الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

تابع كتاب : الفرج بعد الشدة المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

 

تابع كتاب : الفرج بعد الشدة
المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

ولم أعلم من أمري شيئاً، إلا أنني أفقت فلم أره، ووجدت أعضائي سالمة، ووجدت حولي من الجماجم والعظام أمراً عظيماً، فلم يزل عقلي وقوتي يثوبان إلي إلى أن قمت، ومشيت.

فعثرت بشيء تأملته، فإذا هو هميان، فأخذته، وشددت به وسطي، ومشيت إلى أن بعدت عن الموضع، فوصلت إلى شبيه بوهدة، فجلست فيها، وغطيت نفسي بما أمكنني من القصب بقية ليلتي.
فلما طلعت الشمس أحسست بكلام المجتازين، وحوافر بغالهم، فخرجت وعرفتهم قصتي، وركبت بغل أحدهم.
فلما بعدت عن الأجمة، وأمنت على نفسي، فتحت الهميان، فإذا فيه رقعة بخط أبي، بأصل ما كان في الهميان من الدنانير، وبما أنفقه، فإذا هو هميان أبي الذي كان في وسطه لما افترسه السبع.
فحسبت المصروف، ووزنت الباقي، فإذا هي بأزاء ما بقي من الأصل، ما نقصت شيئاً.
قال: وأخرج الهميان، وفتحه، وأخرج الرقعة، فقال أبو علي: نعم، هذا خط أبيك.
وعجبت الجماعة من ذلك.

نجا من الأسد وافترس مملوكه

وبلغني عن رجل من أهل الأنبار، قال: خرجت إلى ضيعة لي في ظاهر الأنبار، راكباً دابة لي، ومعي مملوك لي أسود في نهاية الشجاعة.
فلما صرنا في بعض الطريق، بالقرب من الموضع الذي أنا طالبه، إذ نشأت سحابة، فأمطرت، وكان المساء قد أدركنا، فملنا إلى قباب كانت في الطريق للسابلة، فلجأنا إليها، فقوي المطر حتى منعنا من الحركة، فأشار الغلام علي بالمبيت.
فقلت له: نخاف اللصوص ويلك.
فقال لي: تخاف وأنا معك ؟ قلت: فالسبع ؟ قال: نصير الدابة داخل القبة، وأنت تليها، وأنا عند الباب، وأشد وسطي بالحبل الذي معنا، وأشد طرفه برجلك، حتى لا يأخذني النوم، فإن جاء الأسد، أخذني دونك.
وما زال يحسن لي ذلك الرأي حتى أطعته، وملنا إلى إحدى القباب، ودخلناها، وفعل ما قال.
فوالله ما مضت قطعة من الليل، حتى جاء الأسد، فأخذ الأسود فدقه، واحتمله، وجر رجلي المشدودة معه في الحبل.
فلم يزل يجرني على الشوك والحجارة، إلى أن صار بي إلى أجمته، وأنا لا أعقل شيئاً من أمري، ولا أحس بأكثر ما يجري، ولا تمييز لي يؤدي بي إلى الاجتهاد في حل الحبل من رجلي.
ثم رمى بالأسود، وربض عليه، وما زال يأكل منه، حتى شبع، وترك ما فضل منه، وليس في من حس الحياة غير النظر فقط، ثم مضى، فنام بالقرب من مكاننا.
وبقيت زماناً على تلك الحال، ثم سكن روعي، ورجعت إلي نفسي، لطول مكث الأسد في نومه، فحللت رجلي من الحبل، وقمت أدب، فعثرت بشيء لا أدري ما هو، فأخذته، فإذا هميان ثقيل، فشددته على وسطي، وخرجت من الأجمة، وقد قارب الصبح أن يسفر.
وصرت إلى القبة التي فيها دابتي، فإذا هي واقفة بحالها، فأخرجتها، وركبتها، وانصرفت إلى منزلي، وفتحت الهميان، فوجدت فيه جملة دنانير.
فحمدت الله تعالى على السلامة وبقي الرعب في قلبي، والتألم في بدني، مدة.
الباب العاشر

فيمن اشتد بلاؤه بمرض ناله فعافاه الله سبحانه بأيسر سبب وأقاله

دعاء يشفي من الوجع

حدثني علي بن عمر بن أحمد الحافظ، من حفظه، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: حدثنا أبو بشر بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالكاً، أخبره عن يزيد بن خصيفة، عن عمرو بن عبد الله بن كعب السلمي عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي، قال: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعاً بي، قد كاد يبطلني، فقال لي: يا عثمان، ضع يدك عليه، وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر هذا الوجع، ومن شر ما أجد وأحاذر، سبع مرات.
قال: فقلتها، فشفاني الله.
وجأ نفسه بسكين فعوفي من مرضهحدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الوراق، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الضحاك، عن أبيه، ومحمد بن سلام عن أبي جعدة، قال: برص أبو عزة الجمحي الشاعر، فكانت قريش لا تؤاكله، ولا تجالسه، فقال: الموت خير من هذه الحياة.
فأخذ حديدة، ودخل بعض شعاب مكة، فطعن بها في معده. والمعد: موضع عقبي الراكب من الدابة.
قال أبو جعدة: فمرت الحديدة بين الجلد والصفاق، فسال منه ماء أصفر، وبرئ لوقته، فقال:
ألّلهمّ ربّ وائلٍ ونهد ... والمهمهات والجبال الجرد
قال مؤلف هذا الكتاب: والذي في كتاب الطوسي: لا هم، وهو الصواب عندي.

وربّ من يرعى بياض نجد ... أصبحت عبداً لك وابن عبد
أبرأتني من وضحٍ في جلدي ... من بعد ما طعنت في معدّي

يا قديم الإحسان لك الحمد

حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي، قال: كان ينزل بباب الشام من الجانب الغربي من بغداد رجل مشهور بالزهد والعبادة، يقال له: لبيب العابد، لا يعرف إلا بهذا.
وكان الناس ينتابونه، وكان صديقاً لأبي، فحدثني لبيب، قال: كنت مملوكاً رومياً لبعض الجند، فرباني، وعلمني العمل بالسلاح، حتى صرت رجلاً، ومات مولاي بعد أن أعتقني.
فتوصلت إلى أن حصلت رزقه لي، وتزوجت بامرأته، وقد علم الله أنني لم أرد بذلك إلا صيانتها، فأقمت معها مدة.
ثم اتفق أني رأيت يوماً حية داخلة في جحرها، فأمسكت ذنبها، فانثنت علي، فنهشت يدي، فشلت.
ومضى على ذلك زمان طويل، فشلت يدي الأخرى، لغير سبب أعرفه، ثم جفت رجلاي، ثم عميت، ثم خرست.
وكنت على ذلك الحال - ملقىً - سنة كاملة، لم تبق لي جارحة صحيحة، إلا سمعي، أسمع به ما أكره، وأنا طريح على ظهري، لا أقدر على الكلام، ولا على الحركة، وكنت أسقى وأنا ريان، وأترك وأنا عطشان، وأهمل وأنا جائع، وأطعم وأنا شبعان.
فلما كان بعد سنة، دخلت امرأة إلى زوجتي، فقالت: كيف أبو علي، لبيب ؟ فقالت لها زوجتي: لا حي فيرجى، ولا ميت فيسلى.
فأقلقني ذلك، وآلمني ألماً شديداً، وبكيت، ورغبت إلى الله عز وجل في سري بالدعاء.
وكنت في جميع تلك العلل لا أجد ألماً في جسمي، فلما كان في بقية ذلك اليوم، ضرب علي جسمي ضرباناً عظيماً كاد يتلفني، ولم أزل على ذلك الحال، إلى أن دخل الليل وانتصف، فسكن الألم قليلاً، فنمت.
فما أحسست إلا وقد انتبهت وقت السحر، وإحدى يدي على صدري، وقد كانت طول هذه السنة مطروحة على الفراش لا تنشال أو تشال.
ثم وقع في قلبي أن أتعاطى تحريكها، فحركتها، فتحركت، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وقوي طمعي في تفضل الله عز وجل علي بالعافية.
فحركت الأخرى فتحركت، فقبضت إحدى رجلي فانقبضت، فرددتها فرجعت، ففعلت مثل ذلك مراراً.
ثم رمت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد، كما كان يفعل بي أولاً، فانقلبت بنفسي، وجلست.
ورمت القيام فأمكنني، فقمت ونزلت عن السرير الذي كنت مطروحاً عليه، وكان في بيت من الدار.
فمشيت ألتمس الحائط في الظلمة، لأنه لم يكن هناك سراج، إلى أن وقعت على الباب، وأنا لا أطمع في بصري.
فخرجت من البيت إلى صحن الدار، فرأيت السماء والكواكب تزهر، فكدت أموت فرحاً.
وانطلق لساني بأن قلت: يا قديم الإحسان، لك الحمد.
ثم صحت بزوجتي، فقالت: أبو علي ؟ فقلت: الساعة صرت أبو علي ؟ أسرجي، فأسرجت.
فقلت: جيئيني بمقراض، فجاءت به، فقصصت شارباً لي كان بزي الجند.
فقالت زوجتي: ما تصنع ؟ الساعة يعيبك رفقاؤك.
فقلت: بعد هذا لا أخدم أحداً غير ربي.
فانقطعت إلى الله عز وجل، وخرجت من الدار، وطلقت الزوجة، ولزمت عبادة ربي.
وقال أبو الحسن: وخبر هذا الرجل معروف مشهور، وكانت هذه الكلمة: يا قديم الإحسان لك الحمد، صارت عادته، يقولها في حشو كلامه.
وكان يقال إنه مجاب الدعوة، فقلت له يوماً: إن الناس يقولون إنك رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامك، فمسح يده عليك، فبرئت.
فقال: ما كان لعافيتي سبب غير ما عرفتك.
أبرأ أبو بكر الرازي غلاماً ينفث الدم بإطعامه الطحلب
حدثني أبو الحسن محمد بن لعي الخلال البصري، أحد أبناء القضاة، قال: حدثني بعض أهل الطب الثقات: أن غلاماً من بغداد قدم الري وهو ينفث الدم، وكان لحقه ذلك في طريقه.
فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق، صاحب الكتب المصنفة، فوصف له ما يجد.
فأخذ الرازي مجسه، ورأى قارورته، واستوصف حاله، منذ ابتداء ذلك به، فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة، ولم يعرف العلة، فاستنظر الرجل ليفكر في الأمر.
فقامت على العليل قيامته وقال: هذا إياس لي من الحياة، لحذق الطبيب، وجهله بالعلة، فازداد ما به.
وولد الفكر للرازي أن عاد إليه وسأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبره أنه شرب من مستنقعات وصهاريج.
فقام في نفس الرازي، لحدة الخاطر وجودة الذكاء، أن علقةً كانت في الماء وقد حصلت في معدته، وأن ذلك النفث من فعلها.

فقال له: إذا كان غداً جئتك بعلاجك، ولا أنصرف من عندك حتى تبرأ بإذن الله تعالى، ولكن بشرط أن تأمر غلمانك يطيعونني فيما آمرهم به.
قال: نعم.
وانصرف الرازي، وجمع ملء مركنين كبيرين من طحلب، وأحضرهما من غد معه، وأراه إياهما.
وقال له: أبلع جميع ما في هذين المركنين، فبلع الرجل شيئاً يسيراً، ثم وقف.
فقال له: أبلع.
فقال: لا أستطيع.
فقال للغلمان: خذوه، فنيموه، ففعلوا به ذلك، وفتحوا فاه، وأقبل الرازي يدير الطحلب في حلقه، ويكبسه كبساً شديداً ويطالبه ببلعه، شاء أو أبى، ويتهدده بالضرب، إلى أن بلع كارهاً أحد المركنين، وهو يستغيث فلا ينفعه مع الرازي شيء.
إلى ان قال له العليل: الساعة أقذف ما في بطني، فزاد الرازي فيما يكبسه في حلقه.
فذرعه القيء، فقذف، فتأمل الرازي قذفه، فإذا فيه علقة، وإذا بها لما وصل إليها الطحلب، دبت إليه بالطبع، وتركت موضعها، فلما قذف العليل، خرجت مع الطحلب، ونهض العليل معافى.

أصيب بوجع في المعدة وشفاه لحم جرو سمين

وحكى الحسن بن محمد السطوي، غلام كان يخدم أبي رحمه الله، قال: حدثني أبو الحسن علي بن الحسن الصيدلاني البناتاذري، خليفة القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي على القضاء ببناتاذر، قال: كان عندنا بسوق الأربعاء، من بناتاذر، غلام حدث من أولاد التناء، لحقه وجع في معدته شديد، بلا سبب يعرفه، وكانت تضرب عليه في أكثر الأوقات ضرباناً عظيماً، حتى كاد يتلف، وقل أكله، ونحل جسمه.
فحمل إلى الأهواز، فعولج بكل شيء، فما نجع فيه دواء، فرد إلى بيته وقد يئس منه.
فاستدعى والده طبيباً حاذقاً، وأراه ولده، فقال له الطبيب: أقعد وأشرح لي حالك، منذ حال الصحة، فشرحها.
وطاوله في الحديث، إلى أن قال له العليل: إني دخلت بستاناً لنا، وكان في بيت البقر منه، رمان كثير، قد جمع للبيع، فأكلت منه رمانات عدة.
فقال له الطبيب: كيف كنت تأكل ؟ قال: كنت أعض رأس الرمانة بفمي، وأرمي به، وأكسرها، وآكلها، قطعاً قطعاً.
فقال له الطبيب: في غد أعالجك، وتبرأ بإذن الله تعالى، وخرج.
فلما كان من الغد، جاءه بقدر إسفيذباج، قد طبخها بلحم جرو سمين، وقال للعليل: كل هذا.
فقال: ما هو ؟ قال: إذا أكلت عرفتك.
قال: فأكل العليل.
فقال له الطبيب: أمتل من الطعام، ففعل، ثم أطعمه بطيخاً كثيراً، ثم تركه ساعة، وسقاه فقاعاً قد خلط بماء حار وشبث.
ثم قال: أتدري أي شيء أكلت ؟ قال: لا أدري.
قال: أكلت لحم كلب، فحين سمع الغلام ذلك، اندفع فقذف جميع ما في بطنه.
فأمر الطبيب بعينيه ورأسه فأُمسكا، وأقبل يتأمل القذف، إلى أن طرح الغلام شيئاً أسود، كالنواة الكبيرة، يتحرك.
فأخذه الطبيب، وقال له: ارفع رأسك، فقد برئت، وفرج الله تعالى عنك.
فرفع الغلام رأسه، وانقطع القذف، وسقاه الطبيب شيئاً يقطع الغثيان، وصب على رأسه ماء ورد، وسكن نفسه، ثم أخذ ذلك الشيء الذي يشبه النواة، فأراه إياه، فإذا هو قراد.
وقال له: إني قد زكنت أن الموضع الذي كان فيه الرمان، كان فيه قردان من البقر، وأنه قد دخلت واحدة منهن في رأس إحدى الرمانات التي اقتلعت رؤوسها بفيك، فنزل القراد إلى حلقك، وعلق بمعدتك يمتصها.
وعلمت أن القراد يهش إلى لحم الكلب، فأطعمتك إياه، وقلت: إن صح ظني، فسيتعلق القراد بلحم الكلب، تعلقاً يخرج معه إن قذفت، فتبرأ، وإن لم يكن ما ظننت صحيحاً، فما يضرك من أكل لحم الكلب.
فلما أحب الله تعالى من عافيتك صح حدسي، فلا تعاود بعد هذا إدخال شيء في فيك لا ترى ما فيه.
وبريء الغلام، وصح جسمه.
ذكاء طبيب أهوازيوحدثنا الحسن غلامنا، عن ابن الصيدلاني هذا، قال: كان لي أكار حدث، فانتفخ ذكره انتفاخاً عظيماً واحمر، وضرب عليه ضرباناً شديداً، فلم يكن ينام الليل، ولا يهدأ النهار، وعولج فلم يكن إلى برئه سبيل.
قال: فجاء مطبب من الأهواز، يريد البصرة، فسألته أن ينظر إليه.
فقال لي: قل له يصدقني عن خبره في أيام صحته، وإلى الآن، قال: فحدثه.
فقال له: ما صدقتني، ومالي إلى علاجك سبيل، إلا أن تصدقني.
فقال لي الغلام: إن صدقتك يا أستاذ، فأنا آمن من جهتك على نفسي ؟ قلت: نعم.
فقال: أنا غلام حدث، وعزب، فوطئت حماراً لي في الصحراء ذكراً.

فقال له الطبيب: الآن علمت أنك قد صدقت، والساعة تبرأ.
ثم أمر به فأُمسك إمساكاً شديداً، وأخذ ذكره بيده، فجسه جساً شديداً، والغلام ساكت.
إلى أن جس منه موضعاً، فصاح الغلام، فأخذ الطبيب خيط إبريسم، فشد الموضع شداً شديداً، ولم يزل يمرخ إحليل الغلام بيده، ويسلته، إلى أن ندت منه حبة شعير من نقب ذكر الغلام، وقد كبرت وجرحت الموضع، فسال منه شيء يسير كماء اللحم.
فأعطاه مرهماً، وقال له: استعمل هذا أياماً فإنك تبرأ، وتب إلى الله تعالى من هذا الفعل.
فاستعمل الغلام ذلك المرهم، فبرئ.

شج رأسه فمرض ثم شج بعدها فصلح

وحدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبيد الله الدقاق، المعروف بابن العسكري، شيخ مجرب ثقة، كان ينزل في درب الشاكرية من نهر المعلى، في الجانب الشرقي من بغداد، في المذاكرة، قال: كان أبي إذا جلس يفتش في دفاتره، وأنا صبي، أجيء فآخذ منها الشيء بعد الشيء، استحسنه، فألعب به.
وكنت أرى في دفاتره دفتراً فيه خطوط حمر، فأستحسنه وأطلبه فيمنعني منه، حتى بلغت مبلغ الرجال.
فجلس يوماً يفتش كتبه، فرأيت الدفتر، فأغفلت أبي وأخذته، ففتحته أقرؤه، فإذا هو مولدي، وقد عمله بعض المنجمين.
فوجدت فيه، أنني إذا بلغت أربعاً وثلاثين سنة، كان علي فيها قطع.
فالتفت أبي فرأى الدفتر معي، فصاح وأخذه مني، ونظر إلى أي موضع بلغت، فتوقف وأخذ يضعف ذلك في نفسي لئلا أغتم.
ومضت السنون، فلما بلغت السنة التي ذكرها المنجم، ركبت مهراً لي، وخرجت من دار الضرب، وأبي فيها، وكان إليه العيار، فبلغت إلى ساباط بدرب سيما، بدرب الديزج.
فنفر المهر من كلب كان في الطريق رابضاً، فضرب رأسي حائطاً كان في الساباط، فوقعت عن المهر مغشياً علي.
ثم حملت إلى دار الضرب، وأحضر طبيب، وقد انتفخ موضع الضربة من رأسي إنتفاخاً عظيماً، فأشار بفصدي، ففصدت فلم يخرج لي دم.
فحملت إلى بيتنا، ولم أشك في أني ميت لشدة ما لحقني، فاعتللت، وضعفت نفسي خوفاً مما ذكرته من حكم المنجم.
فكنت يوماً جالساً مستنداً إلى سرير، وقد أيست من الحياة، إذ حملتني عيناي، فخفق رأسي، فضرب درابزين السرير، فشج الموضع المنتفخ، فخرج منه أرطال دم، فخف ما بي في الحال، فصلحت، وبرئت، وعشت إلى الآن.
وكان له يوم حدثني بهذا الحديث أربعاً وثمانين سنة وشهور، على ما أخبرني.
القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقهوحدثني أبو الحسن علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الصلحي الكاتب، قال: رأيت بمصر طبيباً مشهوراً يعرف بالقطيعي، وكان يقال: إنه يكسب في كل يوم ألف درهم، من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر، ومن السلطان، وما يأخذه من العامة.
قال: وكان له دار قد جعلها شبه البيمارستان، من جملة داره، يأوي إليها ضعفاء الأعلة، يعالجهم، ويقوم بأودهم وأدويتهم، وأغذيتهم، وخدمتهم، وينفق أكثر كسبه في ذلك.
قال أبو الحسن: فأسكت بعض فتيان الرؤساء بمصر - وأسماه لي فذهب عني اسمه - وكنت هناك، فحمل إليه أهل الطب، وفيهم القطيعي، فأجمعوا على موته، إلا القطيعي، وعمل أهله على غسله ودفنه.
فقال القطيعي: دعوني أعالجه، فإن برئ، وإلا فليس يلحقه أكثر من الموت الذي أجمع هؤلاء عليه.
فخلاه أهله معه، فقال؛ هاتم غلاماً جلداً ومقارع، فأتي بذلك.
فأمر به فمد، وضرب عشر مقارع من أشد الضرب، ثم جس مجسه، وضربه عشراً أخرى شديدة أيضاً، ثم جس مجسه، وضربه عشراً أخرى.
ثم جس مجسه، وقال للطب: أيكون للميت نبض يضرب ؟ فقالوا: لا.
قال: فجسوا نبض هذا.
فجسوه، فإذا به يتحرك، فضرب عشر مقارع أخرى، فصاح.
فقطع الضرب عنه، فجلس العليل يجس بدنه، ويتأوه، وقد ثابت إليه قوته.
فقال له الطبيب: ما تجد ؟ قال: أنا جائع.
قال: أطعموه الساعة، فجاءوه بما أكله، وقمنا وقد رجعت قوته، وبرئ.
فقال له الطب: من أين لك هذا ؟ قال: كنت مسافراً في قافلة فيهم أعراب يخفروننا، فسقط منهم فارس عن فرسه، فأسكت، فعمد شيخ منهم إليه، فضربه ضرباً عظيماً، فما رفع عنه الضرب حتى أفاق، فعلمت أن ذلك الضرب جلب عليه حرارة أزالت سكتته.
فقست عليه أمر هذا العليل.
مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد

حدثني بعض المتطببين بالبصرة، قال: حدثنا أبو منصور بن مارية، كاتب أبي مقاتل صالح بن مرداس الكلابي، أمير حلب، وكان أبو منصور من رؤساء أهل الصراة الذين يضربون المثل بنعمتهم وترفههم، وكان ثقة أديباً، وقد شاهدته أنا، ولم أسمع منه هذه الحكاية، قال: أخبرني أحد شيوخنا، قال: كان بعض أهلنا قد استسقى، فأيس من حياته، وحمل إلى بغداد، فشوور أهل الطب فيه، فوصفوا له أدوية كثاراً، فعرفوا أنه قد تناولها بأسرها، فلم تنجع، فأيسوا منه، وقالوا: لا حيلة لنا في برئه.
فلما سمع العليل ذلك، قال لمن معه: دعوني الآن أتزود من الدنيا، وآكل ما أشتهي، ولا تقتلوني قبل أجلي بالحمية.
فقالوا: كل ما تريد.
فكان يجلس على دكان بباب الدار، ومهما رأى ما يجتاز به على الطريق، شراه، وأكله.
فمر به رجل يبيع جراداً مطبوخاً، فاشترى منه عشرة أرطال، وأكلها بأسرها.
فلما كان بعد ساعة، أنحل طبعه، وتواتر قيامه، حتى قام في ثلاثة أيام أكثر من ثلثمائة مجلس، وضعف، وكاد يتلف.
ثم انقطع القيام، وقد زال كل ما في جوفه، وعادت بطنه إلى حالها في الصحة، وثابت إليه قوته، وبرئ.
فخرج برجليه في اليوم الخامس، يتصرف في حوائجه، فرآه أحد الطب، فعجب من أمره، وسأله عن الخبر، فعرفه.
فقال: ليس من شأن الجراد أن يفعل هذا، ولا بد أن يكون في الجراد الذي فعل هذا خاصية، فأحب أن تدلني على الذي باعك الجراد، فلم يزالوا في طلبه حتى وجدوه.
فقال له الطبيب: من أين لك هذا الجراد ؟ فقال: أنا أصيده، وأجمع منه شيئاً كثيراً، وأطبخه، وأبيعه.
فقال: من أين تصيده ؟ فذكر قرية بالقرب من بغداد.
فقال له الطبيب: أعطيك ديناراً، وتدع شغلك، وتجيء معي إلى الموضع.
قال: نعم، فخرجا وعاد الطبيب من غد، فذكر أنه رأى الجراد يرعى في صحراء أكثر نباتها حشيشة يقال لها: مازريون، وهي دواء الاستسقاء.
وإذا دفع إلى العليل منها وزن درهم، أسهله إسهالاً يزيل الإستسقاء، ولكن لا يؤمن أن لا ينظبط، ولا يقف، فيقتله الذرب، والعلاج بها خطر جداً، وهي مذكورة في الكتب الطبية، ولكنها لفرط خطرها لا يصفها الأطباء، فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة، وانطبخت في معدته، ثم طبخ الجراد، ضعف فعلها بطبخين اجتمعا عليها، وقضى أن تناولها هذا بالاتفاق، وقد تعدلت بمقدار ما يدفع طبعه دفعاً لا ينقطع، فبرأ.

مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى

وحدثنا أبو الحسن محمد بن طرطى الواسطي، قال: سمعت أبا علي عمر بن يحيى العلوي الكوفي، قال: كنت في بعض حججي في طريق مكة، فاستسقى رجل كان معنا من أهل الكوفة، وثقل في علته.
وسل الأعراب قطاراً من القافلة كان هذا العليل على جمل منه، ففقد، وجزعنا عليه، وعلى القطار، وكنا راجعين إلى الكوفة.
فلما كان بعد مدة، جاء العليل إلى داري معافىً، فسألته عن قصته وسبب عافيته.
فقال: إن الأعراب لما سلوا القطار، ساقوه إلى محلهم، وكان على فراسخ يسيرة من المحجة، فأنزلوني، ورأوا صورتي، فطرحوني في أواخر بيوتهم.
وتقاسموا ما كان في القطار، فكنت أزحف وأتصدق من البيوت ما آكله، وتمنيت الموت، وكنت أدعو الله تعالى به أو بالعافية.
فرأيتهم يوماً وقد عادوا من ركوبهم، وأخرجوا أفاعي قد اصطادوها، فقطعوا رؤوسها وأذنابها، واشتووها، وأكلوها.
فقلت: هؤلاء يأكلون هذه فلا تضرهم بالعادة التي قد مرنوا عليها، ولعلي إذا أكلت منها شيئاً أن أتلف فأستريح مما أنا فيه.
فقلت لبعضهم: أطعمني من هذه الحيات، فرمى إلي واحدة منها مشوية، فيها أرطال، فأكلتها بأسرها، وأمعنت، طلباً للموت، فأخذني نوم عظيم، فانتبهت وقد عرقت عرقاً عظيماً، فاندفعت طبيعتي، فقمت في بقية يومي وليلتي أكثر من مائة مجلس، إلى أن سقطت طريحاً وجوفي يجري.
فقلت: هذا طريق الموت، فأقبلت أتشهد، وأدعو الله تعالى بالرحمة والمغفرة.
فلما أضاء الصبح، تأملت بطني، فإذا هي قد ضمرت جداً، وزال عنها ما كان بها، فقلت: أي شيء ينفعني هذا، وأنا ميت ؟ فلما أضحى النهار، انقطع القيام، ووجبت صلاة الظهر، فلم أحس بقيام، وجعت، فجئت لأزحف على العادة، فوجدت بدني خفيفاً، وقوتي صالحة، فتحاملت ومشيت، وطلبت منهم مأكولاً فأطعموني، وقويت، وبت في الليلة الثانية معافىً لا أنكر شيئاً من أمري.

فأقمت أياماً، إلى أن وثقت من نفسي بأني إن مشيت نجوت، فأخذت الطريق مع بعضهم، إلى أن صرت على المحجة، ثم سلكتها، منزلاً، منزلاً، إلى الكوفة مشياً.

القاضي أبو الحسين بن أبي عمر يحزن لموت يزيد المائي

حدثني أبو الفضل محمد بن عبد الله بن المرزبان الشيرازي الكاتب: قال: حدثني أبو بكر الجعابي الحافظ، قال: دخلت يوماً على القاضي أبي الحسين بن أبي عمر، وهو مغموم، فقلت: لا يغم الله قاضي القضاة، ما هذا الحزن الذي أراه به ؟ قال: مات يزيد المائي.
فقلت: يبقي الله قاضي القضاة، ومن يزيد المائي، حتى إذا مات اغتم عليه قاضي القضاة، هذا الغم كله ؟ فقال: ويحك، مثلك يقول هذا في رجل كان أوحد زمانه في صناعته، وقد مات وما ترك أحداً يقاربه في حذقه، وهل فخر البلدان إلا بكثرة رؤساء الصنائع، وحذاق أهل العلوم فيها ؟ فإذا مضى رجل لا مثيل له في صناعة لا بد للناس منها، فهل يدل هذا إلا على نقصان العالم وانحطاط البلدان.
ثم أقبل يعدد فضائله، والأشياء الطريفة التي عالج بها، والعلل الصعبة التي زالت بتدبيره، فذكر من ذلك أشياء كثيرة، منها: قال: أخبرني منذ مدة رجل من جلة أهل البلد، أنه كان حدث بابنة له علة طريفة، فكتمت أمرها، ثم أطلع عليها أبوها، فكتمها هو مديدة، ثم انتهى أمر البنت إلى حد الموت.
قال: وكانت العلة، أن فرج الصبية كان يضرب عليها ضرباناً عظيماً لا تنام معه الليل ولا النهار، وتصرخ أعظم صراخ، ويجري في خلال ذلك منه دم يسير كماء اللحم، وليس هناك جرح يظهر، ولا ورم.
قال: فلما خفت المأثم، أحضرت يزيد، فشاورته.
فقال: أتأذن لي في الكلام، وتبسط عذري فيه.
فقلت له: نعم.
قال: لا يمكنني أن أصف لك شيئاً، دون أن أشاهد الموضع بعيني، وأفتشه بيدي، وأسائل المرأة عن أسباب لعلها كانت الجالبة للعلة.
قال: فلعظم الصورة، وبلوغها حد التلف، أمكنته من ذلك.
فأطال المسائلة، وحدثها بما ليس من جنس العلة، بعد أن جس الموضع من ظاهره، وعرف بقعة الألم، حتى كدت أن أثب به، ثم صبرت، ورجعت إلى ما أعرفه عن سيرته، فصبرت على مضض.
إلى أن قال: تأمر من يمسكها، ففعلت.
فأدخل يده في الموضع دخولاً شديداً، فصاحت الجارية، وأغمي عليها، وانبعث الدم، وأخرج يده وفيها حيوان أقل من الخنفساء، فرمى به.
فجلست الجارية في الحال، وقالت: يا أبة، استرني، فقد عوفيت.
فأخذ يزيد الحيوان بيده، وخرج من الموضع، فلحقته، فأجلسته.
وقلت: أخبرني ما هذا ؟ فقال: إن تلك المسائلة التي لم أشك من أنك أنكرتها، إنما كانت لأطلب دليلاً أستدل به على سبب العلة.
إلى أن قالت لي الصبية: إنها في يوم من الأيام، جلست في بيت دولاب البقر، في بستان لكم، ثم حدثت العلة بها، من غير سبب تعرفه، في غد ذلك اليوم.
فتخيلت أنه قد دب في فرجها من القراد الذي يكون على البقر - وفي بيوت البقر قراد - قد تمكن من أول داخل الفرج، فكلما امتص الدم من موضعه ولد الضربان، وأنه إذا شبع، خف الضربان، لانقطاع مصه، ونقط من الجرح الذي يمتص منه إلى خارج الفرج.
فقلت: أُدخل يدي، وأفتش.
فأدخلت يدي، فوجدت القراد كما حدست، فأخرجته، وهذا هو الحيوان، وقد تغيرت صورته لكثرة ما امتص من الدم، مع طول الأيام.
قال: فتأملنا الحيوان، فإذا هو قراد، وبرئت المرأة.
قال مؤلف هذا الكتاب: ولم يذكر القاضي أبو الحسين في كتابه هذا الخبر، ولعله اعتقد أنه مما لا يجب إدخاله فيه.
زمنة مقعدة يشفيها الحنظلحدثني المؤمل بن يحيى بن هارون، شيخ نصراني يكنى بأبي نصر، كان ينزل بباب الشام، رأيته في سنة خمسين وثلثمائة، قال: حدثني قرة بن السراج العقيلي، وكان ينزل، إذا جاء من البادية، بشارع دار الرقيق بالقرب من درب سليمان، قال: كان عندنا بالبادية، جارية بالغ، زمنة، مقعدة سنين، ومن عادتنا أن نأخذ الحنظل فنقور رؤوسه، ونملأه باللبن الحليب، ونرد على كل واحدة رأسها، وندفنها في الرماد الحار، حتى تغلي، فإذا غلت، حسا كل واحد منا من الحنظلة ما في رأسها من اللبن، فتسهله، وتصلح بدنه.
قال: وقد كنا أخذنا في سنة من السنين، ثلاث حناظل، لثلاثة أنفس، يشربونها، وجعلنا اللبن فيها على الصفة المارة، فرأتها الجارية الزمنة.

فلتبرمها من الحياة، وضجرها من الزمانة، خالفتنا إلى الحناظل الثلاث، فحستها كلها، وعلمنا بذلك بعد أن رأينا من قيامها ما جزعنا منه، وأيسنا من حياتها، وخشينا أن تعدينا، فأبعدناها عن البيوت.
فلما كان الليل، انقطع قيامها، فمشت برجلها إلى أن عادت إلى البيوت لا قلبة بها، وعاشت بعد ذلك سنين، وتزوجت، وولدت.
اشترى الرشيد لطبيبه ضياعاً غلتها ألف ألف درهم
وحدث جبريل بن بختيشوع، قال: كنت مع الرشيد، بالرقة، ومعه المأمون ومحمد، وكان الرشيد رجلاً كثير الأكل والشرب، فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها، ودخل المستراح، فغشي عليه فيه.
فأخرج وقد قوي عليه الغشي، حتى لم يشك غلمانه في موته، وحضر ابناه، وشاع عند الخاصة والعامة خبره.
وأرسل إلي، فجئت، فجسست عرقه، فوجدت نبضاً خفيفاً، وأخذت عرقاً في رجله فكان كذلك، وقد كان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاءً وحركة الدم.
فقلت لهم: إنه لم يمت، والصواب أن يحجم الساعة.
فقال كوثر الخادم، لما يعرف من أمر الخلافة وإفضائها إلى صاحبه محمد: يا ابن الفاعلة، تقول أحجموا رجلاً ميتاً ؟ لا يقبل قولك ولا كرامة.
فقال المأمون: الأمر قد وقع، وليس يضر أن نحجمه.
وأحضر الحجام، فتقدمت، وقلت له: ضع محاجمك، ففعل، فلما مصها رأيت الموضع قد احمر، فطابت نفسي بذلك، وعلمت أنه حي.
فقلت للحجام: أشرط، فشرط، فخرج الدم، فسجدت شكراً لله تعالى، وجعل كلما خرج الدم، تحرك رأسه، وأسفر لونه، إلى أن تكلم.
فقال: أين أنا ؟ فطيبت نفسه، وغديناه بصدر دراج، وسقيناه نبيذاً، وما زلت أسعطه بالطيب في أنفه، حتى تراجعت إليه قوته، وأدخل الخاصة والقواد إليه، فسلموا عليه من بعد، لما كان قد شاع من خبره، ثم تكاملت قوته، ووهب الله له العافية.
فلما برأ من علته، دعا صاحب حرسه، وحاجبه، وصاحب شرطته، فسأل صاحب الحرس عن غلته في كل سنة، فعرفه أنها ألف ألف درهم، وسأل صاحب شرطته عن غلته، فعرفه أنها خمسمائة ألف درهم.
ثم قال: يا جبريل: كم غلتك ؟ فقلت: خمسون ألف درهم.
فقال: ما أنصفناك، حيث غلات هؤلاء وهم يحرسوني، ويحجبوني عن الناس، على ما هي عليه، وتكون غلتك ما ذكرت، وأمر بإقطاعي ما قيمته ألف ألف درهم.
فقلت: يا سيدي مالي حاجة إلى الإقطاع، ولكن تهب لي ما أشتري به ضياعاً غلتها ألف ألف درهم، ففعل، وتقدم بمعاونتي على أبتياعها.
فابتعت بهباته، وجعالاته، ضياعاً غلتها ألف ألف درهم، فجميع ما أمتلكه ضياع لا إقطاع فيها.

الحجامة

الحجامة، استخراج الدم من قفا العنق، أسفل القذال، بالمحجم، بأن يشرط الحجام القفا بموساه، ثم يضع المحجم، وهو أداة كالكأس، فيمتص الدم، ويجتذبه، والحجامة من الطب القديم، وهي أحد ثلاثة أشياء كان الأطباء القدماء يوصون بها في كل سنة، وهي: الحجامة، والفصد، وتناول المسهل، وكان الناس يعتبرون القيام بهذه الثلاثة من الواجبات، ويكون تحت إشراف الطبيب، ويحتفلون بذلك، وإذا احتجم الإنسان، أو افتصد، أو تناول مسهلاً، جاءته الهدايا من أصحابه ومعارفه، وقد أفرد الشيخ الرئيس، ابن سينا، في كتابه القانون، فصلاً للحجامة، أثبت فيه شروطها، وكيفية إجرائها ح 1 - 212 - 213 وفصلاً للفصد ح 1 - 204 - 212، وفصلاً في المسهلات ح 1 - 196 - 200، ومن الطريف أن نذكر أن جهل الأطباء في الماضي بأصول التعقيم، كان يؤدي، في بعض الأحيان إلى إصابة من يفصدونه، إصابة قد تؤدي إلى وفاته، فيتعرض الطبيب للتهمة بأنه قد سم المبضع الذي أجرى به الفصد، ويكون ذلك سبباً لقتله، وللتخلص من هذه التهمة، أصبح الطبيب ملزماً بأن يضع المبضع في فمه، ويمتصه، قبل إجراء الفصد، ثم يمسحه بلحيته، ويقوم بالفصد، فكانت النتيجة، أن زادت نسبة الإصابات، وتعرض الطبيب للاتهام بأنه قد وضع السم في لحيته، وقد أودت هذه التهم بحياة كثير من الأطباء الأبرياء.
لسعته عقرب فعوفيوحدثني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله بن قناش الطائي، الجوهري، البغدادي، قال: كان في درب مهرويه، بالجانب الشرقي ببغداد، قديماً، رجل من كبراء الحجرية، وكان متشبباً بغلام من غلمانه، رباه صغيراً.
فاعتل الغلام علة من بلسام، وهو الذي تسميه العامة: البرسام، فبلغ إلى درجة قبيحة، وزال عقله.

فتفرقوا عنه يوماً، وهو في موضع فيه خيش، ووكلوا صبياً بمراعاته، فسمعوا صياح الفتى الموكل به، فبادروا إليه.
فقال: أنظروا إلى ما قد أصابه.
فإذا عقرب قد نزل من المسند على رأس العليل، فلسعته في عدة مواضع، فإذا به قد فتح عينيه وهو لا يشكو ألماً.
فسألوه عن حاله، فطلب ما يأكل، فأطعموه، وبرأ.
فلاموا طبيبه، فقال: علام تلومونني، لو أمرتكم أن تلسعوه بعقرب، أكنتم تفعلون ؟

ابرأته مضيرة لعقت فيها أفعى

حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الرازي، المعروف بابن حمدون، قال: حدثني أبو بكر أحمد بن علي الرازي الفقيه رحمه الله، قال: سمعت أبا بكر بن قارون الرازي، وكان تلميذاً لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، قال أبو بكر بن حمدون: وقد رأيت هذا الرجل بالري، وكان يحسن علوماً كثيرة، منها الحديث، ويرويه، ويكتبه الناس عنه، ويوثقونه، ولم أسمع هذا منه، قال المؤلف رحمه الله: ولم يتهيأ لي مع كثرة ملاقاتي أبا بكر الرازي الفقيه رحمه الله، أن أسمع هذا الخبر منه، قال ابن قارون: حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، بعد رجوعه من عند أمير خراسان، لما استدعاه ليعالجه من علة صعبة، قال: اجتزت في طريقي إلى نيسابور، ببسطام، وهي النصف من طريق نيسابور إلى الري.
قال: فاستقبلني رئيسها، فأنزلني داره، وخدمني أتم خدمة وسألني أن أقف على ابن له به استسقاء.
فأدخلني إلى دار قد افردها له، فشاهدت العليل، ولم أطمع في برئه، فسألني أبوه عن السر في حاله، فصدقته، وآيسته من حياة أبنه.
وقلت له: مكنه من شهواته، فإنه لا يعيش.
ثم خرجت إلى خراسان، فأقمت بها سنة كاملة، وعدت، فاستقبلني الرجل أبو الصبي فلم أشك في وفاته، وتركت مساءلته عن ابنه، فإني كنت نعيته إليه، وخشيت من تثقيلي عليه، فأنزلني داره، ولم أجد عنده ما يدل على ذلك، وكرهت مسائلته عن أبنه لئلا أجدد عليه حزناً.
فقال لي بعد أيام: تعرف هذا الفتى ؟ وأومأ إلى شاب حسن الوجه والسحنة، صحيح البدن، كثير الدم والقوة، قائم مع الغلمان يخدمنا.
فقلت: لا.
فقال: هذا ابني الذي آيستني منه عند مضيك إلى خراسان.
فتحيرت، وقلت له: عرفني سبب برئه.
فقال: إنه كان بعد قيامك من عندي، فطن أنك آيستني منه.
فقال لي: لست أشك أن هذا الرجل - وهو أوحد زمانه في الطب - قد آيسك مني، والذي أسألك، أن تمنع هؤلاء، يعني غلماني الذين كنت قد أخدمته إياهم، فإنهم أترابي، وإذا رأيتهم معافين، وقد علمت أني ميت، تجدد على قلبي الهم والمرض، حتى يعجل لي الموت، فأرحني من هذا بأن لا أراهم، وأفرد لخدمتي دايتي.
ففعلت ما سأل، وكان يحمل إلى الداية في كل يوم ما تأكله، وكانت الداية تأتيه بما يطلب من غير حمية.
فلما كان بعد أيام يسية، حمل إلى الداية مضيرةً لتأكل منها، فتركتها بحيث يقع عليها نظر ابني، ومضت في شغل لها.
فذكرت بعد أن عادت، أن ابني قد نهاها عن أكل ما في الغضارة، ووجدتها قد ذهب كثير مما كان فيها، وبقي بعضه متغير اللون.
قالت: فقلت له: ما السبب ؟ فقال: رأيت أفعى عظيمة قد خرجت من موضع ودبت إليها وأكلت منها ثم قذفت فيها، فصار لونها كما ترين، فقلت: أنا ميت، وهوذا يلحقني ألم شديد، ومتى أظفر بمثل هذا ؟ وجئت، فأكلت من الغضارة ما استطعت، لأموت عاجلاً وأستريح، فلما لم أستطع زيادة أكل رجعت حتى جئت إلى فراشي، وجئت انت.
قالت: ورأيت أنا المضيرة على يده وفمه فصحت.
فقال: لا تعلمي أبي شيئاً، وأدفني الغضارة بما فيها، لئلا يأكلها إنسان فيموت، أو حيوان فيلسع إنساناً فيقتله، ففعلت ما قال، وخرجت إليك.
قال: فلما عرفتني ذلك، ذهب علي أمري، ودخلت إلى ابني، فوجدته نائماً.
فقلت: لا توقظيه، حتى ننظر ما يكون من أمره.
فأتيته آخر النهار، وقد عرق عرقاً شديداً، وهو يطلب المستحم، فأنهضناه إليه، فاندفع بطنه، فقام من ليلته، ومن غده، أكثر من مائة مجلس، فازداد يأسنا منه، وقل القيام، إلا أنه استمر أياماً، ثم انقطع القيام، وقد صار بطنه مثل بطون الأصحاء، فطلب فراريج، فأكل، إلى أن صار كما ترى.

فعجبت من ذلك، وذكرت أن الحكماء الأوائل قالت: إن المستسقي إذا أكل من لحم حية عتيقة مزمنة لها مئون سنين، برأ، ولو قلت لك، إن هذا علاجه، لظننت أني أدافعك، ومن أين يعلم كم عمر الحية إذا وجدت، فسكت عنها.

الباب الحادي عشر

من امتحن من اللصوص بسرق أو قطع

فعوض من الارتجاع والخلف بأجمل صنع

قاطع طريق يرد على القافلة ما أخذ منها

حدثني علي بن شيراز بن سهل القاضي بعسكر مكرم رحمه الله، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي ابن بنت ابن المدبر، ببغداد، قال: حدثني محمد بن علي، قال: حدثني الحسن بن دعبل بن علي الشاعر الخزاعي، قال: حدثني أبي قال: لما قلت:
مدارس آيات خلت من تلاوة
قصدت بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا، وهو بخراسان، ولي عهد المأمون، فوصلت إليه، وأنشدته إياها، فاستحسنها، وقال: لا تنشدها أحداً حتى آمرك.
واتصل خبري بالمأمون، فأحضرني، وسألني عن خبري، ثم قال لي: يا دعبل، أنشدني: مدارس آيات خلت من تلاوة.
فقلت: لا أعرفها يا أمير المؤمنين.
فقال: يا غلام، أحضر أبا الحسن علي بن موسى، فلم يكن بأسرع من أن حضر.
فقال له: يا أبا الحسن، سألت دعبلاً من مدارس آيات فذكر أنه لا يعرفها.
فالتفت إلي أبو الحسن، وقال: أنشده يا دعبل.
فأنشدت القصيدة، ولم ينكر المأمون ذلك، إلى أن بلغت إلى بيت فيها، وهو:
وآل رسول اللّه هلبٌ رقابهم ... وآل زياد غلّظ القصرات
فقال: والله لأهلبنها.
ثم تممتها إلى آخرها، فاستحسنها، وأمر لي بخمسين ألف درهم، وأمر لي علي بن موسى بقريب منها.
فقلت: يا سيدي، أريد أن تهب لي ثوباً يلي بدنك، أتبرك به، وأجعله كفناً.
فوهب لي قميصاً قد أبتذله، ومنشفة، وأظنه قال: وسراويل.
قال: ووصلني ذو الرئاستين، وحملني على برذون أصفر، وكنت أسايره في يوم مطير، وعليه ممطر خز، فأمر لي به، ودعا بغيره فلبسه، وقال: إني آثرتك به، لأنه خير الممطرين، قال: فأعطيت به ثمانين ديناراً، فلم تطب نفسي ببيعه.
وقضيت حاجتي، وكررت راجعاً إلى العراق.
فلما صرت ببعض الطريق، خرج علينا أكراد يعرفون بالماريخان، فسلبوني، وسلبوا القافلة، وكان ذلك في يوم مطير.
فأعتزلت في قميص خلق قد بقي علي، وأنا متأسف - من جميع ما كان علي - على القميص والمنشفة اللذين وهبهما لي علي بن موسى الرضا، إذ مر بي واحد من الأكراد، وتحته البرذون الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين، وعليه الممطر الخز، ثم وقف بالقرب مني، وابتدأ ينشد: مدارس آيات، ويبكي.
فلما رأيت ذلك، عجبت من لص كردي يتشيع، ثم طمعت في القميص والمنشفة.
فقلت: يا سيدي لمن هذه القصيدة ؟ فقال: ما أنت وذاك، ويلك.
فقلت له: فيه سبب أخبرك به.
فقال: هي أشهر من أن يجهل صاحبها.
قلت: فمن هو ؟ قال: دعبل بن علي الخزاعي، شاعر آل محمد، جزاه الله خيراً.
فقلت له: يا سيدي، أنا - والله - دعبل، وهذه قصيدتي.
فقال: ويلك، ما تقول ؟ فقلت: الأمر أشهر من ذلك، فسل أهل القافلة، تخبر بصحة ما أخبرتك به.
فقال: لا جرم - والله - لا يذهب لأحد من أهل القافلة خلالة فما فوقها.
ثم نادى في الناس: من أخذ شيئاً فليرده على صاحبه، فرد على الناس أمتعتهم، وعلي جميع ما كان معي، ما فقد أحد عقالاً.
ثم رحلنا إلى مأمننا سالمين.
قال راوي هذا الخبر عن دعبل: فحدثت بهذا الحديث علي بن بهزاد الكردي فقال لي: ذاك - والله - أبي الذي فعل هذا.
قاطع طريق يتفلسفوحدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سباب الكردي، فقطع علينا، وكان بزي الأمراء، لا بزي القطاع.
فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلته فإذا برجل فاضل، يروي الشعر، ويفهم النحو، فطمعت فيه، وعملت في الحال أبياتاً مدحته بها.
فقال لي: لست أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعة، لأعلم أنك قلته، وأنشدني بيتاً.
قال: فعملت في الحال اجازة له ثلاثة أبيات.
فقال لي: أي شيء أخذ منك ؟ لأرده إليك.
قال: فذكرت له ما أخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.

فرد جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي.
قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.
فقال لي: لم لا تأخذه ؟ فوريت عن ذلك.
فقال: أحب أن تصدقني.
فقلت: وأنا آمن ؟ فقال: أنت آمن.
فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس الذين أخذتها منهم الساعة ظلماً، فكيف يحل لي أن آخذه ؟ فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص، عن بعضهم، قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم - وإن كرهوا أخذها - كان ذلك مباحاً لهم، لأن عين المال مستهلكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة، بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا.
قلت: بلى، قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يعلم إن هؤلاء ممن استهلكت أموالهم الزكاة ؟ فقال: لا عليك، أنا أحضر هؤلاء التجار الساعة، وأريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال.
ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاءوا.
فقال لأحدهم: منذ كم أنت تتجر في هذا المال الذي قطعنا عليه ؟ قال: منذ كذا وكذا سنة.
قال: فكيف كنت تخرج زكاته ؟ فتلجلج، وتكلم بكلام من لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلاً عن أن يخرجها.
ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلثمائة درهم، وعشرة دنانير، وحالت عليك السنة، فكم تخرج منها للزكاة ؟ فما أحسن أن يجيب.
ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دين على نفسين، أحدهما مليء، والآخر معسر، ومعك دراهم، وقد حال الحول على الجميع، كيف تخرج زكاة ذلك ؟ قال: فما فهم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.
فصرفهم، ثم قال لي: بان لك صدق حكاية أبي عثمان الجاحظ ؟ وأن هؤلاء التجار ما زكوا قط؟ خذ الآن الكيس.
قال: فأخذته، وساق القافلة لينصرف بها.
فقلت: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذ معنا من يبلغنا المأمن، كان لك الفضل.
ففعل ذلك.

القاضي التنوخي والد المؤلف والكرخي قاطع الطريق

وحدثني أبي رضي الله عنه، قال: لما كنت مقيماً بالكرخ، أتقلد القضاء بها، وبالمرج وأعمالها، كان بوابي رجل من أهل الكرخ، له ابن، هو ابن عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن، ويمرح مع غلماني، وأهب له في الأوقات دراهم وثياباً، وأحمله، وأرقصه، كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم.
ثم صرفت عن الكرخ، ورحلت، ولم أعرف للرجل ولا لولده خبراً.
ومضت السنون، فأنفذني أبو عبد الله البريدي من واسط، برسالة إلى أبي بكر بن رائق، فلقيته بحدود العاقول، وانحدرت أريد واسطاً.
وقد كان قيل لي قبل إصعادي، أن في الطريق لصاً يعرف بالكرخي، مستفحل الأمر.
وكنت خرجت من واسط، بطالع اخترته، على موجب تحويل مولدي لتلك السنة، وقد استظهرت عند نفسي، وكفاني الله تعالى - في إصعادي - أمر اللص، فلم أر له أثراً.
فلما انحدرت إلى واسط، وكنا في بعض الطريق، خرج علينا اللصوص في سفن عدة، بقسي، ونشاب، وسلاح شاك، وهم نحو مائة نفس، كالعسكر العظيم.
وكان معي غلمان يرمون، فحلفت أن من رمى منهم بسهم، ضربته إذا صرت في البلد مائة مقرعة، وذلك أني خفت أن يقصدنا اللصوص، ثم لا يرضون إلا بقتلي.
قال: وبادرت فأخذت ذلك السلاح الذي كان معهم، فرميت جميعه في الماء، واستسلمت للأمر طلباً للسلامة.
وجلست أفكر في الطالع الذي خرجت به، فإذا ليس ما يوجب - عندهم - القطع علي، والناس قد أديروا إلى الشاطئ، وأنا في جملتهم، حيث تفرغ سفنهم، وينقل ما فيها إلى الشط، وهم يخبطون بالسيوف، وكنت في وسط الكار، وما انتهى الأمر إلي.
فجعلت أعجب من حصول القطع، وأن الطالع لا يوجبه، ولست أتهم علمي مع هذا.
فأنا كذلك، وإذا بسفينة فيها رئيسهم قد طرح على زبزبي كما يطرح على سفن التجار، ليشرف على ما يؤخذ منها.
فحين رآني، منع أصحابه من انتهاب شيء من زبزبي، وصعد إلي وحده، فتأملني طويلاً، ثم انكب وقبل يدي، وكان متلثماً، فلم أعرفه.
قال: فارتعت، وقلت: يا هذا مالك ؟ فسفر، وقال: أما تعرفني يا سيدي ؟ فتأملته، وأنا جزع، فلم أعرفه.
فقلت: لا والله.
فقال: بلى، أنا عبدك، ابن فلان الكرخي حاجبك، وأنا الصبي الذي ربيتني في دارك، وكنت تحملني على عنقك، وتطعمني بيدك.

فتاملته، فإذا الخلقة خلقته، إلا أن اللحية غيرته في عيني، فسكن خاطري، وقلت: يا هذا، كيف بلغت إلى هذا الحال ؟ قال: يا سيدي، نشأت، فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان، فما قبلني أحد، فانضاف إلي هؤلاء الرجال، وطلبت قطع الطريق ولو كان السلطان أنصفني، ونزلني بحيث أستحق من الشجاعة، وانتفع بخدمتي، ما كنت أفعل هذا بنفسي.
قال: فأقبلت عليه أعظه، وأخوفه الله، ثم خشيت أن يشق ذلك عليه، فيفسد رعايته لي، فأقصرت.
ثم قال: يا سيدي، لا يكون بعض هؤلاء قد أخذ منك شيئاً ؟ قلت: ما ذهب منا إلا سلاح رميته أنا إلى الماء، وشرحت له الصورة.
فضحك، وقال: قد والله أصاب القاضي، فمن في الكار ممن تعنى به حتى أطلقه ؟ قلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة، فلو أفرجت عن الجميع كان أحسن بك.
فقال: والله، لولا أن أصحابي قد تفرقوا بما أخذوا، لفعلت، ولكنهم لا يطيعوني في رده، ولكني لا أدع ما بقي من السفن في الكار أن يؤخذ منها شيء، فجزيته خيراً.
فصعد إلى الشط، وأصعد جميع أصحابه، ومنع أن يؤخذ شيء من باقي السفن، فما تعرض لها أحد، ورد على قوم ضعفاء أشياء كثيرة كانت أخذت منهم، وأطلق الكار.
وسار معي في أصحابه، إلى أن صار بيني وبين المأمن شيء يسير ثم ودعني، وانصرف في أصحابه.

ابن حمدي اللص البغدادي وفتوته وظرفه

وحدثني عبد الله بن عمر الحارثي، قال: حدثني بعض التجار البغداديين، قال: خرجت بسلع لي، ومتاع من بغداد أريد واسطاً، وكان البريدي بها، والدنيا مفتتنة جداً.
فقطع علي، وعلى الكار الذي كنت فيه، لص كان في الطريق، يقال له: ابن حمدي، يقطع قريباً من بغداد، فأفقرني، وكان معظم ما أملكه معي، فسهل علي الموت، وطرحت نفسي له.
وكنت أسمع ببغداد، أن أبن حمدي هذا، فيه فتوة، وظرف، وأنه إذا قطع، لم يعرض لأرباب البضائع اليسيرة، التي تكون دون الألف درهم، وإذا أخذ ممن حاله ضعيفة شيئاً، قاسمه عليه، وترك شطر ماله في يديه، وأنه لا يفتش امرأة، ولا يسلبها، وحكايات كثيرة مثل ذلك.
فأطمعني ذلك في أن يرق لي، فصعدت إلى الموضع الذي هو جالس فيه، وخاطبته في أمري، وبكيت، ورققته، ووعظته، وحلفت له أن جميع ما أملكه قد أخذه، وأني أحتاج إلى أن أتصدق من بعده.
فقال لي: يا هذا، الله بيننا وبين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا، فإنه قد أسقط أرزاقنا، وأحوجنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعله نرتكب أمراً أعظم مما يرتكبه السلطان.
وأنت تعلم أن أبن شيرزاد ببغداد يصادر الناس ويفقرهم، حتى أنه يأخذ الموسر المكثر، فلا يخرج من حبسه، إلا وهو لا يهتدي إلى شيء غير الصدقة، وكذلك يفعل البريدي بواسط والبصرة، والديلم بالأهواز.
وقد علمت أنهم يأخذون أصول الضياع، والدور، والعقار، ويتجاوزون ذلك إلى الحرم والأولاد، فاحسب أننا نحن مثل هؤلاء، وأن واحداً منهم صادرك.
فقلت: أعزك الله، ظلم الظلمة، لا يكون حجة، والقبيح لا يكون سنة، وإذا وقفت أنا وأنت، بين يدي الله عز وجل، أترضى أن يكون هذا جوابك له ؟ فأطرق ملياً، ولم أشك في أنه يقتلني، ثم رفع رأسه، فقال: كم أخذ منك ؟ فصدقته.
فقال: أحضروه، فأحضر، فكان كما ذكرت، فأعطاني نصفه.
فقلت له: الآن، قد وجب حقي عليك، وصار لي بإحسانك إلي حرمة.
فقال: أجل.
فقلت: إن الطريق فاسد، وما هو إلا أن أتجاوزك حتى يؤخذ هذا مني أيضاً، فأنفذ معي من يوصلني إلى المأمن.
قال: ففعل ذلك، وسلمت بما أفلت معي، فجعل الله فيه البركة، وأخلف.
قطع عليه الطريق فتخلص بخاتم عقيقحدثني الحسن بن صافي، مولى أبن المتوكل القاضي، وكان أبوه يعرف بغلام ابن مقلة قال: لما حصل المتقي لله بالرقة، ومعه أبو الحسين علي بن محمد بن علي، ابن مقلة، وزيره، كاتبني بأن أخرج إليه، فخرجت، ومعي جماعة من أسبابه، وأسباب الخليفة إلى هيت.
وضم إلينا ابن فتيان خفراء، يؤدونا إلى الرقة، ورحلت من هيت، ومعنا الخفراء والغلمان، ومن انحدر معنا من هيت، فصرنا نحواً من مائتي مقاتل.
فلما كان في اليوم الرابع من مسيرنا، ونحن في البر الأقفر، وقد نزلنا نستريح، إذا بسواد عظيم من بعيد، لا نعلم ما هو، فلم نزل نرقبه إلى أن بان لنا، وإذا هو نحواً من مائة مطية، على كل مطية رجلان.

فجمعنا أصحابنا ورجالنا، وقرب القوم منا وأناخوا جمالهم وعقلوها، وأخذوا جحفهم، وسلوا سيوفهم، وتقدمهم رئيس لهم، فقال لنا: يا معشر المسافرين، لا يسلن أحد منكم سيفاً، ولا يرمي بسهم، فمن فعل ذلك فهو مقتول.
ففشل كل من كان معنا، وقاتل قوم منا قتالاً ضعيفاً، وخالطنا الاعراب، وأخذوا جماعة منا، وأخذونا، وجميع ما كان معنا، فأقتسموه، وتركونا مطرحين في الشمس.
فإذا بي قد عريت، وبقي علي خلق لا أتوارى منه بشيء، وليس معي ماء أشربه، ولا ظهر أركبه، وليس بيني وبين الموت إلا ساعات يسيرة، فقامت علي القيامة، واشتد جزعي، ولم يكن لي حيلة، فأيست من الحياة.
فأنا كذلك، إذ وجدت شستجة، كان لي فيها خاتم عقيق، كبير الفص، كثير الماء، فأخذته، ووقع لي في الحال وجه الحيلة، فجعلته في قطن، وخبأته معي وقصدت رئيس القوم، وهو الذي تولى أخذ مالي، وعرف موضعي وقدري.
فقلت له: قد رأيت عظيم ما أخذته مني، وأنا خادم الخليفة أطال الله بقاءه، وقد خرجت لأمر كبير من خدمته، وقد فزت بما أخذته مني، فما قولك في أمر آخر أعظم مما أخذته، أعاملك به، وأسديه إليك حلالاً لا يجري مجرى الغصوب، على أن تؤمنني على نفسي، وترد علي من ثيابي ما يسترني، وترد علي من دوابي دابة، وتسقيني ماء، وتسيرني حتى أحصل في مأمني ؟ فقال: ما هو ؟ قلت: تعطيني أمانك، وعهودك، ومذامك، على الوفاء، ففعل.
فانفردت به، وجعلت يدي مقابلة للشمس، وأريته الخاتم، وأقمت فصه في شعاع الشمس، فكاد يخطف بصره، ورأى ما لم ير مثله.
وقال: استره، وقل لي خبره.
فقلت: هذا خاتم الخلافة، وفصه هذا ياقوت أحمر، وهو الذي يتداوله الخلفاء منذ العهد الطويل، ويعرف بالجبل، ولا يقوم أمر الخلفاء إلا به، وقد كان مخبوءاً ببغداد، فأمرني الخليفة أن أحمله إليه في جملة ما حملته، وحيث حصل هذا الخاتم من بلاد الله، تشبث الخلفاء إلى أخذه بكل ثمن، وإن حصل عندك حتى تمتنع من بيعه إلا بمائة ألف دينار - ولم يقدروا عليك - لأعطوك إياها، والرأي أن تأخذه، وتنفذه إلى ناحية الشام، وتخفي حصول الخاتم في يدك، فإني إذا حضرت بحضرة الخليفة، وعرفته خبره، جاءتك رسله بالرغائب، حتى يرتجع منك بأي ثمن احتكمت.
فقال: إذاً خذ من ثيابك ما تريد.
فأخذت من ثيابي ما احتجت إليه، وأخذ الخاتم فخبأه في جيبه، وأركبني راحلة موطأة، وأعطاني إداوتين كبيرتين ماءً، وسار معي، والناس قد هلكوا من العطش.
ولم يزل يسير معي، إلى أن بلغنا إلى حصن في البرية، يعرف بالزيتونة، من بناء هشام بن عبد الملك، وفيه رجل من بني أمية، يكنى بأبي مروان، معه في الحصن نحواً من مائتي رجل.
فلما حصلت عنده، انصرف الأعرابي، وعرفت أبا مروان خبري في القطع ومن أنا، فأعظم أمري، وأكرمني، وأنفذ معي من أصحابه من بلغني الرقة سالماً

سرق ماله بالبصرة واستعاده بواسط

حدثني محمد بن عمر بن شجاع المتكلم، ويلقب بجنيد، قال: حدثني رجل من الدقاقين، في دار الزبير بالبصرة، قال: أورد علي رجل غريب، سفتجة بأجل، فكان يتردد علي، إلى أن حل ميعاد السفتجة.
ثم قال لي: دعها عندك حتى آخذها متفرقة، فكان يجيء في كل يوم فيأخذ بقدر نفقته إلى أن نفدت، وصار بيننا معرفة، وألف الجلوس عندي، وكان يراني أخرج من كيسي من صندوق لي، فأعطيه منه.
فقال لي يوماً: إن قفل الرجل، صاحبه في سفره، وأمينه في حضره، وخليفته على حفظ ماله، والذي ينفي الظنة عن أهله وعياله، فإن لم يكن وثيقاً تطرقت الحيل عليه، وأرى قفلك هذا وثيقاً، فقل لي ممن ابتعته، لأبتاع مثله.
فقلت: من فلان بن فلان الأقفالي، في جوار باب الصفارين.
قال: فما شعرت يوماً، وقد جئت إلى دكاني، فطلبت صندوقي لأخرج منه شيئاً من الدراهم، فحمله الغلام إلي، ففتحته، فإذا ليس فيه شيء من الدراهم.
فقلت لغلامي، وكان غير متهم عندي: هل أنكرت من الدرابات شيئاً ؟ قال: لا فقلت: فتش، هل ترى في الدكان نقباً ؟ قال: لا.
فقلت: فمن السقف حيلة ؟ قال: لا.
قلت: فاعلم أن الدراهم قد ذهبت.
فقلق الغلام، فسكنت، وقمت لا أدري ما أصنع، وتأخر الرجل عني، فلما غاب اتهمته، وذكرت مسألته عن القفل.
فقلت للغلام، أخبرني كيف تفتح دكاني وتغلقه ؟

قال: رسمي أن ادرب درابتين درابتين، والدرابات في المسجد، فأحملها في دفعات، اثنتين أو ثلاثاً، فأشرجها، ثم أقفل، وكذلك عندما أفتحها.
فقلت: البارحة، واليوم، فعلت ذلك ؟ قال: نعم.
فقلت: فإذا مضيت لترد الدرابات، أو تحضرها، على من تدع الدكان ؟ قال: خالياً.
قلت: فمن هنا دهيت.
ومضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل، فقلت: جاءك إنسان منذ أيام، واشترى منك مثل هذا القفل ؟ قال: نعم، رجل من صفته كيت وكيت، فأعطاني صفة صاحبي.
فعلمت أنه احتال على الغلام وقت المساء، لما انصرفت أنا، ومضى الغلام يحمل الدرابات، فدخل هو إلى الدكان فاختبأ فيه، ومعه مفتاح القفل الذي اشتراه، والذي يقع على قفلي، وأنه أخذ الدراهم، وجلس طول ليلته خلف الدرابات. فلما جاء الغلام، وفتح درابتين، وحملها ليرفعها، خرج، وأنه ما فعل ذلك، إلا وقد خرج إلى بغداد.
فسلمت دكاني إلى الغلام، وقلت له: من سأل عني فعرفه أني خرجت إلى ضيعتي.
قال: فخرجت، ومعي قفلي ومفتاحه، وقلت: أبتدئ بطلب الرجل بواسط.
فلما صعدت من السميرية، طلبت خاناً في الكتبيين بواسط، لأنزله، فأرشدت إليه، فصعدت، فإذا بقفل مثل قفلي سواء على بيت.
فقلت لقيم الخان: هذا البيت من ينزله ؟ فقال: رجل قدم من البصرة أمس.
فقلت: أي شيء صفته ؟ فوصف لي صفة صاحبي، فلم أشك أنه هو، وأن الدراهم في بيته.
فاكتريت بيتاً إلى جانبه، ورصدت البيت، حتى انصرف قيم الخان، وقمت ففتحت القفل بمفتاحي، فحين دخلت البيت، وجدت كيسي بعينه، فأخذته، وخرجت وأقفلت الباب، ونزلت في الوقت إلى السفينة التي جئت فيها، وأرغبت الملاح، وأنحدرت إلى البصرة.
فما أقمت بواسط إلا ساعتين من نهار، ورجعت إلى منزلي بمالي بعينه.

وضع السيف على عنقه ثم نجا سالما

ً
وحدثني عبيد الله بن محمد الصروي، قال: حدثني أكار بنهر سابس، قال: خرجت من نهر سابس، إلى موضع في طرف البرية، يقال له: كرخ راذويه، أريد أعمال سقي الفرات.
فبلغني أن رجلاً يقطع الطريق وحده، وحذرت منه.
فلما خرجت من القرية، رأيت رجلاً تدل فراسته على شدته ونجدته، وفي يده زقاية، فجسرني على الطريق.
قال: فترافقنا، حتى انتهينا إلى سقاية في البرية، فخرج علينا اللص متحزماً، متسلحاً، فصاح بنا.
فطرح رفيقي كارة كانت على ظهره، وأخذ زقايته، وبادر إلى اللص.
فلما داخله اللص ليضربه، ضرب بعصاه يد اللص، فعطل اللص الضربة، وضرب الزقاية فقطعها، ثم ضرب بسيفه رجل الرجل فأقعده، ثم وشحه بالسيف حتى قتله، وحمل علي ليقتلني.
فقلت له: ما حاربتك، ولا امتنعت عليك من أخذك ثيابي، فلأي شيء تقتلني ؟ فقال: استكف فاستكتفت، فكتفني بتكتي ثم حمل الثياب وانصرف.
فبقيت متحيراً، مشفياً على التلف، بالعطش، والشمس، والوحوش، فما زلت أتمطى في التكة حتى قطعتها، وقمت أمشي إلى أن جنني الليل.
فرأيت في الصحراء - على بعد - ضوء نار خفياً، فقدرته في قرية، فقصدته، فإذا هو يخرج من قبة في الصحراء، فقربت منها، واطلعت، فإذا اللص جالس في القبة، يشرب نبيذاً، ومعه امرأة.
فلما بصر بي صاح، وتناول سيفه وخرج إلي، فما زلت أناشده الله، وأحلف له أنني ما علمت أنه هو، ولا قصدته عمداً، وإنما رأيت النار فقصدتها، فلم يعبا بقولي.
وحلفته المرأة أن لا يقتلني بحضرتها، فجذبني إلى نهر جاف قريب من القبة، وطرحني تحته، وجرد سيفه ليقتلني.
فسمع صوت الأسد قريباً منه، فارتعدت يده، وسكت، وأخذ يسكتني، فأنست بالسبع وزدت في الصياح.
فما شعرت إلا والسبع قد تناوله من على صدري وهرول في الصحراء.
فقمت، وأخذت السيف، وجئت إلى القبة، فلم تشك المرأة أنني هو، فقالت: قتلته ؟ فقلت: الله عز وجل قتله، لا أنا، وقصصت عليها القصة، وسألتها عن شأنها.
فقالت: أنا امرأة من أهل القرية الفلانية، أسرني هذا الرجل، وخبأني في هذا الموضع، وهو يتردد إلي في كل ليلة.
فأرهبتها، فدلتني على دفائن له في الصحراء، فأخذتها، وحملت المرأة، وبلغت القرية، وسلمتها إلى أهلها.
وفزت بمال عظيم أغناني عن مقصدي، وعدت إلى بلدي.
كيف استعاد التاجر البصري مالهوحدثني أيضاً، قال: حدثني ابن الدنانيري التمار الواسطي، قال: حدثني غلام لي قال:

كنت ناقداً بالأبلة، لرجل تاجر، فاقتضيت له في البصرة نحو خمسمائة دينار عيناً وورقاً، ولففتها في فوطة، وأشفيت على المصير إلى الأبلة.
فما زلت أطلب ملاحاً، حتى رأيت ملاحاً مجتازاً في خيطية خفيفة فارغة، فسألته أن يحملني، فسهل علي الأجرة، وقال: أنا راجع إلى منزلي بالأبلة، فانزل معي، فنزلت، وجعلت الفوطة بين يدي.
وسرنا إلى أن تجاوزنا مسماران، فإذا رجل ضرير على الشط، يقرأ أحسن قراءة تكون.
فلما رآه الملاح كبر، فصاح هو بالملاح: احملني، فقد جنني الليل، وأخاف على نفسي، فشتمه الملاح.
فقلت له: احمله، فدخل إلى الشط فحمله، فلما حصل معنا رجع إلى قراءته، فخلب عقلي بطيبها.
فلما قربنا من الأبلة، قطع القراءة، وقام ليخرج في بعض المشارع في الأبلة، فلم أر الفوطة، فقمت واقفاً، واضطربت، وصحت.
فاستغاث الملاح، وقال: الساعة تقلب الخيطية، وخاطبني خطاب من لا يعلم حالي.
فقلت له: يا هذا، كانت بين يدي فوطة فيها خمسمائة دينار.
فلما سمع الملاح ذلك، بكى، ولطم، وتعرى من ثيابه، وقال: أدخل الشط ففتش، ولا لي موضع أخبئ فيه شيئاً فتتهمني بسرقته، ولي أطفال، وأنا ضعيف، فالله، الله في أمري، وفعل الضرير مثل ذلك.
وفتشت الخيطية فلم أجد شيئاً، فرحمتهما، وقلت: هذه محنة لا أدري كيف التخلص منها، وخرجنا، فعملت على الهرب، وأخذ كل واحد منا طريقً، وبت في بيتي، ولم أمض إلى صاحبي، وأنا بليلة عظيمة.
فلما أصبحت، عملت على الهرب إلى البصرة، لأستخفي فيها أياماً، ثم أخرج إلى بلد شاسع.
فانحدرت، فخرجت في مشرعة بالبصرة، وأنا أمشي وأتعثر وأبكي قلقاً على فراق أهلي وولدي، وذهاب معيشتي وجاهي، إذ أعترضني رجل.
فقال: يا هذا، ما بك ؟ فقلت: أنا في شغل عنك، فاستحلفني، فأخبرته.
فقال: امض إلى السجن ببني نمير، واشتر معك خبزاً كثيراً، وشواءً جيداً، وحلوى، وسل السجان أن يوصلك إلى رجل محبوس، يقال له: أبو بكر النقاش، وقل له: أنا زائره، فإنك لا تمنع، وإن منعت، فهب للسجان شيئاً يسيراً فإنه يدخلك إليه، فإذا رأيته فسلم عليه ولا تخاطبه حتى تجعل بين يديه ما معك، فإن أكل وغسل يديه، فإنه يسألك عن حاجتك، فأخبره خبرك، فإنه سيدلك على من أخذ مالك، ويرتجعه لك.
ففعلت ذلك، ووصلت إلى الرجل، فإذا هو شيخ مثقل بالحديد.
فسلمت عليه، وطرحت ما معي بين يديه، فدعا رفقاءً كانوا معه فأقبلوا يأكلون معه، فلما استوفى وغسل يديه.
قال: من أنت، وما جاء بك ؟ فشرحت له قصتي.
فقال: امض الساعة لوقتك - ولا تتأخر - إلى بني هلال، فاقصد الدرب الفلاني حتى تنتهي إلى آخره، فإنك تشاهد باباً شعثاً، فافتحه وادخل بلا استئذان، فستجد دهليزاً طويلاً يؤدي إلى بابين، فادخل الأيمن منهما، فسيدخلك إلى دار فيها بيت فيه أوتاد وبواري، وعلى كل وتد إزار ومئزر، فانزع ثيابك، وعلقها على الوتد، واتزر بالمئزر واتشح بالإزار، واجلس، فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت، إلى أن يتكاملوا، ثم يؤتون بطعام فكل معهم، وتعمد أن تفعل كما يفعلون في كل شيء.
فإذا أتوا بالنبيذ فاشرب معهم أقداحاً يسيرة، ثم خذ قدحاً كبيراً، فاملأه، وقم، وقل: هذا ساري لخالي أبي بكر النقاش، فسيضحكون ويفرحون، ويقولون: هو خالك ؟ فقل: نعم، فسيقومون ويشربون لي، فإذا تكامل شربهم لي، وجلسوا، فقل لهم: خالي يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: بحياتي يا فتيان، ردوا على ابن أختي المئزر الذي أخذتموه أمس من السفينة بنهر الأبلة، فإنهم يردونه عليك.
فخرجت من عنده، ففعلت ما قال لي، وجرت الصورة، على ما ذكر، سواء بسواء، وردت الفوطة علي بعينها، وما حل شدها.
فلما حصلت لي، قلت لهم: يا فتيان، هذا الذي فعلتموه هو قضاء لحق خالي، وأنا لي حاجة تخصني.
فقالوا: مقضية.
فقلت: عرفوني كيف أخذتهم الفوطة ؟ فامتنعوا، فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقاش.
فقال لي واحد منهم: تعرفني ؟ فتأملته، فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ. وإنما كان يتعامى حيلة ومكراً.
وأومأ إلى آخر، وقال: أتعرف هذا ؟ فتأملته، فإذا هو الملاح بعينه.
فقلت: أخبراني كيف فعلكما ؟

فقال الملاح: أنا أدور في المشارع في أول أوقات المساء، وقد سبقت المتعامي فأجلسته حيث رأيت، فإذا رأيت من معه شيء له قدر، ناديته وأرخصت عليه الأجرة وحملته، فإذا بلغ إلى القارئ، وصاح بي، شتمته، حتى لا يشك الراكب في براءة الساحة، فإن حمله الراكب فذاك، وإن لم يحمله رققته حتى يحمله، فإذا حمله، وجلس هذا يقرأ قراءته الطيبة، ذهل الرجل كما ذهلت أنت، فإذا بلغنا إلى موضع نكون قد خلينا فيه رجلاً متوقعاً لنا، يسبح حتى يلاصق السفينة، وعلى رأسه قوصرة، فلا يفطن الراكب، فيستلب هذا الرجل المتعامى - بخفة - الشيء الذي قد عينا عليه، فيلقيه إلى الرجل الذي عليه القوصرة، فيأخذها ويسبح إلى الشط، فإذا أراد الراكب النزول، وافتقد ما معه، عملنا كما رأيت، فلا يتهمنا، ونتفرق، فإذا كان الغد، اجتمعنا واقتسمنا ما أخذناه، واليوم كان يوم القسمة، فلما جئت برسالة خالك أستاذنا، سلمنا إليك الفوطة، قال: فأخذتها، وانصرفت
صادف درء السيل درءاً يصدعه
حدثني عبيد الله بن محمد الصروي، قال: حدثني بعض إخواني: أنه كان ببغداد رجل يطلب التلصص في حداثته، ثم تاب وصار بزازاً.
قال: فانصرف ليلة من دكانه، وقد أغلقه، فجاء لص متزي بزي صاحب الدكان، في كمه شمعة صغيرة، ومفتاح، فصاح بالحارس، وأعطاه الشمعة في الظلمة، وقال: أشعلها وجئني بها، فإن لي في هذه الليلة في دكاني شغلاً.
فحضر الحارس وأشعل الشمعة، وركب اللص المفاتيح على الأقفال ففتحها، ودخل الدكان.
فجاء الحارس بالشمعة مشعلة، فأخذها منه وهو لا يتبين وجهه، وجعلها بين يديه، وفتح سفط الحساب، وأخرج ما فيه، وجعل ينظر في الدفاتر، ويوري بيده أنه يحسب، والحارس يطالعه في تردده، ولا يشك في أنه صاحب الدكان.
إلى أن قارب السحر، فاستدعى اللص الحارس، وكلمه من بعيد، وقال له: أطلب لي حمالاً.
فجاء بحمال، فحمل عليه من متاع الدكان أربع زرم مثمنة، وأقفل الدكان، وانصرف ومعه الحمال، وأعطى الحارس درهمين، فلما أصبح الناس، جاء صاحب الدكان ليفتحه، فقام إليه الحارس يدعو له، ويقول: فعل الله بك وصنع كما أعطيتني البارحة الدرهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه، ولم يرد جواباً، وفتح دكانه، فوجد سيلان الشمعة، وحسابه مطروحاً، وفقد الرزم الأربع، فاستدعى الحارس، وقال له: من كان الذي حمل معي الرزم البارحة من دكاني ؟ فقال له الحارس: أليست استدعيت مني حمالاً، فجئتك به، فحملها معك ؟ قال: بلى، ولكني كنت ناعساً متنبذاً، وأريد الحمال، فجئني به، فمضى الحارس فجاءه بالحمال، فأغلق الرجل الدكان، وأخذ الحمال معه، ومشى، وقال: إلى أين حملت الرزم البارحة، فإني كنت متنبذاً.
قال: إلى المشرعة الفلانية، واستدعيت فلاناً الملاح، فركبت معه.
فصعد الرجل المشرعة، فسأل عن الملاح فدل عليه وركب معه. وقال: أين أوصلت اليوم أخي الذي كان معه الأربع رزم ؟ قال: إلى المشرعة الفلانية.
قال: أطرحني إليها، فطرحه.
قال: ومن حملها معه ؟ قال: فلان الحمال.
فدعا به، ولطفه، وقال: أين حملت الرزم الأربع البارحة ؟ واستدله برفق وأعطاه شيئاً، فجاء به إلى باب غرفة، في موضع بعيد عن البلد، قريب من الصحراء، فوجد الباب مقفلاً.
واستوقف الحمال إلى أن فش القفل وفتح الباب، ودخل، فوجد الأربع رزم بحالها، وإذا في البيت بركان معلق على حبل، فلق الرزم فيه، ودعا الحمال فحملها.
فحين خرج من الغرفة، استقبله اللص، وفهم الأمر، فاتبعه إلى الشط، فجاء إلى المشرعة، ودعا الملاح ليعبر.
فدعا الحمال من يحط عنه، فجاء اللص، فحط عنه، كأنه مجتاز متطوع، فأدخل الرزم إلى السفينة مع صاحبها، ثم جعل البركان على كتفه، وقال للتاجر: يا أخي أستودعك الله، فقد استرجعت رزمك، فدع كسائي.
فضحك منه وقال: أنزل ولا خوف عليك.
فنزل معه، فاستتابه، ووهب له شيئاً، وصرفه.

قصة الأخوين عاد وشداد

وحكى عبيد الله بن محمد بن الحسن العبقسي الشاعر، قال: حدثني شاعر كان يعرف بغلام أبي الغوث، قال: كنت من أهل قرية من نواحي الشام، أسكنها أنا وأسلافي، فكنا نطحن أقواتنا في رحى ماء على فراسخ من البلد، يخرج إليها أهل البلد وأهل القرى المجاورة بغلاتهم، فتكثر، فلا يتمكن من الطحن إلا الأقوى فالأقوى.

فمضيت مرة ومعي غلة، وحملت معي خبزاً ولحماً مطبوخاً يكفيني لأيام، وكان الزمان شاتياً، لأقيم على الرحى، حتى يخف الناس فأطحن فيها، على عادتي تلك.
فلما صرت عند الرحى، حططت أعدالي، وجلست في موضع نزه، وفرشت سفرتي لآكل.
واجتاز بي رجل عظيم الخلقة، فدعوته ليأكل، فجلس فأكل كلما كان في سفرتي، حتى لم يدع فيها شيئاً، ولا أوقية واحدة.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً بان له في، فأمسك، وغسلنا أيدينا.
فقال لي: على أي شيء مقامك هنا ؟ فقلت: لأطحن هذه الغلة.
فقال لي: فلم لا تطحنها اليوم، فأخبرته بسبب تعذر ذلك علي.
قال: فثار كالجمل، حتى شق الناس وهم مزدحمون على الرحى، وهي تدور، فجعل رجله عليها فوقفت ولم تدر.
فعجب الناس، وقال: من فيكم يتقدم ؟ فجاء رجل أيد شديد، فأخذ بيده، ورمى به كالكرة، وجعله تحت رجله الأخرى، فما قدر أن يتحرك.
وقال: قدموا غلتي إلى الطحن وإلا كسرت الرحى، وكسرت الرحى، وكسرت عظام هذا.
فقالوا: يا هذا هات الغلة، فجئت بها، فطحنت، وفرغت منها، وجعلتها في الأعدال.
وقال لي: قم.
قلت: إلى أين ؟ قال: إلى منزلك.
قلت: لا أسلك الطريق وحدي، فإنه مخوف، ولكن أصبر حتى يفرغ أهل قريتي، وأرجع معهم.
فقال: قم وأنا معك، ولسنا نخاف - بإذن الله عز وجل - شيئاً.
فقلت في نفسي: من كانت تلك القوة قوته يجب أن آنس به، فقمت، وحملت الغلة على الحمير، وسرنا إلى أن جئنا إلى قريتي، ولم نلق في طريقنا بأساً.
فلما دخلت إلى بيتي، خرج والدي وإخوتي، وعجبوا من سرعة ورودي بالغلة، ورأوا الرجل، فسألوني عن القصة، فأخبرتهم.
وسألنا الرجل أن يقيم في ضيافتنا، ففعل، فذبحنا له بقرة، وأصلحنا له سكباجاً، وقدم إليه، فأكل الجميع بنحو المائة رطل خبزاً.
فقال له أبي: يا هذا، ما رأيت مثلك قط، فأي شيء أنت ؟ ومن أين معاشك ؟ قال: أنا رجل من الناحية الفلانية، وأسمي شداد، وكان لي أخ أشد بدناً وقلباً مني، وأسمه عاد، وكنا نبذرق القوافل من قريتنا إلى مواضع كثيرة، ولا نستعين بأحد، وتخرج علينا الرجال الكثيرة، فألقاهم أنا وأخي فقط فنهزمهم، فأشتهر أمرنا، حتى كان إذا قيل قافلة عاد وشداد، لم يعرض لها أحد، فمكثنا كذلك سنين كثيرة.
فخرجنا مرة أنا وأخي، نسير قافلة قد خفرناها، فلما صرنا بالفلاة، رأينا سواداً مقبلاً نحونا، فأستطرفنا أن يقدم علينا أحد، ثم بان لنا شخص رجل أسود، على ناقة حمراء، ثم خالطنا.
وقال: هذه قافلة عاد وشداد ؟ قلنا: نعم.
فترجل ودعانا للبراز، فانتضينا سيوفنا وانقضضنا عليه، فضرب ساق أخي بالسيف ضربة أقعدته، وعدا علي، فقبض على كتفي، فما أطقت الحركة.
فكتفني، ثم كتف أخي، وطرحنا على الناقة كالزاملتين، ثم ركبها وسار بعد أن أخذ من القافلة ما كان فيها من عين، وورق، وحلي، وشيئاً من الزاد، وأوقر الراحلة بذلك.
وسار بنا على غير محجة، في طريق لا نعرفه، بقية يومنا وليلتنا وبعض الثاني، حتى أتى جبلاً لا نعرفه، فأوغل فيه، وبلغ إلى وجه منه فدخله، فانتهى إلى مغارات، فأناخ الراحلة، ثم رمى بنا عنها، وتركنا في الكتاف.
وجاء إلى مغارة على بابها صخرة عظيمة لا يقلعها إلا الجماعة، فنحاها عن الباب واستخرج منها جارية حسناء، فسألها عن خبرها، وجلسا يأكلان مما جاء به من الزاد، ثم شربا، فقال لها: قومي، فقامت، ودخلت الغار.
ثم جاء إلى أخي، فذبحه وأنا أراه، وسلخه، وأكله وحده، حتى لم يدع منه إلا عظامه.
ثم استدعى الجارية، فخرجت، وجعلا يشربان، فلما توسط شربه، جرني، فلم أشك أنه يريد ذبحي، فإذا هو قد طرحني في غار من تلك المغارات، وحل كتافي، وأطبق الباب بصخرة عظيمة، فأيست من الحياة، وعلمت أنه قد أدخرني لغد.
فلما كان في الليل، لم أحس إلا بامرأة تكلمني، فقلت لها: ما بالك ؟ فقالت: إن هذا العبد قد سكر ونام، وهو يذبحك في غد كما ذبح صاحبك، فإن كانت لك قوة فاجهد في دفع الصخرة واخرج فاقتله، وأنج بي وبنفسك.
فقلت: ومن أنت ؟

قالت: أنا امرأة من البلد الفلاني، ذات نعمة، خرجت أريد أهلاً لي في البلد الفلاني، فخرج علينا هذا العدو لله، فأهلك القافلة التي كنت فيها، ورآني فأخذني غصباً، وأنا منذ كذا وكذا شهراً، على هذه الصورة، يرتكب مني الحرام، وأشاهد ذبحه للناس وأكله لهم، ولا يوصف له إنسان بشدة بدن إلا قصده، حتى يقهره، ثم يجيء به فيأكله، ويعتقد أن شدته تنتقل إليه، وإذا خرج حبسني في الغار، وخلف عندي مأكولاً وماءً لأيام، ولو اتفق أنه يحتبس عني - فضل يوم - مت جوعاً وعطشاً.
فقلت: إنني ما أطيق قلع الصخرة.
قالت: ويلك، فجرب نفسك.
قال: فجئت إلى الصخرة فاعتمدت عليها بقوتي، فتحركت، فإذا قد وقع تحت الصخرة حصاة صغيرة، وقد صارت الصخرة مركبة تركيباً صحيحاً، وذلك لما أراده الله تعالى من خلاصي.
فقلت: أبشري، ولم أزل أجتهد، حتى زحزحت الصخرة شيئاً أمكنني الخروج منه، فخرجت.
فأخذت سيف الأسود، واعتمدت بكلتي يدي فضربت ساقيه، فإذا قد أبنت أحدهما وكسرت الأخرى، فانتبه، ورام الوثوب فلم يقدر، فضربته الأخرى على حبل عاتقه فسقط، وضربته أخرى فأبنت رأسه.
وعمدت إلى المغارات فأخذت كلما وجدت فيها من عين، وورق، وجوهر، وثوب فاخر خفيف الحمل، وأخذت زاداً لأيام، وركبت راحلته، وأردفت المرأة، ولم أزل أسلك في طرق لا أعرفها، حتى وقعت على محجة، فسلكتها، فأفضت بي إلى بعض القرى، فسلمت الراحلة إلى المرأة، وأعطيتها نفقة تكفيها إلى بلدها، وسيرتها مع خفراء، وعدت إلى بلدي بتلك الفوائد الجليلة.
وعاهدت الله تعالى، أن لا أتعرض للطريق، ولا للخفارة أبداً.
وأنا الآن آكل من ضياع اشتريتها من ذلك المال، وأقوم بعمارتها، وأعيش من غلتها، إلى الآن.

قارع سبعين من قطاع الطريق وانتصف منهم

وحكى سعد بن محمد بن علي الأزدي، الشاعر البصري المعروف بالوحيد، قال: حدثني أبو علي الكردي، رجل رأيته بعسكر عمران بن شاهين قصده من عند حسنويه بن الحسين الكردي، فقبله، وأجرى عليه، وكان شجاعاً نجداً، فحدثني، قال: خرجنا مرة بالجبال، في أيام موسم الحج، عددنا سبعون رجلاً، من فارس وراجل، فاعترضنا الحاج الخراسانية، وكنا لهم.
وكان لنا عين في القافلة، فعاد وعرفنا أن في القافلة رجلاً من أهل شاش وفرغانة معه أثنى عشر حملاً بزاً، وجارية في قبة عليها حلي ثقيل، فجعلنا أعيننا عليه، حتى وثبنا عليه، وهو وجاريته في عمارية.
قال: فقطعنا قطاره وكتفناه، وأدخلناه وما معه بين الجبال، ووقعنا على ما معه، وفرحنا بالغنيمة.
وكان للرجل برذون أصفر يساوي مائتي درهم، فلما رآنا نريد القفول، قال: يا فتيان، هنأكم الله بما أخذتم، ولكني رجل حاج، بعيد الدار، فلا تتعرضوا لسخط الله بمنعي من الحج، وأما المال فيذهب ويجيء، وتعلمون، أنه لا نجاة لي إلا على هذا البرذون، فاتركوه لي، فليس يبين ثمنه في الغنيمة التي أخذتموها، فتشاورنا على ذلك.
فقال شيخ فينا مجرب: لا تردوه عليه، واتركوه مكتوفاً هنا، فإن كان في أجله تأخير، فسيقيض الله له من يحل كتافه، وكنت فيمن عزم على هذا.
وقال بعضنا: ما مقدار دابة بمائتي درهم حتى نمنعها رجلاً حاجاً، فلا حاجة لنا فيها، وجعلوا يرققون قلوب الباقين حتى سمحنا بذلك، فأطلقناه، ولم ندع عليه إلا ثوباً يستر عورته.
فقال: يا فتيان، قد مننتم علي، وأحسنتم إلي، ورددتم دابتي، وأخشى إذا أنا سرت أن يأخذها غيركم، فأعطوني قوس ونشابي، أذب بها عن نفسي وعن فرسي.
فقلنا: إنا لا نرد سلاحاً على أحد.
فقال بعضنا: وما مقدار قوس قيمته درهمان، وما نخشى من مثل هذا ؟ فأعطيناه قوسه ونشابه، وقلنا له: انصرف، فشكرنا، ودعا لنا، ومضى حتى غاب عن أعيننا.
فما كدنا نسير، والجارية تبكي، وتقول: أنا حرة، ولا يحل لكم أن تأخذوني.
فنحن في هذا، وإذا بالرجل قد كر راجعاً، وقال: يا فتيان، أنا لكم ناصح، فإنكم قد أحسنتم إلي، ولا بد لي من مكافأتكم على إحسانكم، بنصيحتي لكم.
فقلنا: وما نصيحتك ؟ فقال: دعوا ما في أيدكم، وانصرفوا سالمين بأنفسكم، ولكم الفضل، فإنكم مننتم على رجل واحد، وأنا أمن على سبعين رجلاً، وإذا هو قد انقلبت عيناه في وجهه، وخرج الزبد من أشداقه، وصار كالجمل الهائج.

فهزأنا به، وضحكنا عليه، ولم نلتفت إلى كلامه، فأعاد علينا النصيحة، وقال: يا قوم قد مننت عليكم، فلا تجعلوا لي إلى أرواحكم سبيلاً.
فزاد غيظنا عليه، فقصدناه، وحملنا عليه، فانحاز منا، ورمى بخمس نشابات، كانت بيده، فقتل بها منا خمسة، واحداً، واحداً.
وقال: إن جماعتكم تموت على هذا، إن لم تخلوا عما في أيديكم.
فلم نزل ندافعه، ويقتل منا، حتى قتل ثلاثين رجلاً، وبقي معه نشاب في جعبته.
فقلنا: أما ترون ويحكم أنه لم يخط له سهم واحد ؟ وأحجمت الجماعة عنه، وأفرجنا عن الجمال والقبة، فصار القطار في حوزته.
فتنكس ونحن نراه، ففتق عدلاً بسيف أخرجه من رحله، وأخرج منه جعبة نشاب، وأراناها، فلما رأينا ما صار إليه من النشاب يئسنا منه وولينا عنه.
فقال: يا فتيان، سألتكم هذا فلم تجيبوني إليه فمن نزل عن دابته فهو آمن، ومن أحب أن يكون فارساً، فهو بشأنه أبصر.
فشددنا عليه، فقتل منا جماعة، فاضطررنا إلى أن ترجلنا، فحاز دوابنا وحده، وساقها قليلاً.
ثم رجع، وقال: أطالبكم بحكمكم، من رمى سلاحه فهو آمن، ومن تمسك به فهو أبصر، فرمينا سلاحنا.
فقال: امضوا سالمين آمنين، فأخذ جميع السلاح والدواب، وإنا لندعوها بأسمائها، فتشذ عنه، فيرميها فيصرعها، حتى قتل منها جماعة، وفاتتنا الغنيمة، والسلاح.
وكان ذلك سبب توبتي، أنفةً لما لحقنا منه، وأنا على ذلك الحال إلى اليوم.

الباب الثاني عشر

فيمن ألجأه الخوف إلى هرب واستتار

فأبدل بأمن ومستجد نعم ومسار

يحيى بن طالب الحنفي يبارح وطنه مديناً ويعود إليه موسراً
أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: غني الرشيد يوماً بهذا الشعر:
ألا هل إلى شمّ الخزامى ونظرةٍ ... إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فيا أثلاث القاع من بطن توضحٍ ... حنيني إلى أظلالكنّ طويل
أريد نهوضاً نحوكم فيصدّني ... إذا رمته دينٌ عليّ ثقيل
قال مؤلف الكتاب: ووجدت الشعر في غير هذه الرواية:
ويا أثلاث القاع قد ملّ صحبتي ... صحابي فهل في ظلّكنّ مقيل
أحدّث نفسي عنك أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل
رجع للحديث.
فاستحسن الرشيد الشعر، وسأل عن قائله، فعرف أنه ليحيى بن طالب الحنفي اليمامي.
فقال: حي هو أم ميت ؟ فقال بعض الحاضرين: هو حي كميت.
قال: ولم ؟ قال: هرب من اليمامة، لدين عليه ثقيل، فصار إلى الري.
فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامله بالري، يعرفه ذلك، وأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم، وأن يحمل إلى اليمامة على دواب البريد، وكتب إلى عامله باليمامة بقضاء دينه.
فلما كان بعد أيام، قال الرشيد لمن حضره: إن الكتب وردت بامتثال ما أمرت به.
وعاد يحيى إلى وطنه موسراً، وقد قضي دينه عنه، من غير سعي منه في ذلك.
العتابي يؤدب الأمين والمأمونذكر محمد بن عبدوس في كتابه كتاب الوزراء، قال: حدثني عبد الواحد بن محمد، يعني الخصيبي، قال: حدثني يموت بن المزرع، قال: كان العتابي، يقول بالاعتزال، فاتصل ذلك بالرشيد، وكثر عليه في أمره، فأمر فيه بأمر غليظ، فهرب إلى اليمن، وكان مقيماً فيها على خوف وتوق.
فاحتال يحيى بن خالد، إلى أن أسمع الرشيد شيئاً من خطبه ورسائله، فاستحسنها الرشيد، وسأل عن الكلام لمن هو ؟ فقال يحيى: هو كلام العتابي، وإن رأيت يا أمير المؤمنين، أن يحضر حتى يسمع الأمين والمأمون، ويضع لهما خطباً، لكان في ذلك صلاحاً لهما.
فأمنه الرشيد، وأمر بإحضاره.
ولما اتصل خبر ذلك بالعتابي، قال يمدح يحيى بن خالد:
ما زلت في سكرات الموت مطّرحاً ... قد غاب عنّي وجه الأرض من خبلي
فلم تزل دائباً تسعى لتنقذني ... حتى أختلست حياتي من يد الأجل
لماذا قتل أبو سلمة الخلالوذكر في بعض كتب الدولة:

أن أبا سلمة الخلال، لما قوي الدعاة، وشارفوا العراق، وقد ملكوا خراسان وما بينها وبين العراق، استدعى بني العباس، فصيرهم في منزله بالكوفة، وكان له سرداب، فجعل فيه جميع من كان حياً في ذلك الوقت من ولد عبد الله ابن العباس، وفيهم السفاح، والمنصور، وعيسى بن موسى، وهو يراعي الأخبار.
وكان الدعاة يؤمرون بقصده إذا ظهروا وغلبوا على الكوفة، ليعرفهم الإمام، فيسلمون الأمر إليه.
فلما أوقع قحطبة بابن هبيرة الوقعة العظيمة على الفرات، وغرق قحطبة، وانهزم ابن هبيرة، ولحق بواسط، وتحصن بها، ودخل ابنا قحطبة الكوفة بالعسكر كله، قالوا لأبي سلمة: أخرج إلينا الإمام، فدافعهم، وقال: لم يحضر الوقت الذي يجوز فيه ظهور الإمام، وأخفى الخبر عن بني العباس، وعمل على نقل الأمر عنهم، إلى ولد فاطمة رضي الله عنهم، وكاتب جماعة منهم، فتأخروا عنه.
وساء ظن بني العباس به، فاحتالوا حتى أخرجوا مولى لهم أسود كان معهم في السرداب، وقالوا له: اعرف لنا الأخبار، فعاد إليهم، وعرفهم أن قحطبة غرق، وأن ابن هبيرة انهزم، وأن ابني قحطبة قد دخلا الكوفة بالعسكر منذ كذا وكذا.
فقالوا: أخرج وتعرض لابني قحطبة، وأعلمهما بمكاننا، ومرهما بأن يكبسا الدار علينا ويخرجانا.
فخرج المولى، وكان حميد بن قحطبة عارفاً به، فتعرض له، فلما رآه أعظم رؤيته، وقال: ويلك ما فعل سادتنا، وأين هم ؟ فخبره بخبرهم، وأدى إليه رسالتهم.
فركب في قطعة من الجيش، وأبو سلمة غافل، فجاء حتى ولج الدار، وأراه الأسود السرداب، فدخل ومعه نفر من الجيش، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقالوا: وعليكم السلام.
فقال: أيكم ابن الحارثية ؟ وكانت أم أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله، وكان إبراهيم بن محمد - الذي يقال له الإمام - لما بث الدعاة، قال لهم: إن حدث بعدي حدث، فالإمام ابن الحارثية الذي معه العلامة، وهي: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمةً، ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون.
قال: فلما قال ابن قحطبة: أيكم ابن الحارثية ؟ ابتدره أبو العباس، وأبو جعفر، كلاهما يقول: أنا ابن الحارثية.
فقال ابن قحطبة: فأيكما معه العلامة ؟ فقال أبو جعفر: فعلمت أني قد أخرجت من الأمر، لأنه لم يكن معي علامة.
فقال أبو العباس: ونريد أن نمن ... وتلا الآية.
فقال له حميد بن قحطبة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، مد يدك أبايعك، فبايعه.
ثم انتضى سيفه، وقال: بايعوا أمير المؤمنين، فبايعه أخوته، وبنوا عمه، وعمومته، والجماعة الذين كانوا معه في السرداب.
وأخرجه إلى المنبر بالكوفة، وأجلسه عليه، فحصر أبو العباس عن الكلام، فتكلم عنه عمه داود بن علي، فقام دونه على المنبر بمرقاة، وجاء أبو سلمة، وقد استوحش وخاف.
فقال حميد: يا أبا سلمة، زعمت أن الإمام لم يقدم بعد ؟ فقال أبو سلمة: إنما أردت أن أدافع بخروجهم إلى أن يهلك مروان، فإن كانت له كرة لم يكونوا قد عرفوا فيهلكوا، وإن هلك مروان أظهرت أمرهم على ثقة.
فأظهر أبو العباس قبول هذا العذر منه، وأقعده إلى جانبه، ثم دبر عليه بعد مدة حتى قتله.
وقد روي هذا الخبر على غير هذا السياق، فقالوا: قدم أبو العباس السفاح وأهله على أبي سلمة سراً، فستر أمرهم، وعزم على أن يجعلها شورى بين ولد علي والعباس، حتى يختاروا منهم من أرادوا.
ثم خاف أن لا يتفق على الأمر فعزم على أن يعدل بالأمر إلى ولد الحسن والحسين رضي الله عنهم، وهم ثلاثة: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وعمر بن علي بن الحسين.
ووجه بكتب إليهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة.
فبدأ بجعفر بن محمد، فلقيه ليلاً، فأعلمه أنه رسول أبي سلمة، وأن معه كتاباً إليه.
فقال: ما أنا وأبو سلمة، وهو شيعة لغيري ؟ فقال له الرسول: تقرأ الكتاب، وتجيب عنه بما رأيت.
فقال جعفر لخادمه، قرب مني السراج، فقربه، فوضع عليه كتاب أبي سلمة، فأحرقه.
فقال: ألا تجيب عنه ؟ فقال: الجواب ما رأيت.
ثم أتى عبد الله بن الحسن، فقبل كتابه، وركب إلى جعفر.
فقال جعفر: مرحباً بك أبا محمد، لو أعلمتني لجئتك.
فقال: إنه أمر يجل عن الوصف.
فقال: وما هو ؟

قال: هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الأمر، ويراني أحق الناس به، وقد جاء به شيعتنا من خراسان.
فقال له جعفر: ومتى صاروا شيعتك ؟ أنت وجهت أبا مسلم إلى خراسان، وأمرته بلبس السواد؟ أتعرف أحداً منهم باسمه ونسبه ؟ قال: لا.
قال: كيف يكونون شيعتك، وأنت لا تعرف أحداً منهم، ولا يعرفونك ؟ فقال عبد الله: هذا الكلام كان منك لشيء.
فقال جعفر: قد علم الله تعالى أني أوجب النصح على نفسي لكل مسلم، فكيف أدخره عنك، فلا تمنين نفسك الأباطيل، فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء القوم، وما هي لأحد من ولد أبي طالب، وقد جاءني مثل ما جاءك.
فانصرف غير راض بما قاله له.
وأما عمر بن علي بن الحسين، فرد عليه الكتاب، وقال: لا أعرف من كتبه.
قال: وأبطأ أبو سلمة على أبي العباس ومن معه، فخرج أصحابه يطوفون بالكوفة، فلقي حميد بن قحطبة، ومحمد بن صول أحد مواليهم، فعرفاه، لأنه كان يحمل إليهم كتب محمد بن علي وإبراهيم بن محمد، فسألاه عن الخبر، فأعلمهما أن القوم قد قدموا، وأنهم في سرداب يعرف ببني أود، فصارا إلى الموضع، فسلما عليهم.
وقالا: أيكما عبد الله ؟ فقال المنصور وأبو العباس: كلانا عبد الله.
فقال: أيكما ابن الحارثية ؟ فقال أبو العباس: أنا.
فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ودنوا فبايعوه.
وأحضروه إلى المسجد الجامع، فصعد على المنبر، فحصر، وتكلم عنه عمه داود بن علي، وقام دونه بمرقاة.

أمير البصرة العباسي يحمي أمويا

ً
أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين، المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو، قال: أخبرني، طارق بن المبارك عن أبيه، قال: جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة، فقال لي: يقول لك عمرو: قد جاءت هذه الدولة وأنا حديث السن، كثير العيال، منتشر الأموال، فما أكون في قبيلة إلا وشهر أمري، وقد عزمت على أن أفدي حرمي بنفسي، وأنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي، فصر إلي.
فوافيته، فإذا عليه طيلسان مطبق أبيض، وسراويل وشي مشدود.
فقلت: سبحان الله، ما تصنع الحادثة بأهلها، أيها الإنسان تلقى هؤلاء القوم الذين تريد لقاءهم وعليك مثل هذا ؟ قال: والله، ما ذهب علي ذلك، ولكن ليس عندي ثوب، إلا وهو أشهر من هذا.
فأعطيته طيلساني، وأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إلى ركبته، فدخل، ثم خرج مسروراً.
فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين الأمير.
قال: دخلت إليه، ولم يرني قط، فقلت: أيها الأمير، لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قبلتني غانماً، وإما رددتني سالماً.
فقال: من أنت ؟ فانتسبت إليه.
فقال: مرحباً، أقعد فتكلم، غانماً مسروراً، ثم اقبل علي، وقال: ما حاجتك يا ابن أخي ؟ فقلت: إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه.
فوالله ما أجابني إلا بدموعه تسيل على خديه، وقال: يا ابن أخي، يحقن الله دمك، ويحفظك في حرمك، ويوفر عليك مالك، والله، لو أمكنني ذلك في جميع أهلك لفعلت، ولكن كن متوارياً كظاهر، وآمناً كخائف، ولتأتني رقاعك.
قال: وكان - والله - يكتب إليه كما كان يكتب الرجل إلى ابن عمه.
قال: فلما فرغ من كلامه، رددت عليه طيلسانه، فقال: مهلاً، إن ثيابنا إذا خرجت عنا، لم تعد إلينا.
ووجدت هذا الخبر، بإسناد ليس هو لي، برواية عن العتبي، قال: حدثنا طارق بن المبارك الذراع البصري - ولم يتجاوزه - قال: قدم جدك عمرو بن معاوية البصرة، حين نكب بنو أمية، قال: فجعل لا ينزل بحي، إلا أجهزوه واشتهر.
فقال لي: أذهب بنا أضع يدي في يد هذا الرجل، يعني سليمان بن علي، وذكر نحوه.
وقال في آخره: فلما صار عمرو إلى منزله، دفعت إليه ثوبه، وطلبت ثوبي، فردهما علي جميعاً، وقال: إنا لم نأخذ ثوبك لنحبسه، ولم نعطك ثوبنا لترده.
عبد الملك بن مروان يؤمن ابن قيس الرقيات ويحرمه العطاء

أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين، المعروف بالأصبهاني، إجازة في كتابه: الأغاني الكبير، قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، وأبو عبد الله الحرمي بن أبي العلاء وغيرهما، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عبد الله بن البصير البربري، مولى قيس بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: قال عبيد الله بن قيس الرقيات: خرجت مع مصعب بن الزبير، حين بلغه خروج عبد الملك بن مروان، فلما نزل مصعب مسكن، وتبين الغدر ممن معه، دعاني، ودعا بمال، فملأ المناطق منه، وألبسنيها.
وقال: أمض حيث شئت، فإني مقتول.
فقلت: لا والله، لا أروح حتى آتي سبيلك، فأقمت معه حتى قتل.
ومضيت إلى الكوفة، فأول بيت دخلته إذا فيه امرأة معها بنتان كأنهما ظبيتان، فرقيت في درجة لها إلى مستشرف، فقعدت فيه.
قال: فأصعدت لي ما أحتاج إليه من الطعام، والشراب، والفرش، والماء، والوضوء.
فأقمت كذلك عندها أكثر من حولن تقوم بكل ما يصلحني، وتغدو علي في كل صباح، فتسألني عن حوائجي، فما سألتني من أنا، ولا أنا سألتها من هي ؟ وأنا في أثناء ذلك أسمع الصياح في، والجعل.
فلما طال بي المقام، وفقدت الصياح والجعل، وغرضت بمكاني، جاءت إلي في الصباح تسألني الحاجة، فأعلمتها أني قد غرضت بموضعي، وأحببت الشخوص إلى أهلي.
فقالت لي: يأتيك ما تحتاج إليه إن شاء الله تعالى.
قال: فلما أمسيت، وضرب الليل برواقه، رقت إلي، وقالت: إن شئت فنزلت، وقد أعدت راحلتين، عليهما جميع ما أحتاج إليه، ومعهما عبد، وأعطت العبد نفقة الطريق، وقالت: العبد والراحلتان لك.
فركبت، وركب معي العبد، حتى أتيت مكة، فدققت باب منزلي، فقالوا: من أنت يا هذا ؟ فقلت: عبيد الله بن قيس الرقيات، فولولوا، وبكوا، وقالوا: لم يرتفع طلبك إلا في هذا الوقت.
فتوقفت عندهم حتى أسحرت، ونهضت، فقدمت المدينة، ومعي العبد، فجئت إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهو يعشي أصحابه، فجلست معهم، وجعلت أتعاجم، وأقول: بناريناواي طيار.
فلما خرج أصحابه، كشفت له عن وجهي، فقال: ابن قيس ؟ فقلت: عائذاً بك.
فقال: ويحك، ما أجدهم في طلبك، وأحرصهم على الظفر بك، ولكني أكتب إلى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان - وهي زوجة الوليد بن عبد الملك - وعبد الملك أرق شيء عليها.
فكتب إليها يسألها التشفع إلى عمها عبد الملك.
فلما وصلها الكتاب، دخلت على عمها، فسألها: هل من حاجة ؟ قالت: نعم، لي حاجة.
فقال: قد قضيت كل حاجة لك، إلا ابن قيس الرقيات.
فقالت: لا تستثنين علي.
فنفخ بيده، فأصاب حر وجهها، فوضعت يدها على خدها.
فقال لها: أرفعي يدك، فقد قضيت كل حاجة لك وإن كانت ابن قيس الرقيات.
فقالت: حاجتي أن تؤمنه، فقد كتب إلي يسألني أن أسألك ذلك.
قال: هو آمن، فمريه يحضر المجلس العشية.
فحضر، وحضر الناس - حين بلغهم - مجلس عبد الملك.
قال: فأخر الإذن لابن قيس، وأذن للناس، فدخلوا، وأخذوا مجالسهم، ثم أذن له.
فلما دخل عليه، قال عبد الملك: يا أهل الشام أتعرفون من هذا ؟ قالوا: لا.
قال: هذا ابن قيس الرقيات، الذي يقول:
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارةٌ شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
فقالوا: يا أمير المؤمنين، إسقنا دم هذا المنافق.
قال: الآن، وقد أمنته، وصار في منزلي وعلى بساطي ؟ قد أخرت الإذن له لتقتلوه، فلم تفعلوا.
فاستأذنه ابن قيس، أن ينشده مديحه، فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
عاد له من كثيرة الطرب ... فعينه بالدموع تنسكب
كوفيّة نازح محلّتها ... لا أمم دارها ولا صعب
واللّه ما إن صبت إليّ ولا ... يعرف بيني وبينها نسب
إلاّ الذي أورثت كثيرة في القل ... ب وللحبّ سورةٌ عجب
حتى قال فيها:
إنّ الأغرّ الذي أبوه أبو ال ... عاص عليه الوقار والحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنّه الذهب
فقال له عبد الملك: يا ابن قيس، تمدحني بالتاج، كأني من العجم، وتقول في مصعب ابن الزبير:

إنّما مصعبٌ شهابٌ من اللّ ... ه تجلّت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رأفةٍ ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء
أما الأمان فقد سبق لك، ولكن - والله - لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً.
وأخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه: أن عبيد الله بن قيس الرقيات، منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال، وطلبه ليقتله، فاستجار بعبد الله بن جعفر، وقصده، فالتقاه نائماً.
وكان ابن قيس صديقاً لسائب خاثر، فطلب الإذن على ابن جعفر، فتعذر، فجاء بسائب خاثر ليستأذن له.
قال سائب خاثر: فجئت من قبل رجلي عبد الله بن جعفر، ونبحت نباح الجرو الصغير، فانتبه ولم يفتح عينيه، ورفسني برجله.
قال: فدرت إلى عند رأسه، ونبحت نباح الكلب الهرم، فانتبه وفتح عينيه.
فقال: مالك، ويلك ؟ فقلت: عبيد الله بن قيس الرقيات بالباب.
فقال: ائذن له، فأذنت له، ودخل، فرحب به عبد الله وقربه، فعرفه ابن قيس خبره.
فدعا بظبية فيها دنانير، وقال لي: عد له ما فيها.
فجعلت أعد له، وأطرب، وأحسن صوتي بجهدي، حتى عددت له ثلثمائة دينار، وسكت.
فقال عبد الله: لماذا سكت، ويلك ؟ ما هذا وقت قطع الصوت الحسن.
فجعلت أعد ما في الظبية، وفيها ثمانمائة دينار، فدفعها إليه.
فلما قبضها التفت إلى ابن جعفر، وقال له: تسأل أمير المؤمنين في أمري ؟ قال: نعم، إذا دخلت عليه، ثم إنه دعا له بطعام، فأكل أكلاً فاحشاً، وركب ابن جعفر، فدخل معه إلى عبد الملك، فلما قدم الطعام جعل يسيء الأكل.
فقال عبد الملك، لابن جعفر: من هذا ؟ قال هذا رجل لا يجوز أن يكون كاذباً إن استبقي، وإن قتل كان أكذب الناس.
قال: كيف ؟ قال: لأنه يقول:
ما نقموا من بني أميّة إلاّ ... أنّهم يحلمون إن غضبوا
فإن قتلته بغضبك عليه أكذبكم فيما مدحكم به.
قال: فهو آمن، ولكن لا أعطيه عطاء من بيت المال.
قال: أحب أن تهب لي عطاءه، كما وهبت لي دمه.
قال: قد فعلت، وأمر له بذلك.

هشام بن عبد الملك وحماد الراوية

عن حماد الراوية، قال: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك، جعل هشام يجفوني دون سائر أهله من بني أمية، في أيام يزيد.
فلما مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام خفته، ومكثت في بيتي سنة، لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً.
فلما لم أسمع أحداً يذكرني، أمنت، فخرجت فصليت الجمعة عند باب الفيل، فإذا بشرطيين قد وقفا علي.
وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر.
فقلت في نفسي: من هذا كنت أحذر، ثم قلت للشرطيين: هل لكما أن تدعاني آتي بيتي، فأودع أهلي، وداع من لا يرجع إليهم أبداً، ثم أصير معكما ؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل.
فاستسلمت في أيديهما، وصرت إلى الأمير وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ورمى إلي كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا، فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير أن يروع ولا يتعتع، وأدفع إليه خمسمائة دينار، وجملاً مهرياً، يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، فأخذت الخمسمائة دينار، وإذا جمل مرحول، فجعلت رجلي في الغرز، وسرت اثنتي عشرة ليلة، حتى دانيت دمشق.
ونزلت على باب هشام، واستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء، مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانه كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب، يقلبه بيده، فتفوح رائحته.
فسلمت عليه، فرد علي، واستدناني، فدنوت منه، حتى قبلت رجله.
وإذا جاريتان لم أر مثلهما، في أذن كل واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتوقدان.
قال: أتدري فيم بعثت إليك ؟ قلت: لا.
قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر في بالي، لم أدر من قائله.
قلت: وما هو ؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
فقلت: هذا يقوله عدي بن زيد العبادي، في قصيدة له.
قال: أنشدنيها، فأنشدته:
بكّر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي أما تستفيق

ويلومون فيك يا ابنة عبد الّ ... له والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوّ يلومني أم صديق
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينةٌ في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين ال ... ديك صفّى خلالها الراووق
قال: فطرب، ثم قال: أحسنت يا حماد، والله، يا جارية: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي.
وقال: أعد.
فأعدته، فاستخفه الطرب حتى نزل عن فراشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي.
فقلت: إن سقيت الثالثة افتضحت.
ثم قال: سل حوائجك.
قلت: كائنة ما كانت ؟ قال: نعم.
قلت: إحدى الجاريتين.
قال: هما لك بما عليهما ومالهما.
ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سقطت منها ولم أعقل حتى أصبحت، فإذا بالجاريتين عند رأسي، وإذا عشرة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة.
وقال لي أحدهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لك: خذ هذا فانتفع به في سفرك.
فأخذتها، والجاريتين، وانصرفت.

أكل على مائدته فأمضى له الأمان

عن عبد الله بن عمران أبي فروة، قال: كان عبد الله بن الحجاج الثعلبي من أشراف قيس، وكان مع ابن الزبير، فلما قتل، دخل عبد الله بصفة أعرابي على عبد الملك بن مروان ليلاً وهو يتعشى مع الناس، فجلس وأكل معهم، ثم وثب فقال:
منع القرار فجئت نحوك هارباً ... جيشٌ يجرّ ومقنبٌ يتلمّع
فقال: أي الأخابيث أنت ؟، فقال:
إرحم أصيبية هديت كأنّهم ... حجلٌ تدرّج بالسريّة جوّع
فقال: أجاع الله بطونهم، فأنت أجعتهم، فقال:
مالٌ لهم مما يضنّ جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال: كسب سوء خبيث، فقال:
ولقد وطئت بني سعيد وطأة ... وابن الزبير فعرشه متضعضع
وأرى الذين رجوا تراث محمّد ... أفلت نجومهم ونجمك يسطع
فقال: الحمد لله على ذلك، فقال:
أدنو لترحمني وتقبل توبتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع ؟
فقال: إلى النار، فقال:
ضاقت ثياب الملبسين فأولني ... عرفاً وألبسني فثوبك أوسع
قال: فرمى إليه بمطرف خز كان عليه.
فقال عبد الله: أمنت والله.
فقال له عبد الملك: كن من شئت إلا عبد الله بن الحجاج.
فقال: أنا - والله - هو، وقد أمنتني، أكلت طعامك، ولبست ثيابك، فأي خوف علي.
فقال: ما هداك إلا جدك، وأمضى له الأمان.
الفضل بن الربيع يتحدث عما لاقى أيام استتاره من المأمونحدثني علي بن هشام أبي قيراط الكاتب، بواسط، في سنة اثنتين وستين وثلثمائة، من لفظه، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قبل وزارته الأولى، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري، عن أبي أيوب سليمان بن وهب عن أبي طالوت كاتب ابن طاهر، قال: سمعت الفضل بن الربيع، يقول: لما استترت من المأمون، أخفيت نفسي حتى عن عيالي وولدي، وكنت أنتقل وحدي.
فلما اقترب المأمون من بغداد، ازداد حذري، وخوفي على نفسي، فتشددت في الاحتياط والتواري، وأفضيت إلى منزل بزاز كنت أعرفه في درب بباب الطاق، وشدد المأمون في طلبي فلم يعرف لي خبراً.
فتذكرني يوماً، فاغتاظ على إسحاق بن إبراهيم، وجد به في طلبي، فأغلظ له، فخرج إسحاق من حضرته، وجد بأصحاب الشرط، وأوقع ببعضهم المكاره، ونادى في الجانبين، من جاء به فله عشرة آلاف درهم وإقطاع غلته ثلاثة آلاف دينار في السنة، وإن من وجد بعد النداء ضرب خمسمائة سوط وهدمت داره وأخذ ماله وحبس طول الدهر، فنودي بذلك عشياً.
فما شعرت، إلا وصاحب الدار قد دخل علي وأخبرني الخبر، وقال: والله، ما أقدر بعد هذا على سترك، ولا آمن من زوجتي، وجاريتي، وغلامي، وأن تشره نفوسهم إلى المال، فيدلون عليك، وأهلك بهلاكك، وإن صفح الخليفة عنك، لم آمن من أن تتهمني بأني دللت عليك، فيكون ذلك أقبح وأشنع، وليس الرأي لي ولك إلا أن تخرج عني.
فورد علي ذلك أعظم مورد، وقلت: إذا جاء الليل خرجت عنك.
قال: ومن يطيق الصبر على هذا الضرر إلى الليل، فإنك إن وجدت عندي قبل الليل أهلكتني وأهلكت نفسك، وهذا وقت حار، وقد طال عهد الناس بك، فقم وتنكر واخرج.
فقلت: كيف أتنكر ؟

فقال: تأخذ أكثر لحيتك، وتغطي رأسك وبعض وجهك، وتلبس قميصاً ضيقاً، وتخرج.
فقلت: أفعل.
فجاء بمقراض فأخذت أكثر لحيتي، وتنكرت، وخرجت من عنده في أول أوقات العصر، وأنا ميت خوفاً.
فمشيت في الشارع، حتى بلغت الجسر، فوجدته قد رش، وهو خال من الناس، متزلق.
فلما توسطته، إذا أنا بفارس من الجند الذين كانوا في داري في أيام وزارتي، قد قرب مني، فعرفني، وقال: طلبة أمير المؤمنين، وعدل إلي ليقبض علي.
فلحلاوة النفس دفعته ودابته، فزلق، ووقع في بعض السفن التي في الجسر، وتعادى الناس لخلاصه، وظنوا أنه زلق بنفسه.
وتشاغل عني بهم، وزدت أنا في المشي، ولم أعد لئلا ينكر حالي من يراني، إلى أن عبرت الجسر ودخلت درب سليمان.
فوجدت امرأة على باب دار مفتوح، فقلت لها: يا امرأة، أنا خائف من القتل، فأجيريني واحقني دمي.
فقالت: أدخل، وأومأت إلى غرفة، فصعدتها.
فلما كان بعد ساعة، إذا بالباب يدق، ففتحته، وإذا زوجها قد دخل، فتأملته، فإذا هو صاحبي على الجسر، وهو مشدود الرأس يتأوه من شجة لحقته، وثيابه مغموسة بالدم.
وسألته المرأة عن خبره، فأخبرها بالقصة، وقال لها: قد زمنت دابتي وأنفذتها لتباع في سوق اللحم، وقد فاتني الغنى، وجعل يشتمني، وهو لا يعلم بوجودي معه في الدار، وأقبلت المرأة تترفق به إلى أن هدأ.
فلما صليت المغرب، وأقبل الظلام، صعدت المرأة إلي، وقالت: أظنك صاحب القصة مع هذا الرجل.
فقلت: نعم.
فقالت: قد سمعت ما عنده، فاتق الله في نفسك واخرج، فدعوت لها.
فنزلت، ففتحت الباب فتحاً رفيقاً، وقالت: اخرج، وكانت الدرجة في الدهليز، فأفضيت إلى الباب، فلما انتهيت إلى آخر الدرب وجدت الحراس قد أغلقوه، فتحيرت.
ثم رأيت رجلاً يفتح باباً بمفتاح رومي، فقلت: هذا رومي، وهو ممن يقبل مثلي.
فدنوت منه وقلت: أسترني، سترك الله.
فقال: ادخل، فدخلت، فرأيته رجلاً فقيراً وحيداً، فأقمت ليلتي عنده، وبكر من غد، وعاد نصف النهار ومعه حمالان يحمل أحدهما حصيراً ومخدة، وجرار، وكيزان، وغضائر جدداً، وقدراً جديداً، ويحمل الآخر خبزاً وفاكهة، ولحماً، وثلجاً، فدخل، وترك ذلك كله عندي، وأغلق الباب.
فنزلت، وعذلته، وقلت له: لم كلفت نفسك هذا ؟ فقال: أنا رجل مزين، وأخاف أن تستقذرني، وقد أفردت لك هذا، فاطبخ أنت وأطعمني في غضارة أجيء بها من عندي، فشكرته على ذلك، وأقمت عنده ثلاثة أيام.
فلما كان آخر اليوم الثالث، ضاق صدري، فقلت له: يا أخي الضيافة ثلاثة أيام، وقد أحسنت وأجملت، وأريد الخروج.
فقال: لا تفعل، فإني وحيد، ولست ممن يطرق، وخبرك لا يخرج من عندي أبداً، فأقم إلى أن يفرج الله عنك، فلست أتثاقل بك.
فأبيت للحين، وخرجت على وجهي أريد منزل عجوز بباب التبن من موالينا، فدققت الباب عليها، فخرجت، فلما رأتني بكت، وحمدت الله على رؤيتي، وأدخلتني الدار.
فلما كان في السحر، وأنا نائم، بكرت العجوز فغمزت علي بعض أصحاب إسحاق بن إبراهيم، فما شعرت إلا بإسحاق نفسه، في خيله ورجله، قد أحاط بالدار، ثم كبسها واستخرجني منها، حتى أوقفني بين يدي المأمون حافياً حاسراً.
فلما رآني سجد طويلاً ثم رفع رأسه، وقال: يا فضل، أتدري لم سجدت ؟ فقلت: نعم، شكراً لله تعالى الذي أظفرك بعدو دولتك، المغري بينك وبين أخيك.
قال: ما أردت هذا، ولكني سجدت شكراً لله على ما ألهمنيه من العفو عنك، فحدثني بخبرك ؟ فشرحته له من أوله إلى آخره.
فأمر بإحضار العجوز مولاتنا، وكانت في الدار تنتظر الجائزة، فقال لها: ما حملك على ما فعلت، مع إنعامه وإنعام أهله عليك ؟ قالت: رغبة في المال.
قال: هل لك زوج أو ولد أو أخ ؟ قالت: لا، فأمر بضربها مائة سوط، وتخليدها في السجن.
ثم قال لإسحاق: أحضر الساعة الجندي، وامرأته، والمزين، فحضروا في مجلس واحد، فاستثبتني فيهم، فعرفته أنهم القوم بأعيانهم.
فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على فعله، فقال: الرغبة في المال، ووالله، إنه الذي أثبتني في الجيش، ولكني رغبت في المال العاجل.
فقال: أنت بأن تكون حجاماً أولى بأن تكون من أوليائنا، وأمر بأن يسلم للمزينين في الدار، ويوكل به من يعسفه حتى يتعلم الحجامة.
وأمر باستخدام زوجته قهرمانة في دور حرمه، وقال: هذه المرأة عاقلة أديبة.

وأمر بتسليم دار الجندي وقماشه إلى المزين، وأن يجعل رزقه له، ويجعل جندياً مكان ذلك الجندي، وأطلقني إلى داري.
فرجعت إليها آخر النهار، آمناً، مطمئناً.
ووجدت الخبر بخلاف هذا في كتاب الوزراء لابن عبدوس، فإنه ذكر: أن الفضل ابن الربيع استتر، فطال استتاره، واستعجمت عليه الأخبار، فغير زيه، وخرج في السحر، وكان استتر بناحية الحربية من الجانب الغربية.
فمشى وهو لا يدري أين يقصد، لحيرته، وبعد عهده بالطرق، فأداه المشي إلى الجسر، وقد أسفر الصبح، فأيقن بالعطب، وقصد منزلاً لرجل كانت بينه وبينه مودة، بسويقة نصر.
فلما صار ببعض المشارع، سمع النداء عليه، ببذل عشرة آلاف درهم، فتخفى حتى جاوزه الركبان والمنادي، ومشى.
فرآه رجل، فانتبه له، وقال: يا فضل، وكان في أحد جانبي الطريق الذي الفضل فيه، فأمه إلى الجانب الذي كان فيه، ليقبض عليه، فاعترضته حمير وجمال عليها جص.
ونظر الفضل يميناً وشمالاً، فلم يجد مذهباً، وبصر بدرب، فدخله، فوجده لا ينفذ، ووجد في صدره باباً مفتوحاً، فهجم على المنزل، وفيه امرأة، فاستغاث بها، فأجارته، وبادرت إلى الباب فأغلقته، وناشدها الله أن تستره إلى الليل، فأمرته بالصعود إلى غرفة لها، فلم يستقر به القعود حتى دق الباب، فلما فتح الباب، دخل الرجل الذي رآه، وعزم على القبض عليه، وإذا المنزل له.
فقال لزوجته: فاتني الساعة عشرة آلاف درهم.
قالت له: وكيف ذلك ؟ قال لها: مر بي الفضل، فمددت يدي لأقبض عليه، فابتلعته الأرض.
فقالت له امرأته: الحمد لله - عز وجل - الذي كفاك أمره وأبقى دينك عليك، ولم تكن سبباً لسفك دمه، أو مكروه يلحقه.
فلما خرج، صعدت إليه، فقالت: قد سمعت، وما هذا المكان لك بموضع، فخرج إلى بعض منازل معامليه، فلما صار إليه، نبه العامل عليه، وأسلمه إلى طالبيه، فحمل إلى المأمون، فلما رآه، وسأله عن خبره، شرح له قصته، فأمر للمرأة بثلاثين ألف درهم وقال للرسول: قل لها، يقول لك الفضل: هذا جزاء لك على ما فعلته من الجميل، فردتها، وأبت قبولها، وقالت: لست آخذ على شيء فعلته لله عز وجل، جزاءً، إلا منه.

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

حدثنا أبو الحسن محمد بن عمر بن شجاع، المتكلم البغدادي، الملقب بجنيد، قال: حدثنا الفضل بن ماهان السيرافي، وكان مشهوراً بسلوك أقاصي بلاد البحر، قال؛ قال لي رجل من بعض بياسرة الهند، والبيسر هو المولود على ملة الإسلام هناك، قال: كان في أحد بلاد الهند ملك حسن السيرة، وكان لا يأخذ ولا يعطي مواجهة، وإنما كان يقلب يده إلى وراء ظهره. فيأخذ ويعطي بها، إعظاماً للملك، وهي سنة لهم هناك ولأولادهم.
وإنه توفي، فوثب رجل من غير أهل المملكة، فاحتوى على ملكه، وهرب ابن له كان يصلح للملك خوفاً على نفسه من المتغلب.
ورسوم ملوك الهند، أن الملك إذا قام عن مجلسه، لأي حاجة عرضت له، كانت عليه صدرة، قد جمع فيها كل نفيس وفاخر من اليواقيت والجواهر، مضروب في الإبريسم في الصدرة، ويكون فيها من الجواهر ما إن لو أراد أن يقيم بها ملكاً أقامه.
قال: ويقولون: ليس بملك من إذا قام عن مجلسه وليست معه، حتى إذا حدثت عليه حادثة وهرب بها أمكنه إقامة ملك منها.
فلما حدثت على الملك تلك الحادثة، أخذ ابنه صدرته وهرب بها.
فحكى عن نفسه: أنه مشى ثلاثة أيام، قال: ولم أطعم طعاماً، ولم تكن معي فضة ولا ذهب، فأبتاع به مأكولاً، ولم أقدر على إظهار ما معي، وأنفت أن أستطعم.
قال: فجلست على قارعة الطريق، فإذا رجل هندي، مقبل وعلى كتفه كارة، فحطها وجلس حذائي.
فقلت: أين تريد ؟ قال: الرستاق الفلاني.
قلت: وأنا الآخر كذلك.
قال؛ فنصطحب ؟ قلت: نعم.
فصحبته طمعاً في أن يعرض علي شيئاً من مأكوله، فلم يفعل، ولم تطب نفسي أن أبدأه بالسؤال.
فلما فرغ قام يمشي، فمشيت معه، وبت معه، طمعاً في أن تحمله المؤانسة على العرض علي، فعمل بالليل كما عمل بالنهار.
قال: وأصبحنا في غد، فمشينا، فعاملني بمثل ذلك أربعة أيام، فصار لي سبعة أيام لم أذق فيها شيئاً.
فأصبحت في الثامن ضعيفاً مهووساً لا قدرة لي على المشي، فعدلت عن الطريق، وفارقت الرجل، فرأيت قوماً يبنون، وقيماً عليهم، فقلت للقيم: استعملني مثل هؤلاء بأجرة تعطينيها عشياً.
فقال: نعم، ناولهم الطين.

فقلت: عجل لي أجرة يوم، ففعل، فابتعت بها ما أكلته.
وقمت أناولهم الطين، فكنت - لعادة الملك - أقلب يدي إلى ظهري وأعطيهم الطين، فكما أذكر أن ذلك خطأ ينبه علي ويسفك دمي، أبادر بتلافي ذلك، فأرد يدي بسرعة من قبل أن يفطنوا بي.
قال: فلمحتني امرأة قائمة، فأخبرت سيدتها بخبري، وكانت صاحبة البناء، وقالت: لا بد أن يكون هذا من أولاد الملوك.
قال: فلما انقضى النهار، وانصرف الصناع، فأردت الانصراف معهم. تقدمت إلى القيم أن يحبسني عن المضي مع الصناع، فاحتبسني.
فجاءتني بالدهن والعروق لأغتسل بهما، وهذا مقدمة إكرامهم، وسنة لعظمائهم، فتغسلت بذلك، وجاءوني بالأرز والسمن والسكر، فطعمت، وعرضت المرأة علي نفسها بالتزويج، فأجبت، وعقدت العقد، ودخلت بها من ليلتي، وأقمت معها أربع سنين، تعطيني من مالها، وتنفق علي، وكانت لها نعمة.
فأنا ذات يوم جالس على باب دارها، وإذا برجل من بلدي، فاستدعيته، فجاء، فقلت له: من أين أنت ؟ فقال: من بلد كذا وكذا، فذكر بلدي.
فقلت: ما جئت تصنع ها هنا ؟ قال: كان فينا ملك، حسن السيرة، فمات، فوثب على ملكه رجل ليس من أهل المملكة، وكان للملك الأول ابن يصلح للملك، فخاف على نفسه فهرب، وإن الملك المتغيب أساء عشرة الرعية، فوثبنا عليه فقتلناه، وانتشرنا في البلاد نطلب ابن الملك المتوفي، لنجلسه مكان أبيه، فما عرفنا له خبراً.
فقلت: أتعرفني ؟ قال: لا.
قلت: أنا طلبتكم.
قال: وأعطيته العلامات، فعلم صحة ما قلته له، فكفر لي.
فقلت: أكتم أمرنا إلى أن ندخل الناحية.
قال: أفعل.
فدخلت إلى المرأة فأعلمتها بالخبر، وحدثتها بأمري كله، وأعطيتها الصدرة.
وقلت: هذه قيمتها كذا وكذا، ومن حالها كذا وكذا، وأنا ماض مع الرجل، فإن كان ما ذكره صحيحاً، فإن العلامة أن يجيئك رسولي فيذكر الصدرة، فانهضي إلي، وإن كانت مكيدة كانت الصدرة لك.
قال: ومضى مع الرجل، فكان الأمر صحيحاً، فأنفذ إلى زوجته من حملها إليه، فجاءت.
فحين اجتمع شمله، واستقام أمره، أمر البنائين فبنوا له دار ضيافة عظيمة، وأمر أن لا يجوز في عمله مجتاز إلا حمل إليها، فيضاف فيها ثلاثة أيام، ويزود لثلاثة أيام أخر، فكان يفعل ذلك، وهو يراعي الرجل الذي صحبه في سفره، ويقدر أن يقع في يده.
فلما كان بعد حول، استعرض الناس، وكان يستعرضهم في كل يوم، فلا يرى الرجل، فيصرفهم، فلما كان في ذلك اليوم، رأى الرجل بينهم.
فحين وقعت عينه عليه، أعطاه ورقة تنبول، وهذه علامة غاية الإكرام، ونهاية رتبة الإعظام، إذا فعله الملك بإنسان من رعيته.
فحين فعل ذلك بالرجل، كفر له، وقبل الأرض، فأمر الملك بتغيير حاله، وإحسان ضيافته.
ثم استدعاه، فقال له: أتعرفني ؟ فقال: كيف لا أعرف الملك، وهو من عظم شأنه، وعلو سلطانه، بحيث هو.
قال: لم أرد هذا، أتعرفني قبل هذا الحال ؟ قال: لا.
فذكره الملك بالقصة، ومنعه إياه من الطعام في السفر.
قال: فبهت الرجل.
فقال الملك: ردوه إلى الدار، وزيدوا في إكرامه، وحضر الطعام فأطعم.
فلما أراد النوم، قال الملك لزوجته: إذهبي إلى هذا الرجل فأغمزيه.
قال: فجاءت المرأة، فلم تزل تغمزه إلى أن نام، فجاءت إلى الملك، وقالت: إنه قد نام.
قال: ليس هذا نوم، حركوه، فحركوه، فإذا هو ميت.
قال: فقالت له المرأة: أي شيء هذا ؟ قال: فساق لها حديثه معه، وقال: وقع في يدي، فتناهيت في إكرامه، والهند لهم أكباد عظيمة، وأفهام طريفة، فأدخلت عليه حسرة عظيمة إذ لم يحسن إلي، فقتلته، وقد كنت أتوقع موته قبل هذا بما توهمه واستشعره من العلة في نفسه، لفرط الحسرة.

الباب الثالث عشر

فيمن نالته شدة في هواه فكشفها الله عنه

وملكه من يهواه

رأى القطع خيراً من فضيحة عاتق
حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، غلام ابن دريد وصهره، قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن دريد، قال: حدثنا أحمد بن عثمان العلى عن أبي خالد عن الهيثم بن عدي، قال: كان لعمرو بن دويرة السحيمي أخ قد كلف بابنة عم له كلفاً شديداً، وكان أبوها يكره ذلك ويأباه.
فشكاه إلى خالد بن عبد الله القسري، أمير العراق، أنه يسيء جواره، فحبسه، ثم سئل خالد في أمر الفتى، فأطلقه، فبقي الفتى كلفاً بابنة عمه، وهو ناء عنها مدة.

ثم زاد ما في نفسه، فحمله الحب على أن تسور الجدار عليها، وحصل معها.
فأحس به أبوها، فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله، وادعى عليه اللصوصية، وأتاه بجماعة شهدوا على أنهم وجدوه في بيته ليلاً، قد دخل للتلصص.
فسأل خالد الفتى، فاعترف أنه دخل ليسرق، وما سرق شيئاً، يدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه، فأراد خالد أن يقطعه.
فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها:
أخالد قد واللّه أوطيت عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقرّ بما لم يأته غير أنّه ... رأى القطع خيراً من فضيحة، عاتق
ومثل الذي في قلبه حلّ قلبها ... فمنّ لتجلو الهمّ عن قلب عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفّه ... لألفيت في أمريهما غير ناطق
إذا مدّت الغايات للسبق في العلى ... فأنت أبن عبد اللّه أوّل سابق
قال: فأرسل خالد مولى له يسأل عن الخبر، ويفحص جلية الأمر، فأتاه بصحيح ما قاله عمرو في شعره.
فأحضر أبا الجارية، وأمره بتزويجها من الفتى، فامتنع، وقال: ليس هو كفء لها.
فقال له خالد: والله، إنه لكفء لها، إذ بذل يده عنها، وإن لم تزوجه طائعاً لأزوجنه وأنت كاره.
فزوجه العم، وساق خالد المهر من عنده، فكان يسمى العاشق، إلى أن مات.
وجدت في كتاب العمرين، لمحمد بن داود الجراح الكاتب، وهو رسالة كتب بها إلى أبي أحمد يحيى بن علي بن المنجم، فيمن يسمى من الشعراء: عمراً، فقال: عمرو بن دويرة البجلي، سحيمي، كوفي، أخبرني أحمد بن أبي علقمة، عن دعيل بن علي، وذكر أبو طالب بن سوادة، عن محمد بن الحسن الجعفري، عن الحسن بن يزيد القرشي، عن أبي بكر الوالبي، قال: كان لعمرو بن دويرة، أخ قد كلف بابنة عم له .. وذكر نحوه، إلا أنه أتى في الشعر بزيادة بيت، وهو بعد البيت الذي أوله: أقر بما لم يأته:
ومثل الذي في قلبه حلّ قلبها ... فكن أنت تجلو الهم عن قلب وامق
وأخبرنيه محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أخبرني محمد بن الحسن القرشي، قال: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، عن الزبير بن بكار، فذكره مع البيت الزيادة.

من مكارم المقتدر

حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت بن إبراهيم بن علي بن خداهي النصراني الكاتب، الذي كان خليفة الوزراء، قال: حدثني أبو الحسين بن ميمون الأفطس، الذي كان وزير المتقي، ولما دخل أبو عبد الله البريدي بغداد، متقلداً الوزارة الثانية للمتقي، قبض عليه وأحدره للبصرة.
فلما وردها البريدي منهزماً، أطلقه، وأحسن إليه، وأمرني بإنزاله بالقرب مني، وإيناسه بملازمتي، وأفتقاده بالدعوات، ففعلت، فكنا متلازمين لا نكاد نفترق.
ووجدته أحلى الناس حديثاً، وأحسنهم أدباً، وأعمهم فضلاً، ولم أر قط أشد تغزلاً، ولا تهالكاً في العشق منه.
فحدثني يوماً، قال: عشقت مغنية في القيان عشقاً شديداً، فراسلت مولاتها في بيعها، فاستامت فيها ثلاثة آلاف دينار.
وكنت أعرف من نفسي الملل، فخشيت أن أشتريها فأملها، فدافعت بذلك، ومضت أيام، وكانت هي تأتي إلى عندي، وكان يمضي لي معها أطيب عيش.
فانصرفت من عندي يوماً، وكان المقتدر بالله أمر أن تشترى له مغنيات، وأنا لا أعلم، وكانت الجارية حسنة الوجه جيدة الغناء، فحملت إلى المقتدر في جملة جوار، فأمر بشرائهن كلهن، فاشتريت في جملتهن.
وأنفذت من غد أستدعيها من سيدتها، فأخبرت بالخبر، فقامت علي القيامة، ودخل إلى قلبي من الألم، والاحتراق، والقلق، أمر ما دخل مثله قط في قلبي، فضلاً عن عشق.
وزاد الأمر علي، حتى انتهى بي إلى حد الوسواس، فامتنعت عن النظر في أمر داري، وتشاغلت بالبكاء، ولم يكن لي سبيل إلى العزاء.
وكنت أكتب - حينئذ - لأم المتقي لله، وهو حدث، فتأخرت عنهم أياماً، وأخللت بأمرهما، وأنا متوفر تلك الأيام على الطواف في الصحاري، لا آكل، ولا أشرب، ولا أتشاغل بأكثر من البكاء والهيمان.
فأنكر المتقي وأمه تأخري، فاستدعاني المتقي، وخاطبني في شيء من أمره، فوجدني لا أعقل ولا أحصل ما يقوله، ولا أفهمه.
فسألني عن سبب اختلالي، فصدقته، وبكيت بين يديه، وسألته أن يسأل أباه بيع الجارية علي، أو هبتها لي.
فقال: ما أجسر على هذا.
قال: وزاد علي الأمر، وبطلت.

وبلغ أم المتقي الخبر، فراسلتها أسألها مثلما سألت أبنها، فرثت لي، وحملت نفسها على أن خاطبت السيدة أم المقتدر في أمري.
فقالت لها أم المقتدر: ما العجب من الرجل، فإن الذي في قلبه من العشق قد أعماه عن الرأي بل العجب منك، كيف وقع لك أنه يجوز أن يقول أحد للخليفة: إنزل عن جاريتك لرجل يعشقها.
فراسلتني أم المتقي بما جرى، فزاد ما بي من القلق.
وكنت لا ألقى أحداً من الرؤساء في الدولة، كالوزير، وحاشية الخليفة، إلا وأقصدهم، وأبكي بين أيديهم، وأحدثهم حديثي، وأسألهم مسألة الخليفة في تسليم الجارية إلي، إما ببيع، أو هبة.
فمنهم من ينكر علي ويوبخني، ومنهم من يرثي لي ويعذرني، ومنهم من يشير علي بالإمساك، ومنهم من يقول: إذا علم الخليفة هذا، وأنك تتعرض لحرمه، كان في هذا إتلاف نفسك، وأنا ملازم أبوابهم، وتركت خدمة صاحبي.
إلى أن طال علي الأمر وعلى المتقي وأمه، لعدم ملازمتي الباب ووضعت من محلي، وبطل أمر داري وضيعتي، وأمور صاحبي.
إلى أن طال هذا على المتقي وأمه، فطلبا كاتباً يصرفاني به.
وبلغني الخبر، وقد كنت أيست من الجارية، فعذلت نفسي، وقلت: ليس بعد هذا الصرف إلا الفقر والنكبة، وذهاب الخير والنفس، ولو كنت اشتريت هذه الجارية، لكنت الآن قد مللتها، فلم أفقر نفسي، ولم أقطع تصرفي ؟ وأقبلت أعظ نفسي، وأسليها ليلتي كلها، إلى أن طاوعتني على الصبر.
وباكرت دار المتقي، وبدأت في النظر في أموره، ورأوا مني خلاف ما تقدم، فسروا بذلك، وقالوا: أنت أحب إلينا من الغريب نستأنفه، فضمنت لهم الملازمة وتمشية الأمور.
فأقمت على ذلك مدة، ثم اشتقت إلى الشرب، وقد كنت فقدته وهجرته منذ فقدت الجارية إلى ذلك اليوم.
فقلت للغلام: قم، أمض، وأصلح لنا مجلساً للشرب، وأدع أصحابنا أعني أصدقائي الذين يعاشرونني، للرواح إلي، ولا تدع غناءً، فلما انقضى شغلي عدت إلى داري، واجتمع أصدقائي، فصوبوا رأيي، وجلسنا نشرب، ونتحدث، ونلعب بالشطرنج.
فقالوا: لو دعوت لنا مغنياً.
فقلت: أخاف أن أذكر به أمري مع الجارية.
فجلسوا عندي إلى أن صليت العشاء الآخرة، وانصرفوا، وجلست وحدي أشرب القدح بعد القدح إلى أن مضت قطعة من الليل، وإذا أنا ببابي يدق دقاً عنيفاً.
فقال بوابي: من هذا ؟ قالوا: خدم من دار الخليفة أمير المؤمنين.
فقلمت، ولم أشك أن حديثي قد اتصل به فأنكره، وقال: مثل هذا لا يصلح أن يكون كاتباً لحرمة، ولا مدبراً أمر غلام حدث، وقد أمر بالقبض علي.
فقمت أمشي لأخرج من باب آخر كان لي، وأستتر، فإذا الخدم قد دخلوا، ومعهم بغلة عليها عمارية، وشموع، وإذا قد أنزلوا من العمارية جاريتين، إحداهما عشيقتي، فبهت.
فقال لي أحد الخدم، وهو كالرئيس عليهم: مولانا أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول: عرفت خبرك مع الجارية في هذه الساعة، فرحمتك، وقد وهبتها لك مع جميع مالها، وتركها الخادم ومضى.
ودخلت معها عدة أحمال عليها الأثقال من صنوف الثياب، والفرش، والآلات، والقماش، وعدة جوار، وتركوا ذلك عندي، وانصرفوا.
فأخذت بيد معشوقتي، وأدخلتها المجلس، فلما رأت الشراب والمجلس معبأ، قالت: سلوت عني، وشربت بعدي.
فحلفت لها أني ما شربت نبيذاً منذ فارقتها إلا في هذا اليوم، وحدثتها حديثي بطوله.
وقلت لها: ما السبب في مجيئك ؟ وما جرى ؟ فقال: إعلم أن الخليفة لم يرني - منذ اعترضني وأمر بشرائي - إلا الليلة، وكان قد اتصل مزح السيدة معي، فأنها كانت استدعتني منذ مدة، وسألتني عن خبري معك، فأخبرتها.
ثم قالت: هل تحبينه ؟ فقلت: نعم، حباً شديداً.
فتعجبت من ذلك، وقالت: ثقلنا عليك وعلى محبوبك، ولكن يكون الخير إن شاء الله تعالى، ووعدتني الجميل التام، والوعد الحسن.
فلما كان هذه الليلة، قعد الخليفة يشرب مع الجواري والسيدة حاضرة، فاستدعيت، وغنيت.
فقال لي الخليفة: إن كنت تحسنين الصوت الفلاني، فغنيه، وكان صوتك علي، فغنيته، وتمثلت لي صورتك، وذكرت شربي معك، فلم أملك دموعي، حتى جرت.
فقال المقتدر: ما هذا ؟ فتحيرت، وجزعت، ونظرت إلى السيدة، فضحكت، وضحك الجواري.
فقال المقتدر: ما القصة ؟ فدافعته السيدة.
فقال: بحياتي أصدقيني.
فقالت: على أن لا تؤذي الجارية، ولا غيرها.
فقال: نعم، وحياتك.

فحدثته الحديث، فلما استوفاه، قال لي: يا جارية، الأمر هكذا ؟ إنما بكيت من عشق ابن ميمون؟ فسكت.
فقال: إن صدقتني وهبتك له.
فقلت: نعم.
فأقبل على أمه، فقال: ما هو بكثير إن وهبتها لخادم لنا.
فقالت: قد - والله - أردت أن أسألك هذا، ولكن إن تفضلت به ابتداء منك، كان أحسن.
فقال لبعض الخدم: خذ هذه الجارية، وجميع ما كان سلم إليها في حجرتها من جوار، وقماش، واحمله إلى دار ابن ميمون، كاتب ابني إبراهيم، وأقره سلامي، وعرفه أني قد وهبت ذلك كله له.
فلما قمت، تصايحوا: قد جاء فرجك، وبلغت مناك، فقمت إلى حجرتي، وجمعت ما ترى، وحملته إليك.
قال: فشكرت الله عز وجل على ذلك، وجلست معها، وما شيل ما في مجلسي، حتى اجتمعنا، وجلست معها فيه، وغنت.
وبكرت من غد نشيطاً، مسروراً، أشكر السيدة، وأم المتقي، وأدعو لهما، وأقامت الجارية عندي، إلى أن ماتت.

فارق جاريته ثم أجتمع شملهما

حدثني عبيد الله بن محمد بن الحسن الصروي، قال: حدثني أبي، قال: كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث من أبيه مالاً جليلاً، وكان يتعشق جارية، وأنفق عليها شيئاً كثيراً، ثم اشتراها، وكانت تحبه ويحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس.
فقالت له الجارية: يا هذا، قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشاً نقتات منه.
قال: فلم يجد له صناعة غير الغناء، إذ كان الفتى من محبته للجارية، وإحضاره المغاني إليها، ليزيدوها في صنعتها، قد تعلم الضرب والغناء، وخرج صالحاً في طبقة الغناء والحذق فيه.
فشاور بعض معارفه، فقال: ما أعرف لك معاشاً أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك.
فأنف من ذلك، وعاد إليها، فأخبرها بما أشير عليه به، وأعلمها أن الموت أشهى عنده من هذا، فصبرت معه على الشدة مدة.
ثم قالت: قد رأيت لك رأياً.
فقال: قولي.
قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما تعيش به عيشاً صالحاً، وتخلص من هذه الشدة، وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة.
فحملها إلى سوق النخاسين، فكان أول من اعترضها فتى هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عيناً.
قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وقبضت الثمن، ندمت، واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فأخذت الدنانير في الكيس، وأنا لا أدري إلى أين أذهب، لأن بيتي موحش منها، وورد علي من اللطم والبكاء ما هوسني.
فدخلت مسجداً، وجلست فيه أبكي، وأفكر فيما أعمل، فحملتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة، ونمت.
فما شعرت إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي فانتبهت فزعاً، فإذا بإنسان قد أخذ الكيس، ومر يعدو، فقمت لعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط في وتد مضروب في آخر المسجد، فإلى أن تخلصت من ذلك، غاب الرجل عن عيني.
فبكيت، ولطمت، ونالني أمر أشد من الأول، وقلت: قد فارقت من أحب، وبعته، لأستغني بثمنه عن الصدقة، فقد صرت الآن فقيراً، مفارقاً لمن أحب.
فجئت إلى دجلة، ولففت وجهي برداء كان على راسي، ولم أكن أحسن أسبح، ورميت بنفسي في الماء لأغرق.
فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي، فأخذوني، وسألوني عن أمري، فأخبرتهم، وبقيت منهم بين راحم ومستجهل.
إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: يا هذا، ذهب مالك، فكان ماذا حتى تتلف نفسك، أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم، ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل وثق بالله تعالى.
ثم قال لي: أين منزلك ؟ فقلت: في الموضع الفلاني.
فقال: قم معي إليه، وما فارقني حتى حملني إلى منزلي، وما زال يؤنسني، ويعظني، إلى أن بان له السكون في، فشكرته.
وانصرف، فكدت أن أقتل نفسي لوحشة منزلي علي، ثم ذكرت النار والآخرة، فخرجت من بيتي هارباً، إلى بعض أصدقائي القدماء في حال سعادتي، فأخبرته خبري، فبكى رقة لي، وأعطاني خمسين درهماً.
وقال: أقبل رأيي، وأخرج الساعة من بغداد، وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث وجدت قلبك يساعدك إلى قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد، وأدبك صالح، فأقصد بعض العمال، وأطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر أن تصير محرراً بين يديه، وتعيش معه، ولعل الله أن يصنع لك صنعاً.

فعملت على هذا، وجئت إلى الكتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسط، وكان لي فيها أقارب، فأجعلهم ذريعة لي إلى التصرف مع بعض عمالها.
فحين جئت إلى الكتبيين، إذا بزلال مقدم، وخزانة كبيرة، وقماش كثير ينقل إلى الزلال، وإلى الخزانة.
فسألت: من يحملني إلى واسط ؟ فقال أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك بدرهمين إلى واسط، ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكنا من حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس ثياب الملاحين، وتجلس معنا كأنك واحد منا.
فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي، من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعها إلى واسط.
فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت لي جبة من جباب الملاحين فلبستها، وبعت تلك الثياب التي كانت علي، وأضفتها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزاً وإداماً، وجلست في الزلال.
فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فحين رأيتها سهل علي ما كان بي، وما أنا عليه.
وقلت: أسمع غناءها، وأراها، من ها هنا إلى البصرة، واعتمدت على أن أجعل قصدي إلى البصرة، وطمعت في أن أداخل مولاها، فأصير أحد ندمائه.
وقلت: ولا تخليني هي من المواد، فإني واثق بها.
ولم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها راكباً، ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال وانحدروا.
فلما صاروا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو والجارية، وأكل الباقون على سطح الزلال، وأطعموا الملاحين.
ثم أقبل على الجارية، فقال لها: إلى كم هذه المدافعة عن الغناء، وهذا الحزن والبكاء، ما أنت أول من فارق مولاه، فعلمت ما عندها من أمري.
ثم ضربت ستارة في جانب الزلال، واستدعى الذين في سطحه، وجلس معهم خارج الستارة، فسألت عنهم، فإذا هم إخوته، وأخرجوا الصواني، ففرقوها عليهم، وأحضروا النبيذ.
وما زالوا يترفقون بالجارية، إلى أن استدعت العود، فأصلحته، وجست أوتاره، ثم اندفعت تغني، من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
بان الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمداً لقتلك ثم لم يتحرّجوا
وغدت كأنّ على ترائب نحرها ... جمر الغضا في ساجة يتأجّج
قال: ثم غلبها البكاء، وقطعت الغناء، وتنغص على الفتية سرورهم.
ووقعت أنا مغشياً علي، فظن القوم أني قد صرعت، فأذن بعضهم في أذني، وصب علي الماء، فأفقت بعد ساعة.
وما زالوا يداورونها، ويرفقون بها، ويسألونها الغناء، إلى أن أصلحت العود، واندفعت تغني في الثقيل التاني:
فوقفت أنسب بالذين تحملّوا ... وكأنّ قلبي بالشفار يقطّع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت فكادت تتلف، وارتفع لها بكاء عظيم، وصعقت أنا، فتبرم بي الملاحون، وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون معنا.
فقال بعضهم: إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه.
فجاءني أمر عظيم، أعظم من كل شيء دفعت إليه، ووضعت في نفسي التصبر، والحيلة في أن أعلمها بمكاني من الزلال، لتمنع من إخراجي.
وبلغنا إلى قرب المدائن، فقال صاحب الزلال: اصعدوا بنا إلى الشط، فطرحوا إلى الشط، وخرج الجماعة، وقد كان المساء قد قرب، وصعد أكثر الملاحين يتغوطون، فخلا الزلال، وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن.
فمضيت سارقاً نفسي حتى صرت خلف الستارة، فغيرت طريقة العود عما كانت عليه، إلى طريقة أخرى، ورجعت إلى موضعي من الزلال.
وفرغ القوم من حاجاتهم في الشط، ودافعوا والقمر منبسط.
فقالوا لها: بالله يا ستي غنينا شيئاً، ولا تنغصي علينا عيشنا.
فأخذت العود فجسته، فشهقت شهقة كادت تتلف، وقالت: والله، قد أصلح هذا العود مولاي، على طريقة من الضرب كان بها معجباً، وكان يضربها معي، ووالله إنه معنا في الزلال.
فقال لها صاحبها: والله، لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته، فلعله أن يخف بعض ما بك، فننتفع بغنائك.
فقالت: ما أدري ما تقولون، هو - والله - معنا.
فقال الرجل للملاحين: ويحكم، حملتم معنا إنساناً غريباً ؟ فقالوا: لا.
فأشفقت أن ينقطع السؤال، فصحت: نعم، هوذا أنا.
فقالت: كلام مولاي، والله، وجاء بي الغلمان إلى الرجل.

فلما رآني عرفني، وقال: ويحك، ما هذا الذي أصابك ؟ وما أداك إلى هذه الحال ؟ فصدقته عن أمري، وبكيت، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكا هو وإخوته بكاء شديداً، رقة لنا.
ثم قال: يا هذا، والله، ما وطئت هذه الجارية، ولا سمعت منها غناء قبل هذا اليوم، وأنا رجل موسع علي والحمد لله، وقدمت إلى بغداد لسماع الغناء، وطلب أرزاقي من الخليفة، وقد بلغت من الأمرين ما أردت.
فلما عولت على الرجوع إلى وطني، أحببت أن أستصحب معي مغنية من بغداد، فاشتريت هذه الجارية، لأضمها إلى عدة مغنيات عندي بالبصرة.
وإذ كنتما على هذه الحالة، فأنا - والله - أغتنم المكرمة والثواب فيكما، وأشهد الله تعالى على أني إذا صرت إلى البصرة أعتقها وأزوجك إياها، وأجري عليكما ما يكفيكما، على شريطة إن أجبتني إليها.
قلت: وما هي ؟ قال: أن تحضرها عندي متى أردنا الغناء، تغني بحضورك وتنصرف بانصرافك إلى دار أفرغها لكما، وقماش أعطيكما إياه.
قلت: يا سيدي، وكيف أمنع من هو المعطي، وأبخل على من يرد حياتي علي، بهذا المقدار، وأخذت أقبل يده، فمنعني.
ثم أدخل رأسه إلى الجارية، وقال: يرضيك هذا ؟ فأخذت تدعو له، وتشكره.
فاستدعى غلاماً له، وقال له: خذ بيد هذا الرجل، وغير ثيابه، وبخره، وقدم له ما يأكله، وجئنا به، فأخذني الغلام، وفعل بي ذلك، وعدت، فتركت بين يدي صينية.
فاندفعت الجارية تغني بنشاط، واستدعت النبيذ، وشربت، وشربنا، وأخذت أقترح عليها الأصوات الجياد، فتضاعف سرور الرجل بها.
وما زلنا على ذلك أياماً، حتى وصلنا نهر معقل، ونحن سكارى، فشد الزلال في الشط.
وأخذتني بولة الماء في الليل، فصعدت على ضفة نهر معقل لأبول، فحملني السكر على النوم.
ودفع الزلال وأنا لا أعلم، وأصبحوا فلم يجدوني، ودخلوا البصرة، ولم أنتبه أنا إلا بحمي الشمس، فجئت إلى الشط، فلم أر لهم عيناً ولا أثراً.
وكنت قد أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف ؟ وأين داره من البصرة ؟ واحتشمت غلمانه أن أسألهم، فبقيت على شاطئ نهر معقل، كأول يوم بدأت بي المحنة، وكأن ما كنت فيه منام.
فاجتازت بي سمارية، فقعدت فيها، ودخلت إلى البصرة، وما كنت دخلتها قط، فنزلت خاناً، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، ولم يتوجه لي معاش.
إلى أن اجتاز بي إنسان أعرفه، فتبعته لأكشف له حالي، ثم أنفت من ذلك، ودخل الرجل إلى منزله، فعرفته، وجئت إلى بقال كان على باب الخان الذي نزلته، فأعطيته دانقاً، وأخذت منه ورقة، وجلست أكتب رقعة إلى الرجل.
فاستحسن البقال خطي، ورأى رثاثة زيي، فسألني عن أمري، فأخبرته أني رجل ممتحن فقير، قد تعذر علي التصرف، وما بقي معي شيء، ولم أشرح له أكثر من هذا.
فقال لي: تعمل معي كل يوم بنصف درهم، وطعامك وكسوتك علي، وتضبط حساب دكاني ؟ فقلت: نعم.
فقال: اصعد.
فخرقت الرقعة، وصعدت، فجلست معه، أدبر أمره، وضبطت دخله وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت له الأمانة.
فلما كان بعد شهر، رأى الرجل دخله زائداً، وخرجه ناقصاً، فحمدني.
وبقيت معه كذلك شهراً آخر، ثم جعل رزقي في كل يوم درهماً.
ولم يزل حالي معه يقوى، إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره، فدعاني إلى أن أتزوج بابنته، ويشاركني، ففعلت.
ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان، وحالي يقوى، إلا أنني في خلال ذلك، منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن.
وكان البقال ربما شرب فيجرني إلى مساعدته، فأمتنع، وأظهر له أن ذلك بسبب حزني على موتى لي.
واستمرت بي الحال على هذا سنتين وأكثر.
فلما كان في بعض الأيام، رأيت الناس يجتازون بفاكهة، ولحم، ونبيذ، اجتيازاً متصلاً، فسألت عن ذلك ؟ فقيل لي: اليوم الشعانين، يخرج فيه أهل الظرف واللعب، بالطعام والشراب، والقيان إلى الأبلة، فيرون النصارى، ويشربون، ويفرحون.
فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أصل إلى أصحابي، أو أقف لهم على خبر، فإن هذا من مظانهم.
فقلت لحمي: أريد أن أنظر إلى هذا المنظر.
فقال: شأنك وما تريد، فأصلح لي طعاماً، وشراباً، وسلم إلي غلاماً وسفينةً.
فخرجت وركبت السفينة، وبدأت بالأكل، ثم قدمت آنية الشراب، وجلست أشرب حتى وصلت البلة، وأبصرت الناس وقد ابتدأوا ينصرفون.

فإذا بالزلال بعينه، في أوساط الناس، سائراً في نهر الأبلة، فتأملته، فإذا أصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات.
فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً، فطرحت إليهم، فحين رأوني عرفوني، فكبروا، وأخذوني إليهم، وسلموا علي.
وقالوا: ويحك، أنت حي ؟ وعانقوني، وفرحوا بي، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها، من أولها إلى آخرها، على أتم شرح.
فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك بالسكر وقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في ذلك، فخرقت الجارية ثيابها، وكسرت العود، وجزت شعرها، وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا.
ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل معك ؟ فقد كنا وعدنا مولاك وعداً، تمنعنا المروءة من استخدامك بعده في حال أو سماع.
فقالت: يا مولاي لا تمنعني من القوت اليسير، ولبس الثياب السواد، وأن أصنع قبراً في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب من الغناء، فمكناها من ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحين دخلت، ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني، شهقت شهقةً عظيمةً، فما شككت في تلفها، وأعتنقتها، فما افترقنا ساعة طويلة.
ثم قال لي مولاها: خذها.
فقلت: بل تعتقها وتزوجني بها، كما وعدتني.
ففعل ذلك، ودفع لنا ثياباً كثيرة، وفرشاً، وقماشاً، وحمل إلي خمسمائة دينار.
وقال: هذا قدر ما أردت أن أجريه عليكم في كل شهر من أول شهر دخولي إلى البصرة، وقد اجتمع في طول هذه المدة، والجراية في كل شهر غير هذا، وشيء آخر لكسوتك، وكسوة الجارية، والشرط في المنادمة وسماع الجارية من وراء الستارة باق، وقد وهبت لك الدار الفلانية، وهذه مفاتيحها.
فأخذت المفاتيح، وأتيت إلى الدار، فوجدتها مفروشة بأنواع الفرش، وإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطيته فيها، والجارية.
فسررت بذلك سروراً عظيماً، وجئت إلى البقال، فحدثته حديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها.
وأقمت مع الجارية سنين، وصرت رب ضيعة ونعمة، وصار حالي إلى قريب مما كنت عليه أولاً.
وأنا أعيش كذلك مع جاريتي، إلى الآن.

أمير البصرة يجمع بين متحابين

روى أبو روق الهزاني، عن الرياشي: أن بعض أهل النعم بالبصرة، اشترى جارية، وأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها حباً شديداً، وأنفق عليها حتى أملق، ومسهما الضر الشديد، والفقر المبيد.
فقال لها يوماً: قد ترين ما صرنا إليه من الفقر، ووالله، لموتي وأنت معي، أهون علي مما أذكره لك، ويسوءني أن أراك على غير الحالة التي تسرني فيك، ونهاية الأمر بنا، أن تحل بأحدنا منيته، فيقتل الآخر نفسه عليه، فإن رأيت أن أبيعك لمن يحسن إليك، فيغسل عنك ما أنت فيه، وأتفرج أنا بما لعله يصير إلي من الشيء من ثمنك، ولعلك تحصلين عند من تتوصلين إلى نفعي معه.
فقالت: والله لموتي وأنا على تلك الحالة، أهون علي من انتقالي إلى غيرك، ولكن أفعل ما بدا لك.
وقالت له الجارية: إني لأرثي لك يا مولاي، مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني فانتفعت بثمني، فلعل الله أن يصنع لك صنعاً جميلاً، وأقع أنا بحيث يحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا.
فخرج، وعرضها للبيع، فأشار عليه أحد أصدقائه، ممن له رأي، أن يحملها إلى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وكان أمير البصرة يومئذ، فأعجبته.
فقال لمولاها: كم شراؤها عليك ؟ قال: بألف دينار، وقد أنفقت عليها أكثر من مائة ألف درهم.
قال: أما ما أنفقت عليها، فغير محتسب لك، لأنك أنفقته في لذاتك، وأما ثمنها، فقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، وعشرة سفاط ثياب، وعشرة رؤوس من الخيل، وعشرة من الرقيق، أرضيت؟ قلت: نعم، رضيت، فأمر بالمال فأحضر.
فلما قبض المولى الثمن، وأراد الانصراف، استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه باكياً، وأنشأت الجارية تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفّي إلاّ التفكّر
أقول لنفسي وهي في كرباتها ... أقلّي فقد بان الحبيب أو أكثري
إذا لم يكن للأمر عندي حيلة ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
قال: فاشتد بكاء المولى، وعلا نحيبه، ثم أنشأ يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهمّ في الفؤاد مبرّح ... أناجي به قلباً طويل التفكّر

عليك سلام، لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلاّ أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر: قد شئت يا هذا، خذ جاريتك، بارك الله لك فيها وفيما صار إليك من المال، وانصرفا راشدين، فوالله، لا كنت سبباً في فرقة محبين.
فأخذها وأخذ المال والخيل والرقيق والثياب، وأثرى وحسنت حاله.
وأخبرني الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رحمه الله على القضاء بها، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، أن الزبير حدثهم، قال: حدثني ابن أبي بكر المؤملي، قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كانت لفتى من العرب جارية جميلة، وكان بها معجباً، يجد بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج، وجعل يسأل إخوانه، فقالت الجارية ... وذكر بقية الخبر على قريب مما رواه الرياشي، والألحان في الشعر على ما رواه الزبير.
ووجدت هذا الخبر مذكوراً بقريب من هذه الألفاظ، في كتاب أخبار المتيمين للمدائني، وقد زاد فيه، أن الجارية كانت قينة، ولم يذكر الشعر الأول.

من مكارم جعفر بن يحيى البرمكي

وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قال: حدثني الحسين بن يحيى المرداسي، قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: لما دخل الرشيد البصرة حاجاً، كنت معه، فقال لي جعفر بن يحيى: يا أبا محمد، قد وصفت لي جارية مغنية حسناء محسنة، تباع، وذكر أن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره، وقد عزمت على أن أركب مستخفياً، فأعترضها، أفتساعدني ؟ فقلت: السمع والطاعة.
فلما كان في نصف النهار حضر النخاس، فأعلم بحضوره، فخرج جعفر بعمامة وطيلسان ونعل عربية، وأمرني فلبست مثل ذلك، وركبنا حمارين قد أسرجا بسروج التجار، وركب النخاس معنا، وطلبنا الطريق.
فلم يزل النخاس يسير بين أيدينا، حتى أتينا باباً شاهقاً يدل على نعمة قديمة، فقرع النخاس الباب، وإذا بشاب حسن الوجه، عليه أثر ضر باد، وقميص غليظ خشن، ففتح لنا الباب، وقال لنا: انزلوا يا سادة، فدخلنا.
فأخرج لنا الرجل قطعة حصير خلق، ففرشها لنا، فجلسنا عليها.
فقال له النخاس: أخرج الجارية، فقد حضر المشتري.
فدخل البيت، وإذا الجارية قد خرجت في القميص الغليظ الذي كان على الفتى بعينه، وهي فيه - مع خشونته - كأنها في الحلي والحلل، لحسن وجهها، وفي يدها عود.
فأمرها جعفر بالغناء، فجلست، وضربت ضرباً حسناً، واندفعت تغني:
إن يمس حبلك بعد طول تواصلٍ ... خلقاً ويصبح بيتكم مهجورا
فلقد أراني والجديد إلى بلىً ... دهراً بوصلك راضياً مسرورا
جذلاً بمالي عندكم لا أبتغي ... بدلاً بوصلك خلّة وعشيرا
كنت المنى وأعزّ من وطئ الحصى ... عندي وكنت بذاك منك جديرا
ثم غلبها البكاء حتى منعها من الغناء، وسمعنا من البيت نحيب الفتى، وقامت الجارية تتعثر في أذيالها، حتى دخلت البيت، وارتفعت لهما ضجة بالبكاء والشهيق، حتى ظننا أنهما قد ماتا، وهممنا بالانصراف.
فإذا بالفتى قد خرج وعليه ذلك القميص بعينه، فقال: أيها القوم، أعذروني فيما أفعله وأقوله.
فقال له جعفر: قل.
فقال: أشهد الله تعالى، وأشهدكم، أن هذه الجارية حرة لوجه الله تعالى، وأسألكم أن تزوجوني بها.
قال: فتحير جعفر أسفاً على الجارية، ثم قال لها: أتحبين أن أزوجك. من مولاك ؟ قالت: نعم.
فقرر الصداق، وخطب، وزوجها به، ثم أقبل على الفتى، وقال له: ما حملك على هذا ؟ فقال: حديثي طويل، إن نشطت له حدثتك به.
فقال: لا أقل من أن نسمعه، فلعلنا أن نبسط عذرك.
فقال: أنا فلان ابن فلان، وكان أبي من وجوه أهل هذا البلد، ومياسيره، وهذا عارف بذلك، وأومأ إلى النخاس.
وأسلمني أبي إلى الكتاب، وكانت لأمي صبية قريب سني من سنها، وهي جاريتي هذه، وكانت معي في المكتب، تتعلم ما أتعلم، وتنصرف معي.
فبلغت، ثم بطلت من الكتاب، وتعلمت الغناء، فكنت لمحبتي لها أتعلمه معها، وتعلق قلبي بها، وأحببتها حباً شديداً.

وبلغت أنا أيضاً، فخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهن، فخيرني أبي، فأظهرت له الزهد في التزويج، ونشأت متوفراً على الأدب، متقلباً في نعم أبي، غير متعرض لما يتعرض له الأحداث، لتعلق قلبي بالصبية، ورغبة أهل البلد تزداد في، وعندهم أن عفتي لصلاح، وما كانت إلا لتعلق قلبي بالجارية، وأن شهوتي لا تتعداها لأحد.
وبلغ حذقها في الغناء إلى ما قد سمعتموه، فعزمت أمي على بيعها، وهي لا تعلم ما في نفسي منها، فأحسست بالموت، واضطررت إلى أن حدثت أمي عن الصورة، فحدثت أبي، فاجتمع رأيهما على أن وهبا لي الجارية، وجهزاها كما يجهز أهل البيوتات بناتهن، وجليت علي، وعمل لنا عرس حسن، ونعمت معها دهراً طويلاً.
ثم مات أبي، وخلف لي مالاً كثيراً، فلم أحسن أن أرب نعمته، وأسأت التدبير فيها، وأسرعت في الأكل والشرب والقيان، وأنا مع ذلك أجذر في اليوم الواحد بخمسين ديناراً أو أكثر.
فأوجب ذلك أن تلفت النعمة، وأفضت الحال إلى نقض الدار وبيع ما فيها، حتى صرت إلى ما ترى، وأنا على هذا منذ سنين.
فلما كان في هذا الوقت، وبلغني دخول الخليفة، ووزيره، وأهل مملكته، البصرة، قلت لها: يا ستي، إعلمي أن شبابك قد بلي، وأن عمرك في الشقاء ينقضي، وبالله، إن نفسي تالفة من فراقك، ولكني أؤثر تلفها مع وصولك إلى نعمة ورفاهية، فدعيني أعرضك، لعل أن يشتريك بعض هؤلاء الأكابر، فتحصلي معه في رغد عيش، فإن مت بعدك فذاك الذي أوثر، ويكون كل واحد منا قد تخلص من الشقاء، وإن حكم الله تعالى علي بالبقاء، صبرت على قضائه.
فبكت من ذلك، وقلقت، ثم قالت: إفعل ما تحب.
فخرجت إلى هذا النخاس، فأطلعته على أمري، وقد كان يسمع غناءها أيام نعمتي، وعرف حالها وحالي، وأعلمته أني لا أعرضها إلا عندي، فإنها - والله - ما طرقت رجلها خارج باب الدار قط، وقصدت بذلك أن يراها المشتري، ولا تدخل بيوت الناس، ولا إلى السوق، وإنها لم يكن لها ما تلبسه إلا قميصي هذا، وهو مشترك بيننا، ألبسه أنا إذا خرجت لأبتاع القوت، وتتشح هي بأزارها، وإذا جئت إلى البيت، ألبستها إياه، وأتشح أنا بالأزار.
فلما حصل من يعترضها، وخرجت فغنتكم، لحقني من القلق والبكاء لفراقها أمر عظيم، فدخلت إلي، وقالت: يا هذا، ما أعجب أمرك، أنت مللتني، وأردت بيعي وفراقي، وتبكي هذا البكاء ؟ فقلت لها: يا هذه، إن فراق نفسي أسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن تتخلصي من هذا الشقاء.
فقالت: والله، لو ملكت منك ما ملكت مني، ما بعتك أبداً، وأموت جوعاً وعرياً، فيكون الموت هو الذي يفرق بيننا.
فقلت: أتريدين أن تعلمي صدق قولي ؟ قالت: نعم.
قلت: هل لك أن أخرج الساعة إلى المشتري فأعتقك بين يديه وأتزوجك، ثم أصبر معك على ما نحن فيه إلى أن يأذن الله تعالى بفرج أو موت ؟ فقالت: إن كان قولك صادقاً، فافعل ما بدا لك من هذا، فما أريد غيره.
فخرجت إليكم فكان مني ما قد علمتم، فاعذروني.
فقال جعفر الوزير: أنت معذور، ونهض، ونهضت معه، والنخاس معنا.
فلما قدم حماره ليركب، دنوت منه، وقلت: يا سبحان الله، مثلك في جودك، يرى مثل هذه المكرمة، فلا ينتهز الفرصة فيها ؟ والله، لقد تقطع قلبي عليهما.
فقال: ويحك، وقلبي - والله - كذلك، ولكن غيظي من فوت الجارية إياي يمنعني من التكرم عليه.
فقلت: وأين الرغبة في الثواب ؟ فقال: صدقت والله.
ثم التفت إلى النخاس فقال: كم كان الخادم سلم إليك عند ركوبنا، لتشتري به الجارية ؟ فقال: ثلاثة آلاف دينار.
فقال: أين هي ؟ فقال: مع غلامي.
فقال لي وللنخاس: خذاها وادفعاها إلى الفتى، وقولا له: يكتسي ويركب ويجيئني، لأحسن إليه وأستخدمه.
فرجعنا إلى الفتى، فإذا هو يبكي، فقلت له: قد عجل الله فرجك، إعلم أن الذي خرج من عندك هو الوزير جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وقد أمر لك بهذا، وهو يقول لك كذا وكذا.
قال: فصعق، حتى قلت قد تلف، ثم أفاق، فأقبل يدعو لجعفر، ويشكرني.
وكنت قد ركبت فلحقت بالوزير، وأعلمته، فحمد الله عز وجل على ما وهبه له، وعاد إلى داره وأنا معه.
فلما كان وقت العشاء، جئنا إلى الرشيد، فأقبل يسأل جعفر خبره في يومه، وهو يخبره، إلى أن قص عليه حديث الفتى والجارية.
فقال له الرشيد: فما عملت معه ؟ فأخبره.

فاستصوب رأيه، وقال: وقع له برزق سلطاني في رسم أرباب النعم، في كل شهر كذا وكذا، واعمل به بعد ذلك ما شئت.
فلما كان من الغد، جاءنا الفتى راكباً بثياب حسنة، وهيأة جميلة، فإذا به من أحلى الناس كلاماً، وأتمهم أدباً.
فحملته إلى جعفر، وأوصلته إلى مجلسه، فأمر بتسهيل وصوله إليه، وخلطه بحاشيته، ووقع له عن الخليفة بما رسم له، وعن نفسه بشيء آخر.
وشاع حديثه في البصرة، وفي أهل العسكر، فلم يبق فيهم متغزل، ولا متظرف، إلا أهدى له شيئاً جليلاً، فما خرجنا من البصرة إلا وهو رب نعمة صالحة.
ووجدت هذا الخبر، على خلاف هذا، ما ذكره أبو علي محمد بن الحسن ابن جمهور العمي البصري الكاتب، في كتاب السمار والندامى: أن الرشيد لما حج ومعه إبراهيم الموصلي، ... فأخبرنا بالخبر على قريب ما رويناه وذكرناه، وأن الجارية بدأت وغنت بصوت من صناعة إبراهيم، وهو:
نمّت عليّ الزفرة الصاعدة ... وملّني العائد والعائدة
يا ربّ كم فرّجت من كربة ... عنّي فهذي المرّة الواحدة
وأن الذي حضر لتقليب الجارية، الرشيد وجعفر بن يحيى متنكرين، ومعهما إبراهيم الموصلي والنخاس، وأنهم انصرفوا، وقطعوا الثمن بمائة ألف درهم، ثم عادوا والمال معهم، فأمروا بإعادة التقليب، فخرجت الجارية، فغنت بصوت، الغناء فيه لإبراهيم، وهو:
ومن عادة الدنيا بأنّ صروفها ... إذا سرّ منها جانب ساء جانب
وما أعرف الأيّام إلاّ ذميمة ... ولا الدهر إلاّ وهو للثأر طالب
ثم ذكر بقية الحديث على قريب من هذا، وفي الخبر الأول زيادات، ليست في خبر ابن جمهور.

من مكارم يحيى بن خالد البرمكي

وبلغني خبر لجعفر بن يحيى، مع جارية، يقارب هذا الخبر، أخبرني به أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رضي الله عنه، على القضاء بها، قال: أخبرني أحمد بن الصلت الحماني، قال: حدثنا مفلح وسنبر النخاسان، قالا: أرسل إلينا جعفر بن يحيى البرمكي، يطلب جارية قوالة، ذات أدب وظرف، على صفة ذكرها وحدها، فما زلنا نحرص على طلبها، ونتواصف من يعرف عنها مثل ذلك.
وإلى جانبنا شيخ من أهل الكوفة يسمع كلامنا، فأقبل علينا، وقال: عندي بغية الوزير، فانهضوا إن شئتم لتنظروا إليها.
قال: فنهضنا معه، حتى إذا وصلنا إلى داره، وجدناها ظاهرة الإختلال، ووجدنا فيها مسحاً خلقاً، وثلاث قصبات عليها مسرجة، فارتبنا بقوله لنا، لما ظهر من سوء حاله.
ثم أخرج إلينا جارية كأنها - والله - فلقة قمر، تتثنى كالقضيب، فاستقرأناها، فقرأت آيات من القرآن، حركت منا ما كان ساكناً، وأتبعتها بقصيدة مليحة، شوقتنا، وأطربتنا.
فقلنا لها: أصانعة ؟ وأشرنا إلى يدها.
فقالت: نعم، تعلمت العمل بالعود وأنا صغيرة.
فقلنا: فغنينا به.
فقالت: سبحان الله، هل يصلح أن أستجيب لذلك إلا لمولى مالك إن دعاني إليه أجبته.
قال: وراح الرسول إلى جعفر، فأخبره بما شاهده.
فلم يتمالك جعفر، لما سمع بصفة الجارية، حتى استنهض الرسول إلى مجلس الشيخ، وهو يتبعه، حتى عاينه، وسأله إخراجها إليه.
فلما رآها جعفر أعجب بها قبل أن يستنطقها، ثم إنه استنطقها، فأخذت بمجامع قلبه.
فقال لمولاها: قل ما شئت ؟ فقال الشيخ: لست أحدث أمراً حتى أستأذنها، ولولا الضر الذي نحن فيه لما عرضتها، لكن حالي كما يشاهده الوزير من فقر، وضر، ودين كثير قد فدحني، ومن أجله فارقت وطني، وعرضت على البيع ثمرة فؤادي.
فقال له جعفر: ما مقدارها في نفسك إن أردت بيعها ؟ فقال: ثلاثون ألف دينار.
فقال جعفر: فهل لك أن تأمرها بأن تغنينا ؟ فأقبل الشيخ عليها فاستدناها، وأمرها أن تغني، فأخذت العود، وأصلحته، ثم استعبرت، وغنت بصوت، الغناء من صنعة إبراهيم:
ومن عادة الأيّام أنّ صروفها ... إذا سرّ منها جانب ساء جانب
وما أعرف الأيّام إلاّ ذميمةً ... ولا الدهر إلاّ وهو بالثأر طالب
قال: ثم أنها ألقت العود من يدها، وصرخت، وصرخ الشيخ، وجعلا ينتحبان.
ثم إن الشيخ أقبل على جعفر ومن معه، وقال: أشهدكم أني قد أعتقتها، وجعلت عتقها صداقها، والله، لا ملكها أحد أبداً.

فغضب جعفر، وأقبل من حضر على الشيخ يؤنبونه ويستجهلونه، ويقولون له: ضيعت هذا المال الجليل، وعجلت، وجهلت.
فقال الشيخ: النفس أولى أن يبقى عليها من المال، والرازق الله سبحانه وتعالى، وعاد جعفر إلى أبيه فأخبره بما كان من الرجل والجارية.
فقال له أبوه: فما صنعت بهما ؟ قال: تركتهما وانصرفت.
فقال له: ويحك، ما أنصفت يا ولدي، أو ما أنفت على نفسك أن تفرق بين متحابين مثلهما، مقترين، فقيرين، أو تنصرف عنهما، ولا تجبر حالهما ؟ أرضيت أن يكون الكوفي أسمح منك.
ودعا بغلام، فحمل معه إلى الشيخ ثلاثين ألف دينار على بغال.
فلما وصل المال إلى الشيخ قبله وأخذه، وحمد الله عز وجل، ودعا لجعفر ولوالده، وعاد بالمال والجارية إلى منزله بالكوفة، وهو فرح مسرور، وقد فرج الله عنه.

أين نوال ابن جعفر من نوال ابن معمر

ووجدت في بعض كتبي: أن عمر بن شبة، قال: حدثني أبو غسان، قال: أخبرني بعض أصحابنا، قال: إشترى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما جارية من مولدات أهل مكة، كان يتعشقها غلام من أهلها، وقدم في أمرها إلى المدينة، فنزل قريباً من منزل عبد الله بن جعفر، ثم جعل يلطف عبد الله بطرائف مكة، حتى عرفت الجارية أنه ورد.
وجعلت الجارية تراسله، فأدخلته ليلة في إصطبل دواب عبد الله بن جعفر، فعثر عليه السائس، فأعلم عبد الله بن جعفر، وأتاه به.
فقال له: مالك، قبحك الله، أبعد تحرمك بنا تصنع مثل هذا ؟ فقال له: إنك ابتعت الجارية، وكنت لها محباً، وكانت تجد بي مثل ذلك.
قال: فدعا بالجارية، وسألها، فجاءت بمثل قصة الفتى.
فقال له: خذها، فهي لك.
فلما كان بعد ذلك بقريب، عشق عبد السلام بن أبي سليمان، مولى مسلم، جارية لآل طلحة، يقال لها: رواح، ورجا أن يفعلوا به مثلما فعل ابن جعفر بالفتى المكي، فلم يفعل الطلحيون ذلك، فسأل في ثمنها، حتى اجتمع له، فاشتراها منهم.
فقال عبد السلام في ذلك:
وأين فلا تعدل نوال ابن جعفر ... وأين لعمري من نوال ابن معمر
يطير لدى الجنّات هذا لفضله ... ويرفضّ هذا في الجحيم المسعّر
ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى رجل من المتفقهةوقد كان فيما يقارب عصرنا مثل هذا، وهو ما حدثني به أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ، قال: حدثني أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني الفقيه، قال: كنا ندرس على أبي إسحاق المروزي الشافعي، وكان يدرس عليه معنا فتى من أهل خراسان، له والد هناك، وكان يوجه إليه في كل سنة، مع الحاج، قدر نفقة السنة.
فاشترى جارية، فوقعت في نفسه، وألفها، وألفته، وكانت معه سنين.
وكان رسمه أن يستدين في كل سنة، ديناً، بقدر ما يعجز من نفقته، فإذا جاء ما أنفذه أبوه إليه، قضى دينه، وأنفق الباقي مدة ثم عاد إلى الاستدانة.
فلما كان سنة من السنين، جاء الحاج، وليس معهم نفقة من أبيه.
فسألهم عن سبب ذلك، فقالوا له: إن أباك أعتل علة عظيمة صعبة، واشتغل بنفسه، فلم يتمكن من إنفاذ شيء إليك.
قال: فقلق الفتى قلقاً شديداً، وجعل غرماؤه يطالبونه كالعادة، في قضاء الدين وقت الموسم، فاضطر، وأخرج الجارية إلى النخاسين، فعرضها.
وكان الفتى ينزل بالقرب من منزلي، وكنا نصطحب إلى منزل الفقيه، ولا نكاد نتفارق.
فباع الجارية بألف درهم وكسر، وعزم على أن يفرق منها على غرمائه قدر مالهم، ويتمون بالباقي.
وكان قلقاً، موجعاً، متحيراً، عند رجوعنا من النخاسين.
فلما كان الليل إذا ببابي يدق، فقمت ففتحته، فإذا بالفتى.
فقلت: مالك ؟ فقال: قد امتنع علي النوم، وقد غلبتني وحشة الجارية، والشوق إليها.
ووجدته من القلق على أمر عظيم، حتى أنكرت عقله، فقلت: ما تشاء ؟ فقال: لا أدري، وقد سهل علي أن ترجع الجارية إلى ملكي، وأبكر غداً فأقر لغرمائي بمالهم، وأحبس في حبس القاضي، إلى أن يفرج الله تعالى عني، ويجيئني من خراسان ما أقضي به ديني في العام المقبل، وتكون الجارية في ملكي.
فقلت له: أنا أكفيك ذلك في غد إن شاء الله، وأعمل في رجوع الجارية إليك، إذا كنت قد وطنت نفسك على هذا.
قال: فبكرنا إلى السوق، فسألنا عمن اشترى الجارية.
فقالوا: أمرأة من دار أبي بكر بن أبي حامد، صاحب بيت المال.

فجئنا إلى مجلس الفقيه، فشرحت لأبي إسحاق المروزي بعض حديث الفتى، وسألته أن يكتب رقعة إلى أبي بكر بن أبي حامد، يسأله فيها فسخ البيع، والإقالة، وأخذ الثمن، ورد الجارية، فكتب رقعة مؤكدة في ذلك.
فقمت، وأخذت بيد الخراساني صديقي، وجئنا إلى أبي بكر بن أبي حامد، فإذا هو في مجلس حافل، فأمهلنا حتى خف، ثم دنوت أنا والفتى، فعرفني، وسألني عن أبي إسحاق المروزي، فقلت: هذه رقعته خاصة في حاجة له.
فلما قرأها، قال لي: أنت صاحب الجارية ؟ قلت: لا، ولكنه صديقي هذا، وأومأت إلى الخراساني، وقصصت عليه القصة، وسبب بيع الجارية.
فقال: والله، ما أعلم أني ابتعت جارية في هذه الأيام، ولا ابتيعت لي.
فقلت: إن امرأة جاءت وابتاعتها، وذكرت أنها من دارك.
قال: يجوز.
ثم قال: يا فلان، فجاءه خادم، فقال له: امض إلى دور الحرم، فاسأل عن جارية اشتريت أمس، فلم يزل يدخل ويخرج من دار إلى دار، حتى وقع عليها، فرجع إليه.
فقال له: أعثرت عليها ؟ فقال: نعم، فقال: أحضرها، فأحضرها.
فقال لها: من مولاك ؟ فأومأت إلى الخراساني.
فقال لها: أفتحبين أن أردك عليه ؟ فقالت: والله، ليس مثلك يا مولاي من يختار عليه، ولكن لمولاي علي حق التربية.
فقال: هي كيسة عاقلة، خذها.
قال: فأخرج الخراساني الكيس من كمه، وتركه بحضرته.
فقال للخادم: إمض إلى الحرم، وقل لهن: ما كنتن وعدتن به هذه الجارية من إحسان، فعجلنه الساعة.
قال: فجاء الخادم بأشياء لها قدر وقيمة، فدفعها إليها.
ثم قال للخراساني: خذ كيسك فاقض منه دينك، ووسع بباقيه على نفسك وعلى جاريتك، والزم العلم، فقد أجريت عليك في كل شهر قفيز دقيق، ودينارين، تستعين بها على أمرك.
قال: فوالله ما انقطعت عن الفتى، حتى مات أبو بكر بن أبي حامد.

ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى صيرفي

قال مؤلف هذا الكتاب: وجدت هذا الخبر مستفيضاً ببغداد، وأخبرت به على جهات مختلفة، وهذا أبينها، وأصحها إسناداً، إلا أنني أذكر بعض الطرق الأخرى التي بلغتني: حدثني أحمد بن عبد الله، قال: حدثني شيخ من دار القطن ببغداد، قال: كان لأبي بكر بن أبي حامد مكرمة طريفة، وهي أن رجلاً يعرف بعبد الواحد ابن فلان الصيرفي، باع جاريته، وكان يهواها، على أبي بكر بن أبي حامد - يعني صاحب بيت المال - بثلثمائة دينار.
فلما جاء الليل، استوحش لها وحشة شديدة، ولحقه من الهيمان، والقلق، والجنون، والأسف على فراقها، ما منعه من النوم، ولحقه من البكاء والسهر، ما كادت تخرج نفسه معه.
فلما أصبح خرج إلى دكانه يتشاغل بالنظر في أمره، فلم يكن له إلى ذلك سبيل.
وزاد عليه القلق والشوق، فأخذ ثمن الجارية، وجاء إلى أبي بكر بن أبي حامد، فدخل عليه، ومجلسه حافل، فسلم، وجلس في أخريات الناس، إلى أن تقوضوا.
فلما لم يبق غيره، أنكر ابن أبي حامد حاله، فقال له: إن كانت لك حاجة فاذكرها.
فسكت، وجرت دموعه، وشهق.
فرفق به ابن أبي حامد، وقال له: قل، عافاك الله، ولا تستح.
فقال له: بعت أمس، جارية كانت لي، وكنت أحبها، واشتريت لك - أطال الله بقاءك - وقد أحسست بالموت أسفاً على فراقها.
وأخرج الثمن فوضعه بحضرته، وقال له: أنا أسألك أن ترد علي حياتي، بأخذ هذه الدنانير، وإقالتي من البيع.
قال: فتبسم ابن أبي حامد، وقال له: لما كانت بهذا المحل من قلبك لم بعتها ؟ فقال: أنا رجل صيرفي، وكان رأس مالي ألف دينار، فلما اشتريتها، تشاغلت بها عن لزوم الدكان، فبطل كسبي، وكنت أنفق عليها من رأس المال نفقة لا يحتملها حالي، فلما مضت مدة، خشيت الفقر، ونظرت، فإذا أنا لم يبق معي من رأس المال إلا الثلث أو أقل، وصارت تطالبني من النفقة، بما لو أطعتها فيه، ذهبت هذه البقية، وحصلت على الفقر.
فلما منعتها، ساءت أخلاقها ونغصت عيشي، فقلت أبيعها، وأدير ثمنها فيما أختل من حالي، وتستقيم عيشتي، وأستريح من أذاها، وأتصبر على فراقها، ولم أعلم أنه يلحقني هذا الأمر العظيم، وقد آثرت الآن الفقر، وأن تحصل الجارية عندي، أو أن أموت، فهو أسهل علي مما أنا فيه.
فقال ابن أبي حامد: يا فلان، فجاء خادم أسود.
فقال له: أخرج الجارية التي اشتريت لنا بالأمس.
قال: فأخرجت جاريتي.

فقال: يا بني، إن مثلي لا يطأ قبل الإستبراء، ووالله، ما وقعت عيني على الجارية - منذ اشتريت - إلا الساعة، وقد وهبتها لك فخذها، وخذ دنانيرك، بارك الله لك فيهما.
ثم قال للخادم: هات ألف درهم، فجاء بها.
فقال للجارية: قد كنت عولت على أن أكسوك، فجاء من أمر مولاك ما رأيت ولم أر من المروءة منعه منك، فخذي هذه الدراهم، واتسعي بها في نفقتك، ولا تحملي مولاك ما لا يطيق، فتحصلين عند من لا يعرف قدرك كمعرفته، ولك علي ألف درهم في كل سنة، يجيء مولاك فيأخذها لك، إذا شكرك، ورضي طريقتك.
قال: فقام الرجل، وقبل يديه، وجعل يبكي، ويدعو له.
ولم يزل المال واصلاً إليه في كل سنة، حتى مات ابن أبي حامد.

الحسن بن سهل يحسن إلى الفسطاطي التاجر

ويشبه هذا الحديث، ما وجدته في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز ابن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان، وهو يومئذ كاتب الوزير المهلبي على ديوان السواد، وذكر إنه نسخه من كتاب أعطاه إياه أبو الحسين الخصيبي، وكان فيه إصلاحات بخط ابن مابنداذ.
اشترى الحسن بن سهل، من الفسطاطي التاجر، جارية بألف دينار، فحملت إلى منزل الحسن، وكتب للفسطاطي بثمنها.
فأخذ الكتاب إلى من أحاله عليه بالمال، وانصرف إلى منزله، فوجده مفروشاً نظيفاً، وفيه ريحان قد عبي تعبية حسنة، ونبيذ قد صفي.
فقال: ما هذا ؟ فقيل له: جاريتك التي بعتها السعة، قد أعدت لك هذا لتنصرف إليها، فبعتها قبل انصرافك.
قال: فقام الفسطاطي، فرجع إلى الحسن.
وأحضر الحسن الجارية، فرأى زياً حسناً، ونظافةً، وتزينت بزينة لم تر من مثلها، مع ما رأى فيها من الحسن والجمال، والبهاء والكمال، فهو يجيل الفكر والنظر فيها، إذ رجع الفسطاطي إليه، وهو كالمجنون المخبول، وقال: أقلني بيع الجارية، أقالك الله في الدنيا والآخرة.
فقال: ما إلى هذا سبيل، وما دخلت قط دارنا جارية، فخرجت منها.
قال: أيها الأمير، إنه الموت الأحمر.
قال: وما ذاك ؟ فقص عليه قصته، وحبه لها، وتلهفه عليها، وأنه لم يقدر على فراقها وأن الندم قد لحقه، والشوق قد تمكن من فؤاده، وأنه إن دام ذلك عليه، كان فيه تلف نفسه، وبكى، ولم يزل يتضرع له.
فرق له الحسن، وأحضر الجارية من ساعته، وقال لها: هل لك في مولاك رغبة ؟ فقالت: أيها الأمير، في مثله يرغب، فرد الجارية عليه.
وقال له: خذ هذه الألف دينار، لك هبة، لا يرجع إلى ملكي منها دينار واحد.
فأخذ الفسطاطي الجارية والدنانير، وقال: الجارية حرة لوجه الله تعالى، وهذه الألف دينار صداقها، ثم كتب كتابها.
وعاد إلى منزله، وجلس مع جاريته على ما أعدته له.
الأشتر وجيداءأخبرني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني، قال: حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو العيناء، قال: كنت أجالس محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسين ابن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين، وكان قد حمل إلى المتوكل أسيراً، فحبسه مدة، ثم أطلقه المتوكل، وكان أعرابياً فصيحاً، فحدثني يوماً قال: حدثني نمير بن مخلف الهلالي، وكان حسن الوجه جداً، قال: كان منا فتى يقال له بشر بن عبد الله، ويعرف بالأشتر، وكان يهوى جارية من قومه، يقال لها: جيداء، وكانت ذات زوج.
وشاع خبره في حبها، فمنع منها، وضيق عليه، حتى لم يقدر أن يلم بها.
فجاءني ذات يوم، وقال: يا أخي، قد بلغ مني الوجد، وضاق علي سبيل الصبر، فهل تساعدني على زيارتها ؟ قلت: نعم فركبت، وسرنا، حتى نزلنا قريباً من حيها، فكمن في موضع.
فقال لي: إذهب إلى القوم فكن ضيفاً لهم، ولا تذكر شيئاً من أمرنا، حتى ترى راعية لجيداء صفتها كذا وكذا، فأعلمها خبري، وواعدها بوعد.
فمضيت وفعلت ما أمرني به، ولقيت الراعية فخاطبتها، فمضت إلى جيداء، وعادت إلي، فقالت: قل له: موعدك الليلة عند الشجيرات.
فلما كان الوقت الذي وعدتنا فيه، إذا بجيداء قد أقبلت، فوثب الأشتر إليها، فقبل بين عينيها.
فقمت مولياً عنهما، فقالا: نقسم عليك إلا ما رجعت، فوالله، ما بيننا ما نستره عنك، فرجعت، وجلسنا نتحدث.
فقال لها: يا جيداء، أما فيك حيلة لنتعلل الليلة ؟ فقالت: لا والله، إلا أن نعود إلى ما تعرف من البلاء والشدة.
فقال: ما من ذلك بد، ولو وقعت السماء على الأرض.

فقالت: هل في صاحبك هذا من خير ؟ فقلت: إي والله.
فخلعت ثيابها، ودفعتها إلي، وقالت: البسها، وأعطني ثيابك، ففعلت.
فقالت: إذهب إلى بيتي، فإن زوجي سيأتيك بعد العتمة، ويطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل، فلا تدفعه إليه من يدك، فهذا فعلي به، ودعه بين يديه، فإنه سيذهب ويحلب، ثم يأتيك به ملآن لبناً، ويقول: هاك غبوقك، فلا تأخذه منه، حتى تطيل نكدك عليه، ثم خذه، أودعه حتى يضعه هو، ثم لست تراه حتى تصبح.
قال: فذهبت، وفعلت ما أمرتني به، وجاءني بالقدح، فلم آخذه منه، وأطلت عليه النكد، ثم أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، فاختلفت أيدينا، فانكفأ القدح.
فقال: إن هذا لطماح مفرط، وضرب بيده إلى سوطه، ثم تناولني به، وضرب ظهري، فجاءت أمه، وأخته، فانتزعوني من يده، بعد أن زال عقلي، وهممت أن أجأه بالسكين.
فلما خرجوا من عندي، لم ألبث إلا يسيراً، حتى دخلت أم جيداء، تؤنبني، وتكلمني، فلزمت الصمت والبكاء.
فقالت: يا بنية، اتقي الله، وأطيعي بعلك، وأما الأشتر فلا سبيل لك إليه، وها أنا أبعث إليك بأختك لتؤنسك، ومضت.
ثم بعثت إلي بالجارية، فجعلت تكلمني، وتدعو على من ضربني، وأنا ساكت، ثم اضطجعت إلى جانبي.
فشددت يدي على فمها، وقلت: يا جارية، إن أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري بسببها، وأنت أولى بسترها مني، وإن تكلمت بكلمة فضحتها، وأنا لست أبالي.
فاهتزت مثل القضيب فزعاً، فطمنتها، وطيبت قلبها، فضحكت، وبات معي منها أظرف الناس، ولم نزل نتحدث حتى برق الصبح، فخرجت، وجئت إلى صاحبي.
فقالت جيداء: ما الخبر ؟ فقلت: سلي أختك عن الخبر، فلعمري إنها عالمة به، ودفعت إليها ثيابها، وأريتها ظهري، فجزعت، وبكت، ومضت مسرعة، وجعل الأشتر يبكي، وأنا أحدثه بقصتي، وارتحلنا.

أقسم أن يغسل يده أربعين مرة إذا أكل زيرباجة

حدثني أبو الفرج أحمد بن إبراهيم الفقيه الحنفي المعروف بابن النرسي من أهل باب الشام ببغداد، وقد كان خلف أبا الحسن علي بن أبي طالب بن البهلول التنوخي على القضاء بهيت، وما علمته إلا ثقة، قال: سمعت فلان التاجر، يحدث أبي - وأسمى التاجر، وأنسيته أنا، قال: حضرت عند صديق لي من البزازين، وكان مشهوراً، في دعوة، فقدم في جملة طعامه، زيرباجة، ولم يأكلها، فامتنعنا من أكلها.
فقال: أحب أن تأكلوا منها، وتعفوني من أكلها، فلم ندعه حتى أكل.
فلما غسلنا أيدينا، انفرد يغسل يده، ووقف غلام يعد عليه الغسل، حتى قال له: قد غسلت يدك أربعين مرة، فقطع الغسل.
فقلنا له: ما سبب هذا ؟ فامتنع، فألححنا عليه.
فقال: مات أبي وسني نحواً من عشرين سنة، وخلف علي حالاً صغيرة، وأوصاني قبل موته بقضاء ديون عليه، وملازمة السوق، وأن أكون أول داخل إليه، وآخر خارج منه، وأن أحفظ مالي.
فلما مات، قضيت دينه، وحفظت ما خلفه لي، ولزمت الدكان، فرأيت في ذلك منافع كثيرة.
فبينا أنا جالس يوماً ولم يتكامل السوق، وإذا بامرأة راكبة على حمار، وعلى كفله منديل دبيقي، وخادم يمسك بالعنان، فنزلت عندي.
فأكرمتها، ووثبت إليها، وسألتها عن حاجتها، فذكرت ثياباً.
فسمعت - والله - نغمةً، ما سمعت قط أحسن منها، ورأيت وجهاً لم أر مثله، فذهب عني عقلي، وعشقتها في الحال.
فقلت لها: تصبرين حتى يتكامل السوق، وآخذ لك ما تريدين، ففعلت، وأخذت تحادثني، وأنا في الموت عشقاً لها.
وخرج الناس، فأخذت لها ما أرادت، فجمعته، وركبت ولم تخاطبني في ثمنه بحرف واحد، وكان ما قيمته خمسة آلاف درهم.
فلما غابت عني أفقت، وأحسست بالفقر، فقلت: محتالة، خدعتني بحسن وجهها، ورأتني حدثاً، فاستغرتني، ولم أكن سألتها عن منزلها، ولا طالبتها بالثمن، لدهشتي بها.
فكتمت خبري لئلا أفتضح، وأتعجل المكروه، وعولت على غلق دكاني، وبيع كل ما فيها، وأوفي الناس ثمن متاعهم، وأجلس في بيتي مقتصراً على غلة يسيرة من عقار كان خلفه لي أبي.
فلما كان بعد أسبوع، إذا بها قد باكرتني، ونزلت عندي، فحين رأيتها أنسيت ما كنت فيه وقمت لها.
فقالت: يا فتى، تأخرنا عنك، وما شككنا أنا قد روعناك، وظننت أنا قد احتلنا عليك.
فقلت: قد رفع الله قدرك عن هذا.
فاستدعت الميزان، فوفتني دنانير قدر ما قلت لها عن ثمن المتاع، وأخرجت تذكرة بمتاع آخر.

فأجلستها أحادثها، وأتمتع بالنظر إليها إلى أن تكامل السوق، وقمت، ودفعت إلى كل إنسان ما كان له، وطلبت منهم ما أرادت، فأعطوني، فجئتها به، فأخذته وانصرفت، ولم تخاطبني في ثمنه بحرف.
فلما غابت عني ندمت، وقلت: المحنة هذه، أعطتني خمسة آلاف درهم، وأخذت مني متاعاً بألف دينار، والآن إن لم أقع لها على خبر، فليس إلا الفقر، وبيع متاع الدكان، وما قد ورثته من عقار.
وتطاولت غيبتها عني أكثر من شهر وأخذ التجار يشددون علي في المطالبة، فعرضت عقاري، وأشرفت على الهلكة.
فأنا في ذلك، وإذا بها قد نزلت عندي، فحين رأيتها زال عني الفكر في المال، ونسيت ما كنت فيه، وأقبلت علي تحادثني، وقالت: هات الطيار، فوزنت لي بقيمة المتاع دنانير.
فأخذت أطاولها في الكلام، فبسطتني، فكدت أموت فرحاً وسروراً، إلى أن قالت: هل لك زوجة؟ فقلت: لا والله يا سيدتي، وما أعرف امرأة قط، وبكيت.
فقالت: ما لك ؟ قلت: خير، وهبتها ثم قمت وأخذت بيد الخادم الذي كان معها، وأخرجت له دنانير كثيرة، وسألته أن يتوسط الأمر بيني وبين سته.
فضحك، وقال: إنها هي - والله - أعشق منك لها، وما بها حاجة إلى ما اشترته منك، وإنما تجيئك محبة لمطاولتك، فخاطبها بما تريد، فإنها تقبله، وتستغني عني.
فعدت، وكنت قلت لها: إني أمضي لأنقد الدنانير، فلما عدت، قالت: نقدت الدنانير ؟ وضحكت، وقد كانت رأتني مع الخادم.
فقلت لها: يا ستي، الله، الله، في دمي، وخاطبتها بما في نفسي منها، فأعجبها ذلك، وقبلت الخطاب أحسن القبول.
وقالت: الخادم يجيئك برسالتي بما تعمل عليه، وقامت ولم تأخذ مني شيئاً، فوفيت الناس أموالهم، وحصلت ربحاً واسعاً، واغتممت خوفاً من انقطاع السبب بيني وبينها، ولم أنم ليلتي قلقاً وخوفاً.
فلما كان بعد أيام جاءني الخادم، فأكرمته، ووهبت له دنانير لها صورة، وسألته عنها.
فقال: هي - والله - عليلة من شوقها إليك.
فقلت: فاشرح لي أمرها ؟ فقال: هذه صبية ربتها السيدة أم أمير المؤمنين المقتدر بالله، وهي من أخص جواريها عندها، وأحضاهن، وأحبهن إليها.
وإنها اشتهت رؤية الناس، والدخول والخروج، فتوصلت حتى صارت القهرمانة، وصارت تخرج في الحوائج، فترى الناس.
وقد - والله - حدثت السيدة بحديثك، وسألتها أن تزوجها منك، فقالت: لا أفعل، أو أرى الرجل، فإن كان يستحقك، وإلا لا أدعك واختيارك.
وتحتاج إلى أن تتحيل في إدخالك إلى الدار بحيلة، إن تمت وصلت إلى تزويجها، وإن انكشفت ضربت عنقك، فما تقول ؟ فقلت: أصبر على هذا.
فقال: إذا كان الليلة، فأعبر إلى المخرم، وادخل المسجد الذي بنته السيدة على شاطئ دجلة، وعلى حائطه الأخير مما يلي دجلة، اسمها مكتوب بالآجر المقطوع، فبت فيه.
قال أبو الفرج بن النرسي: وهو المسجد الذي قد سد بابه الآن سبكتكين، الحاجب الكبير، مولى معز الدولة، المعروف بجاشنكير، وأضافه إلى ميدان داره، وجعله مصلى لغلمانه.
قال الرجل: فلما كان قبل المغرب مضيت إلى المخرم، فصليت في المسجد العشاءين، وبت فيه.
فلما كان وقت السحر، إذا بطيار لطيف قد قدم، وخدم قد نزلوا ومعهم صناديق فارغة، فجعلوها في المسجد، وانصرفوا، وبقي واحد منهم، فتأملته، فإذا هو الواسطة بيني وبينها.
ثم صعدت الجارية واستدعتني، فقمت، وعانقتها، وقبلت يدها، وقبلتني قبلات كثيرة، وضمتني، وبكيت، وبكت.
وتحدثنا ساعة، ثم أجلستني في واحد من الصناديق، وكان كبيراً، وأقفلته.
وأقبل الخدم يتراجعون بثياب، وماء ورد، وعطر، وأشياء قد أحضروها من مواضع، وهي تفرق في باقي الصناديق، وتقفل، ثم حملت الصناديق في الطيار، وانحدر.
فلحقني من الندم أمر عظيم، وقلت: قتلت نفسي لشهوة لعلها لا تتم، ولو تمت ما ساوت قتل نفسي، وأقبلت أبكي، وأدعو الله عز وجل، وأتوب، وأنذر النذور، إلى أن حملت الصناديق بما فيها، ليجاز بها في دار الخليفة، وحمل صندوقي خادمان أحدهما الواسطة بيني وبينها.
وهي كلما اجتازت بطائفة من الخدم الموكلين بأبواب الحرم، قالوا: نريد نفتش الصناديق، فتصيح على بعضهم، وتشتم بعضهم، وتداري بعضهم.
إلى أن انتهت إلى خادم ظننته رئيس القوم، فخاطبته بخضوع وذلة، فقال لها: لا بد من فتح الصناديق وبدأ بصندوقي فأنزله.

فحين أحسست بذلك ذهب عقلي، وغاب علي أمري، وبلت في الصندوق فرقاً، فجرى بولي حتى خرج من خلله.
فقالت: يا أستاذ، أهلكتني، وأهلكت التجار، وأفسدت علينا متاعاً بعشرة آلاف دينار في الصندوق ما بين ثياب مصبغات، وقارورة فيها أربعة أمنان من ماء زمزم، قد انقلبت وجرت على الثياب، والساعة تستحيل ألوانها.
فقال: خذي صندوقك، أنت وهو، إلى لعنة الله، ومري.
فحمل الخادمان صندوقي، وأسرعا به، وتلاحقت الصناديق.
فما بعدنا ساعة حتى سمعتها تقول: ويلاه، الخليفة، فعند ذلك مت، وجاءني ما لم أحتسبه.
فقال لها الخليفة: والك، يا فلانة، أي شيء في صناديقك ؟ فقالت: ثياب للسيدة.
فقال: افتحيها حتى أراها.
فقالت: يا مولاي، الساعة تفتحها ستنا بين يديك.
فقال: مري، هوذا أجي.
فقالت للخدم: أسرعوا، ودخلت حجرة، ففتحت صندوقي، وقالت: اصعد تلك الدرجة، ففعلت، وأخذت بعض ما في تلك الصناديق، فجعلته في صندوقي، وأقفلته.
وجاء المقتدر، فحملت الصناديق إلى بين يديه، ثم عادت إلي، فطيبت نفسي، وقدمت لي طعاماً وشراباً، وما يحتاج إليه، وأقفلت الحجرة، ومضت.
فلما كان من غد جاءتني، فصعدت إلي، وقالت: الساعة تجيء السيدة لتراك، فانظر كيف تكون؟ فما كان بأسرع من أن جاءت السيدة، فجلست على كرسي، وفرقت جواريها، ولم يبق معها غير واحدة منهن، ثم أنزلتني الجارية.
فحين رأيت السيدة قبلت الأرض، وقمت فدعوت لها.
فقالت لجاريتها: نعم ما اخترت لنفسك هو - والله - كيس، عاقل، ونهضت.
فقامت معها صاحبتي وتبعتها، وأتت إلي بعد ساعة، وقالت: أبشر فقد - والله - وعدتني أن تزوجني بك، وما بين أيدينا عقبة إلا الخروج.
فقلت: يسلم الله تعالى.
فلما كان من غد حملتني في الصندوق، وخرجت كما دخلت، وكان الحرص على التفتيش أقل، وتركت في المسجد الذي حملت منه في الصندوق، وقمت بعد ساعة، ومضيت إلى منزلي، وتصدقت، ووفيت بنذري.
فلما كان بعد أيام، جاءني الخادم برقعتها، بخطها الذي أعرفه، وكيس فيه ثلاثة آلاف دينار عيناً، وهي تقول في رقعتها: أمرتني السيدة بإنفاذ هذا الكيس من مالها إليك، وقالت: اشتر ثياباً، ومركوباً، وغلاماً يسعى بين يديك، وأصلح به ظاهرك، وتجمل بكل ما تقدر عليه، وتعال يوم الموكب إلى باب العامة، وقف حتى تطلب، وتدخل على الخليفة، وتتزوج بحضرته.
فأجبت على الرقعة، وأخذت الدنانير، واشتريت منها ما قالوه، واحتفظت بالباقي.
وركبت بغلتي يوم الموكب إلى باب العامة، ووقفت، وجاءني من استدعاني، فأدخلني على المقتدر، وهو على السرير، والقضاة، والهاشميون، والحشم، قيام، فداخلتني هيبة عظيمة، فخطب بعض القضاة، وزوجني، وخرجت.
فلما صرت في بعض الممرات، عدل بي إلى دار عظيمة، مفروشة بأنواع الفرش الفاخر، والآلات، والخدم، فأجلست، وتركت وحدي، وانصرف من أجلسني.
فجلست يومي لا أرى من أعرف، وخدم يدخلون ويخرجون، وطعام عظيم ينقل، وهم يقولون: الليلة تزف فلانة - اسم زوجتي - إلى زوجها، ها هنا.
فلما جاء الليل أثر الجوع في، وأقفلت الأبواب، وأيست من الجارية، فبقيت أطوف في الدار، إلى أن وقعت على المطبخ، فإذا قوم طباخون جلوس، فاستطعمت منهم، فلم يعرفوني، وظنوا أني بعض الوكلاء، فقدموا إلي زيرباجة، فأكلت منها، وغسلت يدي بأشنان كان في المطبخ، وأنا مستعجل لئلا يفطن بي، وظننت أني قد نقيت من ريحها، وعدت إلى مكاني.
فلما انتصف الليل إذا بطبول، وزمور، والأبواب تفتح، وصاحبتي قد أهديت إلي، وجاءوا بها فجلوها علي، وأنا أقدر أن ذلك في النوم، ولا أصدق فرحاً به، وقد كادت مرارتي تنشق فرحاً وسروراً، ثم خلوت بها، وانصرف الناس.
فحين تقدمت إليها وقبلتها، رفستني فرمت بي عن المنصة، وقالت: أنكرت أن تفلح يا عامي، أو تصلح يا سفلة، وقامت لتخرج.
فتعلقت بها، وقبلت يديها ورجليها، وقلت: عرفيني ذنبي، واعملي بعده ما شئت.
فقالت: ويلك، تأكل، ولا تغسل يدك ؟ وأنت تريد أن تختلي بمثلي ؟ فقلت: اسمعي قصتي، واعملي ما شئت بعد ذلك.
فقالت: قل.
فقصصت عليها القصة، فلما بلغت أكثرها، قلت: وعلي، وعلي، وحلفت بأيمان مغلظة، لا أكلت بعد هذا زيرباجة، إلا غسلت يدي أربعين مرة.
فأشفقت، وتبسمت، وصاحت: يا جواري، فجاء مقدار عشر جواري ووصائف فقالت: هاتم شيئاً للأكل.

فقدمت إلينا مائدة حسنة، وألوان فاخرة، من موائد الخلفاء، فأكلنا جميعاً، واستدعت شراباً، فشربنا، أنا وهي، وغنى لنا بعض أولئك الوصائف.
وقمنا إلى الفراش، فدخلت بها، وإذا هي بكر، فافتضضتها، وبت بليلة من ليالي الجنة، ولم نفترق أسبوعاً، ليلاً ونهاراً، إلى أن انقضت وليمة الأسبوع.
فلما كان من غد، قالت لي: إن دار الخليفة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا، وما تم لأحد أن يدخل فيها بعروس غيرك، وذلك لعناية السيدة بي، وقد أعطتني خمسين ألف دينار، من عين وورق، وجوهر، وقماش، ولي بخارج القصر أموال وذخائر أضعافها، وكلها لك، فاخرج، وخذ معك مالاً، واشتر لنا داراً حسنة، عظيمة الاتساع، يكون فيها بستان حسن، وتكون كثيرة الحجر، ولا تضيق على نفسك، كما تضيق نفوس التجار، فإني ما تعودت أسكن إلا في القصور، واحذر من أن تبتاع شيئاً ضيقاً، فلا أسكنه، وإذا ابتعت الدار، فعرفني، لأنقل إليك مالي، وجواري، وأنتقل إليك.
فقلت: السمع والطاعة.
فسلمت إلي عشرة آلاف دينار، فأخذتها، وأتيت إلى داري، واعترضت الدور، حتى ابتعت ما وافق اختيارها، فكتبت إليها بالخبر، فنقلت إلي تلك النعمة بأسرها، ومعها ما لم أظن قط أني أراه، فضلاً عن أني أملكه، وأقامت عندي كذا وكذا سنة، أعيش معها عيش الخلفاء، وأتجر في خلال ذلك، لأن نفسي لم تسمح لي بترك تلك الصنعة، وإبطال المعيشة، فتزايد مالي وجاهي، وولدت لي هؤلاء الشباب، وأومأ إلى أولاده، وماتت رحمها الله، وبقي علي مضرة الزيرباجة، إذا أكلتها، غسلت يدي أربعين مرة.

القهرمانة

القهرمان: وجمعه قهارمة: مدبر البيت، أو أمين الدخل والخرج، يونانية تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية 59، وأصل عمل القهرمانة في بلاط الخليفة، أن تؤدي الرسائل عن الخليفة، ولكن ضعف الخلفاء، واحتجابهم في قصورهم، وتسلط النساء، أدى إلى سيطرة القهرمانة.
وكانت خالصة جارية الخيزران، لها في البلاط العباسي مقام منذ أيام المنصور، فكانت تدخل على المنصور، وهو في مخدعه الطبري 8 - 72 وكانت تترسل بين سيدتها الخيزران والخلفاء الطبري 8 - 205 وكانت الخيزران تستشيرها في ما يجد لها من أمور الطبري 8 - 206 وكانت مدلة على سيدتها، جريئة عليها الطبري 8 - 212 وكان مال الخيزران في حوزتها الطبري 8 - 213 كما كان مال المهدي وهو ولي عهد في حوزتها أيضا الطبري 8 - 72.
وكان للمكتفي، داية اسمها فارس، نصبها قهرمانة لما استخلف، وكانت تتدخل في نصب الوزراء وعزلهم القصة 3 - 171 من نشوار المحاضرة وفي دولة المقتدر، وكانت دولة السيدة أمه كتاب الوزراء للصابي 308 أصبح للقهرمانة سيطرة تامة على أمور الدولة، بحكم صلتها بالخليفة والسيدة، فكانت القهرمانة تتدخل في ترشيح الوزراء وكبار العمال تجارب الأمم 1 - 21 و 24 وفي عزلهم واعتقالهم تجارب الأمم 1 - 40 وقد تحضر القهرمانة عقوبة الوزير المعزول 1 - 90 تجارب أو يعهد إليها الخلفة بتعذيب من يريد تعذيبه 1 - 84 أو يعتقل لديها من يريد اعتقاله 1 - 40 تجارب ومن شهيرات القهرمانات في الدولة العباسية، فاطمة القهرمانة، غرق بها طيارها في يوم ريح عاصف، تحت جسر بغداد في السنة 299 1 - 20 وأم موسى الهاشمية عينت قهرمانة في قصر الخليفة في السنة 299 1 - 20 تجارب وسيطرت سيطرة عظيمة، بحيث أن صاحبتها فرج النصرانية كان تحمل خاتم الخليفة لمن يعده بتوليته الوزارة الوزراء 293 وانتهى أمر أم موسى بالاعتقال والمصادرة تجارب الأمم 1 - 83، وزيدان القهرمانة، اعتقل عندها الوزير علي بن عيسى لما عزل عن الوزارة 1 - 40 تجارب، وبلغ من سطوتها، أن الوزير ابن الفرات كان يعنون رسائله إليها: يا أختي الوزراء 172، وثمل القهرمانة، وكانت موصوفة بالشر والإسراف في العقوبة تجارب الأمم 1 - 84 وكانت تجلس للمظالم، وتنظر في رقاع الناس، في كل جمعة، وتصدر عنها التوقيعات المنتظم 6 - 148.
وكانت للقاهرة قهرمانة اسمها اختيار، كانت هي السبب في استيزار محمد بن القاسم ابن عبيد الله تجارب الأمم 1 - 260.

وعلم، قهرمانة المستكفي، وكان اسمها حسن الشيرازية، أغرت أمير الأمراء توزون، فخلع المتقي وسمله، ونصب المستكفي خليفة بدلاً منه، وأصبحت علم، قهرمانة الخليفة الجديد، فسيطرت على جميع مرافق الدولة وأمورها تجارب الأمم 2 - 75، وعندما اعتقل المستكفي اعتقلت علم معه تجارب 2 - 86 وسملت عيناها، وقطع لسانها تجارب 2 - 100.
وكان لعز الدولة، بختيار البويهي، قهرمانة اسمها تحفة، تعقد المحالفات مع كبار الموظفين، لتحميهم، ثم يرشوها خصومهم، فتتركهم إلى غيرهم تجارب الأمم 2 - 321 - 323.
وكانت للأخشيد بمصر، قهرمانة اسمها سماية، بلغ من تأثيرها أن خصومة حصلت بين خليفة قاضي مصر الذي نصبه المطيع، وبين أحد الشهود، فأسقط القاضي شهادته، وأسجل بذلك، فشكا إليها الشاهد ذلك، فأحضرت القاضي، وأمرته بإحضار السجل، فأحضره، فمزقت الحكم الذي أسجل فيه إسقاط شهادة الشاهد، وأصلحت بينهما، راجع ذلك في أخبار القضاة في كتاب الولاة للكندي ص568.
وكانت وصال قهرمانة الخليفة القائم، تشترك في اختيار الوزراء المنتظم 8 - 211 و 252.
ومن القهرمانات، نظم القهرمانة، التي ذكرها القاضي التنوخي، في القصة 4 - 70 من نشوار المحاضرة.
ومنهن الجارية، صاحبة هذه القصة، وكانت مملوكة للسيدة أم المقتدر، واشتهت أن تتصرف، وأن تخرج إلى خارج القصر، فقهرمتها السيدة، مما يدل على أن مبارحة قصر الخلافة محرم على الحريم، إلا على القهرمانة.

إسحاق الموصلي يتطفل ويقترح

حدثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني رحمه الله تعالى، إملاء من حفظه، وكتبته عنه في أصول سماعاتي منه، ولم يحضرني كتابي فأنقله منه، فأثبته من حفظي، وتوخيت ألفاظه بجهدي، قال: حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: غدوت يوماً، وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة، والخدمة فيها، فركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء، وأتفرج بها.
فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني بكرت في مهم لي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت.
ومضيت، وطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي النهار، فوقفت في شارع المخرم، في الظل، عند جناح رحب في الطريق، لأستريح.
فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً، عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقي، وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية وراءه، ورأيت لها قواماً حسناً، وطرفاً فاتناً، وشمائل ظريفة، فحدست أنها مغنية.
فدخلت الدار التي كنت واقفاً عليها، وعلقها قلبي في الوقت علوقاً شديداً، لم أستطع معه البراح.
فلم ألبث إلا يسيراً، حتى أقبل رجلان شابان جميلان، لهما هيأة تدل على قدرهما، راكبان، فاستأذنا، فأذن لهما، فحملني حب الجارية على أن نزلت معهما، ودخلت بدخولهما، فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب الدار أني معهما.
فجلسنا، فأتي بالطعام فأكلنا، وبالشراب فوضع، وخرجت الجارية، وفي يدها عود، فرأيتها حسناء، وتمكن ما في قلبي منها، وغنت غناء صالحاً، وشربنا.
وقمت قومة للبول، فسأل صاحب المنزل من الفتيين عني، فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته.
وجئت، فجلست، وغنت الجارية في لحن لي:
ذكرتك إذ مرّت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تستريب وتطمح
من المولعات الرمل أدماء حرّة ... شعاع الضحى في متنها يتوضّح
فأدته أداءً صالحاً، ثم غنت أصواتاً فيها من صنعتي:
الطلول الدوارس ... فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها ... فهي قفر بسابس
فكان أثرها فيه أصلح من الأول، ثم غنت أصواتاً من القديم والمحدث، وغنت في أضعافها من صنعتي، في شعري:
قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد ... ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما أدّعي ... ت وإن كنت كاذبا
فكان أصلح ما غنته، فاستعدته منها لأصححه لها، فأقبل علي رجل منهم، فقال: ما رأيت طفيلياً أصفق منك وجهاً، لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، وهذا تصديق للمثل: طفيلي ويقترح، فأطرقت، ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني، فلا يكف.

ثم قاموا إلى الصلاة، وتأخرت، فأخذت العود وشددت طبقته، وأصلحته إصلاحاً محكماً، وعدت إلى موضعي، فصليت، وعادوا، وأخذ الرجل في عربدته علي، وأنا صامت.
وأخذت الجارية العود، وجسته، فأنكرت حاله، وقالت: من مس عودي ؟ فقالوا: ما مسه أحد.
قالت: بلى، والله، قد مسه حاذق متقدم، وشد طبقته، وأصلحه إصلاح متمكن من صنعته.
فقلت لها: أنا أصلحته.
قالت: بالله عليك، خذه، فاضرب به.
فأخذته، وضربت به مبدأً عجيباً، فيه نقرات محركة، فما بقي في المجلس أحد إلا وثب فجلس بين يدي.
وقالوا: بالله عليك يا سيدنا، أتغني ؟ قلت: نعم، وأعرفكم نفسي أيضاً، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وإني - والله - لأتيه على الخليفة، وأنتم تشتموني اليوم، لأني تملحت معكم بسبب هذه الجارية، ووالله، لا نطقت بحرف، ولا جلست معكم، أو تخرجوا هذا المعاند.
ونهضت لأخرج، فتعلقوا بي، فلم أرجع، فلحقتني الجارية، فتعلقت بي، فلنت، وقلت: لا أجلس، حتى تخرجوا هذا البغيض.
فقال له صاحبه: من هذا كنت أخاف عليك، فأخذ يعتذر.
فقلت: أجلس، ولكني، والله، لا أنطق بحرف وهو حاضر، فأخذوا بيده، فأخرجوه.
فبدأت أغني الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فطرب صاحب البيت طرباً شديداً، وقال: هل لك في أمر أعرضه عليك ؟ فقلت: وما هو ؟ قال: تقيم عندي شهراً، والجارية لك بما لها من كسوة.
فقلت: أفعل.
فأقمت عنده ثلاثين يوماً، لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع، فلا يعرف لي خبراً.
فلما كان بعد ذلك، سلم إلي الجارية والخادم، وجئت بها إلى منزلي، وكان أهل منزلي في أقبح صورة لتأخري عنهم.
وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رآني، قال لي: يا إسحاق، ويحك، أين كنت ؟ فأخبرته بخبري.
فقال: علي بالرجل الساعة، فدللتهم على بيته، فأحضر، فسأله المأمون عن القصة، فأخبره بها.
فقال: أنت ذو مروءة، وسبيلك أن تعان عليها، فأمر له بمائة ألف درهم.
وقال: لا تعاشر ذلك المعربد السفل.
فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين.
وأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال لي: أحضر الجارية، فأحضرته إياها، فغنته.
فقال لي: قد جعلت لها نوبة كل يوم ثلاثاء، تغنيني من وراء الستارة، مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألف درهم.
فربحت - والله - بتلك الركبة، وأربحت.

أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر

ووجدت في بعض الكتب: أن عيسى بن موسى، كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالق، إن لم تكوني أحسن من القمر.
فنهضت، واحتجبت عنه، وقالت: قد طلقتني، فبات بليلة عظيمة.
فلما أصبح غدا إلى المنصور، وأخبره الخبر، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تم طلاقها، تلفت نفسي غماً، وكان الموت أحب إلي من الحياة.
وظهر للمنصور منه جزع شديد، فأحضر الفقهاء، واستفتاهم، فقال جميع من حضر، قد طلقت، إلا رجلاً من أصحاب أبي حنيفة، فإنه سكت.
فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم ؟.
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والتين والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، فلا شيء أحسن من الإنسان.
فقال المنصور لعيسى بن موسى: قد فرج الله تعالى عنك، والأمر كما قال، فأقم على زوجتك.
وراسلها أن أطيعي زوجك، فما طلقت.
ما ثمانية وأربعة واثنانأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أحمد بن عبيد، عن الهيثم بن عدي، عن عبد الملك بن عمير، قال: قدم علينا عمر بن هبيرة الكوفة، فأرسل إلى عشرة، أنا أحدهم، من وجوه أهل الكوفة، فسمرنا عنده.
ثم قال: يحدثني كل رجل منكم أُحدوثةً، وأبدأ أنت يا أبا عمرو.
فقلت: أصلح الله الأمير، أحديث الحق، أم حديث الباطل ؟ فقال: بل حديث الحق.
فقلت: إن أمرء القيس بن حجر الكندي، آلي ألية، أن لا يتزوج بامرأة حتى يسألها عن ثمانية، وأربعة، واثنين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عنها، قلن: أربعة عشر.
فبينا هو يسير في الليل، وإذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة، كأنها القمر لتمه، فأعجبته.
فقال لها: يا جارية، ما ثمانية، وأربعة، واثنان ؟ فقالت: أما الثمانية: فأطباء الكلبة، وأما الأربعة: فأخلاف الناقة، وأما الاثنان: فثديا المرأة.

فخطبها من أبيها، فزوجه منها، واشترطت هي عليه، أن تسأله ليلة يأتيها، عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، على نفسه، وعلى أن يسوق لها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك.
ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة، وأهدى إليها نحياً من سمن، ونحياً من عسل، وحلةً من قصب.
فنزل العبد ببعض المياه، فنشر الحلة، ولبسها، فتعلقت بشجرة فانشقت، وفتح النحيين، وأطعم أهل الماء منهما.
ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها، وأمها، وأخيها، ودفع إليها هديتها.
فقالت: أعلم مولاك، أن أبي ذهب يقرب بعيداً، ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعائيكما نضبا.
فقدم الغلام على مولاه، وأخبره بما قالت.
فقال: أما قولها: ذهب أبي يقرب بعيداً، ويبعد قريباً، فإن أباها ذهب يحالف قوماً على قومه.
وأما قولها: ذهبت أمي تشق النفس نفسين، فإن أمها ذهبت تقبل امرأة.
وأما قولها: إن أخي يراعي الشمس، فإن أخاها في سرح له يرعاها، فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح.
وأما قولها: إن سماءكم انشقت، فإن الحلة التي بعثت بها معك انشقت.
وأما قولها: إن وعائيكما نضبا، فإن النحيين الذين بعثت بهما نقصا، فأصدقني.
فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني عن نسبي، فأخبرتهم أني ابن عمك، ونشرت الحلة فلبستها، وتجملت بها، فعلقت بشجرة، فانشقت، وفتحت النحيين، فأطعمت منهما أهل الماء.
فقال: أولى لك.
ثم ساق مائة من الإبل، وخرج نحوها، ومعه الغلام، فنزلا منزلاً.
فقام الغلام ليسقي، فعجز، فأعانه امرؤ القيس، فرمى به الغلام في البئر، وانصرف حتى أتى المرأة بالإبل، فأخبرهم أنه زوجها.
فقيل لها: قد جاء زوجك.
فقالت: والله، لا أدري أهو زوجي أم لا، ولكن انحروا له جزوراً، وأطعموه من درتها وذنبها، ففعلوا، فأكل ما أطعموه.
فقالت: اسقوه لبناً حازراً وهو الحامض، فشرب.
فقالت: أفرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له، فنام.
فلما أصبحت، أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك.
فقال: سلي عما بدا لك.
فقالت: مم تختلج شفتاك ؟ فقال: لتقبيلي فاك.
فقالت: مم يختلج كشحاك ؟ قال: لالتزامي إياك.
فقالت: مم يختلج فخذاك ؟ فقال: لتوركي إياك.
فقالت: عليكم بالعبد، فشدوا أيديكم به، ففعلوا.
قال: ومر قوم، فاستخرجوا امرء القيس من البئر، فرجع إلى حيه، واستاق مائة من الإبل، وأقبل إلى امرأته.
فقيل لها: قد جاء زوجك.
فقالت: والله، ما أدري أهو زوجي أم لا، ولكن أنحروا له جزوراً، وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا، فلما أتوه بذلك، قال: أين الكبد والسنام والملحة، وأبى أن يأكل.
فقالت: أسقوه لبناً حازراً، فأبى أن يشرب، وقال: أين الضرب والزبد ؟ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، فأبى أن ينام، وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا لي عليها خباء.
ثم أرسلت إليه تقول: هات شرطي عليك في المسائل الثلاث، فأرسل إليها سلي عما شئت.
فقالت: مم تختلج شفتاك ؟ قال: لشربي المشعشعات.
قالت: مم يختلج كشحاك ؟ قال: للبسي الحبرات.
قالت: فمم يختلج فخذاك ؟ قال: لركوبي السابقات.
فقالت: هذا هو زوجي، فعليكم به، واقتلوا العبد، فقتلوه، وأقبل امرؤ القيس على الجارية.
فقال ابن هبيرة: لا خير في سائر الحديث الليلة، بعد حديثك يا أبا عمرو، ولن يأتينا أحد بأعجب منه، فقمنا، وانصرفنا، وأمر لي بجائزة.

أخبار قيس ولبنى

وجدت في كتاب الأغاني الكبير، لأبي الفرج المعروف بالأصبهاني، الذي أجاز لي روايته، في جملة ما أجازه لي، أخبار قيس بن ذريح الليثي، فقال في صدرها: أخبرني بخبر قيس بن ذريح ولبنى امرأته، جماعة من مشايخنا، في قصص متصلة ومتقطعة، وأخبار منظومة ومنثورة، فألفت جميع ذلك ليتسق حديثه، إلا ما جاء منفرداً، وحسن إخراجه عن جملة النظم، فذكرته على حدته.
فممن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، ولم يتجاوزه إلى غيره، وإبراهيم بن محمد بن أيوب عن ابن قتيبة.
والحسن بن علي عن محمد بن أبي السري، عن هشام محمد الكلبي، وعلى روايته أكثر المعول.

ونسخت أيضاً من أخباره المنظومة، أشياء ذكرها القحذمي، عن رجاله، وخالد بن كلثوم عن نفسه، ومن روى عنه، وخالد بن جميل.
ونتفاً حكاها اليوسفي صاحب الرسائل، عن أبيه، عن أحمد بن حماد، عن جميل، عن ابن أبي جناح الكعبي، وحكيت كل متفق فيه متصلاً، وكل مختلف في معانيه منسوباً إلى راويه، قالوا جميعاً: كان منزل في ظاهر المدينة لذريح، وهو أبو قيس، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة.
فمر قيس في بعض حوائجه، ذات يوم، بحي من بني كعب بن خزاعة، والحي خلوف، فوقف على خباء لبنى بنت الحباب الكعبية، واستسقى ماء، فسقته، وخرجت إليه به، وكانت امرأة مديدة القامة، شهلاء، حلوة المنظر والكلام، فلما رآها وقعت في نفسه، وشرب من الماء.
فقالت له: أتنزل عندنا ؟ قال: نعم، فنزل بهم، وجاء أبوها، فنحر له وأكرمه.
وانصرف قيس، وفي قلبه من لبنى حر لا يطفأ، فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع خبره، وروي شعره فيها.
وأتاها يوماً آخر، وقد اشتد وجده بها، فسلم، فظهرت له، وردت سلامه، ورحبت به، فشكى إليها ما يجد بها، وما يلقى من حبها، فبكت وشكت إليه مثل ذلك، فعرف كل واحد منهما، ما له عند صاحبه.
ثم انصرف إلى أبيه، فأعلمه بحاله، وسأله أن يزوجه إياها، فأبى عليه، وقال له: يا بني عليك بإحدى بنات عمك، فهن أحق بك، وكان ذريح كثير المال، وأحب أن لا يخرج ماله إلى غريبة.
فانصرف قيس، وقد ساءه ما خاطبه به أبوه، فأتى أمه وشكى ذلك إليها، واستعان بها على أبيه، فلم يجد عندها ما يحب.
فأتى الحسين بن علي، سلام الله عليهما، فشكى ما به، فقال له الحسين: أنا أكفيك.
فمضى معه إلى أبي لبنى، فلما بصر به، وثب إليه، وأعظمه، وقال: يا ابن رسول الله، ما جاء بك إلي ؟ ألا بعثت إلي فآتيك ؟ قال: قد جئتك خاطباً ابنتك لبنى، لقيس بن ذريح، وقد عرفت مكانه مني.
فقال: يا ابن بنت رسول الله، ما كنت لأعصى لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا، أن يخطبها ذريح علينا، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف أن يسمع أبوه بهذا، فيكون عاراً ومسبة علينا.
فأتى الحسين سلام الله عليه ذريحاً، وقومه مجتمعون، فقاموا إليه وقالوا له مثل قول الخزاعي.
فقال: يا ذريح، أقسمت عليك بحقي، إلا خطبت لبنى لابنك قيس.
فقال: السمع والطاعة لأمرك.
وخرج معه في وجوه قومه، حتى أتى حي لبنى، فخطبها ذريح من أبيها على ابنه قيس، فزوجه بها، وزفت إليه.
فأقام معها مدة، لا ينكر أحدهما من صاحبه شيئاً.
وكان قيس أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمه في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري.
ولم تر للكلام موضعاً حتى مرض قيس مرضاً شديداً، فلما برئ، قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك خلفاً، وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال، فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها، لعل الله عز وجل يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك.
فأمهل ذريح حتى اجتمع قومه، ثم قال له: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلة ولا ولد لك، ولا لي سواك، وهذه المرأة ليست بولود، فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله تعالى أن يهب لك ولداً تقر به عينك وأعيننا.
فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً.
فقال أبوه: يا بني، فإن مالي كثير، فتسر بالإماء.
فقال: ولا أسوؤها بشيء أبداً.
قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها.
فأبى، وقال: الموت - والله - أسهل علي من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من خصال.
فقال: وما هي ؟ قال: تتزوج أنت، فلعل الله عز وجل أن يرزقك ولداً غيري.
فقال: ما في فضل لذلك.
قال: فدعني أرحل عنك بأهلي، وأصنع ما كنت صانعاً، لو كنت مت في علتي هذه.
فقال: ولا هذا.
قال: فادع لبنى عندك، وأرتحل عنك إلى أن أسلوها، فإني ما تحب نفسي أن أعيش، وتكون لبنى غائبة عني أبداً، وأن لا تكون في حبالي.
فقال: لا أرضى بذلك، أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف بيت أبداً، حتى يطلق لبنى.
وكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويجيء قيس فيقف إلى جانبه، فيظله بردائه، ويصلى هو بحر الشمس، حتى يفيء الفيء عنه، وينصرف إلى لبنى، فيعانقها، ويبكي، وتبكي معه.
وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك، فتهلك، وتهلكني معك.
فيقول لها: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً.

فيقال: إنه مكث كذلك سنة، ثم طلقها لأجل والده، فلم يطق الصبر عنها.
قال ابن جريج: أخبرت أن عبد الله بن صفوان لقي ذريحاً أبا قيس، فقال له: ما حملك على أن فرقت بين قيس ولبنى، أما علمت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف.
وروى هذا الحديث، إبراهيم بن يسار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام لذريح بن سنة، أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى، أما أني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف.
قال أبو الفرج: أخبرني محمد بن خلف، وكيع، قال: حدثني محمد بن زهير، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنا عمر بن أبي نصر، عن ليث بن عمرو، أنه سمع قيس بن ذريح يقول ليزيد بن سليمان: هجرني أبواي، إثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما، فيرداني، حتى طلقتها.
قالوا: فلما بانت لبنى منه، بطلاقه إياها، وفرغ من الكلام، لم يلبث حتى استطير عقله، ولحقه مثل الجنون، وجعل يبكي وينشج أحر نشيج، وبلغها الخبر، فأرسلت إلى أبيها ليحملها، وقيل: أقامت حتى انقضت عدتها، وقيس يدخل إليها، فأرسلت إلى أبيها ليحملها، فأقبل أبوها بهودج على ناقة، ومعه إبل، ليحمل أثاثها.
فلما رأى قيس ذلك، أقبل على جاريتها، وقال: ويحك، ما دهاني فيكم ؟ فقالت: لا تسألني، وسل لبنى.
فذهب ليلم بخبائها، فمنعه قومها، وأقبلت عليه امرأة من قومها، وقالت: ويحك تسأل، كأنك جاهل أو متجاهل، هذه لبنى ترحل الليلة أو غداً.
فسقط مغشياً عليه، ثم أفاق، وبكى بكاءً كثيراً، ثم أنشأ يقول:
وإنّي لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّيك إلاّ أنّ ما حان حائن
قال أبو الفرج: في هذه الأبيات غناء، ولها أخبار قد ذكرت في أخبار المجنون قيس بن الملوح، مجنون بني عامر، ثم ذكر أبو الفرج بعد هذا عدة قطع من شعر قيس بن ذريح.
ثم قال: قالوا: فلما ارتحل بها أبوها إلى قومها، أتبعها ملياً، ثم علم أن أباها يسوءه أن يسير معها، ويمنعه ذلك، فوقف ينظر إليها ويبكي، حتى غابوا عن عينيه، فكر راجعاً، فنظر إلى أثر خف بعيرها، فأكب عليه يقبله، ورجع يقبل موضع مجلسها، وأثر قدميها، فليم على ذلك، وعنفه قومه في تقبيل التراب، فقال:
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبّل إثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى ... بلاءً ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي بأسم لبنى ... عييت فما أطيق له جوابا
ثم ذكر أبو الفرج قطعاً من شعر قيس، وأخباراً من أخباره منشورة، بأسانيد مفردة على الإسناد الذي رويته عنه ههنا، ثم رجع إلى مواضع من الحديث الذي جمع فيه من أسانيده، وأتى بسياقة يطول علي أن أذكرها في كتابي هذا، جملتها عظيم ما لحق قيس من التململ، والسهر، والحزن، والأسفار، والبكاء العظيم، والجزع المفرط، وإلصاق خده بالأرض على آثارها، وخروجه في أثرها، وشم رائحتها، وعتابه نفسه في طاعة أبيه على طلاقها.
ثم اعتل علة أشرف منها على الموت، فجمع له أبوه فتيات الحي يعللنه، ويحدثنه، طمعاً في أن يسلو عن لبنى، ويعلق بواحدة منهن، فيزوجه منها، فلم يفعل، وقصة له مع طبيب أحضر له، وقطع شعر كثيرة لقيس في خلال ذلك.
ثم إن أبا لبنى شكا قيساً إلى معاوية بن أبي سفيان، وذكر تعرضه لها بعد الطلاق.
فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم بهدر دمه إن تعرض لها، فكتب مروان بذلك إلى صاحب الماء.
ثم إن أباها زوجها، فبلغ ذلك قيساً، فاشتد جزعه، وجعل يبكي أشد بكاء، وأتى حلة قومها، فنزل عن راحلته، وجعل يتعمد في موضعها، ويمرغ خده على ترابها، ويبكي أحر بكاء، ثم قال قصيدته التي رواها أبو الفرج، التي أولها:
إلى اللّه أشكو فقد لبنى كما شكا ... إلى اللّه فقد الوالدين يتيم

وذكر بعد هذا أخباراً له معها، واجتماعات عفيفة كانت بينهما، بحيل طريفة، ووجدها به، وبكاءها في طلاقها، وإنكار زوجها - الذي تزوجها بعد قيس - ذلك عليها، ومكاشفتها له، وعلة أخرى لحقت قيساً، واشتهارهما، وافتضاحهما، وما لحق قيساً ولبنى من الخبل، واختلال العقل، وقطع شعر كثيرة لقيس أيضاً في خلال ذلك، وأن قيساً مضى إلى ابن أبي عتيق، فمضى به إلى يزيد بن معاوية، ومدحه وشكى إليه ما جرى عليه، فرق له، ورحمه، وأخذ له كتاب أبيه بأن يقيم حيث أحب، ولا يعترض له أحد، وأزال ما كتب به إلى مروان، من هدر دمه، وقطع شعر كثيرة أخرى لقيس في خلال ذلك، وأخبار مفردة، ومفصلة.
ثم قال: وقد اختلف في أكثر أمر قيس ولبنى وذكر كلاماً يسيراً في ذلك، والجميع في نيف وعشرين ورقة.
وذكر القحذمي: أن ابن أبي عتيق، صار إلى الحسين بن علي، وجماعة من قريش وقال لهم: إن لي حاجة أحب أن تقضوها، وأنا أستعين بجاهكم وأموالكم عليها.
قالوا: ذلك مبذول لك منا، فاجتمعوا بيوم وعدهم فيه، فمضى بهم إلى زوج لبنى، فلما رآهم، أعظم مسيرهم إليه، وأكبره.
فقالوا: قد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق.
فقال: هي مقضية كائنة ما كانت.
فقال له ابن أبي عتيق: قد قضيتها كائنة ما كانت ؟ قال: نعم.
قال: تهب لي اليوم لبنى زوجتك، وتطلقها ثلاثاً.
قال: فإني أشهدكم أنها طالق ثلاثاً.
فاستحيا القوم، واعتذروا، وقالوا: والله، ما عرفنا حاجته، ولو علمنا أنها هذه، ما سألناك إياها.
قال ابن أبي عائشة: فعوضه الحسين بن علي عليهما السلام عن ذلك مائة ألف درهم.
وحمل ابن أبي عتيق، لبنى معه، فلم تزل عنده، حتى انقضت عدتها، وسأل القوم أباها، فزوجها قيساً، ولم تزل معه حتى مات.
فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيراً من صديق
فقد جرّبت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصّتني حرارتها بريقي
قال: فقال له ابن أبي عتيق: يا حبيبي، أمسك عن هذا الحديث، فما سمعه أحد إلا ظنني قواداً.

عشق جارية زوجته فوهبتها له

ووجدت في بعض كتبي: قال أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة: كانت لزوجتي جارية حسنة الوجه، فعلقتها، وعلمت زوجتي بذلك، فحجبتها عني، فاشتد ما بي من الوجد عليها، وقاسيت شدة شديدة.
فبينا أنا ذات ليلة نائم، ومولاتها زوجتي إلى جانبي، إذ رأيت في منامي كأن الجارية حيالي، وأنا أبكي، إذ لاح لي إنسان فأنشدني:
وقفت حيالك أذري الدموع ... وأخلط بالدمع منّي دما
وأشكو الذي بي إلى عاذلي ... ولا خير في الحبّ أن يكتما
رضيت بما ليس فيه رضا ... بتسليم طرفك إن سلّما
فتهت عليّ وأقصيتني ... وأعزز عليّ بأن أرغما
قال: فانتبهت فزعاً مرعوباً، ودعوت بدواة وقرطاس، وجلست في فراشي، وكتبت الشعر.
فقالت لي زوجتي: ماذا تصنع ؟ فقصصت عليها القصة والرؤيا.
فقالت: هذا كله من حب فلانة ؟ قد وهبتها لك.
بالله يا طرفي الجاني على كبديأخبرني أبو الفرج الأصبهاني إجازة، قال: أخبرني عمي الحسن بن محمد، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال: حدثنا معبد الصغير المغني، مولى علي بن يقطين، قال: كنت منقطعاً إلى البرامكة، فبينما أنا ذات يوم في منزلي، وإذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع إلي.
فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة، يستأذن عليك.
فأذنت له، فدخل علي شاب، ما رأيت أحسن منه وجهاً، ولا أنظف ثوباً، ولا أجمل زياً، عليه أثر السقم ظاهر.
فقال لي: يا سيدي أنا منذ مدة أحاول لقاءك، ولا أجد إليه سبيلاً، ولي إليك حاجة.
قلت: ما هي ؟ فأخرج إلي ثلثمائة دينار، فوضعها بين يدي.
ثم قال: أسألك أن تقبلها، وتصنع في بيتين قلتهما لحناً تغنيني به.
فقلت له: هاتهما، فأنشدني:
باللّه يا طرفي الجاني على كبدي ... لتطفئنّ بدمعي لوعة الحزن
أولا تؤخّر حتى يحجبوا سكني ... فلا أراه ولو أدرجت في كفني

قال: فصنعت فيهما لحناً، ثقيل أول، مطلق في مجرى الوسطى، ثم غنيته إياه، فأغمي عليه، حتى ظننته قد مات.
ثم أفاق، فقال: أعد فديتك.
قلت: أخشى أن تموت.
فقال: هيهات، هيهات، أنا أشقى من ذلك، فأعد علي.
وما زال يخضع ويتضرع، حتى أعدته، فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت نفسه قد فاظت، فلما أفاق، رددت عليه الدنانير.
وقلت له: خذ دنانيرك، وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك، وبلغت وطراً مما أردته، ولست أحب أن أشارك في دمك.
فقال: لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها لك، وأخرج ثلثمائة دينار أخرى.
وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى، وحلال لك دمي.
فقلت: لا والله، إلا على شرط.
قال: وما هو ؟ قلت: تقيم عندي، وتتحرم بطعامي وتشرب أقداحاً من النبيذ تشد قلبك، وتسكن بعض ما بك، وتحدثني بقصتك.
فقال: أفعل.
فأخذت الدنانير، ودعوت بطعام، فأصاب منه، وبالنبيذ، فشرب أقداحاً، وغنيته بشعر غيره في معناه، وهو يشرب ويبكي.
ثم قال: الشرط، أعزك الله، فغنيته صوته، فجعل يبكي أحر بكاء، وينتحب.
فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه، والنبيذ قد شد من قوته، كررت عليه صوته مراراً، ثم قلت له: حدثني حديثك.
فقال: أنا رجل من أهل المدينة، خرجت يوماً متنزهاً في ظاهرها، وقد سال العقيق، في فتية وأقران، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا نحن له، فجلسن قريباً منا.
ونظرت بينهن إلى فتاة كأنها قضيب بان قد طله الندى، تنظر بعينين، ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما، فأطلنا وأطلن، حتى تفرق الناس.
وانصرفنا، وقد أبقت بقلبي جرحاً بطيئاً اندماله، فسرت إلى منزلي وأنا وقيذ.
وخرجت من غد إلى العقيق، وليس فيه أحد، فلم أر لها أثراً، ثم جعلت أتتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فكأن الأرض ابتلعتها، وسقمت، حتى يئس مني أهلي.
فأعلمت زوجة أبي بذلك، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع قد أقبلت، وهي سنة خصب، والساعة يأتي المطر، فتخرج وأخرج معك، فإن النسوة سيجئن، فإذا رأيتها أتبعتها، حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينكما، وأسعى لك في تزويجها.
قال: فكأن نفسي اطمأنت، ورجعت، وجاء المطر، وسال العقيق، وخرجت مع إخواني إليه، وزوجة أبي معنا، فجلسنا مجلسنا الأول، فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان، فأومأت إلى زوجة أبي، فجلست قريباً منها.
وأقبلت على إخواني، فقلت لهم: أحسن والله القائل، إذ يقول:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحاً به وندوبا
فاقبلت على صويحباتها، وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو فصبراً لعلّنا ... نرى فرجاً يشفي السقام قريبا
قال: فأمسكت عن الجواب، خوفاً أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وانصرفنا.
وتبعتها زوجة أبي، حتى عرفت بيتها، وصارت إلي، وأخذت بيدي، ومضينا إليها، وتزاورنا، وتلاقينا على حال مراقبة ومخالسة.
حتى ظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها، وتشدد عليها أبوها، فلم أقدر عليها.
فشكوت إلى أبي شدة ما نالني، وشدة ما ألقى، وسألته خطبتها.
فمضيت أنا وأبي ومشيخة قومي إلى أبيها، فخطبوها، فقال: لو كان بدأ بهذا من قبل أن يشهرها، لأسعفناه بحاجته وبما ألتمس، لكنه قد فضحها، فلم أكن لأحقق قول الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي، قال معبد: فسألته أن ينزل بقربي، فأجابني، وصارت بيننا عشرة.
ثم جلس جعفر بن يحيى يوماً للشرب، فأتيته، فكان أول صوت غنيته بشعر الفتى، فطرب عليه طرباً شديداً، وقال: ويحك لمن هذا الصوت ؟ فحدثته فأمر بإحضار الفتى، فأحضر في وقته، فاستعاده الحديث، فأعاده.
فقال له: هي في ذمتي، حتى أزوجك بها فطابت نفسي ونفس الفتى، وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح.
وغدا جعفر إلى الرشيد، فحدثه الحديث، فعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعاً، وأمر بأن أغنيه الصوت، فغنيته، وشرب عليه، وسمع حديث الفتى.
فأمر من وقته، بأن يكتب إلى عامل الحجاز، باشخاص الرجل وابنته، وسائر أهله إلى حضرته.
فلم تمض إلا مسافة الطريق، حتى أحضر، فأمر الرشيد بإحضاره إليه، فأوصل، وخطب إليه الجارية للفتى، فأجابه، فزوجه إياها، وحمل الرشيد إليه ألف دينار مهرها، وألف دينار لجهازها، وألف دينار لنفقته، في طريقه، وأمر للفتى بألفي دينار.

وكان المديني بعد ذلك من جملة ندمائه.

به من غير دائه وهو صالح

أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثني أبي، قال: سرت إلى سر من رأى بعد قدومي من الحج، فدخلت إلى الواثق بالله، فقال: بأي شيء أطرفتني من الأحاديث التي استفدتها من الأعراب وأشعارهم ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين جلس إلي فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحاورني، فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان، منظراً، وحديثاً، وظرفاً، وأدباً.
فاستنشدته، فأنشدني:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكتنّان مؤتلفان
إذا أمنا ألتفّا بجيد تواصلٍ ... وطرفاهما للريب مسترقان
أردتهما ختلاً فلم أستطعهما ... ورمياً ففاتاني وقد قتلاني
ثم تنفس تنفساً، ظننت أنه قد قطع حيازيمه.
فقلت له: ما لك بأبي أنت ؟ فقال: وراء هذين الجبلين شجني، وقد حيل بيني وبين المرور بهذه البلاد، ونذروا دمي، فأنا أتمتع بالنظر إلى هذين الجبلين، تعللاً بهما، إذا قدم الحاج، ثم يحال بيني وبين ذلك.
فقلت له: زدني مما قلت، فأنشدني:
إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرّض بي كأنّك مازح
فإن سألت عنّي حضور فقل لها: ... به غيرٌ من دائه وهو صالح
فأمرني الواثق، فكتبت الشعرين.
فلما كان بعد أيام دعاني، فقال لي: قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحناً، فاسمعه، فإن ارتضيته أظهرناه، وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحناه.
ثم غني لنا به من وراء الستارة، فكان في غاية الجودة، وكذلك كان يصنع إذا وضع لحناً.
فقلت له: أحسن - والله - صانعه، يا أمير المؤمنين.
فقال: بحياتي ؟ فقلت: إي وحياتك، وحلفت له بما وثق به.
فأمر لي برطل، فشربته، ثم أخذ العود، فغناه ثلاث مرات، وسقاني عليه ثلاثة أرطال، وأمر لي بثلاثين ألف درهم.
فلما كان بعد أيام، دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا في الشعر الآخر لحناً، وأمر فغني به، فكان حالي مثل الحال في الشعر الأول، وحلفت له على جودته، فغناه ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة أرطال، وأمر لي بثلاثين ألف درهم.
ثم قال: هل قضيت حق حديثك ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك.
فقال: ولكنك لم تقض حق الأعرابي، ولا سألتني معونته على أمره ؟ وقد سبقت مسألتك، وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز، وأمرته بتجهيزه، وخطبة المرأة له، وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالنا، ففعل.
فقبلت يده، وقلت: السبق إلى المكارم لك، وأنت أولي بها من غيرك من سائر الناس.
قال: أبو الفرج: وصنعة الواثق في الشعرين جميعاً من الرمل.
عمر بن أبي ربيعة والجعد بن مهجع العذريوحدثني أبو الفرج القرشي، المعروف بالأصبهاني، قال: نسخت من كتاب محمد بن موسى بن حماد، قال: ذكر الرياشي قال: قال حماد الراوية: أتيت في مكة، إلى حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فتذاكرنا العذريين، وقال عمر بن أبي ربيعة: كان لي صديق من بني عذرة يقال له: الجعد بن مهجع، وكان أحد بني سلامان، وكان يلقى من الصبابة، مثل الذي ألقاه بالنساء، على أنه كان لا عاهر الخلوة، ولا سريع السلوة.
وكان يوافي الموسم في كل سنة، فإذا غاب عن وقته، ترجحت عنه الأخبار، وتوكفت له الأسفار، حتى يقدم.
فغمني ذات سنة إبطاؤه، حتى قدم حاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، فإذا غلام قد تنفس الصعداء، وقال: عن أبي المسهر تسأل ؟ قلت: نعم، وإياه أردت.
فقال: هيهات، هيهات، أصبح - والله - أبو المسهر، لا ميؤوس منه فيهمل، ولا مرجو فيعلل، أصبح - والله - كما قال القائل:
لعمري ما حبّي لأسماء تاركي ... أعيش ولا أقضي به فأموت
فقلت: ما الذي به ؟ فقال: مثل الذي بك، من تهتككما في الضلال، وجركما أذيال الخسار، كأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار.
فقلت: ومن أنت منه، يا أبن أخي ؟ قال: أخوه.
فقلت له: يا ابن أخي، ما منعك أن تسلك مسلكه من الأدب، وأن تركب منه مركبه إلا أنك وإياه كالبجاد والبرد، لا ترقعه ولا يرقعك.
ثم صرفت وجه ناقتي، وأنا أقول:

أرائحة حجّاج عذرة وجهة ... ولمّا يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى ... متى ما يقل أسمع وإن قلت يسمع
ألا ليت شعري أيّ شيء أصابه ... فلي زفرات هجن ما بين أضلعي
فلا يبعدنك اللّه خلاًّ فإنّني ... سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي
ثم انطلقت حتى وقفت موقفاً من عرفات، فبينا أنا كذلك، وإذا بإنسان قد تغير لونه، وساءت هيأته، فأدنى ناقته من ناقتي، ثم خالف بين أعناقهما، وعانقني وبكى، حتى اشتد بكاؤه.
فقلت: ما وراءك ؟ فقال: برح العذل، وطول المطل، ثم أنشأ يقول:
لئن كانت عديّة ذات لبّ ... لقد علمت بأن الحبّ داء
ألم تنظر إلى تغيير جسمي ... وأنّي لا يفارقني البكاء
وأنّي لو تكلّفني سواها ... لخفّ الكلم وانكشف الغطاء
وأنّ معاشري ورجال قومي ... حتوفهم الصبابة والّلقاء
إذا العذريّ مات خليّ ذرعٍ ... فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت: يا أبا المسهر، إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت الله تعالى، كنت مؤملاً لك أن تظفر بحاجتك.
قال: فتركني، وأقبل على الدعاء، فلما تدلت الشمس للغروب، وهم الناس أن يفيضوا، سمعته يتكلم بشيء، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:
يا ربّ كلّ غدوة وروحة ... من محرمٍ يشكو الضنا ولوحه
أنت حسيب الخطب يوم الدوحة
فقلت: وما يوم الدوحة ؟ فقال: والله لأخبرنك ولو لم تسألني، ثم أقبل علي، وقال: أنا رجل ذو مال من نعم وشاء، وذو المال لا يصدره القل، ولا يرويه الثماد.
وأني خشيت عام أول على مالي التلف، وقطر الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالاً لي منهم، فأوسعوا لي عن صدر المجلس، وسقوني جمة الماء، وكنت معهم في خير أخوال.
ثم إني عزمت على مرافقة إبلي بماء لهم، فركبت فرسي، وسمطت خلفي شراباً كان أهداه إلي بعضهم، ثم مضيت.
حتى إذا كنت قريباً من الحي ومرعى الغنم، رفعت لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي، وشددته ببعض أغصانها، وجلست في ظلها.
فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار في ناحية الحي، ثم رفعت لي شخوص ثلاثة، ثم نظرت فإذا بفارس يطرد مسحلاً وأتاناً، فتأملته، فإذا علي درع أصفر، وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام، حديث عهد بعرس، أعجلته لذة الصيد، فترك ثوبه، ولبس ثوب امرأته.
فما كان إلا يسيراً، حتى طعن المسحل، وثنى بطعنة للأتان، فصرعهما، وأقبل راجعاً نحوي، وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرّك لأمين على نابل
فقلت: إنك تعبت، وأتعبت فرسك، فلو نزلت.
فثنى رجله، فنزل، وشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة، وألقى رمحه، وأقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول أبي ذؤيب:
وإنّ حديثاً منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل
وقمت إلى فرسي، فأصلحت من أمره، ثم رجعت وقد حسر العمامة عن رأسه، وإذا غلام كأن وجهه الدينار المنقوش.
فقلت: سبحانك اللهم، ما أعظم قدرتك، وما أحسن صنعتك ؟ فقال لي: مم ذلك ؟ فقلت: لما راعني من جمالك، وما بهرني من نورك.
فقال: وما الذي يروعك من حبيس التراب، وأكيل الدواب ؟ وما يدري أينعم بعد ذلك، أم يبتئس.
قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً.
ثم تحدثنا ساعة، فأقبل علي، فقال: ما الذي سمطت في سرجك ؟ قلت: شراباً، أهداه إلي بعض أهلي، فهل لك فيه من أرب ؟ فقال: أنت وذاك.
فأتيت به، فشرب منه، وجعل - والله - ينكت بالسوط أحياناً على ثناياه، فيتبين لي أثر السوط فيهن.
فقلت: مهلاً، إنني أخاف أن تكسرهن.
فقال: ولم ؟ قلت: لأنهن رقاق عذاب.
قال: ثم رفع صوته يغني:
إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجرا
فإن زاد زاد اللّه في حسناته ... مثاقيل يمحو اللّه عنه بها الوزرا
قال: ثم قام إلى فرسه، فأصلح من أمره، ثم رجع، فبرقت له بارقة تحت الدرع، فإذا ثدي كأنه حق عاج.
فقلت: ناشدتك الله: أمرأة أنت ؟

فقالت: نعم والله، إلا أنها تكره العار، وتحب الغزل، ثم جلست، فجعلت تشرب معي، وما أفقد من أنسنا شيئاً، حتى نظرت إلى عينيها، كأنهما عينا مهاة مذعورة، فوالله، ما راعني إلا ميلها تحت الدوحة سكرى.
فزين الشيطان لي - والله - الغدر، وحسنه في عيني، ثم إن الله عز وجل عصمني منه، فجلست منها حجرة.
ثم انتبهت فزعة مذعورة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها، وقالت: جزاك الله عن الصحبة خيراً.
فقلت: ألا تزوديني منك زاداً ؟ فناولتني يدها، فقبلتها، فشممت - والله - منها ريح الشباب المطلول، فذكرت قول الشاعر:
كأنّها إذ تقضّى النوم وانتبهت ... سيّابة ما لها عين ولا أثر
فقلت: وأين الموعد ؟ فقالت: إن لي أخوة شوساً، وأباً غيوراً، ووالله، لأن أسرك، أحب إلي من أن أضرك، وانصرفت.
فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي - والله - يا ابن أبي ربيعة، أحلتني هذا المحل، وأبلغتني هذا المبلغ.
فقال: يا أبا المسهر، إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح، فبكى، واشتد بكاؤه.
فقلت: لا تبك، فما قلت لك ما قلت إلا مازحاً، ولو لم أبلغ حاجتك إلا بمالي وروحي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه.
فقال لي: جزيت خيراً.
فلما انقضى الموسم، شددت على ناقتي، وشد على ناقته، ودعوت غلامي فشد على بعير له، وحملت عليه قبة من أدم حمراء، كانت لأبي ربيعة المخزومي، وحملت معي ألف دينار، ومطرف خز، وانطلقنا، حتى أتينا بلاد كلب.
فسألنا عن أبي الجارية، فوجدناه في نادي قومه، وإذا هو سيد القوم، والناس حوله، فوقفت على القوم، وسلمت، فرد الشيخ السلام.
ثم قال: من الرجل ؟ قلت: عمر بن أبي ربيعة المخزومي.
فقال: المعروف غير المنكر، فما الذي جاء بك ؟ قلت: جئت خاطباً.
قال: الكفؤ والرغبة.
قلت: إني لم آت لنفسي من غير زهادة فيك، ولا جهالة بشرفك، ولكني أتيت في حاجة ابن أختكم هذا العذري.
فقال: والله، إنه لكفي الحسب، رفيع النسب، غير أن بناتي لم ينفقن إلا في هذا الحي من قريش، فوجمت لذلك.
وعرف التغير في وجهي، فقال: إني صانع بك ما لم أصنع بغيرك.
قلت: مثلي من شكر، فما ذاك ؟ قال: أخيرها، وهي وما اختارت.
قلت: ما انصفتني، إذ تختار لغيري، وتولي الخيار غيرك.
فأشار إلي العذري، أن دعه يخيرها، قال: فأرسل إليها: أن من الأمر كذا وكذا.
فأرسلت إليه: ما كنت أستبد براي دون القرشي، والخيار في قوله وحكمه.
فقال لي: إنها قد ولتك أمرها، فاقض ما أنت قاض.
فقلت: اشهدوا أني قد زوجتها من الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذه الألف دينار، وجعلت تكرمتها العبد، والبعير، والقبة، وكسوت الشيخ هذا المطرف، وسألته أن يبني الرجل عليها من ليلته.
فأرسل إلى أمها، فأبت، وقالت: أتخرج ابنتي كما تخرج الأمة ؟ قال الشيخ: فعجلي في جهازها.
فما برحت، حتى ضربت القبة في وسط الحريم، وأهديت إليه ليلاً، وبت أنا عند الشيخ.
فلما أصبحت، أتيت القبة، فصحت بصاحبي، فخرج إلي، وقد أثر السرور فيه.
فقلت: إيه.
فقال: أبدت - والله - كثيراً مما كانت تخفيه عني يوم لقيتها، فسألتها عن ذلك، فأنشأت تقول:
كتمت الهوى لمّا رأيتك جازعاً ... وقلت فتى بعض السرور يريد
وأن تطّرحني أو تقول فتيّةً ... يضرّ بها برح الهوى فتعود
فورّيت عمّا بي وفي داخل الحشا ... من الوجد برح فاعلمنّ شديد
فقلت: أقم على أهلك، بارك الله لك فيهم، وانطلقت، وأنا أقول:
كفيت الفتى العذريّ ما كان نابه ... وإنّي لأعباء النوائب حمّال
أما استحسنت منّي المكارم والعلى ... إذا طرحت أنّي لمالي بذّال
فقال العذري:
إذا ما أبو الخطاب خلّى مكانه ... فأفٍّ لدينا ليس من أهلها عمر
فلا حيّ فتيان الحجازين بعده ... ولا سقيت أرض الحجازين بالمطر
رضي أن يموت بعد أن يتمتع بحبيبته أسبوعاً واحداً

أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن جعفر البصري، المعروف بابن لنكك، في رسالة له، في فضل الورد على النرجس، فقال فيمن سمى بنته من سائر العرب وردة: فمنهم شرحبيل بن مسعود التنوخي، وعائد الطائي، وهي التي كان داود بن سعد التميمي عاشقاً لها، فاستقبل النعمان بن المنذر، في يوم بؤسه، وقد خرج يريدها، وهو لا يعلم بيوم النعمان.
فقال له: ما حملك على استقبالي في يوم بؤسي ؟ فقال: شدة الوجد، وقلة الصبر.
فقال: أو لست القائل ؟:
وددت وكاتب الحسنات أنّي ... أقارع نجم وردة بالقداح
على قتلي بأبيض مشرفيّ ... وكوني ليلة حتى الصباح
مع الحسناء وردة إنّ قلبي ... من الحبّ المبرّح غير صاح
فإن تكن القداح عليّ تلقى ... ذبحت على القداح بلا جناح
وإن كانت عليه بيمن جدّي ... لهوت بكاعب خود رباح
قال: نعم.
قال: فإني مخيرك إحدى اثنتين، فاختر لنفسك.
قال: ما هما أبيت اللعن ؟ قال: أخلي سبيلك، أو أمتعك سبعة أيام، ثم أقتلك.
قال: بما تمتعني ؟ قال: بوردة.
قال: قبلت الثاني.
فساق النعمان مهرها إلى عمها، وجمع بينهما، فلما انقضت الأيام، أقبل على النعمان، وهو يقول:
إليك ابن ماء المزن أقبلت بعدما ... مضت لي سبع من دخولي على أهلي
مجيء مقرٍّ لاصطناعك شاكرٍ ... مننت عليه بالكريم من الفعل
لتقضي فيه ما أردت قضاءه ... من العفو، أهل العفو، أو عاجل القتل
فإن كان عفوٌ كنت أفضل منعم ... وإن تكن الأخرى فمن حكمٍ عدل
فأحسن جائزته، وخلى سبيله، وأنشأ النعمان يقول:
لم ينل ما نال داو ... د بن سعد بن أنيس
إذ حوى من كان يهوى ... ونجا من كلّ بوس
وكذاك الطير يجري ... بسعود ونحوس
قال مؤلف هذا الكتاب: ووجدت كتاباً لأحمد بن أبي طاهر، سماه: كتاب فضائل الورد على النرجس، أكبر قدراً، وأغزر فائدة من كتاب ابن لنكك، فوجدته قد ذكر فيه هذا الخبر.
قال: وممن سمى ابنته وردة، شرحبيل بن مسعود التنوخي، وهو صاحب العين، على مسيرة يوم وليلة من تيماء اليمن.
وسليمان بن صرد، أمير الجيش الذي يقال لهم: التوابون، الذين تولوا الطلب بدم الحسين عليه السلام، وقتل عبيد الله بن زياد.
وسمى عائد الطائي بنته وردة، وهي التي كان داود بن سعد التميمي، عاشقاً لها .... وساق الخبر كما ذكره.

الورد

الورد: في اللغة، نور كل شجرة، وزهر كل نبتة، ثم اقتصر على الورد المعروف، وقد توصل الإنسان بفضل عنايته إلى إنتاجه على أشكال وألوان مختلفة، وبروائح عطرة متنوعة لسان العرب، المنجد.
وكانت عناية الإنسان بالورد، منذ أقدم الأزمان، واستعمله الأطباء دواءً، ووصفوه لكثير من الشكاة القانون في الطب لابن سينا 1 - 299 والجامع لمفردات الأدوية 4 - 189 و 190.
وذكر القاضي التنوخي، في نشوار المحاضرة 5 - 19 إنه أبصر ورداً أصفر، عد ورق الوردة منه، فكانت ألف ورقة، وإنه رأى ورداً أسود حالك اللون، وإنه رأى بالبصرة، وردة نصفها أحمر قاني الحمرة، ونصفها الآخر ناصع البياض.
وكان المتوكل يقول: أنا ملك السلاطين، والورد ملك الرياحين، فكل منا أولى بصاحبه، وحرم الورد على جميع الناس، واستبد به، وقال: إنه لا يصلح للعامة، فكان لا يرى الورد إلا في مجلسه، وكان في أيام الورد يلبس الثياب الموردة، ويفرش الفرش الموردة، ويورد جميع الآلات مطالع البدور 1 - 93 وأراد مرة أن يشرب على الورد، ولم يكن الموسم موسم ورد، فأمر، فضربت له دراهم خفيفة، مقدارها خمسة آلاف ألف درهم، ولونت بألوان الورد، ونثرت في مجلسه كما ينثر الورد، وشرب عليها الديارات 160.
وذكر التنوخي في نشوار المحاضرة، في القصة 1 - 163 إنه شاهد الوزير المهلبي اشترى في ثلاثة أيام متتابعة ورداً بألف دينار، فرشه في مجالسه، وطرحه في بركة أمامه، وشرب عليه، وذكر في القصة 1 - 164 أن أبا القاسم البريدي، شرب بالبصرة في يوم واحد على ورد بعشرين ألف درهم.

وأولم الوزير أبو الفضل الشيرازي، لمعز الدولة البويهي، وليمة في داره الكائنة على ملتقى نهري دجلة والصراة، موضعها الآن في رأس الجعيفر بالكرخ، فشد حبالاً مفتولة على وجه الماء بين الشاطئين، ثم نثر الورد بكميات غطت وجه النهر، ومنعته الحبال المعترضة من الانحدار، فاستقر في موضعه، راجع وصف الوليمة وما صرف عليها في كتاب الملح والنوادر للحصري 276 و 277.
وكان الورد يتخذ للتحيات في مجالس الشراب، بأن يقدم الساقي للنديم وردة، أو غصن آس، أو تفاحة، مما له منظر جميل، ورائحة عذبة، وقد أفرد صاحب الموشى باباً في الورد 204 - 206، وما قيل في تفضيله ومدحه من الأشعار، ثم قال: إن فضائل الورد أكثر من أن يحصى عددها، أو يبلغ أمدها، وأنه أفرد لذلك كتاباً، بوبه أبواباً، وترجمه بكتاب العقد، وشحنه بفضل الورد الموشى 206، كما ذكر أن بعض المتظرفين، كان يفضل الآس على الورد، لأن الورد موسمي، والآس دائم الخضرة، الموشى 205، قال ابن زيدون:
لا يكن عهدك ورداً ... إنّ عهدي لك آس
وأشهر أنواع الورود، الجوري، نسبة إلى جور، مدينة بفارس معجم البلدان 2 - 147 ومنه يستخرج ماء الورد.
وفي بغداد أغنية قديمة، ما زالت شائعة، تقول:
أحبّك، أحبّك ... وأحبّ كلّ من يحبّك
وأحبّ الورد جوري ... لأنّه بلون خدّك
لاحظ أن المتعارف أن يشبه خد المحبوب بالورد، أما شاعرنا العامي البغدادي، فقد عكس الوضع، وشبه الورد بوجنة المحبوب، فجاء نهاية في حسن التعبير.

إبراهيم بن سيابة يشكو فلا يجاب

أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن نصر المروزي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الطلحي، قال: حدثنا سليمان بن يحيى بن معاذ، قال: قدم على نيسابور إبراهيم بن سيابة، يعني الشاعر البصري، الذي كان جده حجاماً، فأعتقه بعض بني هاشم، فصار مولى لهم، فأنزلته علي، فجاءني ليلة من الليالي وهو مكروب، وقد هام، فجعل يصيح بي، يا أبا أيوب ؟ فخشيت أن يكون قد غشيته بلية، فقلت له: ما تشاء ؟ فقال:
أعياني الشادن الربيب
فقلت له: ماذا يقول ؟، فقال:
اشكو إليه فلا يجيب
فقلت: داره، وداوه، فقال:
من أين أبغي شفاء دائي ... وإنّما دائي الطبيب
فقلت: فلا، إذن، إلى أن يفرج الله تعالى، فقال:
يا ربّ فرّج إذن وعجّل ... فإنّك السامع المجيب
ثم انصرف.
عزل عن الرافقة فولي دمشققال محمد بن عبدوس، في كتاب أخبار الوزراء والكتاب، أخبرني جعفر ابن أحمد، قال: حدثني أبو العباس بن الفرات، قال: حدثني محمد بن علي بن يونس، قال: لما سلمت عمل دمشق إلى أبي المغيث الرافقي، سألني أن أكتب له عليه، ففعلت، فلما تآنست أنا وهو، حدثني أول خبره في تقلد الناحية.
فقال لي: كنت قصدت عيسى بن موسى، ابن عمي، وهو يتقلد حمص، فقلدني ربع فامية، فأقمت إلى أن قدم ابن عم له، وهو أقرب إليه مني، فصرفني، فانصرفت عنه إلى الرافقة، ومعي شيء مما كسبته.
وكانت لابنة عم لي، جارية نفيسة، قد ربتها، وعلمتها الغناء، وكنت أدعوها، فألفتها، ووقعت من قلبي موقعاً عظيماً، واشتد حبي لها، فعملت على أن أبيع منزلي وأبتاعها، وناظرت مولاتها في ذلك، فحلفت أنها لا تنقص ثمنها عن ثلاثة آلاف دينار.
فنظرت، فإذا أنا أفتقر، ولا تفي حالي بثمنها، فقامت قيامتي، واشتد وجدي، وانحدرت إلى سر من رأى، أطلب تصرفاً، أو ما به شراؤها.
وكان محمد بن إسحاق الطاهري، وأبوه، يرجيان لي، فقصدت محمداً، ومعي دواب، وبقية من حالي، فأقمت عليه مدة لم يسنح لي فيها تصرف، فاشتدت بي رقة الحال، فانحدرت إلى بغداد، أقصد إسحاق بن إبراهيم الطاهري، فوردت في زورق.
وفكرت في أمري، وعلى من أنزل، فلم أثق بغير محمد بن الفضل الجرجرائي، لمودة كانت بيني وبينه، فقصدته، ونزلت عليه، ووقع ذلك منه أجل موقع، وفاتشني عن أمري، وسألني عن حالي، فذكرت له قصتي مع الجارية.
فقال: والله، لا تبرح من مجلسك حتى تقبض ثمنها، وأمر خادمه، فأحضر كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار، وسلمت إلي، وتأبيت عليه، فحلف أيماناً مؤكدة أن أقبلها.

وقال: إن اتسعت لقضائه، واحتجت إليه، لم أمتنع من أخذه منك، فأخذت الكيس وشكرته، وتشاغلنا بالشرب.
فلما كان من الغد، أتى رسول إسحاق بن إبراهيم الطاهري يطلبني، فصرت إليه، فاحتفى به، وأكرمني، وقال: ما ظننت أنك توافي بلداً أحله، فتنزل غير داري.
فقلت: والله، ما وافيت إلا قاصداً الأمير، ولكن دوابي تأخرت، فتوقعت ورودها، لأصير إلى باب الأمير عليها.
فدعا بكتب وردت من محمد بن عبد الملك، وفيها كتاب من أمير المؤمنين المعتصم، بولايتي دمشق، وأراني كتاباً يعلمه فيه، ما جنى علي بن إسحاق من قتل رجاء بن أبي الضحاك بدمشق، وأن أمير المؤمنين رأى تقليدك، وطلبت بسر من رأى، فذكر له أنك انحدرت إلى إسحاق بن إبراهيم، فأمر بتسليم كتبك إلي، ودفع مائة ألف دينار لك معونة على خروجك، وأحضر المال، ووكل بي من يستحثني على البدار.
فورد علي من السرور ما أدهشني، وودعته، وخرجت إلى محمد بن الفضل، فعرفته ما جرى، وودعته أيضاً، وأخرجت دنانيره، فرددتها عليه، فحلف بأيمان غليظة عظيمة، لا عادت إلى ملكه أبداً.
وقال: إن جلست في عملك واتسعت، لم أمتنع أن أقبل منك غير هذا.
فشخصت، ومررت بالرافقة وابتعت الجارية، وبلغت مناي بملكها، واجتزت بحمص، بابن عمي، وأنا أجل منه عملاً، ودخلت عملي، فصنع الله سبحانه، ووسع.

أين اختبأ الأسدي

ووجدت في كتاب المتيمين للمدائني: أن رجلاً من بني أسد، علق أمرأة من همدان بالكوفة، وشاع أمرهما، فوضع قوم المرأة عليه عيوناً، حتى أخبروا أنه قد أتاها في منزلها، فأتوا دارها، واحتاطوا بها.
فلما رأت ذلك، ولم تجد للرجل مهرباً، وكانت المرأة بادنة، فقالت له: ما أرى لك موضعاً أستر لك من أن أدخلك خلف ظهري، وتلزمني، فأدخلته بينها وبين القميص، ولزمها من خلفها.
ودخل القوم، فداروا في الدار، حتى لم يتركوا موضعاً إلا فتشوه، فلما لم يجدوا الرجل، استحيوا من فعلهم، وأغلظت المرأة عليهم، وعنفتهم، فخرجوا. وأنشأ الرجل يقول:
فحبّك أشهاني وحبّك قادني ... لهمدان حتى أمسكوا بالمخنّق
فجاشت إليّ النفس أوّل مرّة ... فقلت لها لا تفرقي حين مفرقي
رويدك حتى تنظري عمّ تنجلي ... عماية هذا العارض المتألّق
جميل وبثينةذكر الهيثم بن عدي، أن جماعة من بني عذرة حدثوه: أن جميل بثينة حضر ذات ليلة عند خباء بثينة، حتى إذا صادف منها خلوة تنكر، ودنا منها، وكانت الليلة ظلماء، ذات غيم ورعد وريح.
فحذف بحصاة، فأصابت بعض أترابها، ففزعت، وقالت: ما حذفني في هذه الليلة إلا الجن.
ففطنت بثينة أن جميلاً فعل ذلك، فقالت لتربها: ألا فانصرفي يا أخية إلى منزلك حتى تنامي، فانصرفت، وبقيت مع بثينة أم الحسين - ويروى أم الجسير - بنت منظور، وكانت لا تكتمها.
فقامت إلى جميل، فأدخلته الخباء معها، وتحدثوا جميعاً، ثم اضطجعوا، وذهب به النوم حتى أصبحوا.
وجاءهم غلام زوجها بصبوح من اللبن، بعث به إليها، فرآها نائمة، ونظر جميلاً، فمضى لوجهه، حتى خبر سيده.
وكانت ليلى رأت الغلام والصبوح معه، وقد عرفت خبر جميل وبثينة، فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله، وطاولته الحديث، وبعثت بجارية لها، وقالت: حذري جميلاً وبثينة.
فجاءت الجارية ونبهتها، فلما تبينت بثينة أن الصبح قد أضاء، والناس قد انتشروا، ارتاعت لذلك.
وقالت: يا جميل نفسك، فقد جاء غلام بعلي بصبوح من اللبن، فرآنا نائمين.
فقال جميل، وهو غير مكترث:
لعمرك ما خوّفتني من مخافة ... عليّ ولا حذّرتني موضع الحذر
وأقسم ما تلفى لي اليوم غرّة ... وفي الكفّ منّي صارم قاطع ذكر
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد، وقالت: إنما أسألك خوفاً على نفسي من الفضيحة، لا خوفاً عليك، ففعل ذلك، ونامت، وأضجعت أم الحسين إلى جانبها، وذهبت خادم ليلى إليها، فأخبرتها الخبر، فتركت العبد يمضي إلى سيده، فمضى والصبوح معه، وقال له: إني رأيت بثينة مضطجعة، وجميل إلى جنبها.
فجاء زوجها إلى أخيها وأبيها، فعرفهما الخبر، وجاءوا بأجمعهم إلى بثينة، وهي نائمة، فكشفوا عنها الثوب، فرأوا أم الحسين إلى جانبها نائمة.

فخجل زوجها، وسب عبده، وقالت ليلى لأبيها وأخيها: قبحكما الله، في كل يوم تفضحان المرأة في فنائكما، ويلكما، هذا لا يجوز.
فقالا: إنما فعل هذا زوجها.
فقالت: قبحه الله وإياكما، فجعلا يسبان زوجها، وانصرفوا.
وأقام جميل تحت النضد إلى الليل، ثم ودعها وانصرف.

العمر أقصر مدة من أن يضيع في الحساب

حدثني الحسن بن صافي مولى ابن المتوكل القاضي، قال: حدثنا أبو القاسم علي بن أحمد الليثي الكاتب المعروف بابن كردويه، قال: كان لي صديق من أهل راذان، عظيم النعمة والضيعة، فحدثني، قال: تزوجت في شبابي امرأة من آل وهب، ضخمة النعمة، حسنة الخلقة والأدب، كثيرة المروءة، ذات جوار مغنيات، فعشقتها عشقاً مبرحاً، وتمكن لها من قلبي أمر عظيم، ومكث عيشي بها طيباً مدة طويلة.
ثم جرى بيني وبينها بعض ما يجري بين الناس، فغضبت علي، وهجرتني، وأغلقت باب حجرتها من الدار دوني، ومنعتني الدخول إليها، وراسلتني بأن أطلقها.
فترضيتها بكل ما يمكنني، فلم ترض، ووسطت بيننا أهلها من النساء، فلم ينجع.
فلحقني الكرب والغم، والقلق والجزع، حتى كاد يذهب بعقلي، وهي مقيمة على حالها.
فجئت إلى باب حجرتها، وجلست عنده مفترشاً التراب، ووضعت خدي على العتبة، أبكي وأنتحب، وأتلافاها، وأسألها الرضا، وأقول كلما يجوز أن يقال في مثل هذا، وهي لا تكلمني، ولا تفتح الباب، ولا تراسلني.
ثم جاء الليل، فتوسدت العتبة إلى أن أصبحت، وأقمت على ذلك ثلاثة أيام بلياليها، وهي مقيمة على الهجران.
فأيست منها، وعذلت نفسي، ووبختها، ورضتها على الصبر، وقمت من باب حجرتها، عاملاً على التشاغل عنها.
ومضيت إلى حمام داري، فأمطت عن جسدي الوسخ الذي كان لحقه، وجلست لأغير ثيابي وأتبخر.
فإذا بزوجتي قد خرجت إلي، وجواريها المغنيات حواليها، بآلاتهن يغنين، ومع بعضهن طبق فيه أوساط، وسنبوسج، وماء ورد، وما أشبه ذلك.
فحين رأيتها استطرت فرحاً، وقمت إليها، وأكببت على يديها ورجليها.
وقلت: ما هذا يا ستي ؟ فقالت: تعال، حتى نأكل ونشرب، ودع السؤال.
وجلست وقدم الطبق، فأكلنا جميعاً، ثم جيء بالشراب، واندفع الجواري بالغناء، وأخذنا في الشراب، وقد كاد عقلي يزول سروراً.
فلما توسطنا أمرنا، قلت لها: يا ستي، أنت هجرتيني بغير ذنب كبير أوجب ما بلغته من الهجران، وترضيتك بكل ما في المقدرة، فما رضيت، ثم تفضلت إبتداء بالرجوع إلى وصالي بما لم تبلغه آمالي، فعرفيني ما سبب هذا ؟ قالت: كان الأمر في سبب الهجر ضعيفاً كما قلت: ولكن تداخلني من التجني ما يتداخل المحبوب، ثم استمر بي اللجاج، وأراني الشيطان أن الصواب فيما فعلته، فأقمت على ما رأيت.
فلما كان الساعة، أخذت دفتراً كان بين يدي وتصفحته، فوقعت عيني منه على قول الشاعر:
العمر أقصر مدّة ... من أن يضيّع في الحساب
فتغنّمي ساعاته ... فمرورها مرّ السحاب
قالت: فعلمت أنها عظة لي، وأن سبيلي أن لا أسخط الله عز وجل بإسخاط زوجي، وأن لا أستعمل اللجاج، فأسوءك، وأسوء نفسي، فجئتك لأترضاك، وأرضيتك.
فانكببت على يديها ورجليها، وصفا ما كان بيننا.
/الباب الرابع عشر
ما اختير من ملح الأشعار

في أكثر ما تقدم من الأمثال والأخبار

قال لقيط بن زرارة التميمي:
قد عشت في الناس أطواراً على خلقٍ ... شتّى وقاسيت فيها اللّين والقطعا
كلاًّ لبست فلا النّعماء تبطرني ... ولا تخشّعت من لأوائها جزعا
لا يملأ الهول صدري قبل وقعته ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا
ما سدّ لي مطلعٌ ضاقت ثنيّته ... إلاّ وجدت وراء الضّيق متّسعا
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
وإنّي صبرت النّفس بعد ابن عنبسٍ ... وقد لجّ من ماء الشؤون لجوج
لأُحسب جلداً أو ليستاء حاسدٌ ... وللشرّ بعد القارعات فروج
ويروى لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
إنّي أقول لنفسي وهي ضيّقةٌ ... وقد أناخ عليها الدّهر بالعجب
صبراً على شدة الأيّام إنّ لها ... عقبى وما الصّبر إلاّ عند ذي الحسب

سيفتح اللّه عن قربٍ بنافعةٍ ... فيها لمثلك راحاتٌ من التّعب
ويروى لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل إنه لغيره:
خليليّ لا واللّه ما من ملحّةٍ ... تدوم على حيّ وإن هي جلّت
فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها ... ولا تكثر الشّكوى إذا النّعل زلّت
فكم من كريمٍ قد بلي بنوائبٍ ... فصابرها حتّى مضت وأضمحلّت
وكانت على الأيّام نفسي عزيزةٌ ... فلمّا رأت صبري على الذلّ ذلّت
وأنشد معاوية بن أبي سفيان متمثلاً:
فلا تيأسن واستغن باللّه إنّه ... إذا اللّه سنّى حلّ عقدٍ تيسّرا
ولأبي دهبل الجمحي من قصيدة:
وإنّي لمحجوبٌ غداة أزورها ... وكنت إذا ما جئتها لا أعرّج
عسى كربةً أمسيت فيها مقيمةً ... يكون لنا منها نجاءٌ ومخرج
فيكبت أعداءٌ ويجذل آلفٌ ... له كبدٌ من لوعة البين تلعج
ولحارثة بن بدر الغداني:
وقل للفؤاد إن نزا بك نزوةً ... من الهمّ أفرخ أكثر الروع باطله
ولتوبة بن الحمير العقيلي:
وقد تذهب الحاجات يطلبها الفتى ... شعاعاً وتخشى النفّس ما لا يضيرها
ولجرير بن الخطفى:
يعافي اللّه بعد بلاء جهدٍ ... وينهض بعدما يبلى السّقيم
ولزياد بن عمرو من بني الحارث بن كعب، وقيل لزياد بن عمرو الغداني وقيل لزيادة بن زيد العذري:
إذا مذهبٌ سدّت عليك فروجه ... فإنّك لاقٍ لا محالة مذهبا
ولا تجعلن كرب الخطوب إذا عرت ... عليك رتاجاً لا يزال مضبّبا
وكن رجلاً جلداً إذا ما تقلّبت ... به صيرفيّات الأمور تقلّبا
ولغيره، ولم يسم قائلاً:
نوائب الدهر أدّبتني ... وإنّما يوعظ اللبيب
قد ذقت حلواً وذقت مرّاً ... كذاك عيش الفتى ضروب
ما مرّ بؤسٌ ولا نعيمٌ ... إلاّ ولي فيهما نصيب
وقريب منه ما أنشدني أبي رحمه الله تعالى، عن ابن دريد، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه:
كأنّ قوماً إذا ما بدّلوا نعماً ... بنكبةٍ لم يكونوا قبلها نكبوا
ومثله، أو يقاربه لغيره، مفرد:
إنّ البطون إذا جاعت، متى شبعت ... كأنّما لم يقاس الجوع طاويها
وذكر أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة، لجابر بن تغلب الطائي:
كأنّ الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تموّلا
ولم يك في بؤسٍ إذا بات ليلة ... يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا
ولسعيد بن مضاء الأسدي وقيل إنه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
فما نوب الحوادث باقياتٌ ... ولا البؤسى تدوم ولا النعيم
كما يمضي سرورك وهو جمٌّ ... كذلك ما يسوءك لا يدوم
فلا تهلك على ما فات وجداً ... ولا تفردك بالأسف الهموم
وقريب منه لكثير عزة، في محمد بن الحنفية عليه السلام، لما حبسه ابن الزبير، من أبيات:
تحدّت من لاقيت أنّك عائذٌ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
وما رونق الدنيا بباقٍ لأهلها ... وما شدّة الدنيا بضربة لازم
لهذا وهذا مدّةٌ سوف تنقضي ... ويصبح ما لاقيته حلم حالم
ولبعض الأعراب، قريب منه:
كأنّك لم تعدم من الدهر لذّةً ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وللأضبط بن قريع التميمي من أبيات:
لكلّ ضيق من الأمور سعه ... والليّل والصبح لا بقاء معه
لا تحقرنّ الوضيع علّك أن ... تلقاه يوماً والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
قد يقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه
قد يرفع البيت غير ساكنه ... ويسكن البيت غير من رفعه
فارض من اللّه ما أتاك به ... من قرّ عيناً بعيشه نفعه
وصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه

قال مؤلف هذا الكتاب، ولي من هذا الروي، وقريب من هذا المعنى، أبيات وهي:
اصبر فليس الزمان مصطبراً ... وكلّ أحداثه فمنقشعه
كم من فقير غناه في شبعٍ ... قد نال خفضاً في عيشه ودعه
وكم جليلٍ جلّت مصائبه ... ثم تلافاه بعد من وضعه
فعاد بالعزّ آمناً جذلاً ... وعاد أعداؤه له خضعه
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب:
ربّ ريحٍ لأناس عصفت ... ثمّ ما إن لبثت أن ركدت
وكذاك الدهر في أفعاله ... قدمٌ زلّت وأخرى ثبتت
بالغٌ ما كان يرجو دونه ... ويدٌ عمّا استحقّت قصرت
وكذا الأيّام من عاداتها ... أنّها مفسدةٌ ما أصلحت
ثمّ تأتيك مقاديرٌ بها ... فترى مصلحةً ما أفسدت
وللحسين بن مطير الأسدي:
إذا يسّر اللّه الأمور تيسّرت ... ولانت قواها واستقاد عسيرها
فكم طامعٍ في حاجة لا ينالها ... وكم آيسٍ منها أتاه بشيرها
وكم خائفٍ صار المخيف ومقترٍ ... تموّل والأحداث يحلو مريرها
وقد تغدر الدنيا فيمسي غنيّها ... فقيراً ويغنى بعد عسرٍ فقيرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد انكدارٍ غديرها
ولمسكين الدارمي:
وإنّي لأرجو اللّه حتّى كأنّني ... أرى بجميل الظنّ ما اللّه صانع
وأنشدني محمد بن الحسن بن المظفر بن الحسين، قال: أنشدني الحسن ابن أبي الخضر، قال: أنشدنا ثعلب:
إلى اللّه كلّ الأمر في الخلق كلّه ... وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
إذا أنا لم أقبل من الدهر كلّما ... تكرّهت منه طال عتبي على الدهر
ووسّع صدري للأذى كثرة الأذى ... وقد كنت أحياناً يضيق به صدري
وصيّرني يأسي من الناس راجياً ... لحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري
وأخبرني أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رحمه الله على القضاء بها، قال: أخبرنا وكيع، محمد بن خلف القاضي، أن طلحة بن عبيد الله أخبره، قال: حدثني عبد الله بن شبيب، قال: أنشدني الثوري، وذكر البيتين الأولين، ثم بيتاً ثالثاً، وهو:
وعوّدت نفسي الصبر حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
ثم ذكر البيتين الآخرين على نحو ذلك.
وقال آخر:
إذا ضاق صدري بالأمور تفرّجت ... لعلمي بأنّ الأمر ليس إلى الخلق
وقال آخر:
يضيق صدري بغمّ عند حادثةٍ ... وربّما خير لي في الغمّ أحيانا
وربّ يوم يكون الغمّ أوّله ... وعند آخره روحاً وريحانا
ما ضقت ذرعاً بغمٍّ عند نائبةٍ ... إلاّ ولي فرجٌ قد حلّ أو حانا
وأنشدني محمد بن الحسن، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد، قال: أنشدنا ثعلب، عن الزبير:
لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحزّ على ما فاتني الودجا
وما لقيت من المكروه نازلةً ... إلاّ وثقت بأن ألقى لها فرجا
وأخبرني أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رحمه الله على القضاء بها، قال: أنشدنا أحمد بن عمر الحنفي، قال: أنشدنا الرياشي، قال: أنشدنا القحذمي، فذكر البيت الأول، ثم قال:
ولا تراني لما قد فات مكتئباً ... ولا تراني بما قد نلت مبتهجا
ثم ذكر البيت الثالث.
ولبعض الأعراب:
وقلّ وجه يضيق إلاّ ... ودونه مذهب فسيح
من روّح اللّه عنه هبّت ... من كلّ وجه إليه ريح
قرئ على أبي بكر الصولي، بالبصرة، في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، في كتابه: كتاب الوزراء، وأنا أسمع، حدثك الحسين بن محمد، قال: حدثني البيمارستاني، قال: أنشدت أبا العباس إبراهيم بن العباس الصولي، وهو في مجلسه بديوان الضياع:
ربّما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال
فنكت بقلمه، ثم قال:
ولربّ نازلةٍ يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند اللّه منها المخرج

ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنّها لا تفرج
أنشدني أحمد بن عبد الله الوراق، قال: أنشدنا أحمد بن القاسم بن نصر أخو أبي الليث الفرائضي، قال: أنشدنا دعبل بن علي الخزاعي، قصيدته: مدارس آيات خلت من تلاوة، فذكر القصيدة إلى آخرها وفيها ما يدخل في هذا الباب:
فلولا الذي أرجو في اليوم أو غدٍ ... تقطّع قلبي إثرهم حسرات
فيا نفس طيبي، ثم يا نفس أبشري ... فغير بعيدٍ كلّما هو آت
ولا تجزعي من دولة الجور إنّني ... كأنّي بها قد آذنت بشتات
عسى اللّه أن يرتاح للخلق إنّه ... إلى كلّ حيّ دائم اللّحظات
ولعلي بن الجهم من قصيدة:
غير الليالي بادياتٌ عوّد ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكلّ حالٍ معقبٌ ولربّما ... أجلى لك المكروه عمّا يحمد
لا يؤيسنّك من تفرّج كربةٍ ... خطبٌ رماك به الزمان الأنكد
صبراً فإنّ اليوم يتبعه غدٌ ... ويد الخليفة لا تطاولها يد
كم من عليلٍ قد تخطّاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد
ولغيره في مثله:
قد يصحّ المريض من بعد يأسٍ ... كان منه ويهلك العوّاد
ويصاد القطا فينجو سليماً ... بعد هلكٍ ويهلك الصيّاد
ولعبد الله بن المعتز من أبيات:
وكم نعمةٍ للّه في صرف نقمةٍ ... ومكروه أمر قد حلا بعد إمرار
وما كلّ ما تهوى النفوس بنافعٍ ... وما كلّ ما تخشى النفوس بضرّار
وله مفرد:
ولربّما انتفع الفتى بضرار من ... ينوي الضرار وضرّه من ينفع
وقريب منه:
ربّما خير للفتى ... وهو للخير كاره
وأتاه السرور من ... حيث تأتي المكاره
أنشدني أبو إسحاق محمد بن عبد الله بن محمد بن شهرام الكاتب وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن علي بن يحيى المنجم، وأخبراني أن فيه لحناً من الرمل:
فلا تيأسن من فرجةٍ أن تنالها ... لعلّ الذي ترجوه من حيث لا ترجو
وقال آخر:
أتى من حيث لا ترجوه صنعٌ ... وتأبى أن تهمّ به الظنون
وحيث تراك تيأس فارج خيراً ... فإنّ الغيب محتجبٌ مصون
فكن أرجى لأمر ليس ترجو ... من المرجوّ أقرب ما يكون
وقال آخر:
وإذا تصبك خصاصةٌ فأرج الغنى ... وإلى الذي يعطي الرغائب فأرغب
وأنشدني أبي رحمه الله لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
أراها تمخّض بالمعضلات ... فيا ليت شعري ما الزبده
ألا إنّ زبدتها فرجةٌ ... تحلّ العقال من العقده
ولأبي إسحاق إسماعيل بن القاسم الملقب بأبي العتاهية:
إنّما الدنيا هباتٌ ... وعوارٍ مستردّه
شدّةٌ بعد رخاءٍ ... ورخاءٌ بعد شدّه
وله أيضاً:
الناس في الدين والدنيا ذوو درجٍ ... والمال ما بين موقوفٍ ومختلج
من ضاق عنك فأرض اللّه واسعةٌ ... في كلّ وجه مضيقٍ وجه منفرج
قد يدرك الراقد الهادي برقدته ... وقد يخيب أخو الروحات والدلج
خير المذاهب في الحاجات أنجحها ... وأضيق الأمر أدناه من الفرج
ويروى له، والقافية كلها واحدة، وهذا هو الإيطاء، وأبو العتاهية يرتفع عنه، فإما أن يكون الشعر لغيره ممن جهل هذا العيب، أو له وجه لا أعلمه، وأوله:
يا صاحب الهمّ إنّ الهمّ منقطعٌ ... أبشر بذاك فإنّ الكافي اللّه
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسنّ كأن قد فرّج اللّه
اللّه حسبك ممّا عذت منه به ... وأين أمنع ممّن حسبه اللّه
هنّ البلايا، ولكن حسبنا اللّه ... واللّه حسبك، في كلٍّ لك اللّه
هوّن عليك، فإنّ الصانع اللّه ... والخير أجمع فيما يصنع اللّه
يا نفس صبراً على ما قدّر اللّه ... وسلّمي تسلمي، فالحاكم اللّه

يا ربّ مستصعب قد سهّل اللّه ... وربّ شرّ كثير قد وقى اللّه
إذا بكيت فثق باللّه وأرض به ... إنّ الذي يكشف البلوى هو اللّه
الحمد للّه شكراً لا شريك له ... ما أسرع الخير جدّاً إن يشا اللّه
ولمحمد بن حازم الباهلي، في مثل هذا:
طوبى لمن يتولّى اللّه خالقُهُ ... ومن إلى اللّه يلجأ يكفه اللّه
وربّ حاذر أمر يستكين له ... ينجو وخيرته ما قدّر اللّه
ومن دعا اللّه في اللأواء أنقذه ... وكلّ كرب شديد يكفه اللّه
وليحيى بن خالد بن برمك، من أبيات:
ألا يا بائعاً ديناً بدنيا ... غرورٍ لا يدوم لها نعيم
سينقطع التلذّذ عن أناس ... أداموه وتنقطع الهموم
وأنشدني أبي، القاضي أبو القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي رحمه الله، من قصيدة لسالم بن عمرو الخاسر:
إذا أذن اللّه في حاجة ... أتاك النجاح على رسله
وقرّب ما كان مستبعداً ... وردّ الغريب إلى أهله
فلا تسأل الناس من فضلهم ... ولكن سل اللّه من فضله
ووجدت بخط عمي القاضي أبي جعفر أحمد بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، مكتوباً:
إذا أذن اللّه في حاجة ... أتاك النجاح بها ويركض
وإن عاق من دونها عائق ... أتى دونها عارض يعرض
ولعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من أبيات:
لا تعجلنّ فربّما ... عجل الفتى فيما يضرّه
والعيش أحلى ما يعو ... د على حلاوته مُمرُّه
ولربّما كره الفتى ... أمراً عواقبه تسرّه
ولغيره:
كم مرّة حفّت بك المكاره ... خار لك اللّه وأنت كاره
ولغيره:
ربّ أمر تزهق النفس له ... جاءها من خلل اليأس الفرج
لا تكن من وجه روحٍ آيساً ... ربّما قد فرجت تلك الرتج
بينما المرء كئيبٌ موجعٌ ... جاءه اللّه بروحٍ فابتهج
ربّ أمر قد تضايقت له ... فأتاك اللّه منه بالفرج
وقال آخر:
إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت تذوب لهنّ المهج
وجلّ البلاء وقلّ العزاء ... فعند التناهي يكون الفرج
ولبعضهم مفرد:
البؤسُ يعقبه النعيم وربّما ... لاقيت ما ترجوه فيما ترغب
وأنشدني عبيد الله بن محمد بن الحسن العبقسي المعروف بالصوري، لنفسه:
إذا أذن اللّه في حاجة ... أتاك النجاح بغير احتباس
فيأتيك من حيث لا ترتجي ... مرادك بالنجع بعد الإياس
ولمحمد بن حازم الباهلي:
وارحل إذا أجدبت بلادٌ ... منها إلى الخصب والربيع
لعلّ دهراً غدا بنحسٍ ... بكرّ بالسعد في الرجوع
ووجدت في بعض الكتب منسوباً إلى أبي تمام الطائي:
وما من شدّة إلاّ سيأتي ... لها من بعد شدّتها رخاء
وأنشدني الأمير أبو الفضل جعفر بن المكتفي بالله، قال: أنشدني بعض أصحابنا - ولم يسم قائلاً - وأخبرني بعض الشعراء: أن البيت الأول لقيس بن الخطيم، ووجدته وحده في كتاب الأمثال السائرة منسوباً إلى قيس بن الخطيم:
وكلّ شديدة نزلت بقومٍ ... سيأتي بعد شدّتها رخاء
فإنّ الضغط قد يحوي وعاءً ... ويتركه إذا فرغ الوعاء
وما ملىء الإناء وسدّ إلاّ ... ليخرج منه ما امتلاً الإناء
وأنشدت:
متى تصفو لك الدّنيا بخيرٍ ... إذا لم ترض منها بالمزاح
ألم تر جوهر المصفّى ... ومخرجه من البحر الأجاج
وربّ مخيفةٍ فجأت بهولٍ ... جرت بمسرّةٍ لك وابتهاج
وربّ سلامةٍ بعد امتناعٍ ... وربّ إقامةٍ بعد اعوجاج
ولمحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي عيينة المهلبي، من أبيات، ومحمد هذا، هو والد أبي خالد يزيد بن محمد المهلبي، نديم المتوكل:
إنّي لرحّال إذا الهمّ برك ... رحب اللّبان عند ضيق المعترك

عسري على نفسي ويسري مشترك ... لا تهلك النفس على شيءٍ هلك
وليس في الهمّ لما فات درك ... ولم يدم شيءٌ على دور الفلك
ربّ زمانٍ ذلّه أرفق بك ... لا عار إن ضامك دهرٌ أو فتك
فقد يعود بالّذي تهواه لك ... كم قد رأينا سوقةً صار ملك
وقال آخر:
لكل غمّ فرجٌ عاجل ... يأتيك في المصبح والممسى
لا تتّهم ربّك فيما مضى ... وهوّن الأمر تطب نفسا
ولعبد الله بن المعتز:
سواء على الأيّام حفظٌ وإغفال ... وتارك سعيٍ واحتيالٌ ومحتال
ولا همّ إلاّ سوف يفتح قفله ... ولا حال إلاّ بعدها للفتى حال
وقال آخر:
جزعت كذا ذو الهمّ يجزع قلبه ... ألا ربّ يأسٍ جاء من بعده فرج
كأنّك بالمحبوب قد لاح نجمه ... وذو الهمّ من بين المضايق قد خرج
وأنشد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لا تكره المكروه عند نزوله ... إنّ المكاره لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقلّ بشكرها ... للّه في جنب المكاره كامنه
حدثنا علي بن أبي الطيب، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: أنشدني رجل من قريش:
ألم تر أنّ ربّك ليس تحصى ... أياديه الحديثة والقديمه
تسلّ عن الهموم فليس شيءٌ ... يقيم ولا همومك بالمقيمه
لعلّ اللّه ينظر بعد هذا ... إليك بنظرة منه رحيمه
وأنشدني محمد بن عبد الواحد بن الحسن بن طرخان، قال: أنشدني أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى المنجم، لنفسه من أبيت كتب بها إلى علي بن خلف بن طناب، فعملت فيه صوتاً:
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائباً بمزاره وكتابه ... هل يرتجى من غيبتك إياب
لولا التعلّل بالرجاء تقطّعت ... نفسٌ عليك شعارها الأوصاب
لا يأس من فرج الإله فربّما ... يصل القطوع ويقدم الغيّاب
ولآخر غيره:
فلا تيأس وإن أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
وقال آخر:
فلا تيأس وإن صحّت ... عزيمتهم على الدلج
فإنّ إلى غداة غدٍ ... سيأتي اللّه بالفرج
فتصبح عيسهم عرجاً ... وقد كانت بلا عرج
وقال آخر:
ربّما يطلع التفرّج في الكر ... بة كالبدر من خلال السحاب
وتزول الهموم في قدر الزرّ ... تفرّى عن عروة الجلباب
وقال آخر:
رميت بالهمّ لمّا أن رميت به ... ولم أُقم غرضاً للهمّ يرميني
ولست آيس من روح ومن فرجٍ ... ومن لطائف صنعٍ سوف تكفيني
وكلّ ما كان من دهري إليّ شوىً ... ما سلّم اللّه من أحداثه ديني
وقال آخر:
وكم من ضيقةٍ ركدت بغمّ ... فكان عقيبها فرج مفاجي
وأضيق ما يكون الأمر أدنى ... وأقرب ما يكون إلى انفراج
ولعلي بن جبلة:
عسى فرجٌ يكون عسى ... نعلّل نفسنا بعسى
فلا تقنط وإن لاقي ... ت همّاً يقبض النفسا
فأقرب ما يكون المر ... ء من فرج إذا بئسا
حدثني علي بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن، وذكر البيت الأول، والثالث، ولم يذكر الثاني، ولا سمى قائلاً.
وقال آخر:
لعمرك ما المكروه من حيث تتقي ... وتخشى ولا المحبوب من حيث تطمع
وأكثر خوف الناس ليس بكائنٍ ... فما درك الهمّ الذي ليس ينفع
وقال آخر:
رضيت باللّه إن أعطى شكرت وإن ... يمنع قنعت وكان الصبر من عددي
إن كان عندك رزق اليوم فاطّرحن ... حمل الهموم فعند اللّه رزق غد
ولأبي يوسف البنهيلي الكاتب، عم المفجع الشاعر، وهو من قرية من أعمال النهروانات، من قصيدة:
لا البؤس يبقى ولا النعيم ولا ... حلقة ضيقٍ، ستفرج الحلقه
صبراً على الدهر في تجوّره ... كم فتح الصبر مرّة غلقه
وقال آخر: =

ج4. كتاب : الفرج بعد الشدةج4.
المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

كان بسر من رأى، ثلاثة إخوة نصارى أنباريون، أحدهم موسر، ولم يسم، والثاني متجمل، يقال له عون، والثالث، يقال له سلمة، فقير، فآل أمر سلمة فيما يكابده من شدة الفقر، إلى أن تعذر عليه قوت يومه.

فمضى إلى أخيه عون، وسأله أن يتلطف إلى أخيه الموسر، في أن يشغله فيما يعود عليه نفعه، ويخدمه فيه، بدلاً من الغريب.
فامتنع الأخ الموسر من ذلك، وعاوده دفعات، واستعطفه، وضره يتزايد.
فقال الموسر، على سبيل الولع: إن شاء أن أصيره مكان الشاكري، وصبر على العدو، فعلت.
فعرض عون على سلمة ذلك، فقال سلمة: ما عرض أخونا علي هذا إلا لأمتنع، ويجعله حجة، وأنا أستجيب إليه وأصبر، وأرجع إلى الله تعالى، في كشف الحال التي أكون فيها معه، وأرجو الفرج ببغيه علي، ولا أضع نفسي بمسألة الناس، ففعل ذلك.
فكان أخوه يركب، وهو يمشي في أثره بطليسان ونعل، حتى لا يظهر أنه غلامه، وإذا نزل في موضع، لحقه، وأخذ ركابه، وتسلم المركوب، وحفظه إلى أن يخرج.
فلم يزل على هذا، إلى أن طلب وصيف الكبير، رفيق بغا، من يجلسه بباب داره، فيكتب ما يدخل إلى المطبخ، من الحيوان، والحوائج، ليقايس به ما يحتسب عليه.
فوصف عون، أخاه سلمة، لذلك، ووجه إليه فأحضره، فامتنع، وذكر أنه لا دربة له به، ولا فيه آلة له.
فضمن له عون معاونته، وإجمال الحساب في كل عشية، وأجري عليه رزق يسير.
وجلس بالباب، وصار يدعو بالحمالين، فيثبت ما يحضرونه، ويرفع في كل يوم مدرجاً بتفصيل ذلك.
فلما انقضى الشهر جمع وصيف المدارج، وأحضر كاتباً غريباً، وتقدم إليه أن يؤرجها على أصنافها.
وعمل كاتب ديوانه عملاً بما رفعه الوكلاء في ذلك الشهر، فظهرت فيه زيادة عظيمة، فحطت وتوفر مالها.
وحسن موقع ذلك من وصيف، وأحضر سلمة، وما كان رآه قبل ذلك، وصرف المتصرفين في المطبخ به، وأسنى جائزته.
فتوفر على يده في الشهر الثاني، مما كان حط من الأسعار، ما حسن موقعه.
فرد إليه قهرمة داره، فتتابعت التوفيرات، واتصلت جوائزه إياه، وزيادته في جاريه.
وطالت مدة خدمته لوصيف، وغلب على حاله، واتفق له خلوة المتوكل، وحضور وصيف.
فقال لوصيف: قد كثر ولدي، وأريد لهم شيخاً، عفيفاً، ثقة، ليس فيه بأو، ولا مخرقة، لأفرد لهم على يده إقطاعات أجعلها لهم، فلست أحب أن أوسط كتابي أمره.
فوقع في نفس وصيف، أن يصف سلمة، وبخل به، فلم يزل يتردد ذلك في قلبه.
ثم قال: إعلم يا مولاي، إن الله قد رزقني هذه الصفة التي تريدها مني، والرجل عندي، فإذا فكرت في حقوقك، وأن نعمتي منك، لم أستحسن أن أكتمك، وإذا فكرت فيما أفقده منه، توقفت، والآن، فقد أنطقني إقبالك بذكره، وهو سلمة بن سعيد النصراني.
فقال: أحضرنيه الساعة.
فأحضره في الوقت، فحين عاينه المتوكل وقع في نفسه صحة ما وصفه، فوقع لكل ابن بإقطاع ثلثمائة ألف درهم، ولكل ابنة بمائة وخمسين ألف درهم، وقيل أن المتوكل مات عن خمسين إبناً، وخمس وخمسين إبنة، ودفع إليه التوقيع.
وقال له: نجز هذا، واختر من الضياع ما ترى، وانصب لها ديواناً، ووصله، وجعل له منزلة كبيرة، بكتابة الولد.
فلما فرغ من ذلك، وقام به، جرى أمر آخر، أوجب أن رد إليه أيضاً أمر سائر الحرم، وجعل له قبض جراياتهن، وأرزاقهن، وإنفاق ذلك عليهن، وصرف وكلاءهن، وأسبابهن عنهن، وزادت منزلته بذلك لكثرة الحرم.
فبينما سلمة يتردد في دار المتوكل، إلى مقاصير الولد والحرم، وقعت عين المتوكل عليه، فاستدعاه.
وقال له: يا سلمة، ما أكثر ما يذهب على الملوك، حفظت بك ولدي، وحرمي، وأضعت نفسي، وليس لي منك عوض، قد رددت إليك بيت المال، وخزائن الفرش، والكسوة، والطيب، وسائر أمر الدار، فتسلم ذلك، واستخلف عليه من تثق به.
وكان قد أنكر عليه، في بعض خدمته، شيئاً فأمر باعتقاله، ففرشت له حجرة، وترك خلفاؤه يعملون.
ثم ذكره في الليل، وهو يشرب، فقال لخادم: امض إلى الحجرة التي فيها سلمة، فاطلع عليه، وعرفني الصورة التي تجده عليها.
فعاد وذكر أنه وجده يسود، ثم أعاده بعد وقت آخر، فوجده على ذلك، وأعاده الثالثة، فكانت الصورة واحدة.
فاستحضره، وقال: أنت شيخ كبير، تسود ليجود خطك في الآخرة، أو لتصل به في الدنيا إلى أكثر مما وصلت إليه ؟.

قال: لا هذا ولا هذا، ولكنك لما اعتقلتني، وأقررت أصحابي، وثقت بحسن رأيك، فلم أقطع التأهب لخدمتك، لأني أكاتبك كثيراً، فيما أستأمرك به، فأنا أحب أن لا تقع عينك على ما تستقبحه من الخط.
فحسن موقع هذا القول من المتوكل، وأمر بإحضار حقة، فيها خاتم الخاصة، فدفعه إليه.
وقال: هذا خاتمي، وقد رددت إليك ختم ما كنت أختمه بيدي، من غير أن تستأمرني فيه، ليعلم الخاص والعام، أني رفعت منك، وزدت في محلك، ولا يخلقك عندهم الاعتقال، ثم رآه المتوكل بعد ذلك، في وقت من الأوقات، ماشياً في الدار، فقال: سلمة شيخ كبير، هوذا يهرم ويتلف بهذا المشي، لأنه يريد أن يطوف في كل يوم، على الحرم والولد، وقد رأيت أن أجريه مجرى نفسي، في إطلاق الركوب له في داري.
وكان المتوكل يركب حماراً يتخطى به في الممرات، ويركب سلمة حماراً أيضاً، ولم يكن في الدار من يركب غيرهما.

الحرم

الحرم: النساء لرجل واحد، وحريم الرجل: ما يدافع عنه ويحميه، ولذلك سميت نساء الرجل: الحريم.
وكان حريم المتوكل يشتمل على أربعة آلاف سرية تاريخ الخلفاء 350 منهن خمسمائة لفراشه شذرات الذهب 2 - 114 وقد أهدى إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أربعمائة جارية، مرة واحدة، المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 63.
أما المعتصم، والد المتوكل، فإنه لما توفي سنة 227 كان من جملة ما ترك ثمانية آلاف جارية شذرات الذهب 2 - 63.
وأما المأمون، حكيم بني العباس، فقد كان حريمه يشتمل على مائتي جارية فقط المستطرف من أخبار الجواري 69.
أما الرشيد، فقد كان حريمه يشتمل على أكثر من ألفي جارية، سوى ما كان لزوجه زبيدة من الجواري ويزيد عددهن عن ألفي جارية أيضاً الأغاني 10 - 172 ونهاية الأرب 4 - 214 و 215 ونشوار المحاضرة رقم القصة 5 - 64.
وكان في دار المقتدر، أربعة آلاف امرأة، بين حرة ومملوكة رسوم دار الخلافة 8.
ولم يكن الإكثار من الجواري مقصوراً على الخلفاء وحدهم، وإنما تعدى ذلك إلى أتباعهم، والمترفين من الأمراء، والرعية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نورد أن عتابة، أم جعفر البرمكي، كانت تخدمها أربعمائة وصيفة وفيات الأعيان 1 - 341.
وأن عمر بن فرج الرخجي، أحد العمال الأشرار، كانت لديه مائة جارية الطبري 9 - 161.
وأن زوجة يعقوب بن الليث الصفار، كانت لديها ألف وسبعمائة جارية وفيات الأعيان 6 - 429.
وأن بلكين الصنهاجي، خليفة المعز الفاطمي على أفريقية ت 373 كانت لديه أربعمائة حظية وفيات 1 - 287.
وأن العزيز الفاطمي توفي سنة 386 عن عشرة آلاف جارية إتعاظ الحنفا 295.
وأن ست النصر، أخت الحاكم الفاطمي ت 415، تركت أربعة آلاف جارية بين بيضاء وسوداء ومولدة بدائع الزهور 1 - 58.
وأن نصر الدولة الحميدي، صاحب ميافارقين ت 453، كانت لديه ثلثمائة وستون جارية، بعدد أيام السنة وفيات الأعيان 1 - 177 والوافي بالوفيات 8 - 176.
وكان للمعتمد بن عباد اللخمي، صاحب أشبيلية ت 488 ثمانمائة سرية شذرات الذهب 3 - 386 ومرآة الجنان 3 - 147.
وكان لأبي زنبور، الوزير بمصر ت 314 سبعمائة جارية شذرات الذهب 6 - 173.
وكان عند الوزير يعقوب بن كلس، وزير العزيز الفاطمي ت 380 ثمانمائة حظية، سوى جواري الخدمة خطط المقريزي 2 - 8.
وكان في دار ابن نجية الواعظ ت 599 عشرون جارية للفراش، تساوي كل جارية ألف دينار الذيل على الروضتين 35 فأعجب لواعظ يرتبط لفراشه عشرين جارية.
ومات السلطان الناصر محمد بن قلاوون ت 741، عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهن من بقية الأجناس خطط المقريزي 2 - 212 وماتت زوجته الخونده طغاي سنة 749 عن ألف جارية خطط المقريزي 2 - 426، أما الخونده أردوتكين، زوجة الملك الأشرف خليل، وزوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون من بعده، ت 724، فقد كان لها من المماليك أكثر من ألف، ما بين جارية وخادم خطط المقريزي 2 - 63.
وكان مقبول خان وزير فيروز شاه ملك الهند 752 - 790 يملك ألفي جارية، من بينهن الرومية، والصينية، والفارسية الاسلام والدول الاسلامية في الهند ص22.
وفي مقابل من ذكرنا، نورد أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز لما استخلف، خير جواريه، وأعتق من رغبت في العتق، واقتصر على زوجته ابنة عمه، فاطمة بنت عبد الملك تاريخ الخلفاء 235.

أما أبو العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، فإنه تزوج أم سلمة المخزومية، قبل الخلافة، فلم يتزوج عليها، ولم يتسر، ولما استخلف ظل على وفائه لها، فلم يدن إلى امرأة غيرها، حرة ولا أمة، إلى أن مات راجع التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 2 - 206 - 208.
وكذلك كان المتقي، إبراهيم بن المقتدر ت 357، فإنه لما استخلف لم يتسر على جاريته التي كانت له تاريخ الخلفاء 394.
وتابعهم في ذلك ملك العرب سيف الدولة، صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ت 501، فإنه اكتفى بزوجة واحدة، لم يتزوج عليها، ولم يتسر المنتظم 9 - 159.
وكذلك كان المستعصم، آخر الخلفاء العباسيين ببغداد ت 656 فقد كانت له - وهو أمير - جاريتان، فلما استخلف لم يتغير عليهما خلاصة الذهب المسبوك 291.

الحمار

قسم صاحب معجم الحيوان، الحمير، إلى أربعة أنواع، حمار البيت، وحمار قبان، وحمار الزرد، والحمار العتابي معجم الحيوان 21، 98، 175، 265، 270 وفي دائرة المعارف الاسلامية 8 - 65 قسم الحمار إلى أهلي ووحشي، والأهلي إلى دابة ركوب، ودابة حمل، ووصف حمار الركوب، بأنه سريع العدو، يهتدي إلى الطريق، ولو سلكه مرة واحدة، وأنه حاد السمع، قليل المرض، وذكر أن العرب لا يركبون الحمير استنكافاً.
أقول: إن العرب في صدر الاسلام، لم يكونوا يستنكفون من ركوب الحمار، فإن النبي صلوات الله عليه كان يركب الحمار المخلاة للبهائي 292 والخليفة عمر بن الخطاب، وهو قدوة، ركب حماراً أرسنه بحبل أسود العقد الفريد 4 - 271 ولما قدم الشام، قدمها على حمار العقد الفريد 4 - 365 و 1 - 14 والبصائر والذخائر 4 - 30.
ثم تغير الحال، فأصبحت الخيل مركب الخلفاء، والأمراء، والأميرات، والوزراء، والقواد، وقد روى ياقوت في معجم الأدباء 5 - 485 و486 قصة عن جمال الدين بن القفطي ذكر فيها أن والده قدم مصر، لم تكن دوابه معه، فأبى أن يركب حماراً.
واستمر على ركوب الحمار، التجار البغداديون القصة 2 - 54 و3 - 56 من نشوار المحاضرة والشعراء ومتوسطو الحال نهاية الأرب 4 - 71 و10 - 99 و100 وفوات الوفيات 3 - 140 والفقهاء والقضاة القصة 3 - 40 من نشوار المحاضرة، وشذرات الذهب 2 - 220 وكذلك عقيلات النساء القصة 317 من هذا الكتاب.
وممن عرف بركوب الحمار خالد بن صفوان البصائر والذخائر م2 ق2 ص588 و589، وأبو عبيدة معمر بن المثنى مرآة الجنان 2 - 45، وابن جامع القرشي المغني الأغاني 6 - 291 ونهاية الأرب 4 - 306، وعيسى بن مسكين فقيه المغرب وقاضي القيروان مرآة الجنان 2 - 224، وأبو يزيد النكاري، الخارج بالمغرب على الفاطميين اتعاظ الحنفا ص70. وأبو العيناء محمد بن القاسم بن خلاد الملح والنوادر للحصري ص230.
ومن الطريف أن نذكر أن أبا القاسم الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر ت 105 كان مؤدباً، وكان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار ميزان الاعتدال 2 - 325.
وكان الخلفاء، يركبون الحمير، في أوقات التخفف، وفي بيوتهم، وفي بساتينهم، وخرج الوليد بن يزيد مرة على المغنين، وهو راكب على حمار الأغاني 13 - 278، وكان الهادي يركب حماراً فارهاً تاريخ الخلفاء 279، وخرج مرة ليعزي أحد أفراد حاشيته وهو على حمار أشهب الطبري 8 - 291، وزار عبد الله بن مالك، وهو على حمار الطبري 8 - 216، وكان الرشيد يركب حماراً مصرياً أسود اللون، قريباً من الأرض، يطوف به على جواريه المحاسن والأضداد 174 ومطالع البدور 1 - 238 ويخرج به لعيادة من يريد عيادته الأغاني 5 - 253 ونهاية الأرب 4 - 341 وزيارة من يزوره الأغاني 10 - 175، وانتبه مرة في نصف الليل، فقال: هاتوا حماري، وركبه، وخرج الأغاني 10 - 176، وعاد المعتصم ولده الواثق، ثم رجع راكباً حماراً الأغاني 8 - 251 و252 ونهاية الأرب 4 - 232 وكان يركب الحمار عند خروجه من داره متخففاً القصة 7 - 125 من نشوار المحاضرة، وكان العزيز الفاطمي يركب الحمار إتعاظ الحنفا 294، وكان الحاكم الفاطمي، يركب الحمار، ويدور في الأسواق شذرات الذهب 3 - 193 وخطط المقريزي 2 - 288 ومات الحطيئة الشاعر، وهو على حمار فوات الوفيات 1 - 279.
ومما يجدر ذكره أن الرشيد، لما أمر بقتل جعفر البرمكي، دخل عليه مسرور، وأخرجه إخراجاً عنيفاً، وقيده بقيد حمار، ثم ضرب عنقه الطبري 8 - 295.

وكان الحمار مركب المتحابين إذا خرجوا لموعد الأغاني 1 - 395 ومركب القهرمانات إذا بارحن القصور من أجل أشغال السادة القصة 478 من هذا الكتاب، ومركب المغنين والمغنيات والجواري القصة 479 من هذا الكتاب، ونهاية الأرب 5 - 31 و 110 ومركب رجال الدولة إذا خرجوا متنكرين القصة 471 من هذا الكتاب، والقصة 2 - 2 من نشوار المحاضرة.
وكان المتوكل يركب الحمار في داره كما في هذه القصة، وكان يصعد إلى أعلى منارة سامراء، وهو على حمار مريسي لطائف المعارف 161، أقول: هذه المنارة، ما زالت شامخة في لجو، يسميها الناس: الملوية، والطريق إلى أعلاها، يتلوى حولها، من خارجها.
ولما بنى المكتفي قصر التاج، بنى قبة على أساطين رخام، عرفت بقبة الحمار، لأنه كان يصعد إليها، في مدرج حولها، كمنارة جامع سامراء، على حمار صغير الجرم، وكانت عالية مثل نصف دائرة كتاب دليل خارطة بغداد ص126.
أقول: لما زرت بلاد الأندلس في السنة 1960، أبصرت في أشبيلية، من آثار المسلمين الباقية، مأذنة، يسمونها: الجيرالدا، ذات علو شاهق، يصعد إليها من باطنها، في طريق يتسع لستة أشخاص، يسيرون جنباً إلى جنب، وذكروا لنا أن المؤذن كان يصعد إلى أعلى هذه المأذنة، راكباً حماراً، ووجدت أهالي أشبيلية، يفتخرون بهذه المأذنة، ويقولون: إن من صعد إلى أعلى برج إيفل بباريس، أبصر باريس كلها، أما من صعد إلى أعلى الجيرالدا، فإنه يرى الدنيا كلها.
وكان الناس يغالون في حمير مصر، وهي موصوفة بحسن المنظر، وكرم المخبر لطائف المعارف 161 ونهاية الأرب 10 - 93، وأهل مصر يعنون بتربية الحمير، والقيام عليها، لما يجدونه فيها من الفراهة، وسرعة الحضر، والنجابة، ويبالغون في أثمانها، حتى بيع في بعض السنين، حمار، بمائة دينار وعشرة دنانير، وكان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة، فيركب، ويسوقه، فيلحقها بمصر، وبينهما ثلاثة أميال مطالع البدور 2 - 182.
وذكر ابن سعيد: أن المغاربة كانوا يأنفون من ركوب الحمار، خلافاً لأهالي مصر، فإن أعيان مصر، والفقهاء، والسادة، يركبون الحمير خطط المقريزي 1 - 341 ونفح الطيب 2 - 339 حتى إن ابنة الإخشيد محمد بن طغج، كانت تقطع الأزقة في القاهرة وهي على ظهر حمار خطط المقريزي 1 - 353.
أقول: لم تقتصر الأنفة من ركوب الحمار على المغاربة المسلمين، وإنما تعدتهم إلى إفرنج أسبانيا، فإن الملك الفونس، لما انكسر في السنة 591 في المعركة بينه وبين السلطان أبي يوسف الموحدي، حلق ألفونس رأسه، وركب حماراً، وأقسم لا يركب فرساً حتى ينتصر ابن الأثير 12 - 115، وكذلك صنع علاء الدين الغوري، في السنة 602، فإن أهالي غزنة نهبوا جميع ما كان لديه، فلما وصل إلى باميان، لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وأخربتها لا يلومني أحد ابن الأثير 12 - 220.
وذكر القزويني، في آثار البلاد 262: أن الحمر المريسية، نسبة إلى المريسة في ناحية الصعيد بمصر، من أجود حمر مصر، وأمشاها، وأحسنها صورة، وأكبرها، تحمل إلى سائر البلاد للتحف، وليس في شيء من البلاد مثلها، والبلاد الباردة لا توافقها، فتموت فيها سريعاً.
وخرج توقيع عبد الله بن طاهر: إذا وجدتم البرذون الطخاري، والبغل البرذعي، والحمار المصري، والرقيق السمرقندي، فاشتروها، ولا تستطلعوا رأينا فيها، لطائف المعارف 219.

وروى صاحب مطالع البدور 2 - 183 طريفتين عن الحمار، الأولى: ذكر إنه ركب حماراً، من مصر إلى القاهرة، فلما كان في أثناء الطريق، حاد به عن السكة، وجهد أن يرده، فلم يطق، حتى انتهى إلى جدار بستان، فوقف، وبال، وعاد إلى الطريق، وكذلك جرى له مع حمارين آخرين، والطريفة الثانية: إن حماراً كان بمصر، يجتمع عليه الناس، ويجمعون له مناديل، تلقى على ظهره، ثم يأمره صاحبه بإعادة كل منديل إلى صاحبه، فيدور في الحلقة، ولا يقف إلا على من له في ظهره منديل، فإن أخذه، ذهب عنه، وإن أخذ غيره، لا يذهب، ولو ضرب مائة ضربة، ويأخذ الخاتم من إصبع الرجل، ويسأله عن وزنه، فيقول: كم وزن الخاتم ؟ فإن كان وزنه درهماً، مشى خطوة واحدة، وإن كان درهماً ونصفاً، مشى خطوة ونصفاً، وهكذا، وبينما هو واقف، يقول له شخص: الوالي يسخر الحمير، فما يتم كلامه، إلا ويلقي الحمار نفسه على الأرض، وينفخ بطنه، ويقطع نفسه، كأنه ميت من زمان، فإذا قيل له، بعد ذلك، ما بقيت سخرة، ينهض قائماً.
وكان القاضي، أو الوالي، إذا أمر بإشهار شخص، داروا به على حمار المنتظم 8 - 294 و 10 - 237 ومهذب رحلة ابن بطوطة 2 - 147، ومن طريف ما يذكر أن شخصاً حجره القاضي للسفه، وأمر بإشهاره في البلد، ليمتنع الناس من التعامل معه، فحمل على على حمار، وداروا به في الأسواق، فلما انتهى النهار، طالبه المكاري بالأجر، فالتفت إليه، وقال له: في أي شيء كنا منذ الصباح ؟.
وكان الشماخ الشاعر، أوصف الناس للحمير، أنشد الوليد بن عبد الملك، شيئاً من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً الأغاني 9 - 161.
راجع في الملح للحصري ص283 قصة العاشق الذي حل محل الحمار في الطاحون.
وقيل لمزبد، وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب، إلا أنه ناقص الجسم، يحتاج إلى عصا، فقال: إني كنت أغتم، لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما العصا، فأمرها هين البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لمخنث عليل، كان يشرب لبن الأتان: كيف أصبحت ؟ قال: لا تسل عمن أصبح أخا الحمار البصائر والذخائر م2 ق1 ص29.
ومن مشهوري الحمير: يعفور، حمار النبي صلوات الله عليه، أهداه له المقوقس، صاحب مصر، ونفق منصرف النبي صلوات الله عليه من حجة الوداع الطبري 3 - 174.
ومن مشهوري الحمير: حمار بشار بن برد، وقد زعم بشار أن حماره هنا كان شاعراً غزلاً، وروى أبياتاً من شعره، راجع القصة في الأغاني 3 - 231 و232.
ومن مشهوري الحمير، الحمار الذي كان يركبه الحاكم الفاطمي، وكان يسميه: القمر النجوم الزاهرة 549.
ومن مشهوري الحمير: حمار الحكيم توما، الذي قال فيه الشاعر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاله مركّب
ومن مشهوري الحمير، حمار أبي الحسين الجزار، جمال الدين يحيى بن عبد العظيم، وهو من عائلة جزارين، تكسب بالشعر مدة، ثم عاد إلى الجزارة، واحتج لعدوله عن الشعر إلى الجزارة، بقوله:
لا تلمني يا سيّدي شرف الدي ... ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عش ... ت حفاظاً وأترك الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكان الجزار، كثير الشكوى من حماره، قال فيه:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كلّ خطو كبوة وعثار
قنطار تبنٍ في حشاه شعيرةٌ ... وشعيرةٌ في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر، داعبه شعراء عصره، بمراث وهزليات، فقال بعضهم:
قولوا ليحيى لا تكن جازعاً ... لا يرجع الذاهب بالليت
طامن أحشاءك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصوت
وكنت لا تنزل عن ظهره ... ولو من الحشّ إلى البيت
ما مات من داءٍ ولكنّه ... مات من الشوق إلى الموت
وقال آخر:
مات حمار الأديب، قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلّف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
فأجابه أبو الحسين قائلاً:
كم من جهولٍ رآني ... أمشي لأطلب رزقا
وقال لي: صرت تمشي ... وكلّ ماشٍ ملقّى

فقلت: مات حماري ... تعيش أنت وتبقى
ومات لابن عنين الدمشقي 549 - 630 حمار، بالموصل، فرثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه 140 - 142، منها؛
لا تبعدن تربةً ضمّت شمائله ... ولا عدا جانبيها العارض الهطل
قد كان إن سابقته الريح غادرها ... كأنّ أخمصها بالشوك ينتعل
لا عاجزاً عند حمل المثقلات ولا ... يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
وإنّ لي بنظام الدين تعزية ... عنه وفي النجب من أبنائه بدل
وقرأت في كتاب من تأليف أديب مغربي، أن مغربياً باع حماره من آخر، وشرط عليه المشتري، أن يسلمه الحمار في حلته، وخرجا إليها معاً، ولما دخلا بين البيوت، أبصر البائع حماراً أدبر، قد أهمله أصحابه، فالتفت إلى صاحبه، وقال: أهكذا يعامل الحيوان الأعجم ؟ أنتم قوم سوء، وأعاد إلى المشتري ماله، وكر عائداً بالحمار.
وعرض محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، حماراً، فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي ؟ فقال: لو رضيته لما بعته نشوار المحاضرة، القصة 4 - 61.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع راجع نهاية الأرب 10 - 93 - 102 والغيث المسجم في شرح لامية العجم 2 - 137 و138، وكتاب الحيوان للجاحظ.
أقول: أدركت الناس ببغداد، قبل انتشار استعمال السيارات، يركب الوجهاء منهم، الحمير، ويختارونها بيضاء، عالية، ويسمونها: الحساوية، لأنها تجلب من الأحساء، وكانوا يتأنقون في اختيار الجل، ويسمونه: المعرقة تلفظ القاف كافاً فارسية.
وقد وصف حمير بغداد البيض، سائح أمريكي اسمه بيري فوك، مر ببغداد في السنة 1872، في عهد الوالي محمد رديف باشا، الذي خلف مدحت باشا، فقال: إن الحمير البيض في بغداد مشهورة في أنحاء الشرق، وأثمانها عالية، وقسم منها كبير الحجم، وتزين بصبغها بالحناء، فتبدو آذانها وأذنابها حمراء اللون، وأبدانها منقطة بالحناء، وهي ما زالت - كما كانت في قديم الزمان - مركب رجال الدين وكبار الحكام، كما أن السيدات يفضلنها على بقية الدواب، وهم يشرحون منخر الحمار، ويشقونه شقاً مستطيلاً، ويقولون إن هذا الشق يجعل الحمار أطول نفساً، ولكني كلما سمعت حماراً ينهق، أيقنت أنه لا ضرورة لهذا التصرف، ولا محل له كتاب عربستان أو بلاد ألف ليلة وليلة.
والبغداديون يسمون الحمار: زمال، من الزمل بكسر الزاي وميم ساكنة أي الحمل، ويقال: زمل بفتح، أي حمل، والزاملة، مؤنث الزامل: الدابة من الإبل وغيرها يحمل عليها المنجد، قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر: كانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمالة أبي بكر، واحدة، أي مركوبهما لسان العرب، راجع ما كتبه الدكتور سليم النعيمي في مجلة المجمع العلمي العراقي م25 ص25 و26.
وكانت زمالة الزهاوي الشاعر جميل صدقي الزهاوي ت 1936 مضرب المثل في جمال الهيئة والنظافة، وكانت بيضاء، عالية الظهر، حساوية، وكان الزهاوي يعنى عناية فائقة، بعلفها، ونظافتها، وكان - رحمه الله - مصاباً بارتخاء في عضلات ساقيه لا يمكنه من المشي إلا بمعونة، فكان يركبها في روحاته وغدواته.
وللبغداديين أمثال تتعلق بالحمار، أذكر منها ثلاثة: أولها: مثل يضرب لمن يكد ليله ونهاره، من دون راحة، فيقولون: مثل زمال الطمة، يروح محملاً، ويعود محملاً، والطمة: فصيحة، ما طم من الجمر في الرماد، ويطلق البغداديون هذه الكلمة على موقد الحمام، وكان يوقد فيه النفايات والقمامة، وكل ما يحترق، فكان زمال الطمة يروح إليها حاملاً الوقود، ويعود منها حاملاً الرماد المتخلف.
وثانيها: مثل يضرب لمن ورط نفسه في ورطة يصعب التخلص منها، فيقولون: تعال طلع هذا الزمال من هذي الوحلة.
وثالثها: مثل يضرب لمن يتحايل بحيلة مكشوفة، فيقولون: إحنا دافنيه سوا، وأصل المثل: إن بغداديين تعطلا، وحاولا أن يجدا عملاً، فلم يوفقا، ثم وجدا حماراً نافقاً، فأخذاه، ودفناه، ووضعا على قبره شاهداً، وأدعيا إنه قبر ولي من أولياء الله، وأصبح أحدهما سادناً للقبر، والثاني واعظاً وإماماً للجماعة فيه، وظلاً على ذلك حيناً، ثم أحس أحدهما أن صاحبه يغتال قسماً من الواردات، ويستأثر بها، فخاصمه، فبادر صاحبه وضرب بيده على القبر، يحلف على براءته من التهمة، فصاح به صاحبه: ويحك، إحنا دافنيه سوا.

وللبغداديين نوادر، فيها ذكر للحمار، يتندرون بها، أذكر منها نادرتين: الأولى: نادرة يتندر بها البغداديون على أهل الموصل، والمعروف عن أهل الموصل تعصبهم لبعضهم، بحيث لا يتسنى للغريب أن يجد فيها رزقاً، وخلاصتها: أن سقاءً بغدادياً هاجر إلى الموصل، واستقر فيها، وأراد أن يمارس فيها مهنته، فاشترى حماراً وقربة، وباشر بحمل الماء من النهر إلى المدينة، وفي اليوم الأول لم يتعامل معه أحد، وكذلك في اليوم الثاني، وجاع السقاء، وجاع حماره، فأخذه في اليوم الثالث، وذهب إلى سوق المدينة، وقال: يا جماعة، إن حرمانكم إياي من الرزق أمر مفهوم، لأني بغدادي، ولكن هذا الحمار موصلي، وهو يكاد يموت جوعاً، فإن لم ترفقوا بي، فارفقوا به.
والثانية: نادرة يتندر بها البغداديون على أحد القضاة، وخلاصتها: أن اثنين اختصما على حمار، كل واحد منهما يدعي ملكيته، وتداعيا عند القاضي، وقدم المدعي للقاضي عشرة مجيديات رشوة، وبلغ المدعى عليه ما صنعه خصمه، فذهب إلى القاضي وأعطاه عشرة مجيديات أيضاً، ونظر القاضي في الدعوى، وأراد أن يرضي الطرفين، فحكم بأن يباع الحمار ويقسم ثمنه بين المتداعيين، وبيع الحمار بعشرين مجيدياً، وتسلم كل واحد من المتداعيين عشرة مجيديات، فتوجها إلى القاضي، وقالا له: يا أفندينا، تبين أن الحمار لا يعود لواحد منا، وإنما يعود لك، لأنك استوفيت ثمنه كاملاً.
ودخل أحمد بن محمد القزويني إلى سوق النخاسين في الكوفة، وطلب حماراً، لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم براكبه السواري، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، فقال النخاس: أصبر حتى يمسخ القاضي حماراً، وأشتريه لك، أخبار الحمقى والمغفلين ص126.
ونهيق الحمير، يسمى: الزر البصائر والذخائر 4 - 297، راجع أخلاق الوزيرين 149 وفي بغداد، يلفظونها: زعر، وإذا صيح بها أمام الحمار، نهق.
وذكر الجبرتي في تاريخه 2 - 539 و3 - 155 أن العسكر العثماني، بالقاهرة، باشروا في السنة 1217 بخطف حمير الناس من أولاد البلد، فأخفى الناس حميرهم، فكان الجماعة من العسكر ينصتون بآذانهم على أبواب الدور، ويقف بعضهم على الدار، ويقول زر، ويكررها، فينهق الحمار، فيؤخذ.
وكان إبراهيم بن الخصيب المديني، أحمق، وكان له حمار أعجف، وكان إذا علق الناس المخالي بالعشي، أخذ مخلاة حماره، وقرأ عليها " قل هو اللّه أحد " ، وعلقها عليه فارغة، وقال: لعن الله من يرى كيلجة شعيرة، أنفع من " قل هو اللّه أحد " ، فما زال هكذا حتى نفق الحمار، فقال: إن " قل هو اللّه أحد " ، تقتل الحمير، فهي للناس أقتل، لا قرأتها ما عشت البصائر والذخائر أمير المؤمنين 4 - 118 و119، وراجع كتاب أدب الغرباء للأصبهاني 46.
ومما يروى عن السيد عبد الحسين الغريفي، من علماء البحرين، وكان فقيهاً من العلماء الأتقياء، أنه هجم عليه يوماً، وهو في حلقة درسه، معيدي، أوسعه إزعاجاً، وألح عليه أن يستخير له، فإنه بصدد عمل يريد أن يقوم به، فعمد السيد إلى كتاب الله، وفتحه، ثم التفت إليه وقال: أنت تريد أن تشتري حماراً، فقال له: إي والله يا سيدنا، فقال له: امض فاشتره، ولما بارح المعيدي المكان، سأله تلامذته: كيف عرف مراد المعيدي ؟ فقال له: استفتحت له، فظهرت الآية: سنشد عضدك بأخيك.
أقول: أنا في شك من صحة هذه الحكاية، لأن السيد عبد الحسين، وهو من الفقهاء الزهاد، أتقى لله من أن يتخذ من آيات القرآن مورداً للتملح.
وقال عبد القاهر الجرجاني ت 471 شذرات الذهب 3 - 341:
تكبّر على العقل لا ترضه ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حماراً تعش سعيداً ... فالسعد في طالع البهائم
وصديقنا المصور أرشاك ببغداد، يخالف الناس في وصف الحمار بالبلادة، وهو يقول: إن الحمار عاقل حكيم، وإن النظرة التي نراها في عينه ونحسب أنها نظرة بلادة، إنما هي نظرة استهانة بنا ولا مبالاة، وكأنه يقول لنا: أنتم تقولون عني أني حمار، وفي الحقيقة، إنكم أنتم الحمير.
للتوسع في البحث، راجع الطبري 5 - 522 و6 - 40 - 42 و7 - 52 و240 و555 و8 - 122 و194 و8 - 300 - 302 و10 - 8، والولاة للكندي 469 و471، والأغاني 12 - 157 و18 - 303 و347 و20 - 69 و22 - 182، والعقد الفريد 6 - 442، والأغاني ط بولاق 20 - 31.

ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان

وجدت في بعض الكتب: أن عبد الله المعروف بابن الطبري النصراني الكاتب، قدم سر من رأى يلتمس التصرف، فلزم الدواوين مدة، إلى أن نفدت نفقته، وانقطعت حيلته، ولم يبق إلا ما عليه من كسوته، فعدم القوت ثلاثة أيام بلياليها، وهو صابر خوفاً من أن يبيع ما عليه، فيتعطل عن الحركة، فلما كان في اليوم الرابع عمل على بيع ما عليه ليأكل ببعضه، وليشتري بالبعض الآخر تاسومة، ومرقعة، وركوة، ويخرج في زي فيج إلى بلد آخر، لأنه بقي ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً.
ثم شرهت نفسه إلى الرجوع إلى الديوان، مؤملاً فرجاً يستغني به عن هذا، من تصرف أو غيره.
فمشى يريد الديوان، وهو مغموم مفكر، إذ سمع صوت حافر من ورائه، وقوم يصيحون: الطريق، الطريق.
فلشدة ما به، غفل عن التنحي عن الطريق، فكبسه شهري كان راكبه المؤيد بالله بن المتوكل على الله، وهو إذ ذاك أحد أولياء العهود، فداسه، وسقط على وجهه.
فصعب ذلك على المؤيد، ولم يكن يعرفه، فاغتم أن يجرى منه على إنسان مثل ذلك، فأمر أن يحمل إلى داره، ففعل ذلك، وأفردت له حجرة، ومن يخدمه، وعولج بالدواء، والطعام، والشراب، والطيب، والفرش، حتى برئ بعد أيام، فأنفذ إليه ألفي درهم، وسأله إحلاله مما جرى عليه.
فقال: لا أقبلها، أو تقع عيني على المؤيد، فأشافهه بالدعاء.
فأوصل إليه، فشكره، ودعا له، وقص عليه قصته، وسأله استخدامه.
فخف على قلب المؤيد، واستكتبه، وأمر أن يصرف في داره، وفي دار والدته إسحاق، جارية المتوكل، فتصرف فيها مدة، وصلحت حاله.
وكان الموفق، أخو المؤيد من أمه، قد رأى ابن الطبري، فاجتذبه إلى خدمته، ونفق عليه، وانتهى أمره معه إلى أن جعل إليه تربية المعتضد، وأكسبه الأموال الجليلة.
أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصروجدت في بعض الكتب: حدث أبو الطيب بن الجنيد، الذي كان صاحباً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيرزاد، وكان قبل ذلك جاراً لأبيه أبي القاسم قال: كان أبو بكر محمد بن طغج بن جف ينزل قديماً بالقرب من منازلنا ببغداد، بقصر فرج، وكان رقيق الحال، ضعيفاً جداً.
وكان له على باب دويرته دكان يجلس عليها دائماً، ودابته مشدودة إلى جانبها، وهو يراعيها بالعلف والماء بنفسه.
وكان له رزق سلطاني يسير، يتأخر عنه أبداً، فلا يقبضه إلا في الأحايين.
وكان شديد الاختلال، ظاهر الفقر، وكان له عدة بنات لا ذكر فيهن.
وكان يجتاز به أبو القاسم يحيى بن زكريا بن شيرزاد، أو أحد أبنيه، أبو الحسن، وأبو جعفر، فيقوم قائماً، ويظهر التعبد لهما، ولا يزال واقفاً إلى أن يبعدا عنه.
وكنت ربما جلست إليه، فيأنس بي ويحدثني، ويشكو بثه، وما يقاسيه من كثرة العائلة، وضيق الحال.
ويقول: ليت كان لي فيما رزقته من الولد، ذكر واحد، فكنت أتعزى به قليلاً، ويخف بالرجاء له، والسرور به، بعض كربي وهمي بهؤلاء البنات.
قال أبو الطيب: وضرب الدهر من ضربه، وتقلب من تقلبه، وطال العهد بابن طغج، وخرج في جملة تجريد جرد إلى الشام، وأنسيناه، وترجمت به الظنون، وترامت به الأحوال، حتى بلغ أن يقلد مصر وأعمالها، وكان من علو شأنه، وارتفاع ملكه، وحصول الأمر له، ولولده من بعده، ما كان، مما هو مشهور.
وكان قد طرأ إلى تلك الناحية أحد التجار الواسعي الأحوال، من جوارنا، ممن كان يعرف ابن طغج على تلك الأحوال الأول، فلما كان بعد سنين، عاد الرجل إلى الحضرة، فحدثنا بعظم أمر ابن طغج، واتساع ملكه.
وقال: رأيته غير الرجل الذي كنا نعرفه، مكانة، ورجاحة، وحين رآني، قربني، وأكرمني، وما زال مستبشراً بي، يحادثني، وأحادثه، ويسألني عن واحد واحد، من بني شيرزاد، وغيرهم من الجيران، وأنا أخبره.
حتى قال في بعض قوله: الحمد لله الذي بيده الأمور، ما شاء فعل، يا فلان، ألست ذاكراً ما كنت فيه ببغداد، من تلك الأحوال الخسيسة وما كنت ألاقي من الشدة، والفقر، والفاقة، والغرض بالعيش، والهم بأولئك البنات ؟.
قلت: نعم يا سيدي.
قال: والله لقد كنت أتمنى وأسأل الله أن يرزقني ابناً، فكلما اجتهدت في ذلك جاءتني ابنة، حتى تكاملن في بيتي عشراً.

وكنت أتمنى منذ سن الحداثة أن أرزق دابة أبلق، واستشعر أني إذا ركبت ذلك، فقد حصلت لي كل فائدة ونعمة، لشدة شهوتي لها، فما سهل الله لي ما طلبته من هذا الباب أيضاً شيئاً.
وتكهلت، وعلت سني، وأنا على تلك الأحوال.
وضرب الدهر ضربه، وخرجت من بغداد، فابتدأ الإقبال يأتي، والإدبار ينصرف.
وكان الله تعالى يرزقني في كل سنة ابناً، ويقبض عني ابنة، حتى مات البنات كلهن، ونشأ لي هؤلاء البنون، وأومأ إلى أحداث بين يديه كأنهم الطواويس حسناً وجمالاً.
ثم قال: وملكت من الخيل العتاق، والبراذين، والبغال، والحمير البلق، ما لم يملك أحد مثله، ولا اجتمع لأحد ما يقاربه، وأكثر من أن يحصى، وصار لغلمان غلماني، الكراع الكثير، فقم بنا حتى ندخل الاصطبلات، فتشاهدها، وتعجب.
فأخذ بيدي، ومشينا حتى دخلنا إلى إصطبل البلق، فما أشك، أنا عددنا من صنوف الدواب البلق أكثر من خمسمائة رأس، ثم ضجرنا، وما زلنا نجتاز في الاصطبل، سنة، سنة.
فيقول: هذا اصطبل الفلانيات، وهو يسأل صاحب كراعه، كم في هذا ؟.
فيقول: في هذا خمسمائة، وفي هذا أربعمائة، ونحو ذلك.
ثم عدنا إلى المجلس، وقد أبهجني ما رأيت، وهو يحمد الله على تفضله وإحسانه، ولازمته، وما فارقت داره حتى قضيت حوائجي، ونفعني، وأحسن إلي، وما قصر، وعدت إلى الشام مكرماً.

غريب الدار ليس له صديق

ذكر عن رجل كان بالبصرة، أنه كان ذا يسار، وتغيرت حاله، فخرج عن البصرة، ثم عاد إليها وقد أثرى، فجعل يحدث بألوان لقيها إلى أن قال: تغيرت حالي، إلى أن دخلت بغداد، غريباً، سليباً، لا أهتدي إلى مذهب ولا حيلة.
قال: فجعلت أسأل: أين السوق، أين الطريق، إلى أن ضجرت، فقلت وأنا مكروب:
غريب الدّار ليس له صديق ... جميع سؤاله أين الطريق
تعلّق بالسؤال بكلّ صقع ... كما يتعلّق الرّجل الغريق
وجعلت أردد ذلك وأمشي، وإذا برجل مشرف من منظر، فقال لي:
ترفّق يا غريب فكلّ عبد ... تطيف بحاله سعةٌ وضيق
وكلّ مصيبة تأتي ستمضي ... وإنّ الصّبر مسلكه وثيق
فخف ما بي، ورفعت رأسي إليه، وسألته عن خبره.
فقال: اصعد إلي أحدثك، فصعدت إليه.
فقال: وردت هذا البلد، وأنا غريب، فتحيرت - والله - كتحيرك، إلى أن مررت بهذه الغرفة، فأشرف علي رجل كان فيها، لا أعرفه، فقال لي: اصعد.
فصعدت، فأسكننيها، ثم تقلبت بي الأحوال، فابتعت الدار، وأثريت، وأنا أتبرك بها، وأجلس فيها كثيراً، فلعلها أن تكون مباركة عليك أيضاً، فإن لي فيما سواها من الدور، مساكن تجذبني.
ففعلت، وأقبلت أحوالي، واحتجت إلى الاتساع، فانتقلت عنها،
عبد الله بن مالك الخزاعي يتسلم كتاباً من الرشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي
وجدت في بعض الكتب: أن البرامكة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي، بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، فكانوا يغرونه به، حتى قالوا له: لا بد من نكبته.
فقال: ما كنت لأفعل هذا، ولكن أبعده عنكم.
فقالوا: ينفى.
فقال: لا، ولكن أوليه ولاية دون قدره، وأخرجه إليها.
فرضوا بذلك، فكتبوا له على حران والرها فقط، وأمروه بالخروج، عن الخليفة.
قال عبد الله: فودعتهم واحداً، واحداً، حتى صرت إلى جعفر لأودعه.
فقال لي: ما على الأرض عربي أنبل منك يا أبا العباس، يغضب عليك الخليفة، فيوليك حران والرها ؟.
فقلت: فما ذنبي حتى غضب علي، وأي شيء جرى مني حتى أوجب الذي أن يفعل بي هذا ؟.
قال جزاؤك أن: يضرب وسطك، وتصلب نصفاً في جانب، ونصفاً في جانب.
فقلت: العجب مني حيث صرت إليك، ونهضت، وخرجت.
وقطعت طريقي بالهم، والغم، مما دفعت إليه، وأني لا آمنهم، مع غيبتي، على السعاية علي.
فبينما أنا في عشية يوم، على باب الدار التي نزلتها، جالساً على كرسي، إذ أقبل إلي مولى لي، فقال لي سراً: قد قتل جعفر بن يحيى البرمكي.
فتوهمت أنه هو أمره بذلك ليجد علي حجة ينكبني بها، فبطحته، وضربته ثلثمائة مقرعة، وحبسته، وبت بليلة طويلة على السطح في داري.
فلما كان في السحر، إذا صوت حلق البريد، فارتعت، ونزلت عن السطح.
وقلت في نفسي: إن هجم علي صاحب البريد فهي بلية، وإن ترجل لي ففرج.

فلما بصر بي صاحب البريد ترجل لي، فطابت نفسي، ودفع إلي كتاباً من الرشيد، يخبرني فيه بقتله جعفر، وقبضه على البرامكة، ويأمرني بالشخوص إلى حضرته.
فشخصت، فلما وصلت إليه، عاملني من الإكرام والإنعام بما زاد على أمنيتي.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفراً، قد ضرب وسطه، وصلب نصفه في جانب، ونصفه في الجانب الآخر.

نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة

حكي أن الواثق سخط على سليمان بن وهب، فرده إلى محمد بن أبي إسحاق، وأمره أن يأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف درهم، يؤديها بعد خمسة عشر يوماً، فإن أذعن لذلك، وإلا ضربه خمسمائة سوط.
فطالبه محمد بكتب الخط، فامتنع، فدعا له بالسياط، وجرد لضربه.
ودخل نجاح بن سلمة، فلما رآه سليمان أيقن بالموت، واستغاث به سليمان.
فقال نجاح لمحمد: خله، وأخلني وإياه، ففعل.
فقال نجاح لسليمان: أتعلم أن في الدنيا أحداً أعدى لك مني ؟.
قال: لا.
قال: فهوذا أحامي عنك اليوم لأجل الصناعة، أيما أحب إليك وآثر في نفسك، أن تموت الساعة بلا شك، أو يكون ذلك إلى خمسة عشر يوماً، قد يفرج الله فيها عنك ؟ قال: بل أكون إلى خمسة عشر يوماً بين الأمرين.
قال: فاكتب خطك بما طولبت به، فكتب خطه.
قال سليمان: فما مضت ستة أيام، حتى مات الخليفة، وبطل ذلك المال. وصار نجاح بن سلمة بمشورته تلك على سليمان، أحب إليه من أخيه وولده، وزالت العداوة من بينهما.
قال مؤلف الكتاب: هذا الخبر عندي أنه مضطرب، لأشياء كثيرة، ولكني كتبته، كما وجدته، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب خبر نكبة الواثق لسليمان بن وهب، بما هو أصح من هذه الحكاية.
المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه

ثم يعفو عنه

بلغني أن أبا محمد بن حمدون، قال: إشتهى المعتمد أن يتخذ له فرش ديباج، بستوره، وجميع آلاته، على صورة صورها، وألوان اقترحها.
فعمل ذلك بتنيس، وحمل إليه، فسر به غاية السرور، وتقدم، فنجد، ونضد، ونصب، وأحضرني والندماء، وهو يأكل فيه، فما منا إلا من وصفه واستحسنه، ثم قام لينام وينتبه، فيشرب فيه، وصرفنا.
فما شعرنا إلا وقد امتلأت الدار ضجة وصياحاً، ودعا بنا، فوجدناه يزأر كالأسد.
وإذا نصف ستر من تلك الستور قد قطع، وهو يقول: ليس بي قطعه، ولا قيمته، لأنه يمكنني أن أستعمل مكانه، وإنما بي أنه نغص علي السرور به أول يوم، واجترأ علي بمثل هذا الفعل، وأصعب من هذا أنه قطعه وأنا أراه، وغاص الذي قطعه عن عيني فلم أثبته.
ثم دعا بنحرير الخادم وحلف له بأيمان مغلظة، أنه إن لم يبحث إلى أن يحضر الجاني، ليضربن عنقه، وجلس على حاله مغضباً.
ومضى نحرير، فما أبعد حتى أحضر صبياً من الفراشين، كأنه البدر حسناً، والقطعة الديباج معه، وقد أقر بقطعها، واعتذر، وبذل التوبة، وهو يبكي، ويسأل الإقالة.
فلم يسمع المعتمد منه ذلك، وأمر نحرير أن يخرجه، فيقطع يده، فأخرج، وما منا إلا من آلمه قلبه عليه، لملاحة وجهه، وصغر سنه، وليس منا من يجسر على مسألة المعتمد فيه ونحن قيام سكوت.
حتى صرخ المعتمد على الله من يده صراخاً عظيماً، وتأوه، وقال: قد دخل شيء في أصبعي الساعة، وزاد الألم عليه، وجيء بمن رآها، فأحضر منقاشاً، فأخرجت من إصبعه شظية من قصب كالشعرة، فما ندري مم يتعجب، من صغرها ؟ أو من دخولها في لحمه مع ضعفها ؟، أو من شدة إيلاما إياه ؟ ومن كونها فوق الديباج ساعة طرح ونفض.
فلما استراح، قال: يا قوم، إن كان هذا القدر اليسير قد آلمني هذا الألم الكثير، فما حال هذا الصبي الذي أمرنا بقطع يده ؟.
قلنا: أسوأ حال وأشدها، فيجب أن تجعل العفو عنه شكراً لما كفيته.
فقال: ابعثوا إلى نحرير من يلحقه، فإن كان لم يقطعه، منع من قطعه.
فتسابق الغلمان، فلحقوه، والزيت يغلي، وقد مدت يده لتقطع، فخلوه، وسلم.
مروءة عدي بن الرقاع العامليأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن جرير، عن محمد بن سلام، قال: عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الله بن عبد الرحمان عن الأردن، وضربه، وحلقه، وأقامه للناس.
وقال للموكلين به: من أتاه متوجعاً، وأثنى عليه، فأتوني به.
فأتاه عدي بن الرقاع العاملي، وكان عبيدة محسناً إليه، فوقف عليه، وأنشأ يقول:

وما عزلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الغايات سبّاقاً جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمّي ... وصولاً باذلاً لا مستزادا
فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كذاك اللّه يفعل ما أرادا
فوثب الموكلون به، فأدخلوه إلى الوليد، وأخبروه بما جرى.
فتغيظ عليه الوليد، وقال له: أتمدح رجلاً قد فعلت به ما فعلت ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسناً، ولي مؤثراً، ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم؟.
قال: صدقت، وكرمت، وقد عفوت عنك، وعنه لك، فخذه وانصرف.
فانصرف به إلى منزله.

غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية

أخبرني محمد بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي غسان البصري، قال: حدثنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلام.
قال محمد بن الحسن، وأخبرني علي بن الحسين الأصبهاني، قال: أخبرني عبد العزيز بن أحمد، عم أبي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثتني كلما بنت عبد العزيز بن موله، قالت: كان عامر بن الطفيل، فارس قيس، وكان عقيماً، وكان أعور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد رمي منه، ومن أربد، أخي لبيد بن ربيعة، بما أهمه عليه السلام.
وذلك إنهما أتياه، فلقيهما، فوسد عامراً وسادة، وقال: اسلم يا عامر.
قال: على أن تجعل لي الوبر، ولك المدر، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فعلى أن تجعلني الخليفة بعدك، إن أنا أسلمت.
قال: لا.
قال: فما الذي تجعل لي ؟ قال: أعنة الخيل، تقاتل عليها في سبيل الله.
قال: أو ليست أعنة الخيل بيدي اليوم ؟، وولى عامر مغضباً وهو يقول: لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن على كل نخلة فرساً.
وقال عامر لأربد: إما أن تقتله، وأكفيكه، وإما أن أقتله، وأكفنيه.
قال أربد: اكفنيه، وأنا أقتله.
فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عامر: إن لي إليك حاجة.
قال: اقترب.
فاقترب، حتى حنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل أربد سيفه، وأبصر رسول الله بريقه، فتعوذ منه بآية من كتاب الله تعالى، فأعاذه الله منه، ويبست يده على السيف، فلم يقدر على شيء.
فلما رأى عامر أربد لا يصنع شيئاً، انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال لأربد: ما منعك منه ؟.
قال: إني لما سللت بعض سيفي، يبست يدي، فوالله ما قدرت على سله.
قال ابن سلام: وذكر بعضهم أنه قال: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل، قطم، فاغرفاه، بين يديه، يهوي إلي، فوالله، لو سللته، لخفت أن يبتلع رأسي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم أرحني منهما، واكفنيهما.
فأما أربد، فأرسل الله تعالى عليه صاعقة، فأحرقته.
وأما عامر فطعن في عنقه، فأخذته غدة كغدة الجمل، فلجأ إلى بيت امرأة من سلول.
فلما غشيه الموت، جعل يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية ؟ ثم مات.
وفي أربد، نزل قوله تعالى: " ويرسل الصواعق، فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحال " .
وفي أربد يقول لبيد أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماء والأسل
أفجعني الرّعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجل
خرج ليغير فوقع على زيد الخيلأخبرني محمد بن الحسن، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا ابن دريد، بإسناد ذكره عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: أخبرني شيخ من بني شيبان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة.
وقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصيبكم من خيره، إلى أن أرجع إليكم.
وخرج على وجهه لما قد حل به، يؤمل أن يكسب ما يعود به على عياله، وقد جهده الفقر، وبلغ به الطوى.
فحدث، قال: مشيت يوماً وليلة، بحيث لا أدري إلى أين أتوجه، غير أني أجوب في البلاد.
فلما كان من الغد عشاءً، إذا بمهر مقيد حول خباء، فقلت: هذا أول الغنيمة.
فحللته، فلم أذهب إلا قليلاً، حتى نوديت: خل عن المهر، وإلا اختلجت مهجتك.
قال: فنزلت عنه، وتركته، ومضيت وقد تحيرت في أمري، واغتممت غماً شديداً.
فسرت سبعة أيام، حتى انتهيت إلى موضع عطن أباعر، مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم، وقبة من أدم.

فقلت: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل.
فنظرت في الخباء فإذا شيخ قد اختلفت ترقوتاه، وكأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس، إذا أنا بفارس قد أقبل، لم أر قط فارساً أجمل منه، ولا أجسم، على فرس عظيم، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله.
ونزل الفارس، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ.
قال: فحلب في عس حتى ملأه، ثم جاء به فوضعه بين يدي الشيخ، وتنحى.
فكرع منه مرة، أو مرتين، ثم نزع، فثرت، فشربته.
فرجع العبد، فأخذ العس، فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره.
قال: ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم جاء بالعس، فوضعه بين يدي الشيخ.
فكرع منه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه، فشربت نصفه، وكرهت أن أتهم، إن أتيت على آخره.
ثم جاء العبد، وأخذ العس، وقال: يا مولاي، قد شرب.
قال: دعه، ثم أمر بشاة، فذبحت، وشوى للشيخ منها، وأكل هو وعبداه.
فأمهلت حتى ناموا، وسمعت الغطيط، فثرت إلى الفحل، فحللت عقاله، ثم ركبته، فاندفع بي، واتبعته الابل، فسللتها ليلتي كلها حتى أصبحت.
فلما أسفر الصبح، نظرت فلم أر أحداً، فسللتها سلا عنيفاً، حتى تعالى النهار، فالتفت التفاتة، فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي البارحة.
فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل.
فدنا مني، وقال: حل عقاله.
فقلت: كلا - والله - لقد أضر بي الجهد، وخلفت نسيات، وصبية بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن إلا بعد أن أفيدهن خيراً، أو أموت.
قال: فإنك ميت، حل عقاله.
قلت: هوذاك.
قال: إنك لمغرور، أنصب لي خطامه، وفي خطامه خمس عجر، فنصبته.
قال: أين تريد أن أضع سهمي ؟.
قلت: في هذا الموضع.
قال: فكأنما وضعه بيده، حتى والى بين خمسة أسهم.
قال: فرددت نبلي، ودنا هو، فأخذ القوس والسيف.
وقال: ارتدف خلفي، ففعلت.
فقال لي، وقد عرف أني أنا الذي شربت اللبن عند الشيخ: ما ظنك بي ؟ قلت: أحسن الظن، مع ما لقيت مني من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي.
فقال: أترى كنا يلحقك منا سوء، وقد بت تنادم مهلهلاً ليلتك.
قلت: زيد الخيل أنت ؟.
قال: نعم، أنا زيد الخيل.
قلت: كن خير آخذ.
قال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل، فأقم عندي، فإني على شرف غارة.
فأقمت أياماً، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير.
فقال: هذه أحب إليك، أم تلك ؟ فقلت: هذه، فأعطانيها.
قال: فقلت: ابعث معي خفراء، ففعل.
وعدت إلى وطني، وفرج الله بكرمه عني، وأصلح حالي.
منع الله سواراً من الطعام والشراب وجاء به حتى أقعده بين يديك
ذكر محمد بن إسحاق بن أبي العشير، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وقال: حدثني سوار، صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت من دار المهدي، فلما دخلت منزلي، دعوت بالغداء، فحاشت نفسي، فأمرت به فرد.
ثم دعوت بالنرد، ودعوت جارية لي ألاعبها، فلم تطب نفسي بذلك، ودخلت القائلة، فلم يأخذني النوم.
فنهضت، وأمرت ببغلة لي شهباء، فأسرجت، فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه ألفا درهم.
فقلت له: ما هذا ؟.
فقال: ألفا درهم، جبيتها من مستغلك الجديد.
قال: قلت: أمسكها معك، واتبعني.
قال: ومضيت، وخليت رأس البغلة، حتى عبرت الجسر، ثم مضت بي في شارع دار الرقيق، حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار، فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار، انتهيت إلى باب دار لطيف، عنده شجرة، وعلى الباب خادم، فوقفت، وقد عطشت.
فقلت للخادم: أعندك ما تسقينيه ؟.
قال: نعم فأخرج قلة نظيفة طيبة الريح، عليها منديل، فناولنيها، فشربت.
وحضر وقت العصر، فدخلت مسجداً، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يتلمس.
قلت: ما تريد يا هذا ؟.
قال: إياك أريد.
قلت: وما حاجتك ؟.
فجاء، حتى قعد إلي، فقال: شممت منك رائحة الطيب فتخيلت أنك من أهل النعمة، فأردت أن ألقي إليك شيئاً.
فقلت: قل.
قال: أترى هذا القصر ؟.
قلت: نعم.

قال: هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعمة التي كنا فيها، فأتيت صاحب الدار، لأسأله شيئاً يصلني به فإني في ضنك شديد، وضغطة عظيمة، ورزوح حال قبيح، وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي.
قلت: ومن أبوك ؟.
قال: فلان بن فلان، فإذا أصدق الناس - كان - لي.
فقلت: يا هذا، إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والشراب والنوم، حتى جاء به فأقعده بين يديك.
ثم دعوت الوكيل، وأخذت منه الألفي درهم، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غداً، فصر إلي، إلى المنزل.
ثم مضيت، فقلت: ما أحدث المهدي، بشيء أطرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فحدثته بالحديث، فأعجب به، وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت.
فقال لي: ادفعها إليه.
قال: فنهضت، فقال لي: اجلس، أعليك دين ؟.
قلت: نعم.
قال: كم مبلغه ؟.
قلت: خمسون ألف دينار.
فقال: تحمل إليك، فاقض بها دينك، فقبضتها.
فلما كان من الغد، أبطأ علي المكفوف، وأتاني رسول المهدي، يدعوني، فجئته.
فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
قال: فقبضتها، وانصرفت، فجاءني المكفوف، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار أخرى، فقبض أربعة آلاف دينار، ودعا لي، وقال: والله، ما ظننت أني أصل منك، ولا من أحد من أهل هذه البلاد، إلى عشر هذا المال، فجزاك الله خيراً.

عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك

أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن جرير الطبري، عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.
ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.
قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.
فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.
فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.
فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.
فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.
قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما.
أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهمقرئ على أبي بكر الصولي، وأنا أسمع، في المسجد الجامع بالبصة، حدثكم الغلابي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن ميثم، وقد كان جاز المائة سنة، قال: سمعت ابن شبرمة، يقول: زوجت ابني على ألفي درهم، وما هي عندي، فطولبت بها، فصرت إلى أبي أيوب المورياني، فقلت له: إني اخترتك لحاجتي، وعرفته خبري، فأمر لي بألفي درهم، فشكرته وقمت.
فقال: اجلس، ألا تريد خادماً ؟.
قال: فقلت: إن رزق الله.
قال: وهذه ألفان لخادمك، ألا تريد نفقة ؟ ألا تريد كذا ؟، وجعل يعدد ويعطيني.
حتى قمت على خمسين ألف درهم، وصلني بها.
ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، هذا الخبر، بلا إسناد، على قريب من هذا.
الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه

حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الكاتب، وكان يعرف بالديناري، لما بين أبيه الحسن بن رجاء، وبين دينار بن عبد الله، من القرابة، فإنهما كانا ابني خالة، على ما أخبرني، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري الكاتب، جد أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن مقلة لأمه، قال: لما تخلص أبو أيوب سليمان بن وهب، من نكبة المعتمد، وكنت أكتب له، وجلس في منزله، أمرني أن أكتب إلى العمال الذين ضياعه في أعمالهم، كتباً أعرفهم فيها رجوع الخليفة له، وتبينه باطل ما أنهي إليه، وحمل به عليه، وأخاطبهم عنه في أمر ضياعه وأسبابه.
فكتبت نسخة، قلت فيها: إن أمير المؤمنين - أعزه الله - لما وقف على تمويه من موه عليه في أمرنا، فعل وصنع.
فلما وقف على هذا الفصل، خط على هذا الحرف، وأبدله بغيره، ولم يغير في النسخة سواه.
وقال لي: إذا فرغت من تحرير الكتب، فأذكرني بالتمويه، أحدثك بما كرهته له.
قال: فحررت الكتب، فلما خلا، سألته: لم ضرب على التمويه ؟، فقال: نعم لما غضب علي الواثق، وعلى أحمد بن الخصيب، بسبب إيتاخ، وأشناس، كانت موجدته علينا بسبب واحد، وحبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس والقيد، إلى أن كلم فينا، فأمر بإحضارنا.
فقلت لأحمد بن الخصيب: قد دعانا، وأظن أنه سيوبخنا، ويعدد علينا ما قرفنا به عنده، ليخرج ما في نفسه، فيعظم منته علينا، بما يأتيه من إطلاقنا، وأعرف عجلتك، وتسرعك إلى ما يضرك، وكأني بك حين يبتدئ بتقريعنا، قد قطعت كلامه، وأنحيت عليه بلسانك ويديك، فأنشأت لنا استئناف غضب وموجدة، وأكسبتنا شراً مما قد أملنا الخلاص منه.
فقال لي: فما أعمل ؟.
قلت: لست أحسبك تتهمني على نفسي ولا عليك، ولا تشك أننا حبسنا لقضية واحدة، فولني جوابه، وأعرني سكوتك، ودعني أرفق به، وأخدعه بما تخدع به الملوك، فلعلنا نتخلص من المكروه الذي نحن فيه.
قال: أفعل.
فاستحلفته على ذلك، فحلف لي.
فلما دخلنا الصحن، وجدنا الخليفة يستاك، وبين يديه طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فراش قائم، وبيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.
فلما رآنا، قال: أحسنت إليكما، واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما.
فكأني - والله - إنما أوصيت أحمد بن الخصيب، ألا يدعه ينطق.
فقال له، وقد رفع يديه في وجهه: لا والله يا أمير المؤمنين، ما بلغك عنا الحق، ولا فعلنا شيئاً مما سعي بنا، ولقد موه عليك في أمرنا.
فقال: إنما يموه على غبي مثلك، فأومأت إليه بعيني، فأمسك بعض الإمساك.
وعاد الواثق يتمم كلامه، ويعدد علينا نعمه ومننه، فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما كفرنا نعمتك، ولا فعلنا، ولا صنعنا، إنما موه على أمير المؤمنين في أمرنا.
فقال: يا جاهل، قد عدت لها، إنما يجوز التمويه على أحمق مثلك، وأومأت إليه بعيني، فأمسك.
وعاد الواثق في كلامه، فما انضبط أحمد أن رد قوله، وجاء بالتمويه.
فحين سمعها الواثق، انقلبت عيناه في أم رأسه، واستشاط غضباً، وأغلظ له في الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أنه زاغ عنه، لهشم وجهه، وأعمى عينه.
ثم قال: يا غلمان، أخرجوه إلى لعنة الله، فأخرج أخزى خلق الله.
ونالني من الجزع، والغم، والحيرة في أمره، أمر عظيم، ولم أدر، أقف، أم أمضي، وخفت إن وقفت، أن يقول: ما وقوفك بين يدي، وقضيتكما واحدة، وإن مضيت أن نرد جميعاً إلى الحبس، فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلاً، كأني أريد الخروج.
فقال لي: مكانك أنت يا سليمان، هب هذا على ما هو عليه، أنت أيضاً، تنكر أنك فعلت كذا، وصنعت كذا ؟.
فوجدت السبيل إلى ما أردت، فلم أزل أعترف، وألزم نفسي الجناية، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح والإقالة، إلى أن قال: قد عفوت عنك، فقبلت الأرض، وبكيت.
فقال: إخلعوا عليه، وأصرفوه إلى منزله، وليلزم الدار على عادته ورسمه.
فلما وليت، قال: وذلك الكلب، قد كنت أردت العفو عنه، فأخرجني عن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عليه أيضاً.
فخرجت، وإذا بأحمد في بعض الممرات، فعرفته الخبر، ثم قلت له: يا هذا كدت أن تأتي علينا، أرأيت أحداً يكرر على الخليفة لفظة قد كرهها، وأنكرها، ثلاث مرات ؟ أو ما علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ؟ قال: فلم يخرج من قلبي فزع التمويه، من ذلك الوقت، إلى الآن.

غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن بن زائدة وضربه مائة سوط

حدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المكفوف المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: بعث إلي الرشيد في وقت لم تكن عادته أن يستدعيني في مثله، وجاءني الرسول بوجه منكر، فأحضرني إحضاراً عنيفاً منكراً مستعجلاً، فوجلت وجلاً شديداً، وخفت، وجزعت.
فدخلت، فإذا الرشيد على بساط عظيم، وإلى جانبه كرسي خيزران، عليه جويرية خماسية، فسلمت، فلم يرد علي، ولا رفع رأسه إلي، وجعل ينكت الأرض بإصبعه.
فقلت: سعي بي عنده بباطل، يهلكني قبل كشفه، وأيست من الحياة.
فرفع رأسه، وقال: يا أصمعي، ألا ترى الدعي بن الدعي، اليهودي، عبد بني حنيفة، مروان بن أبي حفصة، يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدنا:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان النّاس كلّهم لمعنٍ ... إلى أن زار حفرته عيالا
فقال: إن النوال قد ذهب، مع بقائنا، فما يصنع بنا إذن ؟، ولم يرض حتى جعلني وخاصتي، عيالاً لمعن، والله، لأفعلن به ولأصنعن.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، أو العفو عنه.
فقال: علي بمروان، فدخل عليه.
فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه بها، وهو يصيح: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي ؟ يا أمير المؤمنين، استبقني، إلى أن ضرب أكثر من مائة سوط.
فقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني، واذكر قولي فيك، وفي آبائك.
فقال: يا غلام، كف عنه، ثم قال: ما قلت، يا كلب ؟.
فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أم تسترون هلالها
أم تدفعون مقالة عن ربّه ... جبريل بلّغها النّبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... لا تولغنّ دماءكم أشبالها
قال: فأمر بإطلاقه، وأن يدفع إليه ثلاثون ألف درهم.
فلما خرج، قال: يا أصمعي تدري من هذه الصبية ؟.
قلت: لا أدري.
قال: هذه مؤنسة بنت أمير المؤمنين، فدعوت له ولها، وتأملته، فإذا هو شارب ثمل.
قال: قم فقبل رأسها.
فقلت: أفلت من واحدة، ودفعت إلى أخرى أشد منها، إن أطعته أدركته الغيرة فقتلني، وإن عصيته قتلني بمعصيتي له، فلما أحب الله عز وجل من تأخير أجلي، ألهمني أن وضعت كمي على رأسها، وقبلت كمي.
فقال: والله يا أصمعي، لو أخطأتها لقتلتك، أعطوه عشرة آلاف درهم، والحق بدارك.
فخرجت وأنا ما أصدق بالسلامة، فكيف بالحباء والكرامة.
أمدح بيت قالته العربقال المفضل بن محمد الضبي: أصبحت يوماً ببغداد، في خلافة المهدي، وأنا من أشد الناس إضاقة وضراً، لا أدري ما أعمل، حيرة وفكراً.
فخرجت، فجلست على باب منزلي بالصراة، أفكر فيما أصنع، فإذا أنا برسول المهدي، قد وقف علي.
فقال: أجب أمير المؤمنين، فراعني، وساء ظني.
فقلت: أدخل، فألبس ثيابي.
فقال: ما إلى ذلك سبيل.
فاشتد جزعي، وخشيت أن يأخذني بما كان بيني وبين إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن رضي الله عنهم.
فاستدعيت ثيابي، وجددت وضوءاً على الباب، ولم أخبر أهلي بقصتي، ولا بما هجم من الغم علي.
وقلت: إن كان خيراً أو شراً، فسيبلغهم، فما معنى تعجيل الهم لهم.
ومضيت مع الرسول، حتى دخلت على المهدي، وأنا في نهاية الجزع، فسلمت، فرد علي السلام.
فقلت في نفسي: ليس إلا خيراً.
فقال: اجلس يا مفضل، فجلست.
فقال: أخبرني عن أمدح بيت قالته العرب.
فتبلدت ساعة، لا أذكر شيئاً، ثم أجرى الله على لساني، أن قلت: قول الخنساء.
فأشرق وجهه، وقال: حيث تقول ماذا ؟.
فقلت: حيث تقول:
وإنّ صخراً لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار
فاستبشر به، وقال: قد أخبرت هؤلاء بهذا، وأومأ إلى جماعة بين يديه، فلم يقبلوا مني.
قلت: كان أمير المؤمنين، أحق بالصواب منهم.
قال: يا مفضل، حدثني الآن.

قلت: أي الأحاديث ؟.
قال: أحاديث الأعراب فلم أزل أحدثه، بأحسن ما أحفظ منها، إلى أن كاد المنادي بالظهر أن ينادي.
ثم قال لي: كيف حالك يا مفضل ؟.
قلت: ما يكون حال رجل عليه عشرون ألف درهم ديناً حالاً، وليس في رزقه فضل لقضائها، وقصصت عيه قصة حالي ويومي في الإضافة.
فقال: يا عمر بن بزيع، ادفع إليه الساعة، عشرين ألف درهم يقضي بها دينه، وعشرين ألف درهم يصلح بها حاله، وعشرين ألف درهم يجهز بها بناته، ويوسع بها على عياله.
ثم قال: يا مفضل، ما أحسن ما قال ابن مطير، في مثل حالك:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيّها ... فقيراً ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فأخذت المال، وانصرفت إلى بيتي بستين ألف درهم، بعد الإياس، وتوطين النفس على ضرب الرقبة.

بين الأصمعي والبقال الذي على باب الزقاق

وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي، قال: كنت بالبصرة، أطلب العلم، وأنا مقل، وكان على باب زقاقنا بقال، إذا خرجت باكراً يقول لي: إلى أين ؟ فأقول: إلى فلان المحدث، وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين ؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله، لو طلبت مني، بجميع كتبك، جرزة بقل، ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي - في خلال ذلك - تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق وبي، واتسخ بدني.
فأنا كذلك، متحيراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى ؟.
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إلي، ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار.
وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الطعمة، وأبخرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه.
فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني، ورفعني.
ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون ؟.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودعني، وكن على الطريق غداً.
فقبلت يده، وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد.
ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهوذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأخرجه إلي، وحولت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأخدم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته.
وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً، فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم.
واستعرضه الرشيد، فأعجب به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج، فصلى بالناس، وأنا معه، فأعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً.

ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة، فتمن.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حزت أماني.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة، والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك.
فكتب إليه بما أردت، وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد.
فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل.
فقال: كيف أنت يا عبد الملك ؟.
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد.
وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة قال مسرور الكبير: استدعاني المأمون، فقال لي: قد أكثر علي أصحاب أخبار السر، أن شيخاً يأتي خرائب البرامكة، فيبكي وينتحب طويلاً، ثم ينشد شعراً يرثيهم به، وينصرف، فاركب أنت وأيوب الخادم، والأصمعي، ودينار بن عبد الله، واستترا بالجدران، فإذا جاء الشيخ، فأمهلاه، حتى تشاهدان ما يفعل، وتسمعان ما يقول، فإذا أراد الانصراف، فاقبضا عليه، وأتياني به.
قال مسرور: فركبت أنا ودينار وأيوب الخادم مغلسين، فأتينا الموضع، فاختفينا فيه، وأبعدنا الدواب.
فلما كان آخر الليل، إذا بخادم أسود قد أقبل، ومعه كرسي حديد، فطرحه، وجاء على أثره كهل، فجلس على الكرسي، وتلفت يميناً وشمالاً، فلم ير أحداً، فبكى وانتحب، حتى قلت: قد فارق الدنيا، وأنشأ يقول:
أما واللّه لولا خوف واشٍ ... وعينٍ للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالحجر استلام
ثم بكى طويلاً، وأنشأ يقول:
ولما رأيت جلل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسّفي ... عليها وقلت الآن لا تنفع الدنيا
وذكر أبياتاً طويلة، لا تدخل في كتابي هذا، فأرويها.
قال: فلما فرغ من إنشاده وقام، قبضنا عليه، فقال: ما تريدون ؟.
قلت: هذا دينار بن عبد الله، وهذا أيوب الخادم بالحرم، وهذا عبد الملك بن قريب الأصمعي، وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين، وهو يستدعيك.
فأبلس، ثم قال: إني لا آمنه على نفسي فامهلاني حتى أوصي.
فقلت: شأنك وما تريد، فقام، وسار، ونحن معه، حتى أتى بعض دكاكين العلافين، بفرضة الفيل.
فاستدعى دواةً وبياضاً، وكتب فيها وصيته، ودفعها إلى الخادم الذي كان معه، وأنفذه إلى منزله، وسرنا به، حتى أدخلناه على المأمون، فلما مثل بين يديه، زبره، وانتهره.
ثم قال له: من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع في دورهم وخراباتهم ؟.
فقال: غير هائب، ولا محتشم: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة عندي أياد، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته بإحداها.
فقال: هات.
قال: أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، من ذوي الحسب، نشأت في ظل نعم قديمة، فزالت عني، كما تزول النعم عن الناس، حتى أفضيت إلى بيع مسقط رأسي وروس آبائي، وأملقت حتى لا غاية، فأشير علي بقصد البرامكة.
فخرجت من الشام إلى بغداد، ومعي نيف وعشرون امرأة وصبياً وصبية، فدخلت بهم مدينة السلام، فأنزلتهم في مسجد.
ثم عمدت إلى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء الناس، والتذرع بها للبرامكة، فلبستها، وسلكت الطريق، لا أدري أين أقصد، وكنت كما قيل:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراءه
فلما قال ذلك، بكى المأمون، فقال له مسرور: أقصر يا رجل، فقد أتعبت أمير المؤمنين بوصفك.
فقال له المأمون: دعه يتحدث بما يريد.

قال: نعم، وتركت عيالي جياعاً لا نفقة لهم، ولا معهم ما يباع، فأفضيت إلى مسجد مزخرف، فيه جمع شيوخ، بأحسن زي، وأجمل هيأة، فطمعت في مخاطبتهم، فصعدت إلى المسجد، فجلست معهم، لم أزد على السلام، وجعلت أردد في صدري كلاماً أخاطبهم به، فيحصرني التشور، ويخجلني ذل المسألة، ويحبسني عن الكلام، وأتصبب عرقاً، حياءً وخوفاً من أن يقال لي: من أنت، وما تريد ؟ وما يمكنني الجواب، ولا أدري ما أخاطبهم به، إذ لم تكن لي عادة بالخوض في مثله.
فأنا كذلك، إذ جاء خادم فاستدعى القوم، فقاموا، وقمت معهم، ومضينا، فأدخلوا داراً ذات دهليز طويل، فدخلت معهم، وأفضينا إلى صحن واسع، وإذا شيخ بهي، فإذا هو يحيى بن خالد، على دكة أبنوس في صحن الدار، في وسط البستان، وله ميدان عنده بركة، وقد نصب عليها كراسي أبنوس.
وأقبل القوم، فجلسوا، وجلست معهم، وتأمل الخدم القوم وعددهم، فإذا نحن مائة رجل ورجل، فدخل الخدم وغابوا، ثم خرج مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم مجمرة من ذهب، فيها قطعة كالفهر من عنبر، والخدم بأفخر الثياب، عليهم مناطق الذهب المرصعة بالجوهر، وهم يطيفون بغلام، حين اخضر شاربه، حسن الوجه، فسجروا العنبر.
وأقبل يحيى على الزريقي القاضي، وقال: زوج ابن أخي هذا، بابنتي عائشة على صداق قدره مائة ألف درهم.
فخطب، وعقد النكاح، وأخذنا النثار من فتات المسك، وبنادق العنبر، وتماثيل الند الصغار، والتقط الناس، والتقطت.
ثم جاء مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار، مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية.
فأقبلت الجماعة تكور الدنانير في أكمامها، وتأخذ الصواني تحت آباطها، وتنصرف، الأول، فالأول، حتى بقيت وحدي، لا أجسر على أخذ الصينية وما فيها، والأسف، والحاجة، يمنعاني أن أقوم وأدعها، وأنا مطرق، مفكر.
حتى ضاق صدري، فرفعت رأسي، فغمزني بعض الخدم على أخذها والقيام، فأخذتها وقمت، وأنا لا أصدق، وجعلت أمشي وأتلفت، خوفاً من أن يتبعني من يأخذها، ويحيى يلاحظني من حيث لا أعلم.
فلما قاربت الستر، رددت، فأيست من الصينية، فجئت - وهي معي - حتى قربت منه، فأمرني بالجلوس، فجلست.
فسألني عن حالي، وقصتي، ومن أنا، فصدقته، حتى إذا بلغت إلى تركي عيالي في المسجد، بكى.
ثم قال: علي بموسى، فجاء.
فقال: يا بني، هذا رجل من أبناء النعم، قد رمته الأيام بصروفها، والنوائب بحتوفها، فخذه، واخلطه بنفسك، واصطنعه.
فأخذني موسى إلى داره، فخلع علي من أفخر ثيابه، وأمر بحفظ الصينية لي، وقضيت على ذلك يومي وليلتي.
ثم استدعى أخاه العباس من الغد، وقال له: إن الوزير سلم إلي هذا الفتى، وأمرني فيه بكذا وكذا، وأريد أن أركب اليوم إلى دار أمير المؤمنين، فليكن عندك اليوم حتى أرتجعه غداً، فكان يومي عنده مثل أمسي.
وأقبلوا يتداولوني كل يوم، واحداً بعد واحد، وأنا قلق بأمر عيالي، إلا أنني لا أذكرهم إجلالاً لهم.
فلما كان في اليوم العاشر، أدخلت إلى الفضل بن يحيى، فأقمت في داره يومي وليلتي.
فلما أصبحت، جاءني خادم من خدمه، فقال: يا هذا قم إلى عيالك وصبيانك.
فقلت: إنا لله، لم أحصل لهؤلاء الصبيان على الأكل والشرب، والصينية وما فيها، وما حصلته من النثار، ذهب، فليت هذا كان من أول يوم، وكيف أتوصل الآن إلى يحيى، وأي طريق له إليه.
وتلاعبت بي الأفكار مخافة اليأس، وأظلمت الدنيا في عيني، وقمت أجر رجلي، والخادم يمشي بين يدي، حتى أخرجني من الدار، فازداد إياسي، وما زال يمشي بين يدي حتى أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها، وفيها من صنوف الفرش والأثاث والآلات، ما يكون في مثلها.
فلما توسطتها، رأيت عيالي أجمعين فيها، يرتعون في الديباج والشفوف، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، والصينية والنثار، وسلم إلي الخادم، صك ضيعتين جليلتين.
وقال: هذه الدار، وما فيها، والضياع بغلاتها، لك.
فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش، وأجل حال، حتى نزلت بهم النازلة.
ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين، فألزمني في خراجهما، ما لا يفي به دخلهما.
فلحقتني شدة عظيمة، فكلما لحقتني نائبة واشتدت بي بلية، قصدت دورهم ومنازلهم، فبكيتهم، ورثيتهم، وشكرتهم، ودعوت لهم، على ما كان منهم إلي، وشكوت ما حل بي بعدهم، فأجد لذلك راحة.

قال: فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة، فلما أتي به، قال له: أتعرف هذا الرجل ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
فأمره ان يرد على الرجل، كلما استخرج منه، وأن يقرر خراجه على ما كان عليه أيام البرامكة وأن يجعل له ضيعة أخرى من جملة الإيغارات يكون دخلها له ويتخذ به سجلاً وأن يقضي حقه ويكرمه، فبكى الشيخ بكاءً شديداً.
فقال له المأمون: ألم أستأنف إليك جميلاً فما بكاؤك ؟.
فقال: بلى والله يا أمير المؤمنين، وزدت على كل فضل وإحسان، ولكن هذا من بركة الله، وبركة البرامكة علي، وبقية إحسانهم إلي، فلو لم آت خراباتهم، فأبكيهم، وأندبهم، حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: إمض مصاحباً، فإن الوفاء مبارك، وحسن العهد من الايمان.

البرامكة

جاء في الفخري 197: إن دولة آل برمك، كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، فان يحيى وبنوه، كالنجوم زاهرة، والبحار زاخرة، والسيول دافقة، والغيوث ماطرة، أسواق الأدب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ الضعيف، ومعتصم الطريد، وفيهم يقول أبو نؤاس:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحين وغاد
وقال الجاحظ: البرامكة محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، العقد الفريد 5 - 28، وقال عنهم أيضاً: إن أيامهم كانت رياض الأزمنة وفيات الأعيان 3 - 474.
وقال محمد بن جميل الكاتب: كان البرامكة شفاء سقام دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفاً للاجئين، ومفزعاً للملهوفين قطب السرور 63.
وقال القاضي التنوخي، في امتداح مجلس من مجالس الوزير المهلبي: كأنه من مجالس البرامكة نشوار المحاضرة القصة رقم 1 - 28.
وقال سليمان بن وهب، لشخص أحسن إليه: إنك قد فعلت ما لم تفعله البرامكة القصة 165 من هذا الكتاب.
وقال صالح، صاحب المصلى: إن الدهر لا يخلف مثل يحيى أبداً القصة 371 من هذا الكتاب.
وقال إسحاق الموصلي، في الفضل بن يحيى البرمكي، سبحان الذي خلق هذا الرجل، وجبله على كرم بذ به من مضى ومن غبر المحاسن والمساوئ 2 - 22.
وحلف إسحاق الموصلي، بالله الذي لا إله إلا هو: ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا أبلغ في المكاتبة الأغاني 4 - 325.
وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي والمأمون تاريخ الخلفاء 326.
وقال إبراهيم بن المهدي: ما رأيت أكمل من جعفر قط الأوراق للصولي، أشعار أولاد الخلفاء 34.
وأبو حيان التوحيدي، الذي كان كثير الغرام، بثلب الكرام معجم الأدباء 2 - 282 إذ لم يترك أحداً من رؤساء زمانه، إلا وشتمه، أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أن معروفهم كان يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير أخلاق الوزيرين 489، ونقل في كتابه كذلك ما أورده محمد بن داود الجراح، في كتابه أخبار الوزراء، في الثناء عليهم، فقال: كان آل برمك أندى من السحاب أخلاق الوزيرين 380.
وفي محاضرات الأدباء 3 - 198: إن امرأة بجعفر بن يحيى، وقد صلب، فقالت: لئن صرت اليوم راية، لقد كنت بالأمس غاية.
وفي تحفة المجالس 179: إن البرامكة كانوا يقصدون من آفاق الأرض، وقال أعرابي قصدهم من اليمن: قصدت هؤلاء الأمجاد، الذين انتشر صيتهم في البلاد.
وكان للبرامكة من السخاء والكرم، ما لم يكن لأحد من الناس، وكانوا يخرجون بالليل سراً، ومعهم الأموال يتصدقون بها، وربما دقوا على الناس أبوابهم، فيدفعون إليهم الصرة، بين الثلاثة آلاف إلى الخمسة آلاف، أو الأكثر من ذلك، والأقل، وربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب، فكان الناس - لاعتيادهم ذلك - يعدون إلى العتب، إذا أصبحوا، يطلبون ما القي فيها المحاسن والمساوئ 1 - 150.
وقال فيهم الشاعر: وفيات الأعيان 4 - 35.
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع
إن كان شرّ كان غيرهم له ... والخير منسوب إليهم أجمع
وقال أبو نؤاس: وفيات الأعيان 5 - 59

إنّ البرامكة الكرام تعلّموا ... فعل الجميل فعلّموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
وقال أشجع السلمي، يذكر أيامهم: وفيات الأعيان 1 - 336
كأنّ أيّامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحجّ والأعياد والجمع
وأصبح جود البرامكة، على تمادي الأيام، مضرب المثل، قال الجماز: جاءنا فلان، بمائدة، كأنها زمن البرامكة على العفاة زهر الأداب 2 - 3 والملح والنوادر 236.
والبغداديون، إلى وقتنا هذا، يذكرون البرامكة، ويصفون الرجل الكريم النفس، السخي اليد، بأنه: برمكي.
وعمت شهرة البرامكة بالجود، جميع أنحاء الدنيا، بحيث أن المقري في نفح الطيب 3 - 109 أمتدح أحد أمراء الموحدين بالأندلس، فوصفه بأن له حكايات في الجود برمكية.
وقد أنكر صاعد، وزير الموفق، ما يذكر عن البرامكة، وقال: هذه أقاصيص من صنع الوراقين، فقال له أبو العيناء: لم لا يكذب على الوزير - أعزه الله - مثل هذا الكذب، وهو حي، يرجى ويخاف، وأولئك موتى، مأيوس من خيرهم وشرهم، القصة 1 - 1 من نشوار المحاضرة.
وبالنظر لعدم وجود سبب واضح عن نكبتهم، فقد خبط المؤرخون خبطاً في الاستنتاج، وذكر كل واحد منهم سبباً، أو أكثر من سبب، فادعى بعضهم أن السبب سياسي، وأنهم أرادوا قلب الدولة، وقال بعضهم: أن ثمة سبباً يتعلق بزواج جعفر، زواجاً لم يرضه الخليفة، وهذا كله لا أصل له، فإن البرامكة، لو أرادوا قلب الدولة، لحاولوا ذلك عندما كانت خراسان في قبضتهم، وأما قضية الزواج، فهي أقصوصة لا تعلق بقبول، ولا تدخل في معقول، والذي يظهر للمتأمل، أن استئثار البرامكة بالحكم، وانقياد الناس لهم، ولهجتهم بالثناء عليهم، والتعلق بهم، أثار غيرة الرشيد، وأشعل نار هواجسه، وصادف وجود دساسين، من رجال الحاشية، ممن يرغب في انتقال السلطة من البرامكة إليهم، مثل الفضل بن الربيع، وعلي بن عيسى بن ماهان، وأحمد بن صبيح، فتظافروا، وأغروا الرشيد بهم، فوجدوا منه أذناً سامعة، وكانت الخيزران، أم الرشيد، حامية البرامكة، قد توفيت في السنة 173، فلم يكد الرشيد يودعها قبرها، حتى دعى الفضل ابن الربيع، وأمره بأخذ الخاتم من جعفر، وحلف له إنه كان يهم بأن يوليه، فتمنعه أمه، فيطيع أمرها الطبري 8 - 238.
ولعل أصح ما ورد في هذا الباب، ما ذكره ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان 1 - 335، قال: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد، فقال: والله، ما كان منهم ما يوجب بعض ما عمل الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ووالله، لقد استطال الناس، الذين هم خير الناس، أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما رأوا مثلها عدلاً، وأمناً، وسعة أموال، وفتوح، وأيام عثمان رضي الله عنه، حتى قتلوهما، ورأى الرشيد - مع ذلك - أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من إعدائهم قوم بالرشيد، كالفضل بن الربيع، وغيره، فستروا المحاسن، وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان.
ويؤيد هذا الرأي، ما روي عن هرون الرشيد أنه قال: إن الدالة تفسد الحرمة، وتنقص الذمة، ومنها أتي البرامكة كتاب الآداب لمجد الملك جعفر بن شمس الخلافة ص20.

وقد ذهب المؤرخ ابن خلدون، إلى هذا الرأي، قال: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها، بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم، من وزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم، ويقال إنه كان بدار الرشيد، من ولد يحيى بن خالد، خمسة وعشرون رئيساً، من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون، ولي عهد، وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلب على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وتخطت إليهم من أقصى التخوم، هدايا الملوك، وتحف الأمراء، وسيرت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والإستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة يريد شيعة بني العباس وعظماء القرابة، العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف، المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع، حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية تاريخ ابن خلدون 1 - 13 و14.
وذكر صاحب الأغاني 18 - 303: أن الرشيد ندم على قتله البرامكة، وربما بكى عليهم في بعض المجالس.
وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان 6 - 228 و229 نقلاً عن الجهشياري: أن الرشيد ندم على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه، بأنه لو وثق منهم بصفاء النية، لأعادهم إلى حالهم، وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا، لم يغنوا عنا، وأنشد:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
راجع بعض أخبار البرامكة في المحاسن والمساوئ 1 - 140 و141 و151 - 162 وراجع في العقد الفريد 5 - 62 - 65 الحوار الذي جرى بين هارون الرشيد وبين فاطمة بنت محمد بن الحسن بن قحطبة، أم جعفر البرمكي. وهي أم الرشيد بالرضاعة، وراجع بشأن الثناء على البرامكة، القصة 1 - 2 و1 - 3 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، وراجع كذلك في كتاب الأوراق للصولي أشعار أولاد الخلفاء ص47 الحوار الذي جرى بين الرشيد وبين أخته علية حول مقتل جعفر البرمكي، وراجع في كتاب جواهر الأدب من خزائن العرب ص418 قصة عن الفضل وجعفر، رواها محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، صاحب صلاة الكوفة، وراجع الطبري 8 - 300 - 302 والأغاني ط بولاق 20 - 31.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان

بلغني أنه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب والظرف، يعاشر الناس، وتأتيه ألطافهم، فيعيش بها.
ثم انقلب الدهر عليه، فأمسك الناس عنه، وجفوه حتى قعد في بيته، والتجأ إلى عياله، فشاركهن في فضل مغازلهن، واستمر ذلك عليه، حتى نسيه الناس، ولزمه الفقر.
قال: فبينما أنا ذات ليلة في منزلي، على أسوء حال، إذا وقع حافر دابة، ورجل يدق بابي، فكلمته من وراء الباب.
فقلت: ما حاجتك ؟.
فقال: إن أخاً لك لا أسميه، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني رجل مستتر، ولست آنس بكل أحد، فإن رأيت أن تصير إلي، لنتحدث ليلتنا.
فقلت في نفسي: لعل جدي أن يكون قد تحرك ؟ ثم لم أجد لي ما ألبسه، فاشتملت بأزار امرأتي، وخرجت، فقدم إلي فرساً مجنوباً كان معه، فركبته.
إلى أن أدخلني إلى فتى من أجل الناس وأجملهم وجهاً، فقام إلي، وعانقني، ودعا بطعام فأكلنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث، فما خضت في شيء إلا سبقني إليه.
حتى إذا صار وقت السحر، قال: إن رأيت أن لا تسألني عن شيء من أمري، وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، إذا أرسلت إليك فعلت، وها هنا دراهم تقبلها، ولا تردها، ولا يضيق بعدها عنك شيء، فنهضت، فأخرج إلي جراباً مملوءاً دراهم.
فدخلتني أريحية الشراب، فقلت: اخترتني على الناس للمنادمة، ولسرك، وآخذ على ذلك أجراً ؟ لا حاجة لي في المال.

فجهد بي، فلم آخذه، وقدم إلي الفرس، فركبته، وعدت إلى منزلي، وعيالي متطلعون لما أجيء به، فأخبرتهم بخبري.
وأصبحت نادماً على فعلي، وقد ورد علي وعلى عيالي، ما لم يكن في حسابنا.
فمكثت حيناً، لا يأتي إلي رسول الرجل، إلى أن جاءني بعد مدة، فصرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الفعل، فعاودته بالامتناع، وانصرفت مخفقاً، فأقبلت امرأتي علي باللوم والتوبيخ.
فقلت لها: أنت طالق ثلاثاً إن عاودني ولم آخذ ما يعطيني.
فمكثت مدة أطول من الاولة، ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب، قالت لي امرأتي: يا ميشوم اذكر يمينك، وبكاء بناتك، وسوء حالك.
فصرت إلى الرجل، فلما أفضينا إلى الشراب، قلت له: إني أجد علة تمنعني منه، وإنما أردت أن يكون رأيي معي.
فأقبل الرجل يشرب، وأنا أحادثه، إلى أن انبلج الفجر، فأخرج الجراب، وعاودني، فأخذته، فقبل رأسي، وشكرني على قبول بره، وقدم إلي الفرس، فانصرفت عليه، حتى انتهيت إلى منزلي، فألقيت الجراب.
فلما رآه عيالي، سجدن لله شكراً، وفتحناه، فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي، واشتريت مركوباً، وثياباً حسنة، وأثاثاً، وضيعة قدرت أن غلتها تفي بي، وبعيالي بعدي، واستظهرت على زماني ببقية الدنانير.
وانثال الناس علي، يظهرون السرور بما تجدد لي، وظنوا أني كنت غائباً في انتجاع ملك، فقدمت مثرياً، وانقطع رسل الرجل عني.
فبينما أنا أسير يوماً بالقرب من منزلي، فإذا ضوضاء عظيمة، وجماعة مجتمعة.
فقلت: ما هذا ؟.
قالوا: رجل من بني فلان، كان يقطع الطريق، فطلبه السلطان، إلى أن عرف خبره ها هنا، فهجم عليه، وقد خرج على الناس بالسيف، يمنع نفسه.
فقربت من الجمع، وتأملت الرجل، فإذا هو صاحبي بعينه، وهو يقاتل العامة، والشرط، ويكشف الناس، فيبعدون عنه، ثم يتكاثرون عليه ويضايقونه.
فنزلت عن فرسي، وأقبلت أقوده، حتى دنوت منه، وقد انكشف الناس عنه.
فقلت: بأبي أنت وأمي، شأنك والفرس، والنجاة، فاستوى على ظهره، فلم يلحق.
فقبض علي الشرط، وأقبلوا علي، يلهزوني، ويشتموني، حتى جاءوا بي إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، وكان بي عارفاً.
فقالوا: أيها الأمير، كدنا أن نأخذ الرجل، فجاء هذا، فأعطاه فرساً نجا عليه.
فاشتد غضب عيسى بن موسى، وكاد أن يوقع بي، وأنا منكر لذلك.
فلما رأيت المصدوقة، قلت: أيها الأمير، أدنني إليك، أصدقك.
فاستدناني، فشرحت له ما كان أفضت بي الحال إليه، وما عاملني به الرجل، وأني كافأته بجميل فعله.
فقال لي سراً: أحسنت، لا بأس عليك.
ثم التفت إلى الناس فقال: يا حمقى، هذا يتهم ؟ إنما لفظ حافر فرسه حصاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتل، بسيف ماض، قد نكلتم عنه بأجمعكم، فكيف كان هو يدفعه عن فرسه ؟ انصرفوا، ثم خلى سبيلي.
فانصرفت إلى منزلي، وقد قضيت ذمام الفتى، وحصلت النعمة بعد الشدة، وأمنت عواقب الحال، وكان آخر عهدي به.

جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا

ً
سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي جوهر فاخر بالبصرة، وهو أميرها، فجهد أن يعرف له خبراً، فخفي عليه، فأقلقه ذلك، وغاظه، وجد بالشرط وضربهم، وألزمهم إظهاره، فجدوا في الطلب.
فلما كان بعد شهور، أتاه بعضهم برجل وجده في ساباط اللؤلؤ، يبيع درة فاخرة من ذلك الجوهر، قد قبض عليه، وضربه ضرباً عظيماً إلى أن أقر، فأخبر جعفر بخبره، فأذن بدخوله.
فلما رأى الرجل جعفراً، استغاث به، وبكى، ورققه، فرحمه جعفر، وقال: ألم تكن طلبت مني هذه الدرة في وقت كذا، فوهبتها لك ؟.
فقال: بلى.
فقال للشرط: خلوا عنه، واطلبوا اللص.
أخذ الصينية من لا يردها ورآه من لا ينم عليهوروت الفرس قريباً من هذا، فذكروا أن بعض ملوكهم، سخط على حاجب له سخطاً شديداً، وألزمه بيته، وكان فيه كالمحبوس، وقطع عنه أرزاقه وجراياته، فأقام على ذلك سنين، حتى تهتك، ولم تبق له حال.
ثم بلغه أن الملك قد أتخذ سماطاً عظيماً، يحضره الناس في غد يومه ذلك، فراسل أصدقاءه، وأعلمهم أن له حقاً يحضره لبعض ولده، واستعار منهم دابة بسرجه ولجامه، وغلاماً يسعى بين يديه، وخلعة يلبسها، وسيفاً، ومنطقة، فأعير ذلك، فلبسه، وركب الدابة، وخرج من منزله، إلى أن جاء إلى دار الملك.

فلما رآه البوابون لم يشكوا في أنه ما أقدم على ذلك إلا بأمر الملك، وتذمموا لقديم رئاسته عليهم، فأشفقوا من عودها أن يحجبوه إلى أن يستثبتوا.
ودخل هو مظهراً القوة بأمر نفسه، ولم تزل تلك حاله، مع طائفة، حتى وصل إلى الملك، وقد أكل، وهو جالس يشرف.
فلما رآه الملك قطب، وأنكر حضوره، وهم بأن يأمر به، وبالحجاب، والبوابين، فكره أن ينغص يوماً قد أفرده بالسرور على نفسه.
وأقبل الرجل يخدم، فيما كان يخدم فيه قديماً، فازدادت الحال تمويهاً على الحجاب والحاشية، إلى أن كاد المجلس ينصرم، وغفل أكثر من كان حاضراً عنه.
فتقدم إلى صينية ذهب زنتها ألف مثقال، مملؤة مسكاً، فأخذها بخفة، وجعل المسك في كمه، والصينية في خفه، والملك يراه.
وخرج، وعاد إلى منزله، ورد العواري إلى أهلها، وباع المسك، وكسر الصينية، وجعلها دنانير، واتسع بها حاله.
وأفاق الملك - من غد - من سكره، وسمع من يخدم في الشراب يطلب الصينية، وقهرمان الدار يضرب قوماً في طلبها، فذكر حديث الحاجب، وعلم أنه ما حمل نفسه على الغرر الشديد في ذلك، إلا من وراء شدة وضر.
فقال لقهرمانه: لا تطلب الصينية، فما لأحد في ضياعها ذنب، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
فلما كان بعد سنة، عاد ذلك الحاجب، إلى شدة الإضاقة، بنفاد الدنانير، وبلغه خبر سماط يكون عند الملك، في غد يومه، فاحتال بحيلة أخرى، حتى دخل إلى حضرة الملك، وهو يشرب.
فلما رآه الملك، قال: يا فلان، نفذت تلك الدنانير ؟.
فقبل الأرض بين يديه، وبكى، ومرغ خديه، وقال: أيها الملك، قد احتلت مرتين، على أن تقتلني فأستريح مما أنا فيه، من عظم الضر الذي أعانيه، أو تعفو عني كما يليق بك، وتذكر خدمتي، فأعيش في ظلك، وليست لي بعد هذا اليوم حيلة.
فرق له الملك، وعفا عنه، وأمر برد أرزاقه عليه ونعمته، ورده إلى حالته الأولى في خدمته.

سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمسمائة وخمسين دينارا

ً
بلغني عن رجل من أهل ديار ربيعة، كانت له حال صالحة، فزالت، قال: فلزمتني المحنة والإضاقة، مدة طويلة، فتحيرت، ولم أدر ما أعمل.
وكان أمير الناحية إذ ذاك، العباس بن عمرو الغنوي، وكانت بيني وبين كاتبه معرفة قديمة، فأشير علي بأن ألقاه، وآخذ كتاباً عن العباس إلى بعض أصدقائه من أمراء النواحي وأخرج إليه، فلعلى أتصرف معه، وأعود من جهته بفائدة أجعلها أصل معيشة.
فلقيت الكاتب، فقال لي: صر في غد إلى دار الأمير، حتى أكتب لك.
فمضيت إليه، فكتب لي عنه كتاباً مؤكداً إلى بعض أمراء الأطراف من أصدقاء العباس، فخرجت أريد منزلي.
فلما صرت في بعض الممرات وأنا رجل طويل مبدن، وكنت قد حلقت رأسي، وعليه منديل خفيف، قد أطارته الريح، فانكشف، ولعلة انشغال قلبي بأمري لم أرد المنديل.
وإذا بصفعة قد جاءت، كادت تكبني على وجهي، وتوالت بعدها اثنتان. فالتفت، فإذا العباس بن عمرو، وقد خرج إلى موضع من مواضع الدار، وكان مشتهراً بالمصافعة، مكاشفاً بها، هو، وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به.
فقبضت على يده، وقلت: ما هذا أيها الأمير ؟ ما أفارقك، أو تعطيني شيئاً أنتفع به عوضاً عن هذا الفعل.
فدافعني، وأنا متشبث به، وسقط الكتاب من كمي، فقال: ما هذا الكتاب.
قلت: كتاب، كتب لي عنك إلى فلان، لأخرج إليه، فلعلي أتصرف معه، أو يبرني بشيء.
فقال: هوذا، أكتب لك عليه سفتجة بالصفع، فإنه يفتديها منك بما تنتفع به.
واستدعى دواة، وكتب لي إلى الرجل سفتجة، كما يكتب التجار، بثلاث مكتوبات، كناية عن ثلاث صفعات.
فأخذت الكتاب، وانصرفت متعجباً مما جرى علي، ومن حرفتي في أن العباس لم يسمح لي بشيء، مع جوده، وتحملت، وخرجت إلى ذلك البلد، فأوصلت الكتاب الذي كتبه لي الكاتب عنه.
فردني ذلك الأمير أقبح رد، وآيسني، وقال: قد بلينا بهؤلاء الشحاذين، يجيئونا في كل يوم بكتب لا تساوي مدادها، ويقطعونا عن أشغالنا، انصرف، فمالك عندي تصرف، ولا بر.
فورد علي ما لم أر مثله، وما هالني وقطع بي، وكنت قد سافرت إليه، وقطعت شقة بعيدة، فانصرفت أسوء الناس حالاً.
وفكرت ليلتي، فقلت: ليس إلا العود إليه، ومداراته، فلعل أن يعطيني قدر نفقة الطريق، فأتحمل بها.

فعدت إليه، وخاطبته بكل رفق وخضوع وسؤال وهو يخشن علي، ويؤيسني، إلى أن قال لحاجبه: أخرجه عني، ولا تدعه بعدها يدخل إلي.
فورد علي أعظم من الأول، وخرجت أخزى خروج، وأقمت أياماً لا أعود إليه، ولا أدري ما أصنع، إلا أن بقالاً في المحلة التي نزلتها يعطيني خبزاً وإداماً بنسيئة.
فجلست إليه يوماً وأنا متحير، والغم بين علي، فسمعت قائلاً يقول: إن الأمير قد جلس للمظالم، جلوساً ارتفع عنه الحجاب فيه، ففكرت كيف أعمل ؟.
وذكرت الكتاب بالسفتجة، فقلت: أمشي وأجعلها نادرة كالظلامة، فإن أعطاني شيئاً، وإلا فضحته بين رعيته، وانصرفت.
فأخذت السفتجة، وجئت، فلم أصادف بالباب من يمنعني، فدخلت إليه.
فحين رآني اغتاظ علي، وقال لحاجبه: ألم آمرك أن لا تدخل هذا إلي.
فقال: كان الإذن عاماً، ولم يميز.
فأقبل الأمير علي، فقال: ألم أقل لك، وأؤيسك مني ؟ فما هذه الملازمة، كأن لك علي ديناً أو سفتجة ؟.
فقلت: نعم، لي على الأمير - أعزه الله - سفتجة.
فازداد غيظه، وقال كالمتعجب: سفتجة، سفتجة ؟.
فأخرجتها، فدفعتها إليه، فلما قرأها عرف الخط والخطاب، فنكس رأسه ساعة، خجلاً، ثم قال لكاتب كان بين يديه، شيئاً لا أعلمه.
فجذبني الكاتب، وقال: إن الأمير قد تذمم مما عاملك به، وأمرني بدفع مائة دينار إليك، فقم معي لتأخذها.
فقلت: ما قصدت الأمير ليبرني، أنا رجل أوصلت إليه سفتجة بمال، فإما قبلها فأعطانيه، فما أريد غيره، ولا أستزيد عليه، ولا أنقص منه شيئاً، وإما كتب لي على السفتجة: راجعة، فأخذتها، وانصرفت.
فساره الكاتب بما قلت، وقوي طمعي في الصنع، فالتفت إلي الكاتب، وقال: قد جعلها لك الأمير مائتي دينار، فانهض لتأخذها.
فقلت، لمن يقول هذا: ما عندي غير ما سمعت، ولان الأمير، وتشددت، ولم يزل الكاتب يتوسط بيننا، إلى أن بذل خمسمائة دينار.
فقلت: على شرط أني لا أبرح من هذا المجلس حتى أقبضها وأسلمها إلى يد تاجر، وآخذ منه سفتجة بها، ويدفع إلي نفقة تكفيني إلى أن أعرف صحة السفتجة، ثم أتحمل بباقي ذلك.
فأجبت إلى ذلك، وأحضر التاجر، والمال، وأخذت منه سفتجة، ودفعوا لي خمسين ديناراً للنفقة، وأقمت مدة، إلى أن عرفت خبر صحة السفتجة، وتحملت ببقية النفقة إلى بلدي.
وحصل لي المال، فجعلته بضاعة في متجر، صلحت به حالي، إلى الآن.

المصافعة

الصفع: ضرب القفا بالكف مبسوطة، والمصافعة: تبادل الصفعات، والصفعان: الذي يصفع كثيراً.
والأصل في الصفع أن يكون للعقوبة والتأديب. كأن يأمر القاضي بصفع من أخل بالحرمة الواجبة نحو مجلس الحكم القصص 2 - 10 و6 - 178 من نشوار المحاضرة للتنخي.
وقد يصفع المتشدق المتقعر في كلامه الامتاع والمؤانسة 2 - 52.
وقد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع رجل ادعى النبوة صلة الطبري 26.
وصفع بعض العامة في البصرة، القاضي أبا خليفة وصحبه، لما حسبوهم يقرأون القرآن بلغة الدجاج مروج الذهب 2 - 501.
وصفع أبو محمد المافروخي الفأفاء، عامل البصرة، ابن أحد خلفائه، لما فأفأ له، حاسباً أنه يحاكيه نشوار المحاضرة، رقم القصة 4 - 14.
وقد يجري الصفع لإجبار المكلف على أداء الضريبة المتحققة عليه القصة 184 من هذا الكتاب أو لإجبار العامل المصروف على سداد ما بذمته من الأموال الأميرية القصة 8 - 21 من كتاب نشوار المحاضرة أو لإجبار من صودر على أداء ما صودر عليه القصة 1 - 35 و3 - 122 من كتاب نشوار المحاضرة، والكامل لابن الأثير 8 - 142، وتجارب الأمم 1 - 110 وصلة الطبري 39، أو لاستخراج الودائع تجارب الأمم 1 - 65 أو لتقرير مبلغ المصادرة تجارب الأمم 1 - 65 أو لإجبار المصفوع على ترك عناده القصة 261 من هذا الكتاب، والقصة 3 - 54 من نشوار المحاضرة.
وقد يرد الصفع عقاباً للمدعي الذي عجز عن القيام بما ادعى، كما حصل لابن المغازلي الذي شرط على نفسه إن لم يضحك المعتضد، أن يصفع عشر صفعات، وعجز عن إضحاكه مروج الذهب 2 - 510 و511.
ولما أراد المكتفي الخروج لقتال القرامطة، منعه المنجم أبو الحسن العاصمي، بحجة أن طالعه يدل على أن خروجه هذا، يؤدي إلى زوال دولته، وخرج المكتفي، واستأصل القرامطة، وعاد مظفراً سالماً، فأمر بالعاصمي فأحضر، وصفع صفعاً عظيماً الفلاكة والمفلوكون 37.

وقد يحصل الصفع للإهانة والايذاء، فقد ذكر أن المتوكل غضب على عمر بن فرج الرخجي، أحد كبار العمال في الدولة، فأمر بأن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع، فكان ستة آلاف صفعة مروج الذهب 2 - 403، وغضب المتوكل على ولده المنتصر، ولي عهده، فأمر بأن يصفع في مجلسه تجارب الأمم 6 - 555 والكامل لابن الأثير 7 - 97، ولزيادة التفصيل راجع تاريخ الطبري 9 - 175، وصلة تاريخ الطبري ص52 و58 و86 والتكملة 37 و41، وتجارب الأمم 1 - 103 والقصة 1 - 119 و4 - 7 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، والقصة 250 و304 من هذا الكتاب، والمستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 29 والوزراء للصابي 46 و264 ووفيات الأعيان 4 - 159 و6 - 58 وحكاية أبي القاسم البغدادي 138 ومرآة الجنان لليافعي 4 - 18.
وقد يقع الصفع على المقامر إذا قمر، كما وقع لأمير البصرة إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، لما قمر، فتحقق عليه حسب الشرط أن يصفع عشر صفعات، فأحالها هذا على صاحب شرطته، وطلب هذا أن يكون الصفع، صفع المداعبة والإخوان، لا صفع العقوبة والسلطان الهفوات النادرة 231.
وأغرب ما أثر عن الصفع، وروده لإيقاع الحجة على الخصم في المناظرة معجم الأدباء 5 - 237.
والذي يتضح من هذه القصة، ومن غيرها من القصص، أن المصافعة، كان لها من يستحسنها، ويستطيبها، ويتملح بذكر فوائدها البصائر والذخائر 4 - 180، وكان لها سوق رائجة.
وكان العباس بن عمرو الغنوي، وهو أحد كبار القواد والولاة العباسيين، من المستهترين بالمصافعة، المكاشفين بها، هو وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به، وأن المصافعة تجري بينهم للمطايبة، القصة 116 من هذا الكتاب، والقصة 8 - 119 من نشوار المحاضرة وأنها تقع على سبيل المباسطة القصة 1 - 51 و166 من نشوار المحاضرة، ومعجم دوزي لأسماء الألبسة 271.
وكان زيادة الله بن الأغلب، أمير أفريقية 172 - 223 قد اتخذ ندامى يتصافعون في حضوره فوات الوفيات 2 - 34 و35.
وكان القاضي محمد بن الخصيب، قاضي مصر ت 348، وهو ممدوح المتنبي، ممن يمازح في المصافعة أخبار القضاة للكندي 579 و580.
وكان للصفاعنة أرزاق في الدولة، ولما وزر أبو الحسن علي بن عيسى في السنة 314 كان من جملة ما صنعه أن أسقط أرزاق الصفاعنة الكامل لابن الأثير 8 - 165.
وسئل القاضي ابن قريعة، عن حد القفا، فقال للسائل: هو ما اشتمل عليه جربانك، وشرطك فيه حجامك، وداعبك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك فيه سلطانك اليتيمة 2 - 238 وتاريخ بغداد للخطيب 2 - 320.
وداعب ابن المرزبان، أبا العيناء، فقال له: لم لبست جباعة ؟ فقال: وما الجباعة ؟ قال: التي بين الجبة والدراعة، فقال: ولم أنت صفديم ؟ قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو بين الصفعان والنديم الملح للحصري 183.
وكان حذاء ماجن بباب الطاق اسمها الآن الصرافية يسمي النعال، بأسماء من جنس الصفعة، فنعل راسكية، ونعل صعلكية، ونعل قفوية القصة 2 - 98 من نشوار المحاضرة.
وأفرد ابن النديم في الفهرست ص157 بحثاً في أخبار الصفادمة والصفاعنة، كما ذكر أن الكتنجي ألف كتاباً سماه: كتاب الصفاعنة الفهرست 170.
والأصل في الصفع أن يحصل، بالكف على القفا، وربما حصل بجراب فارغ أو محشو مروج الذهب 2 - 509 - 511، وقد يحصل بالنعال وفيات الأعيان 4 - 455، أو بقشور القرع اليتيمة 2 - 340، أو بقشور البطيخ الأحمر المسمى في بغداد بالرقي، نسبة إلى الرقة راجع سبب هذه التسمية في حاشية القصة 268 من هذا الكتاب، ولا يوجد الآن ببغداد من يمارس هذا اللون من المباسطة السمجة، وقد أدركت بعض باعة الرقي الأحداث كانوا يتصافعون بقشور الرقي المق فصيحة، والبغداديون يلفظون قافها كافاً فارسية.
وممن أحسن في الإشارة إلى المصافعة، ابن الحلاوي الموصلي ت 656 قال: الوافي بالوفيات 8 - 108
فطبّ طرطبّ فوق راسي ... وطاق طرطاق في قذالي
وقال الشاعر الأندلسي، أبو عبد الله بن الأزرق: نفح الطيب 3 - 229
أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني
فربّما أصفعه ... وربّما يصفعني
طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن
ولأبن الحجاج شعر كثير في المصافعة، أورد بعضه صاحب اليتيمة 3 - 86 - 88، وللأحنف العكبري في المصافعة اليتيمة 3 - 704؛

لقد بتّ بماخور ... على دفّ وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلّير
فصرنا من حمى البيت ... كأنّا وسط تنّور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمي والعور
وممن أحسن في وصف الصفع، جمال الدين بن شيث، المتوفي سنة 625 وقد أورد له صاحب فوات الوفيات 2 - 313 أبياتاً، اخترت منها هذين البيتين:
وتخالفت بيض الأكفّ كأنّها ال ... تصفيق عند مجامع الأعراس
وتطابقت سود الخفاف كأنّها ... وقد المطارق في يد النحّاس
ولأبي الرقعمق، أبي حامد أحمد بن محمد الانطاكي، مقطوعات في المصافعة، راجعها في يتيمة الدهر للثعالبي 1 - 334 - 340.
ولزيادة التفصيل، راجع كتاب الغيث المسجم للصفدي 1 - 203 - 205 وكتاب محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 2 - 699 و700.

السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني

وعودته إلى الحكم

ذكر أصحاب التواريخ، ومصنفو الكتب، وأبو الحسن علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق، على ما أخبرني به أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي عنه في كتابه مناقب الوزراء ومحاسن أخبارهم، وما شاهده أحمد بن يوسف من ذلك، وجماعة حدثوني به، ممن شاهد الحال، منهم أيوب بن العباس بن الحسن، وعلي، والقاسم، ابنا هشام بن عبد الله الكاتب، وأبو الحسين بن عياش الخرزي، خليفة أبي رحمه الله على الحكم بسوق الأهواز، ومن لا أحصي من شيوخنا كثرة، بالسبب في خلع المقتدر عن الخلافة، الخلع الثاني، بعبارات مختلفة، معنى جميعها أن الجيش كله، الفرسان، والرجالة، شغبوا يطلبون الزيادات، ويتبسطون في التماس المحالات، وملوا أيام المقتدر وبغوا عليه بأشياء.
واتفق أن سائساً لهارون بن غريب الخال، علق بغلام في الطريق، للفساد، فرفع إلى أبي الجود، خليفة عجيب، غلام نازوك، على مجلس الجسر بالجانب الغربي، فجاء غلمان هارون يخلصونه ومانعوهم، إلى أن لحقه بعض أصحاب نازوك فصارت بينهم حرب، وانتهت الحال إلى قصص يطول شرحها.
إلى أن أطبق الجيش بأسرهم على خلع المقتدر، فزحفوا إلى داره، بمواطأة من مؤنس المظفر، فقبضوا عليه، وحملوه إلى دار مؤنس، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فحبس فيها، وخلع نفسه، وأشهد عليه بالخلع.
وكان رأس الفتنة، والقائم بها، عبد الله بن حمدان، أبو الهيجاء، ونازوك المعتضدي، على مساعدة لهما من مؤنس، وإطباق من الجيش كلهم، وجاءوا بأبي منصور محمد بن المعتضد بالله، فأجلسوه في دار الخلافة، وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله، فقلد نازوك الحجبة، مضافاً إلى ما كان إليه من الشرطة، وجعله صاحب داره.
فلما كان في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت منه، بكر الناس إلى دار الخليفة للبيعة، وجاءت إلى فناء الدار، مما يلي دجلة، جماعة من الرجالة، يطالبون بمال البيعة والزيادة.
فجاء نازوك وأشرف عليهم من الرواق، ومعه خادم من رؤوس غلمانه يقال له عجيب، فقال لهم: ما تريدون ؟ نعطيكم ثلاث نوائب. فقالوا: لا، إلا أرزاق سنة، وزيادة دينار، وزادوا في القول.
فقال لهم: يصعد إلي منكم جماعة، أفهم عنهم، وأكلمهم، فصعد إليه جماعة منهم، من باب الخاصة، وتسلق إلى الرواق جماعة منهم كبيرة، وثاروا على غير مواطأة، ولا رأي متقرر.
فقال لهم نازوك: اخرجوا إلى مجلس الإعطاء، حتى نخرج المال إلى الكتاب، فيقبضونكم.
فقالوا: لا نقبض إلا ها هنا، وهجموا على التسعيني، يبوقون، ويشتمون نازوك.
فمضى نازوك من بين أيديهم، يريد الممر في الطريق الذي ينفذ إلى دجلة، وكان قد سد آخره بالأمس، إحتياطاً لحفظ من في الدار، وتحرزاً من هربهم، فلما رآه مسدوداً رجع، فاستقبله جماعة من الرجالة يطلبونه.
فوثب عليه رجل أصفر منهم، فضربه بكلاب، وثناه آخر يكون في مطبخ أم المقتدر، وله رزق في الرجالة، يقال له: سعيد، ويلقب: ضفدعاً، فقتلوه، وقتلوا عجيباً، وقالوا: لا نريد إلا خليفتنا جعفر المقتدر، وقتل الخدم في الدار أبا الهيجاء، واختبأ القاهر في بعض الحجر، عند بعض الخدم.
وأقبلوا برأس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرأس، إلى دار مؤنس، وهم يقولون: مقتدر، يا منصور.

فطالبوا مؤنساً بالمقتدر، فخافهم على نفسه، فأخرجه إليهم، والمقتدر يستعفي من الخروج، ويظهر الزهد في الخلافة، ويظن أن ما سمعه حيلة على قتله.
إلى أن سمع صياح الناس: مقتدر، يا منصور، وأعلم بقتل نازوك وأبي الهيجاء، فسكن.
وقعد في طياره، وانحدر إلى داره، والرجالة يعدون على الشط بأزائه، إلى أن خرج من الطيار، فالتحقوا به يقبلون يديه ورجليه، حتى دخل داره.
وأحضر جماعة من الهاشميين وغيرهم، فبايعوه بيعةً ثانيةً، وظهر ابن مقلة وزيره، وكان مستتراً تلك الأيام، فأقره على الوزارة، ودبر أمره، وزال عنه ما كان فيه من المحنة والنكبة، ولم ير خليفة أزيل عن سريره، وأخرج من دار ملكه، وأجلس آخر في موضعه، ولقب لقباً من ألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وأجمع على بيعته أهل المملكة والجيش كله، وعلى خلع الأول وحبسه، ثم رجع إلى أمره، ونهيه، وملكه، وداره، في مدة خمسة أيام، بلا سبب ممهد، ولا مواطأة لأحد، ولا مشاورة، ولا مراسلة، إلا ما اتفق في أمر المقتدر، وأخيه القاهر.

خلع الأمين وعودته إلى الحكم

قال مؤلف هذا الكتاب: وعلى أنه قد كان جرى على محمد الأمين قريب من هذا، لما قبض عليه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وخلعه، وحبسه، وعزم على أن ينفذه إلى المأمون، ثم أن الجيش طالبوه بأرزاقهم، فلم يكن معه، ما يعجله لهم، فوعدهم، فشغبوا، ولم يرضوا بالوعد، واستخرجوا الأمين من حبسه، فبايعوه ثانياً، وردوه، وهرب الحسين بن علي، وزالت عن الأمين تلك الشدة، والقصة في ذلك مشهورة، رواها أصحاب التواريخ، بما يطول اقتصاصه هنا، إلا أنه لم يجلس على سريره خليفة آخر.
كيف خلع المقتدر الخلع الأولقال القاضي أبو علي المحسن بن القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي رحمه الله تعالى: وقد جرت على المقتدر بالله شدة أخرى، وفرج الله عنه، في قصة تشبه قصة الأمين، سواء بسواء، لما أجمع جميع القواد والحاشية، على أن قتلوا العباس بن الحسن، الوزير، وخلعوا المقتدر من الخلافة، الخلع الأول، وبايعوا ابن المعتز، وأحضروه من داره إلى دار سليمان بن وهب، المرسومة - إذ ذاك - بالوزراء، وجلس يأخذ البيعة على القضاة، والأشراف، والكافة، ويدبر الأمور، ووزيره محمد بن داود، ابن الجراح، يكاتب أهل الأطراف، والعمال، والأكناف، بخبر تقلدهما، وقد تلقب بالمنتصر بالله، وخوطب بالخلافة، وأمره في نهاية القوة، وهو على أن يسير إلى دار الخلافة، فيجلس بها، ويقبض على المقتدر، إلا أنه أخر ذلك، لتتكامل البيعة، وتنفذ الكتب، ويسير من غد.
وكان سوسن حاجب المقتدر، والمتولي لأمور داره، والغلمان المرسومين بحمايتها، ممن وافق ابن المعتز، ودخل مع القواد فيما دخلوا فيه، وشرط عليه، أن يقر على ما إليه، ويزاد شرطة بغداد.
فلما جلس ابن المعتز في اليوم الأول، كان المتولي لإيصال الناس إليه، والخادم بحضرته فيما يخدم فيه الحاجب، أحد الخدم غيره.
فبلغ ذلك سوسناً، فشق عليه، وتوهم أن ذلك غدر به، ورجوع عما شرط، وووقف عليه، فدعا الخدم، وغلمان الدار، إلى نصرة المقتدر، فأجابوه، فأغلق الأبواب، وأخذ أهبة الحرب.
وأصبح ابن المعتز، في اليوم الثاني من بيعته، وهو يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، عامداً على المسير إلى الدار، فثبطه محمد بن داود، وعرفه رجوع رأي سوسن، عما كان وافق عليه.
وصغر القواد ذلك في نفسه، فلم يتشاغل بتلافيه، وأشاروا عليه بالركوب إلى دار الخلافة، وهم لا يشكون في تمام الأمر، فركب وهم معه.
وانقلبت العامة مع المقتدر، ورموا ابن المعتز بالستر، وحاربوه مع شرذمة أنفذهم سوسن لحربه ممن أطاعه على نصرة المقتدر.
ولما شاهد ابن المعتز الصورة، انهزم، وهرب، وانحل ذلك الأمر العظيم كله، وتفرق القواد، وسار بعضهم خارجاً عن بغداد، وروسل باقيهم عن المقتدر، بالتلافي، فسكنوا، وعادوا إلى طاعته.
وطلب ابن المعتز، فوجد، وجيء به إلى دار الخلافة، فحبس فيها، ثم قتل، وكانت مدته منذ ظهر يوم السبت، إلى قريب من الظهر من يوم الأحد.
وعاد الأمر مستقيماً للمقتدر بالله، وانفرجت له تلك الشدة، عن ثبات الملك له.
وقد شرح هذا أصحاب التواريخ، بما لا وجه لإعادته ها هنا.
بعث الفضل بن سهل خدابود لقتال خارجي فجاء برأسه

وذكر عبد الله بن بشر، قرابة الفضل بن سهل، قال: كان الفضل إذا دخل مدينة السلام، من السيب - موضع قرية - لحوائجه، وهو - إذ ذاك - صغير الحال، نزل على فامي بها، يقال له: خدابود، فيخدمه هو وأهل بيته، ويقضي حوائجه إلى أن يعود.
وتقضت الأيام، وبلغ الفضل مع المأمون ما بلغ، بخراسان، وقضي أن الفامي ألح عليه الزمان بنكبات متصلة، حتى افتقر، فنهض إلى الفضل بن سهل.
وقدم مرو، فبدأ بي، فسررت به، وأكرمته، وأصلحت من شأنه ما يجب أن يصلح لدخوله على الفضل، وقمت فدخلت إلى الفضل وقد جلس على مائدته.
فقلت له: أتذكر الشيخ الفامي، الذي كنا ننزل عليه ببغداد ؟.
فقال لي: سبحان الله، تقول لي تذكره، وله علينا من الحقوق ما قد علمت ؟ فكيف ذكرته ؟ أظن إنساناً أخبرك بموته.
فقلت: هوذا في منزلي.
فاستطير فرحاً، وقال: هاته الساعة، ثم رفع يده، وقال: لا آكل أو يجيء.
فقمت، وجئت به، فحين قرب منه، تطاول له، وأجلسه بين يديه، فيما بيني وبينه، وأقبل عليه، وقال: يا هذا، ما حبسك عنا طول هذه المدة ؟.
فقال: محن عاقتني، ونكبات أصابتني.
فاقبل يسائله عن واحدة واحدة من بناته وأهله.
فقال له: لم يبق لي بعدك ولد، ولا أهل، ولا مال إلا تلف، وما تحملت إليك، إلا من قرض ومسألة، فكاد الفضل يبكي.
فلما استتم غداءه، أمر له بثياب فاخرة، ومركوب، ومال لنفقته، وأن يدفع إليه منزل، وأثاث، واعتذر إليه، ووعده النظر في أمره.
فلما كان من غد، حضر عنده وكلاء تجار بغداد، وكانوا قد قدموا عليه، يبتغون بيع غلات السواد منه، وأعطوه عطايا لم يجب إليها.
فأحضرني، وقال: قد علمت ما دار بيني وبين هؤلاء، فأخرج إليهم، وأعلمهم أني قد أنفذت البيع لهم، بما التمسوا، على أن يجعلوا لخدابود معهم الربع.
ففعلت ذلك، وأجاب التجار، وفرحوا بما تسهل لهم.
ثم قال لخدابود: إنهم سيهولون عليك بكثرة المؤن، ويبذلون لك مائة ألف درهم على أن تخرج من الشركة، فاحذر أن تفعل، ولا تخرج بأقل من خمسين ألف دينار.
ثم قال: اخرج معه، وتوسط فيما بينهم وبينه، ففعلت ذلك، ولم أقنع حتى قدم التجار لخدابود خمسين ألف دينار، ودخل، فعرف الفضل ما جرى، وشكره، وأقام معنا مدة.
ثم دخل إليه يوماً، والفضل مغموم مفكر، فقال له: أيها الأمير ما الذي قد بلغ بك إلى ما أرى من الفكر والغم ؟ قال: أمر لا أحسب لك فيه عملاً يا خدابود.
قال: فأخبرني به، فإن كان عندي فيه ما يفرجه عنك، وإلا ففي الشكوى راحة.
فقال له الفضل: إن خارجياً قد خرج علينا ببعض كور خراسان، ونحن على إضاقة من المال، وأكثر عساكرنا قد جردوا إلى بغداد، والخارجي يقوى في كل يوم وأنا مرتبك في هذا الأمر.
فقال: أيها الأمير، ما ظننت الأمر، إلا أصعب من هذا، وما هذا حتى تفكر فيه ؟ أنت قد فتحت العراق، وقتلت المخلوع، وأزلت مثل تلك الدولة، وتهتم بهذا اللص الذي لا مادة له ؟ أنفذني إليه أيها الأمير، فإن أتيتك به، أو برأسه، بإقبالك، فهو الذي تريد، وإن قتلت، لم تنثلم الدولة بفقدي، على أني أعلم أن بختك لا يخطئ في هذا المقدار اليسير.
قال: ففكر الفضل ساعة، ثم التفت إلي، فقال: لعل الله يريد أن يعرفنا قدرته بخدابود.
ثم لفق رجالاً، واحتال مالاً، ففرقه عليهم، وخلع على خدابود، وقلده حرب الخارجي، والبلد الذي هو فيه.
فسار خدابود بالعسكر، فلما شارف عسكر الخارجي، جمع وجوه عسكره وقال لهم: إني لست من أهل الحرب، وأعول على نصرة الله تعالى لخليفته على العباد، وعلى إقبال الأمير، وليس هذا الخارجي من أهل المدد، وإنما هو لص لا شوكة له، فاعملوا عمل واثق بالظفر، ولا تقنعوا بدون الوصول إليه، ولكم إن جئتم به، أو برأسه، كذا وكذا.
قال: فحملوا، وحققوا، فانجلت الحرب عن الخارجي قتيلاً، فاحتز رأسه.
وكتب خدابود إلى الفضل، لست ممن يحسن كتب الفتوح، ولا غيرها، ولكن الله جلت عظمته قد أظفرنا بالخارجي، وحصل رأسه معي، وتفرق أصحابه، وأنا أستخلف على الناحية، وأسير برأسه.
قال: وتلا الكتاب مجيء خدابود بالرأس، فعجبنا مما تم له، وعلت حاله مع الفضل.

موت زياد يفرج عن ابن أبي ليلى

وذكر أبو الحسن المدائني، في كتابه كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة عن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال:

كتب معاوية، إلى زايد: إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر ابن عدي، فابعث لي رجلاً من أهل المصر، له فضل، ودين، وعلم، فدعا عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب إلي يأمرني أن أوجه إليه رجلاً من أهل المصر، له دين وفضل وعلم، ليسأله عن حجر بن عدي، فكنت عندي ذلك الرجل، فإياك أن تقبح له رأيه في حجر، فأقتلك، وأمر له بألفي درهم، وكساه حلتين، وحمله على راحلتين.
قال عبد الرحمن: فسرت، وما في الأرض خطوة، أشد علي، من خطوة تدنيني إلى معاوية.
فقدمت بابه، فاستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فسألني عن سفري، ومن خلفت من أهل المصر، وعن خبر العامة والخاصة.
ثم قال لي: انطلق فضع ثياب سفرك، والبس الثياب التي لحضرك، وعد.
فانصرفت إلى منزلي، ثم رجعت إليه، فذكر حجراً، ثم قال: أما والله، لقد تلجلج في صدري منه شيء، ووددت أني لم أكن قتلته.
قلت: وأنا والله يا معاوية، وددت أنك لم تقتله، فبكى.
فقلت: والله، لوددت أنك حبسته.
فقال لي: وددت أني كنت فرقتهم في كور الشام، فتكفينيهم الطواعين.
قلت: وددت ذلك.
فقال لي: كم أعطاك زياد ؟ قلت: ألفين، وكساني حلتين، وحملني على راحلتين.
قال: فلك مثل ما أعطاك، أخرج إلى بلدك.
فخرجت وما في الأرض شيء أشد علي من أمر يدنيني من زياد، مخافة منه.
فقلت: آتي اليمن، ثم فكرت، فقلت: لا أخفى بها.
فأجمعت على أن آتي بعض عجائز الحي، فأتوارى عندها، إلى أن يأتي الله بالفرج من عنده.
قال: وقدمت الكوفة، فأمر بجهينة الظاهرة، حين طلع الفجر، ومؤذنهم يؤذن.
فقلت: لو صليت، فنزلت، فصرت في المسجد، حتى أقام المؤذن.
فلما قضينا الصلاة، إذا رجل في مؤخر الصف، يقول: هل علمتم ما حدث البارحة ؟ قالوا: وما حدث ؟ قال: مات الأمير زياد.
قال: فما سررت بشيء، كسروري بذلك.

معاوية بن أبي سفيان

أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية 20 ق - 60: مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب المتميزين الكبار، حكم الشام حكماً مستمراً، دام ما يزيد على الأربعين سنة، قضى بعضها 18 - 35 أميراً، وقضى الباقي متغلباً، ولاه على الشام الخليفة عمر، ولما ولي عثمان جمع له الديار الشامية كلها، ولما ولي علي عزله، فخرج على علي بحجة المطالبة بدم عثمان الأعلام 8 - 172 حتى إذا قتل علي، وتمكن من السيطرة ترك المطالبة بدم عثمان البصائر والذخائر 2 - 586.
وهو أول من لعن المسلمين على المنابر العقد الفريد 4 - 366 و5 - 91 وأول من حبس النساء بجرائر الرجال، إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، لموالاته علياً، وحبس امرأته بدمشق، حتى إذا قطع عنقه، بعث بالرأس إلى امرأته وهي في السجن، وأمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها بلاغات النساء 64 واليعقوبي 2 - 232 والديارات 179 و180.
وكان يفرض على الناس لعن علي والبراءة منه، ومن أبى، قتله، أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حياً العقد الفريد 3 - 234 و4 - 34 والأغاني 18 - 150 وابن الأثير 3 - 485 والأغاني 17 - 153.
وهو أول من سخر الناس، واستصفى أموالهم، وأخذها لنفسه اليعقوبي 2 - 232 وهو أول من حبس على معارضيه أعطياتهم أدب الكتاب للصولي 2 - 224 محتجاً بأن العطاء ينزل من خزائن الله، فقال له الأحنف: إنا لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله من خزائنه، فجعلته في خزائنك، وحلت بيننا وبينه البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لشريك بن عبد الله، إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا، لو كان حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً كتاب الآداب لجعفر 22 و23.
وروى ابن الجوزي، عن الحسن البصري، إنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، وهي: أخذه الخلافة بالسيف، من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياد أخاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر، وأصحاب حجر خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.

وقال نيكلسون: اعتبر المسلمون انتصار بني أمية، وعلى رأسهم معاوية، انتصاراً للأرستقراطية الوثنية، التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتى قضى عليها، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها. وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، لذلك، لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية، وغطرستهم، لا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالاً كثيرين، لم يعتنقوا الإسلام إلا سعياً وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكاً كسروياً، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك تاريخ الإسلام 1 - 278 و279.
وكان مصروف الهمة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كل شيء إذا انتظم أمر الملك الفخري 107 ولما استولى على الملك، استبد على جميع المسلمين، وقلب الخلافة ملكاً رسائل الجاحظ 14 - 16 وكان يقول: إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان محاضرات الأدباء 1 - 226.
وختم معاوية أعماله، بإرادته أن يظهر العهد ليزيد، فقال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون ؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودس ابن أثال الطبيب إلى عبد الرحمن، فسقاه سماً، فمات الأغاني 16 - 197.
ثم فرض ولده يزيد على الناس فرضاً، وحملهم على بيعته قسراً، وأوعز إلى رجل من الأزد، اسمه يزيد بن المقفع، فقام خطيباً وقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية، فإذا مات فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف، فقال له معاوية: أقعد، فأنت سيد الخطباء العقد الفريد 4 - 370 ومروج الذهب 2 - 21.
إقرأ بعض أخبار معاوية في تاريخ اليعقوبي 2 - 217 وفي الامتاع والمؤانسة 2 - 75 و3 - 178 وفي محاضرات الأدباء 1 - 353 وفي كتاب التاج للجاحظ 205 وفي المحاسن والمساوئ 2 - 148 وفي البيان والتبيين للجاحظ 2 - 87 و110 و4 - 133 وفي الأغاني 4 - 189 و6 - 266 و15 - 168، 197 و198 و17 - 144 وفي وفيات الأعيان 2 - 169 وفي الفخري 106 - 110 وفي البصائر والذخائر م2 ق2 ص671 و702 وفي نفح الطيب 2 - 542 وفي خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.
خرج يريد خالداً القسري فأعطاه الحكم فأغناه
وقد أخبرني علي بن دبيس، عن الخزاعي المدائني، عن أبي عمر الزاهد وقد لقيت أبا عمر، وحملت منه شيئاً من علومه ورواياته، وأجاز لي كل ما صح منها، فدخل هذا في إجازته.
وحدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الوراق، في كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني عمي مصعب، عن نوفل بن عمارة: أن رجلاً من قريش، من بني أمية، له قدر وخطر، لحقه دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يقصد خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبر من قدم عليه من قريش.
فخرج الرجل يريده، وأعد له من طرف المدينة، حتى قدم فيد، فأصبح بها.
فرأى فسطاطاً، عنده جماعة، فسأل عنه، فقيل: للحكم بن عبد المطلب، يعني أبا عبد الله بن عبد المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، وكان يلي المشاعر، فلبس نعليه، وخرج حتى دخل عليه.
فلما رآه، قام إليه فتلقاه، وسلم عليه وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه، فأخبره بدينه، وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله.
فقال الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه، حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التي أعدها لخالد، فتحدث ساعة معه.
ثم قال: إن منزلنا أحضر عدة، وأنتم مسافرون، ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معي إلى المنزل، وجعلت لنا من هذه الهدايا نصيباً.
فقام الرجل معه، وقال: خذ منها ما أحببت، فأمر بها، فحملت كلها إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئاً، حتى صار إلى المنزل.
فدعا بالغداء، وأمر بالهدايا، ففتحت، فأكل منها، ومن حضره، ثم أمر ببقيتها فرفعت إلى خزانته، وقام الناس.

ثم أقبل على الرجل، وقال له: أنا أولى بك من خالد، وأقرب منه رحماً ومنزلاً، وها هنا مال للغارمين، أنت أولى الناس به، وأقرب، وليس لأحد عليك فيه منة، إلا الله تعالى، تقضي به دينك، ثم دعا له بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فدفعت إليه.
ثم قال: قد قرب الله - جلت عظمته - عليك الخطوة، فانصرف إلى أهلك مصاحباً، محفوظاً.
فقام الرجل من عنده، يدعو له ويشكره، ولم يكن له همة إلا الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم يشيعه.
ثم قال: كأني بزوجتك، قد قالت: أين طرائف العراق، خزها، وبزها، وعروضها، أما كان لنا منها نصيب ؟ ثم أخرج صرة قد كان حملها معه، فيها خمسمائة دينار، فقال له: أقسمت عليك، إلا جعلت هذه عوضاً عن هدايا العراق، وانصرف.
وذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر، في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة، بغير إسناد، على قريب من هذه العبارة.

لا بارك الله في مال بعد عثمان

وذكر أيضاً في كتابه، بغير إسناد: أن عثمان بن طلحة، ركبه دين فادح، مبلغه ألفا دينار، فأراد الخروج إلى العراق، لمسألة السلطان قضاءه عنه.
فلما عزم على السفر، اتصل خبره بأخيه جعفر بن طلحة، فقال: لا بارك الله في مال بعد عثمان.
فدخل على نسائه، فجعل يخلع حليهن، حتى جمع له أكثر من ألفي دينار، فدفعها إليه.
فقضى دينه، وأقام.
رفع صوته بالتلبية فحملت إليه أربعة آلاف ديناروحدثنا أحمد بن عبد الله، في هذا الكتاب، كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مفضل بن غسان، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر، من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاءً، فأعطى حتى بقي في إزار واحد، وحج معه أصحابه.
فلما نزل الروحاء، أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة، وما بقي معنا درهم.
فرفع محمد صوته بالتلبية، فلبى، ولبى أصحابه، ولبى الناس، وبالماء محمد بن هشام.
فقال: والله، إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء، فانظروا.
فنظروا، وأتوه فقالوا: هو بالماء.
فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة ويوليه العراققال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: نالت عمر بن هبيرة، إضاقة شديدة، فأصبح ذات يوم، في نهاية الكسل، وضيق الصدر، والضجر مما هو فيه.
فقال له أهله ومواليه: لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين، فلعله - إذا رآك - أن يجري لك شيئاً فيه محبة، أو يسألك عن حالك، فتخبره.
فركب، فدخل على يزيد بن عبد الملك، فوقف بين يديه ساعة، وخاطبه.
ثم نظر يزيد بن عبد الملك إلى وجه عمر، وقد تغير تغيراً شديداً، أنكره، فقال: أتريد الخلاء ؟ قال: لا.
قال: إن لك لشأناً.
قال: يا أمير المؤمنين، أجد بين كتفي أذىً لا أدري ما هو.
قال يزيد بن عبد الملك: انظروا ما هو.
فنظروا، فإذا بين كتفيه عقرب، قد ضربته عدة ضربات.
فلم يبرح حتى كتب عهده على العراق، وجعل يزيد بن عبد الملك يصفه بالرجلة، وشدة القلب.
كان خالد القسري لا يملك إلا ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراقوذكر أبو الحسين في كتابه: أن خالد بن عبد الله القسري، أصابته إضاقة شديدة، فبينما هو ذات يوم في منزله، إذ أتاه رسول هشام بن عبد الملك يدعوه لولاية العراق، فتلوم، فاستحثه الرسول.
فقال له خالد: رويداً حتى يجف قميصي، وقد كان غسله قبل موافاة الرسول، ولم يكن بقي له غيره.
فقال له الرسول: يا هذا، أسرع في الإجابة، فإنك تدعى إلى قمصان كثيرة.
فجاء إلى هشام، فولاه العراق.
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين
قال: ومن الأعجوبات، ما ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، عن علي بن الهيثم، قال: رأيت شيئاً قلما رئي مثله، رأيت ثقل الفضل بن الربيع، على ألف بعير، ثم رأيت ثقله في زنبيل، ونحن مستترون، وفيه أدوية لعلته، وهو ينقله من موضع إلى موضع.
ورأيت الحسن بن سهل، وكان مع طريف خادمي في بيت الدهليز، وثقله في زنبيل، فيه نعلان، وقميصان، وإزار، وإسطرلاب، وما أشبه ذلك، ثم رأيت ثقله على ألف بعير.
باع من إضاقته لجام دابته في الصباح وحلت له عشرون ألف دينار وقت الظهرقال: وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثنا أبو القاسم ميمون بن موسى قال:

خرج رجل من الكتاب في عسكر المعتصم إلى مصر، يريد التصرف، فلم يحظ بشيء مما أمل، ودخل المعتصم بالله مصر.
قال: فحدثني بعض المتصرفين عنه، قال: نزلت في دار بالقرب منه، فحدثني الرجل بما كنت وقفت على بعضه.
قال: أصبحت ذات يوم، وقد نفدت نفقتي، وتقطعت ثيابي، وأنا من الهم، والغم، على ما لا يوصف عظماً.
فقال لي غلامي: يا مولاي، أي شيء نعمل اليوم ؟ فقلت له: خذ لجام الدابة، فبعه، فإنه محلى، وابتع مكانه لجاماً حديداً، واشتر لنا خبزاً سميذاً، وجدياً سميناً، فقد قرمت إلى أكلهما، وعجل، ولا تدع أن تبتاع فيما تبتاعه كوز نبيذ شيروي.
فمضى الغلام، وجلست أفكر في أمري، ومن ألاقي، وكيف أعمل، وإذا بباب الدار قد دق دقاً عنيفاً، حتى كاد أن يكسر، وإذا رهج شديد.
فقلت لغلام كان واقفاً بين يدي: بادر، فانظر ما هذا.
فإلى أن يفتح الباب، كسر، وامتلأت الدار بالغلمان الأتراك وغيرهم، وإذا بأشناس، وهو حاجب المعتصم، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير، قد دخلا.
فطرحت لهم زلية، فجلسا عليها، وإذا معهما حفارون.
قال: فلما رأيت ذلك، بادرت فقبلت أيديهما، فسألاني عن خبري، فخبرتهما إياه، وأنني قد خرجت في جملة أهل العسكر، طلباً للتصرف، وذكرت حالي وما قد آلت إليه، فوعداني جميلاً، والحفارون يحفرون في وسط الدار، حتى ترجل النهار، وأنا واقف بين أيديهما، وربما حدثتهما.
فالتفت أشناس إلى محمد بن عبد الملك فقال: أنا والله جائع.
فقال له محمد: وأنا - والله - كذلك.
فقلت عند ذلك: يا سيدي، عند خادمكما شيء قد اتخذ له، فإن أذنتما في إحضاره أحضره.
فقالا: هات.
فقدمت الجدي، وما كان ابتيع لنا، فأكلا، واستوفيا، وغسلا أيديهما.
ثم قال لي أشناس: عندك شيء من ذلك الفن ؟ قلت: نعم، فسقيتهما ثلاثة أقداح.
وجعل أحدهما يقول للآخر: ظريف، وما ينبغي لنا أن نضيعه البائس.
فبينما الحال على ذلك، إذ أرتفع تكبير الحفارين، وإذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلاً دنانير، فوجهوا بالبشارة إلى المعتصم، وأخرجت المراجل.
فلما نهضا، قال أحدهما للآخر: فهذا الشقي الذي أكلنا طعامه، وشربنا شرابه، ندعه هكذا ؟ فقال له الآخر: فنعمل ماذا ؟ قال: نحفن له من كل مرجل حفنة، لا تؤثر فيه، فنكون قد أغنيناه، ونصدق أمير المؤمنين عن الحديث.
ثم قالا: افتح حجرك، وجعل كل واحد، يحفن لي حفنة، من كل مرجل، وأخذا المال، وانصرفا.
فنظرت، فإذا قد حصل لي عشرون ألف دينار، فانصرفت بها إلى العراق، وابتعت بها ضياعاً ولزمت منزلي، وتركت التصرف.

سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوق في قبح وجهك

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، عن أبي قلابة المحدث، قال: ضقت ضيقة شديدة، فأصبحت ذات يوم، والمطر يجيء كأفواه القرب، والصبيان يتضورون جوعاً، وما معي حبة واحدة فما فوقها، فبقيت متحيراً في أمري.
فخرجت، وجلست في دهليزي، وفتحت بابي، وجعلت أفكر في أمري، ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه، وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر.
فإذا بامرأة نبيلة، على حمار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل، فلما صار بإزاء داري، سلم، وقال: أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله، وأنا هو.
فسألتني عن مسألة، فأفتيتها فيها، فصادف ذلك ما أحبت، فأخرجت من خفها خريطة، فدفعت إلي منها ثلاثين ديناراً.
ثم قالت: يا أبا قلابة، سبحان خالقك، فقد تنوق في قبح وجهك، وانصرفت.
المنصور العباسي يتذكر ما ارتكب من العظائم فيبكي وينتحبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: دخل عمرو بن عبيد، على أبي جعفر المنصور قبل دولة بني العباس، وكان صديقه، وبين يديه طبق عليه رغيف، وغضارة فيها فضلة سكباج، وهو يتغدى، وقد كاد يفرغ، فلما بصر بعمرو، قال: يا جارية، زيدينا من هذا السكباج، وهاتي خبزاً.
قالت: ليس عندنا خبز، وما بقى من السكباج شيء.
قال: فارفعي الطبق، ثم قال: " عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون " .
فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر، وارتكب العظائم، دخل عليه عمرو بن عبيد، فوعظه، ثم قال: أتذكر يوماً دخلت عليك ... وأعاد الحديث، وقد استخلفك، فماذا عملت ؟ فجعل المنصور يبكي وينتحب، وفيه حديث طويل.

ارتكب المنصور فظائع من قتل، وتعذيب، ودفن الناس أحياء، ودق الأوتاد في الأعين، وبناء الحيطان على الأحياء، وكان يشهد تعذيب من يأمر بتعذيبه، حتى أنه كان يشهد تعذيب النساء أيضاً.
راجع في الفخري 165 سبب حبس آل الحسن، وقتلهم، وقد حبسهم المنصور في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار، وسواد الليل، وهدم الحبس على قسم منهم، وكانوا يتوضؤون أي يقضون حاجاتهم في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، وكان الورم يبدو في أقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ القلب، فيموت صاحبه، ومات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جيف، فصعق داود بن الحسن، ومات مروج الذهب 2 - 236.
وبلغ المنصور أن عبد الله بن محمد النفس الزكية، فر منه إلى السند، فبعث وراءه من قتله مقاتل الطالبيين 310 - 313، وأمر المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي الفخري 164، ومقاتل الطالبيين 200، والطبري 7 - 546 وابن الأثير 5 - 526 وأمر بعبد الله بن الحسن بن الحسن فطرح عليه بيت فقتله مقاتل الطالبيين 228 أما الباقون فما زالوا في الحبس حتى ماتوا، وقيل إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان اليعقوبي 2 - 370.
وأمر المنصور بإبراهيم بن الحسن بن الحسن، فدفن حياً مقاتل الطالبيين 28 وجرد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة بنت الحسين، فضرب ألف سوط مروج الذهب 2 - 236 وأمر بأن يدق وجهه بالجرز، وهو العمود من الحديد الطبري 7 - 543 وبلغ من شدة الضرب أن أخرج وكأنه زنجي مقاتل الطالبيين 220 وابن الأثير 5 - 525 وجاءت إحدى الضربات على عينه، فسالت مقاتل الطالبيين 220 والطبري 7 - 542 ثم قتله، وقطع عنقه مقاتل الطالبيين 226.
ولما حمل رأس محمد بن عبد الله إلى المنصور، قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمداً بايعني ؟ فقال: أشهد بالله لقد أخبرتني بأن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له، فشتمه، وأمر به، فوتد في عينيه المحاسن والمساوئ 2 - 138.
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله في باخمرى، بعث المنصور برأسه إلى أبيه عبد الله فوضعه بين يديه مروج الذهب 2 - 236 و237 وأمر بسديف بن ميمون الشاعر، فدفن حياً العقد الفريد 5 - 87 - 89.
ومن بعد وفاة المنصور عثر المهدي، وزوجته ريطة، على أزج في قصر المنصور، فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال، شباب ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى المهدي ذلك، ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة دفنوا فيها الطبري 8 - 105.
ولما طال حبس عبد الله بن الحسن، وأهل بيته، جلست إحدى بناته للمنصور، فتوسلت إليه بالقرابة، وطلبت منه الرحمة، فقال لها: أذكرتنيه، وأمر به فحدر إلى المطبق وكان آخر العهد به تاريخ بغداد للخطيب 9 - 432.
ومما يبعث على العجب أن المنصور، الذي ضرب أسوء الأمثال في القسوة، أوصى ولده المهدي، فقال: أحفظ محمداً في أمته، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، وافتتح عملك بصلة الرحم، وبر القرابة الطبري 8 - 105 و106.

إن قرح الفؤاد يجرح جرحا

ً
وذكر القاضي أبو الحسين، قال: روي لنا عن خالد بن أحمد البطحاوي، مولى آل جعفر بن أبي طالب، قال: تزوجت امرأة، فبينا أنا ذات ليلة من ليالي العرس، وليس عندنا قليل ولا كثير، وأنا أهم الناس بذلك، إذ جاءتني امرأتان، فطرقتا باب منزلي، فخرجت إليهما، فإذا بجارية شابة، وأخرى نصف.
فقالت: أنت خالد البطحاوي ؟.
قلت: نعم.
قالت: أحب أن تنشدنا قولك: خلفوني ببطن حام، فأنشدتهما:
خلّفوني ببطن حامٍ صريعاً ... ثمّ ولّوا وغادروني صبحا
جمع اللّه بين كلّ محبٍّ ... ذبحوه بشفرة الحبّ ذبحا
غادر الحبّ في فؤادي قرحاً ... إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
قال: فرمت إلي الشابة بدملج ذهب، وانصرفتا، فبعته بجملة دراهم، واتسعت بها.
أبو عمر القاضي يصبح وليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، قال: أضقت إضاقة شديدة، في نكبتي، وأصبحت يوماً، وما عندي درهم واحد فما فوقه، وكان الوقت شتاءً، والمطر يجيء.

فجلست ضيق الصدر، مفكراً في أمري، إذ جاءني صديق لي، فقال: قد جئت لأقيم عندك اليوم، فازداد ضيق صدري، وقلت له: بالرحب والسعة، وأظهرت له السرور بمجيئه.
ودخلت إلى النساء، فقلت لهن: احتلن فيما ننفق في هذا اليوم، على رهن أو بيع شيء من البيت، فقد طرقنا ضيف.
وخرجت، فجلست مع الرجل، وأنا على نهاية من شغل القلب، خوفاً أن لا يتفق قرض، ولا بيع، لأجل المطر.
فأنا كذلك، إذ دخل الغلام، فقال: خليفة أبي الأغر السلمي بالباب.
فقلت: أي وقت هذا لخليفة أبي الأغر ؟ وأمرته أن يخرج فيصرفه، ثم تذممت من صرفه، وقد قصدني في مثل هذا اليوم.
فقلت: قل له يدخل.
فدخل، وحادثني قليلاً، ثم قرب مني، وأخرج صرة فيها مائة دينار.
وقال: يقول لك أخوك: وجهت إليك بهذه الصرة، فتأمر بصرفها في مثل هذا اليوم، في بعض ما يصلح حالك.
فامتنعت من قبولها، فلم يزل خليفته يلطف بي، حتى قبلتها.

بين أحمد بن أبي خالد وصالح الأضجم

حدثني أبي، أبو القاسم التنوخي، في المذاكرة، بإسناد ذهب عن حفظي، قال: كان أحمد بن أبي خالد، بغيضاً، قبيح اللهجة، وكان مع ذلك حراً، وكان يلزمه رجل متعطل من طلاب التصرف يقال له: صالح بن علي الأضجم، من وجوه الكتاب، فحدث، قال: طالت بي العطلة في أيام المأمون، والوزير - إذ ذاك - أحمد بن أبي خالد، وضاقت حالي، حتى خشيت التكشف.
فبكرت يوماً إلى أحمد بن أبي خالد مغلساً، لأكلمه في أمري، فرأيت بابه قد فتح، وخرج بين يديه شمعة، يريد دار المأمون.
فلما نظر إلي، أنكر علي بكوري، وعبس في وجهي، وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا.
فلم تصبر نفسي أن قلت: ليس العجب منك - أصلحك الله - فيما استقبلتني به، وإنما العجب مني، وقد سهرت ليلتي، وأسهرت من في داري تأميلاً لك، وتوقعاً للصبح، لأصير إليك، فأبثك أمري، وأستعين بك على صلاح حالي، وإلا فعلي، وعلي، وحلفت يميناً غليظة، لا وقفت ببابك، ولا سألتك حاجة، حتى تصير إلي معتذراً مما كلمتني به.
وانصرفت مغموماً، مكروباً بما لقيني به، متندماً على ما فرط مني، غير شاك في العطب، إذ كنت لا أقدر على الحنث، وكان ابن أبي خالد، لا يلتفت إلى إبرار قسمي.
فإني لكذلك، وقد طلعت الشمس، إذ طلع بعض غلماني، فقال: أحمد بن أبي خالد، مقبل في الشارع، ثم دخل آخر، فقال: قد دخل دربنا، ثم دخل آخر، فقال: قد وقف على الباب، ثم تبادر الغلمان بدخوله الدهليز، فخرجت مستقبلاً له.
فلما استقر به مجلسه في داري، ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فقال: إن أمير المؤمنين، كان أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته، فدخلت إليه، وقد غلبني الفكر، لما فرط مني إليك، حتى أنكر ذلك، فقصصت عليه قصتي معك.
فقال: قد أسأت بالرجل، قم، فامض إليه، فاعتذر مما قلت له.
قلت: فأمضي إليه فارغ اليد ؟ قال: فتريد ماذا ؟ قلت: يقضي دينه.
قال: كم هو ؟.
قلت: ثلثمائة ألف درهم.
قال: وقع له بذلك.
قلت: فيرجع بعد إلى الدين ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم أخرى.
قلت: فولاية يشرف بها.
قال: وله مصر، أو غيرها، مما يشبهها.
قلت: ومعونة على سفره ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم ثالثة.
قال: وأخرج التوقيع من خفه، بالولاية، وبتسعمائة ألف درهم، فدفع ذلك إلي، وانصرف.
وقد ذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، الخبر على قريب من هذا.
جندي تركي تشتد إضاقته ثم يأتيه الفرجوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثنا إبراهيم بن القاسم، قال: كان في جيراني، بالجانب الشرقي، من مدينة السلام، رجل من الأتراك، له رزق في الجند، فتأخر رزقه في أيام المكتفي، ووزارة العباس بن الحسن، فساءت حاله، ورثت هيأته، حتى أدمن الجلوس عند خباز كان بالقرب منا، وكان يستسعفه، فيعطيه في كل يوم خمسة أرطال خبزاً، يتقوت بها هو وعياله.
فاجتمع عليه للخباز شيء، ضاق به صدر الخباز معه أن يعطيه سواه، فمنعه، فخرج ذات يوم، فجلس، وهو عظيم الهم، ثم كشف لي حديثه.
وقال: قد عملت على مسألة كل من يشتري من الخباز شيئاً، أن يتصدق علي، فقد حملني الجوع على هذا، وكلما أردت فعله، منعتني نفسي منه.
فبينما هو معي في هذا، إذ جاء رجل بزي نقيب، يسأل عنه، فدل عليه، فوجده جالساً عند الخباز.
فقال له: قم.
فقال: إلى أين ؟

قال: إلى الديوان، حتى تقبض رزقك، فقد خرج لك ولأصحابك رزق شهرين، فمضى معه.
فلما كان بعد ساعة، جاءني، وقد قبض مائتين وأربعين ديناراً.
فرم منزله، وأصلح حاله، وحال عياله، وأبتاع دابةً وسرجاً وسلاحاً، وقضى دينه، وخرج مع قائد كان برسمه، وحسنت حالته.

أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطة

وذكر أبو الحسين في كتابه عن الحسين بن موسى، أخي إبراهيم بن موسى، قال: خرجت إلى فارس، في أيام المعتمد على الله، فمررت بالأهواز، والمتقلد لخراجها أحمد بن مسروق، فاجتمعنا، وتذاكرنا حديث الغم والفرج، وما ينال الناس منهما، ومن المرض والصحة.
فحدثني: أنه كان في ناحية إسحاق بن إبراهيم، فلما توفي، وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر، تعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وحالفته أمراض كثيرة، فكان لا يصح له بدن يوماً واحداً.
قال: وكان له رفيق، فخرج إلى سر من رأى، فتعلق بالفتح بن خاقان، فحسنت حاله.
قال: فكان يكتب إلي في الخروج إليه، فيمنعني من ذلك عوز النفقة.
فإني لمغموم، مفكر في الحال التي أنا عليها، إذ دخل بعض نسائنا، فلامتني على طول الهم والغم، وقالت: كن اليوم عندي، حتى أذبح لك مخلفة بطة سمنت لنا، وتجتمع مع جواريك، فيغنين لك وتتفرج.
فقلت: نعم، وجئت إلى منزلنا، وذبحت البطة، فإذا قد خرجت إلي، ومعها حجر أحمر، لم تدر ما هو.
فقالت: خرج هذا من قانصة البطة، فما هو ؟ قلت: لا أدري، ولكن هبيه لي حتى أريه لمن يعرفه.
فقالت: خذه، فرأيت شيئاً لم أعرفه، إلا أني بعثت به إلى صديق لي بباب الطاق، وسألته أن يبيعه لي.
فقال: نعم، ثم إنه غسله بماء حار، وباعه بمائة وثلاثين ديناراً.
فأخذت الدنانير، واشتريت مركوباً، وتجهزت إلى سر من رأى، فلزمت أبا نوح، وباب الفتح بن خاقان، فنفدت نفقتي، وجعل رفيقي ينفق علي، ويقرضني.
فدعاني الفتح بن خاقان يوماً، وقد يئست منه، وإذا بين يديه أبو نوح، فقال: هذا أحمد بن مسروق ؟ قال: نعم.
قال: كيف أنت إن أنفذتك في أمر، واصطنعتك ؟ قلت: إني كنت مع الخراسانية كاتباً أعرف جميع الأعمال.
فأدخلني إلى المتوكل، فلما وقفت بين يديه، قال: إنا ننفذك في أمر هو محنتك، وبه ارتفاعك أو سقوطك، فانظر كيف تكون ؟ قال: فقبلت الأرض، ووعدت الكفاية به من نفسي.
وخرج الفتح، ومعه عبيد الله بن يحيى، فوقع لي عبيد الله بأجر ثلاثة آلاف درهم، مع الشاكرية الذين يقبضون عشرة أشهر من السنة، والإستقبال في أول شهر يوضع لهم، ووقع إلى خازن بيت المال بأن يدفع إلي ثلاثين ألف درهم معونة.
وكتب كتبي بالنظر في مصالح الأهواز، وأشياء هناك بالستر والأمانة، احتيج إلى كشفها، فسرت إليها، وبلغت في الأمور ما أحمد.
فصار رسمي أن أقلد أعمالها، فمرة المعونة، ومرة الخراج، ومرة يجمعان لي جميعاً.
فزالت تلك العلل والأمراض التي كانت قد حالفتني، ولا أعرف لذلك سبباً غير الفرج.
فقال الحسين بن موسى، لأحمد بن مسروق: على ذكر وجود الحجر في قانصة البطة: أخبرك أني لما سرت في سفرتي هذه، إلى الموضع المعروف باصطربند، رأيت بستاناً حسناً، فيه باقلى وخضرة، بعقب مطرة، فاستحسنته، فعدلت إليه.
فقال: عساه البستان الذي فيه الصخرة التي كأنها نابتة.
قلت: هو.
قال: هيه.
قلت: فتغدينا فيه، وشربنا أقداحاً، وكنت مستنداً إلى الصخرة، فلما نهضنا، رأيت في وسط الصخرة نقرة، قد اجتمع فيها ماء المطر، فهو في غاية الصفاء.
فوضعت فمي لأشرب منه، فتحرك فيه شيء، فنحيت فمي عنه، وتأملته، فبدت لي خرقة، فجذبتها، فإذا صرة.
فقال أحمد بن مسروق: صرتي، والله، كان فيها ثلثمائة دينار.
قلت: نعم، فمن أين صارت لك ؟.
قال: مررت بهذا الموضع، آخر خرجة خرجتها إلى الأهواز، فملت إلى الموضع، كما ملت، وكانت هذه الصرة في يدي، فوضعتها في الحجر، وأنسيتها وركبت، ثم طلبتها، فلم أجدها، ولا علمت أين وضعتها، إلا الساعة، فذكرتها بحديثك.
قلت: فالدنانير مع غلامي.
قال: خذها، بارك الله لك فيها، وأبرأت ذمتك منها.
أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب الله له درة بمائة وعشرين ألفاً

قال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد، قال: حدث حمد بن إبراهيم بن عمر البرقي، قال: حدثنا العباس بن محمد البرقي، ل: حدثنا أبو زيد، عن الفضيل بن عياض، قال: حدثني رجل: أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقاً، فمر على رجلين، كل واحد منهما آخذ برأس صاحبه.
فقال: ما هذا ؟ فقيل: يقتتلان في درهم، فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره.
فأتى إلى امرأته، فأخبرها بما جرى له، فجمعت له أشياء من البيت، فذهب ليبيعها، فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت.
فقال له: إن معك شيئاً قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا ؟ فباعه.
وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة، فقد هلكنا من الجوع.
فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة، فإذا هي بلؤلؤة، قد خرجت من جوفها.
فقالت المرأة: يا سيدي، قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج، وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني، فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحارلبه.
فقال لزوجته: هذه أظنها لؤلؤة.
فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤة.
قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك، ثم أخذها، وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ، إلى صديق له جوهري، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وجلس إلى جانبه يتحدث، وأخرج تلك البيضة.
وقال: أنظر كم قيمة هذه ؟ قال: فنظر زماناً طويلاً، ثم قال: لك بها علي أربعون ألفاً، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فنظر إليها واستحسنها، وقال: لك بها علي ثمانون ألفاً، وإن شئت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإني أراه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فقال: لك بها علي مائة وعشرون ألفاً، ولا أرى أحداً يزيدك فوق ذلك شيئاً.
فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم أثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله، ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب، يسأل.
فقال: هذه قصتي التي كنت عليها، أدخل، فدخل الرجل.
فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير، ست بدر، فحملها، ثم تباعد غير بعيد، ورجع إليه.
وقال: ما أنا بمسكين، ولا فقير، وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل، الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطاً، فهذا الذي أعطاك، قيراط منه، وذخر لك تسعة عشر قيراطاً.

يحيى البرمكي يتحدث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: روي أن خالد بن برمك، قال لابنه يحيى، في إضاقة نالته: قد ترى ما نحن فيه، فلو لقيت يعقوب بن داود، وشكوت إليه ما نحن فيه.
فأتى يعقوب بن داود، فذكر له ذلك، فسكت عنه، فانصرف يحيى، وهو مكروب، آيس من خيره، فأخبره أباه.
فقال: افتضحنا، فياليت أنا لم نكن كشفنا له خبرنا.
قال: فركب يحيى بن خالد من غد، فلقيه بعض إخوانه، فقال: ما زال يعقوب بن داود يطلبك طلباً شديداً، فمضى إليه.
فقال له يعقوب: أين كنت ؟ والله، إنك أوردت على قلبي ما شغله بالفكر في إصلاحه، وقد عن لي أمر رجوت به صلاح حالك، إمض بنا إلى الديوان، فسار معه إليه.
فقال يعقوب: علي بتجار السواد، فأحضروا.
فقال: أشركوا أبا علي معكم بالثلث فيما تبتاعونه من غلة السلطان، ففعلوا.
فقال: لعل ذلك يشق عليكم ؟ فقالوا: أجل.
فقال: أخرجوه، بربح تجعلونه له.
فأخرجوه بربح ستين ألف دينار، فصلحت حاله، وحال أبيه، ومضى إليه بالمال.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهوذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، هذا الخبر بخلاف هذا، فقال: حكى يحيى بن خاقان، قال: كنت يوماً عند يحيى بن خالد، وبحضرته ابنه الفضل، إذ دخل عليه أحمد بن يزيد، المعروف بابن أبي خالد، فسلم وخرج.
فقال يحيى للفضل: في أمر هذا الرجل، خبر، فإذا فرغنا من شغلنا فأذكرني به، حتى أعرفك، فلما فرغ من عمله، أذكره.
فقال: نعم، كانت العطلة، قد بلغت مني، ومن أبي، وتوالت المحن علينا، حتى لم نهتد إلى ما ننفقه.
فلبست ثيابي يوماً، لأركب، فقال لي أهلي: إن هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوء حال، وأنا ما زلت أعللهم بما لا علالة فيه، وأصبحت، وما لهم شيء، وما لدابتك علف.

فقرعت قلبي، وقطعتني عن الحركة، ورميت بفكري، فلم يقع إلا على منديل طبري، كان بعض البزازين أهداه إلي.
فقلت: ما فعل المنديل الطبري ؟ فقالت: ها هو.
فأخرجته إلى الغلام وقلت له: اخرج إلى الشارع، فبع هذا المنديل، فمضى، وعاد من ساعته، فقال: خرجت إلى البقال الذي يعاملنا، وعنده رجل، فأعطاني بالمنديل إثني عشر درهماً صحاحاً، وقد بعته بشرط، فإن أمضيت البيع، وإلا أخرجت المنديل إلى سوق قنطرة البردان، واستقصيت فيه، كما تحب.
فأمرته بإمضاء البيع للحال التي خبرتني بها المرأة، وأن يشتري ما يحتاج إليه الصبيان، وعلفاً للدابة، وركبت، لا أدري إلى أين أقصد.
فأنا في الشارع، وإذا أنا بأبي خالد، والد هذا، ومعه موكب عظيم ضخم، وهو يومئذ يكتب لأبي عبيد الله، كاتب المهدي، فملت إليه، ورميت نفسي عليه.
وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك، وبي، إلى ما لا نهاية وراءه، وعلي، وعلي، إن لم تكن قصتي في يومي هذا، كيت وكيت، وقصصت عليه الخبر، وهو مستمع لذلك، ماض في سيره، فلما بلغ مقصده، انصرفت عنه، ولم يقل لي حرفاً.
فانصرفت منكسف البال، منكراً على نفسي إسرافي في الشكوى، وإطلاعي إياه على ما أطلعته عليه.
وقلت: ما زدت على أن فضحت نفسي، وقللتها في عينه من غير نفع.
ووافيت منزلي على حال أنكرتها أهلي، فسألتني.
فقلت: جنيت اليوم على نفسي جناية كنت عنها غنياً، وقصصت عليها قصتي مع يزيد.
فأقبلت توبخني، وقالت: ما حملك على أن أظهرت للرجل حالك ؟ فإن أقل ما في ذلك، أن لا يأتمنك على أمر، فإن من تناهت به الحال إلى ما ذكرت، كان غير مؤتمن، فنالني من توبيخها، أضعاف ما نالني أولاً.
وأصبحنا في اليوم الثاني، فوجهت بأحد ثوبي، فبيع، وتبلغنا بثمنه وأصبحنا في اليوم الثالث، ونحن في غاية الضيقة، فطوينا يومنا وليلتنا.
فلما كان اليوم الرابع، ضاقت نفسي، وقل صبري، وضعفت قوتي، واخترت الموت على الحالة التي أنا فيها.
فقالت لي أهلي: أنا خائفة عليك من الوسواس، فيكون ما نحتاج لعلاجك، أضعاف ما نحتاج لمؤونتنا، فسهل الأمر عليك، ولا تضجر، ولا تقنط من رحمة الله، فإن الله عز وجل، الصانع، المدبر، الحكيم.
قال: فركبت، لا أدري أين أقصد، فلما صرت إلى قنطرة البردان، لقيني رسول أبي خالد يطلبني، فدخلت داره.
فقال لي حاجبه: اجلس، فأقمت، وخرج مع الزوال، فدنوت منه.
فقال: يا ابن أخي، شكوت إلي بالأمس، شكوى، لم يكن في جوابها إلا الفعل، وأمر بإحضار حميد، وداهر، تاجرين كانا يبيعان الطعام.
فقال لهما: قد علمتما أني إنما بعتكما البارحة، ثلاثين ألف كر، على أن ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر.
ثم قال: لك في هذه عشرة آلاف كر بالسعر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، وآثرت أن تخرج إليهما من حصتك، فعلت، وإن آثرت أن تقيم على ابتياعك، فعلت.
قال: فتنحينا ناحية، وقالا: إنك رجل شريف، وابن شريف، وليست التجارة من شأنك، ومتى أقمت على ألابتياع، احتجت إلى كفاة وأعوان، ولكن خذ منا ثلاثين ألف دينار، وخلنا والطعام.
فقلت: قد فعلت، وقمت إلى أبي خالد، فقلت: قد أجبتهما إلى أخذ المال، وتركهما والطعام.
فقال: هذا أروح لك، فخذ المال، وتبلغ به، والزمنا، فإنا لا نقصر في أمرك بكل ما يمكننا.
فأخذت من الرجلين ثلاثين ألف دينار، وما كان بين ذلك، وبين بيع المنديل والثوب، إلا أربعة أيام.
فسرت إلى أبي، وخبرته الخبر، وقلت له: جعلت فداك تأمر في المال بأمرك ؟ فقال: نعم، أحكم عليك فيه، بمثل ما حكم أبو خالد به على التاجرين، أي أن الثلث لي.
فحملت إليه عشرة آلاف دينار، واشتريت بعشرة آلاف دينار ضيعة، ولم أزل أنفق الباقي، إلى أن أداني ذلك إلى هذه الحال، وإنما حدثتك بهذا، لتعرف - يا بني - للرجل حقه.
فقلت ليحيى بن خاقان: فما الذي كان من يحيى بن خالد إلى أحمد بن أبي خالد ؟ قال: ما زال هو وولده، على نهاية البر به، حتى نال ما نال من الوزارة، بذلك الأساس الذي أسساه.
وقرئ على أبي بكر الصولي، بالبصرة، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، بإسناد، وأنا حاضر، في كتابه كتاب الوزراء حدثكم عون بن محمد الكندي، عن إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: سمعت أهلي يتحدثون:

أن يحيى بن خالد البرمكي، قال: نالتني خلة في أيام المهدي، فجئت إلى يزيد الأحول، أبي خالد، وكان يكتب لأبي عبيد الله، فأبثثته حالي، فما أجابني، ولا أقبل علي، فتأخرت نادماً، ثم جاءني رسوله من الغد، فصرت إليه.
فقال لي: إنك شكوت إلي شكوى لم يكن جوابها الكلام والتوجع، وقد بعت جماعة من التجار، ث

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق