كتاب
: 5.المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى
: 456هـ)
838. - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَ, فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ, فَإِنْ غَطَّى قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ, فَلاَ يُسَمَّى: عُرْيَانَ, فَإِنْ انْكَشَفَ سَاهِيًا لَمْ يَضُرَّهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُحَرِّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ بِبَرَاءَةَ كُنَّا نُنَادِي أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ, وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}.
(7/179)
839 - مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَائِزٌ, وَلِلنُّفَسَاءِ, وَلاَ يَحْرُمُ إلاَّ عَلَى الْحَائِضِ فَقَطْ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ حَاضَتْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَمَرَهَا عليه السلام بِأَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ, وَلَمْ يَنْهَهَا، عَنِ الطَّوَافِ;
(7/179)
840 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مِنْ الطَّوَافِ إلاَّ شَوْطٌ أَوْ بَعْضُهُ, أَوْ أَشْوَاطٌ, فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, وَتَقْطَعُ، وَلاَ بُدَّ, فَإِذَا طَهُرَتْ بَنَتْ عَلَى مَا كَانَتْ طَافَتْهُ, وَلَهَا أَنْ تَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; لاَِنَّهَا لَمْ تُنْهَ إلاَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ. وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى إجَازَةِ كُلِّ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ, لإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَهَا، عَنْ ذَلِكَ, فَكَذَلِكَ لَمْ يَنْهَ الْجُنُبَ, وَلاَ النُّفَسَاءَ, عَنِ الطَّوَافِ, وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/180)
841 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَطَعَ طَوَافَهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِكَلَلٍ بَنَى عَلَى مَا طَافَ, وَكَذَلِكَ السَّعْيُ; لاَِنَّهُ قَدْ طَافَ مَا طَافَ كَمَا أُمِرَ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُهُ, فَلَوْ قَطَعَهُ عَابِثًا فَقَدْ بَطَلَ طَوَافُهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يَطُفْ كَمَا أُمِرَ.
(7/180)
842
- مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ رَاكِبًا جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُ
الْجَمْرَةِ: لِعُذْرٍ وَلِغَيْرِ عُذْرٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ثَنِيّ
أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ:
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنٍ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ
بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ هُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ
وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: حَجَجْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ
(7/180)
843 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ التَّبَاعُدُ، عَنِ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ إلاَّ فِي الزِّحَامِ; لإِنَّ التَّبَاعُدَ عَنْهُ عَمَلٌ بِخِلاَفِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبَثٌ لاَ مَعْنَى لَهُ فَلاَ يَجُوزُ.
(7/181)
844
- مَسْأَلَةٌ: وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ جَائِزٌ, وَعِنْدَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ, وَعِنْدَ غُرُوبِهَا, وَيَرْكَعُ عِنْدَ ذَلِكَ: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ الزُّهْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُنَّ
أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ
نَهَارٍ" . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ بِإِسْنَادِهِ: وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ,
وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: الطَّوَافُ بَعْدَ
الْعَصْرِ وَالصَّلاَةُ حِينَئِذٍ إثْرَ الطَّوَافِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ: وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ
صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: إنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ، عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ
جُمْلَةً فَمَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ
الشَّمْسُ فَقَدْ تَحَكَّمَ بِلاَ دَلِيلٍ.
(7/181)
845 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ فِي رَمْيِ الْجَمْرَةِ, وَالْحَلْقِ, وَالنَّحْرِ, وَالذَّبْحِ, وَطَوَافِ الإِفَاضَةِ, وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, أَنْ تُقَدِّمَ أَيَّهَا شِئْت عَلَى أَيُّهَا شِئْت لاَ حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَادَ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ, وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ, وَأَتَاهُ آخَرُ وَقَالَ: إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ قَالَ فَمَا رَأَيْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ، عَنْ شَيْءٍ إلاَّ قَالَ: افْعَلُوا، وَلاَ حَرَجَ". وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
(7/181)
ومن
لم يبِت ليالي منى بمنى فقد أساء ولا شي عليه
...
846 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبِتْ لَيَالِيَ مِنًى بِمِنًى فَقَدْ أَسَاءَ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الرِّعَاءَ وَأَهْلَ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَلاَ
نَكْرَهُ لَهُمْ الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ مِنًى; بَلْ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا
يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ, وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ
بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ
لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدْعُوا يَوْمًا. فَصَحَّ بِهَذَا الْخَبَرِ
أَنَّ الرَّمْيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ مِنًى لَيْسَ فَرْضًا. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا
أَبِي، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: إنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ
لَيَالِيَ مِنًى فَأَذِنَ لَهُ.
قال أبو محمد: فَأَهْلُ السِّقَايَةِ مَأْذُونٌ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ,
وَبَاتَ عليه السلام بِمِنًى وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَبِيتِ بِهَا, فَالْمَبِيتُ
بِهَا سُنَّةٌ, وَلَيْسَ فَرْضًا, لإِنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا هُوَ أَمْرُهُ صلى
الله عليه وسلم فَقَطْ.
فإن قيل: إنَّ إذْنَهُ لِلرِّعَاءِ وَتَرْخِيصَهُ لَهُمْ وَإِذْنَهُ لِلْعَبَّاسِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ بِخِلاَفِهِمْ قلنا: لاَ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ
هَذَا لَوْ تَقَدَّمَ مِنْهُ عليه السلام أَمْرٌ بِالْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ,
فَكَانَ يَكُون هَؤُلاَءِ مُسْتَثْنَيْنَ مِنْ سَائِرِ مَنْ أُمِرُوا, وَأَمَّا
إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ أَمْرٌ عليه السلام فَنَحْنُ نَدْرِي أَنَّ
هَؤُلاَءِ
(7/184)
مَأْذُونٌ
لَهُمْ, وَلَيْسَ غَيْرُهُمْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، وَلاَ مَنْهِيًّا فَهُمْ عَلَى
الإِبَاحَةِ: رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "لاَ يَبِيتَنَّ
أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَةِ أَيَّامَ مِنًى" وَصَحَّ هَذَا عَنْهُ رضي
الله عنه وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ هَذَا; وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ
الْمَبِيتَ بِغَيْرِ مِنًى أَيَّامَ مِنًى, وَلَمْ يَجْعَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي
ذَلِكَ فِدْيَةً أَصْلاً. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ لِمَنْ
كَانَ لَهُ مَتَاعٌ بِمَكَّةَ أَنْ يَبِيتَ بِهَا لَيَالِي مِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ
أَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا
رَمَيْت الْجِمَارَ فَبِتْ حَيْثُ شِئْت. وَبِهِ إلَى إبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ،
نا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ
لَيَالِيَ مِنًى فِي ضَيْعَتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ
أَوَّلَ اللَّيْلِ بِمَكَّةَ وَآخِرَهُ بِمِنًى أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِمِنًى
وَآخِرَهُ بِمَكَّةَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ
بَاتَ لَيَالِيَ مِنًى بِمَكَّةَ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَعَنْ
بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ
هَذَا أَيْضًا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَبِتْ بِمِنًى. وَمِنْ طَرِيقِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا
بَاتَ دُونَ الْعَقَبَةِ أَهْرَقَ دَمًا. وقال أبو حنيفة: بِمِثْلِ قَوْلِنَا,
وَقَالَ سُفْيَانُ: يُطْعِمُ شَيْئًا, وقال مالك: مَنْ بَاتَ لَيْلَةً مِنْ
لَيَالِي مِنًى بِغَيْرِ مِنًى أَوْ أَكْثَرَ لَيْلَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ
بَاتَ الأَقَلَّ مِنْ لَيْلَتِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ بَاتَ
لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي التَّشْرِيقِ فِي غَيْرِ مِنًى فَلْيَتَصَدَّقْ بِمُدٍّ
فَإِنْ بَاتَ لَيْلَتَيْنِ, فَمُدَّانِ فَإِنْ بَاتَ ثَلاَثًا فَدَمٌ وَرُوِيَ
عَنْهُ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثُ دَمٍ, وَفِي لَيْلَتَيْنِ ثُلُثَا دَمٍ وَفِي ثَلاَثِ
لَيَالٍ دَمٌ.
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَقْوَالُ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا يَعْنِي
الصَّدَقَةَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِإِطْعَامِ شَيْءٍ أَوْ بِإِيجَابِ دَمٍ, أَوْ
بِمُدٍّ, أَوْ مُدَّيْنِ, أَوْ ثُلُثِ دَمٍ, أَوْ ثُلُثَيْ دَمٍ, أَوْ الْفَرْقَ
بَيْنَ الْمَبِيتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ, أَوْ أَقَلَّهُ, وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَالْقَوْلُ بِهِ لاَ يَجُوزُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَالِكٍ, وَلاَ لِلشَّافِعِيِّ
فِي أَقْوَالِهِمْ هَذِهِ سَلَفًا أَصْلاً, لاَ مِنْ صَاحِبٍ, وَلاَ مِنْ تَابِعٍ.
(7/185)
847
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَمَى يَوْمَيْنِ, ثُمَّ نَفَرَ, وَلَمْ يَرْمِ الثَّالِثَ
فَلاَ بَأْسَ بِهِ, وَمَنْ رَمَى الثَّالِثَ فَهُوَ أَحْسَنُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وقال أبو حنيفة: إنْ
نَفَرَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ إلَى اللَّيْلِ لَزِمَهُ أَنْ يَرْمِي الثَّالِثَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ, وَحُكْمٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ.
(7/185)
848 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَرْأَةُ الْمُتَمَتِّعَةُ بِعُمْرَةٍ إنْ حَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَفَرْضُهَا أَنْ تُضِيفَ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا إنْ كَانَتْ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ عَامِهَا وَتَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ حَاشَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, فَإِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ, وَهَذَا لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ بِذَلِكَ قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.
(7/186)
849
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ الْغُسْلُ فِي الْحَجِّ فَرْضًا إلاَّ الْمَرْأَةَ
تُهِلُّ بِعُمْرَةٍ تُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَتَحِيضُ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ
فَهَذِهِ تَغْتَسِلُ، وَلاَ بُدَّ وَتُقْرِنُ حَجًّا إلَى عُمْرَتِهَا;
وَالْمَرْأَةُ تَلِدُ قَبْلَ أَنْ تُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ, أَوْ بِالْقِرَانِ:
فَفُرِضَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ, وَلْتُهِلَّ بِالْحَجِّ.
لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ
حِضْتُ وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحِلَّ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ
وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الآنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
فَاغْتَسِلِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" . وَلاَِمْرِهِ عليه السلام, أَسْمَاءَ
بِنْتَ عُمَيْسٍ إذْ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ أَنْ
تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ; وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِائْتِمَارِهَا لَهُ عليه السلام,
وَأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَغْتَسِلاَ لَكَانَتَا عَاصِيَتَيْنِ, وَقَدْ
أَعَاذَهُمَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ ذَلِكَ.
(7/186)
850
- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ تَعَمَّدَ مَعْصِيَةً أَيَّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ وَهُوَ
ذَاكِرٌ لِحَجِّهِ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ
لِلإِفَاضَةِ وَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ; فَإِنْ أَتَاهَا
نَاسِيًا لَهَا, أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَدُخُولِهِ فِي الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةِ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي نِسْيَانِهَا, وَحَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ
تَامَّانِ فِي نِسْيَانِهِ كَوْنَهُ فِيهِمَا, وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ
جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ
بَرَاءَتُهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ, فَمَنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْهُمَا
فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إبْطَالُهُمْ الْحَجَّ بِتَقْبِيلِهِ امْرَأَتَهُ
الْمُبَاحَةَ لَهُ فَيُمْنِي وَلَمْ يَنْهَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ، عَنْ هَذَا;
ثُمَّ لاَ يُبْطِلُونَهُ بِالْفُسُوقِ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ,
وَتَرْكِ الصَّلاَةِ, وَسَائِرِ الْفُسُوقِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
وأعجب مِنْ ذَلِكَ إبْطَالُ أَبِي حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِوَطْءِ الرَّجُلِ
امْرَأَتَهُ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ
يُؤَاخِذُ بِالنِّسْيَانِ, قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ
الْحَجَّ بِتَعَمُّدِ الْقَصْدِ إلَى أَنْ يَلُوطَ فِي إحْرَامِهِ أَوْ يُلاَطَ
بِهِ, فَهَلْ فِي الْفَضَائِحِ وَالْقَبَائِحِ أَكْثَرُ مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ
وأعجب شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا، وَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ
يَأْتُوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
(7/186)
851 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَمْكَنَهُ تَجْدِيدُ الإِحْرَامِ فَلْيَفْعَلْ وَيَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ وَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ قَدْ بَطَلَ وَأَفْسَدَهُ, وَالتَّمَادِي عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: فِي سِبَابِ الْمُحْرِمِ دَمٌ; وَهُمْ يَجْعَلُونَ الدَّمَ فِيمَا لاَ يُكْرَهُ فِيهِ مِنْ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَجْعَلُونَهُ فِي السِّبَابِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحَجِّ.
(7/187)
852
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ مَغْصُوبٍ, أَوْ جَلاَّلٍ
بَطَلَ حَجُّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ, وَأَمَّا مَنْ حَجَّ بِمَالٍ
حَرَامٍ فَأَنْفَقَهُ فِي الْحَجِّ وَلَمْ يَتَوَلَّ هُوَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ
فَحَجُّهُ تَامٌّ.
أَمَّا الْمَغْصُوبُ, فَلاَِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ
وَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ وَأَمَّا وُقُوفُهُ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلِمَا
صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَبِيعٍ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نا أَبُو
دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الرَّازِيّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْجَهْمِ، نا عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْجَلاَّلَةِ فِي الإِبِلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا.
وَبِهِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا مُسَدَّدٌ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ
التَّنُّورِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رُكُوبِ
الْجَلاَّلَةِ.
قال أبو محمد: وَالْجَلاَّلَةُ هِيَ الَّتِي عَلَفُهَا الْجُلَّةُ وَهِيَ
الْعَذِرَةُ; فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ جَلاَّلٍ فَلَمْ يَقِفْ
كَمَا أُمِرَ; لاَِنَّهُ عَاصٍ فِي وُقُوفِهِ عَلَيْهِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ
طَاعَةٌ وَفَرْضٌ, وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ، عَنِ الطَّاعَةِ
وَقَالَ عليه السلام: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ فَمَنْ
وَقَفَ بِهَا حَامِلاً لِمَالٍ حَرَامٍ, فَلَمْ يَقِفْ كَمَا أُمِرَ بَلْ وَقَفَ
عَاصِيًا, فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ, وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ
قُلُوبُكُمْ} وَمَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لِلْحَرَامِ عَالِمًا بِهِ فَلَيْسَ
عَاصِيًا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا فَهُوَ مُحْسِنٌ قَالَ تَعَالَى: {مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فَقَدْ وَقَفَ كَمَا أُمِرَ, وَعَفَا اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَطَرِيقُهُ: فَهُوَ إنْ
كَانَ عَاصِيًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُبَاشِرْ
(7/187)
853
- مَسْأَلَةٌ: وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ,
وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلاَّ بَطْنَ مُحَسِّرٍ; لإِنَّ عَرَفَةَ مِنْ
الْحِلِّ, وَبَطْنَ عُرَنَةَ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ غَيْرُ عَرَفَةَ; وَأَمَّا
مُزْدَلِفَةُ فَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ; وَبَطْنُ
مُحَسِّرٍ مِنْ الْحِلِّ فَهُوَ غَيْرُ مُزْدَلِفَةَ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ
عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا أَبُو نَصْرٍ النِّمَارُ
هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا،
عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ, وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا، عَنْ
بَطْنِ مُحَسِّرٍ".
(7/188)
854
- مَسْأَلَةٌ: وَرَمْيُ الْجِمَارِ بِحَصًى قَدْ رُمِيَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ
جَائِزٌ, وَكَذَلِكَ رَمْيُهَا رَاكِبًا حَسَنٌ; أَمَّا رَمْيُهَا بِحَصًى قَدْ
رُمِيَ بِهِ فَلاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُ
رُفِعَ, وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تُرِكَ وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ هِضَابًا
تَسُدُّ الطَّرِيقَ قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَإِنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ رَمْيُ
هَذِهِ الْحَصَى مِنْ عَمْرٍو فَيُسْتَقْبَلُ مِنْ زَيْدٍ, وَقَدْ يَتَصَدَّقُ
الْمَرْءُ بِصَدَقَةٍ فَلاَ يَقْبَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ; ثُمَّ يَمْلِكُ
تِلْكَ الْعَيْنَ آخَرُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا فَتُقْبَلُ مِنْهُ.
وَأَمَّا رَمْيُهَا رَاكِبًا: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ،
هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعٌ، نا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، عَنْ قُدَامَةَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي
جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ, لاَ ضَرْبَ,
وَلاَ طَرْدَ, وَلاَ إلَيْكَ إلَيْكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِأَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ: رَمْيُ الْجَمْرَتَيْنِ الآخِرَتَيْنِ رَاكِبًا أَفْضَلُ
(7/188)
855 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الْحَجَّ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ فِي الْحَلاَلِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالأَمَةِ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ فَإِنْ وَطِئَهَا نَاسِيًا; لاَِنَّهُ فِي عَمَلِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِتَعَمُّدِهِ أَيْضًا حَجُّ الْمَوْطُوءَةِ وَعُمْرَتُهَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ; فَمَنْ جَامَعَ فَلَمْ يَحُجَّ, وَلاَ اعْتَمَرَ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَأَمَّا النَّاسِي, وَالْمُكْرَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
(7/189)
856
- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَطِئَ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ أَوْ
شَيْءٌ مِنْ رَمْيِ الْجَمْرَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ كَمَا قلنا, قَالَ
تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ رَفَثَ وَلَمْ يُكْمِلْ حَجَّهُ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَبْطُلُ
الْحَجُّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ عَرَفَةَ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وقال مالك:
إنْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ بَطَلَ حَجُّهُ, وَإِنْ
وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ, وَإِنْ
وَطِئَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهُ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً. وَاحْتَجَّ
أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ
عَرَفَةَ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا لإِنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ
الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَبِأَنَّهُ قَالَ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ
بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ فَلاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِبَعْضِ قَوْلِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحَجُّ
كَعَرَفَةَ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ"
لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ غَيْرَ عَرَفَةَ أَيْضًا; وَقَدْ
وَافَقَنَا الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ امْرَأً لَوْ قَصَدَ عَرَفَةَ فَوَقَفَ بِهَا
فَلَمْ يُحْرِمْ، وَلاَ لَبَّى, وَلاَ طَافَ, وَلاَ سَعَى فَلاَ حَجَّ لَهُ;
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "الْحَجُّ عَرَفَةَ".
(7/189)
857 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ وَطِئَ عَامِدًا كَمَا قلنا فَبَطَلَ حَجُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى عَمَلٍ فَاسِدٍ بَاطِلٍ لاَ يُجْزِئُ عَنْهُ لَكِنْ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ, فَإِنْ أَدْرَكَ تَمَامَ الْحَجِّ فَلاَ شَيْءَ
(7/189)
858 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ لِذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ وَهُوَ يَظُنُّهُ التَّاسِعَ, وَوَقَفَ بِمُزْدَلِفَةَ اللَّيْلَةَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَهُوَ يَظُنُّهَا الْعَاشِرَةَ: فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: إنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لاَ يَكُونُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْهَا; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عليه السلام الْوُقُوفَ بِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا. فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَقِفْ فِي وَقْتٍ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِيهِ فِيهِ. وَقَدْ تَيَقَّنَ الإِجْمَاعُ مِنْ الصَّغِيرِ, وَالْكَبِيرِ, وَالْخَالِفِ, وَالسَّالِفِ: أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْحَادِيَةَ
(7/191)
عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ حَجَّ لَهُ, وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهَا الْعَاشِرَةُ, وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ.
(7/192)
859 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِعِلْمٍ أَوْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ: أَنَّ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ إلاَّ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَرَوْهُ رُؤْيَةً تُوجِبُ أَنَّهَا الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَفَرَضَ عَلَيْهِ الْوُقُوفَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ, وَإِلاَّ فَحَجُّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: شَهِدَ نَفَرٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلاَلَ ذِي الْحِجَّةِ فَذَهَبَ بِهِمْ سَالِمٌ إلَى ابْنِ هِشَامٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْحَجِّ فَلَمْ يَقْبَلْهُمْ فَوَقَفَ سَالِمٌ بِعَرَفَةَ لِوَقْتِ شَهَادَتِهِمْ, ثُمَّ دَفَعَ, فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَفَ مَعَ النَّاسِ.
(7/192)
860 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي إحْرَامِهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ فِي عَقْلِهِ فَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ, وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلاَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَحَجُّهُ تَامٌّ; لإِنَّ الإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُبْطِلاَنِ عَمَلاً تَقَدَّمَ أَصْلاً, وَلاَ جَاءَ بِذَلِكَ نَصٌّ أَصْلاً، وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلَيْسَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" : فَذَكَرَ "النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَالْمُبْتَلَى حَتَّى يُفِيقَ وَالصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ" بِمُوجِبِ بُطْلاَنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ فَقَطْ, فَإِذَا أَفَاقُوا صَارُوا عَلَى حُكْمِهِمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(7/192)
861 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ, أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَلَمْ يُفِقْ, وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, سَوَاءٌ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ أَوْ لَمْ يَقِفْ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ, أَوْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ شَيْئًا مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مَعَ الإِمَامِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ اسْتَيْقَظَ إلاَّ بَعْدَ سَلاَمِ الإِمَامِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ; فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ. فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَنَامَتْ, أَوْ جُنَّتْ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ تَقِفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَلَمْ تُفِقْ، وَلاَ انْتَبَهَتْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهَا, وَسَوَاءٌ وَقَفَ بِهَا بِمُزْدَلِفَةَ, أَوْ لَمْ يَقِفْ, لإِنَّ الأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" . فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجْزِي عَمَلٌ مَأْمُورٌ بِهِ إلاَّ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَيْهِ مُؤَدًّى بِإِخْلاَصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ كَمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ; وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا فَلَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ
(7/192)
862 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِمُزْدَلِفَةَ مِنْ الرِّجَالِ فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ ذَكَرَ هَذَا الإِنْسَانُ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, لاَِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ, وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/194)
863
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَصَيِّدًا لَهُ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ
عَامِدًا لِقَتْلِهِ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ أَوْ عُمْرَتُهُ لِبُطْلاَنِ
إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
الآيَةَ, فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّدًا
فِي إحْرَامِهِ فَإِذَا فَعَلَ فَلَمْ يُحْرِمْ كَمَا أُمِرَ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَهُ بِإِحْرَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَعَمُّدُ قَتْلِ صَيْدٍ,
وَهَذَا الإِحْرَامُ هُوَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ الإِحْرَامِ الَّذِي فِيهِ تَعَمُّدُ
قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَمْ يَأْتِ بِالإِحْرَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي
الْحَجِّ} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ تَعَمُّدَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ
فُسُوقٌ, وَمَنْ فَسَقَ فِي حَجِّهِ فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ
يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ فَلَمْ يَحُجَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا إبْرَاهِيمُ
بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَبْدُ الْوَارِثُ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَطَلَ
حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَسَمَّاهُمْ:
حُرُمًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا إقْدَامٌ مِنْهُمْ عَظِيمٌ عَلَى تَقْوِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ, وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
حُرُمًا, قَبْلَ قَتْلِ الصَّيْدِ, وَنَهَاهُمْ إذَا كَانُوا حُرُمًا، عَنْ قَتْلِ
الصَّيْدِ, وَمَا سَمَّاهُمْ تَعَالَى قَطُّ
(7/194)
864-
مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَكُلُّ فُسُوقٍ تَعَمَّدَهُ الْمُحْرِمُ ذَاكِرًا
لاِِحْرَامِهِ فَقَدْ بَطَلَ إحْرَامُهُ, وَحَجُّهُ, وَعُمْرَتُهُ, لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
فَصَحَّ أَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الْفُسُوقَ ذَاكِرًا لِحَجِّهِ, أَوْ عُمْرَتِهِ,
فَلَمْ يَحُجَّ كَمَا أُمِرَ, وَقَدْ أَخْبَرَ عليه السلام: أَنَّ
"الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَقَالَ
عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ".
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: أَنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ كَمَا تَلَوْنَا
فَأَبْطَلُوا الْحَجَّ بِالرَّفَثِ وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ; وأعجب مِنْ
هَذَا: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَنْ وَطِئَ فِي إحْرَامِهِ نَاسِيًا غَيْرَ
عَامِدٍ، وَلاَ ذَاكِرٍ لاَِنَّهُ مُحْرِمٌ امْرَأَتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ وَطْأَهَا قَبْلَ الإِحْرَامِ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ;
فَلَوْ تَعَمَّدَ اللِّيَاطَةَ بِذَكَرٍ, أَوْ أَنْ يُلاَطَ بِهِ ذَاكِرًا
لاِِحْرَامِهِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَإِحْرَامُهُ مَبْرُورٌ فَأُفٍّ لِهَذَا
الْقَوْلِ عَدَدَ الرَّمْلِ, وَالْحَصَى, وَالتُّرَابِ فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا
يَبْطُلُ إحْرَامُهُ بِأَنْ يَأْتِيَ مَا حُرِّمَ فِي حَالِ الإِحْرَامِ فَقَطْ,
لاَ بِمَا هُوَ حَرَامٌ قَبْلَ الإِحْرَامِ, وَفِي الإِحْرَامِ وَبَعْدَ
الإِحْرَامِ قلنا: وَعَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ الْفَاسِدِ سَأَلْنَاكُمْ، وَلاَ
حُجَّةَ لَكُمْ فِيهِ, وَأَنْتُمْ تُبْطِلُونَ الصَّلاَةَ بِكُلِّ عَمَلٍ
مُحَرَّمٍ, قَبْلَهَا, وَفِيهَا, وَبَعْدَهَا, كَمَا تُبْطِلُونَهَا بِمَا حُرِّمَ
فِيهَا فَقَطْ. وَقَدْ نَقَضْتُمْ هَذَا الأَصْلَ الْفَاسِدَ فَلَمْ تُبْطِلُوا
الإِحْرَامَ بِتَعَمُّدِ لِبَاسِ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِمَّا هُوَ حَلاَلٌ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ, فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ الْفَاسِدَ فَأَيْنَ الْقِيَاسَ
الَّذِي تَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ بِزَعْمِكُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكَّدَ
الْحَجَّ وَخَصَّهُ بِتَحْرِيمِ الْفُسُوقِ فِيهِ, كَمَا خَصَّهُ بِتَحْرِيمِ
الرَّفَثِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ.
أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ الرَّازِيّ، نا
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النَّحَّاسِ بِمِصْرَ، نا
أَبُو سَعِيدِ بْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامِ بْنِ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ النَّخَعِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
(7/195)
بْنِ
نُمَيْرٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ جَابِرٍ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَابِرٍ
الأَحْمَسِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي
امْرَأَةٍ حَجَّتْ مَعَهَا مُصْمِتَةً: قُولِي لَهَا: تَتَكَلَّمُ فَإِنَّهُ لاَ
حَجَّ لِمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ حَبِيبٍ الْقُومِسِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. أَمَرَ الَّذِي أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا.
قال أبو محمد: وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى أَنْ يُوجِدُوا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَنَّ الْفُسُوقَ لاَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ;
وَأَمَّا مَنْ فَسَقَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لاِِحْرَامِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْطُلُ
بِذَلِكَ إحْرَامُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إبْطَالَهُ، وَلاَ أَتَى
بِإِحْرَامِهِ بِخِلاَفِ مَا أُمِرَ بِهِ عَامِدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/196)
865 - مَسْأَلَةٌ: وَالْجِدَالُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ فِي وَاجِبٍ وَحَقٍّ, وَقِسْمٌ فِي بَاطِلٍ; فَاَلَّذِي فِي الْحَقِّ وَاجِبٌ فِي الإِحْرَامِ وَغَيْرِ الإِحْرَامِ قَالَ تَعَالَى: {اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وَمَنْ جَادَلَ فِي طَلَبِ حَقٍّ لَهُ فَقَدْ دَعَا إلَى سَبِيلِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَسَعَى فِي إظْهَارِ الْحَقِّ وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَاطِلِ, وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ جَادَلَ فِي حَقٍّ لِغَيْرِهِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْجَدَلُ بِالْبَاطِلِ وَفِي الْبَاطِلِ عَمْدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ مُبْطِلٌ لِلإِحْرَامِ وَلِلْحَجِّ لقوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/196)
866
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يُلَبِّ فِي شَيْءٍ مِنْ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ
بَطَلَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَإِنْ لَبَّى وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ,
وَالاِسْتِكْثَارُ أَفْضَلُ; فَلَوْ لَبَّى وَلَمْ يَرْفَعْ صَوْتَهُ فَلاَ حَجَّ
لَهُ، وَلاَ عُمْرَةَ لاَِمْرِ جِبْرِيلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ, فَمَنْ لَمْ يُلَبِّ أَصْلاً أَوْ لَبَّى وَلَمْ
يَرْفَعْ صَوْتَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَحُجَّ، وَلاَ اعْتَمَرَ
كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ
عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلَوْ أَنَّهُمْ، رضي الله
عنهم، إذْ أَمَرَهُمْ عليه السلام بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّلْبِيَةِ أَبَوْا
لَكَانُوا عُصَاةً بِلاَ شَكٍّ, وَالْمَعْصِيَةُ فُسُوقٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَقَدْ
أَعَاذَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ
وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ
يُبْطِلُ الْحَجَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ لَبَّى مَرَّةً وَاحِدَةً رَافِعًا صَوْتَهُ فَقَدْ لَبَّى كَمَا أَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ: مُلَبٍّ وَعَلَى فِعْلِهِ اسْمُ:
التَّلْبِيَةِ, فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ, وَمَنْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ لَمْ
يَلْزَمْهُ فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ, وَالْفَرَائِضُ لاَ
تَكُونُ إلاَّ مَحْدُودَةً لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْهَا, وَمَا
لاَ حَدَّ لَهُ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ;
لإِنَّ فِي إلْزَامِهِ تَكْلِيفَ مَا لاَ يُطَاقُ وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.
(7/196)
وجائز
للمحرِمين من الرجال والنساء أن يتظلوا في المحامل
...
867- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ
يَتَظَلَّلُوا فِي الْمَحَامِلِ
(7/196)
868 - مَسْأَلَةٌ: وَالْكَلاَمُ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّوَافِ جَائِزٌ, وَذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ; لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِمَنْعٍ مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَمَا لَمْ يُفَصِّلْ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/197)
869 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ, وَلاَ لاِمْرَأَةٍ, أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ تَتَزَوَّجَ, وَلاَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ مِنْ وَلِيَّتِهِ, وَلاَ أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةَ نِكَاحٍ مُذْ يُحْرِمَانِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ
(7/197)
870
- مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ, وَأَنْ
يَسْتَقِيَ بِيَدِهِ مِنْهَا, وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ: لِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ
بْنِ إسْمَاعِيلَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ
بِالْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ وَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ
أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ فَنَاوَلُوهُ
دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ، نا يَزِيدُ
بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيّ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ فَاسْتَسْقَى
فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ
وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ هَكَذَا فَاصْنَعُوا, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَنَحْنُ لاَ نُرِيدُ أَنْ نُغَيِّرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ وَسُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَ أَمْرَ
شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَمِنْ شَرَابِ
سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ النَّبِيذِ الْمَذْكُورِ فَقَالَ طَاوُوس: هُوَ مِنْ
تَمَامِ الْحَجِّ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
(7/201)
871 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ صَلاَّهُمَا مَعَ الإِمَامِ بِعَرَفَةَ. فَلَوْ أَدْرَكَ الإِمَامَ فِي الْعَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ وَيَنْوِيَ بِهَا الظُّهْرَ، وَلاَ بُدَّ, لاَ يُجْزِيه غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا
(7/201)
872
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي طَوَافِ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ فَأُقِيمَتْ
الصَّلاَةُ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ صَلاَةُ جِنَازَةٍ, أَوْ عَرَضَ لَهُ بَوْلٌ, أَوْ
حَاجَةٌ, فَلْيُصَلِّ وَلْيَخْرُجْ لِحَاجَتِهِ, ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى طَوَافِهِ
وَيُتِمَّهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي سَعْيِهِ
بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: أَمَّا فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فَيَبْتَدِئُ،
وَلاَ بُدَّ إلاَّ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فَقَطْ, فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا
ثُمَّ يَبْنِي; وَأَمَّا فِي طَوَافِ التَّطَوُّعِ فَيَبْنِي فِي كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: هَذَا تَقْسِيمٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً, وَلَمْ
يَأْتِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ عَلَى وُجُوبِ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
إنْ قَطَعَ لِحَاجَةٍ, وَلاَ بِإِبْطَالِ مَا طَافَ مِنْ أَشْوَاطِهِ وَسَعَى,
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَإِنَّمَا
افْتَرَضَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ سَبْعًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِوُجُوبِ
اتِّصَالِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ,
وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَبَثًا فَلاَ عَمَلَ لِعَابِثٍ، وَلاَ يُجْزِئُهُ:
نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، نا
قَاسِمُ
(7/202)
ابْنُ
أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، نا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، نا جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ طَافَ فِي
يَوْمٍ حَارٍّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ, ثُمَّ أَصَابَهُ حَرٌّ فَدَخَلَ الْحِجْرَ
فَجَلَسَ, ثُمَّ خَرَجَ فَبَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ الإِنْسَانُ فِي الطَّوَافِ
لِيَسْتَرِيحَ وَفِيمَنْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي طَوَافِهِ لِيَذْهَبَ
وَلِيَقْضِ حَاجَتَهُ, ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا كَانَ طَافَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/203)
873
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِحْصَارُ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مَا
يَمْنَعُهُ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ, قَارِنًا كَانَ, أَوْ
مُتَمَتِّعًا, مِنْ عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ كَسْرٍ, أَوْ خَطَأِ طَرِيقٍ, أَوْ
خَطَأٍ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ سِجْنٍ, أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ: فَهُوَ
مُحْصِرٌ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عِنْدَ إحْرَامِهِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ
مَحَلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيُحِلَّ مِنْ إحْرَامِهِ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, سَوَاءٌ شَرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, أَوْ الْعُمْرَةِ,
أَوْ لَمْ يَشْرَعْ بَعْدُ, قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا, مَضَى لَهُ أَكْثَرُ
فَرْضِهِمَا أَوْ أَقَلُّهُ, كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلاَ هَدْيَ فِي ذَلِكَ،
وَلاَ غَيْرِهِ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلاَّ أَنْ
يَكُونَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ, فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ
وَيَعْتَمِرَ، وَلاَ بُدَّ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا ذَكَرْنَا
فَإِنَّهُ يُحِلُّ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلاَ فَرْقَ,
وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ بُدَّ, كَمَا قلنا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ
سَوَاءٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعَوَّضُ مِنْ هَذَا الْهَدْيِ صَوْمٌ، وَلاَ
غَيْرُهُ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يَجِدَهُ, وَلاَ
قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ,
فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ.
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الإِحْصَارِ: فَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ: نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ: لاَ إحْصَارَ إلاَّ مِنْ عَدُوٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ
أَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ, قَالَ: لَمَّا
أُحْصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ صَالَحَهُ أَهْلُ
مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا فَيَبْقَى بِهَا ثَلاَثًا، وَلاَ يَدْخُلَهَا إلاَّ
بِجُلْبَانِ السِّلاَحِ السَّيْفِ وَقِرَابِهِ, وَلاَ يَخْرُجُ بِأَحَدٍ مَعَهُ
مِنْ أَهْلِهَا, وَلاَ يَمْنَعُ أَحَدًا يَمْكُثُ بِهَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ
فَسَمَّى الْبَرَاءُ مَنْعَ الْعَدُوِّ: إحْصَارًا. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ: الإِحْصَارُ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ, وَالْكَسْرِ; وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
يَحْبِسُهُ. وَأَمَّا الْحَصْرُ: فَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْحَصْرُ, وَالْمَرَضُ, وَالْكَسْرُ, وَشِبْهُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ حَصْرَ إلاَّ مَنْ حَبَسَهُ عَدُوٌّ. وَعَنْ طَاوُوس قَالَ:
لاَ حَصْرَ الآنَ, قَدْ ذَهَبَ الْحَصْرُ.
(7/203)
وَعَنْ
عَلْقَمَةَ: الْحَصْرُ الْخَوْفُ وَالْمَرَضُ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: الْحَصْرُ مَا حَبَسَهُ مِنْ حَابِسٍ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ خَوْفٍ,
أَوْ ابْتِغَاءِ ضَالَّةٍ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْحَصْرُ
مَا مَنَعَهُ مِنْ وَجَعٍ, أَوْ عَدُوٍّ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ. وَفَرَّقَ
قَوْمٌ بَيْنَ الإِحْصَارِ, وَالْحَصْرِ. فَرُوِّينَا، عَنِ الْكِسَائِيِّ قَالَ:
مَا كَانَ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: أَحُصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ,
وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ, أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ, قِيلَ فِيهِ:
أُحْصِرَ, فَهُوَ مُحْصِرٌ; وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسٍ قِيلَ: حَصْرٌ. وَبِهِ
يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحُجَّةُ
فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَمْرِ
الْحُدَيْبِيَةِ إذْ مَنَعَ الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
إتْمَامِ عُمْرَتِهِ, وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْعَ الْعَدُوِّ إحْصَارًا.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَابْنُ عُمَرَ، وَإِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَهُمْ فِي اللُّغَةِ فَوْقَ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَأَبِي عُبَيْدٍ,
وَالْكَسَائِيّ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إلْحَافًا}.
فَهَذَا هُوَ مَنْعُ الْعَدُوِّ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ إنَّمَا مَنَعَهُمْ
مِنْ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ الْكُفَّارُ بِلاَ شَكٍّ; وَبَيَّنَ ذَلِكَ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فَصَحَّ أَنَّ الإِحْصَارَ, وَالْحَصْرَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ, وَأَنَّهُمَا اسْمَانِ يَقَعَانِ عَلَى كُلِّ مَانِعٍ مِنْ
عَدُوٍّ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمُحْصِرِ الْمَمْنُوعِ مِنْ إتْمَامِ حَجِّهِ,
أَوْ عُمْرَتِهِ. فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ
بِحَجٍّ مَرِضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ,
فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ; فَإِنْ اعْتَمَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إذَا
بَرَأَ, ثُمَّ حَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ, فَإِنْ لَمْ يَزُرْ
الْبَيْتَ حَتَّى يَحُجَّ وَيَجْعَلَهُمَا سَفَرًا وَاحِدًا فَعَلَيْهِ هَدْيٌ
آخَرُ: سَفَرَانِ وَهَدْيٌ أَوْ هَدَيَانِ وَسَفَرٌ وَهَذَا عَنْهُ مُنْقَطِعٌ لاَ
يَصِحُّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ لُدِغَ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى النُّفُوذِ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ,
فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيَ أَحَلَّ. وَصَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَفْتَى فِي
مَرِيضٍ مُحْرِمٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّفُوذِ: بِأَنْ يَنْحَرَ عَنْهُ
بَدَنَةً; ثُمَّ لِيُهِلَّ عَامًا قَابِلاً بِمِثْلِ إهْلاَلِهِ الَّذِي أَهَلَّ
بِهِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي مُحْرِمٍ بِعُمْرَةٍ
مَرِضَ بِوَقْعَةٍ مِنْ رَاحِلَتِهِ, قَالاَ جَمِيعًا: لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ
كَوَقْتِ الْحَجِّ, يَكُونُ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يُصَلِّ إلَى الْبَيْتِ.
وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ هَذَا أَيْضًا. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِيمَنْ أُحْصِرَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ
(7/204)
عُمَرَ
أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ فَإِنَّا نَخْشَى
أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ
وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ
حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْت كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَنَا مَعَهُ حِينَ حَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَيْتِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت عُمْرَةً; ثُمَّ قَالَ: مَا
أَمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ إنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ حِيلَ بَيْنِي
وَبَيْنَ الْحَجِّ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم إذْ حَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ وَكَانَ
مُهِلًّا بِعُمْرَةٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، رضي الله عنهم، نَحَرَ وَحَلَّ
وَانْصَرَفَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ, "أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ
مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَرُّوا
عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ مَرِيضُ بِالسُّقْيَا فَأَقَامَ عَلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَتَّى إذَا خَافَ الْفَوَاتَ خَرَجَ وَبَعَثَ إلَى
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ
فَقَدِمَا عَلَيْهِ, وَأَنَّ حُسَيْنًا أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَأَمَرَ عَلِيٌّ
بِرَأْسِهِ فَحُلِقَ, ثُمَّ نَسَكَ عَنْهُ بِالسُّقْيَا فَنَحَرَ عَنْهُ
بَعِيرًا".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَخْبَرَنِي
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي
أَسْمَاءَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: إنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ
عَلِيٍّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا كَانَ
بِالْعَرَجِ مَرِضَ, فَلَمَّا أَتَى السُّقْيَا بِرَسْمٍ فَكَانَ أَوَّلُ
إفَاقَتِهِ أَنْ أَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَحُلِقَ عَلَى رَأْسِهِ وَنَحَرَ عَنْهُ
بِهَا جَزُورًا.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَتَيْنَا بِهَذَا الْخَبَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ
كَانَ مُعْتَمِرًا فَهَذَا عَلِيٌّ, وَالْحُسَيْنُ, وَأَسْمَاءُ رَأَوْا أَنْ
يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيُهْدِيَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ, وَهُوَ
قَوْلُنَا. وَعَنْ عَلْقَمَةَ فِي الْمُحْصِرِ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ فَإِذَا
ذُبِحَ حَلَّ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلْقَمَةَ أَيْضًا: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ
الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا إنْ حَلَّ قَبْلَ نَحْرِ
هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ,
وَالْحَسَنِ, وَالشَّعْبِيِّ: لاَ يُحِلُّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ.
وَرُوِّينَا عَنْهُمْ أَيْضًا: حَاشَا الشَّعْبِيَّ: إنْ حَلَّ دُونَ الْبَيْتِ
فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ, وَلاَ
يَحِلُّ إلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَاعَدَهُمْ لِبُلُوغِهِ مَكَّةَ وَنَحْرِهِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَيْضًا فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: عَلَيْهِ
هَدْيَانِ.
وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا: وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْقَارِنِ
يُحْصِرُ قَالاَ جَمِيعًا: عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ,
وطَاوُوس لَيْسَ عَلَى الْقَارِنِ إلاَّ هَدْيٌ وَاحِدٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ
أَيْضًا: إنْ أَحَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ فَعَلَيْهِ فِدْيَةُ
الأَذَى إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ
شَاةٌ.
(7/205)
وَعَنْ
مُجَاهِدٍ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ قَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ يَحِلُّ بِهِ, ثُمَّ
يُهِلُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَا كَانَ أَهَلَّ بِهِ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي الْقَارِنِ يُحْصِرُ أَنَّهُ يَبْعَثُ
بِالْهَدْيِ فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّهُ حَلَّ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ قَالَ
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَثَلاَثُ عُمَرَ. وَعَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمُحْصِرِ إذَا رَجَعَ لاَ يَحِلُّ مِنْهُ إلاَّ رَأْسُهُ
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مَنْ أُحْصِرَ بِالْحَرْبِ نَحَرَ حَيْثُ حُبِسَ وَحَلَّ مِنْ
النِّسَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَسَالِمٍ,
وَابْنُ سِيرِينَ: يَبْعَثُ هَدْيَهُ فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا إذَا حَلَّ الْمُحْصِرُ قَبْلَ نَحْرِ هَدْيِهِ
فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ. وقال أبو حنيفة فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَأُحْصِرَ:
عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ فَيُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحُ
عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ, وَيَحِلُّ, وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ, فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ هَدْيًا أَقَامَ مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا وَلَهُ أَنْ
يُوَاعِدَهُمْ بِنَحْرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ قَالَ: وَالْمُعْتَمِرُ
يَنْحَرُ هَدْيَهُ مَتَى شَاءَ, وَالإِحْصَارُ عِنْدَهُ بِالْعَدُوِّ,
وَالْمَرَضِ, وَبِكُلِّ مَانِعٍ سِوَاهُمَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ, فَإِنْ تَمَادَى
مَرَضُهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَكَمَا قلنا وَإِنْ هُوَ أَفَاقَ قَبْلَ وَقْتِ
الْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ كَمَا كَانَ; فَإِنْ
كَانَ مُعْتَمِرًا فَأَفَاقَ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ الَّذِي
بَعَثَ مَضَى وَقَضَى عُمْرَتَهُ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ حَلَّ إذَا
نَحَرَ عَنْهُ الْهَدْيَ. وقال مالك: إنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَإِنَّهُ يَنْحَرُ
هَدْيَهُ حَيْثُ حُبِسَ وَيُحِلُّ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, إلاَّ أَنْ يَكُونَ
لَمْ يَحُجَّ قَطُّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ, فَإِنْ لَمْ
يُهْدِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ
حَاضِرًا مَعَهُ قَدْ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ, فَإِنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ
لَكِنْ بِحَبْسٍ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَإِنَّهُ لاَ يُحِلُّ إلاَّ
بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ, وَلَوْ بَقِيَ كَذَلِكَ إلَى عَامٍ آخَرَ. وقال
الشافعي: إذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ, أَوْ بِسِجْنٍ فَإِنَّهُ يُهْدِي وَيُحِلُّ
حَيْثُ كَانَ مِنْ حِلٍّ, أَوْ حَرَمٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ إنْ كَانَ
لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ;
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَدْيٍ فَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يَحِلُّ
إلاَّ حَتَّى يُهْدِيَ; وَالآخَرُ يُحِلُّ, وَالْهَدْيُ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَقَدْ
قِيلَ: عَلَيْهِ إطْعَامٌ, أَوْ صِيَامٌ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ فَإِنْ
أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يُحِلَّهُ إلاَّ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ,
فَإِنْ لَمْ يُفِقْ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ طَافَ, وَسَعَى, وَحَلَّ, وَعَلَيْهِ
الْهَدْيُ.
قال أبو محمد: أَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, وَبِغَيْرِ
عَدُوٍّ فَفَاسِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ وَأَمَّا إسْقَاطُ الْهَدْيِ، عَنِ
الْمُحْصِرِ بِعَدُوٍّ, أَوْ غَيْرِهِ فَخِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}
وَأَمَّا إيجَابُ الْقَضَاءِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ.
فإن قيل: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اعْتَمَرَ بَعْدَ عَامِ
الْحُدَيْبِيَةِ قلنا: نَعَمْ, وَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ عَامًا
آخَرَ لِمَنْ أَحَبَّ, وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ إيجَابِهِ فَرْضًا; لإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ عَلَى الْمُسْلِمِ إلاَّ
حَجَّةً وَاحِدَةً وَعُمْرَةً فِي الدَّهْرِ, فَلاَ
(7/206)
يَجُوزُ
إيجَابُ أُخْرَى, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ
فَيُوقَفُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُحْصِرِ بِمَرَضٍ
عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ, فَقَوْلٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى
صِحَّتِهِ, وَلاَ أَوْجَبَهُ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ بَلْ هُوَ
خِلاَفُ الْقُرْآنِ كَمَا أَوْرَدْنَا وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يُرْوَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَفْتَى
بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ أَصْلاً.
فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} قلنا نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى إنَّ الْمُحْصِرَ لاَ يُحِلُّ
إلاَّ بِالطَّوَافِ. وَاَلَّذِي قَالَ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هُوَ الَّذِي قَالَ: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}. وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله
عليه وسلم أَنْ يُحِلَّ وَيَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي
عُمْرَتِهِ الَّتِي صُدَّ فِيهَا، عَنِ الْبَيْتِ, وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ
أَوَامِرِهِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ: بِبَعْثِهِ هَدْيًا يَحِلُّ بِهِ, فَقَوْلٌ لاَ يُؤَيِّدُهُ
قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَالصَّحَابَةُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا. فإن قيل: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. قلنا: نَعَمْ,
وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمُحْصَرِ وَحْدَهُ, بَلْ هُوَ حُكْمُ كُلِّ مَنْ سَاقَ
هَدْيًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى عُمُومِ الآيَةِ.
فَالْحَاجُّ, وَالْقَارِنُ إذَا كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى, فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ
رَأْسَهُ. وَالْمُعْتَمِرُ إذَا أَتَمَّ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ فَقَدْ بَلَغَ
هَدْيُهُ مَحِلَّهُ مِنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِمَكَّةَ فَلَهُ أَنْ يَحْلِقَ
رَأْسَهُ. وَالْمُحْصَرُ إذَا صُدَّ فَقَدْ بَلَغَ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ فَلَهُ أَنْ
يَحْلِقَ رَأْسَهُ إنْ كَانَ مَعَ هَؤُلاَءِ هَدْيٌ, وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ قَطُّ: إنَّ الْمُحْصَرَ لاَ يُحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ هَدْيُهُ مَكَّةَ,
بَلْ هُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ نَسَبَهُ إلَيْهِ عَزَّ
وَجَلَّ; فَظَهَرَ خَطَأُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي الإِحْصَارِ,
فَلاَ يُحْفَظُ قَوْلٌ مِنْهَا بِتَمَامِهِ وَتَقْسِيمِهِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَصْلاً.
قال أبو محمد: فَوَجَبَ الرُّجُوعُ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى مَا افْتَرَضَ
اللَّهُ تَعَالَى الرُّجُوعَ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. فَوَجَدْنَا حُكْمَ الإِحْصَارِ
يَرْجِعُ: إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنْ الْهَدْيِ} فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ عُمُومُ إيجَابِ الْهَدْيِ عَلَى
كُلِّ مَنْ أُحْصِرَ بِأَيِّ وَجْهٍ أُحْصِرَ. وَإِلَى فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إذْ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، عَنِ الْبَيْتِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَحَلُّوا بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَإِلَى أَمْرِهِ عليه السلام
مَنْ حَجَّ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي"
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَإِلَى مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا
مُحَمَّدُ
(7/207)
ابْنُ
مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ
الْبَصْرِيُّ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ حَبِيبٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو
الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى"
فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ, وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالاَ: صَدَقَ ". فَهَذِهِ
النُّصُوصُ تَنْتَظِمُ كُلَّ مَا قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فإن قيل: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرَى, وَلَيْسَ فِيهِ
ذِكْرُ هَدْيٍ قلنا: إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِيجَابِ الْهَدْيِ, فَهُوَ زَائِدٌ
عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرٌ لاِِسْقَاطِ
الْهَدْيِ، وَلاَ لاِِيجَابِهِ, فَوَجَبَ إضَافَةُ مَا زَادَهُ الْقُرْآنُ
إلَيْهِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ
اللاَّزِمَ لِلنَّاسِ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَحْمُولاً عَلَى
مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ, وَبِهَذَا تَتَأَلَّفُ الأَخْبَارُ.
فإن قيل: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا
قلنا: الْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا رَوَى لاَ فِي رَأْيِهِ وَقَدْ يَنْسَى,
أَوْ يَتَأَوَّلُ; وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْهِينَ بِمَا رَوَى لِمَا رُوِيَ
عَنْهُ مِمَّا يُخَالِفُ مَا رَوَى أَوْلَى مِنْ تَوْهِينِ مَا رَوَى بِمَا رُوِيَ
عَنْهُ مِنْ خِلاَفِهِ لِمَا رَوَى, لإِنَّ الطَّاعَةَ عَلَيْنَا إنَّمَا هِيَ لِمَا
رَوَى لاَ لِمَا رَأَى بِرَأْيِهِ. وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
خِلاَفُ مَا رُوِيَ لَكَانَ الْحَجَّاجُ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, قَدْ رَوَيَاهُ
وَلَمْ يُخَالِفَاهُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَنْحَرُ هَدْيَ الإِحْصَارِ إلاَّ فِي
الْحَرَمِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ نَهَضَ بِالْهَدْيِ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ حَتَّى نَحَرَهُ فِي الْحَرَمِ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ; لاَِنَّهُ لَمْ
يَأْمُرْ بِذَلِكَ عليه السلام، وَلاَ أَوْجَبَهُ, وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ
عَمَلاً عَمِلَهُ, وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لاَِمْرِهِ عليه السلام. وَرُوِّينَا
خَبَرًا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْبُدْنِ لِلْهَدْيِ
وَهَذَا لاَ يَصِحُّ, لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو حَاضِرٍ الأَزْدِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ,
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/208)
874 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ احْتَاجَ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِمَرَضٍ, أَوْ صُدَاعٍ, أَوْ لِقَمْلٍ, أَوْ لِجُرْحٍ بِهِ, أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فَلْيَحْلِقْهُ, وَعَلَيْهِ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيُّهَا شَاءَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا. إمَّا أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَأَمَّا أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُتَغَايِرِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ، وَلاَ بُدَّ, وَأَمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ, أَوْ يَصُومَ, أَوْ يُطْعِمَ, أَوْ يَنْسَكَ الشَّاةَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ دُونَ بَعْضٍ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَطَلَ حَجُّهُ, فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِهِ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, لاَ إثْمَ، وَلاَ كَفَّارَةَ بِأَيِّ وَجْهٍ قَطَعَهُ, أَوْ نَزَعَهُ.
(7/208)
بُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فَكَانَ
فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّخْيِيرُ فِي أَيِّ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَعْمَالِ
أَحَبَّ, وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ كَمْ يَصُومُ، وَلاَ بِكَمْ يَتَصَدَّقُ، وَلاَ
بِمَاذَا يَنْسَك وَفِي الآيَةِ أَيْضًا حَذْفٌ بَيَّنَهُ الإِجْمَاعُ,
وَالسُّنَّةُ وَهُوَ: فَحَلَقَ رَأْسَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً,
وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ ثَلاَثَةَ
آصُعَ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ،
عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ لَهُ: آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ
قَالَ: نَعَمْ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم احْلِقْ, ثُمَّ
اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا, أَوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ اطْعَمْ ثَلاَثَةَ
آصُعَ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
قال أبو محمد: هَذَا أَكْمَلُ الأَحَادِيثِ وَأَبْيَنُهَا, وَقَدْ جَاءَ هَذَا
الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ: فِي بَعْضِهَا أَوْ نُسُكِ مَا تَيَسَّرَ. وَبَعْضُهَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ: أَنَّ
كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْخَبَرِ, وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ حِينَئِذٍ: "أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ
مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ". وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, فَذَكَرَ فِيهِ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: نا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا يَعْقُوبُ
بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبَانُ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ فِيهِ أَوْ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَخْبَرَنِي كَعْبُ
بْنُ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ;
وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ" قَالَ:
مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ
يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ, لِكُلِّ
(7/209)
مِسْكِينٍ
نِصْفُ صَاعٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ
أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ: "هَلْ تَجِدُ مِنْ نَسِيكَةٍ" قَالَ:
لاَ, قَالَ: وَهِيَ شَاةٌ قَالَ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ
ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ
الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ "أَمَعَكَ دَمٌ" قَالَ: لاَ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ, أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلاَثَةِ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ
مَسَاكِينَ" لَمْ يَسْمَعْهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ كَعْبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ.
وَنَذْكُرُ الآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، نا جَعْفَرُ الصَّائِغُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ
الصَّبَّاحِ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: "إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ:
"أَمَعَكَ هَدْيٌ" قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ, قَالَ: "إنَّهُ مَا اسْتَيْسَرَ"
قُلْتُ: مَا أَجِدُهُ قَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ
مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمُضْطَرِبَةُ كُلُّهَا إنَّمَا هِيَ فِي
رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, وَاَلَّذِي
ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أَمَّا هَذَا
الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعُ تَمْرٍ فَهُوَ، عَنْ أَشْعَثَ
الْكُوفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَلْبَتَّةَ; وَفِي هَذَا
الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ كَعْبٍ:
إيجَابُ التَّرْتِيبِ, وَأَنْ لاَ يَجْزِيَ الصِّيَامُ, وَلاَ الصَّدَقَةُ إلاَّ
عِنْدَ عَدَمِ النُّسُكِ, وَذَلِكَ الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ
لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ كَعْبٍ, فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا: فَسَقَطَا مَعًا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ, وَأَبِي عَوَانَةَ، عَنِ
الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَفِيهَا أَيْضًا: إيجَابُ
التَّرْتِيبِ, وَقَدْ خَالَفَهُمَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَذَكَرَهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النُّسُكِ أَوْ
الصَّوْمِ, أَوْ الصَّدَقَةِ, ثُمَّ وَجَدْنَا شُعْبَةَ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ
أَيْضًا فِي هَذَا الْخَبَرِ: فَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: نِصْفَ
صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ: نِصْفَ
صَاعٍ حِنْطَةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ:
ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ, وَلَمْ يَذْكُرْ لِمَاذَا؟
قال أبو محمد: وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ بِلاَ
خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ, وَبِنُصُوصِ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا أَيْضًا.فَصَحَّ
أَنَّ جَمِيعَهَا وَهْمٌ إلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ: فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ شُعْبَةَ
قَدْ
(7/210)
اخْتَلَفُوا
عَلَيْهِ, فَوَجَبَ تَرْكُ مَا اضْطَرَبُوا فِيهِ, إذْ لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى
مِنْ بَعْضٍ, وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى الَّذِي لَمْ يَضْطَرِبْ الثِّقَاتُ مِنْ رُوَاتِهِ فِيهِ, وَلَوْ كَانَ
مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ، عَنْ قَضَايَا شَتَّى لَوَجَبَ الأَخْذُ
بِجَمِيعِهَا وَضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ, وَأَمَّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ
فَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلاً. ثُمَّ وَجَدْنَا أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ قَدْ ذَكَرَ
فِي رِوَايَتِهِ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ وَأَبَانُ لاَ يُعْدَلُ فِي الْحِفْظِ
بِدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
أَبِي لَيْلَى, وَلاَ بِأَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى, وَلاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِ إحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ, إذْ لاَ
يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا; لاَِنَّهَا كُلُّهَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ, فِي مَقَامٍ
وَاحِدٍ, فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ, فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فَوَجَبَ أَخْذُ مَا رَوَاهُ
أَبُو قِلاَبَةَ, وَالشَّعْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, لِثِقَتِهِمَا وَلاَِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِسَائِرِ
الأَحَادِيثِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَالِمًا عَامِدًا بِأَنَّ
ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ, أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَخَلَّى الْبَعْضَ عَالِمًا
بِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ: فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى, وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ
فُسُوقٌ, وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِمَرَضٍ, أَوْ أَذًى
بِهِ فَقَطْ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَبَ
فِدْيَةٌ, أَوْ غَرَامَةٌ, أَوْ صِيَامٌ, لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ شَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْعَاصِي عَلَى الْمُطِيعِ لَوْ كَانَ
الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَأَمَّا مَنْ قَطَعَ مِنْ
شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِذَلِكَ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ
لَمْ يَعْصِ، وَلاَ أَتَى مُنْكَرًا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ
الْمُحْرِمَ إلاَّ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ وَنَهَى جُمْلَةً عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
صلى الله عليه وسلم، عَنْ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْقَزَعُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَبِيًّا قَدْ
حَلَقَ بَعْضَ شَعْرِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ، عَنْ ذَلِكَ, وَقَالَ:
احْلِقُوا كُلَّهُ, أَوْ اُتْرُكُوا كُلَّهُ".
قال أبو محمد: وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ لاَ تَصِحُّ, مِنْهَا: مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ وَيُهْدِيَ بَقَرَةً وَهَذَا مُرْسَلٌ،
عَنْ مَجْهُولٍ.
(7/211)
وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ كَعْبًا ذَبَحَ
بَقَرَةً بِالْحُدَيْبِيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمِنْ
طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ:
أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ فَسَأَلَ
عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَمَّا كَانَ أَبُوهُ ذَبَحَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي فِدْيَةِ رَأْسِهِ فَقَالَ: بَقَرَةً مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ, وَغَيْرِهِ, عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ
بِمَاذَا افْتَدَى أَبُوهُ فَقَالَ بِبَقَرَةٍ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: افْتَدَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ مِنْ أَذًى كَانَ بِرَأْسِهِ فَحَلَقَهُ
بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا أَبُو مَعْشَرٍ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَعَلْقَمَةَ, وَمُجَاهِدٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَقَتَادَةَ, وطَاوُوس,
وَعَطَاءٍ, كُلُّهُمْ قَالَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ,
أَوْ نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ. وَصَحَّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ,
وَعِكْرِمَةَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى: نُسُكُ شَاةٍ, أَوْ صِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ,
أَوْ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ.
رُوِّينَا ذَلِكَ: مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ: أَنَا
مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
نَافِعٍ, وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنْ
حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا
تَيَسَّرَ, فَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ نُسُكِ مَا
شَاءَ, وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ, أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ, أَوْ إطْعَامُ
سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةٍ, أَوْ دَقِيقُ حِنْطَةٍ,
أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ أَبُو
يُوسُفَ: وَيُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنُ: لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ: إنْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ فَأَقَلَّ صَدَقَةٌ,
وَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَالْفِدْيَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ إنْ حَلَقَ عُشْرَ رَأْسِهِ
فَصَدَقَةٌ فَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ.
قَالُوا كُلُّهُمْ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ
لاَ يُجْزِئُهُ بَدَلُهُ صِيَامٌ, وَلاَ إطْعَامٌ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ: لَيْسَ
فِي حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ شَيْءٌ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ وَاسْتِهْزَاءٌ وَشَبِيهٌ بِالْهَزْلِ, نَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ, وَلاَ
(7/212)
يُحْفَظُ
هَذَا السُّخَامُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُمْ. وقال
مالك: إنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ شَعَرَاتٍ نَاسِيًا, أَوْ جَاهِلاً أَوْ عَامِدًا
فَيُطْعِمُ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ فَإِنْ حَلَقَ, أَوْ نَتَفَ مَا يَكُونُ فِيهِ
إمَاطَةَ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ.
قال علي: وهذا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وقال الشافعي, وَالأَوْزَاعِيُّ فِي نَتْفِ شَعْرَةٍ أَوْ
حَلْقِهَا عَامِدًا وَنَاسِيًا: مُدٌّ, وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ كَذَلِكَ مُدَّانِ,
وَفِي الثَّلاَثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ دَمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ
أَحَبَّ فَشَاةٌ, وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ
مُدَّانِ مُدَّانِ مِمَّا يَأْكُلُ, وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَيْسَ فِي الشَّعْرَتَيْنِ، وَلاَ فِي
الشَّعْرَةِ شَيْءٌ, وَفِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ دَمٌ وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
نَحَا إلَى هَذَا وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا
فِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ لِلْمُحْرِمِ: دَمٌ, النَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ: قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً، عَنْ مُحْرِمٍ
حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لِدَوَاءٍ قَالَ: عَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو
أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ
يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ، عَنِ الشَّجَّةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَبَاحَ ذَلِكَ لَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا، وَلاَ يُعْرَفُ فِي
ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَوْضِعُ النُّسُكِ وَالإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُحْصِرِ نُسُكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ
الْحُسَيْنِ رضي الله تعالى عنهما فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ
بِالسُّقْيَا، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم
مُخَالِفًا وَنُسُكُ حَلْقِ الرَّأْسِ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, إذْ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النُّسُكِ بِمَكَّةَ
قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس قَالَ: مَا
كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ, وَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ
وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ
دَمٍ وَاجِبٍ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَذْبَحَهُ إلاَّ بِمَكَّةَ.
رُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْت.
ال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِالنُّسُكِ مَكَانًا دُونَ مَكَان إلاَّ
بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
(7/213)
875 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِنُورَةٍ فَهُوَ حَالِقٌ فِي اللُّغَةِ فَفِيهِ مَا فِي الْحَالِقِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَلَقَهُ فَإِنْ نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَحْلِقْهُ; وَالنَّتْفُ غَيْرُ الْحَلْقِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ وَالْفِدْيَةُ فِي الْحَلْقِ لاَ فِي النَّتْفِ.
(7/214)
876
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَصَيَّدَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ
أَوْ بِقِرَانٍ أَوْ بِحَجَّةِ تَمَتُّعٍ مَا بَيْنَ أَوَّلِ إحْرَامِهِ إلَى
دُخُولِ وَقْتِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, أَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ, أَوْ
مُحِلٌّ فِي الْحَرَمِ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ غَيْرَ ذَاكِرٍ
لاِِحْرَامِهِ أَو لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ, أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ لِقَتْلِهِ
سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ,
لاَ كَفَّارَةَ وَلاَ إثْمَ وَذَلِكَ الصَّيْدُ جِيفَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ,
فَإِنْ قَتَلَهُ عَامِدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لاَِنَّهُ فِي
الْحَرَمِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى, وَحَجُّهُ بَاطِلٌ وَعُمْرَتُهُ
كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا
اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}.
فَصَحَّ يَقِينًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ
عَلَى الْعَامِدِ لِقَتْلِهِ, الذَّاكِرِ لاِِحْرَامِهِ, أَوْ; لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ,
لإِنَّ إذَاقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَالَ الأَمْرِ وَعَظِيمَ وَعِيدِهِ
بِالاِنْتِقَامِ مِنْهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي
أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُخْطِئِ أَلْبَتَّةَ, وَلاَ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ
لِلْمَعْصِيَةِ الْقَاصِدِ إلَيْهَا; فَبَطَلَ يَقِينًا أَنْ يَكُونَ فِي
الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ إيجَابُ حُكْمٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى
غَيْرِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ الْقَاصِدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا
عَلَيْهِ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ
الْمَسْعُودِيِّ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ
بْنِ جَابِرٍ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَمَعَهُ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ, وَعُمَرُ: يَسْأَلُ رَجُلاً قَتَلَ ظَبْيًا
وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ: لَقَدْ تَعَمَّدْت رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْت قَتْلَهُ, فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: مَا أَرَاك إلاَّ أَشْرَكْت بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ; أَعْمِدْ إلَى
شَاةٍ فَاذْبَحْهَا فَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَأَسِقْ إهَابَهَا.
قال أبو محمد: فَلَوْ كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً عِنْدَ
عُمَرَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ لَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ
خَطَأً وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ; لاَِنَّهُ كَانَ يَكُونُ
فُضُولاً مِنْ السُّؤَالِ لاَ مَعْنَى لَهُ
(7/214)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ
الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مَدِينَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي
الْخَطَأِ شَيْءٌ أَبُو مَدِينَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ السَّدُوسِيُّ
تَابِعِيٌّ, سَمِعَ أَبَا مُوسَى, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله
عنهم.
وَمِنْ طَرِيق شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ
خَطَأً قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ: فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ قَالَ:
السُّنَّةُ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْمَالِكِيِّينَ يَجْعَلُونَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ إذْ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ، عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمَرْأَةِ يُقْطَعُ
لَهَا ثَلاَثُ أَصَابِعَ لَهَا ثَلاَثُونَ مِنْ الإِبِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ لَهَا
أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَلَيْسَ لَهَا إلاَّ عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ فَقَالَ لَهُ
سَعِيدٌ: السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي; فَجَعَلُوهُ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ
خِلاَفُهَا. وَقَدْ خَالَفَ سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ,
وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُمَا; ثُمَّ لَمْ يَجْعَلُوا هَاهُنَا
حُجَّةَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ أَنَّ لَيْسَ عَلَى
الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً, وَمَعَهُ الْقُرْآنُ, وَالصَّحَابَةُ
وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: لاَ يُحْكَمُ إلاَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ
مُتَعَمِّدًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ فِيمَنْ
أَصَابَ الْجَنَادِبَ خَطَأً قَالُوا: لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَابَهَا
مُتَعَمِّدًا حُكِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا.
وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ
قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ خَطَأً, وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ عَامِدًا
ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ,
وَالشَّافِعِيُّ: الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ
ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا، عَنْ عُمَرَ, وَعَبْدِ
الرَّحْمَانِ, وَسَعْدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد: الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَشَغَبَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ
قَالُوا: قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ
خَطَأً فَقِسْنَا عَلَيْهِ قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً.
قال علي: هذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ فَارَقُوا
حُكْمَ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا; أَمَّا كَوْنُهُ خَطَأً; فَلاَِنَّ مِنْ
أَصْلِهِمْ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَنَّ مَا خَرَجَ، عَنْ حُكْمِ
أَصْلِهِ مَخْصُوصًا أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ,
(7/215)
وَالأَصْلُ
أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَخَرَجَ عِنْدَهُمْ إيجَابُ
الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً، عَنْ أَصْلِهِ,
فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنْ لاَ يَقِيسُوا حُكْمَ الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى
الْوَاطِئِ فِيهِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا, وَقَتْلُ
الصَّيْدِ أَشْبَهُ بِالْوَطْءِ مِنْهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ; لإِنَّ قَتْلَ
الْمُؤْمِنِ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ ثُمَّ حُرِّمَ, بَلْ لَمْ يَزَلْ حَرَامًا مُذْ
آمَنَ, أَوْ مُذْ وُلِدَ إنْ كَانَ وُلِدَ عَلَى الإِسْلاَمِ. وَأَمَّا الْوَطْءُ
وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَكَانَا حَلاَلَيْنِ, ثُمَّ حُرِّمَا بِالصَّوْمِ
وَبِالإِحْرَامِ فَجَمَعَتْهُمَا هَذِهِ الْعِلَّةُ فَأَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ
قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ
لِلْقِيَاسِ هُنَا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ
لاَ يَجُوزُ أَنْ تُوجَبَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ أَوْجَبُوهَا هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ;
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ قَاسُوا الْخَطَأَ فِي
قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ
فِي كِلَيْهِمَا وَلَمْ يَقِيسُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى قَتْلِ
الصَّيْدِ عَمْدًا فَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا
وَلَمْ يُوجِبُوهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَبَاطِلٌ.
وَأَيْضًا فَلَمْ يَقِيسُوا نَاسِي التَّسْمِيَةِ فِي التَّذْكِيَةِ عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا فِيهَا مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالتَّسْوِيَةِ
بَيْنَ الأَمْرَيْنِ هُنَالِكَ; وَتَفْرِيقِ الْحُكْمِ هَاهُنَا.
وَالشَّافِعِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي فِيمَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ
وَبَيْنَ الْعَامِدِ, وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَسَاوَوْا هَاهُنَا بَيْنَ
النَّاسِي وَالْعَامِدِ, وَهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ. وَقَالُوا: لَيْسَ تَخْصِيصُ
اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ
أَنَّ الْمُخْطِئَ بِخِلاَفِهِ وَذَكَرُوا مَا نَحْتَجُّ بِهِ نَحْنُ وَمَنْ
وَافَقَنَا مِنْهُمْ مِنْ النُّصُوصِ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ
الْخِطَابِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ, لاَِنَّنَا إذَا
أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَمْ نُوجِبْ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ
بَلْ أَبْطَلْنَاهُمَا جَمِيعًا, وَالْقِيَاسُ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ
عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ, وَدَلِيلُ الْخِطَابِ: هُوَ أَنْ يُحْكَمَ
لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِخِلاَفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُمْ
فَتَلَوَّنُوا هَاهُنَا مَا شَاءُوا, فَمَرَّةً يَحْكُمُونَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ
بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قِيَاسًا, وَمَرَّةً يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ
بِخِلاَفِ حُكْمِهِ أَخْذًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ
الْحُكْمَيْنِ مُضَادٌّ لِلآخَرِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ،
وَلاَ السُّنَّةَ وَنُوقِفُ أَمْرَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلاَ نَحْكُمُ لَهُ
بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ، وَلاَ بِحُكْمٍ آخَرَ, بِخِلاَفِ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ;
لَكِنْ نَطْلُبُ حُكْمَهُ فِي نَصٍّ آخَرَ فَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ وَلَمْ
نَقُلْ قَطُّ هَاهُنَا: إنَّهُ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ
الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الْمُخْطِئُ بِخِلاَفِهِ, وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا, لَكِنْ
(7/216)
قلنا:
لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلاَّ الْمُتَعَمِّدُ وَحْدُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ
لِلْمُخْطِئِ لاَ بِإِيجَابِ جَزَاءٍ عَلَيْهِ، وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهُ
فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِهِ فِي نَصٍّ آخَرَ, إذْ لَيْسَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْجُودًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ أَحَدٌ
سِوَاهُ; فَإِذَا وَجَدْنَا حُكْمَهُ حَكَمْنَا بِهِ, إمَّا مُوَافِقًا لِهَذَا
الْحُكْمِ الآخَرِ, وَأَمَّا مُخَالِفًا لَهُ, فَفَعَلْنَا: فَوَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ الْجُنَاحَ، عَنِ الْمُخْطِئِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَأَنَّهُ قَدْ عَفَا، عَنِ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ, وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ
بِهِ. فَوَجَبَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنْ لاَ يَلْزَمَ قَاتِلُ الصَّيْدِ خَطَأً
أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ شَرْعُ صَوْمٍ, وَلاَ غَرَامَةُ هَدْيٍ, أَوْ
إطْعَامٌ أَصْلاً; فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا: بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ مُتْلِفُ أَمْوَالِ النَّاسِ
يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا بِالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَكَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلَّهِ
تَعَالَى وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ
حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ, وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ
أَخْطَئُوا فِيهِ. أَمَّا كَوْنَهُ خَطَأً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ
بَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ
مِنْ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ فَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْمِثْلَ, أَوْ
الْقِيمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ, وَجَعَلَ فِي الصَّيْدِ جَزَاءً مِنْ
النَّعَمِ لاَ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ فِي الإِحْلاَلِ, أَوْ
إطْعَامًا, أَوْ صِيَامًا, وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ;
فَسَوَّوْا بَيْنَ حُكْمَيْنِ قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ
جُرْأَةٌ شَدِيدَةٌ وَخَطَأٌ لاَئِحٌ; وَأَمَّا خَطَؤُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ
الْحَنَفِيِّينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ
قِيَاسًا, وَأَوْجَبُوا هَاهُنَا قِيَاسًا, وَالْقَوْمُ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ,
وَإِنَّمَا هُمْ فِي شَبَهِ اللَّعِبِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ قَاسُوا مُتْلِفَ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى
مُتْلِفِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَمْدًا, وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْوَالِ
النَّاسِ الْقِيمَةُ فَقَطْ, وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلُ مِنْ
النَّعَمِ, أَوْ الإِطْعَامُ, أَوْ الصِّيَامُ, فَقَدْ تَرَكُوا قِيَاسَهُمْ
الْفَاسِدَ.
فَإِنْ قَالُوا: اتَّبَعْنَا الْقُرْآنَ قلنا: فَالْتَزَمُوا اتِّبَاعَهُ فِي
الْعَامِدِ خَاصَّةً وَإِسْقَاطُ الْجُنَاحِ، عَنِ الْمُخْطِئِ, وَأَوْجَبُوا فِي
الصَّيْدِ: الْقِيمَةَ كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَرَدَ قِيَاسَهُ
الْفَاسِدَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ لاَ يَرَوْنَ ضَمَانَ مَا
وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ إلاَّ أَنْ تُسْتَهْلَكَ الأَوْلاَدِ,
وَيَرَى عَلَى مَنْ أَخَذَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَلَدَ عِنْدَهُ, ثُمَّ
مَاتَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ: أَنْ يَضْمَنَ الآُمَّ وَالأَوْلاَدَ,
فَأَيْنَ قِيَاسُهُ الصَّيْدَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ؟
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ,
وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ, وَكُلَّ ذِي
(7/217)
مِخْلَبٍ
مِنْ الطَّيْرِ كَمَا حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الإِحْرَامِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ
تَعَالَى, ثُمَّ لاَ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً,
فَنَقَضُوا قِيَاسَهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُحَرِّمْ قَتْلَ شَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ قلنا: وَلاَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءَ إلاَّ عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ فأما الْتَزَمُوا النُّصُوصَ كَمَا وَرَدَتْ، وَلاَ تَتَعَدَّوْا
حُدُودَ اللَّهِ, وَأَمَّا اُطْرُدُوا قِيَاسَكُمْ فَأَوْجِبُوا الْجَزَاءَ فِي
الْخِنْزِيرِ; وَفِي السِّبَاعِ, وَفِي ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ, كَمَا فَعَلَ أَبُو
حَنِيفَةَ فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وقال بعضهم: إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ
حُكْمَ الْمُخْطِئِ مِثْلُهُ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مِنْ أَسْخَفِ كَلاَمٍ فِي الأَرْضِ, وَيَلْزَمُهُ أَنْ
يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ قَاتِلِ
الْمُؤْمِنِ عَامِدًا فِي جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ, لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ قَاتِلِهِ مُخْطِئٌ مِثْلُهُ, وَإِلاَّ
فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَافْتِرَاؤُهُ
عَلَى خَالِقِهِ لاِِخْبَارِهِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالَ:
قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَاتِلِ الْخَطَأِ.
قلنا: وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُخْطِئٍ وَكُلِّ
عَامِدٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ تَمْوِيهًا غَيْرَ هَذَا وَهُوَ كُلُّهُ
ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ الصَّيْدَ حَرَامٌ أَكْلُهُ; فَلاَِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلاً وَنَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْ لَنَا عَزَّ وَجَلَّ
أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَزَّ
وَجَلَّ, وَلاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حَسَنٍ سَلِيمٍ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الذَّكَاةِ هُوَ غَيْرُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ
الْقَتْلِ; فَإِذْ هُوَ غَيْرُهُ فَالْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ ذَكَاةً;
وَإِذْ لَيْسَ هُوَ ذَكَاةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَيَوَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: فَهَلاَّ خَصَّصْتُمْ الْعَامِدَ بِذَلِكَ قلنا: نَصُّ الآيَةِ مَانِعٌ
مِنْ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ, وَسَمَّى
إتْلاَفَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْحَرَمِ قَتْلاً وَحَرَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ} فَأَوْجَبَ حُكْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ خَاصَّةً بِخِلاَفِ
النَّهْيِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الآيَةِ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ إحْرَامِهِ بِذَلِكَ: فَلاَِنَّهُ بِلاَ خِلاَفٍ مَعْصِيَةٌ,
وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا فُسُوقٌ; وَالإِحْرَامُ يَبْطُلُ بِالْفُسُوقِ كَمَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَمِنْ شَنَعِ الأَقْوَالِ وَفَاسِدِهَا إبْطَالُ
الْمَالِكِيِّينَ الْحَجَّ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَلَمْ يَمْنَعْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه
السلام, ثُمَّ لَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَوَعَّدَ
اللَّهُ تَعَالَى أَشَدَّ الْوَعِيدِ فِيهِ وَهُوَ قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا.
وَأَبْطَلُوا هُمْ,
(7/218)
وَالْحَنَفِيُّونَ الإِحْرَامَ بِالْوَطْءِ نَاسِيًا وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحْرِمِ. وَأَبْطَلُوا هُمْ, وَالشَّافِعِيُّونَ الْحَجَّ بِالإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِهِ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام, وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/219)
877 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَنَّ كِتَابِيًّا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/219)
878
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ وَقَدْ أَدَّى مَا
عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
وَهِيَ: الإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا, وَمَاعِزُهَا وَعَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الصَّيْدَ الَّذِي قَتَلَ مِمَّا قَدْ حَكَمَ بِهِ
عَدْلاَنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله,
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَحْكِيمَ حُكْمَيْنِ الآنَ وَإِنْ شَاءَ
أَطْعَمَ مَسَاكِينَ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلاَثَةٌ, وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ إلَى مَا
يُشْبِعُ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ النَّاسِ, فَصَامَ بَدَلَ كُلِّ إنْسَانٍ يَوْمًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. فَأَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظَةِ "أَوْ" وَأَوْجَبَ مِنْ الْمِثْلِ
مَا حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا. فَصَحَّ أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ إذَا حَكَمَا
بِمِثْلٍ فِي ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ فَرْضًا لاَزِمًا لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ;
وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ وَالتَّابِعُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ حُكْمُ صَاحِبَيْنِ;
وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّابِعِينَ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حُكْمِ صَاحِبٍ, وَأَوْجَبَ
تَعَالَى طَعَامَ مَسَاكِينَ, وَهَذَا بِنَاءً لاَ يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثَةٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ, وَيَقَعُ عَلَى
ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهِ إلاَّ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ; فَكَانَ إيجَابُ عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ قَوْلاً عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَهَذَا لاَ يَجُوزُ وَوَجَبَ إطْعَامُ الثَّلاَثَةِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ لاَ أَقَلَّ, فَإِنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعُ خَيْرٍ. وَنَحْنُ
نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ
أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ فِي هَذَا عَدَدًا مَحْدُودًا مِنْ الْمَسَاكِينِ لاَ
يُوجِبُهُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الإِطْعَامِ لاَ يَقْتَضِيه وَظَاهِرُ
الآيَةِ لَمَا أَغْفَلَهُ عَمْدًا، وَلاَ نَسِيَهُ, وَلَبَيَّنَهُ لَنَا فِي
كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ عَدَدَ
الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ, وَكَفَّارَةِ الْعَوْدِ
لِلظِّهَارِ, وَكَفَّارَةِ الأَيْمَانِ, وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ,
وَكَفَّارَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى فِي الإِحْرَامِ, فَإِذَا لَمْ يَنُصَّ
تَعَالَى هُنَا عَلَى عَدَدٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ عَلَى صِفَةٍ بِعَيْنِهَا فَنَحْنُ
نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرَ
مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الآيَةِ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكّ
(7/219)
879 - مَسْأَلَةٌ: وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ, وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ, وَثَوْرِ الْوَحْشِ, وَالآُرْوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ, وَالآُيَّلِ: بَقَرَةٌ, وَفِي الْغَزَالِ, وَالْوَعِلِ وَالظَّبْيِ: عَنْزٌ, وَفِي الضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ, وَالأَرْنَبِ وَأُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ, وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ, وَكَذَلِكَ فِي الْوَرَلِ
(7/226)
وَالضَّبُعِ,
وَفِي الْحَمَامَةِ, وَكُلِّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ مِنْ الطَّيْرِ: شَاةٌ,
وَكَذَلِكَ الْحُبَارَى وَالْكُرْكِيُّ, والبلدج, وَالإِوَزُّ الْبَرِّيُّ,
وَالْبُرَكُ الْبَحْرِيُّ, وَالدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ, وَالْكَرَوَانُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ} فَلاَ يَخْلُو الْمِثْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ
الْوُجُوهِ, أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ, أَوْ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ;
فَوَجَدْنَا الْمُمَاثَلَةَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مَعْدُومَةً مِنْ الْعَالَمِ
جُمْلَةً لإِنَّ كُلَّ غَيْرَيْنِ فَلَيْسَا مِثْلَيْنِ فِي تَغَايُرِهِمَا
فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْمُمَاثَلَةِ مِنْ أَقَلِّ
الْوُجُوهِ, وَهُوَ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَوَجَدْنَا كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ لاَ
تَحَاشَ شَيْئًا, فَهُوَ يُمَاثِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ وَجْهٍ، وَلاَ
بُدَّ وَهُوَ الْخَلْقُ, لإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ وَهُوَ مَا دُونَ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا. وَلَوْ
اُسْتُعْمِلَ لاََجْزَأَتْ الْعَنْزُ بَدَلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ,
وَالنَّعَامَةِ; لاَِنَّهُمَا حَيَّانِ مَخْلُوقَانِ مَعًا; وَهَذَا مَا لاَ
يَقُولُهُ أَحَدٌ. فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ
الْمُمَاثَلَةُ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ, وَأَظْهَرِهَا, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي
الْمَسْأَلَةِ إلاَّ أَقْوَالٌ مَحْصُورَةٌ فَبَطَلَتْ كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدًا
فَهُوَ الْحَقُّ بِلاَ شَكٍّ; فَهَذَا مُوجَبُ الْقُرْآنِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ, فَعَلِمْنَا
يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا
هِيَ فِي الْقَدِّ وَهَيْئَةِ الْجِسْمِ, لإِنَّ الْكَبْشَ أَشْبَهُ النَّعَمِ
بِالضَّبُعِ وَبِهَذَا جَاءَ حُكْمُ السَّلَفِ الطَّيِّبِ رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ
الضَّبُعِ فَقَالَ: "هُوَ صَيْدٌ وَجَعَلَ فِيهِ كَبْشًا إذَا صَادَهُ
الْمُحْرِمُ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، نا أَبُو
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: حَكَمَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ
رَبَاحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ
جَمِيعًا: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ فَهُمْ: عُمَرُ, وَعَلِيٌّ, وَجَابِرٌ, وَابْنُ
عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا
فَلَمْ يُخَالِفْهُ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَعُثْمَانَ, وَعَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالُوا فِي النَّعَامَةِ: بَدَنَةٌ مِنْ
الإِبِلِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ,
وَمُعَاوِيَةَ, قَالاَ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ يَعْنِي مِنْ الإِبِلِ وَهُوَ
قَوْلُ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ,
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, وَلاَ شَيْءَ أَشْبَهُ بِالنَّعَامَةِ
(7/227)
مِنْ
النَّاقَةِ فِي طُولِ الْعُنُقِ, وَالْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ. وَرُوِّينَا، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ, وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهِ
بَدَنَةٌ, وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا فِيهِ بَقَرَةٌ وَالرِّوَايَةُ فِي
ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لاَِنَّهُ
مُرْسَلٌ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, وَفِي
بَقَرَةِ الْوَحْشِ: بَقَرَةٌ, قَالَ عَطَاءٌ: وَفِي الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: فِي الْقَادِرِ الْعَظِيمِ مِنْ الأَرْوَى بَقَرَةٌ, وَهَذَا صَحِيحٌ
عَنْهُمَا وَهُمَا ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا فَوَجَدْنَا حِمَارَ الْوَحْشِ أَشْبَهَ
بِالْبَقَرَةِ مِنْهُ بِالنَّاقَةِ, لإِنَّ الْبَقَرَ, وَحِمَارَ الْوَحْشِ, ذَوَا
شَعْرٍ وَذَنَبٍ سَابِغٍ وَلَيْسَ لَهُمَا سَنَامٌ, وَالنَّاقَةُ ذَاتُ وَبَرٍ
وَذَنَبٍ قَصِيرٍ وَسَنَامٍ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْبَقَرَةِ لِقُوَّةِ
الْمُمَاثَلَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآُيَّلِ: بَقَرَةٌ. وَبِهِ
يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي الثَّيْتَلِ: بَقَرَةٌ, وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ
مِنْ السَّلَفِ. وَفِي الْوَبْرِ: شَاةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالشَّافِعِيِّ,
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَطَاءٍ فِي الْغَزَالِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: الشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ كَمَا تَقَعُ عَلَى
الضَّأْنِيَّةِ. وَعَنْ سَعْدٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فِي الظَّبْيِ:
تَيْسٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَزَيْدٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي الضَّبِّ:
جَدْيٌ رَاعٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَطَارِقِ بْنِ شِهَابٍ
مِثْلُهُ أَيْضًا فَقَالَ مَالِكٌ, وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ هَذَا.
وَرُوِيَ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الضَّبِّ: شَاةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي الضَّبِّ:
حُفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ لإِنَّ خِلاَفَ حُكْمِ عُمَرَ,
وَطَارِقٍ, وَمَنْ مَعَهُمَا لاَ يُجَوِّزُ خِلاَفَهُ, لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدْلٍ
مِنَّا مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ الْقُرْآنَ فِي الْمُمَاثَلَةِ; وَقَوْلُ عَطَاءٍ
حَادِثٌ بَعْدَهُمْ, وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ مَعَ خِلاَفِ قَوْلِهِمَا,
وَقَوْلِ مَالِكٍ لِلْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِ عُمَرَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ, وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ,
وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ عُمَرَ فِي الأَرْنَبِ: عَنَاقٌ, وَهِيَ الْجَدْيُ. وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعَمْرِو بْنِ حَبَشِيٍّ, وَابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ, قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ,
وَمَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ فَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا, وَالْمُمَاثَلَةَ
الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْقُرْآن. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَمُجَاهِدٍ
فِي الْيَرْبُوع: سَخْلَةٌ, أَوْ جَفْرَةٌ, وَهُمَا سَوَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ, وَأَبِي يُوسُفَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ
بِشَيْءٍ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: فِيهِ حُكُومَةٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِيهِ
قِيمَتُهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقال مالك فِي الأَرْنَبِ,
وَالضَّبِّ, وَالْيَرْبُوعِ قِيمَتُهُ يُبْتَاعُ بِهِ طَعَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لَمْ
يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ, وَلاَ السُّنَّةُ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَلاَ إجْمَاعٌ,
وَلاَ قِيَاسٌ.
(7/228)
فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الأَضَاحِيِّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ
الضَّأْنِ، وَلاَ مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ, ثُمَّ
لَوْ كَانَ حَقًّا لَكُنْتُمْ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْقِيَاسِ لاَِنَّكُمْ
تَقُولُونَ: إنَّ الْكَبْشَ, وَالتَّيْسَ, أَفْضَلُ فِي الأَضَاحِيِّ مِنْ
الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَإِنَّ الذَّكَرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الآُنْثَى,
وَتَقُولُونَ فِي الْهَدْيِ كُلِّهِ: إنَّ الإِبِلَ, وَالْبَقَرَ: أَفْضَلُ مِنْ
الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ, وَإِنَّ الإِنَاثَ أَفْضَلُ فِيهَا مِنْ الذُّكُورِ;
فَمَرَّةً تَقِيسُونَ حُكْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ, وَمَرَّةً تُفَرِّقُونَ
بَيْنَ أَحْكَامِهَا بِلاَ نَصٍّ، وَلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ،
عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ" . قلنا: نَعَمْ, وَاَلَّذِي أَخْبَرَ
بِهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ مِثْلِ
الصَّيْدِ الْمَقْتُول مِنْ النَّعَمِ, وَلَيْسَ بَعْضُ كَلاَمِهِ أَوْلَى
بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ, بَلْ كُلُّهُ فُرِضَ اسْتِعْمَالُهُ, وَلاَ يَجُوزُ
تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ لِشَيْءٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يَنْهَ
قَطُّ عليه السلام، عَنْ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِاسْمِهِ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ
بَعْضُ مَا دُونَ الْجَذَعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ لَمْ يُجْزِ فِيمَا
جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِإِيجَابِ شَاةٍ فَقَطْ. وَأَمَّا الْجَذَعَةُ فَلاَ
تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَيْضًا; لإِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا عُمُومٌ, إلاَّ
حَيْثُ أُوجِبَتْ بِاسْمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ,
وَالْبَقَرِ, فَقَطْ, مَعَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ, وَالْمَاعِزِ,
وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ: لاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاتِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ
إنَّمَا يُرَاعَى الْمِثْلُ فِي الْقَدِّ وَالصُّورَةِ لاَ مَا لاَ يُعْرَفُ إلاَّ
بَعْدَ فَرِّ الأَسْنَانِ فَصَحَّ أَنَّ الْجَذَعَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ
الصَّيْدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي
الْوَرَلِ: شَاةٌ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ عَظِيمًا فِي مِقْدَارِ الشَّاةِ فَكَذَلِكَ, وَإِلاَّ
فَفِيهِ, وَفِي الْقُنْفُذِ: جَدْيٌ صَغِيرٌ. وَعَنْ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَابْنِ
عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَمَامَةِ: شَاةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ,
وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدَ. وقال الشافعي, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: كُلُّ مَا يَعُبُّ كَمَا تَعُبُّ الشَّاةُ فَفِيهِ شَاةٌ بِهَذِهِ
الْمُمَاثَلَةِ وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّبْسِيِّ,
وَالْقُمْرِيِّ, وَالْحُبَارَى, وَالْقَطَاةِ, وَالْحَجَلَةِ شَاةٌ شَاةٌ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا أَيْضًا. وَكَذَلِكَ فِي
الْكَرَوَانِ, وَابْنِ الْمَاءِ. وَرُوِّينَا، عَنِ الْقَاسِمِ, وَسَالِمٍ: ثُلُثُ
مُدٍّ: خَيْرٌ مِنْ حَجَلَةٍ.
قال أبو محمد: لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا خِلاَفُ مَا حَكَمَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ,
وَعَطَاءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْهُدْهُدِ: دِرْهَمٌ, وَفِي الْوَطْوَاطِ:
ثُلُثَا دِرْهَمٍ, وَفِي الْعُصْفُورِ: نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَعَنْ عُمَرَ فِي
الْجَرَادَةِ: تَمْرَةٌ, وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ
آخَرُونَ: لاَ شَيْءَ فِيهَا; لاَِنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ, وَهَذَا خَطَأٌ;
لاَِنَّهَا إنْ غُمِسَتْ فِي الْبَحْرِ مَاتَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ
دِرْهَمٌ.
قال أبو محمد: إنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْكِيمٍ فِي الْجَزَاءِ مِنْ
النَّعَمِ لاَ فِي الإِطْعَامِ، وَلاَ فِي الصِّيَامِ,
(7/229)
فَلاَ
يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ, وَإِنَّمَا هُوَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ, فَكُلُّ مَا كَانَ
لَهُ مِثْلٌ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ جُزِيَ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ
مِنْ كِبَارِ النَّعَمِ، وَلاَ صِغَارِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} لإِنَّ مِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ صَيْدٍ بِمِثْلِهِ مِنْ
النَّعَمِ وَهُوَ لاَ مِثْلَ لَهُ مِنْهَا, لإِنَّ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي
الْوُسْعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ
وُسْعَهَا} فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي خُلِقَ صَغِيرًا
جِدًّا كَصِغَارِ الْعَصَافِيرِ وَالْجَرَادِ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي كَبِيرِ
الصَّيْدِ وَصَغِيرِهِ إلاَّ فِدْيَةً طَعَامَ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَهُ صِيَامًا:
فَوَجَبَ فِي الْجَرَادَةِ فَمَا فَوْقَهَا إلَى النَّعَامَةِ, وَفِي وَلَدِ
أَصْغَرِ الطَّيْرِ إلَى حِمَارِ الْوَحْشِ: إطْعَامُ ثَلاَثَةِ مَسَاكِينَ
فَقَطْ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ صِيَامَ فِي الإِسْلاَمِ أَقَلُّ مِنْ صَوْمِ
يَوْمٍ, فَفِي كُلِّ صَغِيرٍ مِنْهَا صَوْمُ يَوْمٍ فَقَطْ; فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُ
بِكِبَرِ جِسْمِهِ إنْسَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً فَأَكْثَرَ: فَلِكُلِّ آكِلٍ
صَوْمُ يَوْمٍ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى. فإن قيل: إنَّ هَذَا قَوْلٌ لاَ
يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَلَفَ قلنا: نَحْنُ لاَ نَدَّعِي الإِحَاطَةَ
بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ كُلِّهِمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ
مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ نَقُولُ وَنَقْطَعُ: أَنَّ مَنْ ادَّعَى الإِحَاطَةَ
بِأَقْوَالِهِمْ فَقَدْ كَذَبَ كَذِبًا مُتَيَقَّنًا لاَ خَفَاءَ بِهِ, وَلاَ
نُنْكِرُ الْقَوْلَ بِمَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ
تُعْرَفْ رِوَايَةٌ، عَنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَنَا قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لاَ
تَقُولُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ إنْسَانًا
قَالَ بِمَا فِيهِمَا; بَلْ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا ضَلاَلٌ وَبِدْعَةٌ
وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ, وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا
مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
وَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ" .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا
مِثْلُهُ. وَعَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إنَّ الْجَرَادَ نَثْرُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ, وَأَبَاحَ
أَكْلَهُ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدَهُ; فَهَذَا قَوْلٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ
قَالَ كَعْبٌ: ذُكِرَ لِعُمَرَ أَنِّي أَصَبْت جَرَادَتَيْنِ وَأَنَا مُحْرِمٌ
فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا نَوَيْت فِي نَفْسِك قُلْت: دِرْهَمَيْنِ, فَقَالَ
عُمَرُ: تَمْرَتَانِ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَتَيْنِ, امْضِ لِمَا نَوَيْت فِي نَفْسِك.
فَهَذَا عُمَرُ, وَكَعْبٌ: جَعَلاَ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمًا فَهَذَا قَوْلٌ
آخَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ جَرَادَةً: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الطَّحَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
(7/230)
ابْنِ
عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْجَرَادَةِ
تَمْرَةٌ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:
أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَرَادَةٍ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ بِأَنْ يَقْصِدَ
بِقَبْضَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَارِقِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فِي الْجَرَادَةِ إذَا صَادَهَا
الْمُحْرِمُ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ فِي
الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ رَابِعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, قَالُوا كُلُّهُمْ: فِي
الْجَرَادَةِ لَيْسَ فِيهَا فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ فَإِنْ قَتَلَهَا عَمْدًا
أَطْعَمَ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي
الْجَرَادَةِ قَالَ: يُطْعِمُ كِسْرَةً فَهَذَا قَوْلٌ خَامِسٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ صَيْدًا لَيْسَ لَهُ نِدٌّ مِنْ
النَّعَمِ: إنَّهُ يُهْدِي ثَمَنَهُ إلَى مَكَّةَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا، عَنْ عِكْرِمَةَ فِيهِ ثَمَنُهُ فَهَذَا قَوْلٌ سَادِسٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ: الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهَذَا قَوْلٌ
سَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ
الصَّنْعَانِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
كَعْبِ الأَحْبَارِ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ أَكْلَ الْجَرَادِ لِلْمُحْرِمِ وَلَمْ
يَجْعَلْ فِيهِ جَزَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ
مَاهَكَ قَالَ: نَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أَخْذِ الْجَرَادِ فِي الْحَرَمِ
قَالَ: لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِ مَا أَخَذُوهُ, فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ
كَمَا أَوْرَدْنَا, فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَمَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٌّ لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ أَبَا الْمُهَزِّمِ وَهُوَ
هَالِكٌ وَفِي الآُخْرَى مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَبِالْعِيَانِ يَرَى النَّاسُ الْجَرَادَ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْبَرِّ
يَفْقِسُ عَنْهُ الْبَيْضُ وَفِي الْبَرِّ يَبْقَى حَتَّى يَمُوتَ, وَأَنَّهُ لَوْ
غُمِسَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مَلْحٍ لَمَاتَ فِي مِقْدَارِ مَا يَمُوتُ فِيهِ
سَائِرُ حَيَوَانِ الْبَرِّ إذَا غُمِسَ فِي الْمَاءِ, وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لاَ يَقُولُ الْكَذِبَ; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَصَحَّ
أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ بِلاَ
شَكٍّ. وَالأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَكَعْبٍ فِي
الْجَرَادَةِ
(7/231)
دِرْهَمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْجَرَادَة: تَمْرَةٌ.
وَقَالَ عُمَرُ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ
عُمَرَ, وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْجَرَادَةِ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَعَنْ عَطَاءٍ: قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كِسْرَةٌ. وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ: يُطْعِمُ شَيْئًا إنْ
أَصَابَهَا عَمْدًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا لاَ نِدَّ لَهُ
مِنْ النَّعَمِ: ثَمَنُهُ يُهْدِيهِ إلَى مَكَّةَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: ثَمَنُهُ
وَالْجَرَادَةُ مِمَّا لاَ نِدَّ لَهَا مِنْ النَّعَمِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هِيَ
مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَعَنْ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَنْعُ
مِنْ صَيْدِهَا وَلَمْ يَجْعَلاَ فِيهَا شَيْئًا. فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ
التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ
إذْ يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ مَا قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ كُلَّ مَا رُوِيَ
فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَنَّى لَهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى
غَيْرِهِمْ وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ: مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ,
أَوْ الطَّيْرِ صِغَارُهَا فِي صِغَارِهِ, وَكِبَارُهَا فِي كِبَارِهِ, فَفِي
رَأْلِ النَّعَمِ: فَصِيلٌ مِنْ الإِبِلِ. وَفِي وَلَدِ كُلِّ مَا فِيهِ بَقَرَةٌ
عُجَيْلٌ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ, وَفِيمَا فِيهِ شَاةٌ, حَمَلٌ, أَوْ جَدْيٌ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وقال مالك: فِي صِغَارِهَا مَا فِي كِبَارِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لإِنَّ الْكَبِيرَ
لَيْسَ مِثْلاً لِلصَّغِيرِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي فَرْخَيْ حَمَامَةٍ
وَأُمِّهِمَا بِثَلاَثَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ
وَغَيْرَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَيُفْدَى الْمَعِيبُ بِمَعِيبٍ
مِثْلِهِ, وَالسَّالِمُ بِسَالِمٍ, وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَالآُنْثَى
بِالآُنْثَى لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: فِي الظَّبْيَةِ الْوَالِدِ: شَاةٌ وَالِدٌ. وَفِي الْحِمَارَةِ الْوَحْشِ
النَّتُوجِ بَقَرَةٌ نَتُوجٌ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَرَأَيْت لَوْ أَصَبْت
صَيْدًا فِيهِ نَقْصٌ أَوْ عَوَرٌ أَغْرَمُ مِثْلَهُ قَالَ: نَعَمْ, قُلْت:
الْوَفِيُّ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ: نَعَمْ وَفِي وَلَدِ الضَّبُعِ وَلَدُ الْكَبْشِ
لإِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ الضِّبَاعِ لاَ يُسَمَّى ضَبُعًا إنَّمَا يُسَمَّى
الْفَرْغَلَ. وَالسُّلَحْفَاةُ هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ, لإِنَّ عَيْشَهَا
الدَّائِمَ فِي الْبَرِّ فَفِيهَا الْجَزَاءُ بِصَغِيرٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَمَا
كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَاءِ أَبَدًا لاَ يُفَارِقُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ
لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا عَاشَ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ فِيهِ: نِصْفُ الْجَزَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ
صَيْدَ الْبَحْرِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ صَيْدَ الْبَرِّ فَلَيْسَ إلاَّ حَرَامٌ أَوْ
حَلاَلٌ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَلاَلٌ حَرَامٌ مَعًا, وَلاَ لاَ حَلاَلٌ،
وَلاَ حَرَامٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/232)
880
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْضُ النَّعَامِ وَسَائِرِ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ
وَفِي الْحَرَمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ,
وَأَصْحَابِهِمَا: لإِنَّ الْبَيْضَ لَيْسَ صَيْدًا, وَلاَ يُسَمَّى صَيْدًا,
وَلاَ يُقْتَلُ, وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ
صَيْدِ الْبَرِّ فَقَطْ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ مَيِّتٍ فَلاَ جَزَاءَ لَهُ,
لاَِنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ حَيٍّ
فَمَاتَ فَجَزَاؤُهُ بِجَنِينٍ مِنْ مِثْلِهِ; لاَِنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ. وقال مالك:
فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ: عُشْرُ الْبَدَنَةِ, وَفِي بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ,
عُشْرُ الشَّاةِ, قَالَ: لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلاَ لِلْحَلاَلِ
إذَا شَوَاهُ الْمُحْرِمُ أَوْ كَسَرَهُ. وقال الشافعي: فِيهِ قِيمَتُهُ فَقَطْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ
لَيْسَ صَيْدًا; وَأَخْطَأَ خَطَأً آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ جَزَاؤُهُ
بِثَمَنِهِ وَالْجَزَاءُ بِالثَّمَنِ لاَ يُوجَدُ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ وُجُوهًا: أَوَّلُهَا
أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَهُمْ
يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا أَشَدَّ الإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي
قَوْلِنَا فِي الْجَرَادِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُوجَدُ فِي
الْقُرْآنِ, وَلاَ فِي السُّنَّةِ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ
الاِشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ حَيْثُ صَحَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةِ
عَلَى جَوَازِهِ, ثُمَّ أَجَازُوهُ هَاهُنَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ
يُعْرَفُ قَبْلَهُمْ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا تُقَوَّمُ الْبَدَنَةُ, أَوْ الشَّاةُ, ثُمَّ نَأْخُذُ
عُشْرَ تِلْكَ الْقِيمَةِ فَنُطْعِمُ بِهِ قلنا: هَذَا خَطَأٌ رَابِعٌ فَاحِشٌ
لاَِنَّكُمْ تُلْزِمُونَهُ وَتَأْمُرُونَهُ بِمَا تَنْهَوْنَهُ عَنْهُ مِنْ
وَقْتِكُمْ فَتُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ بَدَنَةٍ, وَعُشْرَ شَاةٍ، وَلاَ يَجُوزُ
لَهُ إهْدَاؤُهُ, إنَّمَا يَلْزَمُهُ طَعَامٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعُشْرِ, وَهَذَا
تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ, وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَخَامِسُهَا: احْتِجَاجُهُمْ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ الَّذِي فِيهِ
عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. فَقُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ
وَتَشْبِيهٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ الْمُشَبَّهِ بِالْبَاطِلِ وَمَا جَعَلَ
اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَلاَ فِي جَنِينِ الأَمَةِ:
عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ, وَلاَ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ; وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْجَنِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام: غُرَّةً عَبْدًا,
أَوْ أَمَةً فَقَطْ, وَلاَ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ قِيمَةً; بَلْ جَعَلَهَا مِائَةً
مِنْ الإِبِلِ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّاسِ فِي هَذَا فَإِنَّنَا: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضًا وَتَتْمِيرَ وَحْشٍ فَقَالَ لَهُ: أَطْعِمْهُ
أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ حَرْفًا حَرْفًا.
(7/233)
قال
أبو محمد: الأَوَّلُ مُرْسَلٌ, وَفِي الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ فِيهِمَا نَهْيٌ، عَنْ
أَكْلِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكٌ مِنْهُ عليه السلام وَقَدْ يَتْرُكُ مَا لَيْسَ
حَرَامًا كَمَا تَرَكَ الضَّبَّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ
بْنُ غِيَاثٍ. وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ بَيْضِ
نَعَامٍ أَصَابَهَا مُحْرِمٌ فَقَالَ عليه السلام: "فِي كُلِّ بَيْضَةٍ
صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَبُو الزِّنَادِ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فَهُوَ
مُنْقَطِعٌ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ, وَقَالَ بِهَذَا بَعْضُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي
الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي
بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ
مِسْكِينٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ
ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ: صَوْمُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ
قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامُ
مِسْكِينٍ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ أَفْتَى بِذَلِكَ عَلَى مُحْرِمٍ أَشَارَ
لِحَلاَلٍ إلَى بَيْضِ نَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ تُرْسِلُ الْفَحْلَ
عَلَى إبِلِك فَإِذْ تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سَمَّيْت عَدَدَ مَا أَصَبْت مِنْ
الْبَيْضِ فَقُلْت: هَذَا هَدْيٌ ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْك ضَمَانُ مَا فَسَدَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمْ يَعْجَبْ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَجَبٍ مَا هُوَ إلاَّ مَا يُبَاعُ بِهِ
الْبَيْضُ فِي السُّوقِ يُتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَطَاءٌ:
مَنْ كَانَتْ لَهُ إبِلٌ فَإِنَّ فِيهِ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
إبِلٌ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ; وَثَالِثٌ
وَرَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ. أَوْ ثَمَنُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ: قِيمَتُهُ,
أَوْ ثَمَنُهُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ,
وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا بَيْضُ الْحَمَامِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ وَعَطَاءٍ كِلاَهُمَا قَالَ: إنَّ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،
(7/234)
عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ
مَكَّةَ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ; وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ
فَدِرْهَمٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: بِنِصْفِ دِرْهَمٍ طَعَامٌ
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي بَيْضِ
حَمَامِ مَكَّةَ: دِرْهَمٌ وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ الْحِلِّ: مُدٌّ.
قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيهِ ثَمَنُهُ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْبَيْضَةِ: دِرْهَمٌ فَهِيَ أَقْوَالٌ كَمَا
تَرَى: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ صَوْمَ يَوْمٍ, أَوْ إطْعَامَ
مِسْكِينٍ فِيهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ; وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ,
وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنَيْهِ أَبِي عُبَيْدَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَابْنِ
سِيرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْهَا لِقَاحَ نَاقَةٍ وَهُوَ
قَوْلُ عَلِيٍّ, وَمُعَاوِيَةَ, وَعَطَاءٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ ثَمَنَهَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ,
وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِبْرَاهِيمَ, وَالشَّعْبِيِّ,
وَالزُّهْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مَنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي
كُلِّ بَيْضَةٍ لِقَاحُ نَاقَةٍ وَمَنْ لاَ إبِلَ لَهُ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ
دِرْهَمَانِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا:
فِي الْبَيْضَةِ دِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: فِي
الْبَيْضَةِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ, وَثَالِثُهَا: فِيهَا نِصْفُ دِرْهَمٍ, فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ
فَدِرْهَمٌ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَرَابِعُهَا: فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ
مَكَّةَ دِرْهَمٌ, وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ الْحِلِّ مُدٌّ وَهُوَ قَوْلُ
قَتَادَةَ. وَخَامِسُهَا: فِيهَا ثَمَنُهَا وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ,
وَالشَّافِعِيِّ. فَخَرَجَ قَوْلاَ: مَالِكٍ, وَأَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَنْ
يُعْرَفَ لَهُمَا قَائِلٌ مِنْ السَّلَفِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا خَالَفَ
تَقْلِيدَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/235)
881 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُجْزَى الْهَدْيُ فِي ذَلِكَ إلَّا مُوقَفًا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.
(7/235)
وأما
الاطعام والصيام فحيث شاء لأن الله لم يحد لهما موضعاً
...
882 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ فَحَيْثُ شَاءَ, لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ لَهُمَا مَوْضِعًا.
(7/235)
883 - مَسْأَلَةٌ: وَصَيْدُ كُلِّ مَا سَكَنَ الْمَاءَ مِنْ الْبِرَكِ, أَوْ الأَنْهَارِ, أَوْ الْبَحْرِ, أَوْ الْعُيُونِ أَوْ الآبَارِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُهُ وَأَكْلُهُ, لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} فَسَمَّى تَعَالَى كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ بَحْرًا, وَحَتَّى لَوْ لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَ صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَكُلِّ مَا ذَكَرْنَا حَلاَلاً بِلاَ خِلاَفٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ حُرِّمَ بِالإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ
(7/235)
884
- مَسْأَلَةٌ: وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِيمَا
أُصِيبَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُ حَلاَلٌ,
أَوْ مُحْرِمٌ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ} الآيَةَ. فَمَنْ كَانَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, أَوْ فِي حَرَمِ
الْمَدِينَةِ فَاسْمُ "حَرَمٍ" يَقَعُ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى عَمَّنْ أَصَابَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ
فَقَالَ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيِّ, وَبَعْضِ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَدْ
صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ
الْمَدِينَةِ وَهُمَا حَرَّتَانِ بِهَا مَعْرُوفَتَانِ, وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ
مَعْرُوفٌ كَحَرَمِ مَكَّةَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ جَزَاءَ فِيهِ وَهُوَ
خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اُمْتُحِنَ بِتَقْلِيدِهِمَا
بِخَبَرَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا: أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ كَانَ يَتَصَيَّدُ
بِالْعَقِيقِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ,
وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ
بِالْمَدِينَةِ وَالنَّهْيِ، عَنْ صَيْدِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ وَحْشٌ فَكَانَ يَلْعَبُ فَإِذَا رَأَى رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَعَ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ الصَّيْدَ إذَا صِيدَ فِي الْحِلِّ, ثُمَّ
أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ حَلَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(7/236)
885
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لاَِنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ حَرَمٌ, فَإِنْ كَانَ
الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْقَاتِلُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلاَ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الصَّيْدُ، وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ; أَمَّا سُقُوطُ
الْجَزَاءِ فَلاَِنَّهُ لَيْسَ حَرَمًا وَأَمَّا عِصْيَانُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ
أَكْلِ الصَّيْدِ فَلاَِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ جَزَاءٌ
إنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهُ فَقَطْ; وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ
إذَا كَانَ حَرَمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا
جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
افْتَتَحَ مَكَّةَ فَذَكَرَ كَلاَمًا فِيهِ: هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ،
عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ, وَهُوَ حَرَامٌ
بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ
يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبِي، نا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ.
(7/236)
886 - مَسْأَلَةٌ: وَالْقَارِنُ, وَالْمُعْتَمِرُ, وَالْمُتَمَتِّعُ: سَوَاءٌ فِي الْجَزَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِي حِلٍّ أَصَابُوهُ, أَوْ فِي حَرَمٍ إنَّمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ; وَالشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفة عَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ فَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ; ثُمَّ قَالَ: إنْ قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا فِيهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصَّدَقَةُ فَقَطْ, وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامٌ وَهَذَا تَخْلِيطٌ آخَرُ, وَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَ بِهِ قَبْلَهُ; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَهُوَ حَرَمٌ جَزَاءَ مِثْلِ مَا قَتَلَ, لاَ جَزَاءَ مِثْلَيْ مَا قَتَلَ; فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فِي كِلاَ الْمَوْضِعَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ سُئِلُوا، عَنِ الصَّيْدِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَمَا سَأَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَارِنٌ هُوَ, أَمْ مُفْرِدٌ, أَمْ مُعْتَمِرٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/237)
887 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ عَامِدِينَ لِذَلِكَ كُلُّهُمْ, فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَلَيْسَ فِي الصَّيْدِ إلاَّ مِثْلُهُ لاَ أَمْثَالُهُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّ مَوَالِيَ لاِبْنِ الزُّبَيْرِ قَتَلُوا ضَبُعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَسَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: اذْبَحُوا كَبْشًا فَقَالُوا، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا فَقَالَ: بَلْ كَبْشٌ وَاحِدٌ جَمِيعَكُمْ وَهَذَا فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَالزُّهْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَالنَّخَعِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ; وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَرُوِيَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالشَّعْبِيِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ النَّخَعِيِّ, وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
(7/237)
888 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مَرَّةٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بِمُسْقِطٍ لِلْجَزَاءِ عَنْهُ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ, بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ عَمْدًا, فَهُوَ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ مَعَ النِّقْمَةِ عَلَى الْعَائِدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/238)
889 - مَسْأَلَةٌ: وَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ مَا عَدَا الصَّيْدَ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَاجِ, وَالإِوَزِّ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْبُرَكِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالْحَمَامِ الْمُتَمَلَّكِ, وَالإِبِلِ, وَالْبَقَرِ, وَالْغَنَمِ, وَالْخَيْلِ, وَكُلِّ مَا لَيْسَ صَيْدًا الْحِلُّ وَالْحَرَمُ سَوَاءٌ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحَرِّمْهُ; وَكَذَلِكَ يَذْبَحُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا الْحَلاَلُ فِي الْحَرَمِ بِلاَ خِلاَفٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ.
(7/238)
890 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, وَلِلْمُحِلِّ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ قَتْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ, وَالآُسْدِ وَالسِّبَاعِ, وَالْقَمْلِ, وَالْبَرَاغِيثِ, وَقِرْدَانِ
(7/238)
891
- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ دُخُولُ الْحَمَّامِ, وَالتَّدَلُّكُ,
وَغَسْلُ رَأْسِهِ بِالطِّينِ, وَالْخِطْمِيِّ, وَالاِكْتِحَالُ, وَالتَّسْوِيكُ,
وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ, وَشَمُّ الرَّيْحَانِ, وَغَسْلُ ثِيَابِهِ, وَقَصُّ
أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ, وَنَتْفُ إبْطِهِ, وَالتَّنَوُّرُ, وَلاَ حَرَجَ فِي
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي
مَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ, وَمُدَّعِي
الإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: كَاذِبٌ عَلَى جَمِيعِ الآُمَّةِ, قَائِلٌ
مَا لاَ عِلْمَ بِهِ وَمَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً فَقَدْ أَوْجَبَ
شَرْعًا فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَمَّامَ
الْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ
بِوَسَخِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا. وَ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ
الْحَمَّامَ, وَيَنْزِعُ ضِرْسَهُ, إنْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ طَرَحَهُ, أَمِيطُوا
عَنْكُمْ الأَذَى إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا. وَأَنَّهُ كَانَ
لاَ يَرَى بِشَمِّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا, وَأَنْ يَقْطَعَ ظُفْرَهُ
إذَا انْكَسَرَ, وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ إذَا آذَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
(7/246)
رَأَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْضَ بَنِيهِ أَحْسَبُهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ, وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى
ضِفَّةِ الْبَحْرِ, وَهُمَا يَتَمَاقَلاَنِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ: يُغَيِّبُ هَذَا
رَأْسَ هَذَا وَيُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا: فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْت أُطَاوِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
النَّفَسَ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فِي الْحِيَاضِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتنِي أُمَاقِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ الْمُمَاقَلَةُ: التَّغْطِيسُ فِي الْمَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ هُوَ، وَابْنُ عُمَرَ بِإِخَاذِ
بِالْجُحْفَةِ يَتَرَامَسَانِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ.
قال أبو محمد: الإِخَاذُ الْغَدِيرُ وَالتَّرَامُسُ التَّغَاطُسُ. وَرَأَى مَالِكٌ
عَلَى مَنْ غَيَّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ: الْفِدْيَةَ, وَخَالَفَ كُلَّ مَنْ
ذَكَرْنَا; وَاخْتَلَفَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي
غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَاحْتَكَمَا إلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ,
وَوَجَّهَا إلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ فَوَجَدَهُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ
وَهُوَ مُحْرِمٌ, وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَنْقُضَ رَأْسَهَا
وَتَمْتَشِطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الْعُمْرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي،
عَنْ غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّ اللَّهَ لاَ
يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تُمَشِّطَ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ الْمَرْأَةَ
الْحَرَامَ وَتَقْتُلَ قَمْلَ غَيْرِهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالاَ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ الْمُحْرِمِ الْحَمَّامَ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قلنا:
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَجِّ,
وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْفِطْرَةِ: قَصُّ
الأَظْفَارِ, وَنَتْفُ الإِبْطِ, وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَصُّ الشَّارِبِ, وَالْفِطْرَةُ
سُنَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهَا, وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مُحْرِمًا مِنْ
غَيْرِهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يَجْعَلُ
فِيمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ, أَوْ أُبِيحَ لَهُ وَلَمْ يُنْهَ
عَنْهُ: كَفَّارَةً أَوْ غَرَامَةً, ثُمَّ لاَ يَجْعَلُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي
فُسُوقِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ شَيْئًا, لاَ فِدْيَةً,
وَلاَ غَرَامَةً, بَلْ يَرَى حَجَّهُ ذَلِكَ تَامًّا مَبْرُورًا وَحَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ،
وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ,
(7/247)
وَعَطَاءٍ,
وطَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي
سُلَيْمَانَ وقال مالك: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ; وَالإِبَاحَةُ عَنْهُ أَصَحُّ. وقال أبو حنيفة: إنْ قَلَّمَ
الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ, أَرْبَعَ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ
مِنْ يَدَيْهِ, وَمِنْ كُلِّ رِجْلٍ مِنْ رِجْلَيْهِ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ مَا
شَاءَ, فَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَ كَفٍّ وَاحِدَةٍ فَقَطْ, أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ
فَقَطْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ
وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ يَدَيْنِ, أَوْ مِنْ
رِجْلَيْنِ, أَوْ مِنْ يَدَيْهِ, وَرِجْلَيْهِ مَعًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ
قَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ كَذَلِكَ: فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: يُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ
ظُفْرٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ زُفَرُ, وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنْ قَلَّمَ
ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ, أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ; أَوْ مِنْ
يَدَيْنِ وَرِجْلٍ, أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ وَيَدٍ: فَعَلَيْهِ دَمٌ فَإِنْ قَلَّمَ
أَقَلَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ أُصْبُعٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ
الطَّحَاوِيَّ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَلِّمَ جَمِيعَ أَظْفَارِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ: فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. وقال مالك: مَنْ قَلَّمَ مِنْ
أَظْفَارِهِ مَا يُمِيطُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ
فِي حَلْقِ الرَّأْسِ عَلَيْهِ. وقال الشافعي: مَنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا
فَلْيُطْعِمْ مُدًّا, فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَمُدَّيْنِ, فَإِنْ قَلَّمَ
ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الأَقْوَالِ
الشَّنِيعَةِ الَّتِي لاَ حَظَّ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الصَّوَابِ، وَلاَ
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
آنِفًا: لاَ بَأْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ أَنْ يَطْرَحَهُ
عَنْهُ وَأَنْ يُمِيطَ، عَنْ نَفْسِهِ الأَذَى. وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ,
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ
جَعَلَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَعَنْ عَطَاءٍ: إنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ لاَِذًى بِهِ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ قَصَّهَا لِغَيْرِ أَذًى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَعَنْهُ,
وَعَنِ الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ الْمُنْكَسِرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ,
فَإِنْ قَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكَسِرَ: فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنِ
الشَّعْبِيِّ: إنْ نَزَعَ الْمُحْرِمُ ضِرْسَهُ: فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا يُعْرَفُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم, وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى فِي إمَاطَةِ الأَذَى الدَّمَ
أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ فِي إيجَابِ إمَاطَةِ الأَذَى بِقَلْعِ
الضِّرْسِ, وَنَعِمَ, وَفِي الْبَوْلِ, وَفِي الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ
إمَاطَةُ أَذًى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ
طُرُقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ
ثِيَابَهُ: إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا. وبه إلى سُفْيَانَ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِغَسْلِ الْمُحْرِمِ
ثِيَابَهُ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.وَبِهِ يَقُولُ
أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
(7/248)
892 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ, أَوْ وَهَبَهُ لِمُحْرِمٍ, أَوْ اشْتَرَاهُ مُحْرِمٌ: فَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ, وَلِمَنْ فِي الْحَرَمِ مِلْكُهُ, وَذَبْحُهُ, وَأَكْلُهُ وَكَذَلِكَ
(7/248)
مَنْ
أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ, أَوْ فِي مَنْزِلِهِ
قَرِيبًا, أَوْ بَعِيدًا, أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُ كَمَا كَانَ
أَكْلُهُ, وَذَبْحُهُ وَمِلْكُهُ, وَبَيْعُهُ, وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ
ابْتِدَاءً التَّصَيُّدُ لِلصَّيْدِ وَتَمَلُّكُهُ وَذَبْحُهُ حِينَئِذٍ فَقَطْ,
فَلَوْ ذَبَحَهُ لَكَانَ مَيْتَةً, وَلَوْ انْتَزَعَهُ حَلاَلٌ مِنْ يَدِهِ
لَكَانَ لِلَّذِي انْتَزَعَهُ, وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ أَحَلَّ,
إلاَّ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ تَمَلُّكًا بَعْدَ إحْلاَلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}. وَقَالَ: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ} . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هَاتَانِ الآيَتَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا,
وَالشَّيْءُ الْمُتَصَيَّدُ هُوَ الْمُحَرَّمُ مِلْكُهُ وَذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ
كَيْفَ كَانَ فَحَرَّمُوا عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ
الصَّيْدِ جُمْلَةً وَإِنْ صَادَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلٌ وَإِنْ ذَبَحَهُ
الْحَلاَلُ. وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْهُ, وَإِنْ كَانَ قَدْ
مَلَكَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ, وَأَوْجَبُوا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ وَفِي دَارِهِ
صَيْدٌ أَوْ فِي يَدِهِ, أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ أَنْ يُطْلِقَهُ, وَأَسْقَطُوا
عَنْهُ مِلْكَهُ أَلْبَتَّةَ, وَلَمْ يُبِيحُوا لاَِحَدٍ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ, أَوْ تَمَلُّكَهُ, أَوْ
ذَبْحَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ
الَّذِي هُوَ التَّصَيُّدُ لاَ الشَّيْءَ الْمُتَصَيَّدَ وَهُوَ مَصْدَرُ صَادَ
يَصِيدُ صَيْدًا فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ صَيْدُهُ لِمَا يَتَصَيَّدُ فَقَطْ.
وَقَالُوا: قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} هُوَ
التَّصَيُّدُ أَيْضًا نَفْسُهُ الْمُحَرَّمُ فِي الآيَةِ الآُخْرَى.
وَاسْتَدَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى مَا قَالَتْهُ بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قَالُوا: فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَنَا بِالإِحْلاَلِ هُوَ بِلاَ شَكٍّ الْمُحَرَّمُ عَلَيْنَا
بِالإِحْرَامِ لاَ غَيْرُهُ. وَقَالُوا: لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ
الصَّيْدِ إلاَّ عَلَى مَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْشِيًّا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ
فَإِذَا تُمُلِّكَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ بَعْدُ.
قال أبو محمد: فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ هُمَا اللَّذَانِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ
مِنْ الآيَةِ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ مَا عَدَاهُمَا فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ
لاَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ أَصْلاً فَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي أَيِّ
الْقَوْلَيْنِ يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ الْبُرْهَانُ: فَوَجَدْنَا أَهْلَ
الْمَقَالَةِ الآُولَى يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ
بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: "إنَّا حُرُمٌ لاَ
نَأْكُلُ الصَّيْدَ" . وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بِلَفْظِ أَنَّهُ
أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ
وَقَالَ: "لَوْلاَ أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ".
رُوِّينَا اللَّفْظَ الأَوَّلَ: مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَاللَّفْظَ الثَّانِيَ: مِنْ
طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ،
عَنْ
(7/249)
طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ:
إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ رُوِّينَاهُمَا مِنْ
طُرُقٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ, وَابْنِ
عُمَرَ وَبِهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دَاوُد.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
نَافِعٍ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ظَبْيٌ مَذْبُوحَةٌ بِمَكَّةَ فَلَمْ
يَقْبَلْهَا, وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ
لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الآُخْرَى: فَوَجَدْنَاهُمْ
يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا
سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ: سَمِعْت
أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ
يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كُنَّا
بِالْقَاحَةِ فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ بَصُرْت
بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ
فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي ثُمَّ رَكِبْتُ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي
فَقُلْتُ لاَِصْحَابِي: نَاوِلُونِي سَوْطِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ فَقَالُوا: لاَ
وَاَللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَنَزَلْتُ فَتَنَاوَلْتُهُ; ثُمَّ
رَكِبْتُ فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ
فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ, وقال بعضهم: لاَ تَأْكُلُوهُ, وَكَانَ النَّبِيُّ عليه
السلام أَمَامَنَا فَحَرَّكْتُ فَرَسِي فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ: هُوَ حَلاَلٌ
فَكُلُوهُ. أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ ثِقَةٌ اسْمُهُ نَافِعٌ رَوَى
عَنْهُ أَبُو النَّضْرِ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، نا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ، نا أَبُو
حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ
خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَبُو
قَتَادَةَ مُحِلٌّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ
فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَأَكَلَهَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ,
وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ, فَمِنَّا مَنْ
تَوَرَّعَ, وَمِنَّا مَنْ أَكَلَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ
أَكَلَهُ, وَقَالَ: أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّوْحَاءِ وَهُمْ حُرُمٌ إذَا حِمَارٌ
مَعْقُورٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ
أَنْ
(7/250)
يَأْتِيَ
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ, فَأَمَرَ عليه السلام أَبَا بَكْرٍ
فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ". وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ,
وَطَلْحَةَ كَمَا ذَكَرْنَا, وَأَبِي هُرَيْرَةَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَنِي قَوْمٌ مُحْرِمُونَ، عَنْ مُحَلِّينَ
أَهْدَوْا لَهُمْ صَيْدًا قَالَ: فَأَمَرْتهمْ بِأَكْلِهِ, ثُمَّ لَقِيت عُمَرَ فَأَخْبَرْته,
فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لاََوْجَعْتُك. وَمِنْ طَرِيقِ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ
مَاهَكَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا
مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَأَمِيرُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارِ وَحْشٍ قَدْ عَقَرَهُ
فَابْتَاعَهُ كَعْبُ بْنُ مُسْلِمٍ فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقُدُورُ تَغْلِي بِهِ,
فَقَالَ مُعَاذٌ: لاَ يُطِيعُنِي أَحَدٌ إلاَّ أَكْفَأَ قِدْرَهُ فَأَكْفَأَ
الْقَوْمُ قُدُورَهُمْ فَلَمَّا وَافَوْا عُمَرَ قَصَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ قِصَّةَ
الْحِمَارِ, قَالَ عُمَرُ: مَا بَأْسُ ذَلِكَ وَمَنْ نَهَى، عَنْ ذَلِكَ لَعَلَّك
أَفْتَيْت بِذَلِكَ يَا مُعَاذُ قَالَ: نَعَمْ فَلاَمَهُ عُمَرُ. وَهُوَ أَيْضًا
قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَأَبِي ذَرٍّ, وَمُجَاهِدٍ,
وَاللَّيْثِ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: فَكَانَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا صِحَاحًا
كُلُّهَا, فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا كَمَا
هِيَ دُونَ أَنْ يُزَادَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ, فَيَقَعُ فَاعِلُ
ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ, فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ فَوَجَدْنَا فِيهَا
إبَاحَةَ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ لِلْمُحْرِمِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الَّتِي
قَبْلَهَا فَوَجَدْنَاهَا لَيْسَ فِيهَا نَهْيُ الْمُحْرِمِ، عَنْ أَكْلِ مَا
صَادَهُ الْمُحِلُّ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهَا قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّا
لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ, وَلَوْلاَ أَنَّنَا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ"
فَإِنَّمَا فِيهِ رَدُّ الصَّيْدِ عَلَى مُهْدِيهِ, لأَنَّهُمْ حُرُمٌ وَتَرْكُ
أَكْلِهِ لأَنَّهُمْ حُرُمٌ; وَهَذَا فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام وَلَيْسَ أَمْرًا,
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَمْرُهُ وَإِنَّمَا فِي فِعْلِهِ الاِئْتِسَاءُ بِهِ
فَقَطْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام: "أَمَّا أَنَا فَلاَ آكُلُ
مُتَّكِئًا". وَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ فَلَمْ يُحَرِّمْ بِذَلِكَ الأَكْلَ
مُتَّكِئًا لَكِنْ هُوَ الأَفْضَلُ. وَلَمْ يُحَرَّمْ أَيْضًا أَكْلُ الْمُحْرِمِ
الصَّيْدَ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ
إنَّا حُرُمٌ" لَكِنْ كَانَ تَرْكُ أَكْلِهِ أَفْضَلَ. وَهَكَذَا رُوِيَ،
عَنْ عَائِشَةَ، وَلاَ حَرَجَ فِي أَكْلِهِ أَصْلاً، وَلاَ كَرَاهَةَ لاَِنَّهُ
عليه السلام قَدْ أَبَاحَهُ وَأَكَلَهُ أَيْضًا, فَمَرَّةً أَكَلَهُ, وَمَرَّةً
لَمْ يَأْكُلْهُ, وَمَرَّةً قَبِلَهُ, وَمَرَّةً لَمْ يَقْبَلْهُ فَكُلُّ ذَلِكَ
حَسَنٌ مُبَاحٌ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أُهْدِيَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْضُ نَعَامٍ وَتَتْمِيرُ وَحْشٍ فَقَالَ:
أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ، وَلاَ يَصِحُّ فَإِذْ
لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ
التَّصَيُّدَ فِي الْبَرِّ فَقَطْ. وَصَحَّ أَنَّ قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} نَهْيٌ، عَنْ قَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِ الْمَرْءِ
حَرَمًا, وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ قَتْلاً بِلاَ خِلاَفٍ فِي الشَّرِيعَةِ,
وَالْقَتْلُ
(7/251)
لَيْسَ
ذَكَاةً.فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ، عَنْ تَذْكِيَتِهِ, وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِنَهْيٍ، عَنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ التَّصَيُّدِ
فَهُوَ حَلاَلٌ.
وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سَكَنَ الْمَدِينَةَ
إلَى أَنْ مَاتَ, وَهِيَ حَرَمٌ كَمَكَّةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَأَصْحَابُهُ
بَعْدَهُ, وَلَمْ يَزَلْ عليه السلام يُهْدَى لَهُ الصَّيْدُ وَلاَِصْحَابِهِ
وَيَدْخُلُ بِهِ الْمَدِينَةَ حَيًّا فَيُبْتَاعُ وَيُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ
وَيُتَمَلَّكُ, وَمُذَكًّى فَيُبَاعُ وَيُؤْكَلُ, هَذَا أَمْرٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
إنْكَارِهِ أَحَدٌ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ, وَكَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَهِيَ حَرَمٌ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ
الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ
بْنِ حَرْبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ يُحَدِّث هِشَامَ
بْنَ عُرْوَةَ أَنَّ عَطَاءً يَكْرَهُ مَا أُدْخِلَ مِنْ الصَّيْدِ مِنْ الْحِلِّ
أَنْ يُذْبَحَ فِي الْحَرَامِ, فَقَالَ هِشَامٌ: وَمَا عِلْمُ عَطَاءٍ, وَمَنْ
يَأْخُذُ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَعْنِي
عَمَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الأَقْفَاصِ وَأَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام يُقَدِّمُونَ بِهَا الْقَمَارِيَّ وَالْيَعَاقِيبَ
لاَ يَنْهَوْنَ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْحَرَمُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ
الإِحْرَامُ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصُّ أَصْلاً فَارْتَفَعَ
الإِشْكَالُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
قَالَ: مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ
وَجَدَهُ بَعْدَ إحْلاَلِهِ فِي يَدِ إنْسَانٍ قَدْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ
ارْتِجَاعُهُ وَانْتِزَاعُهُ مِنْ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ, وَهَذَا تَخْلِيطٌ
نَاهِيكَ بِهِ, وَلَئِنْ كَانَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَمَا لَهُ
أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ مَلَكَهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى عَوْدَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ
بَعْدَ سُقُوطِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ
بِإِحْرَامِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: إنْ صَادَ مُحِلٌّ
صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ حَرَمَ مَكَّةَ حَيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَإِنْ
بَاعَهُ فُسِخَ بَيْعُهُ, فَإِنْ بَاعَهُ مِمَّنْ يَذْبَحُهُ أَوْ ذَبَحَهُ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَنَاقُضٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ
حَيًّا ثُمَّ يُذْبَحَ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ
قَالَ: رَأَيْت الصَّيْدَ يُبَاعُ بِمَكَّةَ حَيًّا فِي إمَارَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ.
قال أبو محمد: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ, وَبَيْنَ
الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ, لإِنَّ كِلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ
حَرَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِبُ
فِيمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَمَلَّكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَنْ
يُؤَدِّيَ لِصَاحِبِهِ صَيْدًا مِثْلَهُ يَبْتَاعُهُ لَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ
يُوجَدْ مِثْلُهُ, وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ، وَلاَ يُؤْكَلُ الَّذِي قُتِلَ لاَِنَّهُ
مَيْتَةٌ, إذْ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ.
(7/252)
قال
أبو محمد: وَهَا هُنَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ, أَحَدُهُمَا: قَوْمٌ قَالُوا: لَحْمُ
الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ هُوَ أَوْ يُصَدْ لَهُ, وَاحْتَجُّوا
بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ
فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ
عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِلنَّبِيِّ عليه السلام وَذَكَرْتُ
أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ
مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام: "صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلاَّ مَا
اصْطَدْتُمْ وَصِيدَ لَكُمْ". فَرُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ
أُتِيَ بِصَيْدٍ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَلَمْ
يَأْكُلْهُ هُوَ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا عَجَبًا لَك تَأْمُرُنَا
أَنْ نَأْكُلَ مِمَّا لَسْت آكِلاً فَقَالَ عُثْمَانُ: إنِّي أَظُنُّ إنَّمَا
صِيدَ مِنْ أَجْلِي, فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ فَسَاقِطٌ, لاَِنَّهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّ مَعْمَرًا
رَوَاهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرَوَاهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُعَاوِيَةُ
بْنُ سَلاَّمٍ, وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ كِلاَهُمَا يَقُولُ فِيهِ: عَنْ
يَحْيَى حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ, وَلاَ يَذْكُرَانِ مَا
ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْمَرٌ سَمَاعَ يَحْيَى لَهُ مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا: شُعْبَةُ، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا:
أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ
فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ, وَرَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَذَكَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه
السلام أَكَلَ مِنْهُ.
فَلاَ يَخْلُو الْعَمَلُ فِي هَذَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تُغَلَّبَ
رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لاَ سِيَّمَا وَفِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ
سَمَاعَ يَحْيَى مِنْ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْمَرًا.
وَتَسْقُطَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ جُمْلَةً لاَِنَّهُ اضْطَرَبَ
عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِرِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ, وَأَبِي مُحَمَّدٍ, وَابْنِ
مَوْهَبٍ, الَّذِينَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِمْ لاَِنَّهُ لاَ يَشُكُّ ذُو حِسٍّ
أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ. إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ
فِي أَنَّهُ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ, وَتَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه
السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ, وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, فِي
مَكَان وَاحِدٍ فِي صَيْدٍ وَاحِدٍ, وَيُؤْخَذُ بِالزَّائِدِ وَهُوَ الْحَقُّ
الَّذِي لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ: فَوَجَدْنَا مَنْ رَوَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
قَتَادَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ قَدْ أَثْبَتَ
خَبَرًا وَزَادَ عِلْمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ
يَأْكُلْ مِنْهُ, فَوَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ، وَلاَ بُدَّ وَتَرْكُ رِوَايَةِ
مَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ
(7/253)
أَنَّ
أَبَا النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ
بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ
الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ
سَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَتِهِ, ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ, فَقَالَ: مَا
أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِنْ أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ.
فَصَحَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُثْمَانَ, وَالزُّبَيْرِ, وَاسْتِحْسَانٌ, لاَ
مَنْعٌ, وَلاَ عَنْ أَثَرٍ عِنْدَهُمَا, وَمِثْلُ هَذَا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ,
وَلاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَصِدْ الْحِمَارَ إلاَّ
لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مِنْ أَكْلِهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
وَقَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ مَا
لَمْ يُشِرْ لَهُ إلَيْهِ أَوْ يَأْمُرْهُ بِصَيْدِهِ وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَوْهَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ وَبَعْضُهُمْ
لَيْسَ بِمُحْرِمٍ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ
رُمْحِي فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ
بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَأَشْفَقُوا
مِنْهُ, فَسُئِلَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ: "هَلْ
أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ" قَالُوا: لاَ, قَالَ: "فَكُلُوهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
مَوْهَبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ إلاَّ، أَنَّهُ
قَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ قَالُوا:
لاَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا
كَانَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ لَهُ: نَعَمْ إلاَّ
أَنَّ الْيَقِينَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام، وَلاَ
حَكَمَ بِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَلاَ تُؤْخَذُ الدِّيَانَةُ
بِالتَّكَهُّنِ, وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بِإِشَارَتِهِمْ
إلَيْهِ, أَوْ أَمْرِهِمْ إيَّاهُ, أَوْ عَوْنِهِمْ لَهُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ
لَبَيَّنَهُ عليه السلام, فَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حُكْمَ لِذَلِكَ. وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِي مُحْرِمٍ كَانَ بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى حَجَلَةً
فَأَمَرَ مُحِلًّا بِذَبْحِهَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/254)
893 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أَمَرَ مُحْرِمٌ حَلاَلاً بِالتَّصَيُّدِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيَأْتَمِرُ لَهُ فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَاتِلُ لِلصَّيْدِ فَهُوَ حَرَامٌ, وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَأْتَمِرُ لَهُ، وَلاَ يُطِيعُهُ فَلَيْسَ الْمُحْرِمُ هَاهُنَا قَاتِلاً, بَلْ أَمَرَ بِمُبَاحٍ حَلاَلٍ لِلْمَأْمُورِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلاَلٌ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ مَيْتَةً لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ; لاَِنَّهُ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الذَّكَاةُ خَالِصَةً, وَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّهُ لاَِنَّهُ قَاتِلٌ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحِلِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/254)
894 - مَسْأَلَةٌ: وَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ وَيُبَاشِرَهَا مَا لَمْ يُولِجْ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ إلاَّ عَنِ الرَّفَثِ, وَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ, فَقَطْ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ
(7/254)
895 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا, أَوْ تَدَاوَى بِطِيبٍ, أَوْ مَسَّهُ طِيبُ الْكَعْبَةِ, أَوْ مَسَّ طِيبًا لِبَيْعٍ, أَوْ شِرَاءٍ, أَوْ لَبِسَ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ نَاسِيًا, أَوْ لِضَرُورَةٍ طَالَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ, أَوْ قَصُرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلاَ يَكْدَحُ ذَلِكَ فِي حَجِّهِ, وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ، عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ ذَلِكَ سَاعَةَ يَذْكُرُهُ أَوْ سَاعَةَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ, وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَحْلِقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَلَهُ أَنْ يَدْهُنَ بِمَا شَاءَ, فَلَوْ تَعَمَّدَ لِبَاسَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَوْ فِعْلَ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: بَطَلَ حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ.
(7/255)
بُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "عُفِيَ لاُِمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" فَالْمُسْتَكْرَهُ عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
وَالْمَرْأَةُ الْمُكْرَهَةُ عَلَى الْجِمَاعِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَحَجُّهُمْ تَامٌّ, وَإِحْرَامُهُمْ تَامٌّ.
وقال أبو حنيفة: مَنْ غَطَّى رَأْسَهُ, أَوْ وَجْهَهُ, أَوْ لَبِسَ مَا نُهِيَ
عَامِدًا, أَوْ نَاسِيًا, أَوْ مُكْرَهًا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ,
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, فَإِنْ حَلَقَ
قَفَاهُ لِلْحِجَامَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, فَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ
صَدَقَةٌ. وقال مالك: مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَاطَ بِهِ، عَنْ
نَفْسِهِ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الَّتِي عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ, وَلاَ
يَحْتَجِمُ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ, فَإِنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ
فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وقال الشافعي: لاَ شَيْءَ فِي النِّسْيَانِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إلاَّ فِي حَلْقِ
الرَّأْسِ فَقَطْ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَ: وَلاَ يَحْلِقُ مَوْضِعَ
الْمَحَاجِمِ, وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً. قال أبو محمد: أَمَّا
أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرَةُ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ، وَلاَ
نَعْلَمُهَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا
لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ
صَاحِبٍ, وَلاَ قِيَاسٍ; لإِنَّ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ
مِنْ يَوْمٍ: دَعْوَى فَاسِدَةٌ. وقال بعضهم: هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ
لِبَاسِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ: كَذَبَ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحِينَ
تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ}
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللِّبَاسَ لاَ يَقِلُّ فِي النَّهَارِ بَلْ قَدْ
يُوضَعُ لِلْقَائِلَةِ, وَأَخْبَرَ أَنَّ اللِّبَاسَ يَقِلُّ إلَى بَعْدِ صَلاَةِ
الْعِشَاءِ وَقَدْ يَكُونُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَالنَّخَعِيِّ, أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا
فَلْيُرِقْ دَمًا قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ لاَِنَّكُمْ
تَجْعَلُونَ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ صَدَقَةً لاَ دَمًا;، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ
مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَرَاهُ حَقًّا, ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, وَلَوْ
كَانَتْ إمَاطَتُهُ الأَذَى بِغَيْرِ حَلْقِ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ
لاََوْجَبَ الْفِدْيَةَ: الْبَوْلُ, وَالْغَائِطُ, وَالأَكْلُ, وَالشُّرْبُ,
وَالْغُسْلُ لِلْحَرِّ وَالتَّرَوُّحِ, وَالتَّدَفُّؤُ لِلْبَرْدِ, وَقَلْعُ
الضِّرْسِ لِلْوَجَعِ, فَكُلُّ هَذَا إمَاطَةُ أَذًى. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ
أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى إسْقَاطِهِ الْفِدْيَةَ فِي أَكْثَرَ
(7/256)
مِنْ
ذَلِكَ قلنا: حَسْبُنَا وَإِيَّاكُمْ إقْرَارُكُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى
إبْطَالِ عِلَّتِكُمْ, وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إمَاطَةِ أَذًى تَجِبُ فِيهِ
فِدْيَةٌ, وَإِلْزَامُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ شَرْعٌ لاَ يُجَوِّزُ
إلْزَامَهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه
السلام. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كَذَبُوا; لأَنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى
أَنْ يُورِدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَشَرَةٍ مِنْ صَاحِبٍ, وَتَابِعٍ فِي ذَلِكَ
مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ
احْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُهُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى
إزَالَتِهِ، عَنْ نَفْسِهِ إلاَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى
إنْبَاتِهِ.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ
الْفِدْيَةَ وَهَلْ زِدْتُمْ إلاَّ دَعْوَى لاَ بُرْهَانَ لَهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ الْخَبِيصَ
الأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَعْنِي الْمُزَعْفَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ
شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ شُمَيْسَةَ
الأَزْدِيَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَهَا: اكْتَحِلِي
بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت غَيْرَ الإِثْمِدِ أَمَا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ
وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ, وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ.
وَمِنْ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ،
عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ امْرَأَةً
مُحْرِمَةً اكْتَحَلَتْ بِإِثْمِدٍ أَنْ تُهْرِقَ دَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا مَرْوَانُ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيّ، نا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ قَالَ: رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَصَابَ
ثَوْبَهُ خَلُوقُ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَكَانَ مُحْرِمًا وَعَنْ
عَطَاءٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: إنْ شَمَّ
الْمُحْرِمُ رَيْحَانًا, أَوْ مَسَّ طِيبًا: أَهْرَقَ دَمًا. وَقَدْ رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ عليه السلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام
بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ.
قال أبو محمد: لَمْ يُخْبِرْ عليه السلام أَنَّ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً، وَلاَ
فِدْيَةً وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا أَغْفَلَ ذَلِكَ, وَكَانَ عليه السلام كَثِيرَ
الشَّعْرِ أَفْرَعَ وَإِنَّمَا نُهِينَا، عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الإِحْرَامِ
وَالْقَفَا لَيْسَ رَأْسًا، وَلاَ هُوَ مِنْ الرَّأْسِ. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا
رُوِّينَا، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(7/257)
أَنَّهُ
أَمَرَ مُحْرِمًا احْتَجَمَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِصِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ
نُسُكٍ; فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَهَذَا عَلَيْهِمْ;
لأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الدَّمَ
وَلَمْ يَشْتَرِطْ إنْ حَلَقَ لَهَا شَعْرًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ
شَيْئًا عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ
يَحْتَجِمُ الصَّائِمُ, وَلَمْ يَشْتَرِطْ تَرْكَ حَلْقِ الْقَفَا.
وَعَنْ طَاوُوس يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إذَا كَانَ وَجِعًا وَمَا نَعْلَمُ مَنْ
أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ قَالَ:
مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَرَاقَ دَمًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ:
إنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا الاِدِّهَانُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا
أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ وَ هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ،
عَنْ مُرَّةِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: رَآنَا أَبُو ذَرٍّ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ
فَقَالَ: اُدْهُنُوا أَيْدِيَكُمْ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ
أَنْ يُعَالِجَ الْمُحْرِمُ يَدَيْهِ بِالدَّسَمِ, وَأَنْ يَدْهُنَ بِالسَّمْنِ
رَأْسَهُ لِصُدَاعٍ أَصَابَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَرُوِّينَا،
عَنْ عَطَاءٍ: مَنْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ،
وَلاَ بَأْسَ بِالأَدْهَانِ الْفَارِسِيَّةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ: فِي الطِّيبِ
الْفِدْيَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إذَا تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالسَّمْنِ, أَوْ
الزَّيْتِ, أَوْ الْبَنَفْسَجِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ: كَانَ الْحَكَمُ, وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ فِي الْمُحْرِمِ يُدَاوِي
قُرُوحًا بِرَأْسِهِ وَجَسَدِهِ: إنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ نَاسِيًا: فَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمُحْرِمِ يُغَطِّي رَأْسَهُ
نَاسِيًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى; فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَالْكَفَّارَةُ.
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِمِثْلِهِ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ عَلَى
النَّاسِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أَجَازَا
لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ الطَّعَامِ, وَفِيهِ الزَّعْفَرَانُ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ,
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَأْثُرُ قَوْلَهُ، عَنْ أَحَدٍ.
وَعَنْ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ: إبَاحَةُ الْخَبِيصِ الْمُزَعْفَرِ لِلْمُحْرِمِ.
وَمِثْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ,
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, فِي
لِبَاسِ الْقَمِيصِ, وَالْقَلَنْسُوَةِ, وَالْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ أَنَّهُ
يُهْرِقُ دَمًا: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لاَِقْوَالِ أَبِي
حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ فَسَقَ, وَالْفُسُوقُ
يُبْطِلُ الْحَجَّ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/258)
896 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ الْمِنْطَقَةَ عَلَى إزَارِهِ إنْ شَاءَ أَوْ عَلَى جِلْدِهِ وَيَحْتَزِمَ بِمَا شَاءَ, وَيَحْمِلَ خُرْجَهُ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ وَرِدَاءَهُ إنْ شَاءَ, وَيَحْمِلَ مَا شَاءَ مِنْ الْحُمُولَةِ عَلَى رَأْسِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ, أَوْ لِجَرْحٍ, وَيَجْبُرَ كَسْرَ ذِرَاعِهِ, أَوْ سَاقِهِ, وَيَعْصِبَ عَلَى جِرَاحِهِ, وَخُرَّاجِهِ, وَقَرْحِهِ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَيُحْرِمُ فِي أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ حَاشَا
(7/258)
مَا
صُبِغَ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا
ذَكَرْنَا قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} إلاَّ أَنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي حَسَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مُحْرِمًا
مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْحَبْلِ أَلْقِهِ. وبه إلى ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لاَ
تَعْقِدْ عَلَيْكَ شَيْئًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ لِلْمُحْرِمِ
فأما الأَثَرُ فَمُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ عَمَّنْ سَمِعَ صَالِحًا مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
قال أبو محمد: كِلاَهُمَا وَتَمْرَةٌ وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ,
وطَاوُوس قَالاَ جَمِيعًا: رَأَيْنَا ابْنَ عُمَرَ قَدْ شَدَّ حَقْوَيْهِ
بِعِمَامَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٍ:، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَخِّصُ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ
الْمُحْرِمُ عَلَى حَقْوَيْهِ, وَفِي الْمِنْطَقَةِ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: لاَ بَأْسَ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ
حَاجًّا فَرَمَلَ حَتَّى رَأَيْت مِنْطَقَتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَلَى بَطْنِهِ.
قال أبو محمد: لاَ شَكَّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى
إحْرَازِ نَفَقَتِهِ, وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَرَأَى
مَالِكٌ عَلَى مَنْ عَصَبَ رَأْسَهُ فِدْيَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ
يَعْصِبُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِسَيْرٍ، وَلاَ بِخِرْقَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ شَدَّ
شَعْرَهُ بِسَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكِلاَهُمَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءَ:
يَنْحَلُّ إزَارِي يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ: اعْقِدْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ
يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَوَشَّحَ الْمُحْرِمُ بِثَوْبِهِ وَيَعْقِدَهُ عَلَى
قَفَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ
ثَوْبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَبَاحَ لِبَاسَ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ: مُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ,
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَمُجَاهِدٌ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَكَرِهَهُ
آخَرُونَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ يَنْكَسِرُ
(7/259)
ظُفْرُهُ:
أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ مُرَارَةً وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، نا مَنْصُورٌ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالاَ جَمِيعًا: يَجْبُرُ الْمُحْرِمُ عَظْمَهُ إذَا
انْكَسَرَ, قَالاَ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُحْرِمِ, أَوْ شُجَّ عَصَبَ عَلَى
الشَّجِّ وَالْكَسْرِ وَعَقَدَ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لاَ بَأْسَ أَنْ
يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَرْحَةِ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُسَيِّبِ عَلَى الْجَرْحِ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ,
وَأَبُو سُلَيْمَانَ لِلْمُحْرِمِ: الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ, وَأَنْ يَحْمِلَ
الْخُرْجَ عَلَى رَأْسِهِ, وَنَحْوَ ذَلِكَ, وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ بَأْسًا. وَأَبَاحَ
مَالِكٌ لِبَاسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَتُهُ,
وَمَنَعَهُ لِبَاسَهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَةُ غَيْرِهِ. وَجَعَلَ ابْنُ
الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةَ. وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ شَدِّ
الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْعَضُدِ لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَ شَدَّهَا عَلَى جِلْدِهِ,
وَمَنَعَ مِنْ شَدِّهَا فَوْقَ الإِزَارِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ
فِي ذَلِكَ فِدْيَةً فَأَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ
مِنْهَا, وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُمَا. وَمَنَعَ مَالِكٌ
الْمُحْرِمَ مِنْ حَمْلِ خُرْجٍ لِغَيْرِهِ عَلَى رَأْسِهِ, وَرَأَى عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ فِدْيَةً, وَأَبَاحَ لَهُ حَمْلَهُ عَلَى رَأْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَهَذَا
فَرْقٌ فَاسِدٌ لاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ،
عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةُ حَمْلِ الْمُحْرِمِ الْمِكْتَلَ عَلَى رَأْسِهِ. وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رَأَى عُمَرُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا أَخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ
فَسَكَتَ عُمَرُ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَبِسَ
ثَوْبًا مُوَرَّدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَ ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ لِلْمُحْرِمِ قلنا: أَنْتُمْ
أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ، وَلاَ رَأَيْتُمْ
فِيهِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ فَأَبَاحُوا الْمُصَبَّغَاتِ
وَلَمْ يَقِيسُوهَا عَلَى الْوَرْسِ وَالْمُعَصْفَرِ, كَمَا قَاسُوا كُلَّ مَنْ
أَمَاطَ بِهِ أَذًى عَلَى حَالِقٍ رَأْسَهُ, وَكَمَا قَاسُوا جَارِحَ الصَّيْدِ
عَلَى قَاتِلِهِ; وَكَمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ
عِمَامَةً.
(7/260)
897
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ
بِمَكَّةَ, وَالْمَدِينَةِ، وَلاَ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا, وَلاَ مِنْ حَشِيشِهِ
حَاشَا الإِذْخِرَ فَإِنَّ جَمْعَهُ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ
يَرْعَى إبِلَهُ أَوْ بَعِيرَهُ أَوْ مَوَاشِيَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ وَجَدَ
غُصْنًا قَدْ قَطَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ وَقَعَ فَفَارَقَ جِذْمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ
حِينَئِذٍ. فَإِنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً فَإِنَّ سَلْبَهُ
حَلاَلٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ
(7/260)
اللَّهُ
تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ
اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ
فِيهِ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ, فَهُوَ
حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ،
وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ, وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا،
وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إلاَّ
الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ: إلاَّ
الإِذْخِرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا لَيْثُ، هُوَ ابْنُ
سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ
الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "إنَّ
مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلَّ لاِمْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ
يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ عليه
السلام فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ
لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ, وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ".
قال أبو محمد: هَذَا مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ
عليه السلام وَلَمْ يَنْهَ، عَنْ إرْعَاءِ الْمَوَاشِي: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا}.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِكَرَاهِيَةِ الرَّعْيِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَهَذَا
تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَخْذَ السَّنَى وَسَائِرِ
حَشِيشِ الْحَرَمِ وَهَذَا أَيْضًا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام,
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّنَى وَبَيْنَ سَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ. وقال أبو
حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَسُفْيَانُ: بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى قَاطِعِ شَجَرِ
الْحَرَمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغُصْنِ فَمَا فَوْقَهُ إلَى الدَّوْحَةِ:
قِيمَةُ ذَلِكَ, فَإِنْ بَلَغَ هَدْيًا أَهْدَاهُ, فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيًا
فَقِيمَتُهُ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ,
أَوْ صَاعُ تَمْرٍ, أَوْ شَعِيرِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ صِيَامٌ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ،
وَلاَ صِيَامٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الدَّوْحَةِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ
عَطَاءٍ فِيهَا بَقَرَةٌ, وَفِي الْوَتَدِ مُدٌّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فِي الدَّوْحَة: بَقَرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ فِي الدَّوْحَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ, أَوْ خَمْسَةٌ, أَوْ سَبْعَةٌ
يَتَصَدَّقُ بِهَا بِمَكَّةَ وَمَا نَعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فِي
قَوْلِهِمَا سَلَفًا.
وقال مالك, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ لاَِنَّهُ
لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
وَلاَ يَجُوزُ شَرْعُ هَدْيٍ, وَلاَ إيجَابُ صِيَامٍ, وَلاَ إلْزَامُ غَرَامَةِ
إطْعَامٍ, وَلاَ صَدَقَةٍ, إلاَّ بِقُرْآنٍ, أَوْ سُنَّةٍ; وَهَذَا مِمَّا
تَرَكَتْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الْمَذْكُورَةُ الْقِيَاسَ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ,
وَالشَّافِعِيَّ قَاسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى إيجَابِ
الْجَزَاءِ فِي صَيْدِهِ وَلَمْ يَقِيسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي حَرَمِ
الْمَدِينَةِ عَلَى إيجَابِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَكِلاَهُمَا حَرَمٌ مُحَرَّمٌ
صَيْدُهُ. وَقَاسَ مَالِكٌ إيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَى اللاَّبِسِ
(7/261)
وَالْمُتَطَيِّبِ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَالِقِ رَأْسِهِ, وَلَمْ يَقِسْ إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ, وَفِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى وُجُوبِهِ فِي صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ لاَ وَجْهَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/262)
898
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُسْفَكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ دَمٌ بِقِصَاصٍ
أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يُقَامَ فِيهَا حَدٌّ, وَلاَ يُسْجَنَ فِيهَا أَحَدٌ, فَمَنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ، عَنِ الْحَرَمِ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنْ يُسْفَكَ
بِهَا دَمٌ, وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا} وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا
إخْرَاجُ الْعَاصِي مِنْهُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَتَطْهِيرُهُ مِنْ
الْعُصَاةِ وَاجِبٌ, وَلَيْسَ هَذَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ, لاَِنَّهُ لَمْ
يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ يُسَمَّى ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمُتَمَلَّكِ، وَلاَ
الْحِجَامَةُ, وَلاَ فَتْحُ الْعِرْقِ: سَفْكَ دَمٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ
وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَالَ: سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ: سَمِعْت ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا, ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ
وَلَمْ يُبَايَعْ وَذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ: فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ
أَبُو الزُّبَيْرِ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا
نَدَهْتُهُ يَعْنِي حَرَمَ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وَجَدْت قَاتِلَ
أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا عَرَضْت لَهُ.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَخُصُّوا مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ مِمَّنْ
أَصَابَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ; ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَفَرَّقَ عَطَاءٌ,
وَمُجَاهِدٌ بَيْنَهُمَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
خَرَّجَ قَوْمًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَصَلَبَهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ قَتَلَ, ثُمَّ لَجَأَ
إلَى الْحَرَمِ قَالَ: يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ. وقال أبو حنيفة: تُقَامُ
الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ الْقَتْلَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ فِيهِ
حَدُّ قَتْلٍ، وَلاَ قَوَدٍ حَتَّى يَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: يُخْرَجُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَتْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فَاسِدٌ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَبَاحَ
الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ حَجَّةً أَصْلاً, وَلاَ سَلَفًا, إلاَّ الْحُصَيْنَ بْنَ
نُمَيْرٍ, وَمَنْ بَعَثَهُ, وَالْحَجَّاجَ, وَمَنْ بَعَثَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ فَلْيَدْفَعْ، عَنْ
نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/262)
899
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُخْرَجُ شَيْءٌ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلاَ حِجَارَتِهِ
إلَى الْحِلِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ
عَطَاءٍ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ
(7/262)
900
- مَسْأَلَةٌ: وَمِلْكُ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا جَائِزٌ. وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ
يَحِلُّ بَيْعُ دُورِهَا، وَلاَ إجَارَتُهَا. وَمَنَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنْ كِرَائِهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعَ مِنْ
التَّبْوِيبِ عَلَى دُورِهَا; وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ خَبَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ لاَ
يَصِحَّانِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ مَلَكَ الصَّحَابَةُ بِهَا دُورَهُمْ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّه
عليه السلام فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ, وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ رَبْعًا فَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ رَسُولُهُ عليه السلام فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِيهَا.
(7/263)
901
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَحَلاَلٌ
سَلْبُهُ كُلَّ مَا مَعَهُ فِي حَالِهِ تِلْكَ وَتَجْرِيدُهُ إلاَّ مَا يَسْتُرُ
عَوْرَتَهُ فَقَطْ; فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ، نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إنَّ سَعْدًا أَبَاهُ رَكِبَ
إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ
فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى
غُلاَمِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلاَمِهِمْ فَقَالَ: مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَأَبَى
أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ
لِمَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: إنِّي اسْتَعْمَلْتُك عَلَى مَا هَاهُنَا
فَمَنْ رَأَيْتَهُ يَخْبِطُ شَجَرًا أَوْ يَعْضِدُهُ: فَخُذْ حَبْلَهُ وَفَأْسَهُ
قُلْت: آخُذُ رِدَاءَهُ قَالَ: لاَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا.
قال أبو محمد: وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يُعْرَفُ وَلَيْسَ هَذَا
فِي الْحَشِيشِ لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الاِحْتِطَابِ وَسِتْرُ
الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِكُلِّ حَالٍ.
(7/263)
902 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى عَرَفَةَ أَوْ إلَى مِنًى أَوْ إلَى مَكَان ذَكَره مِنْ الْحَرَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى لاَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ لِلصَّلاَةِ هُنَالِكَ, أَوْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ, وَلاَ أَنْ يَعْتَمِرَ إلاَّ أَنْ يَنْذِرُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْكَبْ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; فَإِنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي طَرِيقٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ يُعَوِّضُ مِنْهُ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامًا.
(7/263)
903 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا, أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَكَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلاَّ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ مَنَاسِكَ عَمَلِهِ; لإِنَّ هَذَا هُوَ الْحَجُّ, فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ فَكَمَا قَالَ عَطَاءٌ: مِنْ حَيْثُ نَوَى, فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلْيَمْشِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَشْيٍ وَلْيَرْكَبْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى بِمَا نَذَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/266)
904
- مَسْأَلَةٌ: وَدُخُولُ مَكَّةَ بِلاَ إحْرَامٍ جَائِزٌ; لإِنَّ النَّبِيَّ عليه
السلام إنَّمَا جَعَلَ الْمَوَاقِيتَ لِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ يُرِيدُ حَجًّا, أَوْ
عُمْرَةً, وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِمَنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً, فَلَمْ
يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ
يَدْخُلَ مَكَّةَ إلاَّ بِإِحْرَامٍ فَهُوَ إلْزَامُ مَا لَمْ يَأْتِ فِي
الشَّرْعِ إلْزَامُهُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِمًا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَخَلَ مَكَّةَ
غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ: لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ
إحْرَامٍ. وقال أبو حنيفة: أَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ
الْمِيقَاتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ بِإِحْرَامٍ بِعُمْرَةٍ
(7/266)
905
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ, أَوْ يَعْتَمِرَ, وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ،
وَلاَ اعْتَمَرَ قَطُّ فَلْيَبْدَأْ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتِهِ, وَلاَ
يُجْزِيهِ إلاَّ ذَلِكَ, وَلاَ يُجْزِيه أَنْ يَحُجَّ نَاوِيًا لِلْفَرْضِ
وَلِنَذْرِهِ, وَلاَ لِحَجَّةِ فَرْضٍ وَعُمْرَةِ نَذْرٍ, وَلاَ لِحَجَّةِ نَذْرٍ
وَعُمْرَةِ فَرْضٍ; لإِنَّ عَقْدَ اللَّهِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ قَبْلَ نَذْرِهِ,
فَإِنْ أَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَاصٍ وَالْمَعْصِيَةُ لاَ
تَنُوبُ، عَنِ الطَّاعَةِ، وَلاَ يُجْزِي عَمَلٌ وَاحِدٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ
مُفْتَرَضَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ
سَاقَ الْهَدْيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ فَالْعُمْرَةُ الْمُوجَبَةُ
عَلَيْهِ لَسَوْقِ الْهَدْيِ هِيَ غَيْرُ الَّتِي نَذَرَ; فَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ
مَا أُمِرَ بِهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ عَمَلٌ، عَنْ عَمَلَيْنِ إلاَّ حَيْثُ
أَجَازَهُ النَّصُّ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ
تُجْزِئُ صَلاَةٌ، عَنْ صَلاَتَيْنِ, وَوَافَقُونَا نَعْنِي الْحَاضِرِينَ مِنْ
خُصُومِنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ صَوْمُ يَوْمٍ، عَنْ يَوْمَيْنِ, وَلاَ
رَقَبَةٌ، عَنْ رَقَبَتَيْنِ، وَلاَ زَكَاةٌ، عَنْ زَكَاتَيْنِ, فَتَنَاقَضُوا,
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ
يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ فَقَالَ: هَذِهِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ وَفِي
بِنَذْرِك وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: يَبْدَأُ بِالْفَرِيضَةِ فِيمَنْ نَذَرَ وَلَمْ
يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ وَفِي هَذَا خِلاَفٌ رُوِّينَا، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ
الإِسْلاَمِ
(7/267)
قَالاَ
جَمِيعًا: تُجْزِئُهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ, وَأَبُو يُوسُفَ: مَنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَنَوَى
بِعَمَلِهِ فَرْضَهُ, وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، عَنْ حَجَّةِ
الإِسْلاَمِ, وَتَبْطُلُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ
فَحَجَّ يَنْوِي نَذْرَهُ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُ،
عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ تَطَوُّعٌ، وَلاَ تُجْزِي، عَنِ
النَّذْرِ.
قال أبو محمد: الْعَمَلُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ
لِمَا لَزِمَهُ كَمَا أُمِرَ.
(7/268)
906
- مَسْأَلَةٌ: مَنْ أَهْدَى هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ
بُلُوغِهِ مَكَّةَ, أَوْ مِنًى فَلْيَنْحَرْهُ, وَلْيُلْقِ قَلاَئِدَهُ فِي دَمِهِ
وَلِيُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ; وَإِنْ قَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ ضَمِنَ
مِثْلَ مَا قَسَّمَ. فَلَوْ قَالَ: شَأْنُكُمْ بِهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَلاَ
بَأْسَ;، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ، وَلاَ رُفَقَاؤُهُ مِنْهُ
شَيْئًا, فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُمْ مِنْهُ أَدَّى إلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِثْلَ
مَا أَكَلَ فَقَطْ الْغَنَمُ, وَالْبَقَرُ, وَالإِبِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ.
فَإِنْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ,
وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ وَهَكَذَا رُوِّينَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ
السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَمَعْمَرٍ,
كُلِيهِمَا، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ يَعْطَبُ: لِيَنْحَرْهُ, ثُمَّ
لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ أَكَلَ
مِنْهُ, أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهِ غُرِّمَ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَطِبَ
فَلْيَنْحَرْهُ, ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ لِيَضْرِبْ
بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ, وَإِنْ شَاءَ أَهْدَى; وَإِنْ شَاءَ
تَقَوَّى بِهِ فِي ثَمَنِ أُخْرَى وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ وَعَنِ
ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي التَّطَوُّعِ مِثْلُهُ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنِي
حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ
الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي
الْهَدْيِ يَعْطَبُ فِي الطَّرِيقِ: كُلُوهُ، وَلاَ تَدَعُوهُ لِلْكِلاَبِ,
وَالسِّبَاعِ, فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَأَهْدُوا مَكَانَهُ هَدْيًا, وَإِنْ كَانَ
تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتُمْ فَلاَ تُهْدُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَهْدُوا. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَطِبَتْ لَهُ بَدَنَةُ تَطَوُّعٍ فَنَحَرَهَا ابْنُ
عُمَرَ وَأَكَلَهَا وَلَمْ يُهْدِ مَكَانَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَهُوَ تَطَوُّعٌ فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ
اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ, ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهُ, ثُمَّ كُلْهُ إنْ
شِئْت, وَاهْدِهِ إنْ شِئْت وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ: كُلْ
وَأَطْعِمْ وَلَيْسَ عَلَيْك الْبَدَلُ وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ أَيْضًا. وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَكُلْ مِنْ
التَّطَوُّعِ, وَلاَ تَأْكُلْ مِنْ الْوَاجِبِ. وَرُوِّينَا قَوْلاً آخَرَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: يَدْعُهَا تَمُوتُ.
فَرَجَعْنَا إلَى السُّنَّةِ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ
(7/268)
مُوسَى
بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَعَ فُلاَنٍ الأَسْلَمِيِّ ثَمَانِ عَشْرَةَ بَدَنَةً فَقَالَ: أَرَأَيْتَ
إنْ أُزْحِفَ عَلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام:
"تَنْحَرُهَا ثُمَّ تَصْبِغُ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا
عَلَى صَفْحَتِهَا، وَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
رُفْقَتِكَ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا
سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
نَاجِيَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام بَعَثَ مَعَهُ
بِهَدْيٍ فَقَالَ: "إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ, ثُمَّ اُصْبُغْ
نَعْلَهُ فِي دَمِهِ, ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ" فَهَذَا
عُمُومٌ لِكُلِّ هَدْيٍ.
قال أبو محمد: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَهَذَا
خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام; لاَِنَّهُ إذَا تَوَلَّى
تَوْزِيعَهَا: فَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا. وقال مالك: إنْ أَكَلَ
مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْهَدْيَ كُلَّهُ. وَهَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُحَالِ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً فَيَغْرَمُ عَنْهَا نَاقَةً مِنْ أَصْلِهَا,
وَهَذَا عُدْوَانٌ لاَ شَكَّ فِيهِ. وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: لاَ يَغْرَمُ إلاَّ مِثْلَ مَا أَكَلَ. وَهَذَا مِمَّا يَتَنَاقَضُ
فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, فَأَخَذَا فِيهِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَتَرَكَا رَأْيَهُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ مَا رُوِيَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(7/269)
907 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ، عَنْ وَاجِبٍ وَهِيَ سِتَّةُ أَهْدَاءٍ فَقَطْ لاَ سَابِعَ لَهَا إمَّا جَزَاءُ صَيْدٍ, وَأَمَّا هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ, وَأَمَّا هَدْيُ الإِحْصَارِ, وَأَمَّا نُسُكُ فِدْيَةِ الأَذَى, وَأَمَّا هَدْيُ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْكَعْبَةِ فَرَكِبَ, وَأَمَّا نَذْرُ هَدْيٍ. وَهَذَا الْهَدْيُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ, وَقِسْمٌ مَنْذُورٌ بِعَيْنِهِ فَإِنْ عَطِبَ الْوَاجِبُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَعَلَ بِهِ صَاحِبُهُ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَيُهْدِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلاَ بُدَّ حَاشَا الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَتْرُكُهُ، وَلاَ يُبَدِّلُهُ; لاَِنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا هَدْيٌ وَاجِبٌ فِي مَالِهِ وَذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَمَّا عَلَيْهِ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ عَطِبَ أَوْ لَمْ يَعْطَبْ. وَأَمَّا الْمَنْذُورُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَارِجٌ، عَنْ مَالِهِ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ إلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ فَيُهْلِكَهُ فَيَضْمَنَهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي نَذَرَهُ لَهُ; لاَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ تَحَكُّمِ الْمَرْءِ فِي هَدْيِهِ مَا لَمْ يُبْلِغْهُ مَحِلَّهُ فَمُبْطِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّعُ يَعْطَبُ قَبْلَ مَحِلِّهِ بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا. وَالتَّطَوُّعُ ثَلاَثَةُ أَهْدَاءٍ لاَ رَابِعَ لَهَا: مَنْ سَاقَ هَدْيًا فِي قِرَانٍ
(7/269)
أَوْ فِي عُمْرَةٍ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ, أَوْ أَهْدَى وَهُوَ لاَ يُرِيدُ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً.
(7/270)
908
- مَسْأَلَةٌ: وَيَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَلاَ
بُدَّ كَمَا قلنا، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأَهْدَاءِ
الْوَاجِبَةِ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَإِنْ أَكَلَ ضَمِنَ مِثْلَ مَا أَكَلَ
فَقَطْ, وَلاَ يُعْطَى فِي جِزَارَةِ الْهَدْيِ شَيْءٌ مِنْهُ أَصْلاً
وَيَتَصَدَّقُ بِجِلاَلِهِ وَجُلُودِهِ، وَلاَ بُدَّ. أَمَّا التَّطَوُّعُ
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
, وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ
إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
جَابِرٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ
ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً, ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ
وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ, ثُمَّ أَمَرَ فِي كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ
فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ
مَرَقِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام بِأَخْذِ الْبِضْعَةِ وَطَبْخِهَا
وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الأَكْلِ مِنْ بَعْضِ الْهَدْيِ دُونَ بَعْضٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا
عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ، نا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا
الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا
لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا فِي الْمَسَاكِينِ، وَلاَ يُعْطِي فِي
جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا.
قال أبو محمد: مَنْ جَعَلَ بَعْضَ أَوَامِرِهِ عليه السلام فِي كُلِّ مَا
ذَكَرْنَا فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ تَحَكَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ
تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الْقَوْلِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابَك ثُلُثًا
وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى آلِ عُتْبَةَ ثُلُثًا. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
(7/270)
الضَّحَايَا
وَالْهَدَايَا: ثُلُثٌ لاَِهْلِك, وَثُلُثٌ لَك, وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَعَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ
يُدْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بِضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ
صَيْدٍ وَنَذْرٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلاَ مِنْ النَّذْرِ،
وَلاَ مِمَّا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ.
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ
كُلِّهِ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ يُؤْكَلُ مِنْ
الْهَدْيِ خَمْسَةٌ: النَّذْرُ, وَالْمُتْعَةُ, وَالتَّطَوُّعُ, وَالْوَصِيَّةُ,
وَالْمُحْصَرُ, إلاَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا. وقال أبو حنيفة: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ
شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ الْمُتْعَةُ, وَالْقِرَانُ, وَالتَّطَوُّعُ إذَا
بَلَغَ مَحِلَّهُ وقال مالك: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ
التَّطَوُّعَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ, وَجَزَاءَ الصَّيْدِ, وَفِدْيَةَ
الأَذَى, وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ آرَاءٌ مُجَرَّدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُؤْكَلَ مِنْ كُلِّ هَدْيٍ إلاَّ مَا جُعِلَ
لِلْمَسَاكِينِ. فَقُلْنَا: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ
لِلْمَسَاكِينِ, وَأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالإِحْصَارِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ
وقال بعضهم: قِسْنَا هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى هَدْيِ الْقِرَانِ. فَقُلْنَا:
أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيًا يَلْزَمُهُ بَعْدَ قِرَانِهِ
وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَدْيٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضًا فَقَدْ أَلْزَمَ
صَاحِبَهُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَطْعَهُ مِنْهُ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ
يَحِلُّ لَهُ مَا قَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَنْهُ إلاَّ بِنَصٍّ; لَكِنْ يَأْكُلُ
مِنْهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ إنْ شَاءُوا; لأَنَّهُمْ غَيْرُهُ إلاَّ مَا سُمِّيَ
لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَأْكُلُوا مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/271)
909
- مَسْأَلَةٌ: وَالآُضْحِيَّةُ لِلْحَاجِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا هِيَ لِغَيْرِ
الْحَاجِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لاَ يُضَحِّي الْحَاجُّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا عَمْرُو النَّاقِدُ، نا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَرَى إلاَّ الْحَجَّ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ,
وَفِيهِ فَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُسَدَّدٌ، نا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهَا
وَقَدْ حَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا
حَاضَتْ, فَقَالَ لَهَا عليه السلام: "فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ
أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" قَالَتْ: فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ
بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ: مَا هَذَا فَقَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ
عليه السلام، عَنْ
(7/271)
نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هِيَ ضَحَايَا. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ الْحَسَنَ أَبَاهُ تَمَتَّعَ فَذَبَحَ شَاتَيْنِ شَاةً لِمُتْعَتِهِ وَشَاةً لاُِضْحِيَّتِهِ. وَقَدْ حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَلَى الآُضْحِيَّةَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْحَاجُّ مِنْ الْفَضْلِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
(7/272)
910
- مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ وَافَقَ الإِمَامُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ: جَهَرَ,
وَهِيَ صَلاَةُ جُمُعَةٍ, وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَيْضًا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ;
لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِالنَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إذَا
نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ
عَرَفَةَ وَمِنًى مِنْ عَرَفَةَ وَمِنًى.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، نا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا بِشْرُ بْنُ
مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: إذَا
وَافَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ: جَهَرَ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي
يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ
قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَجَّةَ النَّبِيِّ
عليه السلام فَقَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ
بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَلَمْ يَخْطُبْ" قَالَ
عَبْدُ الْعَزِيزُ: وَفَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِثْلَ ذَلِكَ. وبه إلى
إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ وَبَرَةَ
قَالَ: وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ
الظُّهْرَ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ: فَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ فِيهِ كُلُّ
بَلِيَّةٍ. إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ مَتْرُوكٌ مِنْ
الْكُلِّ, ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ, وَفِيهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ ابْنِ أَبِي
يَحْيَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ; ثُمَّ الْكَذِبُ فِيهِ
ظَاهِرٌ; لإِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام إنَّمَا
كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ
سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْفٍ، نا أَبُو الْعَمِيسِ، نا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه
السلام وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".
فإن قيل: إنَّ الآثَارَ كُلَّهَا إنَّمَا فِيهَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه
السلام بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قلنا: نَعَمْ, وَصَلاَةُ
الْجُمُعَةِ هِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ نَفْسُهَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ
أَنَّهُ عليه
(7/272)
السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا, وَالْجَهْرُ أَيْضًا لَيْسَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي أَنَّ ظُهْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْجَمَاعَةِ رَكْعَتَانِ.
(7/273)
911
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، عَنْ أَوَّلِ
أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لَهُمَا; فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَعَلَيْهِ
أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَحُجَّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال
الشافعي: هُوَ فِي سَعَةٍ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا
مُتَوَجَّهٌ إلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ; فَلاَ يَخْلُو الْمُسْتَطِيعُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ لاَ يَكُونُ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ
الْحَجُّ; فَإِنْ كَانَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي عَامِهِ
وَهُوَ قَوْلُنَا, وَهُوَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مُعَطِّلُ فَرْضٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ
مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ فَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ. وَأَيْضًا فَإِنْ
كَانَ مَفْسُوحًا لَهُ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ الْمَلاَمَةُ
بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْمَلاَمَةُ لاَ تَلْحَقُ أَحَدًا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَصَحَّ
أَنَّهُ مَلُومٌ فِي حَيَاتِهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام
أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ إلاَّ فِي آخِرِهَا قلنا: لاَ
بَيَانَ عِنْدَكُمْ مَتَى افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ, وَمُمْكِنٌ أَنْ
لاَ يَكُونَ اُفْتُرِضَ إلاَّ عَامَ حَجَّ عليه السلام, وَمَا لاَ نَصَّ بَيِّنًا
فِيهِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ, إلاَّ أَنَّنَا مُوقِنُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لاَ يَدَعُ الأَفْضَلَ إلاَّ لِعُذْرٍ مَانِعٍ, وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ. فَإِنْ ذَكَرُوا
تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا. قلنا: هَذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ
فَأَوْجِدُونَا نَصًّا بَيِّنًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُكُمْ
حِينَئِذٍ, وَلاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/273)
912 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنَّمَا تُرَاعَى الاِسْتِطَاعَةُ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَدَثَتْ لَهُ فِيهِ الاِسْتِطَاعَةُ فَيُدْرِكُ الْحَجَّ فِي وَقْتِهِ وَالْعُمْرَةَ, فَإِنْ اسْتَطَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ الْعَامِ كُلِّهِ وَبَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا، وَلاَ لَزِمَهُ الْحَجُّ; لاَِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ إلاَّ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَيَكُونُ قَارِنًا, أَوْ مُتَمَتِّعًا.
(7/273)
913 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ اسْتَطَاعَ كَمَا ذَكَرْنَا, ثُمَّ بَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ أَدَاؤُهُمَا عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ إلاَّ بِأُجْرَةٍ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام: "دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ لاَ يَلْزَمُ غَيْرُ هَذَا, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ, فَتَكُونُ الإِجَارَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَجِّ
(7/273)
914
- مَسْأَلَةٌ: وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَعْلُومَاتُ وَاحِدَةٌ, وَهِيَ
يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةٌ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} وَالتَّعْجِيلُ
الْمَذْكُورُ وَالتَّأْخِيرُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِلاَ خَوْفٍ مِنْ أَحَدٍ
فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ
يَوْمُ النَّحْرُ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فَهَذِهِ بِلاَ شَكٍّ أَيَّامُ النَّحْرِ
الَّتِي تُنْحَرُ فِيهَا بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ, وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، نا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ
وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَقَوْله
تَعَالَى: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قَالَ: يَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَهُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهَذَا قَوْلُنَا. وَقَدْ رُوِيَ
غَيْرُ هَذَا, وَقَبْلُ وَبَعْدُ, فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِي كُلِّ
يَوْمٍ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ إلاَّ بِنَصٍّ, وَأَمَّا بِالدَّعْوَى وَقَوْلِ
قَائِلٍ قَدْ خُولِفَ فَلاَ. صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ أَنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, آخِرُهَا
يَوْمُ النَّحْرِ, وَأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ
النَّحْرِ. رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
هُشَيْمٍ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ,
وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ عَطَاءٍ, وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ زِرٍّ,
وَنَافِعٍ, قَالَ زِرٌّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ
ابْنِ عُمَرَ, ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ, وَابْنُ عُمَرَ, قَالاَ جَمِيعًا:
الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, اذْبَحْ فِي
أَيُّهَا شِئْت, وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُثَنَّى، نا حَمَّادٌ بْن عِيسَى الْجُهَنِيُّ، نا جَعْفَرُ
(7/275)
ابْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ:
أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، نا ابْنُ عَجْلاَنَ،
نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الأَيَّامُ
الْمَعْلُومَاتُ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ, وَالْمَعْدُودَاتُ: ثَلاَثَةُ
أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ, فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ.وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إلاَّ تَعَلَّقَهُ بِابْنِ عُمَرَ,
وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلاَفَ هَذَا, وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ,
وَعَلِيٌّ, فَلَيْسَ التَّعَلُّقُ بِبَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَاحْتَجَّ
الآخَرُونَ بِأَنْ قَالُوا: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا
قلنا: نَعَمْ وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي أَنَّهُ أَمَرَ بِذَكَرِهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَطْ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ يَوْمٌ
دُونَ يَوْمٍ, وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِالنَّحْرِ لِلَّهِ تَعَالَى
يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ; لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ
فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/276)
915
- مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْحَجَّ بِالصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا
أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ حَجٌّ وَأَجْرٌ, وَهُوَ تَطَوُّعٌ, وَلِلَّذِي يَحُجُّ بِهِ
أَجْرٌ, وَيَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ, وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ
وَاقَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَحِلُّ لَهُ, وَيُطَافُ بِهِ, وَيُرْمَى عَنْهُ
الْجِمَارُ إنْ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ. وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ ذَلِكَ،
عَنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُدَرَّبُوا وَيُعَلَّمُوا الشَّرَائِعَ
مِنْ الصَّلاَةِ, وَالصَّوْمِ إذَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَيُجَنَّبُوا الْحَرَامَ
كُلَّهُ, وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِأَنْ يَأْجُرَهُمْ, وَلاَ يَكْتُبُ
عَلَيْهِمْ إثْمًا حَتَّى يَبْلُغُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا
سُفْيَانُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِ
أَجْرٌ".
قال أبو محمد: وَالْحَجُّ عَمَلٌ حَسَنٌ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} . فإن قيل: لاَ نِيَّةَ لِلصَّبِيِّ قلنا:
نَعَمْ, وَلاَ تَلْزَمُهُ إنَّمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ الْمُخَاطَبَ الْمَأْمُورَ
الْمُكَلَّفَ, وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَلاَ مُكَلَّفًا، وَلاَ
مَأْمُورًا وَإِنَّمَا أَجْرُهُ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدٌ
عَلَيْهِ كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلاَ نِيَّةَ
لَهُ، وَلاَ عَمَلَ بِأَنْ يَأْجُرَهُ بِدُعَاءِ ابْنِهِ لَهُ بَعْدَهُ وَبِمَا
يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ, أَوْ صِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, وَلاَ
فَرْقَ, وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَإِذَا الصَّبِيُّ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ
الْقَلَمُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي صَيْدٍ إنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي
إحْرَامِهِ, وَلاَ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لاَِذًى بِهِ, وَلاَ عَنْ تَمَتُّعِهِ,
وَلاَ لاِِحْصَارِهِ; لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, وَلَوْ
لَزِمَهُ هَدْيٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ الصِّيَامَ وَهُوَ فِي
الْمُتْعَةِ, وَحَلْقِ الرَّأْسِ, وَجَزَاءِ الصَّيْدِ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ
هَذَا،
(7/276)
وَلاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ بِشَيْءِ مِمَّا ذَكَرْنَا, إنَّمَا هُوَ مَا عَمِلَ, أَوْ عُمِلَ بِهِ أُجِرَ, وَمَا لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الصِّبْيَانُ يَحْضُرُونَ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام, صَحَّتْ بِذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ: كَصَلاَتِهِ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَحُضُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُ الصَّلاَةَ, وَسَمَاعِهِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ، عَنْ نَفْسِهِ; لاَِنَّهُ طَائِفٌ وَحَامِلٌ, فَهُمَا عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ, كَمَا هُوَ طَائِفٌ وَرَاكِبٌ, وَلاَ فَرْقَ.
(7/277)
916 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا وَيَشْرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, فَإِنْ فَاتَتْهُ عَرَفَةُ, أَوْ مُزْدَلِفَةُ, فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ. أَمَّا تَجْدِيدُهُ الإِحْرَامَ فَلاَِنَّهُ قَدْ صَارَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ; لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ كَانَ تَطَوُّعَا وَالْفَرْضُ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ.
(7/277)
917
- مَسْأَلَةٌ: مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ, ثُمَّ ارْتَدَّ, ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُعِيدَ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحَدُ
قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ,
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً
غَيْرَهَا, وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ
فِيهَا: لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ
تُشْرِكَ, وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ, وَإِنَّمَا
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا
عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ
مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ, أَوْ صَلَّى, أَوْ صَامَ, أَوْ زَكَّى, لَمْ يُجْزِهِ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَنِ الْوَاجِبِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا:
{وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى
الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ فِي إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ
مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ لاَ هُمْ، وَلاَ نَحْنُ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا
رَاجَعَ الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ, بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ
الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ
الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ, وَهَذَا هُوَ مِنْ
الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ, لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ
الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ،
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}
فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ
بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ. وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَنِّي
لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . وَقَالَ
تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. وَهَذَا عُمُومٌ
لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ. فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ
الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.
(7/277)
918
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَةٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ, وَلاَ لُقَطَةُ مَنْ
أَحْرَمَ بِحَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ, مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ جَمِيعَ عَمَلِ
حَجِّهِ. إلاَّ لِمَنْ يَنْشُدُهَا أَبَدًا لاَ يُحَدُّ تَعْرِيفُهَا بِعَامٍ، وَلاَ
بِأَكْثَرَ، وَلاَ بِأَقَلَّ, فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا قَطْعًا
مُتَيَقِّنًا حَلَّتْ حِينَئِذٍ لِوَاجِدِهَا, بِخِلاَفِ سَائِرِ اللُّقَطَاتِ
الَّتِي تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، نا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٌ، نا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَبَسَ، عَنْ مَكَّةَ
الْفِيلَ, وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَإِنَّهَا لَمْ
تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي, وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ,
وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ بَعْدِي, فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ
يُخْتَلَى شَوْكُهَا, وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ" وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
قال أبو محمد: لَيْسَتْ هَذِهِ إلاَّ صِفَةَ الْحَرَمِ لاَ الْحِلِّ. وَمِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ عليه السلام قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ
اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
(7/278)
وَهُوَ
حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا
وَفِيهِ فَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ, فَأَحَلَّهَا عليه السلام لِلْمُنْشِدِ وَأَوْجَبَ تَعْرِيفَهَا
بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ. وَقَالَ عليه السلام: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ". وَاللُّقَطَةُ هِيَ غَيْرُ مَالِ الْمُلْتَقِطِ فَهِيَ
عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا هُوَ لِيُوجَدَ مَنْ يَعْرِفُهَا أَوْ
صَاحِبُهَا فَهَذَا الْحُكْمُ لاَزِمٌ, فَإِذَا يَئِسَ بِيَقِينٍ، عَنْ مَعْرِفَةِ
صَاحِبِهَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ, إذْ مِنْ الْبَاطِلِ تَعْرِيفُ مَا يُوقَنُ
أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ, وَإِذَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ حَلَّتْ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ
لِمُنْشِدِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ
وَهْبٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام
نَهَى، عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ.
قال أبو محمد: الْحَاجُّ هُوَ مَنْ هُوَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ, وَأَمَّا قَبْلَ
أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَلَيْسَ حَاجًّا بَعْدُ,
وَأَمَّا بَعْدَ إتْمَامِهِ عَمَلَ الْحَجِّ فَقَدْ حَجّ وَلَيْسَ حَاجًّا الآنَ,
وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَاجًّا مَجَازًا, كَمَا أَنَّ الصَّائِمَ, أَوْ الْمُصَلِّيَ,
أَوْ الْمُجَاهِدَ, إنَّمَا هُوَ صَائِمٌ, وَمُصَلٍّ, وَمُجَاهِدٍ, مَا دَامَ فِي
عَمَلِ ذَلِكَ, وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عليه السلام، عَنْ لُقَطَةٍ
لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا, إمَّا أَنْ يَكُونَ
نَهَى عليه السلام، عَنْ أَخْذِهَا, أَوْ نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا, فأما
أَخْذُهَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وَنَهَى عليه السلام، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ, وَتَرْكُهَا إضَاعَةٌ لَهَا بِلاَ
شَكٍّ, وَحِفْظُهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. فَصَحَّ أَنَّهُ
إنَّمَا نَهَى عليه السلام، عَنْ تَمَلُّكِهَا
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْهَ، عَنْ حِفْظِهَا، وَلاَ عَنْ
تَعْرِيفِهَا, وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِعَيْنِهَا, هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ.
فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى، عَنْ تَمَلُّكِهَا فَإِذَا يَئِسَ، عَنْ
مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا بِيَقِينٍ فَكُلُّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ
لِلَّهِ تَعَالَى, ثُمَّ فِي مَصَالِحِ عِبَادِهِ, وَالْمُلْتَقِطُ أَحَدُهُمْ
وَهِيَ فِي يَدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا, وَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ
إلاَّ بِبُرْهَانٍ, وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَحُكْمِ الْحَاجِّ لِقَوْلِهِ عليه
السلام: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(7/279)
919 - مَسْأَلَةٌ: وَمَكَّةُ أَفْضَلُ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى, نَعْنِي الْحَرَمَ وَحْدَهُ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ عَرَفَاتٍ فَقَطْ. وَبَعْدَهَا مَدِينَةُ النَّبِيِّ عليه السلام نَعْنِي حَرَمَهَا وَحْدَهُ. ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ, نَعْنِي الْمَسْجِدَ وَحْدَهُ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وقال مالك: الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ, وَاحْتَجَّ
(7/279)
مُقَلِّدُوهُ
بِأَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ. مِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "إنَّ إبْرَاهِيمَ
حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا, وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ
إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ, وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا
دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لاَِهْلِ مَكَّةَ".
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى
فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام
حَرَّمَهَا كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا كَمَا دَعَا
إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ فَقَطْ, وَهَذَا حَقٌّ, وَقَدْ دَعَا عليه السلام
لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا دَعَا لاَِبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَلاَِصْحَابِهِ
رضي الله عنهم فَهَلْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى
مُسَاوَاتِنَا فِي الْفَضْلِ هَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ. وَقَدْ حَرَّمَ
عليه السلام: الدِّمَاءَ, وَالأَعْرَاضَ, وَالأَمْوَالَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى فَضْلٍ; وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهُ عليه السلام
كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي تَمْرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي
مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا, اللَّهُمَّ إنَّ
إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ,
وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ
مَعَهُ. وَبِخَبَرٍ صَحِيحٍ فِيهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ
مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِ
الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَدِينَةِ
بِالْبَرَكَةِ, وَنَعَمْ, هِيَ وَاَللَّهِ مُبَارَكَةٌ, وَإِنَّمَا دَعَا
إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} .
وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الثِّمَارَ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِمَّا بِمَكَّةَ،
وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَدْعُ لِلْمَدِينَةِ بِأَنْ
تَهْوِي أَفْئِدَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ هَوِيِّهَا إلَى مَكَّةَ;
لإِنَّ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ لاَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَصَحَّ أَنَّ دُعَاءَهُ
عليه السلام لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ
وَمِثْلِهِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الرِّزْقِ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَلَيْسَ هَذَا
مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فِي شَيْءٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام:
"الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا, وَإِنَّمَا
تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ" ، وَلاَ حُجَّةَ
فِيهِ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ; لإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي
وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ, وَفِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ, وَفِي خَاصٍّ لاَ فِي عَامٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ, وَمَنْ أَجَازَ
عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام الْكَذِبَ فَهُوَ كَافِرٌ; وَقَالَ اللَّه تَعَالَى:
{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ
مِنْ النَّارِ}. فَصَحَّ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَخْبَثُ الْخَلْقِ بِلاَ خِلاَفٍ
مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ, وَكَذَلِكَ قَدْ
خَرَجَ: عَلِيٌّ, وَطَلْحَةُ, وَالزُّبَيْرُ, وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ, وَمُعَاذٌ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, عَنِ الْمَدِينَةِ, وَهُمْ مِنْ
أَطْيَبِ الْخَلْقِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ مُسْلِمٍ حَاشَا
الْخَوَارِجَ فِي بُغْضِهِمْ. فَصَحَّ يَقِينًا
(7/280)
لاَ
يَمْتَرِي فِيهِ إلاَّ مُسْتَخِفٌّ بِالنَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ عليه السلام
لَمْ يَعْنِ بِالْمَدِينَةِ تَنْفِي الْخُبْثَ إلاَّ فِي خَاصٍّ مِنْ النَّاسِ,
وَفِي خَاصٍّ مِنْ الزَّمَانِ لاَ عَامٍّ.
وَقَدْ جَاءَ كَلاَمُنَا هَذَا نَصًّا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزُ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنِ
الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثٍ: "أَلاَ إنَّ
الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ يُخْرِجُ الْخَبَثَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ"
. وَمِنْ طَرِيق أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ
ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ
إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "لَيْسَ بَلَدٌ إلاَّ سَيَطَؤُهُ
الدَّجَّالُ, إلاَّ الْمَدِينَةَ, وَمَكَّةَ, عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِ
الْمَدِينَةِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ بِالسَّبْخَةِ
فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ
مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ" وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ
أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لاَ بِنَصٍّ, وَلاَ بِدَلِيلٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ
عليه السلام: "مَا مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةَ إنَّمَا هُوَ سَيَطَؤُهُ أَمْرُهُ وَبُعُوثُهُ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ
هَذَا" , وَسَكَّانُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ أَخْبَثُ الْخُبْثِ, وَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُصِيبَتِنَا فِي ذَلِكَ; فَبَطَلَ
تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عليه السلام: "يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ
يَبُسُّونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ" وَذَكَرَ مِثْلُ هَذَا حَرْفًا حَرْفًا فِي فَتْحِ
الشَّامَ, وَفَتْحِ الْعِرَاقِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام: "يَأْتِي عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إلَى
الرَّخَاءِ, هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ, وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ, وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً
عَنْهَا إلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ".
قال أبو محمد: إنَّمَا أَخْبَرَ عليه السلام بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ
مِنْ الْيَمَنِ, وَالشَّامِ, وَالْعِرَاقِ, وَبِلاَدِ الرَّخَاءِ, وَهَذَا لاَ
شَكَّ فِيهِ, وَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ, وَلاَ ذِكْرَ لِمَكَّةَ
أَصْلاً.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام أَيْضًا بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ
الْبِلاَدِ لَهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ أَيْضًا فِي خَاصٍّ لاَ عَامٍّ وَهُوَ مَنْ
خَرَجَ عَنْهَا طَلَبَ رَخَاءٍ, أَوْ لِعَرَضِ دُنْيَا; وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ
عَنْهَا لِجِهَادٍ, أَوْ لِحُكْمٍ بِالْعَدْلِ, أَوْ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ
دِينَهُمْ فَلاَ, بَلْ الَّذِي خَرَجُوا لَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُقَامِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.
(7/281)
بُرْهَانُ ذَلِكَ خُرُوجُهُ عليه السلام عَنْهَا لِلْجِهَادِ وَأَمْرُهُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَالْوَعِيدُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ, وَكَذَلِكَ بَعْثَتُهُ عليه السلام أَصْحَابَهُ إلَى الْيَمَنِ, وَالْبَحْرَيْنِ, وَعُمَانَ لِلدُّعَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ, وَتَعْ