ الْقَوْلَ الَّذِي أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ لَدَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ سَأَلْنَاهُ: مَا الْفَرْقُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ أَبَدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلَوْ نَذَرَ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَزِمَهُ النُّهُوضُ إلَيْهَا، وَلاَ بُدَّ فَقَطْ ; لأََنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَلْزَمُهُ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ هُنَالِكَ مَا أَدْرَكَهُ وَقْتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِيهَا مِنْ التَّطَوُّعِ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ هُوَ هُنَالِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اذْهَبْ فَتَجَهَّزْ فَتَجَهَّزَ، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا،عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي امْرَأَةٍ نَذَرَتْ أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَمَرَتْهَا بِأَنْ تُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيلْيَاءَ فَاعْتَكَفَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَلْيَعْتَكِفْ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ الْبَصْرَةِ قَالَ: إنَّمَا أُمِرْتُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ

(8/20)


فِي الْجِوَارِ قُلْت: فَأَوْصَى فِي أَمْرٍ فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْهُ قَالَ: افْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مَا لَمْ تُسَمِّ لأَِنْسَانِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ قَالَ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْت خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ رَجَعَ عَطَاءٌ، عَنْ هَذَا وَقَالَ: لِيَفْعَلْ الَّذِي قَالَ وَلْيُنَفِّذْ أَمْرَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَوْلُهُ الأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَنْ قَالَ لَهُ: نَذَرْت مَشْيًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ زِيَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ لَهُ طَاوُوس: عَلَيْك بِمَكَّةَ مَكَّةَ. وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ: مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ إتْيَانَ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ أَصْلاً. وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْكَنِهِ مِنْ الْبِلاَدِ حَيْثُ كَانَ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي مَوْضِعٍ فَصَلَّى فِي أَفْضَلَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ صَلَّى فِي دُونِهِ لَمْ يُجْزِهِ. وقال مالك: إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَمْشِيَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ صَلاَةً هُنَالِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ رَاكِبًا، وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ ; فَإِنْ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ: إلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَعَلَيْهِ الذَّهَابُ إلَى مَا هُنَالِكَ رَاكِبًا وَالصَّلاَةُ هُنَالِكَ قَالَ: فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى عَرَفَةَ، أَوْ إلَى مُزْدَلِفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَشَى إلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وقال الشافعي: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِهِ إِلاَّ فِيهَا، فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي ذَكَرَ لاَ فِيمَا سِوَاهُ، فَإِنْ نَذَرَ صَلاَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الْمَسَاجِدِ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَكِنْ يُصَلِّي حَيْثُ هُوَ، فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَجْزَأَهُ الرُّكُوبُ إلَيْهِمَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَخِلاَفُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِيمَنْ نَذَرَ طَاعَةً، وَفِي أَنَّ صَلاَةً فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنَّ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عُمُومًا لاَ يَخُصُّ مِنْهُ نَافِلَةً مِنْ فَرْضٍ، وَهَذِهِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ " فَقَالُوا: لاَ يُطِعْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَفَاسِدٌ أَيْضًا ; لأََنَّهُ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَجَاهَدَ فَإِنَّهُ يُجْزِيه مِنْ الصَّوْمِ ; لأََنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا مِمَّا نَذَرَ، وَإِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ، أَنَّهُ يُجْزِيه وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ

(8/21)


من قال لله علي عتق رفبة أو بدمة أو قال مائة درهم أو شيء من البر كهذا لم يعنيه فكله نذر لازم
...
1115 - مَسْأَلَةٌ وَهَذَا بِخِلاَفِ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ قَالَ: بَدَنَةً، أَوْ قَالَ: مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْبُرِّ، هَكَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ: فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ نَذْرٌ لاَزِمٌ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَنْذُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ ; لأََنَّ الَّذِي نَذَرَ لَيْسَ مُعَيَّنًا فَيَكُونُ مُشَارًا إلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ، فَإِنَّمَا نَذَرَ عِتْقًا فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ صَدَقَةً فِي ذِمَّتِهِ.
بُرْهَانُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} ثُمَّ لاَمَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ إذْ لَمْ يَفُوا بِذَلِكَ إذْ آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: فَخَرَجَ هَذَا عَلَى مَا الْتَزَمَ فِي الذِّمَّةِ جُمْلَةً، وَخَرَجَ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ عَلَى مَا نَذَرَ فِي مُعَيَّنٍ لاَ يَمْلِكُهُ. وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ اللَّازِمِ مَنْ نَذَرَ عِتْقَ أَوَّلِ عَبْدٍ يَمْلِكُهُ، أَوْ أَوَّلِ وَلَدٍ تَلِدُهُ أَمَتُهُ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ثُمَّ أَعْتَقَ فِي الإِسْلاَمِ مِائَةَ رَقَبَةٍ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْيَاءُ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(8/23)


أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ لَكَ مِنْ الْخَيْرِ قَالَ حَكِيمٌ: قُلْتُ: فَوَاَللَّهِ لاَ أَدَعُ شَيْئًا صَنَعَتْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلاَّ فَعَلْتُ فِي الإِسْلاَمِ مِثْلَهُ فَهَذَا نَذْرٌ مِنْ حَكِيمٍ فِي عِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ كَمَا أَنْكَرَ نَذْرَ الأَنْصَارِيَّةِ نَحْرَ النَّاقَةِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْهَا فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ الْجَائِزَ هُوَ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَئِذٍ لأََنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ بُدَّ، لاَ يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِمَاسَةَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ".
قال أبو محمد: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ " وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ". وَأَمْرُهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ: بِأَنْ يَصُومَ وَيَطْرَحَ مَا سِوَى ذَلِكَ وَنَهْيُهُ، عَنِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ نَجِدْ نَذْرًا فِي الْعَالَمِ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَدْ بَيَّنَ عليه السلام لِكُلِّ وَجْهٍ حُكْمَهُ، فَكَانَ مَنْ اسْتَعْمَلَ فِي أَحَد تِلْكَ الْوُجُوهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فَقَدْ أَخْطَأَ; لأََنَّهُ زَادَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى مَا لاَ يُحَالُ بِهِ حُكْمُ تِلْكَ النُّصُوصِ، عَنْ أَحْكَامِهَا: فَوَجَدْنَاهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ صَحَّ حُكْمُهُ، وَهُوَ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فَقَطْ كَمَا فِي نَصِّ الْخَبَرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْزَمَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلاَ جَاءَ بِالْتِزَامِهِ إيَّاهَا نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَسَوَاءٌ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ قَالَ: إنْ تَخَلَّصْت مِمَّا أَنَا فِيهِ فَعَلَيَّ نَذْرٌ، وَسَوَاءٌ تَخَلَّصَ أَوْ لَمْ يَتَخَلَّصْ: عَلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلاَ بُدَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ: عَلَيَّ حَرَامٌ، عَلَيَّ نَذْرٌ قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ سَعِيدٌ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّذْرُ أَغْلَظُ الْيَمِينِ، وَفِيهَا أَغْلَظُ الْكَفَّارَةِ: عِتْقُ رَقَبَةٍ وَكِلاَهُمَا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَمِمَّنْ قَالَ: فِيهِ يَمِينٌ كَقَوْلِنَا: الشَّعْبِيُّ، رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .

(8/24)


من قال في النذر اللازم الذي قدمنا إلا أن يشاء الله أو ذكر الارادة مكان المشيئة إلخ
...
1116 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ قَالَ فِي النَّذْرِ اللَّازِمِ الَّذِي قَدَّمْنَا: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ ذَكَرَ الإِرَادَةَ مَكَانَ الْمَشِيئَةِ،
أَوْ إِلاَّ إنْ بَدَّلَ اللَّهُ مَا فِي نَفْسِي، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لِي

(8/24)


أَوْ نَحْوِ هَذَا مِنْ الأَسْتِثْنَاءِ وَوَصَلَهُ بِكَلاَمِهِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَلأََنَّهُ إذَا عَلَّقَ نَذْرَهُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ تَمَامَهُ لاََنْفَذَهُ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كَوْنَهُ. وَهُوَ لَمْ يَلْتَزِمْهُ إِلاَّ إنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ، فَإِذْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَا لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/25)


نذر الرجل والمرأة البكر ذات الأب وغيرها وذات الزوج وغيرها والعبد سواء في ما تقدم
...
1117 - مَسْأَلَةٌ وَنَذْرُ الرَّجُلِ. وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَبِ وَغَيْرِ ذَاتِ الأَبِ وَذَاتِ الزَّوْجِ، وَغَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَالْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا;
لأََنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ عُمُومٌ لَمْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ تَخْصِيصَ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا فَلاَ يُبَيِّنُهُ لَنَا، هَذَا أَمْرٌ قَدْ أَمِنَّاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إِلاَّ الصِّيَامَ وَحْدَهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ غَيْرَ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الصِّيَامِ " وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/25)


من نذر ما لا يطيق أبدا لم يلزمه شيء
...
1118- مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ مَا لاَ يُطِيقُ أَبَدًا لَمْ يَلْزَمْهُ ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ فَجَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَهُوَ لاَ يُطِيقُهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ لَهُ، لاَ حِينَئِذٍ، وَلاَ بَعْدَ ذَلِكَ.

(8/25)


من نذر في حال كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به
...
1119 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ فِي حَالَةِ كُفْرِهِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} فَحَضَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَأَوْجَبَهُ لِفَاعِلِهِ، ثُمَّ عَلَى الإِيمَانِ، وَعَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فِيهِ أَيْضًا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّه فَلْيُطِعْهُ . وَهُوَ عليه السلام مَبْعُوثٌ إلَى الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَطَاعَتُهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَلَيْسَ مُسْلِمًا: وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ ثُمَّ نَقَضُوا فِي التَّفْصِيلِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحَلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحْنَثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ . حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ

(8/25)


1120 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ لِلَّهِ صَوْمَ يَوْمٍ يَقْدُمُ فِيهِ فُلاَنٌ، أَوْ يَوْمٍ يَبْرَأُ أَوْ يَنْطَلِقُ فَكَانَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا لَمْ يَلْزَمْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ ;
لأََنَّهُ إنْ كَانَ لَيْلاً فَلَمْ يَكُنْ مَا نَذَرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَقَدْ مَضَى وَقْتُ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي أَنْطَلِقُ فِيهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ كَذَا فِي الأَبَدِ، أَوْ مُدَّةً يُسَمِّيهَا، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/26)


من نذر صياما أو صلاة أو صدقة ولم يسم عددا ما لزمه في الصيام صوم يوم ولا مزيد في الصدقة ما طابت به نفسه ولزمه في الصلاة ركعتان
...
1121 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ نَذَرَ صِيَامًا، أَوْ صَلاَةً، أَوْ صَدَقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدًا مَا:
لَزِمَهُ فِي الصِّيَامِ صَوْمُ يَوْمٍ، وَلاَ مَزِيدٍ، وَفِي الصَّدَقَةِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِمَّا يُسَمَّى صَدَقَةً، وَلَوْ شَقَّ تَمْرَةً، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ فِي الصَّلاَةِ رَكْعَتَانِ; لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا أَقَلُّ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الأَسْمُ الْمَذْكُورُ، فَهُوَ اللَّازِمُ بِيَقِينٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ; لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْهَا شَرْعٌ، وَلاَ لُغَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/21)


1122 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، أَوْ صِيَامٌ، أَوْ صَلاَةٌ، هَكَذَا جُمْلَةً: لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ، وَيُجْزِيهِ ;
لأََنَّهُ نَذَرَ طَاعَةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ عَمَلُ بِرٍّ: فَيُجْزِيهِ تَسْبِيحَةٌ، أَوْ تَكْبِيرَةٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ صَوْمٌ، أَوْ صَلاَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ. وَسَوَاءٌ قَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ نَذْرًا، أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ عَلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلاَ يُجْزِي فِي ذَلِكَ لَفْظٌ دُونَ نِيَّةٍ، وَلاَ نِيَّةٌ دُونَ لَفْظٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". فَلَمْ يُفْرِدْ عليه السلام نِيَّةً دُونَ عَمَلٍ، وَلاَ عَمَلاً دُونَ نِيَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/27)


1123 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ فَفَرْضٌ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ كُلِّهَا،
فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِدُيُونِ النَّاسِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ وَكِتَابِ الْحَجِّ " دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَا شُعَيْبٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ عليه السلام أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدَهُ.
قال أبو محمد: إنَّ مِنْ رَغِبَ، عَنْ فُتْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَارَعَ إلَى قَبُولِ فُتْيَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: لَمَخْذُولٌ مَحْرُومٌ مِنْ التَّوْفِيقِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ فِي أَنَّ فِي ثَلاَثَةِ أَصَابِعَ تُقْطَعُ لِلْمَرْأَةِ ثَلاَثِينَ مِنْ الإِبِلِ، وَفِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ تُقْطَعُ لَهَا عِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ، لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ تِلْكَ السُّنَّةُ ثُمَّ لاَ يَرَى قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَهُنَا، أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ الزُّهْرِيِّ فَكَانَتْ سُنَّةً حُجَّةً لِبَعِيدٍ مِنْ الْقَوْلِ بِالْحَقِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ مُصْعَبٍ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ، عَنْ أَخِيهَا بَعْدَمَا مَاتَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أُمَّهُ نَذَرَتْ اعْتِكَافًا فَمَاتَتْ وَلَمْ تَعْتَكِفْ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:

(8/27)


اعْتَكِفْ، عَنْ أُمِّك. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَاهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس، وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً عَمَّنْ نَذَرَ جِوَارًا أَوْ مَشْيًا فَمَاتَ وَلَمْ يُنَفِّذْ قَالَ: يُنَفِّذُهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، قُلْتُ: فَغَيْرُهُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ قَالَ: نَعَمْ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا الأَوْلِيَاءُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاَةً صَلَّاهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ، أَوْ صَوْمًا كَذَلِكَ، أَوْ حَجًّا كَذَلِكَ، أَوْ عُمْرَةً كَذَلِكَ، أَوْ اعْتِكَافًا كَذَلِكَ، أَوْ ذِكْرًا كَذَلِكَ، وَكُلَّ بِرٍّ كَذَلِكَ فَإِنْ أَبَى الْوَلِيُّ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يُؤَدِّي دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى قِبَلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/28)


1124- مَسْأَلَةٌ قَالَ عَلِيٌّ: وَمَنْ تَعَمَّدَ النُّذُورَ لِيُلْزِمَهَا مَنْ بَعْدَهُ، فَهِيَ غَيْرُ لاَزِمَةٍ،
لاَ لَهُ، وَلاَ لِمَنْ بَعْدَهُ; لأََنَّ النَّذْرَ اللَّازِمَ الْوَفَاءِ بِهِ هُوَ نَذْرُ الطَّاعَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الآنَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ لاَ نَذْرُ طَاعَةٍ; لأََنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَصَدَ إدْخَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مُسْلِمٍ، فَهُوَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/28)


الوعد
ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بان يعنيه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلومه الوفاء به
...
{الْوَعْدُ}
1125 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ وَعَدَ آخَرَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالاً مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَوْ بِأَنْ يُعَيِّنَهُ فِي عَمَلٍ مَا حَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ،
وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ الأَفْضَلُ لَوْ وَفَّى بِهِ. وَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِذَلِكَ فِي نَفَقَةٍ أَوْ لَمْ يُدْخِلْهُ كَمَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ فُلاَنَةَ وَأَنَا أُعِينُك فِي صَدَاقِهَا بِكَذَا وَكَذَا، أَوْ نَحْوِ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُدْخِلَهُ بِوَعْدِهِ ذَلِكَ فِي كُلْفَةٍ، فَيَلْزَمُهُ وَيَقْضِي عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ الْوَعْدُ كُلُّهُ لاَزِمٌ، وَيَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَاعِدِ وَيُجْبَرُ.
فأما تَقْسِيمُ مَالِكٍ: فَلاَ وَجْهَ لَهُ، وَلاَ بُرْهَانَ يُعَضِّدُهُ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ وَلاَ قِيَاسٍ. فَإِنْ قَالُوا قَدْ أَضَرَّ بِهِ إذْ كَلَّفَهُ مِنْ أَجْلِ وَعْدِهِ عَمَلاً وَنَفَقَةً قلنا: فَهَبْكُمْ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَيْنَ وَجَبَ عَلَى مِنْ أَضَرَّ بِآخَرَ، وَظَلَمَهُ وَغَرَّهُ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ مَالاً مَا عَلِمْنَا هَذَا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَقَطْ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} . وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ

(8/28)


كتاب الأيمان
مدخل
لا يمين إلا بالله عز وجل
...
كِتَابُ الأَيْمَانِ
1126 - مَسْأَلَةٌ لاَ يَمِينَ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إمَّا بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، أَوْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ،
مِثْلَ: مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَوَارِثِ الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ أَوْ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ قُدْرَتِهِ، أَوْ عِزَّتِهِ، أَوْ قُوَّتِهِ، أَوْ جَلاَلِهِ، وَكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِنْ مِثْلِ هَذَا ; فَهَذَا هُوَ الَّذِي إنْ حَلَفَ بِهِ الْمَرْءُ كَانَ حَالِفًا، فَإِنْ حَنِثَ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا فَلَيْسَ حَالِفًا، وَلاَ هِيَ يَمِينًا، وَلاَ كَفَّارَةٌ فِي ذَلِكَ إنْ حَنِثَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ وَالأَسْتِغْفَارُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي " كِتَابِ النُّذُورِ " مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ ". وَقَوْله تَعَالَى {قُلْ اُدْعُوَا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، لاَ شَيْءَ سِوَاهُ، وَلاَ يُرْجَعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ[رضي الله عنه] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
وَقَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . فَصَحَّ

(8/30)


أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ. وَصَحَّ أَنَّ أَسْمَاءَهُ لاَ تَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ شَيْئًا، لِقَوْلِهِ عليه السلام: " مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا " فَنَفَى الزِّيَادَةَ، وَأَبْطَلَهَا، لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا يَفْعَلُ تَعَالَى. وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي إحْصَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ أَسْمَاءٌ مُضْطَرِبَةٌ لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلاً، فَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ. وَمِمَّا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَقَدْ بَلَغَ إحْصَاؤُنَا مِنْهَا إلَى مَا نَذْكُرُ.
وَهِيَ: اللَّهُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الْكَرِيمُ، الْعَظِيمُ، الْحَلِيمُ، الْقَيُّومُ، الأَكْرَمُ، السَّلاَمُ، التَّوَّابُ، الرَّبُّ، الْوَهَّابُ، الإِلَهُ، الْقَرِيبُ، السَّمِيعُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْعَزِيزُ، الشَّاكِرُ، الْقَاهِرُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْكَبِيرُ، الْخَبِيرُ، الْقَدِيرُ، الْبَصِيرُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْمُصَوِّرُ، الْبَرُّ، مُقْتَدِرٌ، الْبَارِي، الْعَلِيُّ، الْغَنِيُّ، الْوَلِيُّ، الْقَوِيُّ، الْحَيُّ، الْحَمِيدُ، الْمَجِيدُ، الْوَدُودُ، الصَّمَدُ، الأَحَدُ، الْوَاحِدُ، الأَوَّلُ، الأَعْلَى، الْمُتَعَالِ، الْخَالِقُ، الْخَلَّاقُ، الرَّزَّاقُ، الْحَقُّ، اللَّطِيفُ، رَءُوف، عَفُوٌّ، الْفَتَّاحُ، الْمَتِينُ، الْمُبِينُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْبَاطِنُ، الْقُدُّوسُ، الْمَلِكُ، مَلِيكٌ، الأَكْبَرُ، الأَعَزُّ، السَّيِّدُ، سُبُّوحٌ، وِتْرٌ، مِحْسَانٌ، جَمِيلٌ، رَفِيقٌ، الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الشَّافِي، الْمُعْطِي، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الدَّهْرُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ حَدِيثَ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفِيهِ "أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام لَمَّا رَأَى الْجَنَّةَ وَأَنَّهَا حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ قَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَقَالَ تَعَالَى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} .
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الأَسْتِخَارَةَ فِي الأُُمُورِ كُلِّهَا، كَالسُّورَةِ مِنْ الْقُرْآنِ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ". وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . وَقَالَ تَعَالَى {ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} . وَقَالَ تَعَالَى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . فَهَذِهِ جَاءَ النَّصُّ بِهَا.
وَأَمَّا الْيَمِينُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَكَرَمِهِ، وَحِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَسَائِرِ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهَا.

(8/31)


من حلف بما ذكرنا أن لا يفعل أمرا كذا أو أن يفعل أمرا كذا فإن وقت وقتا ولم يفعل ما حلف عليه فعليه كفارة اليمين
...
1127 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا، أَوْ أَنْ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا فَإِنْ وَقَّتَ وَقْتًا مِثْلَ:
غَدًا، أَوْ يَوْمَ كَذَا، أَوْ الْيَوْمَ أَوْ فِي وَقْتٍ يُسَمِّيهِ، فَإِنْ مَضَى ذَلِكَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِيهِ عَامِدًا ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ، أَوْ فَعَلَ مَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ فِيهِ عَامِدًا ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. هَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا فِي قَوْلِهِ: لاََفْعَلَن كَذَا، فَهُوَ عَلَى الْبِرِّ أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَّتَ وَقْتًا، وَلاَ فَرْقَ، وَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَكَانٌ فِيهِ خِلاَفٌ: قَالَ مَالِكٌ: هُوَ حَانِثٌ فِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وقال الشافعي: هُوَ عَلَى الْبِرِّ إلَى آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِهِ الَّتِي يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِنَا.
قال أبو محمد: فَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ: أَحَانِثٌ هُوَ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَمْ بَارٌّ؟ وَلاَ سَبِيلَ إلَى قَسَمٍ ثَالِثٍ: فَإِنْ قَالُوا: هُوَ بَارٌّ قلنا: صَدَقْتُمْ، وَهُوَ قَوْلُنَا لاَ قَوْلُكُمْ وَإِنْ قَالُوا: هُوَ حَانِثٌ قلنا: فَأَوْجِبُوا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَطَلاَقَ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِكُمْ إنْ كَانَ حَانِثًا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. فَظَهَرَ يَقِينُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِلاَ مِرْيَةٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: هُوَ عَلَى حِنْثٍ، وَلَيْسَ حَانِثًا، وَلاَ حِنْثَ بَعْدُ: كَلاَمٌ مُتَنَاقِضٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ ; لأََنَّهُ أَوْجَبَ الْحِنْثَ بَعْدَ الْبِرِّ بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ يَقَعُ الْحِنْثُ عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلاَحَ أَنَّ قَوْلَهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/32)


أما الحلف بالأمانة وبعهد الله وميثاقه وحق المصحف إلخ فكل هذا ليس يمينا واليمين بها معصية ليس فيها إلا التوبة والإستغفار
...
1128 - مَسْأَلَةٌ وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالأَمَانَةِ، وَبِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ، وَأَشَدَّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ،
وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّ الْمُصْحَفِ، وَحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحَقِّ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا كَافِرٌ، وَلَعَمْرِي، وَلَعَمْرُك، وَلأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَأُقْسِمُ، وَأَقْسَمْت، وَأَحْلِفُ، وَحَلَفْت، وَأَشْهَدُ، وَعَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ عَلَيَّ أَلْفُ يَمِينٍ، أَوْ جَمِيعُ الأَيْمَانِ تَلْزَمُنِي: فَكُلُّ هَذَا لَيْسَ يَمِينًا وَالْيَمِينُ بِهَا مَعْصِيَةٌ، لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالأَسْتِغْفَارُ ; لأََنَّهُ كُلَّهُ غَيْرُ اللَّهِ، وَلاَ يَجُوزُ الْحَلِفُ إِلاَّ بِاَللَّهِ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَرَى هَذِهِ الأَلْفَاظَ يَمِينًا، وَيَرَى الْحَلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، وَبِالطَّلاَقِ، وَبِالْعِتْقِ، وَبِصَدَقَةِ الْمَالِ: أَيْمَانًا ثُمَّ لاَ يُحَلَّفُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ مِنْ الدِّمَاءِ، وَالْفُرُوجِ، وَالأَمْوَالِ، وَالأَبْشَارِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ أَوْكَدُ عِنْدَهُمْ ; لأََنَّهَا لاَ كَفَّارَةَ لَهَا، وَيُحَلِّفُونَهُمْ بِاَللَّهِ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، أَلَيْسَ هَذَا عَجَبًا وَلَئِنْ كَانَتْ أَيْمَانًا عِنْدَهُمْ: بَلْ مِنْ أَغْلَظِ الأَيْمَانِ وَأَشَدِّهَا: فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحَلِّفُوا النَّاسَ بِالأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ، وَلَئِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ أَيْمَانًا فَلِمَ يَقُولُونَ إنَّهَا أَيْمَانٌ؟ حَسْبُنَا اللَّهُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.

(8/32)


وَفِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ مِنْ السَّلَفِ يَرَوْنَ كُلَّ ذَلِكَ أَيْمَانًا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاََنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ ابْنُ عُمَرَ: لاََنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ وَقَدْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ بِالْكَعْبَةِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك فَكَّرْت فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُك، احْلِفْ بِاَللَّهِ فَأْثَمْ أَوْ ابْرَرْ

(8/33)


من حلف بالقرآن أو بكلام الله عز وجل فإن نوى في نفسه المصحف الصوت المسموع المحفوظ في الصدور فليس يمينا وإن لم ينو ذلك وعليه الكفارة
...
1129 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِكَلاَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ نَوَى فِي نَفْسِهِ الْمُصْحَفَ، أَوْ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ، أَوْ الْمَحْفُوظَ فِي الصُّدُورِ فَلَيْسَ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ بَلْ نَوَاهُ عَلَى الإِطْلاَقِ، فَهِيَ يَمِينٌ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ إنْ حَنِثَ ;
لأََنَّ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ عِلْمُهُ. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} . وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا [رُوِّينَا ] مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ: ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ قَالاَ جَمِيعًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا يَمِينُ صَبْرٍ فَمَنْ شَاءَ بَرَّ وَمَنْ شَاءَ فَجَرَ ". وَلَفْظُ الْحَسَنِ إنْ شَاءَ بَرَّ وَإِنْ شَاءَ فَجَرَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: أَتَيْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ السُّوقَ فَسَمِعَ رَجُلاً يَحْلِفُ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَمَا إنَّ عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ، وَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَهْمِ بْنِ مِنْجَابٍ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ خَطِيئَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت عَطَاءً وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: قُلْت: وَالْبَيْتُ، وَكِتَابُ اللَّهِ فَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَا لَك بِرَبٍّ، لَيْسَا يَمِينًا .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ; لأََنَّهُ لاَ يُعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.

(8/33)


1130 - مَسْأَلَةٌ: وَلَغْوُ الْيَمِينِ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلاَ إثْمَ، وَهُوَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ وَهُوَ لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَالثَّانِي: مَا جَرَى بِهِ لِسَانُ الْمَرْءِ فِي خِلاَلِ كَلاَمِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَيَقُولُ فِي أَثْنَاءِ كَلاَمِهِ: لاَ وَاَللَّهِ، وَأَيْ وَاَللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} . وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رُبَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِبَعْضِ بَنِيهِ: لَقَدْ حَفِظْت عَلَيْك فِي هَذَا الْمَجْلِسِ أَحَدَ عَشَرَ يَمِينًا، وَلاَ يَأْمُرُهُ بِكَفَّارَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا عَطَاءً أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ سَأَلَهَا عُبَيْدُ بْنَ عُمَيْرٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لاَ وَاَللَّهِ . وَبَلَى وَاَللَّهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي اللَّغْوِ: هُوَ قَوْلُ الْقَوْمِ يَتَدَارَءُونَ فِي الأَمْرِ يَقُولُ هَذَا: لاَ وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، وَكَلاَ وَاَللَّهِ، وَلاَ تَعْقِدُ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وطَاوُوس، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَأَبِي قِلاَبَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُ ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ: لَغْوُ الْيَمِينِ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ هَذَا وَاَللَّهِ فُلاَنٌ، وَلَيْسَ بِفُلاَنٍ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الْمَرْءِ: لاَ وَاَللَّهِ، وَأَيْ وَاَللَّهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ ; لأََنَّهُ نَصُّ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، .
وَأَمَّا مَنْ أَقْسَمَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ يَرَى، وَلاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْمِدْ الْحِنْثَ، وَلاَ قَصَدَ لَهُ، وَلاَ حِنْثَ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَ إلَيْهِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ، فَأَسْقَطُوا الْكَفَّارَةَ هَهُنَا، وَأَوْجَبُوهَا عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْعَجَبُ أَيْضًا أَنَّهُمْ رَأَوْا اللَّغْوَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَرَوْهُ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِهِ تَعَالَى، كَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ أَثَرٌ بِقَوْلِنَا: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ هُوَ الصَّائِغُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ قَالَتْ عَائِشَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلاَمُ الرَّجُلِ

(8/34)


فِي بَيْتِهِ: كَلاَ وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/35)


من حلف ألا يفعل أمرا كذا ففعله ناسيا أو مكرها أو غلب بأمر حيل بينه وبينه إلخ فلا كفارة على الحالف في شيء من كل ذلك ولا إثم
...
1131 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا، فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ غُلِبَ بِأَمْرٍ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِهِ، أَوْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلاً ذَكَرَهُ لَهُ،
أَوْ أَنْ لاَ يَفْعَلَ فِعْلاً كَذَا فَفَعَلَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، أَوْ شَكَّ الْحَالِفُ أَفْعَلَ مَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ أَمْ لاَ أَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ عَقْلِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى الْحَالِفِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ إثْمَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: لَغْوُ الْيَمِينِ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ ثُمَّ يَنْسَى قَالَ هُشَيْمٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ بِمِثْلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . وَقَدْ قلنا: إنَّ الْحِنْثَ لَيْسَ إِلاَّ عَلَى قَاصِدِ إلَى الْحِنْثِ يَتَعَمَّدُ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ غَيْرُ قَاصِدِينَ إلَيْهِ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِمْ، إذْ لَمْ يَتَعَمَّدُوهُ بِقُلُوبِهِمْ. وَصَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " عُفِيَ لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ". وَأَنَّهُ رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ النَّاسِ، وَلاَ الْمَغْلُوبِ بِأَيِّ وَجْهٍ: مَنْعٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا نَسِيَ، وَلاَ مَا غُلِبَ عَلَى فِعْلِهِ فَصَحَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ فِعْلَ ذَلِكَ، وَإِذْ لَيْسَ مُكَلَّفًا لِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْوَفَاءُ بِمَا لَمْ يُكَلَّفْ الْوَفَاءَ بِهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا أَقْسَمَ عَلَى غَيْرِهِ فَأَحْنَثَ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فِيمَنْ أَقْسَمَ عَلَى غَيْرِهِ فَأَحْنَثَهُ أَحَبُّ إلَيَّ لِلْمُقْسِمِ أَنْ يُكَفِّرَ، فَلَمْ يُوجِبْهُ إِلاَّ اسْتِحْبَابًا.

(8/35)


من حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا وعلى ما قد يكون ولا يكون فلا كفارة عليه ولا إثم
...
1132 - مَسْأَلَةٌ وَمِنْ هَذَا مَنْ حَلَفَ عَلَى مَا لاَ يَدْرِي أَهْوَ كَذَلِكَ أَمْ لاَ، وَعَلَى مَا قَدْ يَكُونُ، وَلاَ يَكُونُ؟ كَمَنْ حَلَفَ لَيَنْزِلَنَّ الْمَطَرُ غَدًا، فَنَزَلَ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ، وَلاَ كَفَّارَةَ إِلاَّ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْحِنْثَ وَقَصَدَهُ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ حَلَفَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه السلام بِكَفَّارَةٍ. وقال مالك: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّهُ لاَ نَصَّ بِمَا قَالَ، وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَالشَّرَائِعُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ

(8/35)


من حلف عامدا للكذب فيما حلف فعليه الكفارة
...
1133 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ فِيمَا يَحْلِفُ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا، عَنِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، عَنِ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ أَفِيه كَفَّارَةٌ قَالَ: نَعَمْ. وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى كَذِبٍ يَتَعَمَّدُ فِيهِ الْكَذِبَ، قَالَ عَطَاءٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلاَ يَزِيدُ بِالْكَفَّارَةِ إِلاَّ خَيْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} قَالَ: بِمَا تَعَمَّدْتُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} قَالَ: بِمَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ الْمَأْثَمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الْيَمِينُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَتَعَمَّدُهُ كَاذِبًا يَقُولُ: وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْت، وَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت، وَقَدْ فَعَلَ، قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُكَفِّرَ. وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ مِنْ طَرِيقِ رُفَيْعٍ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: كُنَّا نَعُدُّ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي لاَ كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ كَاذِبًا عَلَى مَالِ أَخِيهِ لِيَقْتَطِعَهُ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: أَنَّ هَذَا الْيَمِينَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ أَوْ أَنَّهَا كِذْبَةٌ، لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ بِالأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ ذَلِكَ إنَّ {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَذَكَرَ عليه السلام فِيهِمْ الْمُنْفِقَ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ".

(8/36)


وَمِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ كَاذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ بِوَجْهِهِ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ". وَمِنْ طَرِيقِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ". وَمِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ". وَزَادَ بَعْضُهُمْ " وَلَوْ كَانَ سِوَاكًا أَخْضَرَ " هَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ صِحَاحٌ. وَذَكَرُوا أَيْضًا: خَبَرًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ ". وَبِخَبَرٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الضَّحَّاكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلِ: فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: لاَ وَاَلَّذِي لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا فَعَلْتُ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ: بَلَى قَدْ فَعَلَ، لَكِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ بِالإِخْلاَصِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْطَأَ فِيهِ يُوسُفُ بْنُ الضَّحَّاكِ فَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَعِيفٌ قَالُوا: فَلَمْ يَأْمُرْهُ عليه السلام بِكَفَّارَةٍ قَالُوا: إنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِيمَا حَلَفَ فِيهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ. وَمَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِذَكَرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ. قَالُوا: وَحِفْظُهَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُوَاقَعَتِهَا. هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعِمْرَانَ، وَجَابِرٍ، وَالأَشْعَثِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ، وَلاَ إيجَابُهَا، كَمَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِتَوْبَةٍ أَصْلاً، وَإِنَّمَا فِيهَا كُلِّهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِالنَّارِ وَالْعِقَابِ. فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ، وَفِي هَذِهِ الآيَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَقْطَعُ

(8/37)


بِكَوْنِهِ وَلاَ بُدَّ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِسْمٌ قَالُوا: هُوَ نَافِذٌ مَا لَمْ يَتُبْ فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ احْتَجَّ بِآيَةٍ وَأَخْبَارٍ صِحَاحٍ فِي إسْقَاطِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ ذِكْرٌ أَصْلاً، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا كُلَّ مَا فِيهَا عَلاَنِيَةً وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام: " مَنْ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا لَيْسَ تُغْنِي الْكَفَّارَةُ " فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً ; لأََنَّ الأَيْمَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، مِنْهَا لَغْوٌ لاَ إثْمَ فِيهِ، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الصِّنْفُ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِلاَ شَكٍّ. وَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْمَرْءُ بِهَا حَالِفًا عَلَى مَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُغْنِي فِي هَذَا. وَبِهِ جَاءَ النَّصُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا، وَبِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي نَحْنُ وَهُمْ أَنَّ الْحَالِفَ بِهَا لاَ يُسَمَّى مُسْتَلِجًا فِي أَهْلِهِ، فَبَطَلَ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْخَبَرِ هَذَا الْقَسَمَ، وَبَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إسْقَاطِهِمْ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. فإن قيل: فَمَا مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ صَحِيحٌ قلنا: نَعَمْ، مَعْنَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ بَيِّنٌ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ دُونَ تَبْدِيلٍ، وَلاَ إحَالَةٍ، وَلاَ زِيَادَةٍ، وَلاَ نَقْصٍ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الْمَرْءُ أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَهْلِهِ، أَوْ أَنْ لاَ يَضُرَّ بِهِمْ، ثُمَّ لَجَّ فِي أَنْ يَحْنَثَ، فَيَضُرَّ بِهِمْ، وَلاَ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ وَيُكَفِّرَ، عَنْ يَمِينِهِ فَهَذَا بِلاَ شَكٍّ مُسْتَلِجٌ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ أَنْ لاَ يَفِيَ بِهَا، وَهُوَ أَعْظَمُ إثْمًا بِلاَ شَكٍّ وَالْكَفَّارَةُ لاَ تُغْنِي عَنْهُ، وَلاَ تَحُطُّ إثْمَ إسَاءَتِهِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ لاَ يَحْتَمِلُ أَلْبَتَّةَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَسُفْيَانَ، فَطَرِيقُ سُفْيَانَ لاَ تَصِحُّ، فَإِنْ صَحَّتْ طَرِيقُ حَمَّادٍ فَلَيْسَ فِيهِ لأَِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ ذِكْرٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ لَهُ بِالإِخْلاَصِ فَقَطْ، وَلَيْسَ كُلُّ شَرِيعَةٍ تُوجَدُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ، وَلاَ شَكٍّ فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ مِنْ تَعَمُّدِ الْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ لَهَا ذِكْرٌ، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ حُجَّةً فِي سُقُوطِهَا فَسُكُوتُهُ، عَنْ ذِكْرِ التَّوْبَةِ حُجَّةٌ فِي سُقُوطِهَا، وَلاَ بُدَّ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ فِي نُصُوصٍ أُخُرَ قلنا: وَقَدْ أَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ فِي نُصُوصٍ أُخُرَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَقُولُ لَهُمْ: إنْ كَانَ سُكُوتُهُ عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا حُجَّةً فِي إسْقَاطِهَا فَسُكُوتُهُ عليه السلام، عَنْ ذِكْرِ سُقُوطِهَا حَجَّةٌ فِي إيجَابِهَا، وَلاَ فَرْقَ وَهِيَ دَعْوَى كَدَعْوَى ; فَالْوَاجِبُ طَلَبُ حُكْمِ الْكَفَّارَةِ فِي نَصٍّ غَيْرِ هَذِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَحَقٌّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحِفْظَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ مُوَاقَعَةِ الْيَمِينِ فَكَذِبٌ، وَافْتِرَاءٌ، وَبُهْت، وَضَلاَلٌ مَحْضٌ، بَلْ حِفْظُ الأَيْمَانِ وَاجِبٌ قَبْلَ الْحَلِفِ بِهَا، وَفِي الْحَلِفِ بِهَا، وَبَعْدَ الْحَلِفِ بِهَا، فَلاَ يَحْلِفُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ

(8/38)


ثُمَّ هَبْكَ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالُوا، وَأَنَّ قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} إنَّمَا هُوَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ، فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا عَلَى أَنْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْحَلِفَ كَاذِبًا وَهَلْ هَذَا مِنْهُمْ إِلاَّ الْمُبَاهَتَةَ وَالتَّمْوِيهَ، وَتَحْرِيفَ كَلاَمِ اللَّهِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمَا يَشُكُّ كُلُّ ذِي مَسْكَةِ تَمْيِيزٍ فِي أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْحَلِفَ كَاذِبًا فَمَا حَفِظَ يَمِينَهُ فَظَهَرَ فَسَادُ كُلِّ مَا يُمَخْرِقُونَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَبَاطِلٌ، وَدَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ. فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ لاَ يَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَيَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرَ، عَنْ يَمِينِهِ ". فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لأََنَّ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا تَجِبُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا شَرًّا مِنْهَا فَفَعَلَ الَّذِي هُوَ شَرٌّ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: هِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ هَذَا؟ وَأَيْنَ وَجَدُوهُ؟ وَهَلْ هُوَ إِلاَّ حُكْمٌ مِنْهُمْ لاَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَيُعَارَضُونَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: دَعْوَى أَحْسَنُ مِنْ دَعْوَاهُمْ، بَلْ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَ صَاحِبُهُ أَحْوَجَ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَكَانَتْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا لَيْسَ ذَنْبًا أَصْلاً، وَفِيمَا هُوَ صَغِيرٌ مِنْ الذُّنُوبِ، وَهَذَا الْمُتَعَمِّدُ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ نَحْنُ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ حَالِفٍ عَلَى يَمِينٍ غَمُوسٍ، أَوْ مِثْلِهِ وَهُمْ يَرَوْنَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ إفْسَادَ حَجِّهِ بِالْهَدْيِ بِآرَائِهِمْ، وَلَعَلَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ حَالِفِ يَمِينٍ غَمُوسٍ أَوْ مِثْلِهِ.
وأعجب مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، وَأَنْ يُصَلِّيَ الْيَوْمَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ، وَأَنْ لاَ يَزْنِيَ بِحَرِيمَةٍ وَأَنْ لاَ يَعْمَلَ بِالرِّبَا، ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَقَتَلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وَزَنَى، وَأَرْبَى فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي أَيْمَانِهِ تِلْكَ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَيُّمَا أَعْظَمُ إثْمًا: مَنْ حَلَفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ أَنَّهُ مَا رَأَى زَيْدًا الْيَوْمَ، وَهُوَ قَدْ رَآهُ فَأَسْقَطُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ لِعَظْمِهِ. أَوْ مَنْ حَنِثَ بِأَنْ لاَ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَبِأَنْ قَتَلَ النَّفْسَ، وَبِأَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ أَوْ بِأُمِّهِ، وَبِأَنْ عَمِلَ بِالرِّبَا ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ عِظَمَ حِنْثِهِ فِي إتْيَانِهِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ وَاَللَّهِ قَطْعًا عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالدِّينِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ أَلْفِ يَمِينٍ تَعَمَّدَ فِيهَا الْكَذِبَ، لاَ تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ ; لأََنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفِّرَ فَهَلْ تَجْرِي أَقْوَالُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى اتِّبَاعِ نَصٍّ أَوْ عَلَى الْتِزَامِ قِيَاسٍ؟
وَأَمَّا تَمْوِيهُهُمْ بِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَهِيَ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ لاَ تَصِحُّ ; لأََنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلاَ أَمْثَالَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ

(8/39)


رضي الله عنهم إنَّمَا أَدْرَكَ أَصَاغِرَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِثْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ، عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِسُورَةٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ كَفَّارَةٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ; فَابْنُ مَسْعُودٍ حُجَّةٌ إذَا اُشْتُهُوا، وَغَيْرُ حُجَّةٍ إذَا لَمْ يَشْتَهُوا أَنْ يَكُونَ حُجَّةً.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ سَقَطَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ فَلْنَأْتِ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إلَى قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ يَمِينٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُسْقَطَ كَفَّارَةٌ، عَنْ يَمِينٍ أَصْلاً إِلاَّ حَيْثُ أَسْقَطَهَا نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، وَلاَ نَصَّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةَ، أَصْلاً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ، عَنِ الْحَالِفِ يَمِينًا غَمُوسًا ; فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ أَسْقَطَهَا عَنْهُ وَالْقُرْآنُ يُوجِبُهَا، ثُمَّ يُوجِبُونَهَا عَلَى مَنْ حَنِثَ نَاسِيًا مُخْطِئًا وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ أَسْقَطَاهَا عَنْهُ. وَأَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْيَمِينَ، وَلاَ نَوَاهَا وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَسْقُطَانِهَا عَنْهُ ; وَهَذِهِ كَمَا تَرَى. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الآيَةُ فِيهَا حَذْفٌ بِلاَ شَكٍّ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَلَفَ سَاعَةَ حَلَفَ بَرَّ أَوْ حَنِثَ قلنا: نَعَمْ لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ الْحَذْفَ لاَ يَصْدُقُ أَحَدٌ فِي تَعْيِينِهِ لَهُ إِلاَّ بِنَصٍّ صَحِيحٍ، أَوْ إجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لاَ مَا سِوَاهُ، وَأَمَّا بِالدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ فَلاَ: فَوَجَدْنَا الْحَذْفَ الْمَذْكُورَ فِي الآيَةِ قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ وَالنَّصُّ عَلَى أَنَّهُ فَحَنِثْتُمْ وَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَالْمُتَعَمِّدُ لِلْيَمِينِ عَلَى الْكَذِبِ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ حَانِثٌ بِيَقِينِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، وَحُكْمِ اللُّغَةِ. فَصَحَّ إذْ هُوَ حَانِثٌ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ قَاسُوا حَالِقَ رَأْسِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مُحْرِمًا غَيْرَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى. فَهَلاَّ قَاسُوا الْحَالِفَ عَامِدًا لِلْكَذِبِ حَانِثًا عَاصِيًا عَلَى الْحَالِفِ أَنْ لاَ يَعْصِيَ، فَحَنِثَ عَاصِيًا، أَوْ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبَرَّ فَبَرَّ: غَيْرَ عَاصٍ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/40)


اليمين في الغضب والرضا وعلى أن يطيع أو على ان يعصي فعليه الكفارة إن تعمد الحنث وإلا فلا
...
1134 - مَسْأَلَةٌ وَالْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَعَلَى أَنْ يُطِيعَ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ، أَوْ عَلَى مَا لاَ طَاعَةَ فِيهِ، وَلاَ مَعْصِيَةَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا إنْ تَعَمَّدَ الْحِنْثَ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْحِنْثَ، أَوْ لَمْ يَعْقِدْ الْيَمِينَ بِقَلْبِهِ فَلاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ حِنْثٍ قَصَدَهُ الْمَرْءُ.

(8/40)


وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، بَلْ الْبُرْهَانُ قَائِمٌ بِخِلاَفِهِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا ". فَصَحَّ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ فِي الْغَضَبِ قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} وَالْحَالِفُ فِي الْغَضَبِ مُعَقِّدٌ لِيَمِينِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ فِي الْمَعْصِيَةِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ: أَنَّ رَجُلاً أَضَافَهُ رَجُلٌ فَحَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ أَنْ لاَ يَأْكُلَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُلْ وَإِنِّي لاَ أَظُنُّ أَنَّ أَحَبَّ إلَيْك أَنْ تُكَفِّرَ، عَنْ يَمِينِك فَلَمْ يَرَ الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ اسْتِحْبَابًا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ هِنْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَابِسٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَلَفَ أَنْ يَجْلِدَ غُلاَمَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَجْلِدْهُ، قَالَ: .فَقُلْنَا لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ مَا صَنَعْت تَرَكْته، فَذَاكَ بِذَاكَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلْكِ يَمِينِهِ: أَنْ يَضْرِبَهُ، فَإِنَّ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ أَنْ لاَ يَضْرِبَهُ، وَهِيَ مَعَ الْكَفَّارَةِ حَسَنَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مَمْلُوكَهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ: لاََنْ يَحْنَثَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَهُ، قَالَ الْمُعْتَمِرُ: وَحَلَفْت أَنْ أَضْرِبَ مَمْلُوكَةً لِي، فَنَهَانِي أَبِي وَلَمْ يَأْمُرْنِي بِكَفَّارَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ قَالَ: سُئِلَ طَاوُوس عَمَّنْ حَلَفَ: أَنْ لاَ يَعْتِقَ غُلاَمًا لَهُ فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ طَاوُوسٌ: تُرِيدُ مِنْ الْكَفَّارَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْلِفُ عَلَى الْحَرَامِ فَلاَ يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ بِتَرْكِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ كُلُّ يَمِينٍ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَيْسَتْ لَهَا كَفَّارَةٌ

(8/41)


مَنْ يُكَفِّرُ لِلشَّيْطَانِ وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْت عِكْرِمَةَ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهِ: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فِيهِ نَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ أَنْ لاَ يَصِلَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: كَفَّارَتُهُ تَرْكُهُ، فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ نَذْرَ، وَلاَ يَمِينَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلاَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَدَعْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا ". وَمِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ فَهُوَ كَفَّارَتُهَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لاَ يَمِينَ عَلَيْكَ، وَلاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَفِيمَا لاَ تَمْلِكُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَيَّانَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ دِرْهَمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُعَاذٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقْرَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى مَمْلُوكِهِ لَيَضْرِبَنَّهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يَدَعَهُ، وَلَهُ مَعَ كَفَّارَتِهِ خَيْرٌ ". وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَزْمُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ الْقَطَعِيُّ سَمِعْت الْحَسَنَ يَقُولُ: بَلَغَنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ

(8/42)


قَالَ: " لاَ نَذْرَ لأَبْنِ آدَمَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَلاَ يَمِينَ فِي مَعْصِيَةٍ ". قال أبو محمد: كُلُّ هَذَا لاَ يَصِحُّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ صَحِيفَةٌ، وَلَكِنْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ، وَالْحَنَفِيِّينَ فِي أَنْ يَحْتَجُّوا بِرِوَايَتِهِ إذَا وَافَقَتْهُمْ وَيُصَحِّحُونَهَا حِينَئِذٍ، فَإِذَا خَالَفَتْهُمْ كَانَتْ حِينَئِذٍ صَحِيفَةً ضَعِيفَةً. مَا نَدْرِي كَيْفَ يَنْطِقُ بِهَذَا مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أَمْ كَيْفَ تَدِينُ بِهِ نَفْسٌ تَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَمُنْقَطِعٌ، لأََنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ شَيْئًا إِلاَّ نَعْيَهُ النُّعْمَانَ بْنَ مُقْرِنٍ الْمُزَنِيّ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَطْ، وَهَؤُلاَءِ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُنْقَطِعَ، وَالْمُتَّصِلَ سَوَاءٌ، فَأَيْنَ هُمْ، عَنْ هَذَا الأَثَرِ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَعَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ سَاقِطٌ مَتْرُوكٌ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمِ بْنِ عَقْرَبٍ فَفِيهِ شُعَيْبُ بْنُ حَيَّانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مُعَاذٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ. وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ فَسَقَطَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ.
وَوَجَدْنَا نَصَّ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ بِعُمُومِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْهُ ". فإن قيل: إنَّ هَذَا فِيمَا كَانَ فِي كِلَيْهِمَا خَيْرٌ إِلاَّ أَنَّ الآخَرَ أَكْثَرُ خَيْرًا قلنا: هَذِهِ دَعْوَى، بَلْ كُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى خَيْرٌ مِنْهُمَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ}. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ الأَوْثَانِ، وَلاَ شَيْءَ مِنْ الْخَيْرِ فِي الأَوْثَانِ. وَقَالَ تَعَالَى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، وَلاَ خَيْرَ فِي جَهَنَّمَ أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ [ثنا مَعْمَرٌ]، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَاَللَّهِ لاََنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّه "ُ. فَصَحَّ بِهَذَا الْخَبَرِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَكُونُ التَّمَادِي عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا إثْمًا وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَاضِرِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/43)


اليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته وهو مصدوق فيما ادعى من ذلك
...
1135 - مَسْأَلَةٌ وَالْيَمِينُ مَحْمُولَةٌ عَلَى لُغَةِ الْحَالِفِ وَعَلَى نِيَّتِهِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ فِيمَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ
إِلاَّ مَنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ فِي حَقٍّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ وَالْحَالِفُ مُبْطِلٌ فَإِنَّ الْيَمِينَ هَهُنَا عَلَى نِيَّةِ الْمَحْلُوفِ لَهُ. وَمَنْ قِيلَ لَهُ: قُلْ كَذَا أَوْ كَذَا فَقَالَ وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلاَمُ يَمِينًا بِلُغَةٍ لاَ يُحْسِنُهَا الْقَائِلُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْلِفْ وَمَنْ حَلَفَ بِلُغَتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ فَهُوَ حَالِفٌ، فَإِنْ حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا هِيَ إخْبَارٌ مِنْ الْحَالِفِ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِيَمِينِهِ تِلْكَ وَكُلُّ

(8/43)


وَاحِدٍ فَإِنَّمَا يُخْبِرُ، عَنْ نَفْسِهِ بِلُغَتِهِ، وَعَمَّا فِي ضَمِيرِهِ. فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِير} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ لُغَةٍ اسْمٌ، فَبِالْفَارِسِيَّةِ: أوزمز، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ: أذوناي، والوهيم، والوهاء، وَإِسْرَائِيلُ، وَبِاللَّاتِينِيَّةِ: داوش، وقريطور، وبالصقلبية: بغ، وَبِالْبَرْبَرِيَّةِ: يكش. فَإِنْ حَلَفَ هَؤُلاَءِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ فَهِيَ يَمِينٌ صَحِيحَةٌ ; وَفِي الْحِنْثِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ. وَأَمَّا مَنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ لِخَصْمِهِ وَهُوَ مُبْطِلٌ فَلاَ يَنْتَفِعُ بِتَوْرِيَتِهِ، وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جُحُودِهِ الْحَقَّ، عَاصٍ لَهُ فِي اسْتِدْفَاعِ مَطْلَبِ خَصْمِهِ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَهُوَ حَالِفُ يَمِينٍ غَمُوسٍ، وَلاَ بُدَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ ". وَقَدْ قِيلَ: عَبَّادٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَاحِد، وَلاَ يَكُونُ صَاحِبُ الْمَرْءِ إِلاَّ مَنْ لَهُ مَعَهُ أَمْرٌ يَجْمَعُهُمَا يَصْطَحِبَانِ فِيهِ، وَلَيْسَ إِلاَّ ذُو الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْك يَمِينٌ تُؤَدِّيهَا إلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ. وَأَمَّا مَنْ لاَ يَمِينَ لَهُ عِنْدَك فَلَيْسَ صَاحِبَك فِي تِلْكَ الْيَمِينِ.

(8/44)


من حلف ثم قال نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي نطق به صدق
...
1136 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ ثُمَّ قَالَ: نَوَيْت بَعْضَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الَّذِي نَطَقَ صُدِّقَ،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جَرَى لِسَانِي وَلَمْ يَكُنْ لِي نِيَّةٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ، فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/44)


من حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه إن شاء الله وإلا أن يشاء الله فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين عنه بذلك ولا كفارة
...
1137 - مَسْأَلَةٌ ومن حلف على شيء ثم قال موصولا بكلامه: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، أو إلا أن لا يشاء الله، أو نحو هذا،
أو إلا أن أشاء، أو إلا أن لا أشاء، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي، أو إلا أن يبدو إلي، أو إلا أن يشاء فلان، أو إن شاء فلان، فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين عنه بذلك، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه . فلو لم يصل الاستثناء بيمينه لكن قطع قطع ترك للكلام ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع بذلك، وقد لزمته اليمين، فإن حنث فيها فعليه الكفارة . ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ، وأما بنية دون لفظ فلا، لقول الله تعالى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فهذا لم يعقد اليمين . ونحن على يقين من أن الله تعالى لو شاء تمام تلك اليمين لأنفذها، وأتمها، فإذ لم ينفذها عز وجل ولا أتمها، فنحن على يقين من أنه تعالى لم يشأ كونها وهو إنما التزمها إن شاء الله تعالى، والله تعالى لم يشأها، فلم يلتزمها قط . وكذلك اشتراطه

(8/44)


يمين الأبكم واستثناؤه لا زمان على حسب طاقته من صوت أو اشارة وبرهان ذلك
...
1138 - مَسْأَلَةٌ- وَيَمِينُ الأَبْكَمِ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لاَزِمَانِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ مِنْ صَوْتٍ يُصَوِّتُهُ أَوْ إشَارَةٍ إنْ كَانَ مُصْمَتًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ،
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَيْمَانَ إخْبَارٌ مِنْ الْحَالِفِ، عَنْ نَفْسِهِ، وَالأَبْكَمُ، وَالْمُصْمَتُ، مُخَاطَبَانِ بِشَرَائِعِ الإِسْلاَمِ كَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا مِنْ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَا اسْتَطَاعَاهُ، وَأَنْ يُسْقِطَ عَنْهُمَا مَا لَيْسَ

(8/48)


فِي وُسْعِهِمَا، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمَا مَا يُخْبِرَانِ بِهِ، عَنْ أَنْفُسِهِمَا حَسْبَ مَا يُطِيقَانِ وَيَلْزَمُهُمَا مَا الْتَزَمَاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/49)


الرجال والنساء الأحرار المملوكون وذوات الأزواج والأبكار وغيرهن في ذلك سواء
...
1139 –مَسْأَلَةٌ وَالرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ، الأَحْرَارُ، وَالْمَمْلُوكُونَ، وَذَوَاتُ الأَزْوَاجِ وَالأَبْكَارُ، وَغَيْرُهُنَّ، فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَنَذْكُرُ سَوَاءٌ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} . وَقَالَ عليه السلام: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلاَّ بِاَللَّهِ " وَقَالَ فِي الأَسْتِثْنَاءِ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ عَبْدٍ مِنْ حُرٍّ، وَلاَ ذَاتِ زَوْجٍ مِنْ أَيِّمٍ، وَلاَ بِكْرٍ مِنْ ثَيِّبٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَالتَّحَكُّمُ فِي الدِّينِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا مُخَاطَبٌ بِالصَّلاَةِ وَبِالصِّيَامِ، وَتَحْرِيمِ مَا يُحَرَّمُ، وَتَحْلِيلِ مَا يَحِلُّ سَوَاءٌ، فَأَنَّى لَهُمْ تَخْصِيصُ بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، وَالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ ؟فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ يَمِينَ لِوَلَدٍ مَعَ يَمِينِ وَالِدٍ، وَلاَ يَمِينَ لِزَوْجَةٍ مَعَ يَمِينِ زَوْجٍ، وَلاَ يَمِينَ لِلْمَمْلُوكِ مَعَ يَمِينِ مَلِيكِهِ، وَلاَ يَمِينَ فِي قَطِيعَةٍ، وَلاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ طَلاَقَ قَبْلَ نِكَاحٍ، وَلاَ عَتَاقَةَ قَبْلَ الْمِلْكِ، وَلاَ صَمْتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ، وَلاَ مُوَاصَلَةَ فِي الصِّيَامِ، وَلاَ يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ، وَلاَ رَضَاعَةَ بَعْدَ الْفِطَامِ، وَلاَ تَغَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " فَحَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَيَلْزَمُ مَنْ قَلَّدَ رِوَايَتَهُ فِي اسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِثَلاَثٍ بَعْدَ أَيَّامِهَا، فَأَسْقَطَ بِهَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ وَالصِّيَامَ الْمَفْرُوضَ، وَحَرَّمَ الْوَطْءَ الْمُبَاحَ أَنْ يَأْخُذُوا بِرِوَايَتِهِ هَهُنَا، وَإِلَّا فَهُمْ مُتَلاَعِبُونَ بِالدِّينِ. بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ خَالَفُوا أَكْثَرَ مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ وَأَمَّا نَحْنُ فَوَاَللَّهِ لَوْ صَحَّ بِرِوَايَتِهِ الثِّقَاتُ مُتَّصِلاً لَبَادَرْنَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/49)


لا يمين لسكران ولا لمجنون في حال جنونه ولا لهاذ في مرضه ولا لنائم في نومه إلخ
...
1140- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَمِينَ لِسَكْرَانَ، وَلاَ لِمَجْنُونٍ فِي حَالِ جُنُونِهِ، وَلاَ لِهَاذٍ فِي مَرَضِهِ، وَلاَ لِنَائِمٍ فِي نَوْمِه، وَلاَ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغَ .
وَوَافَقَنَا فِي كُلِّ هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُونَا فِي السَّكْرَانِ وَحْدَهُ، وَوَافَقَ فِي السَّكْرَانِ أَيْضًا قَوْلُنَا هَهُنَا قَوْلَ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَحُجَّتُنَا فِي السَّكْرَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَمَنْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُهُ بِمَا لاَ يَدْرِي مَا هُوَ مِنْ

(8/49)


1141 - مَسْأَلَةٌ وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي كُفْرِهِ ثُمَّ حَنِثَ فِي كُفْرِهِ، أَوْ بَعْدَ إسْلاَمِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ،
لأََنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى لاَزِمٌ لَهُمْ قَالَ تَعَالَى

(8/50)


{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَلاَ يَجْزِيهِ أَنْ يُكَفِّرَ فِي حَالِ كُفْرِهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا أَنَّهَا دِينُ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا. قَالَ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .

(8/51)


من حلف باللات والعزى فكفارته أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
...
1142 - مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ وَاللَّاتِ، وَالْعُزَّى، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَقُولُهَا مَرَّةً ; أَوْ يَقُولُ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ،
وَلاَ بُدَّ. وَيَنْفُثُ، عَنْ شِمَالِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لاَ يَعُدْ فَإِنْ عَادَ عَادَ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا. وَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: تَعَالَ أُقَامِرْك فَلْيَتَصَدَّقْ، وَلاَ بُدَّ بِمَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مَخْلَدٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، هُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَانْفُثْ، عَنْ شِمَالِك ثَلاَثًا، وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ لاَ تَعُدْ .
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ أَعْيَنَ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَقَالَ لِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ مَا قُلْتَ ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [فَأَخْبِرْهُ] فَإِنَّا لاَ نَرَاكَ إِلاَّ قَدْ كَفَرْتَ فَلَقِيتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ لِي: " قُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَانْفُثْ، عَنْ شِمَالِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَلاَ تَعُدْ لَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ ".
قَالَ عَلِيٌّ: فِي هَذَا إبْطَالُ التَّعَلُّقِ بِقَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لِسَعْدٍ: "مَا نَرَاك إِلاَّ قَدْ كَفَرْت، وَلَمْ يَكُنْ كَفَرَ".

(8/51)


من حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شيء منها يمين فهي أيمان كثيرة إن حنث في شيء منها فعليه كفارة
...
1143- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ أَيْمَانًا عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ مِثْلُ

(8/51)


لو حلف كذلك ثم قال في آخرها إن شاء الله أو استثنى بشيء ما فيه خلاف
...
1144- مَسْأَلَةٌ- فَلَوْ حَلَفَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ اسْتَثْنَى بِشَيْءٍ مَا،
فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْصُولاً فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا نَوَى، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِالأَسْتِثْنَاءِ جَمِيعَ الأَيْمَانِ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت آخِرَهَا، فَهُوَ كَمَا قَالَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الأَسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الأَيْمَانِ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَكُونُ الأَسْتِثْنَاءُ إِلاَّ لِلْيَمِينِ الَّتِي تَلِي الأَسْتِثْنَاءَ.
قال أبو محمد: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لأََنَّهُ قَدْ عَقَّدَ الأَيْمَانَ السَّالِفَةَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا وَقَطَعَ الْكَلاَمَ فِيهَا وَأَخَذَ فِي كَلاَمٍ آخَرَ، فَبَطَلَ أَنْ يَتَّصِلَ الأَسْتِثْنَاءُ بِهَا، فَوَجَبَ الْحِنْثُ فِيهَا إنْ حَنِثَ وَالْكَفَّارَةُ، وَكَانَ الأَسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ الَّتِي اتَّصَلَ بِهَا كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/52)


إن حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة كمن قال والله لا كلمت زيدا ولا خالدا ولا دخلت دار عبد الله ولا أعطيتك شيئا فهي يمين واحدة ولا يحنث بفعله شيئا ولاكفارة عليه حتى يفعل كل ما حلف عليه
...
1145 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ يَمِينًا وَاحِدَةً عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، كَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا، وَلاَ خَالِدًا، وَلاَ دَخَلْت دَارَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلاَ أَعْطَيْتُك شَيْئًا، فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ،
وَلاَ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ شَيْئًا مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَتَّى يَفْعَلَ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، وَاَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، لأَُمُورٍ شَتَّى قَالَ: هُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِيَمِينٍ، قَالَ: كَفَّارَتَانِ. وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ كَذَا، وَكَذَا لأََمْرَيْنِ شَتَّى فَعَمَّهُمَا بِالْيَمِينِ قَالَ: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلاَ نَعْلَمُ لِمُتَقَدِّمٍ فِيهَا قَوْلاً آخَرَ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: هُوَ حَانِثٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ فِعْلٍ كَفَّارَةٌ وَقَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِأَوَّلِ مَا يَحْنَثُ، ثُمَّ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: الْيَمِينُ لاَ تَكُونُ بِالنِّيَّةِ دُونَ الْقَوْلِ وَهُوَ لَمْ يَلْفِظْ إِلاَّ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَلاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرَ مِنْ يَمِينٍ أَصْلاً، إذْ لَمْ يُوجِبْ لُزُومَهَا إيَّاهُ قُرْآنٌ; وَلاَ سُنَّةٌ، فَإِذْ هِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهَا عَلَى حِنْثٍ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى بِرٍّ; إنَّمَا هُوَ حَانِثٌ، أَوْ غَيْرُ حَانِثٌ: وَلَمْ يَأْتِ بِغَيْرِ هَذَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حَانِثًا إِلاَّ بِأَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا عَقَّدَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ وَأَيْضًا: فَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ وَالشَّرَائِعُ لاَ تَجِبُ بِدَعْوَى لاَ نَصَّ مَعَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/52)


إن حلف أيمانا كثيرة على شيء واحد فهي كلها يمين واحدة ولو كررها ألف مرة
...
1146 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ أَيْمَانًا كَثِيرَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، مِثْلُ: أَنْ يَقُولَ: بِاَللَّهِ

(8/52)


من حلف بالله لا أكلت هذ الرغيف أو قال لا شربت ماء هذا الكوز فلا يحنث بأكل بعض الرغيق ولا بشرب بعض ما في الكوز
...
1147 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لاَ أَكَلْت هَذَا الرَّغِيفَ; أَوْ قَالَ: لاَ شَرِبْت مَاءَ هَذَا الْكُوزِ، فَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الرَّغِيفِ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ فُتَاتُهُ، وَلاَ بِشُرْبِ بَعْضِ مَا فِي الْكُوزِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لاَكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ، فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إِلاَّ فُتَاتَهُ وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ حَنِثَ وَهَكَذَا فِي الرُّمَّانَةِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ لاَ يَحْنَثُ بِبَعْضِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ وَشُرْبِ بَعْضِهِ.
قال أبو محمد: نَسْأَلُهُمْ، عَنْ رَجُلٍ أَكَلَ بَعْضَ رَغِيفٍ لِزَيْدٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَكَلَ رَغِيفَ زَيْدٍ أَصَادِقَانِ هُمَا أَمْ كَاذِبَانِ فَمِنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُمَا كَاذِبَانِ مُبْطِلاَنِ، فَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْفُتْيَا بِالْكَذِبِ، وَبِالْبَاطِلِ، وَبِالْمُشَاهَدَةِ يُدْرَى فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ، لأََنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَهُ، لَمْ يَحْلِفْ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ إذَا أَبْقَى مِنْهُ شَيْئًا فَلَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَالأَمْوَالُ مَحْظُورَةٌ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِمْ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الْحِنْثُ، وَالتَّحْرِيمُ، وَكِلاَهُمَا يَدْخُلُ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ .فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مَا يَدْخُلُ الْحِنْثُ وَالتَّحْرِيمُ لاَ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ، وَلا

(8/54)


بِأَغْلَظِهَا، وَلاَ يَدْخُلُ التَّحْلِيلُ أَيْضًا لاَ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ، وَلاَ بِأَغْلَظِهَا وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ وَإِفْكٌ، وَلاَ يَدْخُلُ الْحِنْثُ، وَالْبِرُّ، وَالتَّحْرِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ ; إِلاَّ حَيْثُ أَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطْرَفُ شَيْءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَحْرِيمُ زَوْجَةِ الأَبِ عَلَى الأَبْنِ يَدْخُلُ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَحْدَهُ .فَقُلْنَا لَهُمْ: نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْجُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ حَرَامًا عَلَى الأَبِ، كَمَا هِيَ عَلَى الأَبْنِ، ثُمَّ دَخَلَ التَّحْلِيلُ لِلأَبِ بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَحْدَهُ فَأَيْنَ قَوْلُكُمْ: إنَّ التَّحْلِيلَ لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ بِأَغْلَظِ الأَسْبَابِ وَكَمْ هَذَا التَّخْلِيطُ بِمَا لاَ يُعْقَلُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: وَالتَّحْلِيلُ لاَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ بِأَغْلَظِ الأَسْبَابِ وَهُوَ الْعَقْدُ، وَالْوَطْءُ فَقُلْنَا: نَقَضْتُمْ قَوْلَكُمْ قُولُوا بِقَوْلِ الْحَسَنِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَفْسَدْتُمْ بُنْيَانَكُمْ، لأََنَّهُ يَقُولُ: لاَ تَحِلُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ بِالْعَقْدِ، وَالْوَطْءِ، وَالإِنْزَالِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلاَ، وَهَذَا أَغْلَظُ الأَسْبَابِ وَالْقَوْمُ فِي لاَ شَيْءَ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ. وَابْنَةُ الزَّوْجَةِ لاَ تُحَرَّمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا بِأَرَقِّ الأَسْبَابِ الَّذِي هُوَ الْعَقْدُ، لَكِنْ بِالدُّخُولِ بِالأُُمِّ مَعَ الْعَقْدِ، فَهَذَا تَحْرِيمٌ لَمْ يَدْخُلْ إِلاَّ بِأَغْلَظِ الأَسْبَابِ. ثُمَّ تَنَاقُضُهُمْ هَهُنَا طَرِيفٌ جِدًّا، لأََنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ رَغِيفًا فَأَكَلَ نِصْفَ رَغِيفٍ يَحْنَثُ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَهَبَ لِزَيْدٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَوَهَبَ لَهُ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا كُلِّهِ لَوْ كَانَ هَهُنَا تَقْوَى؟
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ;.
فَقُلْنَا لَهُمْ: إنَّمَا يَكُونُ الْحِنْثُ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولُ دُخُولُ الدَّارِ إِلاَّ بِدُخُولِ بَعْضِهَا، لاَ بِأَنْ يَمْلاََهَا بِجُثَّتِهِ، بِخِلاَفِ أَكْلِ الرَّغِيفِ، وَلَوْ أَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُهُ الدَّارَ لاَ كُلُّهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى: أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَهْدِمَ هَذَا الْحَائِطَ فَهَدَمَ مِنْهُ مَدَرَةً أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ

(8/55)


لو حلف بالله لا أكلت هذ الرغيف أو قال لا شربت ماء هذا الكوز فإنه يحنث بأكل شيء منه وشرب شيء منه
...
1148 - مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ، أَوْ أَنْ لاَ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ هَذَا الْكُوزِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنْهُ وَشُرْبِ شَيْءٍ مِنْهُ،
لأََنَّهُ خِلاَفُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/55)


لو حلف أن لا يشرب ماء النهر فإن كانت له نية في شرب شيء من حنث بأي شيء شرب منه
...
1149 - مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ مَاءَ النَّهْرِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي شُرْبِ شَيْءٍ مِنْهُ حَنِثَ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ
لأََنَّهُ بِهَذَا يُخْبِرُ، عَنْ شُرْبِ بَعْضِ مَائِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ، لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ".

(8/55)


من حلف ألا يدخل دار زيد فإن كان من الدور المباحة الدهاليز لم يحنث بدخول الدهاليز حتى يدخل منها ما يقع عليه أنه داخل دار زيد وإن لم تكن كذلك حنث بدخول الدهاليز
...
1150 – مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الدُّورِ الْمُبَاحَةِ

(8/55)


من حلف ألا يدخل دار فلان وأن لا يدخل الحمام فمشى على سقوف ذلك أو دخل دهليز الحمام لم يحنث
...
1151 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ فُلاَنٍ، أَوْ أَنْ لاَ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ فَمَشَى عَلَى سُقُوفِ كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَ الْحَمَّامِ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلاَ الْحَمَّامَ، وَلاَ يُسَمَّى دُخُولُ دِهْلِيزِ الْحَمَّامِ دُخُولَ حَمَّامٍ

(8/56)


من حلف ألا يكلم فلانا فأوصى إليه أو كتب إليه لم يحنث وكذلك لو أشار إليه
...
1152 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ فُلاَنًا، فَأَوْصَى إلَيْهِ أَوْ كَتَبَ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لاَ يُسَمَّى الْكِتَابُ، وَلاَ الْوَصِيَّةُ: كَلاَمًا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَشَارَ إلَيْهِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {آيَتُكَ أَلاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .وَقَالَ تَعَالَى {فأما تَرَيِنَّ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنْسِيًّا} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَشَارَتْ إلَيْه}ِ. فَصَحَّ أَنَّ الإِشَارَةَ، وَالإِيمَاءَ لَيْسَ كَلاَمًا.

(8/56)


من حلف ألا يشتري إداما فأي شيء اشتراه من لحم أو غيره ليأكل به الخبز حنث أكل به أو لم يأكل
...
1153 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ إدَامًا فَأَيُّ شَيْءٍ اشْتَرَاهُ مِنْ لَحْمٍ، أَوْ غَيْرِهِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ بِهِ الْخُبْزُ فَاشْتَرَاهُ لِيَأْكُلَ بِهِ الْخُبْزَ حَنِثَ أَكَلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ
لأََنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الإِدَامَ فَلَوْ اشْتَرَاهُ لِيَأْكُلَهُ بِلاَ خُبْزٍ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَيْسَ إدَامًا حِينَئِذٍ. وقال أبو حنيفة: مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إدَامًا فَأَكَلَ خُبْزًا بِشِوَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ أَكَلَهُ بِمِلْحٍ أَوْ بِزَيْتِ أَوْ بِشَيْءٍ يُصْنَعُ فِيهِ الْخُبْزُ حَنِثَ.
قال علي: وهذا كَلاَمٌ فَاسِدٌ جِدًّا لأََنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ لاَ مِنْ شَرِيعَةٍ، وَلاَ لُغَةٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَيْمُونِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَمْرٍو النَّصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ثِقَةٌ، عَنْ يَزِيدَ الأَعْوَرِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ:" رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ كِسْرَةَ خُبْزِ شَعِيرٍ وَوَضَعَ عَلَيْهَا تَمْرَةً وَقَالَ: هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَصْلُ الإِدَامِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُبْزِ، فَذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ شَيْءٍ جُمِعَ إلَى الْخُبْزِ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ بِهِ فَهُوَ إدَامٌ.

(8/56)


من حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشرة لم يحل له ذلك ويبر في يمينه بأن يجمع ذلك العدد فيضربه به ضربة واحدة
...
1154 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ غُلاَمَهُ عَدَدًا مِنْ الْجَلْدِ أَكْثَرَ مِنْ الْعَشْرِ

(8/56)


لا معنى للبساط في الأيمان ولا للمن وأقوال المجتهدين في ذلك
...
1155 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ مَعْنَى لِلْبِسَاطِ فِي الأَيْمَانِ، وَلاَ لِلْمَنِّ،
وَلَوْ مَنَّتْ امْرَأَتُهُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهَا بِمَالِهَا فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَلْبَسَ مِنْ مَالِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِمَا سَمَّى فَقَطْ، وَيَأْكُلُ مِنْ مَالِهَا مَا شَاءَ، وَيَأْخُذُ مَا تُعْطِيهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِذَلِكَ، وَيَشْتَرِي بِمَا تُعْطِيهِ مَا يَلْبَسُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَنْ مَنَّ عَلَى آخَرَ بِلَبَنِ شَاتِه فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الشَّاةِ، وَمِنْ جُبْنِهَا، وَمِنْ زُبْدِهَا، وَرَائِبِهَا، لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ شُرْبَ لَبَنٍ. فَإِنْ بَاعَتْ تِلْكَ الشَّاةَ وَاشْتَرَتْ أُخْرَى كَانَ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا، وَلاَ كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ، إنَّمَا يَحْنَثُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يَحْنَثُ بِكُلِّ ذَلِكَ، ثُمَّ تَنَاقَضَ فَقَالَ: إنْ وَهَبَتْ لَهُ شَاةً ثُمَّ مَنَّتْ بِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِنْ لَبَنِهَا شَيْئًا فَبَاعَهَا وَابْتَاعَ بِثَمَنِهَا ثَوْبًا لَبِسَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِإِمْسَاكِهَا فِي مِلْكِهِ، وَلاَ بِبَيْعِهَا وَقَضَاءُ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهَا وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لأََنَّهُ أَحْنَثَهُ بِغَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَبَطَ نَفْسَهُ إلَى سَارِيَةٍ وَقَالَ: لاَ أَحُلُّ نَفْسِي حَتَّى يَحُلَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَنْزِلَ تَوْبَتِي، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَحُلُّهُ فَأَبَى إِلاَّ أَنْ يَحُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام: " إنَّ فَاطِمَةَ بِضْعَةٌ مِنِّي " فَهَذَا لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ مُرْسَلٌ ثُمَّ، عَنْ عَلِيِّ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لِمَا فِيهِ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ زَيْدًا فَضَرَبَ وَلَدَ زَيْدٍ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ.

(8/57)


من حلف ألا يفعل أمر كذا حينا أو دهرا أو زمانا إلخ فبقي مقدار طرفة عين لم يفعله ثم فعله فلا حنث عليه
...
1156 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَ أَمْرًا كَذَا حِينًا أَوْ دَهْرًا أَوْ زَمَانًا أَوْ مُدَّةً أَوْ بُرْهَةً أَوْ وَقْتًا، أَوْ ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ بِالأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ قَالَ مَلِيًّا، أَوْ قَالَ: عُمْرًا، أَوْ الْعُمْرَ، فَبَقِيَ مِقْدَارَ طَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَفْعَلْهُ، ثُمَّ فَعَلَهُ، فَلاَ حِنْثَ عَلَيْهِ،
لأََنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ زَمَانٌ، وَدَهْرٌ، وَحِينٌ، وَوَقْتٌ، وَبُرْهَةٌ، وَمُدَّةٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْحِينِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْحِينُ سَنَةٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: أَرَى الْحِينَ سَنَةً. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحِينُ سَنَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ

(8/57)


إن حلف ألا يكلمه طويلا فهو مزاد على أقل المدد وإن حلف ألا يكلمه أياما أو جمعا أو شهورا فكل ذلك على ثلاثة ولا يحنث فيما زاد
...
1157 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَهُ طَوِيلاً، فَهُوَ مَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْمُدَدِ، فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَهُ أَيَّامًا أَوْ جُمَعًا أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ، أَوْ ذَكَرَ كُلَّ ذَلِكَ بِالأَلِفِ وَاللَّامِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةٍ، وَلاَ يَحْنَثُ فِيمَا زَادَ ، ل
أََنَّهُ الْجَمْعُ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلاَثَةٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى التَّثْنِيَةِ. قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. فَإِنْ قَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: كَثِيرَةٌ، فَهِيَ عَلَى أَرْبَعٍ; لأََنَّهُ لاَ " كَثِيرَ " إِلاَّ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَحْنَثَ أَحَدٌ إِلاَّ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/59)


من حلف ألا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو قريبه أو أجنبي فليفارق حاله التي هو عليها إلى غيرها ولا يحنث
...
1158 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُسَاكِنَ مَنْ كَانَ سَاكِنًا مَعَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ قَرِيبِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ فَلْيُفَارِقْ الَّتِي هُوَ فِيهَا إلَى غَيْرِهَا، وَلاَ يَحْنَثُ.
فَإِنْ أَقَامَ مُدَّةً يُمْكِنُهُ فِيهَا أَنْ لاَ يُسَاكِنَهُ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَنِثَ فَإِنْ رَحَلَ كَمَا ذَكَرْنَا مُدَّةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يَحْنَثْ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: إنْ كَانَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنْ يَرْحَلَ أَحَدُهُمَا إلَى بَيْتٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ

(8/59)


من حلف ألا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وآخر معه لم يحنث وكذلك لو حلف ألا يدخل دار زيد فدخل دارا بين زيد وغيره لم يحنث
...
1159 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ فَأَكَلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَآخَرُ مَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ دَارًا يُسْكِنُهَا زَيْدٌ بَكْرًا[وَكَذَلِكَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دَارًا يَسْكُنُهَا زَيْدٌ فَيَحْنَثَ، لأََنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ فِي الأَيْمَانِ مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ تِلْكَ اللُّغَةِ فِي كَلاَمِهِمْ الَّذِي بِهِ حَلَفَ، وَعَلَيْهِ حَلَفَ فَقَطْ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى طَعَامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، وَلاَ عَلَى دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ أَنَّهَا لأََحَدِ مَنْ هِيَ لَهُ.

(8/60)


من حلف ألا يهب لأحد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث إلا أن ينوي العدد الذي سمى
...
1160 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَهَبَ لأََحَدٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَوَهَبَ لَهُ أَكْثَرَ حَنِثَ،
إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْعَدَدَ الَّذِي سَمَّى فَقَطْ فَلاَ يَحْنَثُ.

(8/60)


من حلف ألا يجامعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده فيه ولم يكن عرف إذ دخل إنه فيه لم يحنث
...
1161 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَجْمَعَهُ مَعَ فُلاَنٍ سَقْفٌ فَدَخَلَ بَيْتًا فَوَجَدَهُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ عَرَفَ إذْ دَخَلَ أَنَّهُ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ،
لَكِنْ لِيَخْرُجْ مِنْ وَقْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْحِنْثَ لاَ يَلْحَقُ إِلاَّ قَاصِدًا إلَيْهِ، عَالِمًا بِهِ.

(8/60)


من حلف ألا يأكل لحما أو أن لا يشتريه فاشترى شحما أو كبدا أو سناما أو مصرانا إلخ لم يحنث
...
1162 – مسألة – ومن حلف أن لا يأكل لحما أو ان لا يشتريه فاشترى شحما أو كبدا

(8/60)


من حلف ألا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن وكل ما يطلق عليه اسم شحم ولا يحنث بأكل اللحم المحصن
...
1163 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ شَحْمًا حَنِثَ بِأَكْلِ شَحْمِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَكُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ شَحْمٍ، وَلَمْ يَحْنَثْ
بِأَكْلِ اللَّحْمِ الْمَحْضِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِشَحْمِ الْبَطْنِ وَحْدَهُ، وَلاَ يَحْنَثُ بِشَحْمِ الظَّهْرِ. وقال مالك: مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا يَحْنَثُ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} قَالُوا: فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى شَحْمِ الْبَطْنِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: وَهَذَا احْتِجَاجٌ مُحَالٌ، عَنْ مَوْضِعِهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَخُصَّ شَحْمَ الْبَطْنِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِ هَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فَبِهَذَا خَصَّ شَحْمَ الْبَطْنِ بِالتَّحْرِيمِ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَحُرِّمَتْ الشُّحُومُ كُلُّهَا فَالآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَحَرَّمَ شَحْمَهُ، وَحَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ الشَّحْمَ فَلَمْ يُحَرِّمْ اللَّحْمَ. وَقَالُوا: الشَّحْمُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ وَلَيْسَ اللَّحْمُ مُتَوَلِّدًا مِنْ الشَّحْمِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الأَحْتِجَاجَانِ فِي غَايَةِ التَّمْوِيهِ بِالْبَاطِلِ، لأََنَّ تَحْرِيمَ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ

(8/61)


لَمْ يُحَرَّمْ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، لَكِنْ بِبُرْهَانٍ آخَرَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " بَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيُحَرَّمُ ". وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ لَكَانَ تَحْرِيمُ لَبَنِ الْخِنْزِيرَةِ وَعَظْمِهَا عَلَى قَوْلِهِمْ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهَا مُوجِبًا لِلْحِنْثِ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَحْمًا فَشَرِبَ لَبَنًا، وَلاَ فَرْقَ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّحْمَ تَوَلَّدَ مِنْ اللَّحْمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ فَكَانَ مَاذَا أَلَيْسَ اللَّحْمُ، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدَيْنِ مِنْ الدَّمِ، وَالدَّمُ حَرَامٌ، وَهُمَا حَلاَلاَنِ أَوَلَيْسَ الْخَمْرُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَصِيرِ وَالْخَلُّ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْخَمْرِ وَهِيَ حَرَامٌ، وَمَا تَوَلَّدَتْ مِنْهُ حَلاَلٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا حَلاَلٌ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/62)


من حلف ألا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رؤوس الطير ولا السمك
...
1164 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ رَأْسًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ، وَلاَ رُءُوسِ السَّمَكِ، وَلاَ يَحْنَثُ إِلاَّ بِأَكْلِ رُءُوسِ الْغَنَمِ، وَالْمَاعِزِ،
فَإِنْ كَانَ أَهْلُ مَوْضِعِهِ لاَ يُطْلِقُونَ اسْمَ الرُّءُوس فِي الْبَيْعِ وَالأَكْلِ عَلَى رُءُوسِ الإِبِلِ، وَالْبَقَرِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهَا وَإِنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا فِي الْبَيْعِ وَالأَكْلِ اسْمَ الرُّءُوس حَنِثَ بِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَيْمَانَ إنَّمَا هِيَ عَلَى لُغَةِ الْحَالِفِ، وَمَعْهُودِ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلاَمِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. أَلاَ تَرَى: أَنَّ الْمِسْكَ دَمٌ جَامِدٌ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ دَمٍ حَلَّ وَلَمْ يَحْرُمْ.

(8/62)


من حلف ألا يأكل بيضا لم يحنث إلا بأكل بيض الدجاج خاصة
...
1165 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ بِيضًا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِأَكْلِ بَيْضِ الدَّجَاجِ خَاصَّةً
وَلَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ بَيْضِ النَّعَامِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ، وَلاَ بِيضِ السَّمَكِ لِمَا ذَكَرْنَا; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.

(8/62)


من حلف ألا يأكل عنبا يأكل زبيبا أو شرب عصير أو أكل ربا أو خلا لم يحنث هكذا
...
1166 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا أَوْ شَرِبَ عَصِيرًا، أَوْ أَكَلَ رُبًّا أَوْ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْعِنَبِ، وَلاَ بِشُرْبِ نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَأَكْلِ خَلِّهِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي التَّمْرِ، وَالرُّطَبِ، وَالزَّهْوِ، وَالْبَسْرِ، وَالْبَلَحِ، وَالطَّلْعِ وَالْمُنَكِّتِ، وَنَبِيذِ كُلِّ ذَلِكَ وَخَلِّهِ، وَذُو شَائِبَةٍ، وَنَاطِفَةٍ: لاَ يَحْنَثُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا حَنِثَ بِأَكْلِ سَائِرِهَا، وَلاَ يَحْنَثُ بِشُرْبِ مَا يَشْرَبُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، لأََنَّ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لاَ يُطْلَقُ عَلَى الآخَرِ، وَالْعَالَمُ كُلُّهُ بَعْضُهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ بَعْضٍ وَنَحْنُ مَخْلُوقُونَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ. فَلَوْ أَنَّ امْرَأً حَلَفَ أَنْ لاَ يُدْخِلَ فِي دَارِهِ حَيَوَانًا فَأَدْخَلَ التُّرَابَ وَالْمَاءَ لَمْ يَحْنَثْ بِلاَ خِلاَفٍ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. وقال مالك: مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا أَوْ شَرِبَ

(8/62)


من حلف ألا يأكل لبنا لم يحنث بأكل اللباء ولا العقيد
...
1167 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَبَنًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللِّبَإِ، وَلاَ بِأَكْلِ الْعَقِيدِ،
لاَ الرَّائِبِ، وَلاَ الزُّبْدِ، وَلاَ السَّمْنِ، وَلاَ الْمَخِيضِ، وَلاَ الْمَيْسِ، وَلاَ الْجُبْنِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الزُّبْدِ، وَالسَّمْنِ، وَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا لأَخْتِلاَفِ أَسْمَاءِ كُلِّ ذَلِكَ.

(8/63)


من حلف ألا يأكل خبزا فأكل كعكا أو حريرة إلخ وكذلك من حلف أن لا يأكل قمحا فإن كانت له نية في خبزه حنث وإلا لم يحنث إلا بأكله صرفا
...
1168 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ خُبْزًا فَأَكَلَ كَعْكًا أَوْ بشماطا أَوْ حَرِيرَةً، أَوْ عَصِيدَةً، أَوْ حَسْوَ فَتَاةٍ، أَوْ فَتِيتًا لَمْ يَحْنَثْ.
وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ قَمْحًا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي خُبْزِهِ حَنِثَ وَإِلَّا لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِأَكْلِهِ صِرْفًا، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْلِ هَرِيسَةٍ، وَلاَ أَكْلِ حَشِيشٍ، وَلاَ سَوِيقٍ، وَلاَ أَكْلِ فَرِيكٍ، لأََنَّهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ اسْمُ قَمْحٍ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ تِينًا حَنِثَ بِالأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، لأََنَّ اسْمَ التِّينِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ.

(8/63)


من حلف ألا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها وإلا حنث بالخمر وبجميع الأنبذة
...
1169 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ شَرَابًا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ حَمَلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ بِالْخَمْرِ، وَبِجَمِيعِ الأَنْبِذَةِ،
وَبِالْجَلَّابِ، وَالسَّكَنْجِينِ، وَسَائِرِ الأَشْرِبَةِ; لأََنَّ اسْمَ شَرَابٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. وَلاَ يَحْنَثُ بِشُرْبِ اللَّبَنِ، وَلاَ بِشُرْبِ الْمَاءِ، لأََنَّهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ شَرَابٍ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ لَبَنًا فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَهُ فَأَكَلَهُ بِالْخُبْزِ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَشْرَبْهُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ الْمَاءَ يَوْمَهُ هَذَا فَأَكَلَ خُبْزًا مَبْلُولاً بِالْمَاءِ لَمْ يَحْنَثْ وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ سَمْنًا، وَلاَ زَيْتًا فَأَكَلَ خُبْزًا مَعْجُونًا بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ زَيْتًا، وَلاَ سَمْنًا. وَلَوْ حَنِثَ فِي هَذَا لَحَنِثَ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْرَبَ يَوْمَهُ هَذَا مَاءً فَأَكَلَ خُبْزًا، لأََنَّهُ بِالْمَاءِ عُجِنَ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَكْلِ طَعَامٍ طُبِخَ بِهِمَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ فِيهِ لَمْ يَزُلْ الأَسْمُ عَنْهُمَا فَيَحْنَثُ حِينَئِذٍ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ مِلْحًا فَأَكَلَ

(8/63)


من حلف ألا يبيع هذا الشيء بدينار فباعه بدينار غير فلس فأكثر أو بدينار وفلس فصاعدا لم يحنث
...
1170 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبِيعَ هَذَا الشَّيْءَ بِدِينَارٍ فَبَاعَهُ بِدِينَارٍ غَيْرَ فَلْسٍ فَأَكْثَرَ، أَوْ بِدِينَارٍ وَفَلْسٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لاَ يُسَمَّى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَائِعًا لَهُ بِدِينَارٍ.

(8/64)


من حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإن قضاه حقه أول ليلة من الشهر أو أول يوم منه مالم تغرب الشمس لم يحنث
...
1171 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ حَقَّهُ رَأْسَ الْهِلاَلِ فَإِنَّهُ إنْ قَضَاهُ حَقَّهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْهُ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّ هَذَا هُوَ رَأْسُ الْهِلاَلِ فِي اللُّغَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ فِي اللَّيْلَةِ أَوْ الْيَوْمِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَائِهِ ذَاكِرًا حَنِثَ.

(8/64)


من حلف أن لا يشتري أمر كذا أو لا يزوج وليته أو أن يضرب عبده إلخ فأمر من فعل له ذلك كله ففيه تفصيل
...
1172 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ أَمْرَ كَذَا، أَوْ لاَ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ، أَوْ أَنْ لاَ يَضْرِبَ عَبْدَهُ، أَوْ أَنْ لاَ يَبْنِيَ دَارِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ،
فَأَمَرَ مَنْ فَعَلَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، وَالْبِنَاءَ، وَالضَّرْبَ، أَوْ فِعْلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، لأََنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ حَنِثَ بِأَمْرِهِ مَنْ يَفْعَلُهُ، لأََنَّهُ هَكَذَا يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْخَبَرُ، عَنْ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا، وَلاَ يَحْنَثُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ بِالزَّوَاجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لأََنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ فَإِذَا لَمْ يُزَوِّجْهَا وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَلَمْ يُزَوِّجْهَا هُوَ.

(8/64)


من حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا أو صدفة أو أجره أو بيع عليه في حق لم يحنث
...
1173 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَبِيعَ عَبْدَهُ فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، أَوْ أَصْدَقَهُ، أَوْ أَجَرَهُ، أَوْ بِيعَ عَلَيْهِ فِي حَقٍّ لَمْ يَحْنَثْ،
لأََنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا بَيْعًا. وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ حَرَامٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وَلاَ شَكَّ عِنْدَ مَنْ دِمَاغُهُ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْحَرَامَ غَيْرُ الْحَلاَلِ، فَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، عَنْ مَوْضِعَيْهِمَا، فَإِنْ تَفَرَّقَا وَهُوَ مُخْتَارٌ ذَاكِرٌ: حَنِثَ حِينَئِذٍ، لأََنَّهُ حِينَئِذٍ بَاعَ، لِمَا نَذْكُرُ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(8/64)


1174 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ الْيَوْمَ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ فِي صَلاَةٍ، أَوْ غَيْرِ صَلاَةٍ، أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ،
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ " وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَر}َ .
فَصَحَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَأَنَّ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ سَيَصْلَى سَقَرَ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا اسْمُ كَلاَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/64)


كفارات الأيمان
من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وحبت عليه الكفارة وهذا لا خلاف فيه
...
كَفَّارَاتُ الأَيْمَانِ
1175 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ حَنِثَ بِمُخَالَفَةِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ
لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ.

(8/65)


1176 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ أَنْ يَحْنَثَ
أَيَّ الْكَفَّارَاتِ لَزِمَتْهُ: مِنْ الْعِتْقِ، أَوْ الْكِسْوَةِ، أَوْ الإِطْعَامِ، أَوْ الصِّيَامِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وقال أبو حنيفة، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الْحِنْثِ. وقال الشافعي: أَمَّا الْعِتْقُ، أَوْ الْكِسْوَةُ، أَوْ الإِطْعَامُ، فَيُجْزِئُتَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ بَعْدَ الْحِنْثِ. وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّينَ: أَنَّ الْعِتْقَ، وَالْكِسْوَةَ، وَالإِطْعَامَ: مِنْ فَرَائِضِ الأَمْوَالِ، وَالأَمْوَالُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَحُقُوقُ النَّاسِ جَائِزٌ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ آجَالِهَا وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمِنْ فَرَائِضِ الأَبَدَانِ، وَفَرَائِضُ الأَبَدَانِ لاَ يُجْزِئُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ أَوْقَاتِهَا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ أَمْوَالِ النَّاسِ إنَّمَا تَجِبُ بِرِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَعًا، لاَ بِرِضَا أَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ، وَأَنَّ هَذَا إنَّمَا يَجِبُ أَيْضًا فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلإِنْسَانِ بِعَيْنِهِ فَتَرَاضَى هُوَ وَغَرِيمُهُ عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ إسْقَاطِهِ أَوْ إسْقَاطِ بَعْضِهِ. وَأَمَّا كُلُّ مَا لَيْسَ لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَقْتُهُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ، وَلَيْسَ هَهُنَا مَالِكٌ بِعَيْنِهِ يَصِحُّ رِضَاهُ فِي تَقْدِيمِهِ، لاَ فِي تَأْخِيرِهِ، وَلاَ فِي إسْقَاطِهِ، وَلاَ فِي إسْقَاطِ بَعْضِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ فِيهِ إِلاَّ مَا حُدَّ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: إنَّ حُقُوقَ النَّاسِ يَجُوزُ فِيهَا التَّأْخِيرُ وَالإِسْقَاطُ، فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَاتِ الإِسْقَاطُ، أَوْ التَّأْخِيرُ إلَى أَجَلٍ أَوْ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَصَابُوا هَهُنَا فَقَدْ تَنَاقَضُوا جِدًّا لأََنَّهُمْ أَجَازُوا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ إثْرَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ. وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ إثْرَ كَسْبِ الْمَالِ لَكِنْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلاَ أَجَازُوا تَقْدِيمَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إثْرَ ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَكِنْ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ فَأَقَلَّ فَقَطْ. وَلَمْ يُجِيزُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَصْلاً، وَلاَ بِسَاعَةٍ قَبْلَ مَا يُوجِبُهَا عِنْدَهُمْ مِنْ إرَادَةِ الْوَطْءِ، وَلاَ أَجَازُوا تَقْدِيمَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ قَبْلَ مَا يُوجِبُهَا مِنْ مَوْتِ الْمَقْتُولِ، وَلاَ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلاَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ قَتْلِهِ. وَأَجَازُوا إذْنَ الْوَرَثَةِ لِلْمُوصِي فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لَهُمْ الْمَالُ بِمَوْتِهِ، فَظَهَرَ تَنَاقُضُ أَقْوَالِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَتَنَاقَضُوا أَقْبَحَ تَنَاقُضٍ، لأََنَّهُمْ أَجَازُوا تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ

(8/65)


بِثَلاَثَةِ أَعْوَامٍ، وَتَقْدِيمَ زَكَاةِ الزَّرْعِ إثْرَ زَرْعِهِ فِي الأَرْضِ، وَأَجَازُوا تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ جِرَاحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ. وَتَقْدِيمَ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ. وَلَمْ يُجِيزُوا لِلْوَرَثَةِ الإِذْنَ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمَالِ لَهُمْ بِالْمَوْتِ، وَلاَ أَجَازُوا إسْقَاطَ الشَّفِيعِ حَقَّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عَرْضِ شَرِيكِهِ أَخْذَ الشِّقْصِ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِ أَخْذِهِ لَهُ بِالْبَيْعِ; فَظَهَرَ تَخْلِيطُهُمْ وَسُخْفُ أَقْوَالِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَعُوذُ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ الأَسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْيَمِينِ، وَلاَ قَضَاءَ دَيْنٍ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَلاَ صَلاَةَ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا، وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا الْمَانِعِينَ مِنْ تَقْدِيمِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ وَقْتٌ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْكَفَّارَةُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِالْحِنْثِ، وَهِيَ فَرْضٌ بَعْدَ الْحِنْثِ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ، فَتَقْدِيمُهَا قَبْلَ أَنْ تَجِبَ تَطَوُّعٌ لاَ فَرْضٌ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُجْزِئَ التَّطَوُّعُ، عَنِ الْفَرْضِ. وَقَالُوا: قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وَالدَّلاَئِلُ هَهُنَا تَكْثُرُ جِدًّا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صِحَاحٌ; وَنَحْنُ مُوَافِقُونَ لَهُمْ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ قَبْلَ وَقْتِهِ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَجَائِزٌ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، لَكِنْ بَعْدَ إرَادَةِ الْحِنْثِ، وَلاَ بُدَّ. وَالثَّانِي: إسْقَاطُ الشَّفِيعِ حَقَّهُ بَعْدَ عَرْضِ الشَّفِيعِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَتْرُكَ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِسْقَاطُهُ حَقَّهُ حِينَئِذٍ لاَزِمٌ لَهُ فَقَطْ. وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْمُخْرِجَةِ لِهَذَيْنِ الشَّرْعَيْنِ، عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الشَّرِيعَةِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، وَلاَ يَجُوزُ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ وَافَقَنَا هَهُنَا فِي تَصْحِيحِ قَوْلِنَا بِأَنْ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} . قَالَ: فَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِ الْيَمِينِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَنَا فِي هَذَا، لأََنَّهُ قَدْ جَاءَ النَّصُّ وَالإِجْمَاعُ الْمُتَيَقِّنُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْنَثْ فَلاَ كَفَّارَةَ تَلْزَمُهُ.فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي الآيَةِ حَذْفًا بِلاَ خِلاَفٍ وَأَنَّهُ: فَأَرَدْتُمْ الْحِنْثَ، أَوْ حَنِثْتُمْ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى مِنْهُمْ فِي أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ " فَأَرَدْتُمْ الْحِنْثَ " لاَ يُقْبَلُ إِلاَّ بِبُرْهَانٍ، فَوَجَبَ طَلَبُ الْبُرْهَانِ فِي ذَلِكَ: فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْت الْحَسَنَ هُوَ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَمُرَةَ

(8/66)


قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر "ٌ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ يُحَدِّثُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ ".
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، لأََنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ تَقْدِيمَ الْحِنْثِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَمُرَةَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحِنْثِ وَالْكَفَّارَةِ بِوَاوِ الْعَطْفِ الَّتِي لاَ تُعْطِي رُتْبَةً هَكَذَا جَاءَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ تَحِلُّ مُخَالَفَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ الْحَذْفَ الَّذِي فِي الآيَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا أَرَدْتُمْ الْحِنْثَ أَوْ حَنِثْتُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَيِّنُ، عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَلْيُكَفِّرْ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " هُوَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قلنا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لأَدَمَ} . قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: وَلَفْظَةُ " ثُمَّ " فِي هَذِهِ الآيَاتِ لاَ تُوجِبُ تَعْقِيبًا، بَلْ هِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ مَا عَطَفَ اللَّفْظَ عَلَيْهِ " بِثُمَّ ".
قال أبو محمد: لَيْسَ كَمَا ظَنُّوا: أَمَّا قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّ نَصَّ الآيَاتِ هُوَ قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ الْخَيْرِ فَصَحَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَظِيمُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي قَبُولِهِ كُلَّ عَمَلِ بِرٍّ عَمِلُوهُ فِي كُفْرِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَالآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى سَائِرِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَبُولِهِ تَعَالَى أَعْمَالَ مَنْ آمَنَ ثُمَّ عَمِلَ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَمَّا قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لأََنَّ

(8/67)


أَوَّلَ الآيَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ، عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا، وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} وَقَالَ تَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} . فَصَحَّ أَنَّ الصِّرَاطَ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ وَأَتَانَا بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ صِرَاطُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ مُوسَى بِلاَ شَكٍّ ثُمَّ آتَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى الْكِتَابَ، فَهَذَا تَعْقِيبٌ بِمُهْلَةٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. فأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قلنا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لأَدَمَ} فَعَلَى ظَاهِرِهِ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَنْفُسَنَا وَصَوَّرَهَا، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَهْدَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةَ لأَدَمَ عليه السلام، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الآيَاتِ ثُمَّ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ، عَنْ ظَاهِرِهَا، أَوْ كَانَتْ " ثُمَّ " لِغَيْرِ التَّعْقِيبِ فِيهَا لَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ " ثُمَّ " لِغَيْرِ التَّعْقِيبِ حَيْثُمَا وُجِدَتْ، لأََنَّ مَا خَرَجَ، عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ بِدَلِيلٍ فِي مَوْضِعٍ مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ وَهَذَا مِنْ تَمْوِيهِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلاَّ فِي تَحْيِيرِ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ النَّظَرَ فِي أَوَّلِ مَا يَفْجَئُونَهُ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ مَخْلَدٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ كَانَا يُكَفِّرَانِ قَبْلَ الْحِنْثِ. وبه إلى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ دَعَا غُلاَمًا لَهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ حَنِثَ، فَصَنَعَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ.
وبه إلى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ: كَانَ يُكَفِّرُ قَبْلَ الْحِنْثِ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَسُفْيَانَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ. وَلاَ يُعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلاَّ أَنَّ مُمَوِّهًا مَوَّهَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ هُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُكَفِّرُ حَتَّى يَحْنَثَ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ ابْنَ أَبِي يَحْيَى مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لِمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُجِزْ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ، إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْحِنْثِ فَقَطْ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا.

(8/68)


من حلف ألا يعتق عبده هذا فأعتقه ينوي بعتقه ذلك كفارة تلك اليمين لم يجزه
...
1177 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يُعْتِقَ عَبْدَهُ هَذَا، فَأَعْتَقَهُ يَنْوِي بِعِتْقِهِ ذَلِكَ كَفَّارَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ لَمْ يُجْزِهِ.
وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةِ الْمَسَاكِينِ

(8/68)


فَأَطْعَمَهُمْ يَنْوِي بِذَلِكَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ، لَكِنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَصُومَ فِي هَذِهِ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَ مِنْهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَنْوِي بِهَا كَفَّارَةَ يَمِينِهِ تِلْكَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ بِالصِّيَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِأَنْ يَصُومَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لأََنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ بِلاَ شَكٍّ إسْقَاطُ الْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ قَدْ وَجَبَ بِالْعِتْقِ، وَالإِطْعَامِ، وَالْكِسْوَةِ، فَلاَ يَحْنَثُ بَعْدُ فِي يَمِينٍ قَدْ حَنِثَ فِيهَا، وَالْكَفَّارَةُ لاَ تَكُونُ الْحِنْثَ بِلاَ شَكٍّ، بَلْ هِيَ الْمُبْطِلَةُ لَهُ، وَالْحَقُّ لاَ يُبْطِلُ نَفْسَهُ.

(8/69)


بيان صفة الكفارة
...
1178 - مَسْأَلَةٌ - وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ:
هِيَ أَنَّ مَنْ حَنِثَ، أَوْ أَرَادَ الْحِنْثَ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ بَعْدُ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ: وَهُوَ إمَّا أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، وَأَمَّا أَنْ يَكْسُوَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، وَأَمَّا أَنْ يُطْعِمَهُمْ: أَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ فَرْضٌ، وَيَجْزِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: فَفَرْضُهُ صِيَامَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَلاَ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِتْقِ، أَوْ الْكِسْوَةِ، أَوْ الإِطْعَامِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . وَمَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَلاَ نُبْعِدُهُ، لأََنَّ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أَنَّ هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، لاَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي كَفَّارَةِ الأَيْمَانِ أَيْضًا: إنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ.

(8/69)


لا يجزي من وجبت عليه الكفارة بدل ما ذكر صدقة ولا قيمة
...
1179 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِيهِ بَدَلَ مَا ذَكَرْنَا صَدَقَةٌ، وَلاَ هَدْيٌ، وَلاَ قِيمَةٌ، وَلاَ شَيْءٌ سِوَاهُ أَصْلاً،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، فَمَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ قِيمَةً فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .

(8/69)


1180 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَنِثَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الإِطْعَامِ، أَوْ الْكِسْوَةِ، أَوْ الْعِتْقِ، ثُمَّ افْتَقَرَ فَعَجَزَ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ: لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ أَصْلاً،
لأََنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِينَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقِينًا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ، لَكِنْ يُمْهَلُ حَتَّى يَجِدَ أَوْ لاَ يَجِدَ، فَاَللَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ حِسَابِهِ; وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْنَثْ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ وُجُوبُ كَفَّارَةٍ بَعْدُ إِلاَّ أَنْ يُعَجِّلَهَا فَتُجْزِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/69)


من حنث وهو عاجز عن كل ذلك ففرضه الصوم قدر عليه أو لم يقدر
...
1181 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَنِثَ وَهُوَ عَاجِزٌ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ: فَفَرْضُهُ الصَّوْمُ قَدَرَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ،
مَتَى قَدَرَ فَلاَ يُجْزِيهِ إِلاَّ الصَّوْمُ، فَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدَرَ عَلَى الْعِتْقِ،

(8/69)


يجزي العتق في كل ذلك الكافر والمؤمن والصغير والكبير والمعيب والسالم إلخ
...
1182 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ فِي الْعِتْقِ فِي كُلِّ ذَلِكَ: الْكَافِرُ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْمَعِيبُ، وَالسَّالِمُ، وَالذَّكَرُ، وَالأُُنْثَى، وَوَلَدُ الزِّنَى، وَالْمُخْدِمُ، وَالْمُؤَاجِرُ، وَالْمَرْهُونُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمَنْذُورُ عِتْقُهُ، وَالْمُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ، وَالْمُكَاتَبُ مَا لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يُجْزِ فِي ذَلِكَ،
وَلاَ يُجْزِئُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى الْمَرْءِ بِحُكْمٍ وَاجِبٍ، وَلاَ نِصْفَا رَقَبَتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ ذَلِكَ فِي " كِتَابِ الصِّيَامِ " فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ.
وَعُمْدَةُ الْبُرْهَانِ فِي ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . فَلَمْ يَخُصَّ رَقَبَةً مِنْ رَقَبَةٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا الرَّقَبَةَ فِي هَذَا عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ مُؤْمِنَةٌ قلنا: فَقِيسُوهَا عَلَيْهَا فِي تَعْوِيضِ الإِطْعَامِ مِنْهَا. فَإِنْ قَالُوا: لاَ نَفْعَلُ، لأََنَّنَا نُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَنَزِيدُ عَلَى مَا فِيهِ قلنا: وَزِيَادَتُكُمْ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَلاَ بُدَّ خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ وَزِيَادَةٌ عَلَى مَا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ جَائِزًا فَهُوَ فِي الآخَرِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ جَائِزٍ فَهُوَ فِي الآخَرِ غَيْرُ جَائِزٍ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ: إنَّ الْقَائِلَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ لَطَمَ وَجْهَ جَارِيَةٍ لَهُ وَعَلَيَّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عليه السلام:" أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ " لأََنَّهَا بِنَصِّ الْخَبَرِ لَمْ تَكُنْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَلاَ وَطْءٍ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ عَنْ ظِهَارٍ.وَهُمْ يُجِيزُونَ الْكَافِرَةَ فِي الرَّقَبَةِ الْمَنْذُورَةِ عَلَى الإِنْسَانِ، فَقَدْ خَالَفُوا مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَاحْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: لاَ تُجْزِئُ إِلاَّ مُؤْمِنَةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ عِتْقَ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَجُوزَ عِتْقُ الْكَافِرَةِ، فَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ مِنْ عِتْقِهَا. فإن قيل: قَدْ رَوَيْتُمْ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ الشَّرِيدَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّيَ أَمَرَتْنِي أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً، وَعِنْدِي أَمَةٌ سَوْدَاءُ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اُدْعُ بِهَا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا

(8/71)


لا يجزي اطعام مسكين واحد وما دون العشرة يردد عليهم
...
1183- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُرْدَدُ عَلَيْهِمْ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، وَهُنَا خِلاَفُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وقال أبو حنيفة يَجُوزُ وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَخَالَفَهُ الشَّعْبِيُّ، وَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ مِثْلُ مَا يُطْعِمُ الإِنْسَانُ أَهْلَهُ، فَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ الدَّقِيقَ، فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الدَّقِيقَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ

(8/72)


الْحَبَّ فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الْحَبَّ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِي أَهْلَهُ الْخُبْزَ، فَلْيُعْطِ الْمَسَاكِينَ الْخُبْزَ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَ أَهْلَهُ فَمِنْهُ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ أَصْلاً، لأََنَّهُ خِلاَفُ نَصِّ الْقُرْآنِ وَيُعْطِي مِنْ الصِّفَةِ، وَالْمَكِيلِ الْوَسَطِ لاَ الأَعْلَى، وَلاَ الأَدْنَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعُ تَمْرٍ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَالَ: أَوْ أَكْلَةٌ مَأْدُومَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَكُّوكُ حِنْطَةٍ، وَمَكُّوكُ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَالْمَكُّوكُ نِصْفُ صَاعٍ. قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَهُمْ أَكْلَةً خُبْزًا، وَلَحْمًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَخُبْزًا وَسَمْنًا وَلَبَنًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَخُبْزًا وَخَلًّا وَزَيْتًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ قَتَادَةَ أَيْضًا: مَكُّوكُ تَمْرٍ، وَمَكُّوكُ حِنْطَةٍ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مُدُّ بُرٍّ، وَمُدُّ تَمْرٍ هَذَا كُلُّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: عَشْرَةُ أَمْدَادٍ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَمُدَّانِ لِلْحَطَبِ، وَالإِدَامِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ: يَجْمَعُهُمْ فَيُشْبِعُهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: مُدُّ تَمْرٍ وَمُدُّ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدُّ حِنْطَةٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ صَحِيحٌ مِثْلُهُ أَيْضًا. وَعَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ إنْ كَانَ خُبْزًا يَابِسًا: فَعَشَاءٌ وَغَدَاءٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ يُغَدِّيهِمْ، وَيُعَشِّيهِمْ: خُبْزًا، وَزَيْتًا، وَسَمْنًا، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُمَا. وَعَنِ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: غَدَاءٌ، وَعَشَاءٌ.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا: بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُحَيَّاةِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنْ كَانَ خُبْزًا يَابِسًا فَغَدَاءٌ وَعَشَاءٌ " وَهَذَا مُرْسَلٌ وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ. وقال أبو حنيفة: نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، وَمِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَسَوِيقِهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَمِنْ دَقِيقِ الشَّعِيرِ وَسَوِيقِهِ صَاعٌ، فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ: فَغَدَاءٌ، وَعَشَاءٌ أَوْ غَدَاءٌ، وَغَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ وَعَشَاءٌ أَوْ سَحُورٌ وَغَدَاءٌ أَوْ سَحُورٌ وَعَشَاءٌ. وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: دَقِيقٌ، وَلاَ سَوِيقٌ.
قال أبو محمد: هَذِهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ لاَ حُجَّةَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى لِلْمُحْرِمِ نِصْفَ صَاعٍ بَيْنَ سِتَّةِ

(8/73)


مَسَاكِينَ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لأََنَّ نَصَّ ذَلِكَ الْخَبَرِ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُعْطُوا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ ". وَهَذَا خَبَرٌ سَاقِطٌ، لأََنَّ زِيَادَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ضَعِيفٌ، وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ وَقَدْ يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ خِلاَفًا لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ نِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ أَلْبَتَّةَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ الضَّرِيرُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قَالَ: الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالسَّمْنُ وَمِنْ أَعْلَى مَا يُطْعِمُهُمْ: الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ كَفَّرَ، عَنْ يَمِينٍ فَعَجَنَ فَأَطْعَمَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ يُقَوِّتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا وَسَطًا، فَقِيلَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِّينَا نَحْوَ هَذَا، عَنْ شُرَيْحٍ، وَالأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَنْ حَدَّ كَيْلاً مَا، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ إطْعَامِ الْخُبْزِ، وَالدَّقِيقِ، وَمَنْ أَوْجَبَ أَكْلَتَيْنِ، فَأَقْوَالٌ لاَ حُجَّةَ لَهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(8/74)


1184 - مَسْأَلَةٌ - وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كِسْوَةٍ:
قَمِيصٌ، أَوْ سَرَاوِيلُ، أَوْ مُقَنِّعٌ، أَوْ قَلَنْسُوَةٌ، أَوْ رِدَاءٌ، أَوْ عِمَامَةٌ، أَوْ بُرْنُسٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى كِسْوَةً دُونَ كِسْوَةٍ لَبَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ. وَرُوِّينَا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ، عَنِ الْكِسْوَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ وَفْدًا دَخَلُوا عَلَى أَمِيرِهِمْ فَكَسَا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَلَنْسُوَةً، قَالَ النَّاسُ: إنَّهُ قَدْ كَسَاهُمْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ التَّنُّورِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ: وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: لاَ تُجْزِي إِلاَّ مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلاَةُ وَهَذَا لاَ وَجْهَ لَهُ، لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَاخْتَلَفَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّرَاوِيلِ وَحْدَهَا، وَلاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ عِمَامَةٌ فَقَطْ،

(8/74)


وَقَالُوا: لَوْ أَنَّ إنْسَانًا لَمْ يَلْبَسْ إِلاَّ عِمَامَةً فَقَطْ، لَقَالَ النَّاسُ: هَذَا عُرْيَانُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَنَا: اُكْسُوهُمْ مَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بِهِ اسْمُ عُرْيَانَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَلَوْ أَنَّ امْرَءأً لَبِسَ قَمِيصًا، وَسَرَاوِيلَ فِي الشِّتَاءِ لَقَالَ النَّاسُ: هَذَا عُرْيَانُ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذْ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُجْزِئُ الْعِمَامَةُ وَهِيَ كِسْوَةٌ ثُمَّ يَقُولُ: لَوْ كَسَاهُمْ ثَوْبًا وَاحِدًا يُسَاوِي عَشْرَةَ أَثْوَابٍ، أَوْ أَعْطَاهُمْ بَغْلَةً، أَوْ حِمَارَةً تُسَاوِي عَشْرَةَ أَثْوَابٍ أَجْزَأَهُ: ثُمَّ تَدَبَّرْنَا هَذَا: فَرَأَيْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْكِسْوَةَ عَلَى الإِطْلاَقِ مُنَافِيَةٌ لِلْعُرْيِ، إذْ مُمْتَنَعٌ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ كَاسِيًا عَارِيًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ يَكُونُ كَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ كَاسِيًا، وَبَعْضُهُ عَارِيًّا أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ تَعُمُّهُ، وَلاَ تَسْتُرُ بَشَرَتَهُ كَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:" نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ " فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ الْكِسْوَةَ لاَ يَكُونُ مَعَهَا عُرْيٌ إذَا كَانَتْ عَلَى الإِطْلاَقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَطْلَقَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهَا بِإِضَافَةٍ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ سَابِغَةٌ إِلاَّ أَنَّ رَأْسَهُ عَارٍ أَوْ ظَهْرَهُ أَوْ عَوْرَتَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُسَمَّى كَاسِيًا، وَلاَ مُكْتَسِيًا إِلاَّ بِإِضَافَةٍ، فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنْ لاَ تَكُونَ الْكِسْوَةُ إِلاَّ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْجِسْمِ، سَاتِرَةً لَهُ، عَنِ الْعُيُونِ، مَانِعَةً مِنْ الْبَرْدِ، لأََنَّهُ بِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي " كَانُونَ الأَوَّلِ " مُغَطًّى بِرِدَاءِ قَصَبٍ فَقَطْ أَنَّهُ لاَ يُسَمِّيهِ أَحَدٌ كَاسِيًا، بَلْ هُوَ عُرْيَانُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/75)


تجزي كسوة أهل الذمة واطعامهم إذا كانوا مساكين بخلاف الزكاة
...
1185 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ كِسْوَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِطْعَامُهُمْ إذَا كَانُوا مَسَاكِينَ، بِخِلاَفِ الزَّكَاةِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ هَهُنَا نَصٌّ بِتَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ فِي الزَّكَاةِ: أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.

(8/75)


يجزي الصوم للثلاثة الأيام متفرقة إن شاء
...
1186 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْزِئُ الصَّوْمُ لِلثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ مُتَفَرِّقَةٍ إنْ شَاءَ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وقال أبو حنيفة: لاَ تُجْزِي إِلاَّ مُتَتَابِعَةً وَاحْتَجُّوا بِقِيَاسِهَا عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَقَالُوا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ ".
قال أبو محمد: مِنْ الْعَجَائِبِ أَنْ يَقِيسَ الْمَالِكِيُّونَ: الرَّقَبَةَ فِي أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَلاَ يَقِيسُهَا الْحَنَفِيُّونَ عَلَيْهَا، وَيَقِيسُ الْحَنَفِيُّونَ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي وُجُوبِ كَوْنِهِ مُتَتَابِعًا عَلَى صَوْمِ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَإِ، وَالظِّهَارِ، وَلاَ يَقِيسُهُ الْمَالِكِيُّونَ عَلَيْهِ، فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْمَقَايِيسِ الْمُتَخَاذِلَةِ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي الدِّينِ مُجَازَفَةً وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهِيَ مِنْ شَرْقِ الأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ لَيْسَ فِيهَا مَا ذَكَرُوا ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ أَنْ يَزِيدُوا

(8/75)


1187 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ، عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ مَا يُطْعِمُ مِنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ أَصْلاً،
لأََنَّهُ وَاجِدٌ، وَلاَ يُجْزِئُ الْوَاجِدُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ مَا وَجَدَ، وَلاَ يُجْزِئُ الصَّوْمُ إِلاَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ. وَالْعَبْدُ، وَالْحُرُّ، فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَمَنْ حَدَّ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا مِنْ قُوتِ جُمُعَةٍ، أَوْ أَشْهُرٍ، أَوْ سَنَةٍ; كُلِّفَ الدَّلِيلَ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ.

(8/76)


لا يجزي اطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم
...
1188 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ وَكِسْوَةُ بَعْضِهِمْ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وقال أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ: يُجْزِئُ وَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ.

(8/76)


1189 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى إثْمٍ فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ وَيُكَفِّرَ،
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا لَيْسَ إثْمًا فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ، عَنْ يَمِينِهِ.
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا احْتِجَاجًا صَحِيحًا لَوْلاَ مَا رُوِّينَاهُ فِي " كِتَابِ الصَّلاَةِ فِي بَابِ الْوَتْرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ ذَكَرَ لَهُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ وَقَالَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَالزَّكَاةِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ عليه السلام: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ . وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِ التَّطَوُّعِ وَخَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ عليه السلام يَمِينَهُ تِلْكَ، وَلاَ أَمْرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، بَلْ حَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ. فَصَحَّ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ نَدْبٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/76)


كتاب القرض وهو الدين
القرض فعل خير وبيان تعريفه
...
كِتَابُ الْقَرْضِ وَهُوَ الدَّيْنُ
1190 - مَسْأَلَةٌ - الْقَرْضُ فِعْلُ خَيْرٍ،
وَهُوَ أَنْ تُعْطِيَ إنْسَانًا شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِك تَدْفَعُهُ إلَيْهِ لِيَرُدَّ عَلَيْك مِثْلَهُ إمَّا حَالًّا فِي ذِمَّتِهِ وَأَمَّا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

(8/77)


1191 - مَسْأَلَةٌ - وَالْقَرْضُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ وَتَمْلِيكُهُ بِهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا سَوَاءٌ جَازَ بَيْعَةُ أَوْ لَمْ يَجُزْ لأََنَّ الْقَرْضَ هُوَ غَيْرُ الْبَيْعِ،
لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، وَيَجُوزُ بِغَيْرِ نَوْعِ مَا بِعْت. وَلاَ يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ إِلاَّ رَدُّ مِثْلِ مَا اُقْتُرِضَ لاَ مِنْ سِوَى نَوْعِهِ أَصْلاً.

(8/77)


لا يحل أن يشترط رد أكثر مما أخذ ولا أقل
...
1192 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَشْتَرِطَ رَدًّا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ، وَلاَ أَقَلَّ،
وَهُوَ رِبًا مَفْسُوخٌ، وَلاَ يَحِلُّ اشْتِرَاطُ رَدِّ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ، وَلاَ أَدْنَى وَهُوَ رِبًا، وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ نَوْعٍ غَيْرِ النَّوْعِ الَّذِي أَخَذَ، وَلاَ اشْتِرَاطُ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَلاَ اشْتِرَاطُ ضَامِنٍ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ". وَلاَ خِلاَفَ فِي بُطْلاَنِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الْقَرْضِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّأْيِيدُ.

(8/77)


إن تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطي أكثر مما أخذ أو أجود أو أدنى فكل ذلك حسن مستحب
...
1193 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَطَوَّعَ عِنْدَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بِأَنْ يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ، أَوْ أَدْنَى مِمَّا أَخَذَ، فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ.
وَمُعْطِي أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَرَضَ وَأَجْوَدَ مِمَّا اقْتَرَضَ مَأْجُورٌ. وَاَلَّذِي يَقْبَلُ أَدْنَى مِمَّا أَعْطَى، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَى مَأْجُورٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ، مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَلاَ فَرْقَ: فَهُوَ حَسَنٌ مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَمُوسَى بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَلَّادٌ وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ خَلَّادٌ، وَوَكِيعٌ، قَالاَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كَانَ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي " وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِنًّا فَأَعْطَاهُ سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ وَقَالَ: "خِيَارُكُمْ مَحَاسِنُكُمْ قَضَاءً"وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ

(8/77)


1194 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ مَا اسْتَقْرَضَ لَمْ يَحِلَّ أَصْلاً لاَ بِشَرْطٍ، وَلاَ بِغَيْرِ شَرْطٍ
.مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ أَقْرَضَهُ ذَهَبًا فَيَرُدُّ عَلَيْهِ فِضَّةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَهُوَ إذَا رَدَّ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ، وَمَنْ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ كَأَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ قلنا: هَذَا حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ، لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا رِبًا مَحْضٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي " أَبْوَابِ الرِّبَا " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(8/79)


من استقرض شيئا فقد ملكه وله بيعه وهبته
...
1195 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا فَقَدْ مَلَكَهُ،
وَلَهُ بَيْعُهُ إنْ شَاءَ، وَهِبَتُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، كَسَائِرِ مِلْكِهِ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ وَبِهِ جَاءَتْ النُّصُوصُ.

(8/79)


1196 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا كَانَ لِلَّذِي أَقْرَضَ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَقْرَضَ مَتَى أَحَبَّ
إنْ شَاءَ إثْرَ إقْرَاضِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْظَرَهُ بِهِ إلَى انْقِضَاءِ حَيَاتِهِ. وقال مالك: لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ إيَّاهُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْتَفِعُ فِيهَا الْمُسْتَقْرِضُ بِمَا اسْتَقْرَضَ وَهَذَا خَطَأٌ، لأََنَّهُ دَعْوًى بِلاَ بُرْهَانٍ.وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَوْجَبَ هَاهُنَا أَجَلاً مَجْهُولَ الْمِقْدَارِ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ ثُمَّ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ لاَ يَحُدُّ مِقْدَارَهُ، فَأَيُّ دَلِيلٍ أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهُ يُوجِبُ فِيهِ مِقْدَارًا [ مَا] لاَ يَدْرِي هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ مَا هُوَ وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُ عليه السلام.

(8/79)


إن طالبه صاحب الدين بدينه والشيء المستقرض لم يجز أن يجبر المستقرض على شيء من ماله
...
1197 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ طَالَبَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِ وَالشَّيْءُ الْمُسْتَقْرَضُ حَاضِرٌ عِنْدَ

(8/79)


إن كان القرض إلى أجل ففرض عليهما أن يكتباه وأن يشهد عليه عدلين إلخ
...
1198 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ إلَى أَجَلٍ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِمَا أَنْ يَكْتُبَاهُ وَأَنْ يُشْهِدَا عَلَيْهِ عَدْلَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ، عُدُولاً فَصَاعِدًا.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سَفَرٍ وَلَمْ يَجِدَا كَاتِبًا فَإِنْ شَاءَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ أَنْ يَرْتَهِنَ بِهِ رَهْنًا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرْتَهِنَ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْحَالِّ لاَ فِي السَّفَرِ، وَلاَ فِي الْحَضَرِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: { وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ} : إلَى قوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَا ءِ} إلَى قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَه}ُ وَلَيْسَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ الطَّاعَةُ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَدْبٌ، فَقَدْ قَالَ: الْبَاطِلَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى فَاكْتُبُوهُ فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ أَكْتُبُ إنْ شِئْت. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا} فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ أُشْهِدُ، وَلاَ يَجُوزُ نَقْلُ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنِ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ بِضَرُورَةِ جَسٍّ. وَكُلُّ هَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَنَتَقَصَّى ذَلِكَ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(8/80)


من لقي غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا أو قد بلغ أجله فله مطالبته أو أخذه بحقه ويجبره الحاكم على انصافه
...
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَ التَّدَايُنُ بِالأَنْدَلُسِ، ثُمَّ لَقِيَهُ بِصِينِ الصِّينِ سَاكِنًا هُنَالِكَ، أَوْ كِلاَهُمَا، أَتَرَى حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ أَوْ يُكَلَّفُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ وَصَاحِبُ الْحَقِّ النُّهُوضَ إلَى الأَنْدَلُسِ لِيُنْصِفهُ هُنَالِكَ مِنْ مَدِينٍ. ثُمَّ لَوْ طَرَدُوا قَوْلَهُمْ لَلَزِمَهُمْ أَنْ لاَ يُجِيزُوا الإِنْصَافَ إِلاَّ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَا فِيهَا بِأَبْدَانِهِمَا حِينَ التَّدَايُنِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا، فَنَحْنُ نَزِيدُهُمْ مِنْ الأَرْضِ شِبْرًا شِبْرًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى أَقْصَى الْعَالَمِ. وَلَوْ حَقَّقَ كُلُّ ذِي قَوْلٍ قَوْلَهُ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ لاَ يَقُولَ فِي الدِّينِ إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةً; لَقَلَّ الْخَطَأُ، وَلَكَانَ أَسْلَمَ لِكُلِّ قَائِلٍ. وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ.

(8/71)


1200- مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يُجْبَرْ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى قَبُولِهِ أَصْلًا
وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ أَنْ يَتَعَجَّلَ قَبْضَ دَيْنِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى أَدَائِهِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، وَالطَّعَامُ كُلُّهُ، وَالْعَرُوضُ كُلُّهَا، وَالْحَيَوَانُ. فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى تَعْجِيلِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِهِ بَعْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، أَوْ بَعْضِهِ: جَازَ كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا . وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: إنْ كَانَ مِمَّا لَا مُؤْنَةَ فِي حَمْلِهِ وَنَقْلِهِ أُجْبِرَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ عَلَى قَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ مُؤْنَةٌ فِي حَمْلِهِ وَنَقْلِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ، لَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ لَا مُخَالِف لَهُ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا رَأْيٍ سَدِيدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ الأَُجَلِ قَدْ صَحَّ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَا صَحَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا هَذَا الشَّرْطَ الصَّحِيحَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ . وَأَجَازُوا الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي أَبْدَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، كَمَنْ اشْتَرَطَ لِامْرَأَتِهِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَكُلَّ سُرِّيَّةٍ يَتَّخِذُهَا عَلَيْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَأَنْ لَا يُرَحِّلَهَا عَنْ دَارِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا وَاحْتَجُّوا هَاهُنَا بِرِوَايَةِ مَكْذُوبَةٍ وَهِيَ " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " فَهَلَّا احْتَجُّوا بِهَا إذْ هِيَ عِنْدَهُمْ صَحِيحَةٌ فِي إنْفَاذِ شَرْطِ التَّأْجِيلِ الْمُسَمَّى بِالدَّيْنِ، فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الأُُمُورَ تَرَوْا الْعَجَبَ وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي هَذَا بِعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمَا فِي الْقَضَاءِ بِقَبُولِ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَجَلِهَا، وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا مِنْ وُجُوهٍ . أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ. وَعُثْمَانَ، فِي الْكِتَابَةِ خَاصَّةً، فَقَاسُوا عَلَيْهَا سَائِرَ الدُّيُونِ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الدُّيُونِ فِي جَوَازِ الْحَمَّالَة وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ، وَعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ أَنَسٍ فَلَمْ يَرَ تَعْجِيلَ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَجَلِهَا. وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فِي مُئِينَ مِنْ الْقَضَايَا، مِنْهَا إجْبَارُ عُمَرَ سَادَات

(8/81)


الْعَبِيدِ عَلَى كِتَابَتِهِمْ بِالضَّرْبِ إذَا طَلَبَ الْعَبِيدُ ذَلِكَ، وَغَيْرُ هَذَا كَثِيرٌ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي مَوْضِعٍ غَيْرَ حُجَّةٍ فِي آخَر. وَالْخَامِسُ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، لِأَنَّهُ جَاءَ عَنْهُمَا وَضْعُ الْكِتَابَةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ يُعْطِي السَّيِّدَ فِي كُلِّ نَجْمٍ حَقَّهُ; فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ" .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعَطَاءِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي نُهِينَا عَنِ السُّؤَالِ فِيهِ عَنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْوَاجِبِ السُّؤَالِ عَنْهَا وَطَلَبِهَا أَوْ الإِبْرَاءِ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إرَادَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ تَعْجِيلَ مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَجَلِهِ مَعَ إبَايَةِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ إرَادَةِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ تَعْجِيلَ مَا لَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ مَعَ إبَايَةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ ؟ إذْ أَوْجَبُوا الْوَاحِدَ وَمَنَعُوا الآخَرَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يُرِيدُ أَنْ يَبْرَأَ مِمَّا عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ: وَاَلَّذِي لَهُ الْحَقُّ يُرِيدُ أَنْ يُبْرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ يُرِيدُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إلَّا إلَى أَجَلِهِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ: وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ إلَّا إلَى أَجَلِهِ .

(8/82)


1201 - مَسْأَلَةٌ - وَالْقَرْضُ جَائِزٌ فِي الْجَوَارِي، وَالْعَبِيدِ، وَالدَّوَابِّ، وَالدُّورِ، وَالأَرْضِينَ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ فَلاَ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ فِي ذَلِكَ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ. وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ، وَأَصْحَابِنَا. وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي الْجَوَارِي خَاصَّةً، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ إجْمَاعٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ، لأََنَّهُ يَطَؤُهَا، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَيْهِ فَيَكُونُ فَرْجًا مُعَارًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: يَطَؤُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ، فَهُمْ يُوجِبُونَ هَذَا نَفْسَهُ فِي الَّتِي يَجِدُ بِهَا عَيْبًا فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا قلنا: كَذَبْتُمْ، قَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ: الْمَنْعُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْوَطْءِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ إجْمَاعٌ لَلَزِمَهُمْ لأََنَّهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ أَنْ يَقِيسُوا مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ اُتُّفِقَ عَلَيْهِ فَهَذَا أَصْلُهُمْ فِي الْقِيَاسِ، فَأَنَّى بَدَا لَهُمْ عَنْهُ ثم نقول لَهُمْ: فَإِذَا وَطِئَهَا ثُمَّ رَدَّهَا فَكَانَ مَاذَا وَطِئَهَا بِحَقٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} ثُمَّ إنْ رَدَّهَا رَدَّهَا بِحَقٍّ، لأََنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَانْتَقَلَتْ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ،

(8/82)


وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ فَرْجٌ مُعَارٌ: فَكَذِبٌ وَبَاطِلٌ، لأََنَّ الْعَارِيَّةَ لاَ يَزُولُ عَنْهَا مِلْكُ الْمُعِيرِ، فَحَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ وَطْؤُهَا، لأََنَّهُ مِلْكُ يَمِينِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُسْتَقْرَضَةُ فَهِيَ مِلْكُ يَمِينِ الْمُسْتَقْرِضِ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدّهَا، أَوْ يُمْسِكَهَا أَوْ يَرُدَّ غَيْرَهَا، وَلَيْسَتْ الْعَارِيَّةُ كَذَلِكَ. وَقَالُوا: هُوَ بِشِيَعِ شَنِيعٌ قلنا: لاَ شُنْعَةَ، وَلاَ بَشَاعَةَ فِي الْحَلاَلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَسْتَبْشِعُونَ مِثْلَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَبِيعُ جَارِيَةً مِنْ غَيْرِهِ فَيَطَؤُهَا، ثُمَّ يَبْتَاعهَا الَّذِي بَاعَهَا فَيَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةِ، ثُمَّ يَطَؤُهَا، ثُمَّ يَبْتَاعُهَا الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ وَهَكَذَا أَبَدًا. وَمِنْ أَنْ يَكُونَ إنْسَانٌ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَعْتَدُّ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا جَارُهُ فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَعْتَدُّ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا الأَوَّلُ فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَهَكَذَا أَبَدًا. فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا مَنَعُوا مِنْهُ مِنْ قَرْضِ الْجَوَارِي إنَّمَا الشَّنِيعُ الْبَشِيعُ الْفَظِيعُ مِمَّا يَقُولُونَهُ: مِنْ أَنَّ رِجَالاً تَكُونُ بَيْنَهُمْ أَمَةٌ يَطَؤُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلاَ يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ حَدًّا وَيُلْحِقُونَ الْوَلَدَ بِهَذَا الْوَطْءِ الْحَرَامِ الْخَبِيثِ. وَمِنْ أَنْ يَطَأَ الْوَالِدُ أُمَّ وَلَدِ ابْنِهِ فَلاَ يَرَوْنَ عَلَيْهِ حَدًّا وَيُلْحِقُونَ الْوَلَدَ فِي هَذَا الْوَطْءِ الْفَاحِشِ، لاَ سِيَّمَا الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: مَنْ عَشِقَ امْرَأَةَ جَارِهِ فَرَشَا شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا لَهُ بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، وَأَنَّهَا اعْتَدَّتْ، وَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ هَذَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَزَوْجُهَا مُنْكِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ، فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطَؤُهَا حَلاَلاً طَيِّبًا فَهَذِهِ هِيَ الشَّنَاعَةُ الْمُضَاهِيَةُ لِخِلاَفِ الإِسْلاَمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/83)


كل ما يمكن وزنه أو كيله أو زرعه لم يجز أن يقرض جزافا
...
1202 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ وَزْنُهُ أَوْ كَيْلُهُ أَوْ عَدَدُهُ أَوْ زَرْعُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْرَضَ جُزَافًا،
لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مِقْدَارَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدّهُ، فَيَكُونُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.

(8/83)


كل ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل أو الوزن فإن رده جزافا فكان ظاهرا متيقنا أنه أقل مم يفترض فرضي ذلك المقرض أو كان ظاهرا أكثر مما اقترض وطابت به نفسه جاز وهو حسن
...
1203 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا اُقْتُرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومَ الْعَدَدِ أَوْ الزَّرْعِ أَوْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، فَإِنْ رَدَّهُ جُزَافًا فَكَانَ ظَاهِرًا مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا اقْتَرَضَ فَرَضِيَ ذَلِكَ الْمُقْرِضُ، أَوْ كَانَ ظَاهِرًا مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا اقْتَرَضَ وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُقْتَرِضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ،
لِمَا قَدَّمْنَا. فَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَهُوَ مِثْلُ مَا اقْتَرَضَ أَمْ أَقَلُّ أَمْ أَكْثَرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ، لأََنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَالُ أَحَدٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَرِضَاهُ، وَلاَ يَكُونُ الرِّضَا وَطِيبُ النَّفْسِ إِلاَّ عَلَى مَعْلُومٍ، وَلاَ بُدَّ، عَلَى مَجْهُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/83)


لا يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبريه من الباقي فإن وقع رد صرف إلى الغريم ما أعطى
...
1204 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ الْبَاقِي، فَإِنْ وَقَعَ رَدٌّ وَصَرَفَ إلَى الْغَرِيمِ مَا أَعْطَى،
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " فَلَوْ عَجَّلَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ رَغِبَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ الْبَاقِيَ أَوْ بَعْضَهُ، فَأَجَابَهُ إلَى

(8/83)


من كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق في أن ينظره إلى أجل مسمى ففعل أو نظره كذلك بغير رغبة لم يلزمه شيء من ذلك
...
1205 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ حَالٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَحَلَّ فَرَغِبَ إلَيْهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي أَنْ يَنْظُرَهُ أَيْضًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَفَعَلَ،
أَوْ أَنْظَرَهُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ وَأَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَالدِّينُ حَالٌ يَأْخُذُهُ بِهِ مَتَى شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ زُفَرَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ الأَجَلَ وَجَعَلَهُ حَالًّا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَالدَّيْنُ إلَى أَجَلِهِ كَمَا كَانَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِهَا لأََنَّ الْعُقُودَ الْمَأْمُورَ بِالْوَفَاءِ بِهَا مَنْصُوصَةُ الأَسْمَاءِ فِي الْقُرْآنِ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ كُلَّ الْعُقُودِ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا كَمَنْ عَقَدَ: أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ أَنْ يَزْنِيَ. وَكُلُّ عَقْدٍ صَحَّ مُؤَجَّلاً بِالْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ الْبَتَّةُ إبْطَالُ التَّأْجِيلِ إِلاَّ بِنَصِّ آخَر. وَكُلُّ عَقْدٍ صَحَّ حَالًّا بِالْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ إبْطَالُ الْحُلُولِ إِلاَّ بِنَصِّ آخَر، وَلاَ سَبِيلَ إلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فإن قيل: قَدْ قُلْتُمْ: إنَّهُ إنْ عَجَّلَ لَهُ مَا عَلَيْهِ قَبْلَ الأَجَلِ إنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهُ لاَ رُجُوعَ فِيهِ قلنا نَعَمْ، لأََنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَقِّهِ وَصَيَّرَهُ إلَى غَيْرِهِ وَوَهَبَهُ، فَهَذَا جَائِزٌ، إذْ قَدْ أَمْضَاهُ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُمْضِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَعْدٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ إنْجَازُهُ فَرْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال مالك: يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ وقال أبو حنيفة: إنْ أَجَّلَهُ فِي قَرْضٍ لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَيَأْخُذُهُ حَالًّا، فَإِنْ أَجَّلَهُ فِي غَصْبٍ غَصَبَهُ إيَّاهُ أَوْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ مَا عَدَا الْقَرْضَ لَزِمَهُ التَّأْجِيلُ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ اسْتَهْلَكَ لَهُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ثُمَّ أَجَّلَهُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ لَهُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا فَأَجَّلَهُ فِي قِيمَتِهِمَا لَزِمَهُ التَّأْجِيلُ.
قال أبو محمد: فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَف مِنْ هَذِهِ الْفُرُوقِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ التَّأْجِيلَ فِي أَصْلِ الْقَرْضِ لاَ يَصِحُّ فَمَا زَادَ هَذَا الْمُحْتَجُّ عَلَى خِلاَفِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمَّى} قال أبو محمد: وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ مَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(8/84)


كل من مات وله ديون على الناس مؤجلة أو للناس عليه ديون مؤجلة فكل ذلك سوء وبطلت الآجال كلها وصارت الديون حالة كلها
...
1206 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ مُؤَجَّلَةٌ، أَوْ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ دُيُونٌ

(8/84)


1207 - مَسْأَلَةٌ - وَهَدِيَّةُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ إلَى الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَلاَلٌ وَكَذَلِكَ ضِيَافَتُهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ.
فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتُهُ يَوْمُهُ

(8/85)


وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ " وَكَانَ عليه السلام يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَقَالَ عليه السلام:" لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ ". رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا عُمُومٌ لَمْ يَخُصَّ عليه السلام مِنْ ذَلِكَ غَرِيمًا مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ، وَلاَ النُّزُولُ عِنْدَهُ، وَلاَ أَكْلُ طَعَامِهِ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا أَسْلَفْت رَجُلاً سَلَفًا فَلاَ تُقْبَلُ مِنْهُ هَدِيَّةٌ قِرَاعٍ، وَلاَ عَارِيَّةُ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَأَنَّهُ اسْتَفْتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: أَقْرَضْتُ سَمَّاكًا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَكَانَ يَبْعَثُ إلَيَّ مِنْ سَمَكِهِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَاسِبِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْلاً فَرُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَفَافًا فَقَاصِصْهُ. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَأَهْدَى لَك حَمَلَة مِنْ تِبْنٍ فَلاَ تَقْبَلْهَا فَإِنَّهَا رِبًا، اُرْدُدْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ أَوْ أَثِبْهُ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ لَهُ: أَقْرَضْت رَجُلاً فَأَهْدَى لِي هَدِيَّةً فَقَالَ: أَثِبْهُ أَوْ اُحْسُبْهَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ أَوْ اُرْدُدْهَا عَلَيْهِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُ هَذَا.
وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: هُوَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَصَحَّ النَّهْيُ عَنْ هَذَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا هَؤُلاَءِ الصِّحَابَةُ رضي الله عنهم فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ فِي مُئِينَ مِنْ الْقَضَايَا، وَقَدْ جَاءَ خِلاَفُهُمْ، عَنْ غَيْرِهِمْ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ، كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَسَلَّفَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَشَرَةَ آلاَفٍ فَبَعَثَ إلَيْهِ أُبَيٌّ مِنْ ثَمَرِهِ وَكَانَتْ تُبَكِّر، وَكَانَ مِنْ أَطْيَبِ ثَمَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ: أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: لاَ حَاجَةَ لِي بِمَا مَنَعَك طِيبَ ثَمَرَتِي، فَقِبَلهَا عُمَرُ، وَقَالَ: إنَّمَا الرِّبَا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ وَيُنْسِئَ. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَذَكَرَ نَهَى عَلْقَمَةَ، عَنْ أَكْلِ الْمَرْءِ عِنْدَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا كَانَ يَتَعَاطَيَانِهِ.
قال أبو محمد: قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئِ مَا نَوَى ". وَلَوْ كَانَتْ هَدِيَّةُ الْغَرِيمِ وَالضِّيَافَةُ مِنْهُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا لَمَا أَغْفَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} فَإِذَا لَمْ يَنْهَ تَعَالَى عَنْ

(8/86)


ذَلِكَ فَهُوَ حَلاَلٌ مَحْضٌ، وَإِلَّا مَا كَانَ، عَنْ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَكَانَ مَاذَا أَيْنَ وَجَدُوا النَّهْيَ، عَنْ سَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَلْيَعْلَمُوا الآنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ سَلَفٌ إِلاَّ وَهُوَ يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ انْتِفَاعُ الْمُسَلِّفِ بِتَضْمِينِ مَالِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا تَلِفَ أَوْ لَمْ يَتْلَفْ مَعَ شُكْرِ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ، وَانْتِفَاعِ الْمُسْتَقْرِضِ بِمَالِ غَيْرِهِ مُدَّةَ مَا، فَعَلَى قَوْلِهِمْ كُلُّ سَلَفٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَتَمَّ " كِتَابُ الْقَرْضِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ[ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.

(8/87)


كتاب الرهن
لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى إلخ
...
كِتَابُ الرَّهْنِ
1208 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ إِلاَّ فِي الْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ،
أَوْ فِي السَّلَمِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، أَوْ فِي الْقَرْضِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، مَعَ عَدَمِ الْكَاتِبِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الرَّهْنِ شَرْطٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ " وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَهَاهُنَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ حَيْثُ أَجَازَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لاَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا، أَوْ قَرْضًا. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ يَجُوزُ فِيهَا اشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ لِوُرُودِ النُّصُوصِ بِوُجُوبِهِ فِي السَّلَمِ، وَجَوَازُهُ فِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَلاَ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ أَصْلاً ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُعَامَلاَت سِوَى مَا ذَكَرْنَا نَصٌّ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِ التَّأْجِيلِ، فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلاَّ فِي السَّفَرِ. وَأَمَّا الْحَضَرُ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَهُ الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، [رضي الله عنها]، " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ دِرْعَهُ لَمَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَخَذَهَا طَعَامًا لأََهْلِهِ. فإن قيل: قَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ شَعِيرًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ

(8/87)


أَجَلٍ قلنا: وَلاَ فِيهِ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ، وَنَحْنُ لاَ نَمْنَعُ مِنْ الرَّهْنِ بِغَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ، لأََنَّهُ تَطَوُّعٌ مِنْ الرَّاهِنِ حِينَئِذٍ، وَالتَّطَوُّعُ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ حَسَنٌ. فَإِنْ ذُكِرَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ فِي بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ إلَى يَهُودِيٍّ لِيُسَلِّفهُ طَعَامًا لِضَيْفٍ نَزَلَ بِهِ فَأَبَى إِلاَّ بِرّهنَّ فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ. فَهَذَا خَبَرٌ انْفَرَدَ بِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدٍ الرَّبَذِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ.

(8/88)


1209 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الرَّهْنُ إِلاَّ مَقْبُوضًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّهْنَ عِنْدَ ثِقَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ: وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ يَجُوزُ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ قَبْضًا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ ثُمَّ اتَّفَقَ قَتَادَةَ، وَالْحَكَمُ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَلَيْسَ مَقْبُوضًا. قَالَ سُفْيَانُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُنَا. وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيُّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْهُ.
قال أبو محمد: إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ مَعَ ذِكْرِهِ الْمُتَدَايِنَيْنِ فِي السَّفَرِ إلَى أَجَلٍ عِنْدَ عَدَمِ الْكَاتِبِ وَإِنَّمَا أَقْبِض رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدِّرْعَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ فَهُوَ الْقَبْضُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا قَبْضُ غَيْرِ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَاشْتِرَاطُ أَنْ يَقْبِضَهُ فُلاَنٌ لاَ صَاحِبُ الدَّيْنِ: شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَاطِلٌ.

(8/88)


رهن المرء حصته من شيء مشاع مما ينقسم أولا ينقسم عند الشريك فيه وعند وغيره جائز
...
1210 - مَسْأَلَةٌ - وَرَهْنُ الْمَرْءِ حِصَّتَهُ مِنْ شَيْءٍ مُشَاعٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ لاَ يَنْقَسِمُ عِنْدَ الشَّرِيكِ فِيهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ جَائِزٌ،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى مَشَاعًا مِنْ مَقْسُومٍ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَسَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ. وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ: لاَ يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ لاَ عِنْدَ الشَّرِيكِ فِيهِ، وَلاَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَأَجَازُوا أَنْ يَرْهَنَ اثْنَانِ أَرْضًا مُشَاعَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ إنْسَانٍ وَاحِدٍ، وَمَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْهَنَ الْمَرْءُ أَرْضَهُ عِنْدَ اثْنَيْنِ دَايَنَهُمَا دَيْنًا وَاحِدًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيك بِهِ: أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُمْ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ تَنَاقَضُوا فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُشَاعِ جَائِزٌ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إجَازَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ إِلاَّ مِنْ الشَّرِيكِ فِيهِ وَحْدَهُ، فَأَجَازَهُ لَهُ. وَهَذِهِ تَخَالِيطُ وَمُنَاقَضَاتٌ لاَ خَفَاءَ بِهَا وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا

(8/88)


1211 - مَسْأَلَةٌ - وَصِفَةُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ:
هُوَ أَنْ يُطْلِقَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ نَقَلَهُ إلَى نَفْسِهِ وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُنْقَلُ كَالدُّورِ وَالأَرْضِينَ أُطْلِقَتْ يَدُهُ عَلَى ضَبْطِهِ، كَمَا يَفْعَلُ فِي الْبَيْعِ وَمَا كَانَ مُشَاعًا كَانَ قَبْضُهُ لَهُ كَقَبْضِ صَاحِبِهِ لِحِصَّتِهِ مِنْهُ مَعَ شَرِيكِهِ وَلاَ فَرْقَ وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ لاَ يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ لَكَانَ الشَّرِيكَانِ فِيهِ غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ وَلَوْ كَانَا غَيْرَ قَابِضَيْنِ لَهُ لَكَانَ مُهْمَلاً لاَ يَدَ لأََحَدِ عَلَيْهِ وَهَذَا أَمْرٌ يُكَذِّبُهُ الدَّيْنُ وَالْعِيَانُ: أَمَّا الدَّيْنُ: فَتَصَرُّفُهُمَا فِيهِ تَصَرُّفُ ذِي الْمِلْكِ فِي مِلْكِهِ وَأَمَّا الْعِيَانُ: فَكَوْنُهُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مُدَّةٌ يَتَّفِقَانِ فِيهَا، أَوْ عِنْدَ مَنْ يَتَّفِقَانِ عَلَى كَوْنِهِ عِنْدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(8/89)


1212 - مَسْأَلَةٌ - وَالرَّهْنُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَلاَ يَجُوزُ فِيمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ:
كَالْحُرِّ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالْكَلْبِ، وَالْمَاءِ، لأََنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ لِيَنْتَصِف إنْ مَطَلَ، وَلاَ يُمْكِنُ الأَنْتِصَافُ لِلْغَرِيمِ إِلاَّ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(8/89)


منافع الرهن كلها لا تحاش منها شيئا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن حاشا ركوب الدابة المرهونة وحاشا لبن الحيوانات المرهونة فإنه لصاحب الرهن
...
1213 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنَافِعُ الرَّهْنِ كُلُّهَا لاَ تَحَاشٍ مِنْهَا شَيْئًا لِصَاحِبِهِ الرَّاهِنِ لَهُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الرَّهْنِ، وَلاَ فَرْقَ حَاشَا رُكُوبِ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ، وَحَاشَا لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ، فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ
كَمَا ذَكَرْنَا إِلاَّ أَنْ يُضَيِّعَهُمَا فَلاَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا. وَيُنْفِقُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ: رُكُوبُ الدَّابَّةِ، وَلَبَنُ الْحَيَوَانِ، بِمَا أَنْفَقَ لاَ يُحَاسَبُ بِهِ مِنْ دَيْنِهِ كَثُرَ ذَلِكَ أَمْ قَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " وَحَكَمَ عليه السلام بِأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئِ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ وَمِلْكُ الشَّيْءِ الْمُرْتَهَن بَاقٍ لِرَاهِنِهِ بِيَقِينِ وَبِإِجْمَاعِ لاَ خِلاَفَ فِيهِ، فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ، فَحَقُّ الرَّهْنِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يُنْقَلُ مِلْكُ الرَّاهِنِ، عَنِ الشَّيْءِ الْمَرْهُونِ لاَ يُوجِبُ حُدُوثَ حُكْمٍ فِي مَنْعِهِ مَا لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ بِذَلِكَ، فَلَهُ الْوَطْءُ، وَالأَسْتِخْدَامُ، وَالْمُؤَاجَرَةُ، وَالْخِيَاطَةُ، وَأَكْلُ الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ، وَالْوَلَدُ الْحَادِثُ، وَالزَّرْعُ، وَالْعِمَارَةُ، وَالأَصْوَافُ الْحَادِثَةُ، وَالسُّكْنَى، وَسَائِرُ مَا لِلْمَرْءِ فِي مِلْكِهِ، إِلاَّ كَوْنَ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَطْ، بِحَقِّ الْقَبْضِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلاَ مَزِيدَ.
وَأَمَّا الرُّكُوبُ، وَالأَحْتِلاَبُ خَاصَّةً، لِمَنْ أَنْفَقَ عَلَى الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْلُوبِ فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ

(8/89)


إن مات الرهن أو تلف أو أبق أو فسد أو كانت أمة فحملت من سيدها أو أعتقها فكل ذلك نافذ وبطل الرهن وبقي الدين كله بحسبه
...
1214 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الرَّهْنُ، أَوْ تَلِفَ، أَوْ أَبِقَ، أَوْ فَسَدَ، أَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَحَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، أَوْ أَعْتَقَهَا، أَوْ بَاعَ الرَّهْنَ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ أَصْدَقَهُ:
فَكُلُّ ذَلِكَ نَافِذٌ، وَقَدْ بَطَلَ الرَّهْنُ وَبَقِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ بِحَسْبِهِ، وَلاَ يُكَلَّفُ الرَّاهِنُ عِوَضًا مَكَانَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ يُكَلَّفُ الْمُعْتَقُ، وَلاَ الْحَامِلُ اسْتِسْعَاءً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ لاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ أَيْنَ يُنْصِفُ غَرِيمَهُ غَيْرَهُ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ ; وَصَدَقَتُهُ، وَهِبَتُهُ، وَلاَ يَبْطُلُ بَيْعُهُ، وَلاَ إصْدَاقُهُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ رَهَنَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ قَالَ: الْعِتْقُ جَائِزٌ، وَيَتْبَعُ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ، قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْت الْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ يَقُولُ فِيمَنْ رَهَنَ عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ: الْعِتْقُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ ثَبَتَ فَلاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ إِلاَّ نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، فَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِ

(8/93)


إبْطَالِهِ فِيهِمَا. وَلاَ يَجُوزُ تَكْلِيفُ عِوَضٍ، وَلاَ اسْتِسْعَاءٍ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَالذِّمَمُ بَرِيئَةٌ إِلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ. فأما الْعِتْقُ، وَالْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالإِصْدَاقُ وَالصَّدَقَةُ; فَإِنَّ الرَّهْنَ مَالُ الرَّاهِنِ بِلاَ خِلاَفٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُبَاحَةٌ لِلْمَرْءِ فِي مَالِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ، إِلاَّ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ " وَقَوْلِهِ: " الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ". فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الأَرْتِهَانَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَاهُ فَاسِدَةٌ إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، بِتَصْحِيحِ دَعْوَاهُ. قَالَ تَعَالَى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: الْعِتْقُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُوسِرًا نَفَذَ عِتْقُهُ وَكُلِّفَ قِيمَةً يَجْعَلُهَا رَهْنًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا فَالْعِتْقُ بَاطِلٌ. وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: الْعِتْقُ نَافِذٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كُلِّفَ قِيمَتَهُ تَكُونُ رَهْنًا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا لَمْ يُكَلَّفْ قِيمَتَهُ، وَلاَ كُلِّفَ الْعَبْدُ اسْتِسْعَاءً وَنَفَذَ الْعِتْقُ. وقال أبو حنيفة: الْعِتْقُ نَافِذٌ بِكُلِّ حَالٍ، ثُمَّ قَسَّمَ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا. وقال الشافعي: إنْ رَهَنَ أَمَةً لَهُ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَكُلِّفَ رَهْنًا آخَر مَكَانَهَا، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا، فَمَرَّةً قَالَ: تَخْرُجُ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ يُكَلَّفُ رَهْنًا مَكَانَهَا، وَلاَ تُكَلَّفُ هِيَ شَيْئًا وَمَرَّةً قَالَ: تُبَاعُ إذَا وَضَعَتْ، وَلاَ يُبَاعُ الْوَلَدُ، وَتَكْلِيفُ رَهْنٍ آخَر: وَالتَّفْرِيقُ هَاهُنَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعَسِّر، وَبَيْعِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا دُونَ وَلَدِهَا أَقْوَالٌ فَاسِدَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: هِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ يُكَلَّفُ لاَ هُوَ، وَلاَ هِيَ شَيْئًا سَوَاءٌ مُعَسِّرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا. وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا تُبَاعُ هِيَ، وَيُكَلَّفُ سَيِّدُهَا أَنْ يُفْتِك وَلَدَهُ مِنْهَا.
قال أبو محمد: افْتِكَاكُ الْوَلَدِ لاَ نَدْرِي وَجْهَهُ، وَلَئِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَلأََيِّ مَعْنَى يُكَلَّفُ وَالِدُهُ افْتِكَاكَهُ؟ وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلِمَ يُبَاعُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى افْتِكَاكِهِ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: أَنَّهَا تُسْتَسْعَى وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا أُعْتِقَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ: وَمَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ حَلَّ أَخْذُ مَالِهِمَا وَتَكْلِيفِهِمَا غَرَامَةً لَمْ يُكَلِّفْهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ إيَّاهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا شِرْكًا لِلْمُرْتَهِنِ فَيُسْتَسْعَى لَهُ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ مُوسِرًا كُلِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِقِيمَتِهَا فَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا وَتَخْرُجُ هِيَ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ إلَيْهِ وَتَأْتِيه فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الرَّهْنِ، وَلاَ تُتْبَعُ بِغَرَامَةٍ، وَلاَ يُكَلَّفُ هُوَ رَهْنًا مَكَانَهَا، وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا بِيعَتْ هِيَ وَأُعْطِيَ هُوَ وَلَدَهُ مِنْهَا.
قال أبو محمد: فِي هَذَا الْقَوْلِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ مِنْ الْخَطَإِ: وَهِيَ: تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمُعْسِرِ وَالْمُوسِر

(8/94)


فِي ذَلِكَ وَالْحَقُّ عَلَيْهِمَا وَاحِدٌ. وَتَكْلِيفُهُ إحْضَارَ قِطْعَةٍ مِنْ مَالِهِ لِتُرْهَنَ لَمْ يَعْقِدْ قَطُّ فِيهَا رَهْنًا. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ خُرُوجِهَا إلَى سَيِّدِهَا وَبَيْنَ تَسَوُّرِهِ عَلَيْهَا. وَهُمَا آمِنَةٌ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَهِيَ مَرْهُونَةٌ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَبَيْعِهِ إيَّاهَا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، وَإِخْرَاجِهِ وَلَدَهَا مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ بِلاَ تَكْلِيفِ عِوَضٍ بِخِلاَفِ الأُُمِّ، وَكِلاَهُمَا عِنْدَهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُمَا. وَكُلُّ هَذِهِ أَوْجُهٌ فَاحِشَةُ الْخَطَإِ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهَا فِيهَا بِقُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ إجْمَاعٍ، وَلاَ دَلِيلٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ نَعَمْ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ إنْ حَمَلَتْ فَأَقَرَّ بِحَمْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَكُلِّفَ قَضَاءَ الدَّيْنِ إنْ كَانَ حَالًّا، أَوْ كُلِّفَ رَهْنًا بِقِيمَتِهَا إنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ. فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كُلِّفَتْ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي الدَّيْنِ الْحَالِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلاَ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى سَيِّدِهَا، وَلاَ يُكَلَّفُ وَلَدُهَا سِعَايَةً، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ كُلِّفَتْ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا فَقَطْ، فَجَعَلَتْ رَهْنًا مَكَانَهَا، فَإِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ كُلِّفَتْ مِنْ ذِي قَبْلِ أَنْ تُسْتَسْعَى فِي بَاقِي الدَّيْنِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا. قَالُوا: فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ اسْتَلْحَقَ وَلَدَهَا بَعْدَ وَضْعِهَا لَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ قَسَّمَ الدَّيْنَ عَلَى قِيمَتِهَا يَوْمَ ارْتَهَنَهَا، وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا يَوْمَ اُسْتُلْحِقَ، فَمَا أَصَابَ الأُُمَّ سَعَتْ فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ تَرْجِعْ بِهِ عَلَى سَيِّدِهَا، وَمَا أَصَابَ الْوَلَدَ سَعَى فِي الأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ قِيمَتِهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى أَبِيهِ وَيَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ كُلَّ ذَلِكَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ فِيهِ الْعِتْقُ، وَخَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا وَالدَّيْنُ حَالًّا كُلِّفَ غُرْمَ الدَّيْنِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ كُلِّفَ السَّيِّدُ قِيمَةَ الْعَبْدِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ. فَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا اُسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ فِي الأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ الدَّيْنِ، وَرَجَعَ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِبَاقِي دَيْنِهِ.
قال أبو محمد: إنَّ فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ لَعِبْرَةً لِمَنْ اعْتَبَرَ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا تُسْتَسْعَى فِيهِ الأُُمُّ وَبَيْنَ مَا يُسْتَسْعَى فِيهِ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ، وَبَيْنَ مَا يُسْتَسْعَى فِيهِ الْوَلَدُ وَهُوَ عِنْدَهُ حُرٌّ لاَحِقُ النَّسَبِ فَمَا بَالُ أَمَةٍ خَرَجَتْ أُمَّ وَلَدٍ مِنْ سَيِّدِهَا بِوَطْءِ مُبَاحٍ. وَمَا بَالُ إنْسَانٍ حُرٍّ ابْنِ حُرٍّ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ. وَمَا بَالُ عَبْدٍ عَتَقَ يُكَلَّفُونَ الْغَرَامَات دُونَ جِنَايَةٍ جَنَوْهَا، وَلاَ ذَنْبٍ اقْتَرَفُوهُ فَتُسْتَبَاحُ أَمْوَالُهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَيُكَلَّفُونَ مَا لَمْ يُكَلِّفْهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ يُكَلِّفُونَهُمْ مَا ذَكَرْنَا، وَيُسَلِّمُونَ صَاحِبَ الْجِنَايَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ الْغَرَامَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَكُلُّ مَا يَدْخُلُ عَلَى مَالِكٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ فَرْقَ مَالِكٍ بَيْنَ خُرُوجِهَا إلَيْهِ وَبَيْنَ تُسَوِّرهُ عَلَيْهَا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق