الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

تابع الحساب للشيخ م حسان

بسم اللـه الرحمن الرحيم

تابع الحساب

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللـه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .

وأشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللـه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . [ آل عمران - 102 ] .

{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللـه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللـه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } . [ النساء -1 ] .

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللـه وَقُولُـوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُـمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِــرْ لَكُـمْ ذُنُوبَكُـمْ وَمَـنْ يُطِـعِ اللـه وَرَسُولَـهُ فَقَــدْ فَـازَ فَوْزًا عَظِيمًا } . [ الأحزاب -70 ، 71 ] .

أما بعـــد ...

فإن أصدق الحديث كتاب اللـه وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار .

أحبتى فى اللـه :

نحن اليوم بتوفيق اللـه جل وعلا على موعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات هذه السلسلة المنهجية المباركة .

أخى الحبيب : تذكر معى أننا قد توقفنا فى  اللقاءين الماضيين على التوالى مع قواعد العدل التى يحاسب اللـه جل وعلا عباده بها يوم القيامة ، ثم تعرفنا على أول أمة يحاسبها اللـه جل وعلا ، وعلى أول من يقضى اللـه بينهم يوم القيامة ، وعلى أول ما سيحاسب وما يسأل عنه العبد بين يدى الرب جل وعلا ، ونحن اليوم بإذن اللـه تعالى لا زلنا  مع الناس فى ساحة الحساب بين يدى اللـه سبحانه وتعالى ،  فإن اللـه عز وجل يسأل العبد بعد الصلاة عن أربع :

عن عمره فيما أفناه ؟! وعن علمه ماذا عمل فيه ؟! وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟! وعن جسمه فيما أبلاه ؟! هذه الأربع هى موضوع لقاءنا مع حضراتكم فى هذا اليوم الكريم المبارك .

أحبتى الكرام : أعيرونى القلوب والأسماع فإن الموضوع من الأهمية بمكان واللـه أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض .

ولا شك أن اللـه عز وجل سيسأل العبد فى ساحة الحساب عن كل ما قدم فى هذه الحياة   .

قال اللـه سبحانه : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }                 [ الزلزلة : 7،8 ] .

وقال جل وعلا : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}    [ الحجر : 92،93 ] .

فكم من معصية قد كنــت نسيتها   ذكرك اللـه إياهـــــــــا

وكم من مصيبة قـد كنـت أخفيتها      أظهرها الله لــــك وأبـداهـا

ولكن النبى قد ذكر أن اللـه سبحانه سيسأل العبد بعد الصلاة عن أربع كما فى الحديث الصحيح الذى رواه الترمذى والطبرانى فى معجمه والصغير ، والخطيب فى التاريخ ، وصححه شيخنا الألبانى فى السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع من حديث عبد اللـه بن مسعود رضى اللـه عنه أن النبى قال : (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ما عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه ؟ )) ( ) .

 

أولاً :السؤال عن العمر

 

أحبتى فى اللـه :

العمر هو البضاعة ، ورأس المال فمن ضاعت بضاعته ، وانتهى رأس ماله دون أن يحقق الربح فهو من الخاسرين .

هل حسبت أن هذا العمر ، وهذه الأيام ، وهذه الشهور وهذه السنوات  ، التى هى عمرك ، والتى تمضى منك ، وأنت لا تشعر ، هل حسبت أن اللـه لن يسألك عنها ؟!!

قال اللـه تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}                   [ المؤمنون : 115 - 116 ] .

وقال سبحانه : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }

[ القيامة : 36،40 ]

أليس ذلك بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه للسؤال عما قدموه وعما فعلوه .. للسؤال عن القليل ، والكثير ، صغير أو كبير ، حقير أو عظيم !!

أيها المسلم الأيام تمر والأشهر تجرى وراءها تسحب معها السنين ، وتجر خلفها الأعمار وتطوى حياة جيل بعد جيل وبعدها سيقف الجميع بين يدى الملك الجليل .

العمر يولى ستسأل عن كل ساعة ، عن كل يوم ، عن كل أسبوع ، عن كل سنة ، عن عمرك كله فيما أفنيته  .

قال الحسن البصرى رحمه اللـه تعالى : " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإن مضى يوم مضى بعضك وإن مضى بعضك مضى كلك " .

ولذا كان الحسن رحمه اللـه يقول : " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادى بلسان الحال ويقول يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمنى فإنى لا أعود إلى يوم القيامة .

وكان عبد اللـه بن مسعود رضى اللـه عنه يقول : " واللـه ما ندمت على شئ كندمى على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملى ".

العمر هو البضاعة الحقيقة ، وواللـه ما منحنا هذه البضاعة الكريمة للهو واللعب والملزات والشهوات ، واللـه ما للهو خلقنا بل خلقنا لغاية كريمة ولغاية عظيمة   .

قال جل وعلا : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }   [ الذاريات : 56 ] .

هذه هى الغاية التى خلق اللـه لها الخلق ، واللـه ما خلقنا اللـه لنضيع الأعمار أمام المسلسلات ، وأمام المباريات ، وأمام الأفلام ، وأمام هذا العبث واللـهو الذى تحول فى حياة هذه الأمة المسكينة إلى جد .

ومن أجمل ما قيل فى قول اللـه تعالى فى حق نبى اللـه يحيى { وَأتينَاهُ الحكْمَ صَبِياً }                [ مريم : 12 ] .

قال جمهور المفسرين أى أتاه اللـه الحكمة وهو طفل صغير فذهب إليه يوماً بعض أترابه من زملائه قبل أن يوحى اللـه إليه بالنبوة فقالوا : يا يحيى هيا بنا لنلعب ! فقال يحيى : واللـه ما للعب خلقنا واللـه ما للهو والعبث خلقنا .

واللـه ما خلقنا لنضيع الأعمار ، فإن جُلَّ الأمة الآن يقضى جُلَّ الليل أمام التلفاز ولا حول ولا قوة إلا باللـه العلى العظيم .

يا من يمضى عمرك وأنت لا تدرى .. اعلم بأنك ستسأل عن هذه الساعات.. ستسأل عن هذا العمر..

وتذكر يا من يمضى عمرك وأنت فى غفلة أن الدنيا مهما طالت فهى قصيرة ، ومهما عظمت فهى حقيرة وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر ، تذكر وصية الحبيب لعبد اللـه بن عمر كما فى صحيح البخارى أنه أخذ بمنكبى عبد اللـه بن عمر وقال يا عبد اللـه:(( كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ))( ) .

ما أحوجنا ورب الكعبة لهذه الكلمات ، ونحن نعيش الآن عصراً طغى فيه حب الشهوات وحب الملزات وحب الدنيا ، فإن كثيراً من الناس يُذَكَّر بقول اللـه فلا يتذكر !! ، ويُذَكَّر بحديث رسول اللـه فلا يتحرك قلبه وكأن القلوب تحولت إلى حجارة !!

قال اللـه تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ البقرة : 74 ]

وقال اللـه تعالى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }      [ الحشر : 21 ] .

اللـهم ارزقنا التفكير فى آلائك ونعمك برحمتك يا أرحم الراحمين .

وكان ابن عمر يقول : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " .

قيل لإبراهيم بن أدهم طيب اللـه ثراه ، يا إبراهيم : كيف وجدت الزهد فى الدنيا ؟!

فقال إبراهيم : بثلاثة أشياء ، قيل : وما هى ؟!

قال إبراهيم : رأيت القبر موحشاً وليس معى مؤنس ، ورأيت الطريق طويلاً وليس معى زاد ، ورأيت جبار السموات والأرض قاضياً وليس معى من يدافع عنى .

أيها الأحبة الكرام : الدنيا كلها إلى زوال والعمر كله إلى فناء ، ويوم أن نام السلطان الفاتح محمد بن ملك شاه على فراش الموت ، وكان من السلاطين الأثرياء الأغنياء  قال : اعرضوا عَلَىَّ كل ما أملك من الجوارى والغلمان ، والنساء ، والأموال ، والجواهر بل ، وليخرج الجند جميعاً ، فخرج الجيش عن بَكْرَة أبيه ، فنظر السلطان إلى هذا الملك العظيم وبكى وقال : واللـه لو قَبِلَ منى ملك الموت كل هذا لافتديت به !!

ثم نظر إلى جنوده وقال : أما هؤلاء واللـه لا يستطيعوا أن يزيدوا فى عمرى ساعة ثم أجهش بالبكاء وقال : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ }       [ الحاقة : 28 - 29 ].

وهذا أخوه هارون الرشيد الذى كان يخاطب السحابة فى كبد السماء ، ويقول لها : أيتها السحابة فى أى مكان شئت أمطرى فسوف يحمل إلى خراجك إن شاء اللـه تعالى .

لما نام على فراش الموت بكى هارون وقال لإخوانه : أريد أن أرى قبرى الذى سأدفن فيه !!

فحملوه إلى قبره ، فنظر هارون إلى قبره وبكى ورفع رأسه إلى السماء : وقال يا مَنْ لا يزول مُلكه ارحم من زال ملكه .

دع عنك ما قد فات فى زمـ، الصبا    واذكـر ذنوبك وابكها يا مذنــبُ

لم ينسـه الملكـان حيـن نسيتـه    بــل أثبتاه وأنـــت لاهٍ تلعبُ

والروح منك وديعة أودعتهــــا     ستــــردها بالرغم منك وتُسلبُ

وغرور دنياك التـى تَسْعَــى لها      دارٌ حقيقتهـــــا متـاعٌ يذهبُ

الليل فاعلم والنهـــار كلاهمـا     أنفاسنا فيها تُعَــــدُّ وتُحسَــبُ

{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}    [ المؤمنون : 115،116]

أخى الكريم :

لن تتحرك قدمك يوم القيامة حتى تسأل عن عمرك .

انتبه يا من تغافلت عن هذه البضاعة ورأس المال الحقيقى الذى تملكه ألا وهو عمرك ، واعلم يقينا أن كل يوم يمر عليك يبعدك عن الدنيا يوما ويقربك من الآخرة يوماً .

قال لقمان الحكيم لولده : أى بُنَىّ إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها .

ولقى الفضيل بن عياض رجلاً فقال الفضيل : كم عمرك ؟!

قال الرجل : ستون سنة ، قال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى اللـه يوشك أن تصل .

فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون .

قال الفضيل : هل عرفت معناها ، قال : نعم عرفت أنى لله عبد وأنى إلى اللـه راجع .

قال الفضيل : يا أخى من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع ، عرف أنه موقوف بين يديه ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول ، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً .

فبكى الرجل وقال : يا فضيل وما الحيلة ؟! قال الفضيل : يسيرة ، قال : ما هى يرحمك اللـه ، قال : أن تتقى اللـه فيما بقى من عمرك يغفر اللـه لك ما قد مضى ، وما قد بقى من عمرك .

 

ثانياً : عن علمه ماذا عمل به ؟!

 

اعلم يقينا أنك ستسأل عن كل كلمة استمعت إليها فى خطبة جمعة ، أو محاضرة أو قرأتها فى كتاب ، ستسأل عن علمك الذى تعلمت ، ماذا عملت به ؟؟ تُرى منذ متى ونحن نسمع عن اللـه ؟! تُرى منذ متى ونحن نسمع عن رسول اللـه ؟! ومع ذلك سترى البون شاسعاً بين القول والعمل ، سترى فجوة خطيرة بين القول ، والعمل ، وهذه الفجوة سبب من أسباب النفاق ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }       [ الصف : 2،3 ] .

وقال جل وعلا : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }           [ البقرة : 44 ] .

أسأل اللـه أن يرزقنا الصدق ، والإخلاص فى القول ، والعمل .

أيها الأحبة الكرام : العلم أغلى ما يطلب فى هذه الحياة بلا شك ، ولا نزاع فلا سبيل إلى معرفة اللـه ، ولا سبيل إلى الوصول إلى رضوان اللـه فى الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعى ، العلم يبذل له المال ، العلم يبذل له العمر ، العلم يبذل له الوقت كله ، فإن أغلى ما يضحى له هو العلم ، ولم يأمر اللـه نبيه بطلب الزيادة من شئ إلا من العلم ، كما قال تعالى آمراً نبيه المصطفى : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114]   .

ثم قال { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }  [ فاطر : 28 ]

ثم قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}                  [ المجادلة : 11 ] .

ثم قال سبحانه: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }    [ آل عمران : 18 ] .

وفى الصحيحين من حديث عبد اللـه بن عمر أن النبى قال : (( إن اللـه لا يقبض العلم انتزاعاً – قال ابن حجر فى الفتح : أى محواً من الصدور- ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً – وفى لفظ رؤساء جهالا  - فسئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا ))( ) .

وفى الصحيحين أن النبى قال : (( من يرد اللـه به خيراً يفقه فى الدين ))( ).

وفى الصحيحين أن النبى قال لعلى : (( لأن يهدى اللـه بك رجلاً واحداً خيرُُ لك من حمر النعم )) ( )  .

وفى الحديث الذى رواه أبو داود والترمزى وابن ماجه وغيرهم وحسنه شيخنا الألبانى بشواهده من حديث أبى الدرداء رضى اللـه عنه أن النبى قال : (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل اللـه له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له كل من فى السموات والأرض حتى الحيتان فى الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً أو درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) ( ) .

من أتاه اللـه العلم أتاه الحظ الوافر ، وأتاه الخير كله ، فإن اللـه يعطى الدنيا من يحب ، ومن لم يحب ، ولكن اللـه لا يعطى الدين إلا لمن يحب ، ومن يرد اللـه به خيراً يفقه فى الدين ، قال كما فى صحيح مسلم وغيره : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )) ( ) .

هذا العلم إن لم يحرك قلبك وجوارحك للعمل ، ولخشية اللـه وتقواه فلا خير فيه ، ولا بركة له  .

ما ثمرة العلم إن لم يورثك العمل ؟! ما ثمرة العلم إن لم يقر بنا من اللـه سبحانه وتعالى ؟!

ما ثمرة هذه المحاضرات والخطب والكلمات التى تخلع القلوب إن لم تعبد القلوب لرب الأرض والسموات ؟!

إن لم يورثنا هذا العلم خشية اللـه .. إذا لم يورثنا هذا العلم تقوى القلوب .

إن لم يورثنا هذا العلم حُب السنة وبُغض البدعة فما ثمرة هذا العلم ؟!

يقول الإمام الشاطبى فى كتابه القيم الموافقات :

" إن كل علم لا يفيد عملا ليس فى الشرع ما يدل على استحسانه "

قال تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }              [ البقرة : 44 ] .

وفى الصحيحين من حديث اسامة بن زيد ان النبى قال : (( يؤتى بالرجل فيلقى فى النار فتندلق أقتاب بطنه ( أى أمعاءه ) ، فيدور بها كما يدور  الحمار فى الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول : بلى كنت أمر بالمعروف

ولا أتيه وأنهى عن المنكر وأتيه )) ( ) .

لذا كان الحبيب المصطقى يستعيذ من علم لا ينفع كما فى صحيح مسلم وسنن الترمذى من حديث زيد بن الأرقم أن النبى كان يقول فى دعاءه (( ... اللـهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها )) ( ) .

وقال أبو الدرداء رضى اللـه عنه : " إننى أخاف أن يقال لى يوم القيامة أعلمت أم جهلت ؟ فأقول : علمت فلا تبقى أية آمرة أو زاجرة إلا جاءتنى تسألنى فريضتها فتقول الآمرة : هل أتمرت ؟ وتقول الزاجرة : هل ازدجرت ؟ "

ليس العلم بكثرة الرواية ، ولكن العلم الحقيقى هو الذى يورثك خشية اللـه هو الذى يورثك العمل .

وكان على بن أبى طالب يقول : " يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله ، وسيأتى أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف علمهم عملهم ، وتخالف سريرتهم علانيتهم يقعدون جلفاء يباهى بعضهم بعضاً ، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه ، وجلس إلى غيره ، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى اللـه عز وجل ".

إن اللـه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً ، لذا قال مالك بن دينار : " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا " ، اللـهم ارزقنا الصدق والإخلاص فى القول والعلم ، وقال ابن السماك :

كم من مُذَكِّر لله وهو ناس لله !!

وكم من مُخَوِّف من اللـه وهو جرئ على اللـه !!

وكم من مُقَرِّب إلى اللـه وهو بعيد عن اللـه !!

وكم من تالى لكتاب اللـه وهو منسلخ عن آيات اللـه !!

فأنت ترى كماً هائلاً من المحاضرات ، والدروس ، وترى كما هائلا من المراجع ، والمجلدات ، والكتب ، ومع ذلك ترى بونا شاسعا وفرقا كبيرا بين هذا المنهج النظرى وبين هذا الواقع العملى .

إن هذه الفجوة تبذز بذور النفاق فى القلوب كما قال علام الغيوب : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }              [ الصف : 2،3 ] .

لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمله ماذا عمل به ؟!

 

 

ثالثاً : عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟!

 

المال نعمة من أعظم النعم ، المال زينة الحياة الدنيا مع الأولاد  .

قال جل وعلا { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الكهف :46]

ولاحظ أن اللـه قدم فى هذه الآية المال على الأولاد ، المال زينة ونعمة عظيمة ، ولكن لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من عرف الغاية من المال ، فما أكرمها من نعمة إن حركتها أيدى الصالحين ، والشرفاء .

المال نعمة لا يعرف قدرها إلا صالح تقى عرف الغاية من المال ، وعرف الوظيفة الحقيقية للمال ، وعرف أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة .

المال نعمة من اللـه مَنَّ بها عليك ، وزينة زَيَّنَكَ اللـه بها .

ولكن انتبه سوف تُسأل عن هذا المال كله من أين اكتسبت ؟! وفيما أنفقت ؟! سؤالان يملأن القلب بالخوف والوجل ويجعلان العبد يسأل نفسه ألف مرة قبل أن يحصل على هذا المال .

يا من تتاجر فى الحرام ، فى المخدرات لتحرق قلوب فلذة أكبادنا ولا هم لك إلا أن تجمع المال ، حاسب نفسك الآن وقف مع نفسك موقف صدق ، من الآن طَهَّر مالك كله قبل أن تُسأل بين يدى اللـه الذى يعلم السر وأخفى ، عن كل ما جمعت من مال ؟ من أين لك هذا المال ؟ وفيما أنفقته ؟؟

فالمال نعمة إذا حركته أيدى الصالحين والشرفاء ، المال منحة لمؤمن تقى عرف الغاية منه ، وعرف الوظيفة لهذا المال ، لذا يقول سيد الرجال كما فى الصحيحين : (( لا حسد إلا فى اثنتين رجل أتاه اللـه القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل أعطاه اللـه مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار )) ( ) .

وتدبر معى أخى الكريم قول الحبيب والحديث رواه أحمد والترمذى وصححه شيخنا الألبانى من حديث أبى كبشة الأمارى عنه قال : ((ثلاثة أقسم اللـه عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، وما ظُلِمَ عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده اللـه عز وجل بها عزاً ولا فتح عبد باب مسألةٍ إلا فتح اللـه عليه باب فقر وأحدثكم حديثا فاحفظوه إنما هذه الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه اللـه مالاً وعلماً فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه اللـه علماً ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية لله يقول لو أن لى مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه اللـه مالا ولم يرزقه علماً فهو يخبط فى ماله بغير علم ، لا يتقى فيه ربه ولا يصل به رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه اللـه مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ووزرهما سواء )) ( ) .

إن المال لا يصبح نعمة إلا إذا كان في يد صالحة تعرف الغاية منه والمال الذى سنتركه ليس مالاً لنا وإنما هو مال ورثتنا كما فى صحيح البخارى من حديث ابن مسعود رضى اللـه عنه قال قال : (( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله )) قالوا : يا رسول اللـه ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من ماله وارثه ، قال : (( فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر )) ( ) .

لذا يقول المصطقى كما فى صحيح مسلم من حديث ابى هريرة رضى اللـه عنه : (( يقول العبد : مالى مالى ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو اعطى فأقنى ، وما سوى ذلك ، فهو ذاهب وتاركه للناس )) ( ) .

ولذا ورد فى سنن الترمذى أن عائشة رضى اللـه عنها ذبحت شاة وتصدقت بها كلها إلا الذراع فقال النبى : (( ما بقى من الشاة يا عائشة؟ )) قالت : ما بقى منها شئ إلا الذراع ، فقال المصطفى : (( بقى كلها إلا الذراع )) ( ) .

إن الذى تصدقت به هو الذى سيبقى لك فى ميزان أعمالك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللـه بقلب سليم .

واسمع لحبيبك المصطفى وهو يقول كما فى صحيح مسلم من حديث ابى هريرة قال : (( أيها الناس إن اللـه طيب لا يقبل إلا طيب وإن اللـه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }   [ المؤمنون : 51]

وقال تعالى للمؤمنين : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }[ البقرة : 172 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون : 51 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [ البقرة : 172 ] ، ثم ذكر (( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يَمُدُّ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام - وفى رواية (وملبسه حرام ) - وغُذِى بالحرام فَأَنَّى يُستَجَاب لذلك )) ( ) .

أنى يستجاب لمن أكل الحرام ، أنى يستجاب لمن شرب الحرام أنى يستجاب لمن غذى أولاده بالحرام ، إننا نرى الآن تهاوناً مروعاً فى الأكل الطيب الحلال فنرى الرجل لا هم له إلا جمع المال ، من أى سبيل كان حتى لو كان حرام حتى لو كان من الربا حتى لو كان من أموال الناس بالباطل المهم ان يكتنز المال ، ومع ذلك فواللـه لن يخرج من الدنيا بدرهم أو دولار

النفس تجزع أن تكـــون فقيرة     والفقر خير مـن غنــاً يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت    فجميع ما فى الأرض لا يكفيهـا

هــى القناعـة فالزمهــا تكن    ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن

وانظـر لمن ملك الدنيا بأجمعهـا    هل راح منها بغير الطيب والكفن

لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟‍

 

رابعاً :عن جسمه فيما أبلاه

 

قال تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}                         [ الإسراء : 36 ] .

سيسأل الفؤاد والقلب عما وعاه من اعتقاد ، هل امتلأ القلب بحب اللـه وبحب رسول اللـه والمؤمنين وامتلأ فى الوقت ذاته ببغض الشرك والمشركين والباطل والمبطلين ؟! سيسأل السمع عن كل ما سمع سيسأل البصر عن كل ما رأى ، فهل يا ترى لا يسأل العبد بين يدى الرب سبحانه إلا عن هذه الجوارح فحسب ..؟ كلا ‍‍ بل سيسأل الإنسان عن جسمه كله.

سيشهد هذا الجسم كله بما قدم وبما صنع وبما فعل سيشهد السمع والبصر والفؤاء ستشهد الرجل واليد والجوارح عامة قال تعالى :  { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }

[ يس : 65 ] .

وقال اللـه جل وعلا { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19)حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20)وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

[ فصلت : 19 - 21] .

سيشهد عليك بدنك كله وسوف تسأل عن هذا البدن وعن هذا الجسم فيما أبليته ، هل أبليت جسمك فى عمل الدنيا والآخرة أم فى عمل الدنيا فحسب ؟‍

فلا حرج أن يبلى الإنسان جسمه فى عمل الدنيا وفى عمل الآخرة, والخطأ والحرج أن يفنى وأن يبلى جسمه كله وحياته كلها فى عمل الدنيا ليضيع بذلك حق اللـه وعمل الآخرة ، ياأخى فى اللـه تاجر وعَمَّر وابنى واجمع المال من الحلال  لكن لا تنسى حق الكبير المتعال لا تنسى الآخرة . اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، فلا حرج أن تجمع بين الأمرين . قال المصطفى (( اللـهم اصلح لى دينى الذى هو عصمت أمرى وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى )) ( ) .

فلا تجعل عمرك جله للدنيا وتنسى الآخرة ، ستتمنى يوم القيامة الرجعة والعودة إلى الدنيا لا لتعمل للدنيا مرة أخرى بل لتعمل للآخرة ، قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97)وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98)حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }                         [ المؤمنون : 97 - 100 ]  .

كلا .. فاعمل الآن للدنيا وللآخرة قبل أن تتمنى الرجعة والعودة فيقال لك : { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }       [ المؤمنون : 100 ] .

لا يسمعها اللـه ولا يجيبها اللـه ، واعلم يقيناً أنه واللـه لو أفنيت جسمك كله ليلاً ونهاراً من أجل الدنيا ونسيت عمل الآخرة واللـه لن تحصل من الدنيا إلا ما قدره الرزاق لك ، تدبر هذا الحديث الجميل الذى رواه الترمذى وغيره وصحح الحديث الشيخ الألبانى فى صحيح الجامع أنه صلى اللـه عليه وسلم قال : (( من كانت الآخرة همه جعل اللـه غناه فى قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهى راغبة ، ومن كانت الدنيا همه جعل اللـه فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر اللـه له )) ( ) .

أخى الحبيب سل نفسك الآن فيما أبليت جسمك فى عمل الدنيا والآخرة أم فى عمل الدنيا ؟‍

هل أبليت جسمك فى طاعة اللـه ورسوله أم فى معصية اللـه ورسوله؟

سل نفسك الآن فيما مضى من عمرك هل سَخَّرت جسمك فى طاعة اللـه ورسوله أم سخرته فى معصية اللـه ورسوله ؟

هل أعطاك اللـه نعمة هذا الجسم لنعصى اللـه بها أم لتطيع اللـه بها ؟

واعلم يقيناً أن المعصية سبب لكل شقاء وضنك وبلاء فى الدنيا والآخرة والطاعة سبب لكل فلاح وفوز وخير فى الدنيا والآخرة .

قال ابن عباس : " إن للطاعة نوراً فى الوجه ونوراً فى القلب وسعة فى الرزق وقوة فى البدن ومحبة فى قلوب الخلق ، وإن للمعصية سواد فى الوجه وظلمة فى القلب وضيق فى الرزق وضعف فى البدن وبغضاً فى القلوب " .

وذهب رجل  إلى إبراهيم بن أدهم طيب اللـه ثراه فقال له يا إبراهيم : ساعدنى فى البعد عن معصية اللـه ،كيف أترك معصية اللـه جل وعلا ؟‍ فقال له إبراهيم تذكر خمسا فإن عملت بها لن تقع فى معصية اللـه وإن زلت قدمك سرعان ما ستتوب إلى اللـه جل وعلا ، قال : هاتيها يا إبراهيم قال إبراهيم : أما الأولى إن أردت أن تعصى اللـه جل وعلا فلا تأكل من رزق اللـه .

قال : كيف ذلك والأرزاق كلها بيد اللـه؟

قال : فهل يجدر بك أن تعصى اللـه وأنت تأكل من رزقه .

قال يرحمك اللـه يا إبراهيم : هات الثانية .

قال إبراهيم : أما الثانية إن أردت أن تعصى اللـه جل وعلا فابحث عن مكان ليس فى ملك اللـه واعصى اللـه عليه .

قال : كيف ذلك والملك ملكه والأرض ملكه والسماء ملكه ؟!

قال : ألا تستحى أن تعصى الملك فى ملكه .

قال يرحمك اللـه هات الثالثة .

قال : أما الثالثة إن أردت أن تعصى اللـه جل وعلا فابحث عن مكان لا يراك اللـه فيه .

قال : وكيف ذلك واللـه يسمع ويرى ؟!

قال ألا تستحى أن تعصى اللـه وأنت على يقين أن يراك اللـه .

قال : يرحمك اللـه هات الرابعة .

قال : إذا جاءك ملك الموت فقل له أجلنى ساعة حتى أتوب إلى اللـه وأدخل فى طاعته .

قال : كيف ذلك يا إبراهيم ؟! واللـه جل وعلا يقـــول : {  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ }   [ الأعراف : 34 ] .

قال : فهل يجدر بك وأنت تعلم ذلك أن تسوف التوبة وعمل الطاعات

قال : يرحمك اللـه هات الخامسة .

قال : أما الخامسة إذا جاءتك زبانية جهنم لتأخذك  إلى جهنم فإياك أن تذهب معهم ، فبكى الرجل وعاهد اللـه عز وجل على الطاعة .

أيها المسلم فكر فى هذه الخمس جيدا قبل أن تعصى اللـه ، واعلم يقينا أنك بشر فإن زلت قدمك فى معصية اللـه جدد الأوبة والتوبة إلى اللـه واعلم جيداً أن اللـه يحب التوابين والمتطهرين وما من ليلة إلا والملك ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بكماله وجلاله كما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وينادى الحق سبحانه وتعالى ويقول : (( أنا الملك ، أنا الملك ، من ذا الذى يدعونى فأستجيب له ، من ذا الذى يسألنى فأعطيه ، من ذا الذى يستغفرنى فاغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر ))  ( ) .

فهيا أخى الحبيب عُد إلى اللـه وتب إلى اللـه واستعد للجواب عن هذه الأسئلة الأربعة ، واعلم علم اليقين أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ماذا عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه ؟!

أسأل اللـه العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا . إنه ولى ذلك والقادر عليه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق