كتاب/مجلد 9. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى
: 456هـ)
مِنْهُمْ
سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- " أَنَّهُ
نَهَى، عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ
الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ وَالنَّخْلَةِ
وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا
يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ".
قال أبو محمد : تَحْدِيدُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ يَقْضِي عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ؛
لأََنَّهُ إنْ كَانَ فِي النَّخْلَتَيْنِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ
كَانَ فِي النَّخَلاَتِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ ذَلِكَ فِيهَا؛
لأََنَّ تَحْدِيدَ الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ زِيَادَةُ حُكْمٍ، وَزِيَادَةُ حَدٍّ،
وَزِيَادَةُ بَيَانٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/465)
من
ابتاع كذلك رطبا للأكل ثم مات فورثته عنه أو مرض أو استغنى عن أكلها فقد ملك الرطب
...
1474 – مَسْأَلَةٌ- فَمَنْ ابْتَاعَ كَذَلِكَ رُطَبًا لِلأَكْلِ ثُمَّ مَاتَ
فَوُرِثَتْ عَنْهُ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ اسْتَغْنَى، عَنْ أَكْلِهَا إِلاَّ أَنَّهُ
حِينَ اشْتَرَاهَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَكْلَهَا بِلاَ شَكٍّ، فَقَدْ مَلَكَ
الرُّطَبَ مِلْكًا صَحِيحًا،
وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/465)
لا
يحوز حكم العرايا المذكور في شيء من الثمار غير ثمار النخل ولا يجوز بيع شيء من
الثمار سواء ثمر النخل بخرصها أصلا
...
1475 – مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَجُوزُ حُكْمُ الْعَرَايَا الْمَذْكُورُ فِي شَيْءٍ
مِنْ الثِّمَارِ غَيْرَ ثِمَارِ النَّخْلِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ سِوَى ثَمَرِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا
أَصْلاً، لاَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، وَلاَ مَجْمُوعَةٍ فِي الأَرْضِ أَصْلاً.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً، لاَ مَجْمُوعًا،
وَلاَ فِي عُودِهِ، وَلاَ بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ قَالاَ: أَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ ثَمَرِ
النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ كَيْلاً. وَعَنْ
كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ
ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ " أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى، عَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ
كَيْلاً ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَتْ نَخْلاً
بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ
كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ ".
(8/465)
إن
كان ثمر ماعدا ثمر النخل جاز أن يباع بيابس ورطب من صنفه وغير صنفه بأكثر منه
وبأقل وأن يسلم في جنسه وغير جنسه ما لم يكن يخرصه
...
1476- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ثَمَرُ مَا عَدَا ثَمَرِ النَّخْلِ جَازَ أَنْ
يُبَاعَ بِيَابِسٍ وَرُطَبٍ مِنْ صِنْفِهِ، وَمِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ بِأَكْثَرَ
مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ وَمِثْلِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ فِي جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ
مَا لَمْ يَكُنْ بِخَرْصِهِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَمَا لَمْ يَكُنْ زَبِيبًا كَيْلاً بِعِنَبٍ؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. فإن قيل: قَدْ نَهَى، عَنِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام سَأَلَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ فَقِيلَ:
نَعَمْ، فَنَهَى، عَنْ بَيْعِهِ بِالتَّمْرِ قلنا: أَمَّا أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ
إذَا يَبِسَ، فَإِنَّ مَالِكًا،
(8/465)
اعتراض
وارد على المصنف فيما ذهب إليه والجواب عن ذلك
...
1477 – مَسْأَلَةٌ- فإن قال قائل: فَأَنْتُمْ الْمُنْتَمُونَ إلَى الأَخْذِ بِمَا
صَحَّ مِنْ الآثَارِ
وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ
مِنْهُ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ ". وَرَوَيْتُمُوهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: نَعَمْ؛ لأََنَّ الثِّمَارَ
كُلَّهَا إذَا يَبِسَتْ حُدَّتْ أَوْ لَمْ تُجَدَّ فَهِيَ ثِمَارٌ قَدْ طَابَتْ
بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَمَرَ بِبَيْعِ التَّمْرِ يَدًا
بِيَدٍ، كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ بِغَيْرِ
صِنْفِهِ كَيْفَ شِئْنَا. فَصَحَّ النَّصُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ التَّمْرِ بِمَا
شِئْنَا مِمَّا يَحِلُّ بَيْعُهُ، فَكَانَ مَا فِي هَذَا مُضَافًا إلَى مَا فِي
خَبَرِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ: لاَ تَبِيعُوا
الثَّمَرَ إذَا طَابَ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَبِمَا شِئْتُمْ،
حَاشَا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. وَقَدْ
صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ
الثِّمَارِ بَعْدَ طِيبِهَا حُكْمُهَا فِيمَا يُبَاعُ مِمَّا يَجُوزُ حُكْمُ
التَّمْرِ، وَهَذَا برهان صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/467)
لا
يكون الربا إلا في بيع أو قرض أو سلم ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك
...
1478- مَسْأَلَةٌ- الرِّبَا: وَالرِّبَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي بَيْعٍ، أَوْ
قَرْضٍ، أَوْ سَلَمٍ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؛
لأََنَّهُ لَمْ تَأْتِ النُّصُوصُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَلاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا
فُصِّلَ تَحْرِيمُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .
(8/467)
الربا
لا يجوز في البيع أو السلم إلا في ستة أشياء فقط وبيانها مفصلة
...
1479 – مَسْأَلَةٌ- وَالرِّبَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ إِلاَّ فِي
سِتَّةِ أَشْيَاءَ فَقَطْ:
فِي التَّمْرِ، وَالْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ، وَالذَّهَبِ،
وَالْفِضَّةِ وَهُوَ فِي الْقَرْضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلاَ يَحِلُّ إقْرَاضُ
شَيْءٍ لِيُرَدَّ إلَيْك أَقَلَّ، وَلاَ أَكْثَرَ، وَلاَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ
أَصْلاً، لَكِنْ مِثْلُ مَا أَقْرَضْت
(8/467)
بيان
خطأ من يقول في علة الربا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلى القوت وهو
البروداون القوت وهو الملح ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما
...
1480 – مَسْأَلَةٌ- قال أبو محمد: وَهَهُنَا أَشْيَاءُ ذَكَرَهَا الْقَائِلُونَ
بِتَعْلِيلِ حَدِيثِ الرِّبَا كُلُّهُمْ،
وَهِيَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ، حَتَّى
خَلَصَ إلَى الْمِلْحِ ". قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه
السلام ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ
يَرْوِهِ إِلاَّ حَكِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ
أَسْقَطَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ،
فَبَطَلَ تَقْدِيرُهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْنَافًا لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ مِنْ
الرُّوَاةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ
بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ فِيهِ: " حَتَّى
خَصَّ الْمِلْحَ " فَلاَحَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ تِلْكَ الأَصْنَافِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يَذْكُرَ عليه السلام
شَرَائِعَ مُفْتَرَضَةً فَيَسْقُطُ ذِكْرُهَا، عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلِهِمْ،
عَنْ آخِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، هَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا
يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . وَقَوْله تَعَالَى
{إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وَلَوْ جَازَ
هَذَا لَكَانَ الدِّينُ لَمْ يَكْمُلْ، وَالشَّرِيعَةُ
(8/486)
فَاسِدَةً،
قَدْ ضَاعَتْ مِنْهَا عَنَّا أَشْيَاءُ، وَلَكُنَّا مُكَلَّفِينَ مَا لاَ نَقْدِرُ
عَلَيْهِ، وَمَأْمُورِينَ بِمَا لاَ نَدْرِيهِ أَبَدًا، وَهَذِهِ ضَلاَلاَتٌ
نَاهِيك بِهَا، وَبَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ جُبَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ: أَنَّ
النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " التَّمْرُ بِالتَّمْرِ،
وَالزَّبِيبُ بِالزَّبِيبِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالسَّمْنُ بِالسَّمْنِ،
وَالزَّيْتُ بِالزَّيْتِ، وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ
بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمْ ".
قال أبو محمد: وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ لاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ
إِلاَّ عَلَى بَيَانِ فَضِيحَتِهِ؛ لأََنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ
سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجُبَيْرَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ
مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَإِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ
الْفَرْوِيُّ مَتْرُوكٌ وَيَزِيدَ بْنَ عِيَاضٍ، هُوَ ابْنُ جعدبة مَذْكُورٌ
بِالْكَذِبِ وَوَضْعِ الأَحَادِيثِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ فِي إيجَابِ عِلَّةٍ أَصْلاً، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ
ذِكْرِ الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالزَّبِيبِ، فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ
لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ الدِّرْهَمَ
بِأَوْزَنَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ وَلَكَانَ الْحَنَفِيُّونَ
مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ بِسِتِّ تَمَرَاتٍ،
وَعَشْرَ حَبَّاتِ بُرٍّ بِثَلاَثِينَ حَبَّةِ بُرٍّ وَكَذَلِكَ فِي الشَّعِيرِ،
وَالْمِلْحِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْمِلْحِ، وَلاَ يَحِلُّ تَحْرِيمُ حَلاَلٍ خَوْفَ
الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَيَسْتَعْجِلُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الْمَعْصِيَةَ،
وَالْوُقُوعُ فِي الْبَاطِلِ خَوْفَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
أَنَّهُ كَرِهَ مُدَّيْ ذُرَةٍ بِمُدِّ حِنْطَةٍ نَسِيئَةً إبْرَاهِيمُ مَتْرُوكٌ
مُتَّهَمٌ وَهَذَا كَرَاهِيَةٌ لاَ تَحْرِيمٌ، وَلاَ يُدْرَى هَلْ كَرِهَ
الْكَيْلَ أَوْ الطَّعَامَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ قَوْلٍ رُوِيَ فِي هَذَا
الْبَابِ، عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَيَّنَّا خِلاَفَهُمْ لَهَا، وَأَنَّهُمْ
قَالُوا فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالٍ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وأعجب
شَيْءٍ مُجَاهَرَةُ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ بِدَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِ
الرِّبَا فِيمَا عَدَا الأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَهَذَا كَذِبٌ مَفْضُوحٌ
مِنْ قَرِيبٍ، وَاَللَّهِ مَا صَحَّ الإِجْمَاعُ فِي الأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهَا فَكَيْفَ فِي غَيْرِهَا. أَوْ لَيْسَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ
يَقُولاَنِ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَعَلَيْهِ كَانَ عَطَاءٌ،
وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفُقَهَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَالْمَاءُ مِنْ
الْمَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا
سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لاَ
بَأْسَ بِأَنْ يُسَلِّمَ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ، وَمَا يُوزَنُ فِيمَا
يُوزَنُ، إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا، وَمُخَالِفٌ
لِجَمِيعِ قَوْلِ هَؤُلاَءِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ
(8/487)
عُبَيْدِ اللَّهِ إبَاحَةُ بَيْعِ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، يُقْبَضُ أَحَدُهُمَا وَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ الآخَرِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، وَلاَ يُقَدِّرُونَ فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الأَصْنَافِ فِي الرِّبَا عَلَى كَلِمَةٍ، إِلاَّ، عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخْتَلِفِينَ، كُلُّهُمْ مُخَالِفٌ لأََقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لَيْسَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ رِوَايَةٌ تُوَافِقُ أَقْوَالَ هَؤُلاَءِ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ. وَعَنْ نَحْوِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ مُخْتَلِفِينَ أَيْضًا كَذَلِكَ مُخَالِفِينَ لأََقْوَالِهِمْ إِلاَّ إبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ وَافَقَ قَوْلَهُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَيْضًا: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا، عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَوَاهِيَةٌ لاَ تَصِحُّ، فَمَنْ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا إِلاَّ مِنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ عَقْلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَوَجَدْنَا لِبِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ قَوْلاً غَرِيبًا، وَهُوَ أَنَّ تَسْلِيمَ كُلِّ جِنْسٍ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ جَائِزٌ كَالذَّهَبِ فِي الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ، وَالْقَمْحِ فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فِي الْمِلْحِ، وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الرِّبَا لاَ يَقَعُ إِلاَّ فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَعَمَّ كُلَّ جِنْسٍ فِي الْعَالَمِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصَاتِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ خَصَّ الْمَنْصُوصَاتِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ وَجْهَ لِلأَشْتِغَالِ بِهِ.
(8/488)
اختلاف
الفقهاء في علة الربا وبيان فساد قياسهم في هذا الباب
...
1481- مَسْأَلَةٌ- قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ
كُلُّهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ نَذْكُرَ الْبُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا
بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ
سَعِيدٍ قَالَ: أَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ
يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَك ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا
نُعْطِك وَرِقَك فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلًّا، وَاَللَّهِ
لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَةُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ
وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلاَّ
هَاءَ وَهَاءَ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "
يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ،
وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ
زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ
رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ
أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنَا
هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ
مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ
(8/488)
الصَّنْعَانِيِّ،
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ،
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْمِلْحُ
بِالْمِلْحِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ، كَيْلاً بِكَيْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَلاَ
بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ
".
قال أبو محمد: عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنْصَارِيٌّ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، وَأَبُو
الْخَلِيلِ هُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثِقَةٌ، وَمُسْلِمٌ الْمَكِّيُّ هُوَ
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْخَيَّاطُ مَوْلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه ثِقَةٌ. وَقَدْ
رُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ صِحَاحٍ فَلاَ رِبَا إِلاَّ فِيمَا نَصَّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ، وَمَا
عَدَا ذَلِكَ فَحَلاَلٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/489)
لا
يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثل بمثل كيل بكيل يدا بيد وكذلك الشعير ولا التمر إلا
كذلك ولا الملح أيضا إلا كذلك
...
1483 مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ قَمْحٌ بِقَمْحٍ إِلاَّ مِثْلاً
بِمِثْلٍ كَيْلاً بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ.وَلاَ يَحِلُّ أَنْ
يُبَاعَ شَعِيرٌ بِشَعِيرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ تَمْرٌ
بِتَمْرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ مِلْحٌ بِمِلْحٍ إِلاَّ
كَذَلِكَ، وَسَوَاءٌ مَعْدِنِيَّةٌ أَوْ مَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ مِنْ الْمَاءِ،
كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَهِيَ كُلُّهَا قَمْحٌ الأَعْلَى، وَالأَدْنَى،
وَالْوَسَطُ: سَوَاءٌ فِيمَا قلنا، وَكَذَلِكَ أَقْسَامُ الشَّعِيرِ. وَكَذَلِكَ
أَقْسَامُ التَّمْرِ فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ رِبًا
حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، سَوَاءٌ
تَأَخَّرَ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ مِنْ كُلِّ
مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِيمَا وَصَفْنَا. وَلاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا
مِنْ نَوْعِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلاَ وَزْنًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا
بِجُزَافٍ، وَلاَ جُزَافًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا بِوَزْنٍ، لأََنَّ كُلَّ
هَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا،
وَمَفْهُومُهُ وَمَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: جَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ
عَيْنِهِ بِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ
التَّقَابُضُ، عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا
وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ قَامَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إنَّ
الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارَ بِالدِّينَارِ، عَيْنٌ بِعَيْنٍ،
سَوَاءً سَوَاءً، مِثْلاً بِمِثْلٍ فَهَذَا عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ
يُجِيزُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَيَرَى
أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ: فَخَالَفُوهُ.
(8/489)
جائز
كل صنف مما ذكر بأصناف الآخر منها متفاضلا ومتماثلا وجزافا وزنا وكيلا كيف شئنا
إذا كان يدا بيد
...
1484- مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها , متفاضلا ومتماثلا
وجزافا , وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد.
ولا يجوز في ذلك التأخير
(8/489)
يجوز
بيع الذهب بالفضة سواء في ذلك الدراهم أو الدنانير أو بالحلي والنقار والدراهم
بحلي الذهب وسبائكه
...
1485 – مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ
الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِالْحُلِيِّ، أَوْ بِالنِّقَارِ،
وَبِالدَّرَاهِمِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ، وَتِبْرِهِ، وَالْحُلِيُّ
مِنْ الْفِضَّةِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ،
وَسَبَائِكُ الذَّهَبِ وَتِبْرُهُ بِنِقَارِ الْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ
بُدَّ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَلاَ بُدَّ، مُتَفَاضِلَيْنِ وَمُتَمَاثِلَيْنِ،
وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَجُزَافًا بِجُزَافٍ، وَوَزْنًا بِجُزَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ
لاَ تَحَاشٍ شَيْئًا، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ
فِي بَيْعٍ، وَلاَ فِي سَلَمٍ. وَيُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءٌ كَانَ
دَنَانِيرَ، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَبَائِكَ، أَوْ تِبْرًا، وَزْنًا بِوَزْنٍ،
عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَحِلُّ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً،
وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَتُبَاعُ
الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ نِقَارًا، وَزْنًا
بِوَزْنٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ
أَصْلاً، وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَلاَ
تَجُوزُ بُرَادَةُ أَحَدِهِمَا مِثْلُهَا مِنْ نَوْعِهَا كَيْلاً أَصْلاً، لَكِنْ
بِوَزْنٍ، وَلاَ بُدَّ، وَلاَ نُبَالِي كَانَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ
الآخَرِ بِطَبْعِهِ أَوْ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ فِي الْفِضَّتَيْنِ؛ وَهَذَا
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرْنَا، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَإِلَّا بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، فَإِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا: أَجَازُوا فِيهِمَا التَّفَاضُلَ
يَدًا بِيَدٍ وَإِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيَّ: أَجَازَا بَيْعَ
كُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَجَازَا تَأْخِيرَ الْقَبْضِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عُمَرَ قَبْلُ هَذَا
بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ وَإِلَّا أَنَّ مَالِكًا لاَ يُجِيزُ الْجُزَافَ فِي
الدَّنَانِيرِ، وَلاَ فِي الدَّرَاهِمِ، بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيُجِيزُهُ فِي
الْمَصُوغِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْمَصُوغِ مِنْ الآخَرِ، وَيُجِيزُ إعْطَاءَ
دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ وَزْنٍ مِنْهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمُكَارَمَةِ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلاَ
حُجَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، بَلْ هُوَ
خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا
مِنْ أَمْرِهِ عليه السلام أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا
يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي
الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ [فَجَاءَنِي
فَأَخْبَرَنِي] فَقُلْتُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ فَقَالَ: قَدْ وَاَللَّهِ بِعْتُهُ
فِي السُّوقِ وَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ
فَسَأَلْتُ فَقَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا ثُمَّ قَالَ لِي:
ائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَسَأَلْتُهُ
فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ
أَنَا سُفْيَانُ- هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- عَنْ عَمْرٍو- -هُوَ ابْنُ دِينَارٍ-
عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
يَقُولُ فِي حَدِيثٍ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:
(8/493)
أَخْبَرَنِي:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إنَّمَا الرِّبَا فِي
النَّسِيئَةِ . وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي أَبُو
مُعَاوِيَةَ -هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ-، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، لاَ رِبَا فِي يَدٍ بِيَدٍ، وَالْمَاءِ مِنْ الْمَاءِ.
وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَ
عَنْهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ الصِّرْفِ فَقَالَ: يَا
بُنَيَّ إنْ وَجَدْتَ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ نَقْدًا فَخُذْهُ.
قال أبو محمد : حَدِيثُ عُبَادَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَأَبِي
سَعِيدٍ، فِي أَنَّ الأَصْنَافَ السِّتَّةَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِصِنْفِهِ:
رِبًا إنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى وَزْنِ الآخَرِ: هُوَ زَائِدٌ
حُكْمًا عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَالْبَرَاءِ، وَزَيْدٍ وَالزِّيَادَةُ لاَ
يَحِلُّ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/494)
1486-
مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ
بِالذَّهَبِ، أَوْ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً
وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِالأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا؛
لأََنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِبَاحَةِ كُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/494)
يجوز
القرض في الأصناف المذكورة وفي كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا
فيه إلا في وجه واحد وبيانه
...
1487-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الْقَرْضُ فَجَائِزٌ فِي الأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا
وَغَيْرِهَا، وَفِي كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، وَيَحِلُّ إخْرَاجُهُ، عَنِ الْمِلْكِ،
وَلاَ يَدْخُلُ الرِّبَا فِيهِ، إِلاَّ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَهُوَ
اشْتِرَاطُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ
أَجْوَدَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَدْنَى مِمَّا أَقْرَضَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، كَمَا
أَوْرَدْنَا بِأَنَّهُ رِبًا وَهُوَ فِيمَا عَدَاهَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَيَجُوزُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَمُؤَخَّرًا
بِغَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ، لَكِنْ حَالٌّ فِي الذِّمَّةِ مَتَى طَلَبَهُ صَاحِبُهُ
أَخَذَهُ. وقال مالك: لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْتَفِعُ فِيهَا
الْمُسْتَقْرِضُ بِمَا اسْتَقْرَضَ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ
أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ حَدٌّ فَاسِدٌ؛ لأََنَّ
الأَنْتِفَاعَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي سَاعَةٍ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}
وَالْقَرْضُ أَمَانَةٌ فَفُرِضَ أَدَاؤُهَا إلَى صَاحِبِهَا مَتَى طَلَبَهَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/494)
حكم
ما إذا اختلط الذهب بالفضة ومزج به أو أضيف إليه
...
1488- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ مَعَ الذَّهَبِ شَيْءٌ غَيْرَهُ أَيَّ شَيْءٍ
كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا: مَمْزُوجٌ بِهِ، أَوْ مُضَافٌ فِيهِ، أَوْ
مَجْمُوعٌ إلَيْهِ فِي دَنَانِيرَ، أَوْ فِي غَيْرِهَا:
لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ مَعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِذَهَبٍ أَصْلاً،
لاَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، وَلاَ بِأَقَلَّ، وَلاَ بِمِثْلِهِ، إِلاَّ حَتَّى
يَخْلُصُ الذَّهَبُ وَحْدَهُ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْفِضَّةِ
شَيْءٌ غَيْرُهَا: كَصُفْرٍ، أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ غَيْرُهُمَا، مَمْزُوجٌ بِهَا،
أَوْ مُلْصَقٌ مَعَهَا، أَوْ مَجْمُوعٌ إلَيْهَا: لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهَا مَعَ
ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِفِضَّةٍ أَصْلاً دَرَاهِمَ
(8/494)
حكم
ما إذا كان الذهب وشيء آخر معه غير الفضة أو مركبا فيه
...
1489 مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ذَهَبٌ وَشَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْفِضَّةِ مَعَهُ
أَوْ مُرَكَّبًا فِيهِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا هُوَ مَعَ مَا هُوَ مَعَهُ وَدُونَهُ
بِالدَّرَاهِمِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً.
وَكَذَلِكَ الْفِضَّةُ مَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الذَّهَبِ أَوْ مُرَكَّبًا
فِيهَا، أَوْ هِيَ فِيهِ: جَازَ بَيْعُهَا مَعَ مَا هِيَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ
بِالدَّنَانِيرِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْقَمْحُ
مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَ الآخَرِ
(8/500)
أَوْ
دُونَهُ بِشَعِيرٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ
مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ وَمَا مَعَهُ
أَوْ دُونَهُ بِقَمْحٍ نَقْدًا، لاَ نَسِيئَةً وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مَعَهُ
شَعِيرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ
بِقَمْحٍ نَقْدًا، لاَ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ مَعَهُ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ
أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ نَقْدًا، لاَ بِنَسِيئَةٍ
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ " فَسَقَطَتْ الْمُوَازَنَةُ، وَالْمُكَايَلَةُ، وَالْمُمَاثَلَةُ،
وَبَقِيَ النَّقْدُ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَى مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ دِيبَاجَةً مُلْحَمَةً بِذَهَبٍ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ بِنِسَاءٍ
فَأَحْرَقَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَجَازَ
رَبِيعَةُ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِذَهَبٍ إلَى أَجَلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ: وَالْحَنَفِيُّونَ
فَخَالَفُوا عَمَلَ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم.
(8/501)
إذا
تبايع اثنان دراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها بدراهم مغشوشة كذلك فهو جائز إذا
تعاقدا البيع على أن الصفر الذي في هذه بالفضة التي في تلك والفضة أيضا كذلك
...
1490-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الْمَنْقُوشَةُ وَالدَّنَانِيرُ
الْمَغْشُوشَةُ فَإِنَّهُ إنْ تَبَايَعَ اثْنَانِ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً قَدْ
ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا بِدَرَاهِمَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا:
فَهُوَ جَائِزٌ إذَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ، عَلَى أَنَّ الصُّفْرَ الَّذِي فِي
هَذِهِ بِالْفِضَّةِ الَّتِي فِي تِلْكَ، وَالْفِضَّةَ الَّتِي فِي هَذِهِ بِالصُّفْرِ
الَّذِي فِي تِلْكَ: فَهَذَا جَائِزٌ حَلاَلٌ،
سَوَاءٌ تَبَايَعَا ذَلِكَ مُتَفَاضِلاً، أَوْ مُتَمَاثِلاً، أَوْ جُزَافًا
بِمَعْلُومٍ، أَوْ جُزَافًا بِجُزَافٍ، لأََنَّ الصُّفْرَ بِالْفِضَّةِ حَلاَلٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَنَانِيرَ مَغْشُوشَةً بِدَنَانِيرَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ
ظَهَرَ الْغِشُّ فِي كِلَيْهِمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ تَبَايَعَا
ذَهَبَ هَذِهِ بِفِضَّةِ تِلْكَ وَذَهَبَ تِلْكَ بِفِضَّةِ هَذِهِ: فَهَذَا
أَيْضًا حَلاَلٌ مُتَمَاثِلاً، وَمُتَفَاضِلاً، وَجُزَافًا نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ
لأََنَّهُ ذَهَبٌ بِفِضَّةٍ، فَالتَّفَاضُلُ جَائِزٌ، وَالتَّنَاقُدُ فَرْضٌ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/501)
يجوز
بيع القمح بدقيق القمح وسويق القمح بخبز القمح ودقيقه بدقيقه وسويقه متفاضلا كل
ذلك ومتماثلا وجزافا
...
1491- مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ وَسَوِيقِ
الْقَمْحِ وَبِخُبْزِ الْقَمْحِ وَدَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَبِسَوِيقِهِ
وَخُبْزِهِ، وَسَوِيقِهِ بِسَوِيقِهِ وَبِخُبْزِهِ،
وَخُبْزِ الْقَمْحِ بِخُبْزِ الْقَمْحِ، مُتَفَاضِلاً كُلُّ ذَلِكَ،
وَمُتَمَاثِلاً، وَجُزَافًا وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ،
وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَبِالْعَصِيرِ، وَبِخَلِّ
الْعِنَبِ بِالْخَلِّ، يَدًا بِيَدٍ وَأَنْ يُسَلَّمَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا
بَعْضُهُ فِي بَعْضِ. وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الشَّعِيرِ بِالْقَمْحِ وَبِالشَّعِيرِ
وَبِدَقِيقِ الشَّعِيرِ وَبِخُبْزِهِ، وَالتِّينِ بِالتِّينِ، وَالزَّبِيبِ
بِالزَّبِيبِ، وَالأُُرْزِ بِالأُُرْزِ، كَيْفَ شِئْت مُتَفَاضِلاً،
وَمُتَمَاثِلاً وَيُسَلَّمُ
(8/501)
من
كان له عند آخر دنانير أو دراهم أو قمح أو شعير أوملح أو غير ذلك مما لا يقع فيه
الربا فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا من غير ماله عنده أصلا
...
1492- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ، أَوْ دَرَاهِمُ،
أَوْ قَمْحٌ، أَوْ شَعِيرٌ، أَوْ مِلْحٌ، أَوْ تَمْرٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا
لاَ يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا إمَّا مِنْ
بَيْعٍ، إمَّا مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ
ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُ حَالًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَالٍّ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ عِنْدَهُ أَصْلاً.
فَإِنْ أَخَذَ دَنَانِيرَ، عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ دَنَانِيرَ، أَوْ
شَعِيرًا، عَنْ بُرٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ عَرَضٍ، أَوْ نَوْعًا، عَنْ نَوْعٍ
لاَ تَحَاشَ شَيْئًا: فَهُوَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا رِبًا مَحْضٌ، وَفِيمَا
لاَ يَقَعُ فِي الرِّبَا حَرَامٌ بَحْتٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَكُلُّ
ذَلِكَ مَفْسُوخٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، إِلاَّ
أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الأَنْتِصَافِ أَلْبَتَّةَ فَيَأْخُذُ مَا أَمْكَنَهُ،
مِمَّا يَحِلُّ مِلْكُهُ، لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلاَ
مَزِيدَ، فَهَذَا حَلاَلٌ لَهُ.
برهان ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه
وسلم- الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ، وَالْبُرَّ، وَالتَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ،
وَالْمِلْحَ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام:
" فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا
كَانَ يَدًا بِيَدٍ " وَالْعَمَلُ الَّذِي وَصَفْنَا لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ،
بَلْ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَعْدِنِهِ بَعْدُ،
فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه السلام. وَأَيْضًا: فَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ:
"أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَقُولُ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ
بِالْوَرِقِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ،
وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ "
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْحَوْضِيُّ أَنَا
شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا
الْمِنْهَالِ قَالَ: سَأَلْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ،
عَنِ الصَّرْفِ فَكِلاَهُمَا يَقُولُ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا ".
وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ،
وَأَصْحَابُنَا، إلَى جَوَازِ أَخْذِ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِق، وَالْوَرِقِ مِنْ
الذَّهَبِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ: بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ
أَصْبَغَ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبِيعُ الإِبِلَ
بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ
الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا
بِسِعْرِ يَوْمِهَا ".
(8/503)
قال
أبو محمد: وَهَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةٌ فِيهِ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ سِمَاكَ
بْنَ حَرْبٍ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شُعْبَةُ
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ: حَدَّثَك فُلاَنٌ، عَنْ فُلاَنٍ؟ فَيَقُولُ:
نَعَمْ، فِيمَ سُئِلَ عَنْهُ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ
بِهَذَا السَّنَدِ بِبَيَانِ غَيْرِ مَا ذَكَرُوا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ
أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ أَوْ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إذَا بَايَعْت
صَاحِبَكَ فَلاَ تُفَارِقْهُ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ وَهَذَا مَعْنًى
صَحِيحٌ، وَهُوَ كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَهُمْ
كَمَا يُرِيدُونَ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ؛ لأََنَّ فِيهِ اشْتِرَاطَ
أَخْذِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَهُمْ يُجِيزُونَ أَخْذَهَا بِغَيْرِ سِعْرِ
يَوْمِهَا، فَقَدْ اطَّرَحُوا مَا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَمِمَّا يُبْطِلُ
قَوْلَهُمْ هَهُنَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهَذَا
أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغَرَرِ؛ لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ لاَ يَدْرِي
أَخُلِقَ بَعْدُ أَمْ لَمْ يُخْلَقْ، وَلاَ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ وَالْبَيْعُ لاَ
يَجُوزُ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ بِمِثْلِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ
غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَالسَّلْمُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إلَى
أَجَلٍ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا فَهُوَ
أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي
الْبَيْعِ، فَمِنْ أَيْنَ أَجَازُوهُ فِي الْقَرْضِ وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ
الْقَائِلِينَ بِهِ بَيْنَ الْقَرْضِ فِي الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ
فِعْلِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ: بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ، قَالَ:
أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لِي: إذَا خَرَجَ خَازِنُنَا
أَعْطَيْنَاك، فَلَمَّا خَرَجَ بَعَثَهُ مَعِي إلَى السُّوقِ وَقَالَ: إذَا
قَامَتْ عَلَى ثَمَنٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِقِيمَتِهَا أَخَذَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ أَنَا
إسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، عَنْ يَسَارِ بْنِ
نُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَعَرَضَ عَلَيَّ دَنَانِيرَ
فَقُلْت: لاَ آخُذُهَا حَتَّى أَسْأَلَ عُمَرَ فَسَأَلْته فَقَالَ: ائْتِ بِهَا
الصَّيَارِفَةَ فَأَعْرِضْهَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى سِعْرٍ، فَإِنْ شِئْت
فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ مِثْلَ دَرَاهِمِك وَصَحَّتْ إبَاحَةُ ذَلِكَ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُ، وطَاوُوس وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا
غَائِبٌ وَالآخَرُ نَاجِزٌ هَذَا صَحِيحٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ، وَالْوَرِقِ مِنْ
الذَّهَبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ
أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ
(8/504)
عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ مِنْ
الذَّهَبِ وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ كِدَامٍ قَالَ:
حَلَفَ لِي مَعْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ أَبِيهِ بِخَطِّهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ دَرَاهِمَ مَكَانَ دَنَانِيرَ أَوْ
دَنَانِيرَ مَكَانَ دَرَاهِمَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمِنْهَالِ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ:
نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَبَاهُ أَنْ نَبِيعَ الدَّيْنَ
بِالْعَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ زَيْنَبَ
امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاعَتْ جَارِيَةً لَهَا إمَّا بِذَهَبٍ وَأَمَّا
بِفِضَّةٍ فَعُرِضَ عَلَيْهَا النَّوْعُ الآخَرُ فَسُئِلَ عُمَرُ فَقَالَ:
لِتَأْخُذْ النَّوْعَ الَّذِي بَاعَتْ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ فِيمَنْ بَاعَ طَعَامًا بِدَرَاهِمَ، أَيَأْخُذُ بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا
فَقَالَ: لاَ، حَتَّى تَقْبِضَ دَرَاهِمَك وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ
ذَلِكَ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَلِيُّ
بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ أَقْرَضَ دَرَاهِمَ أَيَأْخُذُ بِثَمَنِهَا
طَعَامًا فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا مُؤَمَّلُ
بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ اقْتِضَاءَ الدَّنَانِيرِ مِنْ
الدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا مُوسَى بْنُ
نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ
مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، وَ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ: لاَ تَأْخُذْ الذَّهَبَ مِنْ الْوَرِقِ يَكُونُ لَك عَلَى
الرَّجُلِ، وَلاَ تَأْخُذَنَّ الْوَرِقَ مِنْ الذَّهَبِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ
ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَك عِنْدَ آخَرَ قَرْضٌ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ
مِنْهُ دَنَانِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ
يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ
بُرْدٍ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَاقَةً بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ
فَجَاءَ يَلْتَمِسُ حَقَّهُ فَقُلْت: عِنْدِي دَرَاهِمُ لَيْسَ عِنْدِي دَنَانِيرُ
فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ
لَهُ سَعِيدٌ: خُذْ مِنْهُ دَنَانِيرَ عَيْنًا، فَإِنْ أَبَى فَمَوْعِدُهُ
اللَّهُ، دَعْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: بِعْت جَزُورًا بِدَرَاهِمَ
إلَى الْحَصَادِ، فَلَمَّا حَلَّ قَضَوْنِي
(8/505)
حِنْطَةً، وَشَعِيرًا، وَسَلْتًا، فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: لاَ يَصْلُحُ، لاَ تَأْخُذْ إِلاَّ الدَّرَاهِمَ. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقُرْآنَ فِي تَحْرِيمِهِ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِخَبَرٍ سَاقِطٍ مُضْطَرِبٍ وَقَوْلُنَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْتِصَافِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْمَمْنُوعُ حَقُّهُ أَنْ يَنْتَصِفَ بِهِ، أَوْ بِأَنْ يُوَكِّلَ غَرِيمَهُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَهُ، وَبِأَنْ يَبْتَاعَ لَهُ مَا يُرِيدُ: فَهَذَا جَائِزٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/506)
استدراك
مناقصات لأخصام ماذهب إليه المصنف في مسألة الربا وبيانها مفصلة
...
1493- مَسْأَلَةٌ- وَاسْتَدْرَكْنَا مُنَاقَضَاتٍ لَهُمْ يُعَارِضُونَ بِهَا
أَنْ شَنَّعُوا عَلَيْنَا بِبَيْعِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَدَقِيقِ غَيْره
مُتَفَاضِلاً، وَتَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ، وَكَذَلِكَ دَقِيقِ الْقَمْحِ
بِدَقِيقِ الْقَمْحِ، وَبِالْخُبْزِ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَبِالزَّيْتِ،
وَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ، وَبِالْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَكُلِّ شَيْءٍ، مَا عَدَا
مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ السُّنَّةِ. وَلاَ شُنْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؛
لأََنَّنَا لَمْ نَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ حَرَّمْنَا مَا لَمْ
يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَإِنَّمَا
الشَّنِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ
بَيْعُ الدَّقِيقِ مِنْ الْقَمْحِ بِالْقَمْحِ كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ
يَدًا بِيَدٍ، قَالَ: وَلاَ يَجُوزُ دَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ
كَيْلاً بِكَيْلٍ، لَكِنْ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ فَإِنْ كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ نَوْعًا وَاحِدًا مَعَ الْقَمْحِ
فَمَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ دَقِيقَ قَمْحٍ بِدَقِيقِ قَمْحٍ إِلاَّ كَيْلاً
بِكَيْلٍ كَمَا يَبِيعُ الدَّقِيقَ بِالْقَمْحِ؛ لأََنَّهُمَا قَمْحٌ مَعًا وَإِنْ
كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ صِنْفًا غَيْرَ الْقَمْحِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُجِيزَهُ
بِالْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً، وَأَجَازَ الْقَمْحَ بِسَوِيقِ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ دَقِيقِ قَمْحٍ وَبَيْنَ سَوِيقِ قَمْحٍ بِقَمْحٍ؟ وأعجب
مِنْ هَذَا احْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ السَّوِيقَ دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ
.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ
دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ؟ نَعَمْ، وَالدَّقِيقُ أَيْضًا دَخَلَتْهُ، صَنْعَةٌ، وَلاَ
فَرْقَ. وَقَالُوا أَيْضًا: إنَّمَا يُرَاعَى تَقَارُبُ الْمَنَافِعِ؟ .فَقُلْنَا:
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَكُمْ أَنْ
تُرَاعُوا تَقَارُبَ الْمَنَافِعِ وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى بِلاَ برهان؟
وَقَوْلٌ لَمْ تُسْبَقُوا إلَيْهِ، وَتَعْلِيلٌ فَاسِدٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ
الْمَنَافِعَ فِي جَمِيعِ الْمَأْكُولاَتِ وَاحِدَةٌ لَسْنَا نَقُولُ:
مُتَقَارِبَةً، بَلْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ طَرْدُ الْجُوعِ، أَوْ التَّأَدُّمِ،
أَوْ التَّفَكُّهُ، أَوْ التَّدَاوِي، وَلاَ مَزِيدَ. وَمَنَعُوا مِنْ الْحِنْطَةِ
الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَأَجَازُوا الْحِنْطَةَ الْمَقْلِيَّةَ
بِالْيَابِسَةِ وَكِلْتَاهُمَا مُخْتَلِفَةٌ مَعَ الأُُخْرَى. وَمَنَعُوا مِنْ
الدَّقِيقِ بِالْعَجِينِ وَقَدْ دَخَلَتْ الْعَجِينَ صَنْعَةٌ. وَأَبَاحُوا
الْقَمْحَ بِالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً
(8/506)
وَمَنَعُوا
مِنْ اللَّبَنِ بِالسَّمْنِ جُمْلَةً نَعَمْ، وَمَنَعُوا مِنْ اللَّبَنِ
بِالْجُبْنِ وَهَلْ الْجُبْنُ مِنْ اللَّبَن إِلاَّ كَالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ
وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ لَبَنِ شَاةٍ بِشَاةٍ لَبُونٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ لَبَنَ
الآنَ فِي ضَرْعِهَا؛ لأََنَّهُ قَدْ اُسْتُنْفِذَ بِالْحَلْبِ. وَأَجَازُوا
بَيْعَ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ إذَا كَانَتْ لاَ تَمْرَ فِيهَا. وَاحْتَجُّوا
بِأَنَّ اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ ضَرْعِ الشَّاةِ، وَأَنَّ السَّمْنَ يُعْمَلُ
مِنْ اللَّبَنِ .فَقُلْنَا: وَالتَّمْرُ يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ، وَالْخُبْزُ
يُعْمَلُ مِنْ الْقَمْحِ. وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالْعَصِيرِ،
وَأَجَازُوهُ بِالْخَلِّ وَهَذِهِ عَجَائِبُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، لَوْ
تَقَصَّيْنَاهَا لاَ تَسَعُ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ،
وَهُوَ كُلُّهُ كَمَا ذَكَرْنَا لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ،
وَكَذَلِكَ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ
الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً. وَأَمَّا
الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ أَبَاحُوا الرِّبَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ جِهَارًا
فَأَحَلُّوا بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ كَتَّانٍ
أَسْوَدَ أَخَرْشَ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِقُلْفَةِ الْمَرَاكِبِ بِرِطْلِ كَتَّانٍ
أَبْيَضَ مِصْرِيٍّ أَمْلَسَ كَالْحَرِيرِ وَكَذَلِكَ حَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ
قُطْنٍ طَيِّبٍ غَزْلِيٍّ بِرِطْلِ قُطْنٍ خَشِنٍ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْحَشْوِ،
وَقَالُوا: الْقُطْنُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَالْكَتَّانُ كُلُّهُ صِنْفٌ
وَاحِدٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الثِّيَابُ الْمَعْمُولَةُ مِنْ الْقُطْنِ فَأَصْنَافٌ
مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ
فَأَجَازُوا بَيْعَ ثَوْبِ قُطْنٍ مَرْوِيٍّ خُرَاسَانِيٍّ بِثَوْبَيْ قُطْنٍ
مَرْوِيٍّ بَغْدَادِيٍّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً قَالُوا: وَأَمَّا غَزْلُ الْقُطْنِ
فِي كُلِّ ذَلِكَ فَصِنْفٌ وَاحِدٌ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَلاَ
النَّسِيئَةُ. قَالُوا: شَحْمُ بَطْنِ الْكَبْشِ صِنْفٌ، وَشَحْمُ ظَهْرِهِ
وَشَحْمُ سَائِرِ جَسَدِهِ صِنْفٌ آخَرُ، فَأَجَازُوا بَيْعَ رِطْلَيْنِ مِنْ
شَحْمِ بَطْنِهِ بِرِطْلٍ مِنْ شَحْمِ ظَهْرِهِ نَقْدًا. قَالُوا: وَأَلْيَةُ
الشَّاةِ صِنْفٌ، وَسَائِرُ لَحْمِهَا صِنْفٌ آخَرُ، فَجَائِزٌ بَيْعُ رِطْلٍ مِنْ
أَلْيَتِهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَائِرِ لَحْمِهَا. قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ
رِطْلٍ مِنْ لَحْمِ كَبْشٍ إِلاَّ بِرِطْلٍ مِنْ لَحْمِهِ، وَلاَ مَزِيدَ، وَزْنًا
بِوَزْنٍ نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ وَأَجَازُوهُ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الثَّوْرِ
نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ. وَأَمَّا لَحْمُ الإِوَزِّ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ، فَيَجُوزُ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِطْلٌ بِرِطْلَيْنِ مِنْ نَوْعِهِ فَأَجَازُوا
رِطْلَ لَحْمِ دَجَاجٍ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ دَجَاجٍ نَقْدًا أَوْ
بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الإِوَزِّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً. وَقَالُوا: النَّسِيئَةُ
فِي كُلِّ مَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا مِنْ التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، إنَّمَا هِيَ مَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الأَجَلُ فِي حِينِ
الْعَقْدِ، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ قَبْضُهُ إلَى أَنْ تَفَرَّقَا وَلَمْ يَكُنْ
اُشْتُرِطَ فِيهِ التَّأْخِيرُ، فَلاَ يَضُرُّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا،
إِلاَّ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَقَطْ، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِيهِمَا
رَبَا اُشْتُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إجَازَتُهُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ، وَمَنْعُهُ مِنْ
الدَّقِيقِ أَوْ السَّوِيقِ بِالْقَمْحِ جُمْلَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ أَصْلاً،
فَلَوْ عَكَسَ قَوْلَهُ لاََصَابَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا وَسَاوِسُ، وَسَخَافَاتٌ،
وَمُنَاقَضَاتٌ
(8/507)
لاَ
دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَأَقْوَالٌ لاَ تُحْفَظُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَنَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ رِطْلِ سَقَمُونْيَا
بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَقَمُونْيَا؛ لأََنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَأْكُولاَتِ،
وَأَبَاحُوا وَزْنَ دِرْهَمِ زَعْفَرَانً بِوَزْنِ دِرْهَمَيْنِ مِنْهُ نَقْدًا
وَنَسِيئَةً؛ لأََنَّهُ لاَ يُؤْكَلُ عِنْدَهُمْ. وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ عَسَلٍ
مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ بِعَسَلٍ مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ
أَصْلاً، إِلاَّ حَتَّى يُصَفَّى كِلاَهُمَا وَأَجَازُوا بَيْعَ الْجَوْزِ
بِقِشْرِهِ بِالْجَوْزِ بِقِشْرِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إخْرَاجَ
الْعَسَلِ مِنْ شَمْعِهِ صَلاَحٌ لَهُ، وَإِخْرَاجَ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ مِنْ
قِشْرِهِ، وَنَزْعَ النَّوَى مِنْ التَّمْرِ فَسَادٌ لَهُ. .فَقُلْنَا: كَلًّا،
مَا الصَّلاَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ إِلاَّ كَالْفَسَادِ فِيمَا وَصَفْتُمْ، وَمَا
فِي ذَلِكَ صَلاَحٌ، وَلاَ فِي هَذَا فَسَادٌ، وَلَوْ كَانَ فَسَادًا لَمَا حَلَّ
أَصْلاً؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}
وَهَذِهِ أَيْضًا مُنَاقَضَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَقْوَالٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا
سَبَقَهُمْ إلَيْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا
قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ يَدًا
بِيَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ، أَوْ
مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ.
قال أبو محمد: وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا اللُّغَةُ، وَالشَّرِيعَةُ،
وَالْحِسُّ، فَهُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ لَيْسَ قَمْحًا، وَلاَ شَعِيرًا، لاَ فِي اسْمِهِ،
وَلاَ فِي صِفَتِهِ، وَلاَ فِي طَبِيعَتِهِ. فَهَذِهِ الدَّوَابُّ تُطْعَمُ
الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ فَلاَ يَضُرُّهَا بَلْ يَنْفَعُهَا، وَتُطْعَمُ الْقَمْحَ
فَيُهْلِكُهَا، وَالدَّبْسُ لَيْسَ تَمْرًا، لاَ فِي لُغَةٍ، وَلاَ فِي شَرِيعَةٍ،
وَلاَ فِي مُشَاهَدَةٍ. وَلاَ فِي اسْمِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ. وَالْمَاءُ
لَيْسَ مِلْحًا؛ لأََنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ
بِالْمِلْحِ. وَلَيْسَ تَوْلِيدُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ بِمُوجِبِ
أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ هُوَ الَّذِي عَنْهُ تُوُلِّدَ، فَنَحْنُ خُلِقْنَا مِنْ
تُرَابٍ، وَنُطْفَةٍ، وَمَاءٍ، وَلَسْنَا نُطْفَةً، وَلاَ تُرَابًا، وَلاَ مَاءً.
وَالْخَمْرُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَصِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ وَالْعَصِيرُ حَلاَلٌ.
وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ، عَنِ الدَّمِ وَاللَّبَنُ حَلاَلٌ وَالدَّمُ حَرَامٌ.
وَالْعَذِرَةُ تَسْتَحِيلُ تُرَابًا حَلاَلاً طَيِّبًا. وَالدَّجَاجَةُ تَأْكُلُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ فَيَصِيرَانِ فِيهَا لَحْمًا حَلاَلاً طَيِّبًا. وَالْخَلُّ
مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ حَلاَلٌ وَهِيَ حَرَامٌ. وَأَمَّا حُلِيُّ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهُمَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ بِاسْمَيْهِمَا وَصِفَاتِهِمَا
وَطَبِيعَتِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَفِي الشَّرِيعَةِ وَاحِدٌ {وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
(8/508)
من
باع ذهبا بذهب بيعا حلالا أو فضة بفضة كذلك مسكوكا بمثله كان أو مصوغين أو مصوغا
بمسكوك أو تبرا أو نقار فوجد أحدهما بما اشترى من ذلك عيبا قبل أن يفترقا
بأبدانهما فهو بالخيار
...
1494-مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ بَيْعًا حَلاَلاً، أَوْ فِضَّةً
بِفِضَّةٍ كَذَلِكَ، أَوْ فِضَّةً بِذَهَبٍ كَذَلِكَ، مَسْكُوكًا بِمِثْلِهِ أَوْ
مَصُوغَيْنِ، أَوْ مَصُوغًا بِمَسْكُوكٍ،
أَوْ تِبْرًا أَوْ نَقَّارًا، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا بِمَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ
عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ أَنْ يُخَيِّرَ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ
شَاءَ اسْتَبْدَلَ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ بَعْدُ، فَإِنَّمَا
هُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِبَيْعٍ، عَنْ تَرَاضٍ أَوْ تَارِكٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/508)
إن
وجد العيب بعد التفرق أو بعد التخيير فيفصل فيه
...
1495- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ وَجَدَ الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ،
أَوْ بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَاخْتَارَ الْمُخَيَّرُ إتْمَامَ الْبَيْعِ
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ خَلْطٍ وَجَدَهُ مِنْ غَيْرِ مَا اشْتَرَى، لَكِنْ
كَفِضَّةٍ أَوْ صُفْرٍ فِي ذَهَبٍ، أَوْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي فِضَّةٍ،
فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ، مَرْدُودَةٌ، كَثُرَتْ أَمْ قَلَّتْ، قَلَّ
ذَلِكَ الْخَلْطُ أَمْ كَثُرَ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى، وَلاَ
الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ الصَّفْقَةَ، فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَرَاضَى بِالْعَقْدِ
عَلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَلاَ يَجُوزُ فِيمَا
يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا إِلاَّ صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ، وَلاَ خِيَارَ
فِي إمْضَائِهَا؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/509)
1496-
مَسْأَلَةٌ- وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضُ مَا اشْتَرَى أَقَلُّهُ أَوْ
أَكْثَرُهُ، أَوْ لَوْ تَأَخَّرَ قَبْضُ شَيْءٍ مِمَّا تَبَايَعَا قَلَّ أَوْ
كَثُرَ لأََنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ صَحِيحًا وَمَا لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ
فَاسِدٌ،
وَكُلُّ عَقْدٍ اخْتَلَطَ الْحَرَامُ فِيهِ بِالْحَلاَلِ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ،
لأََنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ صِحَّةُ الْحَلاَلِ مِنْهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْحَرَامِ،
وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ، فَلاَ صِحَّةَ لَهُ،
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ وَحْدَهُ. دُونَ غَيْرِهِ.
(8/509)
إن
كان العيب في نفس ما اشترى ككسر أو كان الذهب ناقص القيمة بطبعه والفضة كذلك فيفصل
فيه
...
1497- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي نَفْسِ مَا اشْتَرَى كَكَسْرٍ، أَوْ
كَانَ الذَّهَبُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ بِطَبْعِهِ، وَالْفِضَّةُ كَذَلِكَ،
كَالذَّهَبِ الأَشْقَرِ وَالأَخْضَرِ بِطَبْعِهِ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ
السَّلاَمَةَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ؛
لأََنَّهُ وَجَدَ غَيْرَ مَا اشْتَرَى، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَالُ غَيْرِهِ مِمَّا
لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ بَيْعًا. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ
فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِ الصَّفْقَةِ كَمَا هِيَ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ
بِشَيْءٍ، وَأَمَّا فَسْخُهَا كُلِّهَا، وَلاَ بُدَّ؛ لأََنَّهُ اشْتَرَى
الْعَيْنَ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ ثُمَّ وَجَدَ غَبْنًا، وَالْغَبْنُ إذَا
رَضِيَهُ الْبَائِعُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ جَائِزٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ عَلَى مَا
قَدَّمْنَا قَبْلُ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ
يَتَرَاضَ الْبَيْعَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ عَلَى جَمِيعِهَا، فَلَيْسَ لَهُ
غَيْرُ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ
إِلاَّ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا.
قال أبو محمد : وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْخَلْفُ وَالسَّلَفُ:
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثِ بْنِ الأَشْعَثِ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِيمَنْ يَشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَيَشْتَرِطُ إنْ كَانَ فِيهَا زَائِفٌ أَنْ
يَرُدَّهُ أَنَّهُ كَرِهَ الشَّرْطَ، وَقَالَ: ذَلِكَ لَهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: ظَاهِرُ هَذَا رَدُّ الْبَيْعِ؛ لأََنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَدَّ
الزَّائِفِ وَحْدَهُ لَذَكَرَ بُطْلاَنَ مَا قَابَلَهُ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ فِي
سَائِرِ الصَّفْقَةِ، أَوْ لَذَكَرَ الأَسْتِدْلاَلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ
كُلَّهُ شَيْئًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ فَقَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا
هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى قَالَ: زَعَمَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
اشْتَرَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَأَخْطَئُوا فِيهَا بِدِرْهَمٍ سَتُّوقٍ فَكَرِهَ
أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ
الْحَاضِرِينَ
(8/509)
من
الحلال المحض بيع مدين من تمر أحدهما جيد غاية والآخر ردئ غاية بمدين من تمر أجود
منهما أو أدنى إلخ
...
1498- مَسْأَلَةٌ- وَمِنْ الْحَلاَلِ الْمَحْضِ بَيْعُ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ
أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ غَايَةً، وَالآخَرُ رَدِيءٌ غَايَةً: بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ
أَجْوَدَ مِنْهُمَا، أَوْ أَدْنَى مِنْهُمَا، أَوْ دُونَ الْجَيِّدِ مِنْهُمَا،
وَفَوْقَ الرَّدِيءِ مِنْهُمَا، أَوْ مِثْلَ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَعْضُهُمَا جَيِّدٌ
وَالْبَعْضُ رَدِيءٌ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، وَفِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ،
وَقَمْحٍ بِقَمْحٍ، وَفِي شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَفِي مِلْحٍ بِمِلْحٍ، وَلاَ
فَرْقَ، لأَِبَاحَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كُلِّ صِنْفٍ مِمَّا
ذَكَرْنَا بِصِنْفِهِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فِي الْمُكَايَلَةِ، فِي الْقَمْحِ،
وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَالْمُوَازَنَةِ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا الْقَعْنَبِيُّ أَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ:
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَدَّثَاهُ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ
فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ:
لاَ، وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ
مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ
تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا
بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ " فَأَبَاحَ عليه السلام
نَصًّا: بَيْعَ الْجَنِيبِ مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُتَخَيَّرُ كُلُّهُ
بِالْجَمْعِ مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ جَيِّدًا وَرَدِيئًا وَوَسَطًا.
مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ
رَدِيءٌ بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ مُتَوَسِّطَيْنِ أَدْنَى مِنْ الْجَيِّدِ
وَأَجْوَدَ مِنْ الرَّدِيءِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ.
قال أبو محمد : لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا؛ لأََنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي
جَوَازِ صَاعٍ بِصَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِصَاعِ تَمْرٍ جَيِّدٍ وَلَيْسَ مِثْلَهُ
فَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ
فِي الْكَيْلِ أَوْ فِي الْوَزْنِ فَقَطْ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ
أَحَدٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ فِيهَا:
بِيعُوا الْجَمْعَ وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ الْجَنِيبِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهِ؛ لأََنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا زَائِدٌ
(8/511)
عَلَى
تِلْكَ الأَخْبَارِ حُكْمًا، وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ زِيَادَةِ الْعَدْلِ.
وَعُمْدَةُ حُجَّتِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا رَضِيَ الْبَائِعُ هَهُنَا
لِلْمُدَّيْنِ: اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ رَدِيءٌ، بِأَنْ
يُعْطِيَ الْجَيِّدَ أَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ، وَأَنْ يُعْطِيَ
الأَرْدَأَ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ: فَحَصَلَ التَّفَاضُلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا،
وَحَتَّى لَوْ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لأَِرَادَتِهِ،
فَحَصَلُوا عَلَى التَّكَهُّنِ، وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي
الدِّينِ الْكَلاَمُ وَالْعَمَلُ، فَإِذَا جَاءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَسُولُهُ عليه السلام فَمَا نُبَالِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمَا، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " لَمْ أُبْعَثْ لأََشُقَّ، عَنْ قُلُوبِ
النَّاسِ " فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ عليه السلام: " الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ ". قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ مَنْ لَكُمْ بِأَنَّ هَذَيْنِ
نَوَيَا مَا ذَكَرْتُمْ، وَهَذَا مِنْكُمْ ظَنُّ سُوءٍ بِمُسْلِمٍ لَمْ
يُخْبِرْكُمْ بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُفْسِدُوا صَفْقَةَ مُسْلِمٍ بِتَوَهُّمِكُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَاطِلَ، وَهُوَ
لَمْ يُخْبِرْكُمْ ذَلِكَ فَقَطْ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ ظَهَرَ مِنْ فِعْلِهِ
إِلاَّ الْحَلاَلُ الْمُطْلَقُ. وَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ
يَشْتَرِي تَمْرًا أَوْ تِينًا أَوْ عِنَبًا أَنْ تَفْسَخُوا صَفْقَتَهُ
وَتَقُولُوا لَهُ: إنَّمَا تَنْوِي فِيهِ عَمَلَ الْخَمْرِ مِنْهُ، وَمَنْ
اشْتَرَى ثَوْبًا أَنْ تَفْسَخُوهُ وَتَقُولُوا: إنَّمَا تُرِيدُ تَلْبَسُهُ فِي
الْمَعَاصِي. وَمَنْ اشْتَرَى سَيْفًا أَنْ تَفْسَخُوا وَتَقُولُوا: إنَّمَا
تُرِيدُ بِهِ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا هَوَسٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَبَيْنَ مَا أَفْسَدْتُمْ بِهِ الْمَسْأَلَةَ
الْمُتَقَدِّمَةَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ
بْنُ سِيرِينَ يَأْتِي بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ الْجِيَادِ، وَبِالنُّفَايَةِ:
يَأْخُذُ بِوَزْنِهَا غَلَّةً. قَالَ عَلِيٌّ: السُّودُ أَجْوَدُ مِنْ الْغَلَّةِ،
وَالنُّفَايَةُ أَدْنَى مِنْ الْغَلَّةِ وَهَذَا نَفْسُ مَسْأَلَتِنَا.
(8/512)
من
صارف آخر دنانير بدراهم فعجز عن تمام مراده فاستقرض من مصارفه أو غيره ما أتم به
الصرف فحسن
...
1499- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ صَارَفَ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِم فَعَجَزَ، عَنْ
تَمَامِ مُرَادِهِ فَاسْتَقْرَضَ مِنْ مَصَارِفِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَا
أَتَمَّ بِهِ صَرْفَهُ فَحَسَنٌ،
مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ فِي الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
هَذَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.
(8/512)
من
باع من آخر دنانير بدراهم فلما تم البيع بينهما اشترى منه أمن غيره بتلك الدراهم
دنانير تلك أو غيرها أقل أو أكثر فكل ذلك حلا مالم يكن عن شرط
...
1500 – مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فَلَمَّا
تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ اشْتَرَى مِنْهُ، أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ تِلْكَ، أَوْ غَيْرِهَا أَقَلَّ
أَوْ أَكْثَرَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ؛
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَعَمَلٌ مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهِ،
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَحَرَامٌ؛ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا قَوْمٌ وَقَالُوا: إنَّهُ بَاعَ
مِنْهُ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ مُتَفَاضِلَةً فَقُلْنَا: هَذَا كَذِبٌ، وَمَا
فَعَلَ قَطُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَكِنْ
أَخْبِرُونَا: هَلْ لَهُ أَنْ يُصَارِفَهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ بِتِلْكَ
الدَّرَاهِمِ وَتِلْكَ الدَّنَانِيرِ، عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ:
نَعَمْ .فَقُلْنَا لَهُمْ: فَأَجَزْتُمْ التَّفَاضُلَ وَالنَّسِيئَةَ مَعًا
(8/512)
التواعد
في بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف
الأربعة بعضها ببعض جائز
...
1501- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّوَاعُدُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ
بِالْفِضَّةِ، وَفِي بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَفِي سَائِرِ الأَصْنَافِ
الأَرْبَعَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَائِزٌ تَبَايَعَا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ
يَتَبَايَعَا؛
لأََنَّ التَّوَاعُدَ لَيْسَ بَيْعًا. وَكَذَلِكَ الْمُسَاوَمَةُ أَيْضًا
جَائِزَةٌ تَبَايَعَا أَوْ لَمْ يَتَبَايَعَا لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا فَقَدْ فُصِّلَ بِاسْمِهِ،
قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَكُلُّ مَا لَمْ
يُفَصَّلُ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، إذْ لَيْسَ فِي
الدِّينِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ، فَالْفَرْضُ مَأْمُورٌ بِهِ
فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحَرَامُ مُفَصَّلٌ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ فَلَيْسَ فَرْضًا، وَلاَ حَرَامًا فَهُوَ
بِالضَّرُورَةِ: حَلاَلٌ إذْ لَيْسَ هُنَالِكَ قِسْمٌ رَابِعٌ
(8/513)
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.
(8/514)
لا
يحل بدل دراهم بأوزان منها لا بالمعروف ولا بغيره
...
1502– مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ بَدَلُ دَرَاهِمَ بِأَوْزَنَ مِنْهَا لاَ
بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ لاَ الْمَعْرُوفُ،
لأََنَّهُ خِلاَفُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ أَبِي
بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا آنِفًا، عَنْ عُمَرَ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم .وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ، وَأَجَازَ
ذَلِكَ مَالِكٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ مُوَافِقًا قَبْلَهُ مِمَّنْ رَأَى الرِّبَا
فِي النَّقْدِ.
(8/514)
1503-
مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ آنِيَةٍ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ إِلاَّ بَعْدَ
كَسْرِهَا
لِصِحَّةِ نَهْيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
"كِتَابِ الطَّهَارَةِ" فَلاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَإِذْ لاَ يَحِلُّ
تَمَلُّكُهَا فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا؛ لأََنَّهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/514)
يجوز
أن يبتاع المرء نصف درهم بعينه أونصف درهم بأعيانها أو نصف دينار كذلك
...
1504- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَبْتَاعَ الْمَرْءُ نِصْفَ دِرْهَمٍ
بِعَيْنِهِ، أَوْ نِصْفَ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ نِصْفَ دِينَارٍ
كَذَلِكَ، أَوْ نِصْفَ دَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا مُشَاعًا:
يَبْتَاعُ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، وَالذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَيَتَّفِقَانِ
عَلَى إقْرَارِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ. وَلاَ يَجُوزُ فِي
ذَلِكَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَصْلاً، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَصْلاً، لأََنَّهُ
يَصِيرُ عَيْنًا بِغَيْرِ عَيْنٍ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ
عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَمَّا الذَّهَبُ بِالْفِضَّةِ مُشَاعًا، فَلَمْ يَأْتِ
بِالنَّهْيِ عَنْهُ نَصٌّ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
(8/514)
1505-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعٌ بِدِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا؛ فَإِنْ وَقَعَ
فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ؛
لأََنَّهُ إخْرَاجٌ لَقِيمَةِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدِّينَارِ، فَصَارَ اسْتِثْنَاءً
مَجْهُولاً، إذْ بَاعَ بِدِينَارٍ إِلاَّ قِيمَةَ دِرْهَمٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ
قِيمَةُ الدِّرْهَمِ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا،
لأََنَّهُمَا شَرَطَا إخْرَاجَ الدِّرْهَمِ بِعَيْنِهِ مِنْ الدِّينَارِ، وَهَذَا
مُحَالٌ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ بَعْضٌ لِلدِّينَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، فَهُوَ
بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَجَازَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/514)
الربا
في كل ما ذكر قبل بين العبد وسيده كما هو بين الأجنبيين وبين المسلم والذمي وبين
المسلم والحربي وبين الذميين كما هو بين المسلمين ولا فرق
...
1506- مَسْأَلَةٌ: وَالرِّبَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ
كَمَا هُوَ بَيْنَ الأَجْنَبِيَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ،
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَبَيْنَ الذِّمِّيَّيْنِ كَمَا هُوَ بَيْنَ
الْمُسْلِمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ،
أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ
الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبِيعُ مِنْ غِلْمَانِهِ
النَّخْلَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: أَمَا عَلِمْت نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذَا؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ
سَيِّدِهِ رِبًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنَّمَا قَالَهُ
هَؤُلاَءِ عَلَى أَصْلِهِمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ إفْسَادُنَا لَهُ مِنْ أَنَّ
الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى الْعَبْدَ يَمْلِكُ،
وَهَذَا جَابِرٌ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
(8/514)
1507
- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ
كَانَا أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ
مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ مُتَفَاضِلاً، وَمُتَمَاثِلاً.
وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ اللَّحْمِ فِي اللَّحْمِ كَذَلِكَ.
وَتَسْلِيمُ الْحَيَوَانِ فِي اللَّحْمِ، كَلَحْمِ كَبْشٍ بِلَحْمِ كَبْشٍ
مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً، يَدًا بِيَدٍ، وَإِلَى أَجَلٍ وَكَذَلِكَ
بِاللَّحْمِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ أَيْضًا وَكَتَسْلِيمِ كَبْشٍ فِي أَرْطَالِ
لَحْمِ كَبْشٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلاَلٌ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَالَ
تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا كُلُّهُ بَيْعٌ
لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ. وَأَمَّا اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ فَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ
عَنْهُ أَصْلاً، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ سَقِيمٌ مِنْ أَثَرٍ. وَأَمَّا اللَّحْمُ
بِالْحَيَوَانِ فَجَاءَ فِيهِ
(8/515)
أَثَرٌ
لاَ يَصِحُّ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ عَلَى فِرَقٍ: فَطَائِفَةٌ مَنَعَتْ مِنْ بَيْعِ
اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ جُمْلَةً، أَيَّ لَحْمٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا،
بِأَيِّ حَيَوَانٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، حَتَّى مَنَعُوا مِنْ بَيْعِ
الْعَبْدِ بِاللَّحْمِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي
اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنْ يُجْمَعَ لُحُومُ الْحَيَوَانِ
كُلِّهَا طَائِرَةً وَوَحْشِيَّةً، وَالأَنْعَامِ، كُلِّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ لَحْمَ كُلِّ نَوْعٍ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ لَحْمٌ بِلَحْمٍ أَصْلاً حَتَّى
يَتَنَاهَى جَفَافُهُ وَيَبَسُهُ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ
غَنَمٍ بِقَدِيدِ إبِلٍ، أَوْ بِقَدِيدِ دَجَاجٍ، أَوْ إوَزٍّ أَوْ مِثْلاً
بِمِثْلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ غَنَمٍ
بِقَدِيدِ غَنَمٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ
بِقَدِيدِ الْبَقَرِ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ. وقال أبو حنيفة: جَائِزٌ بَيْعُ
اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا
سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَائِزٌ بَيْعُ لَحْمِ
شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةً، إذَا كَانَ اللَّحْمُ أَكْثَرَ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ
الْحَيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ بَيْعَ
شَاةٍ بِبَقَرَةٍ حَيَّةً كَيْفَ شَاءُوا. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَأَصْحَابُهُ بَيْعَ لَحْمِ شَاةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ مُتَمَاثِلاً نَقْدًا، وَلاَ
بُدَّ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ كُلِّ صِنْفٍ بِلَحْمٍ مِنْ صِنْفِهِ وَأَبَاحُوا
التَّفَاضُلَ يَدًا بِيَدٍ فِي كُلِّ لَحْمٍ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ،
وَالْبَقَرُ عِنْدَهُمْ صِنْفٌ، وَالْغَنَمُ صِنْفٌ آخَرُ، وَالإِبِلُ صِنْفٌ
ثَالِثٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ فِي صِنْفِهِ، إِلاَّ الْحِيتَانُ فَإِنَّهَا
كُلَّهَا عِنْدَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَإِلَّا لُحُومُ الطَّيْرِ، فَرَأَوْا بَيْعَ
بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، لاَ نَسِيئَةً، كَلَحْمِ دَجَاجٍ
بِلَحْمِ دَجَاجٍ، أَوْ بِلَحْمِ صَيْدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَرَأَى شَحْمَ
الْبَطْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ صِنْفًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَغَيْرِ شَحْمِ
ظَهْرِهِ. وَرَأَى الأَلْيَةَ صِنْفًا آخَرَ غَيْرَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ.
وَهَذِهِ وَسَاوِسُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، وَأَقْوَالٌ لاَ تُعْقَلُ، وَلاَ تُعْلَمُ،
عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وقال مالك: ذَوَاتُ الأَرْبَعِ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ: الْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ،
وَالإِبِلُ، وَالأَرَانِبُ، وَالأَيَايِلُ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ، وَكُلُّ ذِي
أَرْبَعٍ، فَلاَ يَحِلُّ لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ
بَيْعُ لَحْمِ أَرْنَبٍ حَيٍّ بِلَحْمِ جَمَلٍ أَصْلاً، وَلاَ لَحْمِ جَمَلٍ
بِلَحْمِ كَبْشٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ
ذَوَاتِ الأَرْبَعِ. وَرَأَى الطَّيْرَ كُلَّهُ صِنْفًا وَاحِدًا: الدَّجَاجُ،
وَالْحَمَامُ، وَالنَّعَامُ، وَالإِوَزُّ، وَالْحَجَلُ، وَالْقَطَا، وَغَيْرُ
ذَلِكَ فَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ
مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَأَجَازَ فِي لَحْمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ: التَّمَاثُلَ
يَدًا بِيَدٍ، وَمَنَعَ مِنْ التَّفَاضُلِ، فَلَمْ يُجِزْ التَّفَاضُلَ فِي لَحْمِ
دَجَاجٍ بِلَحْمِ حُبَارَى وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا. وَرَأَى
الْحِيتَانَ كُلَّهَا صِنْفًا وَاحِدًا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَرَأَى الْجَرَادَ
صِنْفًا رَابِعًا عَلَى حِيَالِهِ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُ صَيْدٌ مِنْ الطَّيْرِ
يُجْزِيهِ الْمُحَرَّمَ. وَحَرَّمَ الْقَدِيدَ النِّيءَ بِاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ،
وَحَرَّمَهُمَا جَمِيعًا بِاللَّحْمِ النِّيءِ
(8/516)
الطَّرِيِّ،
وَأَجَازَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَصْنَافِ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ
مِنْ صِنْفِهَا مُتَفَاضِلَةٍ وَمُتَمَاثِلَةٍ يَدًا بِيَدٍ، وَأَجَازَ اللَّحْمَ
الْمَطْبُوخَ بِعَسَلٍ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِلَبَنٍ مُتَمَاثِلاً وَمَنَعَ
فِيهِ مِنْ التَّفَاضُلِ. وَأَجَازَ شَاةً مَذْبُوحَةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ عَلَى
التَّحَرِّي وَهَذَا ضِدُّ أَصْلِهِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ،
وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ وَلَوْ تَقَصَّيْنَا تَطْوِيلَهُمْ
هَهُنَا وَتَنَاقُضَهُ، لَطَالَ جِدًّا وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ نَصَحَ
نَفْسَهُ.
قال أبو محمد : وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ
". وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبْتَاعَ الْحَيُّ بِالْمَيِّتِ " قَالَ
الزُّهْرِيُّ: فَلاَ يَصْلُحُ بِشَاةٍ حَيَّةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا
مِنْ لَحْمِ بَعِيرٍ بِشَاةٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاَ يَصْلُحُ
هَذَا. وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنْ لاَ يُبَاعَ حَيٌّ
بِمَذْبُوحٍ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَعِيرٍ بِغَنَمٍ مَعْدُودَةٍ إنْ كَانَ
يُرِيدُ الْبَعِيرَ لِيَنْحَرَهُ. وَقَالَ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ:
أَدْرَكْت النَّاسَ يَنْهَوْنَ، عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ
وَيَكْتُبُونَهُ فِي عُهُودِ الْعُمَّالِ فِي زَمَنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ،
وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْفُقَهَاءِ
السَّبْعَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَرَخَّصُونَ
فِيهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ فَمُرْسَلٌ لَمْ يُسْنَدْ قَطُّ،
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْمُرْسَلَ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ
بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ هَهُنَا بِالْمُرْسَلِ. ثُمَّ عَجَبٌ آخَرُ مِنْ
الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا
الْمُرْسَلَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَرَاسِيلِ أَقْوَى مِنْهُ يُعَظِّمُونَ هَذَا
وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ
الْمَالِكِيُّونَ: فَعَجَبٌ ثَالِثٌ؛ لأََنَّهُمْ احْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ،
وَأَوْهَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ؛ لأََنَّهُمْ
أَبَاحُوا لَحْمَ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ، وَهَذَا خِلاَفُ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا هُوَ
مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ خَالَفَ مَالِكٌ أَيْضًا هَهُنَا مَا
رُوِيَ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعَمَلِ الْوُلاَةِ بِالْمَدِينَةِ،
وَهَذَا يُعَظِّمُهُ جِدًّا إذَا وَافَقَ رَأْيَهُمْ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ أَبِي
بَكْرٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى إبْرَاهِيمَ، وَأَوَّلُ مَنْ
أَمَرَ أَنْ لاَ تُؤْخَذَ رِوَايَتُهُ فَمَالِكٌ، ثُمَّ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ فَمَالِكٌ فَيَا لِلَّهِ وَيَا
لِلْمُسْلِمِينَ إذَا رَوَى الثِّقَاتُ خَبَرًا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ تَحَيَّلُوا
بِالأَبَاطِيلِ فِي رَدِّهِ، وَإِذَا رَوَى مَنْ يَشْهَدُونَ
(8/517)
عَلَيْهِ
بِالْكَذِبِ مَا يُوَافِقُهُمْ احْتَجُّوا بِهِ، فَأَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ
هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّونَ: مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
حُجَّةٌ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ قلنا لَهُمْ: السَّاعَةُ صَارَتْ حُجَّةً فَدُونَكُمْ
مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ
مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاعَ الْحَيَوَانُ بِالْمَفَاطِيمِ
مِنْ الْغَنَمِ فَقُولُوا بِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَلاَعَبْتُمْ، وَاتَّقُوا
اللَّهَ. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي هَذِهِ آثَارٌ أَيْضًا بِزِيَادَةٍ، فَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ يَزِيدَ
بْنِ طَلْقٍ: أَنَّ رَجُلاً نَحَرَ جَزُورًا فَجَعَلَ يَبِيعُ الْعُضْوَ
بِالشَّاةِ، وَبِالْقَلُوصِ، إلَى أَجَلٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ سَمِعْت
ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى عُضْوًا مِنْ جَزُورٍ قَدْ نُحِرَتْ
بِرِجْلِ عِنَاقٍ وَشُرِطَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُرْضِعَهَا حَتَّى تُفْطَمَ
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَصْلُحُ.
قال أبو محمد: هَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ
اللَّحْمُ بِالشَّاةِ. فإن قيل: هَذَا، عَنْ رَجُلٍ قلنا: وَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى وَلَيْسَ بِأَوْثَقَ مِمَّنْ سَكَتَ عَنْهُ كَائِنًا
مَنْ كَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: لاَ
بَأْسَ بِالشَّاةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ.
(8/518)
من
ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل بيعه حاش القمح فلا يحل له أن يبيعه حتى يقبضه
وتفسير القبض
...
1508- مسألة: ومن ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل بيعه, حاش القمح, فلا يحل له أن
يبيعه حتى يقبضه, وقبضه له: هو أن يطلق يده عليه بأن لا يحال بينه وبينه, فإن لم
يحل بينه وبينه مدة ما قلت أم كثرت ثم حيل بينه وبينه بغصب أو غيره: حل له بيعه;
لأنه قد قبضه, وله أن يهبه , وأن يؤاجر به, وأن يصدقه , وأن يقرضه , وأن يسلمه,
وأن يتصدق به قبل أن يقبضه, وقبل أن تطلق يده عليه. فإن ملك شيئا ما أي شيء كان
مما يحل بيعه بغير البيع , لكن بميراث أو هبة, أو قرض, أو صداق, أو صدقة, أو سلم,
أو أرش , أو غير ذلك: جاز له بيعه قبل أن يقبضه, وأن يتصرف فيه بالإصداق, والهبة ,
والصدقة, حاش القمح. وأما القمح: فإنه بأي وجه ملكه من: بيع , أو هبة , أو صدقة,
أو صداق, أو إجارة, أو أرش, أو سلم أو قرض, أو غير ذلك: فلا يحل له بيعه حتى
يقبضه, كما ذكرنا بأن لا يحال بينه وبينه. فإن كان اشترى القمح خاصة جزافا, فلا
يحل له بيعه حتى يقبضه كما ذكرنا , وحتى ينقله ولا بد عن موضعه الذي هو فيه إلى
مكان آخر قريب ملاصق أو بعيد. فإن كان اشترى القمح خاصة بكيل لم يحل له أن يبيعه
حتى يكتاله, فإذا اكتاله حل له بيعه وإن لم ينقله عن موضعه. ولا يحل له تصديق
البائع في كيله وحتى لو اكتاله البائع لنفسه بحضرته وهو يراه ويشاهده ولا بد من
(8/518)
أن يكتاله المشتري لنفسه , وجائز له في كل ما ذكرنا أن يهبه , وأن يصدقه , وأن يؤاجر به , وأن يصالح , وأن يتصدق به , وأن يقرضه قبل , أن يكتاله , وقبل أن ينقله جزافا اشتراه أو بكيل وليست هذه الأحكام في غير القمح أصلا . برهان ذلك : ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ أنا أحمد بن زهير بن حرب نا أبي أنا حيان بن هلال أنا همام بن يحيى بن أبي كثير : أن يعلى بن حكيم حدثه : أن يوسف بن ماهك حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه أنه قال: يا رسول الله , إني رجل أشتري هذه البيوع , فما يحل لي منها مما يحرم علي ؟ قال: " يا ابن أخي إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ". فهذا عموم لكل بيع , ولكل ابتياع , وتخصيص لهما مما ليسا بيعا ولا ابتياعا , وجواب منه عليه السلام إذ سئل عما يحل مما يحرم. فإن قيل: فإن هذا الخبر مضطرب. لأنكم رويتموه من طريق خالد بن الحارث الهجيمي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير , قال : حدثني رجل من إخواننا حدثني يوسف بن ماهك : أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه نذكر هذا الخبر وعبد الله بن عصمة متروك؟ قلنا: نعم , إلا أن همام بن يحيى رواه كما أوردنا قبل عن يحيى بن أبي كثير فسمى ذلك الرجل من الذي لم يسمه هشام , وذكر أنه يعلى بن حكيم ويعلى ثقة وذكر فيه : أن يوسف سمعه من حكيم بن حزام وهذا صحيح فإذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه أيضا من غير حكيم عن حكيم , فصار حديث خالد بن الحارث لغوا كان أو لم يكن بمنزلة واحدة . فإن قيل : فقد رويت من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ". ومن طريق سفيان بن عيينة أنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام , قال ابن عباس برأيه : ولا أحسب كل شيء إلا مثله ؟ قلنا : نعم , هذان صحيحان : إلا أنهما بعض ما في حديث حكيم بن حزام فحديث حكيم بن حزام دخل فيه : الطعام وغير الطعام , فهو أعم , فلا يجوز تركه ; لأنه فيه حكما ليس في خبر ابن عباس , وابن عمر . فإن قيل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رويتم من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب أنا هشيم أنا أبو بشر هو ابن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قلت: يا رسول الله يسألني المرء البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاع له من السوق ؟ فقال عليه السلام: " لا تبتع ما ليس عندك ". قلنا : نعم , وبه نقول هو بين كما تسمع , إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملك كما في الخبر نصا , وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده
(8/519)
ولو
أنه بالهند يقول: عندي ضيعة سرية, وعندي فرس فارة وسواء عندنا كان مغصوبا أو لم
يكن, وهو عند صاحبه, أي في ملكه وله. فإن قيل: فإنكم رويتم من طريق أبي داود أنا
زهير بن حرب أنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب السختياني حدثني عمرو بن شعيب حدثني
أبي عن أبيه عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا
بيع ما ليس عندك " قلنا: نعم, هذا صحيح, وبه نأخذ, ولا نعلم لعمرو بن شعيب
حديثا مسندا إلا هذا وحده , وآخر في الهبات رواه عن طاوس عن ابن عباس, وابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من الرجوع في الهبات إلا الوالد فيما أعطى ولده
وليس في هذا الخبر إلا الذي في حديث حكيم بن حزام من النهي عن بيع ما ليس لك فقط
وبالله تعالى التوفيق.
وممن قال بقولنا في هذا: ابن عباس كما أوردناه . وكما روينا من طريق عبد الرزاق عن
ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا تبع بيعا حتى
تقبضه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال عبد الرحمن بن عوف
والزبير لعمر: إنه تزيف علينا أوراق فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب؟ قال: فلا تفعلوا,
ولكن انطلق إلى البقيع فبع ورقك بثوب أو عرض , فإذا قبضت وكان لك فبعه وذكر الخبر.
فهذا عمر يقول بذلك, ويبين أن القبض هو الذي يكون الشيء للمرء وقولنا في هذا كقول
الحسن , وابن شبرمة وذهب قوم إلى أن هذا الحكم إنما هو في الطعام فقط يعني أن لا
يباع قبل أن يقبض وذهب آخرون إلى أنه فيما يكال أو يوزن فقط: كما روينا من طريق
يحيى بن سعيد القطان أنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن
عثمان بن عفان: لا بأس إذا اشترى الرجل البيع أن يبيعه قبل أن يقبضه ما خلا الكيل
والوزن. ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يرى بأسا
أن يبتاع الرجل بيعا لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقبضه. ومن طريق عبد الرزاق
عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: لا بأس بأن يشتري شيئا لا يكال ولا يوزن بنقد
ثم يبيعه قبل أن يقبضه وهو قول الحكم وإبراهيم, وحماد بن أبي سليمان وذكره النخعي
عمن لقي. وقال عطاء: جائز بيع كل شيء قبل أن يقبض. وقال أبو حنيفة: كل ما ملك بعقد
ينتقض العقد بهلاكه, فلا يجوز بيعه قبل قبضه: كالبيع , والإجارة, إلا العقار:
فجائز بيعه قبل قبضه. قال: وكل ما ملك بعقد لا ينتقض العقد بهلاكه: فجائز بيعه قبل
قبضه كالصداق, والجعل, والخلع, ونحوه وهذا قول لا نعلمه
(8/520)
عن
أحد قبله. وقال مالك : كل ما يؤكل والماء: فلا يحل بيعه قبل أن يقبض وما عدا هذين
فجائز بيعه قبل أن يقبض وقال مرة أخرى: كل ما يؤكل فقط , وأما الماء: فبيعه جائز
قبل قبضه وجعل في كلا قوليه: زريعة الفجل الأبيض, وزريعة الجزر, وزريعة السلق: لا
يباع شيء منها قبل القبض؟ فقلنا: هذا لا يأكله أحد أصلا, وهذا الذي أنكرتم على
الشافعي في إدخاله السقمونيا فيما يؤكل؟ فقالوا: إنه يخرج منها ما يؤكل؟ فقلنا:
والشجر يخرج منها ما يؤكل فامنعوا من بيعها قبل القبض, فانقطعوا وما نعلم قولهم
هذا كله كما هو عن أحد قبلهم. وخالف الحنفيون, والمالكيون ههنا كل قول روي عن
الصحابة رضي الله عنهم وأما الشافعي: فلم يجز بيع ما ملك ببيع, أو نكاح أو خلع,
قبل القبض أصلا وهذا قول فاسد بلا دليل. فإن قالوا: قسنا النكاح والخلع على البيع؟
قلنا: القياس كله باطل, ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل, لأن النكاح يجوز بلا
مهر يذكر أصلا, ولا يجوز البيع بلا ثمن يذكر, والنكاح لم يملك بصداق رقبة شيء
أصلا, والخلع كذلك, بخلاف البيع فظهر فساد هذا القول وبالله تعالى التوفيق. أما
حكم القمح: فالذي ذكرنا قبل هذا في الكلام المتصل بهذا من حديث ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى
يقبض فهو الطعام, فهذا تخصيص للطعام في البيع خاصة وعموم له بأي وجه ملك. فإن قيل:
من أين خصصتم القمح بذلك دون سائر الطعام؟ قلنا: لأن اسم الطعام في اللغة التي بها
خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلق هذا إلا على القمح وحده, وإنما يطلق
على غيره بإضافة. وقد قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فأراد عز وجل الذبائح لا ما يأكلون فإنهم
يأكلون الميتة , والدم , والخنزير , ولم يحل لنا شيء من ذلك قط. وقال الله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فذكر تعالى الطعم في الماء بإضافة , ولا
يسمى الماء طعاما. وقال لقيط بن معمر الإيادي جاهلي فصيح في شعر له مشهور:
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم يكاد جواه يحطم الضلعا
فأضاف الطعم إلى النوم والنوم ليس طعاما بلا شك. وقد ذكرنا قول عبد الله بن معمر
وكان طعامنا يومئذ الشعير, فذكر الطعام في الشعير في إضافة لا بإطلاق. وقد ذكرنا
من طريق أبي سعيد الخدري قوله: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر: صاعا من طعام, صاعا من شعير, صاعا من تمر, صاعا من أقط فلم يطلق
الطعام إلا على القمح وحده. لا على الشعير ولا غيره. وروينا من طريق الحجاج بن
المنهال أنا يزيد
(8/521)
بن
إبراهيم أنا محمد بن سيرين قال: عرض علي عبد الله بن عتبة بن مسعود زيتا له؟ فقلت
له: إن أصحاب الزيت قلما يستوفون حتى يبيعون, فقال: إنما سمي الطعام أي إنما أمر
بالبيع بعد الاستيفاء في الطعام فلم ير الزيت طعاما. وأبو سعيد الخدري وعبد الله
بن عتبة بن مسعود: حجتان في اللغة قاطعتان; لا سيما وعبد الله هذلي قبيلة مجاورة
للحرم فلغتهم لغة قريش. وممن قال بقولنا: إن الطعام بإطلاق إنما هو القمح وحده:
أبو ثور وأما القمح يشترى جزافا فلا يحل بيعه حتى يقبض وينقل عن موضعه: فلما
رويناه من طريق البخاري أنا إسحاق هو ابن راهويه أنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي
عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين
يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى
يؤووه إلى رحالهم. ورويناه من طريق مسلم أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا أبي أنا
عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " قال وكنا نشتري الطعام من
الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه
ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم
بن عبد الله بن عمرعن ابن عمر: أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه .
قال أبو محمد : ولا يمكن أن يكون غيره عليه السلام يضرب المسلمين بالمدينة على
شريعة يؤمرون بها في الأسواق بغير علمه أصلا فصح أنه جرم كبير لا يرخص فيه. فإن
قيل: إن في بعض ما رويتم "حتى يؤووه إلى رحالهم" ؟ قلنا : نعم , وكل
مكان رحله إليه فهو رحل له إذا كان مباحا له أن يرحله إليه. فإن قيل: فقد رويتم
هذا الحديث عن مالك عن نافع عن ابن عمر فلم يذكر فيه الجزاف؟ قلنا: عبيد الله بن
عمر إن لم يكن فوق مالك, وإلا فليس هو دونه أصلا وقد رواه عن نافع فذكر فيه
الجزاف. ورواه الزهري عن سالم كما أوردنا فذكر فيه الجزاف وهو خبر واحد بلا شك.
وجمهور الرواة عن مالك لهذا الحديث في الموطأ وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف, كما
ذكره عبيد الله عن نافع, والزهري عن سالم, وإنما أسقط ذكر الجزاف: القعنبي, ويحيى,
فقط فصح أنهما وهما فيه بلا شك; لأنه يتعين خبر واحد وبالله تعالى التوفيق. وإنما
كان يصح الأخذ برواية القعنبي, ويحيى, لو أمكن أن يكونا خبرين اثنين عن موطئين
مختلفين وقولنا ههنا هو قول الشافعي وأبي سليمان, ولم يقل به مالك, ولا نعلم
لمقلده ولا له حجة أصلا وبالله تعالى التوفيق.
(8/522)
وأما القمح يبتاعه المرء بكيل فلا يحل له بيعه حتى يكتاله لنفسه, ثم يكتاله الذي يبيع منه ولا بد سواء حضرا كلاهما كيله قبل ذلك أو لم يحضرا, فلما رويناه من طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أنا محمد بن عبد الرحيم أنا مسلم هو ابن إبراهيم أنا مخلد بن الحسين الأزدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان , فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان ". ورويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا شريك عن ابن أبي ليلى عن محمد بن بيان عن ابن عمر أنه سئل عمن اشترى الطعام وقد شهد كيله؟ قال: لا, حتى يجري فيه الصاعان. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا محمد بن فضيل عن مطرف هو ابن طريف قلت للشعبي: أكون شاهد الطعام وهو يكال فأشتريه, آخذه بكيله؟ فقال: مع كل صفقة كيلة ومن طريق ابن أبي شيبة أنا مروان عن زياد مولى آل سعد قلت لسعيد بن المسيب: رجل ابتاع طعاما فاكتاله, أيصلح لي أن اشتريه بكيل الرجل؟ قال: لا, حتى يكال بين يديك وصح عنه أنه قال فيه: هذا ربا. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا زيد بن الحباب عن سوادة بن حيان سمعت محمد بن سيرين سئل عن رجلين اشترى أحدهما طعاما والآخر معه؟ فقال: قد شهدت البيع والقبض؟ فقا : خذ مني ربحا وأعطنيه فقال: لا, حتى يجري فيه الصاعان, فتكون لك زيادته وعليك نقصانه. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن عمر أبي حفص قال: سمعت الحسن البصري وسئل عمن اشترى طعاما ما وهو ينظر إلى كيله؟ قال: لا , حتى يكيله. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: في السنة التي مضت: إن من ابتاع طعاما أو ودكا كيلا أن يكتاله قبل أن يبيعه, فإذا باعه اكتيل منه أيضا إذا باعه كيلا وهو قول عطاء بن أبي رباح , وأبي حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , وأبي سليمان . وقال مالك: إذا بيع بالنقد فلا بأس بأن يصدق البائع في كيله ولا يكتاله ويكره ذلك في الدين وهذا قول لا نعلمه عن أحد قبله, وخالف فيه صاحبا لا يعرف له مخالف منهم , وخالف فيه جمهور العلماء, وما نعلم لقوله حجة أصلا, لا من نص قرآن, ولا سنة, ولا رواية سقيمة, ولا قياس, ولا رأي له وجه. فإن قيل: فقد رويتم من طريق أبي داود عن محمد بن عوف الطائي أنا أحمد بن خالد الوهبي أنا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل أعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يدي, فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؟ فإن رسول الله
(8/523)
صلى الله عليه وسلم: " نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى تحوزها التجار إلى رحالهم " قلنا: هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول وبالله لو صح عندنا لسارعنا إلى الأخذ به نحمد الله على ما يسرنا له من ذلك كثيرا. وكل ما ذكرنا في هذه المسائل فمن فعل خلاف ذلك فسخ أبدا , فإن كان قد بلغه الخبر ضرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن عمر قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
(8/524)
المجلد
التاسع
كتاب البيوع
الشركة والاقالة والتولية كلها بيوع مبتدأة لا يجوز في شيء منها
...
1508 - مَسْأَلَةٌ: وَالشَّرِكَةُ، وَالإِقَالَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ: كُلُّهَا
بُيُوعٌ مُبْتَدَأَةٌ لاَ يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي
سَائِرِ الْبُيُوعِ لاَ تَحَاشَ، شَيْئًا
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِنَا فِي الشَّرِكَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ.
وَقَالُوا: "الإِقَالَةُ فَسْخُ بَيْعٍ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا" وَقَالَ
رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: "كُلُّ مَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ
الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الأَكْتِيَالِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ فِيهِ بِالشَّرِكَةِ،
وَالتَّوْلِيَةِ، وَالإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَبْلَ الأَكْتِيَالِ".
وَرُوِيَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي
رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ حَدِيثًا مُسْتَفَاضًا فِي الْمَدِينَةِ: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا
فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ
أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يَقْبَلَهُ".
وقال مالك: "إنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ
بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ، وَالإِقَالَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
يَعْنِي قَبْلَ الْقَبْضِ".
قال أبو محمد: "وَمَا نَعْلَمُ رُوِيَ هَذَا إِلاَّ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَعَنْ
طَاوُوس فَقَطْ وَقَوْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْ جَاءَ عَنْهُ
خِلاَفُهَ".
قَالَ عَلِيٌّ: "أَمَّا خَبَرُ رَبِيعَةَ فَمُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
مُرْسَلٍ، وَلَوْ اسْتَنَدَ لَسَارَعْنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ
اسْتِفَاضَتُهُ، عَنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَوْلَى بِأَنْ
يَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْ رَبِيعَةَ، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ بَوْنٌ
بَعِيدٌ، وَالزُّهْرِيُّ مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: "التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
وبه إلى مَعْمَرٍ"، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ
سِيرِينَ: "لاَ تَوْلِيَةَ حَتَّى يُقْبَضَ وَيُكَالَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ
قَالَ: "سَأَلْت الْحَسَنَ، عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الطَّعَامَ
فَيُوَلِّيهِ الرَّجُلَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الشَّعْشَاعِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَبِرَأْيِك
تَقُولُهُ قَالَ: لاَ أَقُولُهُ بِرَأْيِي، وَلَكِنَّا أَخَذْنَاهُ، عَنْ
سَلَفِنَا، وَأَصْحَابِنَا".
قَالَ عَلِيٌّ: "سَلَفُ الْحَسَنِ هُمْ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،،
أَدْرَكَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ صَاحِبٍ وَأَكْثَرَ، وَغَزَا مَعَ مِئِينَ
مِنْهُمْ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ، فَلَوْ أَقْدَمَ امْرُؤٌ
عَلَى دَعْوَى الإِجْمَاعِ
(9/2)
هَهُنَا
لَكَانَ أَصَحَّ مِنْ الإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ بِلاَ شَكٍّ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا
بْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ زَكَرِيَّا: ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ فِطْرٌ: "عَنِ الْحَكَمِ، ثُمَّ اتَّفَقَ
الشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ عَلَى أَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ قَالَ سُفْيَانُ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: "وَالشَّرِكَةُ بَيْعٌ، وَلاَ يُشْرِكُ حَتَّى يَقْبِضَ
فَهَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَرَى".
قال أبو محمد: "الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، إنَّمَا هُوَ نَقْلُ مِلْكِ
الْمَرْءِ عَيْنًا مَا صَحَّ مِلْكُهُ لَهَا، أَوْ بَعْضَ عَيْنٍ مَا صَحَّ
مِلْكُهُ لَهَا إلَى مِلْكٍ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ
نَفْسُهُ، لَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ لِلْبَيْعِ، وَلاَ
يَكُونُ بَيْعٌ أَصْلاً إِلاَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَصَحَّ أَنَّهُمَا بَيْعٌ
صَحِيحٌ، وَهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ مَا
يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا هَهُنَا فَقَطْ وَهَذَا تَخْصِيصٌ
بِلاَ برهان وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ
وَنَقَضُوا هَهُنَا أَصْلَهُمْ، فَتَرَكُوا مُرْسَلَ رَبِيعَةَ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ وَمَا نَعْلَمُ الْمَالِكِيِّينَ احْتَجُّوا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، وَالإِقَالَةُ
مَعْرُوفٌ.
فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَالْبَيْعُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ، وَمَا عَهِدَنَا
الْمَعْرُوفَ تُبَاحُ فِيهِ مُحَرَّمَاتٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ مُنْكَرًا
لاَ مَعْرُوفًا. وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الإِقَالَةِ
إثْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ
قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ".
(9/3)
الدليل
على مشروعية الاقاله ومذاهب العلماء في ذلك
...
1509 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِقَالَةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم الْحَضُّ عَلَيْهَا:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَا
حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَالَ
نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ" وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا، إنَّمَا هِيَ فَسْخُ بَيْعٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "هِيَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ
فَسْخُ بَيْعٍ.وَرُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا بَيْعٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَسْخُ بَيْعٍ: فأما تَقْسِيمُ أَبِي
يُوسُفَ فَدَعْوَى بِلاَ برهان، وَتَقْسِيمٌ بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَهُوَ بَاطِلٌ" وَأَمَّا مَنْ قَالَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا"،
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا
بِاسْمِ الإِقَالَةِ، وَاتَّبَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ
يُسَمِّهَا عليه السلام بَيْعًا، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ لاَ تُؤْخَذُ
إِلاَّ عَنْهُ عليه السلام، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى بَيْعًا، لأََنَّهُ عليه
السلام لَمْ يُسَمِّهَا هَذَا الأَسْمَ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى
جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لاَ
يَجُوزُ.فَصَحَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَيْعًا، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ
هَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: "احْتِجَاجُهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَقَوْلُهُمْ حَقٌّ، إِلاَّ أَنَّنَا لاَ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ عليه
السلام سَمَّى إقَالَةً: "فِعْلَ مَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ بَيْعًا ثُمَّ
اسْتَقَالَهُ فِيهِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا ابْتَاعَ مِنْهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ
مِنْهُ، وَأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ بَيْعًا، وَلاَ يَجِدُونَ
هَذَا أَبَدًا، لاَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ".
(9/3)
وَلاَ
سَقِيمَةٍ وهذا الخبر الْمُرْسَلُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ لَوْ شِئْنَا أَنْ
نَسْتَدِلَّ مِنْهُ بِأَنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ لَفَعَلْنَا لأََنَّهُ فِيهِ
النَّهْيُ، عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِلاَّ مَنْ أَشْرَكَ، أَوْ وَلَّى،
أَوْ أَقَالَ فَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهَا بُيُوعٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةِ
الْبُيُوعِ.وَأَمَّا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا فِيهِ
الْحَضُّ عَلَى الإِقَالَةِ فَقَطْ، وَالإِقَالَةُ تَكُونُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ،
لَكِنْ فِي الْهِبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلاَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الإِقَالَةَ
لاَ تُسَمَّى بَيْعًا وَلاَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ فَبَطَلَ مَا صَدَّرُوا بِهِ
مِنْ هَذَا الأَحْتِجَاجِ الصَّحِيحِ أَصْلَهُ الْمَوْضُوعَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ.وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي
السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَاطِلٌ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الدَّعْوَى عَلَى
الأُُمَّةِ، وَمَا وَقَعَ الإِجْمَاعُ قَطُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ، فَكَيْفَ
عَلَى الإِقَالَةِ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَشُرَيْحٍ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَعْقِلٍ وطَاوُوس، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ أَخْذِ بَعْضِ
السَّلَمِ، وَالإِقَالَةِ فِي بَعْضِهِ، فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ ؟فَلَيْتَ شِعْرِي
هَلْ تُقِرُّوا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ أَوَّلَهُمْ، عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى
أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ؟ أَمْ تُقِرُّوا جَمِيعَ
عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْ أَقْصَى خُرَاسَانَ إلَى الأَنْدَلُسِ فَمَا بَيْنَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَمَا
يَخْتَلِفُ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ مِنْ الْجِنِّ قَوْمًا صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ،
لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ، فَلأَُولَئِكَ الْجِنِّ مِنْ الْحَقِّ وَوُجُوبِ
التَّعْظِيمِ مِنَّا، وَمِنْ مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ، وَالدِّينِ، مَا لِسَائِرِ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم, هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَنْ
لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَحِمَ اللَّهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
فَلَقَدْ صَدَقَ إذْ يَقُولُ: "مَنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، مَا
يُدْرِيهِ لَعَلَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا لَكِنْ لِيَقُلْ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا
هَذِهِ أَخْبَارُ الْمَرِيسِيِّ، وَالأَصَمِّ".
قال أبو محمد: "لاَ تَحِلُّ دَعْوَى الإِجْمَاعِ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا: مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَرَفُوهُ
بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْهُمْ وَأَقَرُّوا بِهِ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مَنْ
خَالَفَهُ كَافِرًا خَارِجًا، عَنِ الإِسْلاَمِ، كَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ،
وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَالإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ،
وَجُمْلَةِ الزَّكَاةِ، وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ، وَمِنْ الْجَنَابَةِ،
وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّمِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا
الصِّنْفِ فَقَطْ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الإِجْمَاعِ عَلَى
جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لَكَانَ بَيْعًا مُسْتَثْنًى بِالإِجْمَاعِ
مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا
يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ".رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو
(9/4)
بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا أَسْلَفْت فِي
شَيْءٍ إلَى أَجَلٍ فَسَمِّي فَجَاءَ ذَلِكَ الأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي
أَسْلَفْت فِيهِ: فَخُذْ عَرَضًا بِأَنْقَصَ، وَلاَ تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ وَلَمْ
يُفْتِ بِالإِقَالَةِ".
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ تَجُوزُ الإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ، لأََنَّهُ بَيْعُ
مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَبَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعٌ
مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَيَّمَا فِي الْعَالَمِ هُوَ وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ
بِالْبَاطِلِ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِجَوَازِهِ نَصٌّ فَيَسْتَثْنِيهِ مِنْ جُمْلَةِ
هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا أَسَلَفَ
فِيهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُوجَدَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِصَاصًا وَمُعَاقَبَةً
مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَتَرَاضَيَا بِهِ: قِيمَةَ مَا وَجَبَ لَهُ عِنْدَهُ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وَحَرِيمَةُ الْمَالِ
حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الإِحْسَانَ
إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يَأْخُذَ
بَعْضَ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا شَاءَ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقَ
بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُفْلِسِ إذْ قَالَ:
"تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ
وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ " فِي
التَّفْلِيسِ " وَفِي " الْجَوَائِحِ " مِنْ كِتَابِنَا
هَذَا".
قال أبو محمد: "فَإِذَا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ فَلِنَقُلْ عَلَى
تَصْحِيحِ قَوْلِنَا بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى، فَنَقُولُ وَبِهِ تَعَالَى
نَتَأَيَّدُ: إنَّ الإِقَالَةَ لَوْ كَانَتْ فَسْخُ بَيْعٍ لَمَا جَازَتْ إِلاَّ
بِرَدِّ عَيْنِ الثَّمَنِ نَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ، وَلاَ بُدَّ لَهُ كَمَا قَالَ
ابْنُ سِيرِينَ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ
أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ: "كُنَّا نَخْتَلِفُ إلَى السَّوَادِ فِي
الطَّعَامِ وَهُوَ أَكْدَاسٌ قَدْ حُصِدَ فَنَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ الْكُرَّ بِكَذَا
وَكَذَا، وَنَنْقُدُ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ الْعُمَّالُ فِي
الدِّرَاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفِي لَنَا بِمَا سُمِّيَ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَقَصَ طَعَامُهُ فَيَطْلُبُ إلَيْنَا أَنْ نَرْتَجِعَ بِقَدْرِ
مَا نَقَصَ رُءُوسُ أَمْوَالِنَا"، فَسَأَلْت الْحَسَنَ، عَنْ ذَلِكَ؟
فَكَرِهَهُ إِلاَّ أَنْ يُسْتَوْفَى مَا سُمِّيَ لَنَا، أَوْ نَرْتَجِعَ أَمْوَالَنَا
كُلَّهَا، وَسَأَلْت ابْنَ سِيرِينَ؟ فَقَالَ: "إنْ كَانَتْ دَرَاهِمُك
بِأَعْيَانِهَا فَلاَ بَأْسَ"، وَسَأَلْت عَطَاءً فَقَالَ: "مَا أَرَاك
إِلاَّ قَدْ رَفَقْت وَأَحْسَنْت إلَيْهِ".
قال أبو محمد: "هَذِهِ صِفَةُ الْفَسْخِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَقُولُ: إنَّ الْبَيْعَ
عَقْدٌ صَحِيحٌ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ
الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ كَانَ أَوْ هُوَ
كَائِنٌ فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ بِالْيَقِينِ لاَ بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ، فَلاَ
يَحِلُّ فَسْخُ عَقْدٍ صَحَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ، وَلاَ نَصَّ فِي جَوَازِ
فَسْخِهِ مُطَارَفَةً بِتَرَاضِيهِمَا، إِلاَّ فِيمَا جَاءَ نَصٌّ بِفَسْخِهِ،
كَالشُّفْعَةِ، وَمَا فِيهِ الْخِيَارُ بِالنَّصِّ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَالِك،
وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْ أَجَازَ الْفَسْخَ نَصٌّ أَصْلاً فَقَدْ صَحَّ: أَنَّ
الإِقَالَةَ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ بِتَرَاضِيهِمَا، يَجُوزُ فِيهَا مَا يَجُوزُ
فِي الْبُيُوعِ، وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ فِي الْبُيُوعِ. وَمَنْ رَأَى
أَنَّ الإِقَالَةَ فَسْخُ بَيْعٍ لَزِمَهُ أَنْ
(9/5)
لاَ يُجِيزَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، لأََنَّ الزِّيَادَةَ إذْ لَمْ تَكُنْ بَيْعًا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.وَأَمَّا مَنْ رَآهَا بَيْعًا فَإِنَّهُ يُجِيزُهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعِ أَوَّلاً، وَبِأَقَلَّ، وَبِغَيْرِ مَا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَحَالًّا وَفِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى أَجَلٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الأَجَلُ"، وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/6)
1510
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ دَيْنٍ يَكُونُ لأَِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ،
لاَ بِنَقْدٍ، وَلاَ بِدَيْنٍ، لاَ بِعَيْنٍ وَلاَ بِعَرَضٍ، كَانَ بِبَيِّنَةٍ
أَوْ مُقِرًّا بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَوَجْهُ الْعَمَلِ
فِي ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْحَلاَلَ: أَنْ يَبْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّنْ
شَاءَ مَا شَاءَ، مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ
بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ، ثُمَّ يُحِيلُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الَّذِي
لَهُ عِنْدَهُ الدَّيْنُ، فَهَذَا حَسَنٌ.
برهان ذَلِكَ أَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولٌ، وَمَا لاَ يَدْرِي عَيْنَهُ، وَهَذَا هُوَ
أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ َهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: "سُئِلَ
الشَّعْبِيُّ عَمَّنْ اشْتَرَى صَكًّا فِيهِ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ بِثَوْبٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ، قَالَ وَكِيعٌ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُوَ غَرَرٌ. وقال مالك: إنْ كَانَ
مُقِرًّا بِمَا عَلَيْهِ جَازَ بَيْعُهُ بِعَرَضٍ نَقْدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُقِرًّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ
لأََنَّهُ شِرَاءُ خُصُومَةٍ".
قال علي: "وهذا لاَ شَيْءَ، لأََنَّهُ وَإِنْ أَقَرَّ الْيَوْمَ فَيُمْكِنُ
أَنْ يُنْكِرَ غَدًا، فَيَرْجِعُ الأَمْرُ إلَى الْبَيِّنَةِ بِإِقْرَارِهِ،
فَيَحْصُلُ عَلَى شِرَاءِ خُصُومَةٍ، وَلاَ فَرْقَ.وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لَهُ
بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الأَسْلَمِيُّ
أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ
فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلٍ فَيَبِيعُهُ
فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِهِ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَضَى فِي مُكَاتَبٍ اشْتَرَى مَا عَلَيْهِ بِعَرَضٍ فَجَعَلَ
الْمُكَاتَبَ أَوْلَى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَوْلَى
إذَا أَدَّى مِثْلَ الَّذِي أَدَّى صَاحِبُهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَمَّنْ لَهُ دَيْنٌ فَابْتَاعَ بِهِ غُلاَمًا
قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ".
قال أبو محمد: "حَدِيثَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُرْسَلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: عَنِ الأَسْلَمِيِّ وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ
مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ. وَالآخَرُ أَيْضًا: عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ
صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ. وَلاَ حُجَّةَ لِلْمَالِكِيِّينَ
فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، وَلاَ فِي خَبَرِ جَابِرٍ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ بِإِقْرَارٍ دُونَ بَيِّنَةٍ فَهُمْ مُخَالِفُونَ
لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
(9/6)
1511 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لاَ فِي سَاقِيَةٍ، وَلاَ مِنْ نَهْرٍ
(9/6)
1512
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْخَمْرِ، لاَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ،
وَلاَ بَيْعُ الْخَنَازِيرِ كَذَلِكَ، وَلاَ شُعُورِهَا، وَلاَ شَيْءٍ مِنْهَا،
وَلاَ بَيْعُ صَلِيبٍ، وَلاَ صَنَمٍ، وَلاَ مَيْتَةٍ، وَلاَ دَمٍ إِلاَّ الْمِسْكَ
وَحْدَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ بَيْعُهُ وَمِلْكُهُ، فَمَنْ بَاعَ مِنْ الْمُحَرَّمِ
الَّذِي ذَكَرْنَا شَيْئًا فُسِخَ أَبَدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ [، عَنِ الأَعْمَشِ ]، عَنْ مُسْلِمٍ هُوَ أَبُو الضُّحَى، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إلَى الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ" .وبه
إلى مُسْلِمٍ: أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ
الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ
حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ، فَقِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شَحْمَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا
السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ:
لاَ، هُوَ حَرَامٌ، قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ
عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
قال أبو محمد: "مَوَّهَ قَوْمٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ،
وَلَيْسَ فِيهِ لِلْقِيَاسِ أَثَرٌ، لَكِنْ فِيهِ: أَنَّ الأَوَامِرَ عَلَى
الْعُمُومِ، لأََنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ
الشُّحُومَ عَلَى الْيَهُودِ فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَهَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، إذْ خَصُّوا التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ
عَلَى عُمُومِهِ. فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّهُ مَتَى حُرِّمَ شَيْءٌ فَحَرَامٌ
مِلْكُهُ، وَبَيْعُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، وَأَكْلُهُ عَلَى عُمُومِ
تَحْرِيمِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِنْزِيرَ، وَالْخَمْرَ
وَالْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، فَحَرَّمَ مِلْكَ كُلِّ ذَلِكَ، وَشُرْبَهُ،
وَالأَنْتِفَاعَ بِهِ، وَبَيْعَهُ. وَقَدْ أَوْجَبَ
(9/8)
للَّهُ
تَعَالَى دِينَ الإِسْلاَمِ عَلَى كُلِّ إنْسٍ وَجِنٍّ.وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ
اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}
فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس: بِحُكْمِ
الإِسْلاَمِ، أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَمَنْ أَجَازَ لَهُمْ بَيْعَ الْخَمْرِ
ظَاهِرًا وَشِرَاءَهَا كَذَلِكَ، وَتَمَلُّكَهَا عَلاَنِيَةً، وَتَمَلُّكَ
الْخَنَازِيرِ كَذَلِكَ، لأََنَّهُمْ مِنْ دِينِهِمْ بِزَعْمِهِ، وَصَدَّقَهُمْ
فِي ذَلِكَ: لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا شَرَائِعَهُمْ فِي بَيْعِ
مَنْ زَنَى مِنْ النَّصَارَى الأَحْرَارِ، وَخِصَاءِ الْقِسِّيسِ إذَا زَنَى، وَقَتْلِ
مَنْ يَرَوْنَ قَتْلَهُ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَظَهَرَ
تَنَاقُضُهُمْ.وقال أبو حنيفة: "إذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا
بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ خَمْرًا: جَازَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ شُنْعِهِ الَّتِي
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهَا.وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّطَيُّبُ بِالْمِسْكِ وَتَفْضِيلُهُ عَلَى
الطِّيبِ وَأَيْضًا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الدَّمِ وَصِفَاتِهِ وَحْدَهُ،
فَلَيْسَ دَمًا، وَالأَحْكَامُ إنَّمَا هِيَ عَلَى الأَسْمَاءِ، وَالأَسْمَاءُ
إنَّمَا هِيَ عَلَى الصِّفَاتِ، وَالْحُدُودِ".
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَا
عُمَرُ الْمُكْتِبُ أَنَا حِزَامٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ زَكَا أَوْ زَكَّارٍ
قَالَ: "نَظَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى زُرَارَةَ فَقَالَ: مَا
هَذِهِ الْقَرْيَةُ قَالُوا: قَرْيَةٌ تُدْعَى زُرَارَةَ يُلْحَمُ فِيهَا،
وَيُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ قَالَ: أَيْنَ الطَّرِيقُ إلَيْهَا قَالُوا: بَابُ
الْجِسْرِ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَأْخُذُ لَك سَفِينَةً قَالَ:
لاَ، تِلْكَ شَجَرَةٌ، وَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِي الشَّجَرَةِ، انْطَلِقُوا بِنَا
إلَى بَابِ الْجِسْرِ، فَقَامَ يَمْشِي حَتَّى أَتَاهَا، فَقَالَ عَلَيَّ
بِالنِّيرَانِ أَضْرِمُوهَا فِيهَا، فَاحْتَرَقَتْ".وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي
عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: "بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ
رَجُلاً مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ، فَكَتَبَ: أَنْ
اكْسِرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدَرْتُمْ لَهُ عَلَيْهِ، وَسَيِّرُوا كُلَّ مَاشِيَةٍ
لَهُ، وَلاَ يُؤْوِيَنَّ أَحَدٌ لَهُ شَيْئًا. فَهَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ،
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِيمَنْ بَاعَ الْخَمْرَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ
فَخَالَفُوهُمَا".
(9/9)
ولا
يحل بيع كلب أصلا لاكلب صيد ولا كلب ماشية
...
1513 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلاً، لاَ كَلْبَ صَيْدٍ،
وَلاَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلاَ غَيْرَهُمَا فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَلَمْ
يَجِدْ مَنْ يُعْطِيه إيَّاهُ فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ، وَهُوَ حَلاَلٌ لِلْمُشْتَرِي
حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ يَنْتَزِعُ مِنْهُ الثَّمَنَ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ،
كَالرِّشْوَةِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَفِدَاءِ الأَسِيرِ، وَمُصَانَعَةِ
الظَّالِمِ، وَلاَ فَرْقَ.، وَلاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ كَلْبٍ أَصْلاً، إِلاَّ
لِمَاشِيَةٍ، أَوْ لِصَيْدٍ، أَوْ لِزَرْعٍ، أَوْ لِحَائِطٍ وَاسْمُ الْحَائِطِ
يَقَعُ عَلَى الْبُسْتَانِ وَجِدَارِ الدَّارِ فَقَطْ. وَلاَ يَحِلُّ أَيْضًا:
قَتْلُ الْكِلاَبِ، فَمَنْ قَتَلَهَا ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِمَا
يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنْهُ، إِلاَّ الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، أَوْ
الأَسْوَدَ
(9/9)
ذَا
النُّقْطَتَيْنِ أَيْنَمَا كَانَتْ النُّقْطَتَانِ مِنْهُ فَإِنْ عَظُمَتَا حَتَّى
لاَ تُسَمَّيَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نُقْطَتَيْنِ، لَكِنْ تُسَمَّى لَمْعَتَيْنِ:
لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، فَلاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ أَصْلاً لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا،
وَقَتْلُهُ وَاجِبٌ حَيْثُ وُجِدَ.
برهان ذَلِك مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ
الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ
قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ
الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ" فَهَذَانِ صَاحِبَانِ فِي
نَسَقٍ.وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ
الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ
ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ" وَصَحَّ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ فَهَذَا
نَقْلٌ تَوَاتَرَ لاَ يَسَعُ تَرْكُهُ، وَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ.وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَرْبَعٌ مِنْ السُّحْتِ، ضِرَابُ الْفَحْلِ، وَثَمَنُ
الْكَلْبِ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ". وَرُوِّينَاهُ، عَنْ
جَابِرٍ أَيْضًا وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
إسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَبْتَرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَفَعَهُ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَثَمَنُ الْخَمْرِ
حَرَامٌ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ.وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ قَالَ: "أَخْبَثُ الْكَسْبِ كَسْبُ الزَّمَّارَةِ، وَثَمَنُ
الْكَلْبِ. الزَّمَارَةُ" الزَّانِيَةُ، سَمِعْت أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ
ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي
لَيْلَى يَقُولُ: "مَا أُبَالِي ثَمَنَ كَلْبٍ أَكَلْتُ، أَوْ ثَمَنَ
خِنْزِيرٍ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ،
عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْت الْحَكَمَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَكْرَهَانِ
ثَمَنَ الْكَلْبِ، وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ السُّنَنَ فِي ذَلِكَ:
"وَأَبَاحُوا بَيْعَ الْكِلاَبِ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهَا". وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ:
"أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصِّيصِيُّ،
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم نَهَى، " عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ
صَيْدٍ" وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
(9/10)
عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ سُحْتٌ إِلاَّ
كَلْبَ صَيْدٍ" وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَمَّنْ
أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ هُنَّ سُحْتٌ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَمَهْرُ
الزَّانِيَةِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ اaْعَقُورِ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الشِّمْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ الْعَقُورِ" .
قال أبو محمد: "أَمَّا حَدِيثَا ابْنِ وَهْبٍ هَذَانِ فَأَسْقَطُ مِنْ أَنْ
يُشْتَغَلَ بِهِمَا إِلاَّ جَاهِلٌ بِالْحَدِيثِ، أَوْ مُكَابِرٌ يَعْلَمُ
الْحَقَّ فَيُولِيَهُ ظَهْرَهُ، لأََنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي غَايَةِ
السُّقُوطِ وَالأَطِّرَاحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَالآخَرَ مُنْقَطِعٌ
فِي مَوْضِعَيْنِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا إِلاَّ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ
فَقَطْ وَهَذَا حَقٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ مَا سِوَاهُ مِنْ
الْكِلاَبِ وَجَاءَتْ الآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا بِزِيَادَةٍ
عَلَى هَذَيْنِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا".
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ لأََنَّ فِيهِ
يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ، وَالْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ جِدًّا
قَدْ شَهِدَ مَالِكٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِالْكَذِبِ، وَجَرَحَهُ
أَحْمَدُ وَأَمَّا الْمُثَنَّى فَجَرَّحَهُ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ،
وَتَرَكَهُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ اسْتِثْنَاءَ كَلْبِ الصَّيْدِ فَقَطْ،
وَهُمْ يُبِيحُونَ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِنْ ثَمَنِ كَلْبِ الزَّرْعِ، وَكَلْبِ
الْمَاشِيَةِ وَسَائِرِ الْكِلاَبِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ وَأَمَّا
حَدِيثُ جَابِرٍ: فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَلَمْ
يَسْمَعْهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، حَدَّثَنِي
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
أَحْمَدَ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: "إنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ دَفَعَ
إلَيَّ كِتَابَيْنِ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: لَوْ سَأَلْته أَسْمَعُ هَذَا كُلَّهُ
مِنْ جَابِرٍ فَرَجَعْت إلَيْهِ فَقُلْت: هَذَا كُلُّهُ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ
فَقَالَ: مِنْهُ مَا سَمِعْته، وَمِنْهُ مَا حَدَّثْت عَنْهُ، فَقُلْت لَهُ:
أَعْلِمْ لِي عَلَى مَا سَمِعْتَ فَأَعْلَمَ لِي عَلَى هَذَا الَّذِي
عِنْدِي".
قال أبو محمد: "فَكُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ، أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ جَابِرٌ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ اللَّيْثُ
عَنْهُ"،عَنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ بِإِقْرَارِهِ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ، وَلاَ
هُوَ مِمَّا عِنْدَ اللَّيْثِ فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ،
فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ شَيْءٍ مِنْ الْكِلاَبِ غَيْرَ كَلْبِ الصَّيْدِ،
وَالنَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ سَائِرِهَا وَهُمْ يُبِيحُونَ أَثْمَانَ سَائِرِ
الْكِلاَبِ الْمُتَّخَذَةِ لِغَيْرِ الصَّيْدِ: فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا
بِهِ مِنْ الآثَارِ.وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: "كَانَ
النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا حِينَ الأَمْرِ بِقَتْلِهَا، فَلَمَّا حُرِّمَ قَتْلُهَا
وَأُبِيحَ اتِّخَاذُ بَعْضِهَا انْتَسَخَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ مَا أُبِيحَ
اتِّخَاذُهُ مِنْهَا".
(9/11)
قال
أبو محمد: "هَذَا كَذِبٌ بَحْتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ
عليه السلام، لأََنَّهُ إخْبَارٌ بِالْبَاطِلِ، وَبِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ
نَصٌّ، وَدَعْوَى بِلاَ برهان، وَلَيْسَ نَسْخُ شَيْءٍ بِمُوجِبِ نَسْخِ شَيْءٍ
آخَرَ، وَلَيْسَ إبَاحَةُ اتِّخَاذِ شَيْءٍ بِمُبِيحٍ لِبَيْعِهِ، فَهَؤُلاَءِ
هُمْ الْقَوْمُ الْمُبِيحُونَ اتِّخَاذَ دُودِ الْقَزِّ، وَنَحْلِ الْعَسَلِ،
وَلاَ يُحِلُّونَ ثَمَنَهُمَا إضْلاَلاً وَخِلاَفًا لِلْحَقِّ، وَاِتِّخَاذُ
أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ حِلٌّ، وَلاَ يَحِلُّ بِيَعُهُنَّ: فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا
الأَحْتِجَاجِ". وَقَالُوا: "حُرِّمَ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ
الْحَجَّامِ، فَلَمَّا نُسِخَ تَحْرِيمُ كَسْبِ الْحَجَّامِ نُسِخَ تَحْرِيمُ
ثَمَنِ الْكَلْبِ".
قال أبو محمد: "وَهَذَا كَذِبٌ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، وَكَلاَمٌ فَاسِدٌ،
وَدَعْوَى بِلاَ برهان. وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يُنْسَخَ أَيْضًا تَحْرِيمُ
مَهْرِ الزَّانِيَةِ، لأََنَّهُ ذُكِرَ مَعَهُمَا، ثُمَّ مَنْ لَهُمْ بِنَسْخِ
تَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
فَوَضَحَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الآثَارَ
الْمُتَوَاتِرَةَ، وَصَاحِبَيْنِ لاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا"، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ ذَكَرُوا قَضَاءَ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو بِقِيمَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ قلنا: " لَيْسَ هَذَا خِلاَفًا،
لأََنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا، وَلاَ ثَمَنًا، إنَّمَا هُوَ قِصَاصُ مَالٍ، عَنْ فَسَادِ
مَالٍ فَقَطْ، وَلاَ ثَمَنَ لِمَيِّتٍ أَصْلاً".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُمَا كَرِهَا ثَمَنَ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، وَكَرِهَا ثَمَنَ
الْهِرِّ وَأَبُو الْمُهَزِّمِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ خَالَفُوهُمَا فِي ثَمَنِ
الْهِرِّ كَمَا تَرَى. وَقَدْ رُوِّينَا إبَاحَةَ ثَمَنِ الْكَلْبِ، عَنْ عَطَاءٍ،
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إبَاحَةَ ثَمَنِ كَلْبِ
الصَّيْدِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَمَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَتَحِلُّ هِبَتُهُ
فَإِمْسَاكُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُ فَضْلٌ، عَنْ حَاجَتِهِ ذَلِكَ: الْفَضْلُ
عَمَّنْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ ظُلْمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمْهُ، وَلاَ
يُسْلِمْهُ" وَالظُّلْمُ وَاجِبٌ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ
الْكِلاَبِ ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ
بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ". وَمِنْ
طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ
بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَوْلاَ أَنَّ الْكِلاَبَ أُمَّةٌ مِنْ الأُُمَمِ لاََمَرْتُ بِقَتْلِهَا،
فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا
لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ
أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
(9/12)
حَدَّثَنَا
حَرْمَلَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلاَ
مَاشِيَةٍ وَلاَ أَرْضٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ
يَوْمٍ" وَتَدْخُلُ الدَّارُ فِي جُمْلَةِ الأَرْضِ، لأََنَّهَا أَرْضٌ.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ فِيهَا نَصُّ مَاقلنا. وَقَدْ رُوِّينَا،عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الصَّيْدِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/13)
1514
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْهِرِّ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ لأََذَى
الْفَأْرِ فَوَاجِبٌ وَعَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْهَا فَضْلٌ ، عَنْ حَاجَتِهِ أَنْ
يُعْطِيَهُ مِنْهَا مَا يَدْفَعُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الضَّرَرَ: كَمَا
قلنا فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْكَلْبِ، وَلاَ فَرْقَ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ
شَبِيبٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ؟ فَقَالَ: زَجَرَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم.
قال أبو محمد: "الزَّجْرُ أَشَدُّ النَّهْيِ".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
كَرِهَ ثَمَنَ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ. فَهَذِهِ فُتْيَا جَابِرٍ لِمَا رُوِيَ،
وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ
أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنَّ يُسْتَمْتَعَ بِمُسُوكِ السَّنَانِيرِ، وَأَثْمَانِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا بَيْعَ الْهِرِّ،
وَثَمَنَهُ، وَأَكْلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ، وَلاَ وَرَعَ يَزْجُرُهُ، عَنِ الْكَذِبِ:
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ: رَوَيَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم إبَاحَةَ ثَمَنِ الْهِرِّ.
قال أبو محمد: "وَهَذَا لاَ نَعْلَمُهُ أَصْلاً مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ
تُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَأَمَّا صَحِيحَةٍ فَنَقْطَعُ بِكَذِبِ مَنْ
ادَّعَى ذَلِكَ جُمْلَةً.وَأَمَّا الْوَضْعُ فِي الْحَدِيثِ فَبَاقٍ مَا دَامَ
إبْلِيسُ وَأَتْبَاعُهُ فِي الأَرْضِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ لَمَا كَانَ لَهُمْ
فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَعْهُودِ الأَصْلِ بِلاَ
شَكٍّ وَلاَ مِرْيَةَ فِي أَنَّ حِينَ زَجْرِهِ عليه السلام، عَنْ ثَمَنِهِ
بَطَلَتْ الإِبَاحَةُ السَّالِفَةُ، وَنُسِخَتْ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ،
فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى وَأَفِكَ
وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَعُودَ مَا نَسَخَ،
ثُمَّ لاَ يَأْتِي بَيَانٌ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا
نَسَخَ وَفِيمَا بَقِيَ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ مِنْ عِبَادِهِ. هَيْهَاتَ
دِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَحْرَزُ. وَقَالَ
الْمُبِيحُونَ لَهُ: لَمَّا صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ دُخُولِ الْهِرِّ،
وَالْكَلْبِ الْمُبَاحِ اتِّخَاذُهُ فِي
(9/13)
الْمِيرَاثِ،
وَالْوَصِيَّةِ، وَالْمِلْكِ: جَازَ بَيْعُهُمَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا جَاهَرُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِخِلاَفِ
أُصُولِهِمْ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعْوَى بِلاَ
برهان ثُمَّ إنَّهُمْ يُجِيزُونَ دُخُولَ النَّحْلِ. وَدُودِ الْحَرِيرِ فِي
الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يُجِيزُونَ
بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ
مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَغَيْرِهَا، وَيُدْخِلُونَهُ فِي الْمِيرَاثِ وَلاَ
يُجِيزُونَ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَظَهَرَ تَخَاذُلُهُمْ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/14)
ولا
يحل البيع على ان تربحني للديناردرهما
...
1515 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي لِلدِّينَارِ
دِرْهَمًا، وَلاَ عَلَى أَنِّي أَرْبَحُ مَعَك فِيهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا،
فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا فَلَوْ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ دُونَ هَذَا
الشَّرْطِ، لَكِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ بِكَذَا
وَكَذَا، وَأَنَّهُ لاَ يَرْبَحُ مَعَهُ فِيهَا إِلاَّ كَذَا وَكَذَا فَقَدْ
وَقَعَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ كَذَبَ فِيمَا قَالَ لَمْ
يَضُرَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ شَيْئًا، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ أَصْلاً، إِلاَّ
مِنْ عَيْبٍ فِيهِ أَوْ غَبْنٍ ظَاهِرٍ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَالْكَاذِبُ آثِمٌ
فِي كَذِبِهِ فَقَطْ.
برهان ذَلِكَ: أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي كَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْعَقْدُ بِهِ بَاطِلٌ وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، لأََنَّهُمَا إنَّمَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ
عَلَى أَنَّهُ يَرْبَحُ مَعَهُ لِلدِّينَارِ دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ شِرَاؤُهُ
دِينَارًا غَيْرَ رُبُعٍ كَانَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ، وَالرِّبْحُ دِرْهَمًا غَيْرَ
رُبُعِ دِرْهَمٍ فَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ لاَ يَدْرِي مِقْدَارَهُ. فَإِذَا سَلِمَ
الْبَيْعُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ وَقَعَ صَحِيحًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَكِذْبَةُ الْبَائِعِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَعْقُودًا
عَلَيْهَا الْبَيْعُ، لَكِنْ كَزِنَاهُ لَوْ زَنَى، أَوْ شُرْبِهِ لَوْ شَرِبَ
الْخَمْرَ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ
بَيْعَ " ده دوازده " مَعْنَاهُ أُرْبِحُك لِلْعَشَرَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَهُوَ
بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ
رِبًا وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالاَ جَمِيعًا: أَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْعُ " ده دوازده " رِبًا. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ حَرَامٌ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَكَرِهَهُ مَسْرُوقٌ وَقَالَ:
بَلْ أَشْتَرِيهِ بِكَذَا أَوْ أَبِيعُهُ بِكَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَجَازَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ
لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَأَجَازَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ وَقَالَ ابْنُ
سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ " ده دوازده " وَتُحْسَبُ النَّفَقَةُ عَلَى
الثِّيَابِ. وَلِمَنْ أَجَازَهُ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ فِيمَنْ ابْتَاعَ نَسِيئَةً،
وَبَاعَ نَقْدًا، وَفِيمَنْ اشْتَرَى فِي نَفَاقٍ، وَبَاعَ فِي كَسَادٍ، وَمَا
يُحْسَبُ كِرَاءِ الشَّدِّ وَالطَّيِّ، وَالصَّبَّاغِ، وَالْقَصَّارَةِ، وَمَا
أُطْعِمَ الْحُرْفَا، وَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ، وَإِذَا ادَّعَى غَلَطًا، وَإِذَا
انْكَشَفَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَكُلُّهُ رَأْيٌ فَاسِدٌ. لَكِنْ نَقُولُ: مَنْ اُمْتُحِنَ
بِالتِّجَارَةِ فِي بَلَدٍ لاَ ابْتِيَاعَ فِيهِ
(9/14)
إِلاَّ هَكَذَا فَلْيَقُلْ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَبِحَسَبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُ: ابْتَعْته بِكَذَا، وَلاَ يَحْسِبُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً، ثُمَّ يَقُولُ: لَكِنِّي لاَ أَبِيعُهُ عَلَى شِرَائِي، تُرِيدُ أَخْذَهُ مِنِّي بَيْعًا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَ دَاخِلَةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ بِقَوْمٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَوْبٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِكَمْ ابْتَعْتَهُ فَأَجَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: كَذَبْتَ وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا بِدُونِ مَا كَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِالْفَضْلِ" وَهُمْ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَرُدَّ بَيْعَهُ، وَلاَ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ.
(9/15)
1516 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى الرَّقْمِ، وَلاَ أَنْ يُغْرِ أَحَدًا بِمَا يُرَقِّمُ عَلَى سِلْعَتِهِ، لَكِنْ يُسَوِّمُ وَيُبَيِّنُ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَطْلُبُ عَلَى قِيمَةِ مَا يَبِيعُ، وَيَقُولُ: إنْ طَابَتْ نَفْسُك بِهَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ .
(9/15)
1517
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، مِثْلُ: أَبِيعُك
سِلْعَتِي بِدِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي بِالدِّينَارَيْنِ كَذَا وَكَذَا
دِرْهَمًا. أَوْ كَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ
يُعْطِيَهُ دَنَانِيرَ كُلَّ دِينَارٍ بِعَدَدٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمِثْلُ:
أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارَيْنِ نَقْدًا أَوْ بِثَلاَثَةٍ نَسِيئَةً.
وَمِثْلِ أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي
سِلْعَتَك هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا
مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ،
عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ" .
وَرُوِّينَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُمَا كَرِهَا
ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لِلْمَالِكِيِّينَ حُجَّةً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
الْبَيْعَةُ الأُُولَى لَغْوٌ فَهَذَا الأَحْتِجَاجُ أَفْسَدُ مِنْ الْقَوْلِ
الَّذِي احْتَجُّوا لَهُ بِهِ، وَأَفْقَرُ إلَى حُجَّةٍ، لأََنَّهُ دَعْوَى
مُجَرَّدَةٌ، عَلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِعَظَائِمَ طَرْدًا مِنْهُمْ لِهَذَا
الأَصْلِ الْفَاسِدِ: فَأَجَازُوا بَيْعَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِخِنْزِيرٍ، أَوْ
بِقِسْطِ خَمْرٍ، عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالْخِنْزِيرِ، أَوْ الْخَمْرِ:
دِينَارَيْنِ وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ تَمْلاَُ الْفَمَ، وَيَكْفِي ذِكْرُهَا، عَنْ
تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَمَا الدَّيَّانَةُ كُلُّهَا إِلاَّ
بِأَسْمَائِهَا وَأَعْمَالِهَا، لاَ بِأَحَدِ الأَمْرَيْنِ دُونَ الآخَرِ.
وَنَحْنُ نَجِدُ الْمُسْتَقْرِضَ يَقُولُ: أَقْرِضْنِي دِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ
أَرُدَّ لَك دِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ لَكَانَ قَوْلاً حَسَنًا، وَعَمَلاً
صَحِيحًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ يَعْنِي دِينَارَيْنِ بِدِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ
لَكَانَ قَوْلاً خَبِيثًا، وَعَمَلاً فَاسِدًا، حَرَامًا، وَالْعَمَلُ وَاحِدٌ
وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ وَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ اللَّفْظُ. وَلَوْ قَالَ
امْرُؤٌ لأَخَرَ: أَبِحْنِي وَطْءَ ابْنَتِك بِدِينَارٍ مَا شِئْت فَقَالَ لَهُ:
نَعَمْ لَكَانَ قَوْلاً حَرَامًا: وَزِنًا مُجَرَّدًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ:
زَوِّجْنِيهَا بِدِينَارٍ، لَكَانَ قَوْلاً صَحِيحًا، وَعَمَلاً صَحِيحًا،
وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْعَمَلُ
(9/15)
1518
- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ صَفْقَةٍ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلاَلاً فَهِيَ بَاطِلٌ
كُلُّهَا، لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ
مَغْصُوبًا، أَوْ لاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ، أَوْ عَقْدًا فَاسِدًا وَسَوَاءٌ كَانَ
أَقَلَّ الصَّفْقَةِ، أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوْ أَدْنَاهَا، أَوْ أَعْلاَهَا، أَوْ
أَوْسَطَهَاوقال مالك: إنْ كَانَ ذَلِكَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ بَطَلَتْ كُلُّهَا
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا بَطَلَ الْحَرَامُ، وَصَحَّ الْحَلاَلُ.
قال علي: "وهذا قَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ،
وَلاَ قِيَاسٍ. وَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ
وَجْهَ الصَّفْقَةِ هُوَ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ".فَقُلْنَا لَهُمْ:
فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ وَمَا هُوَ إِلاَّ
قَوْلُكُمْ احْتَجَجْتُمْ لَهُ بِقَوْلِكُمْ، فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَالَ
آخَرُونَ: يَصِحُّ الْحَلاَلُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَيَبْطُلُ الْحَرَامُ قَلَّ أَوْ
كَثُرَ.
قال أبو محمد: "فَوَجَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ يُبْطِلُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذَانِ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِبَعْضِ
الصَّفْقَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا تَرَاضَيَا بِجَمِيعِهَا، فَمَنْ
أَلْزَمَهُمَا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ أَلْزَمَهُمَا
(9/16)
مَا لَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ حِينَ الْعَقْدِ، فَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا الآنَ بِذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْهُمَا، وَلَكِنْ بِعَقْدٍ مُجَرَّدٍ بِرِضَاهُمَا مَعًا، لأََنَّ الْعَقْدَ الأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ هَكَذَا.وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ تِلْكَ الصَّفْقَةِ لَمْ يَتَعَاقَدَا صِحَّتَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْبَاطِلِ الَّذِي لاَ صِحَّةَ لَهُ، وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَلاَ صِحَّةَ لَهُ أَبَدًا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/17)
1519
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْحُرِّ . برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ
ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ
أَجْرَهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: "وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ، نُورِدُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مَا يَسَّرَ لأَِيرَادِهِ، لِيَعْلَمَ مُدَّعِي
الإِجْمَاعِ فِيمَا هُوَ أَخْفَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ" رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ،
حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى وَقَالَ مُعَاذٌ: نَا أَبِي ثُمَّ اتَّفَقَ
هِشَامٌ، وَهَمَّامٌ، كِلاَهُمَا: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً بَاعَ نَفْسَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
بِأَنَّهُ عَبْدٌ كَمَا أَقَرَّ نَفْسَهُ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ هَذَا لَفْظُ هَمَّامٍ وَأَمَّا لَفْظُ هِشَامٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ
لِرَجُلٍ حَتَّى بَاعَهُ، وَاتَّفَقَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ
فِي كِلاَ اللَّفْظَيْنِ، وَلاَ بُدَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ
عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ عَبْدٌ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ فِيمَنْ سَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً حُرًّا فَقَالَ إبْرَاهِيمُ:
هُوَ رَهْنٌ بِمَا جَعَلَ فِيهِ حَتَّى يَفْتَكَّ نَفْسَهُ. وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ
أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا فِي دَيْنٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ قَوْلَةٌ غَرِيبَةٌ
لاَ يَعْرِفُهَا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْحَدِيثِ
وَالآثَارِ.
قال علي: "هذا قَضَاءُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله
عنهم،، وَلاَ يَعْتَرِضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مُعْتَرِضٌ، فَإِنْ شَنَّعُوا
هَذَا قلنا: يَا هَؤُلاَءِ لاَ عَلَيْكُمْ، وَاَللَّهِ لَقَدْ قُلْتُمْ بِأَشْنَعَ
مِنْ هَذَا وَأَشَدَّ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا". أَلَيْسَ
الْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: إنْ ارْتَدَّ الْحَسَنِيُّ، أَوْ الْحُسَيْنِيُّ،
أَوْ الْعَبَّاسِيُّ أَوْ الْمَنَافِيُّ، أَوْ الْقُرَشِيُّ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ
الْحَرْبِ فَإِنْ وُلِدَ وَلَدُهُ يُسْتَرَقُّونَ، وَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا
عَبِيدًا وَأَنَّ الْقُرَشِيَّةَ إنْ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ
سُبِيَتْ وَأُرِقَّتْ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُبَاحُ
(9/17)
وَيُسْتَحَلُّ
فَرْجُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ تُرِكَتْ عَلَى كُفْرِهَا،
وَجَازَ أَنْ يَسْتَرِقَّهَا الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ أَوَ لَيْسَ ابْنُ
الْقَاسِمِ صَاحِبَ مَالِكٍ يَقُولُ: "إنْ تَذَمَّمَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَفِي
أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ، وَمُسْلِمَاتٌ أَحْرَارٌ، وَحَرَائِرُ،
فَإِنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَبِيدًا لَهُمْ وَأَمَّا يَتَمَلَّكُونَهُمْ
وَيَتَبَايَعُونَهُمْ فَأُفٍّ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَتُفٍّ"،
فَأَيُّهُمَا أَشْنَعُ مِمَّا لَمْ يُقَلِّدُوا فِيهِ عُمَرَ، وَعَلِيًّا رضي الله
عنهما؟.
قال أبو محمد: "كُلُّ مَنْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقٍ، أَوْ بِأَنْ كَانَ ابْنَ
حُرٍّ مِنْ أَمَةٍ لَهُ، أَوْ بِأَنْ حَمَلَتْ بِهِ حُرَّةٌ، أَوْ بِأَنْ
أُعْتِقَتْ أَمَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ الْمُعْتِقُ، فَإِنَّ
الْحُرِّيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ، فَلاَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ، وَلاَ عَمَّنْ
تَنَاسَلَ مِنْهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ مِنْ
الْوِلاَدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَبَدًا، لاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ، وَلاَ بِأَنْ
تَرْتَدَّ، وَلاَ بِأَنْ يُسْبَى، وَلاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ
وَإِنْ بَعُدَ، أَوْ جَدَّتُهُ وَإِنْ بَعُدَتْ، وَلاَ بِلَحَاقِ بِأَرْضِ
الْحَرْبِ مِنْ أَحَدِ أَجْدَادِهِ، أَوْ جَدَّاتِهِ أَوْ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا:
وَلاَ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ، وَلاَ بِدَيْنٍ، وَلاَ بِبَيْعِهِ نَفْسِهِ،
وَلاَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَبَدًا لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ،
وَلاَ سُنَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ أَثَرٌ بِأَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ
فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/18)
ولا
يحل بيع أمة من سيدها
...
1520 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ أَمَةٍ حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، لِمَا
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا وَلَدَتْ
مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا" وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحُ السَّنَدِ وَالْحُجَّةُ
بِهِ قَائِمَةٌ.
فإن قيل: "الثَّابِتُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ
أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وهذا الخبر مِنْ رِوَايَتِهِ، فَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ مَا
رُوِيَ إِلاَّ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُ، وَلِمَا هُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ" قلنا:
لَسْنَا نُعَارَضُ مَعْشَرَ الظَّاهِرِيِّينَ بِهَذَا الْغُثَاءِ مِنْ الْقَوْلِ،
وَلاَ يَعْتَرِضُ بِهَذَا عَلَيْنَا إِلاَّ ضِعَافُ الْعَقْلِ، لأََنَّ الْحُجَّةَ
عِنْدَنَا فِي الرِّوَايَةِ، لاَ فِي الرَّأْيِ، يُعَارِضُ بِهَذَا مَنْ
يَتَعَلَّقُ بِهِ إذَا عُورِضَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهَا
مِنْ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، الَّذِينَ لاَ يُبَالُونَ
بِالتَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ، مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا، وَاَلَّذِينَ لاَ
يُبَالُونَ بِأَنْ يَدَّعُوا هَهُنَا الإِجْمَاعَ ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ يَجْعَلُوا:
ابْنَ مَسْعُودٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ
عَبَّاسٍ، مُخَالِفِينَ لِلإِجْمَاعِ فَهَذِهِ صِفَةُ عِلْمِهِمْ بِالسُّنَنِ،
وَهَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ بِالإِجْمَاعِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: "إذَا وَقَعَ مَنِيُّ السَّيِّدِ فِي فَرْجِ أَمَتِهِ
فَأَمْرُهَا مُتَرَقَّبٌ، فَإِنْ بَقِيَ حَتَّى يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ
أَنَّهُ وَلَدٌ فَهِيَ حَرَامٌ بَيْعُهَا مِنْ حِينِ سُقُوطِ الْمَنِيِّ فِي
فَرْجِهَا وَيُفْسَخُ بَيْعُهَا إنْ بِيعَتْ
(9/18)
وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهَا قَطُّ. وبرهان صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْمَنْعُ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَكَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً، لَوْ كَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً لَحَلَّ فَرْجُهَا لِمُشْتَرِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَنِيُّ وَلَدًا وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ الْمَذْكُورِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَيِّتِ إثْرَ كَوْنِ مَنِيِّهِ فِي فَرْجِ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ مُتَرَقِّبٌ أَيْضًا، فَإِنْ وُلِدَ حَيًّا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ مِيرَاثُهُ بِمَوْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ قَطُّ مِيرَاثٌ، إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا لَمَا حَدَثَ لَهُ حَقٌّ فِي مِيرَاثٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/19)
1521
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْهَوَاءِ أَصْلاً، كَمَنْ بَاعَ مَا عَلَى
سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ
أَبَدًا، لأََنَّ الْهَوَاءَ لاَ يَسْتَقِرُّ فَيُضْبَطُ بِمِلْكٍ أَبَدًا،
وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَوِّجٌ يَمْضِي مِنْهُ شَيْءٌ وَيَأْتِي آخَرُ أَبَدًا،
فَكَانَ يَكُونُ بَيْعُهُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لأََنَّهُ بَاعَ مَا لاَ
يَمْلِكُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِهِ، فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا
لاَ يَمْلِكُ، وَبَيْعُ مَجْهُولٍ. فإن قيل: إنَّمَا بِيعَ الْمَكَانُ لاَ
الْهَوَاءُ
قلنا: لَيْسَ هُنَاكَ مَكَانٌ أَصْلاً غَيْرَ الْهَوَاءِ، فَلَوْ كَانَ مَا
قُلْتُمْ لَكَانَ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا أَصْلاً، لأََنَّهُ عَدَمٌ فَهُوَ أَكْلُ
مَالٍ بِالْبَاطِلِ حَقًّا. فإن قيل: إنَّمَا بَاعَ سَطْحَ سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ وَهُوَ أَيْضًا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ شَرَطَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ شَيْئًا مِنْ سَقْفِهِ،
وَلاَ مِنْ رُءُوسِ جُدْرَانِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ
بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا
الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ
الْقِسْمَةِ " وَأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ
شَيْئًا وَيَمْلِكُ غَيْرُهُ الْعُلُوَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَمَنْ بَاعَ سَقْفَهُ
فَقَطْ فَحَلاَلٌ، وَيُؤْخَذُ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ مَا اشْتَرَى، عَنْ مَكَان
مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/19)
ولا
يجوز بيع من لا يعقل لسكر أو لجنون
...
1522 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ لِسُكْرٍ، أَوْ
جُنُونٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . فَشَهِدَ
عَزّ وَجَلَّ بِأَنَّ السَّكْرَانَ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَالْبَيْعُ قَوْلٌ،
أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ: مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَوْلِ
مِمَّنْ بِهِ آفَةٌ مِنْ الْخَرَسِ أَوْ بِفَمِهِ آفَةٌ، فَمَنْ لاَ يَدْرِي مَا
يَقُولُ فَلَمْ يَبِعْ شَيْئًا، وَلاَ ابْتَاعَ شَيْئًا وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَلاَ
نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: هُوَ عَصَى اللَّهَ
تَعَالَى وَعَزَّ وَجَلَّ وَأَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.فَقُلْنَا نَعَمْ،
وَحَقُّهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ إلْزَامِهِ
حُكْمًا زَائِدًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ، وَهُمْ لاَ
يَخْتَلِفُونَ فِي سَكْرَانَ عَرْبَدَ فَوَقَعَ فَانْكَسَرَتْ سَاقُهُ، فَإِنَّ
لَهُ مِنْ الرُّخْصَةِ فِي الصَّلاَةِ قَاعِدًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ فَرْقَ. وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ إذَا جُرِحَ
جِرَاحَاتٍ
(9/19)
1523-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، إِلاَّ فِيمَا لاَ بُدَّ
لَهُ مِنْهُ ضَرُورَةً، كَطَعَامٍ لأََكْلِهِ وَثَوْبٍ يَطْرُدُ بِهِ، عَنْ
نَفْسِهِ الْبَرْدَ وَالْحَرَّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى إذَا أَغْفَلَهُ
أَهْلُ مَحَلَّتِهِ وَضَيَّعُوهُ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا،
فَإِذَا ضَيَّعَهُ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ فَاشْتَرَى مَا ذَكَرْنَا بِحَقِّهِ، فَقَدْ
وَافَقَ الْوَاجِبَ، وَعَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ إمْضَاؤُهُ، فَلاَ يَحِلُّ
لأََحَدٍ رَدُّ الْحَقِّ وَتَكُونُ مُبَايَعَتُهُ حِينَئِذٍ إنْ كَانَ جَائِزَ
الأَمْرِ هُوَ الَّذِي عَقَدَ ذَلِكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ،
فَإِنْ كَانَ أَيْضًا غَيْرَ جَائِزِ الأَمْرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا عَمَلٌ
وَافَقَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فَلاَ يَجُوزُ رَدُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِ ذَلِكَ
الآخَرِ، وَابْتِيَاعُهُ لَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ جَائِزٌ، لأََنَّ يَدَهُ
وَعَقْدَهُ إنَّمَا هُمَا يَدُ الآمِرِ وَعَقْدُهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/20)
1524 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلاَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ هَذِهِ الأَرْضِ، أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَكَذَلِكَ ثُلُثُهَا أَوْ رُبُعُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَوْ عُلِمَ مُنْتَهَى كُلِّ ذَلِكَ جَازَ، لأََنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لاَ يَجُوزُ، لأََنَّ التَّرَاضِيَ لاَ يَقَعُ عَلَى مَجْهُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/20)
ولا
يجوز بيع دار أو بيت أو أرض لا طريق لها
...
1525 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ أَوْ بَيْتٍ أَوْ أَرْضٍ لاَ طَرِيقَ
إلَيْهَا لأََنَّهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ طَرِيقًا
لَمْ يَبِعْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَّصِلاً بِمَالِ الْمُشْتَرِي جَازَ ذَلِكَ
الْبَيْعُ، لأََنَّهُ يَصِلُ إلَى مَا اشْتَرَى فَلاَ تَضْيِيعَ، فَلَوْ
اُسْتُحِقَّ مَالُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ هَذَا الشِّرَاءُ، لأََنَّهُ وَقَعَ
فَاسِدًا إذَا كَانَ لاَ طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
(9/20)
1526 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ جُمْلَةٍ مَجْهُولَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ رَطْلٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ أَصْلٍ مِنْهَا، أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِكَذَا وَكَذَا وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْمَقَادِيرِ وَالأَعْدَادِ، فَإِنْ عَلِمَا جَمِيعًا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَدَدِ، أَوْ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ، وَعَلِمَا قَدْرَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ: جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ بِيعَتْ الْجُمْلَةُ
(9/20)
ولا
يحلا بيع الولاء لا هبته
...
1527 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْوَلاَءِ، وَلاَ هِبَتُهُ : لِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كُلِّهِمْ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ" . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الأُُمَّةُ فِي هَذَا،
وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فِي الْعِتْقِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(9/21)
1528 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَرَاضٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، إِلاَّ بَيْعًا أَوْجَبَهُ النَّصُّ، كَالْبَيْعِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ مُمْتَنِعٌ مِنْ الإِنْصَافِ، لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْصَافِ ذِي الْحَقِّ قِبَلَهُ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ. وَبِمَنْعِهِ مِنْ الْمَطْلِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ
(9/21)
1529
- مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إلَى الْبَيْعِ، كَمَنْ جَاعَ وَخَشِيَ
الْمَوْتَ فَبَاعَ فِيمَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، وَكَمَنْ لَزِمَهُ
فِدَاءُ نَفْسِهِ أَوْ حَمِيمِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَمَنْ أَكْرَهَهُ
ظَالِمٌ عَلَى غُرْمِ مَالِهِ بِالضَّغْطِ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الْبَيْعِ،
لَكِنْ أَلْزَمَهُ الْمَالَ فَقَطْ، فَبَاعَ فِي أَدَاءِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ
بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ،
حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ، أَوْ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ: " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ
الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ: ،
{تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} يَنْهَدُ الأَشْرَارُ، وَيُسْتَذَلُّ الأَخْيَارُ،
وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ
قَبْلَ أَنْ يُطْعَمَ" به إلى هُشَيْمٍ، عَنْ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ
مَكْحُولٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا
زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ
بِذَلِكَ" , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} َيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلاَ إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ
حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخُونُهُ، وَإِنْ
كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَلاَ تَزِدْهُ هَلاَكًا إلَى
هَلاَكِهِ.
قال أبو محمد: لَوْ اسْتَنَدَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ لَقُلْنَا بِهِمَا
مُسَارِعِينَ، لَكِنَّهُمَا مُرْسَلاَنِ، وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ
بِالْمُرْسَلِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ
بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَيَقُولُ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ
مِنْ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولَ: "ِهَذَيْنِ
الْخَبَرَيْنِ شَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ",
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَمْكَنُ وَأَوْضَحُ، ثُمَّ هِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ
مُضْطَرِبُونَ.
قال أبو محمد: "َإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ فَلْنَطْلُبْ هَذَا
الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِهِمَا: فَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ يَبْتَاعُ قُوتَ نَفْسِهِ
وَأَهْلِهِ لِلأَكْلِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى ابْتِيَاعِهِ بِلاَ
شَكٍّ", فَلَوْ بَطَلَ ابْتِيَاعُ هَذَا الْمُضْطَرِّ لَبَطَلَ بَيْعُ كُلِّ
مَنْ لاَ يُصِيبُ الْقُوتَ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ،
وَبِضَرُورَةِ النَّقْلِ مِنْ الْكَوَافِّ وَقَدْ ابْتَاعَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم أَصْوُعًا مِنْ شَعِيرٍ لِقُوتِ أَهْلِهِ، وَمَاتَ عليه السلام
وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي ثَمَنِهَا فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ إلَى
قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ، وَبَيْعَهُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ الْقُوتَ
(9/22)
بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، فَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ تَرَاضٍ لَمْ يُجْبِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ بَاعَ فِي إنْقَاذِ نَفْسِهِ، أَوْ حَمِيمِهِ، مِنْ يَدِ كَافِرٍ أَوْ ظُلْمِ ظَالِمٍ: فَوَجَدْنَا الْكَافِرَ وَالظَّالِمَ لَمْ يُكْرِهَا فَادِيَ الأَسِيرِ، وَلاَ الأَسِيرَ، وَلاَ الْمَضْغُوطَ عَلَى بَيْعِ مَا بَاعُوا فِي اسْتِنْقَاذِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مَنْ يَسْعَوْنَ لأَسْتِنْقَاذِهِ وَإِنَّمَا أَكْرَهُوهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَتَوْهُمَا بِمَالٍ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ مَا أَلْزَمُوهُمَا الْبَيْعَ فَصَحَّ أَنَّهُ بَيْعُ تَرَاضٍ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ طُلِبَ بِبَاطِلٍ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ لاَ أَنْ يُعْطِيَ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ لاَزِمٌ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ كَمَا كَانَ يَقْضِي لَهُ بِهِ مَتَى قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ، مَتَى أَمْكَنَهُ أَوْ مَتَى وَجَدَهُ فِي مَغْنَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ، مِنْ يَدِ مَنْ وَجَدَهُ فِي يَدِهِ، مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مِنْ يَدِ ذَلِكَ الْكَافِرِ، لَوْ تَذَمَّمَ، أَوْ أَسْلَمَ أَبَدًا هَذَا إذَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمَالَ بِعَيْنِهِ، لأََنَّهُ مَالُهُ كَمَا كَانَ، وَلاَ يُطْلَبُ الْكَافِرُ بِغَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ، لأََنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ تَذَمَّمَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا سَلَفَ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ قَتْلٍ.وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الظَّالِمُ فَيَتْبَعُهُ بِهِ أَبَدًا، أَوْ بِمِثْلِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ خَارِجِيًّا أَوْ مُحَارِبًا، أَوْ بَاغِيًا، أَوْ سُلْطَانًا، أَوْ مُتَغَلِّبًا، لأََنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
(9/23)
1530 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَنْفَعَةٍ، إمَّا لأََكْلٍ، وَأَمَّا لِرُكُوبٍ، وَأَمَّا لِصَيْدٍ وَأَمَّا لِدَوَاءٍ . فَإِنْ كَانَ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ، وَلاَ مِلْكُهُ، لأََنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ مِنْ الْمُبْتَاعِ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، أَوْ لِغَيْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ، لأََنَّهُ بَيْعٌ، عَنْ تَرَاضٍ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَلَيْسَ إضَاعَةَ مَالٍ، وَلاَ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/23)
1531
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مُسَمًّى، كَمَنْ بَاعَ
بِمَا يَبْلُغُ فِي السُّوقِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، أَوْ بِالْقِيمَةِ،
فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ التَّرَاضِي، وَلاَ يَكُونُ التَّرَاضِي إِلاَّ
بِمَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، وَقَدْ يَرْضَى، لأََنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ
ثَمَنًا مَا فَإِنْ بَلَغَ أَكْثَرَ لَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ بَلَغَ
أَقَلَّ لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ بَاعَ بِالرِّبْحِ،
أَوْ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ بِلاَ ثَمَنٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ،
فَإِنْ بَاعَ بِالْمَيْتَةِ، أَوْ بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَلاَ يَجُوزُ
عِتْقُهُ لَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ بَائِعِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ
يُسَمِّيَاهُ، أَوْ بَاعَهُ بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ
بَائِعِهِ فَأَعْتَقَهُ: جَازَ عِتْقُهُ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا فِي الْجُنُونِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ
(9/23)
1532
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ النَّرْدِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ
أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فَهِيَ
مُحَرَّمَةٌ فَمِلْكُهَا حَرَامٌ، وَبَيْعُهَا حَرَامٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ أَحَدًا مِنْ
أَهْلِهِ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا
سُكَّانًا فِيهَا أَنَّ عِنْدَهُمْ نَرْدًا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ لَئِنْ لَمْ
تُخْرِجُوهَا لاَُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ.
(9/24)
ولا
يحل أن يبيع اثنان سلعتين متميزيتن
...
1533 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ اثْنَانِ سِلْعَتَيْنِ
مُتَمَيِّزَتَيْنِ لَهُمَا لَيْسَا فِيهِمَا شَرِيكَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ
بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لأََنَّ هَذَا بَيْعٌ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يَدْرِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقَعُ لِسِلْعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ،
وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا بَيْعُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ الشُّرَكَاءِ
مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرَ أَوْ ابْتِيَاعُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ
وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ شَرِيكَيْنِ: فَحَلاَلٌ، لأََنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهَا مَعْلُومَةُ الثَّمَنِ، مَحْدُودَتُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/24)
1534 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ تَجْرِي فِيهِ سِكَكٌ كَثِيرَةٌ شَتَّى، فَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنْ أَيِّ سِكَّةٍ يَكُونُ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا ذَلِكَ: فَهُوَ بَيْعٌ مَفْسُوخٌ، مَرْدُودٌ، لأََنَّهُ وَقَعَ، عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ غَرَرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/24)
1535
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلاَ خِدْمَةُ
الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي
حَنِيفَةَ. وَأَجَازَ مَالِكٌ كِلاَ الأَمْرَيْنِ: أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَمِنْ
نَفْسِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَمِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ،
وَأَجَازَ بَيْعَهُمَا جُمْلَةً: الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، لأََنَّ
كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا تَجِبُ بِالنُّجُومِ، وَلاَ تَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ،
فَمَنْ بَاعَهَا فَقَدْ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ بَعْدُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَجِبُ
لَهُ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَلَيْسَتْ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَلاَ يَدْرِي
الْبَائِعُ أَيَّ شَيْءٍ بَاعَ مِنْ نَوْعِ مَا بَاعَ، وَلاَ يَدْرِي الْمُشْتَرِي
مَا اشْتَرَى فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَمَجْهُولُ الْعَيْنِ، وَأَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ. فإن قيل: فَقَدْ رُوِيَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهَا
قلنا: وَكَمْ قِصَّةٍ رُوِيَتْ، عَنْ جَابِرٍ خَالَفْتُمُوهَا: مِنْهَا: قَوْلُهُ
الَّذِي قَدْ أَوْرَدْنَا أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ اُشْتُرِيَ كَائِنًا مَا كَانَ
إِلاَّ حَتَّى يُقْبَضَ وَقَوْلُهُ: الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ، وَقَوْلُهُ: لاَ
يُحْرِمُ أَحَدٌ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِالْحَجِّ وَقَوْلُهُ: لاَ يَجُوزُ
ثَمَنُ الْهِرِّ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي ذَلِكَ، فَالآنَ صَارَ حُجَّةً وَهُنَالِكَ
لاَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(9/24)
1536 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّمْنِ الْمَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَفِي " كِتَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَإِنْ كَانَ جَامِدًا أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيْتَةٌ غَيْرُ الْفَأْرِ أَوْ نَجَاسَةٌ فَلَمْ تُغَيِّرْ لَوْنَهُ، وَلاَ طَعْمَهُ، وَلاَ رِيحَهُ، أَوْ وَقَعَ الْفَأْرُ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ، أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ، أَوْ أَيُّ مَيْتَةٍ كَانَتْ فِي مَائِعٍ غَيْرِ السَّمْنِ، فَلَمْ تُغَيِّرْ طَعْمًا، وَلاَ لَوْنًا، وَلاَ رِيحًا فَبَيْعُهُ حَلاَلٌ، وَأَكْلُهُ حَلاَلٌ، لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وماكَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ: جَازَ بَيْعُهُ أَيْضًا، كَمَا يُبَاعُ الثَّوْبُ النَّجِسُ. وَقَد قلنا: إنَّ الطَّاهِرَ لاَ يُنَجَّسُ بِمُلاَقَاتِهِ النَّجِسَ وَلَوْ أَمْكَنَنَا أَنْ نَفْصِلَهُ مِنْ الْحَرَامِ لَحَلَّ أَكْلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الأَنْتِفَاعِ بِهِ فِي غَيْرِ الأَكْلِ نَصٌّ فَهُوَ مُبَاحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، يَعْنِي مَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ الَّتِي حَلَّتْهَا النَّجَاسَاتُ، لأََنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ لاَ النَّجَاسَةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/25)
1537 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الصُّوَرِ إِلاَّ لِلَعِبِ الصَّبَايَا فَقَطْ، فَإِنَّ اتِّخَاذَهَا لَهُنَّ حَلاَلٌ حَسَنٌ وَمَا جَازَ مِلْكُهُ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ أَنْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلاَ صُورَةٌ" .وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ قَالَ: فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ بِنَزْعِ نَمَطٍ كَانَ تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ سَهْلٌ: لِمَ نَزَعْتَهُ؟ قَالَ: لأََنَّ فِيهِ
(9/25)
1538
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ مُذْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ إلَى مِقْدَارِ تَمَامِ الْخُطْبَتَيْنِ وَالصَّلاَةِ، لاَ
لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ، وَلاَ لأَمْرَأَةٍ، وَلاَ لِمَرِيضٍ، وَأَمَّا مَنْ
شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَإِلَى أَنْ تَتِمَّ صَلاَتُهُمْ لِلْجُمُعَةِ، وَكُلُّ
بَيْعٍ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مَفْسُوخٌ وَهَذَا قَوْلُ
مَالِكٍ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَمَّا النِّكَاحُ، وَالسَّلَمُ وَالإِجَارَةُ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ
فَجَائِزَةٌ كُلُّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يُجِزْهَا مَالِكٌ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ} فَهُمَا أَمْرَانِ مُفْتَرَضَانِ السَّعْيُ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَتَرْكُ الْبَيْعِ فَإِذَا سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ كَالْمَرِيضِ،
وَالْخَائِفِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَعْذُورِ، لَمْ يَسْقُطْ الآخَرُ، إذْ لَمْ
يُوجِبْ سُقُوطَهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَجَبَ إلْزَامُ الْكُفَّارِ كَذَلِكَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَأَمَّا إدْخَالُ مَالِكٍ النِّكَاحَ، وَالإِجَارَةَ
فِي ذَلِكَ، فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَهَى، عَنِ
الْبَيْعِ، وَلَوْ أَرَادَ النَّهْيَ عَنِ النِّكَاحِ، وَالإِجَارَةِ لَمَا
عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ، وَلاَ كَتَمْنَا
(9/26)
مَا
أَلْزَمَنَا وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى
لاَ يَحِلُّ. وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً،
لأََنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُقَاسَ
الشَّيْءُ عَلَى نَظِيرِهِ، وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ النِّكَاحِ، لأََنَّهُ
يَجُوزُ بِلاَ ذِكْرِ مَهْرٍ. وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ،
وَالْمُتَنَاكِحَانِ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ
نَقْلُ مِلْكٍ، وَالْبَيْعُ نَقْلُ مِلْكٍ وَأَمَّا الإِجَارَةُ فَإِنَّمَا هِيَ
مُعَاوَضَةٌ فِي مَنَافِعَ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ، وَلاَ
يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْحُرُّ نَفْسَهُ،
وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ، فَلاَ شَبَهَ بَيْنَ الإِجَارَةِ
وَالنِّكَاحِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ. فَإِنْ عَلَّلَ النَّهْيَ، عَنِ الْبَيْعِ بِمَا
يُشَاغِلُ، عَنِ السَّعْيِ: صَارَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَلَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَ مِنْ الْبَيْعِ مَا لاَ تَشَاغَلَ مِنْهُ، عَنِ
السَّعْيِ، وَلاَ قِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلاَّ عَلَى عِلَّةٍ، فَإِنْ
لَمْ يُعَلِّلْ بَطَلَ الْقِيَاسُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا
الْقَوْلِ وَأَمَّا إجَازَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ: "الْبَيْعَ
فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَخِلاَفٌ لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى"، وَلاَ
نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: "إنَّمَا
نَهَى، عَنِ التَّشَاغُلِ، عَنِ السَّعْيِ إلَى الصَّلاَةِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأً
بَاعَ فِي الصَّلاَةِ لَصَحَّ الْبَيْعُ".
قال أبو محمد: "وَهَذَانِ فَاسِدَانِ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا أَمَّا
قَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ التَّشَاغُلَ، عَنِ السَّعْيِ
فَقَطْ، فَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا، لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَخْبَرَهُمْ
بِذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مَا قَالُوا
لَمَا نَهَانَا"، عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَلاَ عَجَزَ، عَنْ بَيَانِ
مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَهُنَا ضَرُورَةٌ تُوجِبُ فَهْمَ هَذَا، وَلاَ
نَصٌّ، فَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ برهان.وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: لَوْ بَاعَ فِي الصَّلاَةِ لَجَازَ الْبَيْعُ: فَتَمْوِيهٌ بَارِدٌ،
لأََنَّ الْمُصَلِّيَ بِأَوَّلِ أَخْذِهِ فِي الْكَلاَمِ فِي الْمُسَاوَمَةِ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ فَصَارَ غَيْرَ مُصَلٍّ فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ
جُمْلَة فَإِنْ قَالُوا: "هَذَا نَدْبٌ قلنا: مَا دَلِيلُكُمْ عَلَى
ذَلِكَ"، وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى افْعَلْ، فَيَقُولُونَ:
"مَعْنَاهُ لاَ تَفْعَلْ إنْ شِئْت أَمْ كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لاَ
تَفْعَلْ"، فَيَقُولُونَ: "مَعْنَاهُ: افْعَلْ إنْ شِئْت وَهَذَا
إبْطَالُ الْحَقَائِقِ، وَنَفْسُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ،عَنْ
مَوَاضِعِهِ" فَإِنْ قَالُوا: "قَدْ وَجَدْنَا أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ مَعْنَاهَا":
النَّدْبُ قلنا: نَعَمْ بِنَصٍّ آخَرَ بَيَّنَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا آيَاتٍ
مَنْسُوخَاتٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَلَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ حَمْلُ آيَةٍ عَلَى أَنَّهَا
مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ عَلَى أَنَّهَا نَدْبٌ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ
مَا شَاءَ بِلاَ دَلِيلٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ
الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الْمُقَدَّمِيُّ،
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ،
حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَصْلُحُ
الْبَيْعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يُنَادَى لِلصَّلاَةِ، فَإِذَا قُضِيَتْ
فَاشْتَرِ وَبِعْ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ
(9/27)
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ فَسَخَ بَيْعًا وَقَعَ بَيْنَ نِسَاءٍ وَبَيْنَ عَطَّارٍ بَعْدَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ.
(9/28)
1539- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مِقْدَارَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ بَعْدُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّلاَةِ، عَارِفٌ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ: بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، مَأْمُورٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ: جَازَ كُلُّ مَا عَمِلَ فِيهِ، لأََنَّ وَقْتَ الصَّلاَةِ لِلنَّاسِي مُمْتَدٌّ أَبَدًا.وَأَمَّا مَنْ سَهَا فَسَلَّمَ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَتِهِ فَمَا أَنْفَذَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَرْدُودٌ كُلُّهُ، لأََنَّهُ قَدْ عَرَفَ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ، لَكِنْ عُفِيَ لَهُ، عَنِ النِّسْيَانِ، فَهُوَ إنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ بَاعَ وَلَمْ يَبِعْ لأََنَّهُ غَيَّرَ الْبَيْعَ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، فَإِذًا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/28)
ولا
يحل أن يجبر أحدا على أن يبيع مع شريكه لا ما ينقسم ولا مالا ينقسم
...
1540 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَعَ
شَرِيكِهِ لاَ مَا يَنْقَسِمُ، وَلاَ مَا لاَ يَنْقَسِمُ، وَلاَ عَلَى أَنْ
يُقَاوِمَهُ فَيَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ، لَكِنْ مَا شَاءَ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ
أَوْ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ: فَلَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ أَبَى لَمْ
يُجْبَرْ، فَإِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُهُ: فُسِخَ حُكْمُهُ
أَبَدًا وَحُكِمَ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَمَنْ
أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِ حَقِّهِ فَلَمْ يَرْضَ فَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ
خِلاَفُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ حَيْثُ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَالشُّفْعَةِ، وَعَلَى
الْغَائِبِ، وَعَلَى الصَّغِيرِ، وَعَلَى الظَّالِمِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ
بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ بِخَبَرٍ رُوِيَ فِيهِ
"لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ، إنَّمَا
جَاءَ مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ
مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ أَعْظَمَ
الضِّرَارِ وَالضَّرَرِ هُوَ الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ إجْبَارِهِمْ إنْسَانًا عَلَى
بَيْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَبِغَيْرِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَنْ يُرَاعَى رِضَا
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِإِسْخَاطِ شَرِيكِهِ فِي مَالِهِ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ
الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ الصُّرَاحُ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُجَابَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ إلَى قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يَبِيعَ شَرِيكِي مَعِي
لأََسْتَجْزِلَ الثَّمَنَ فِي حِصَّتِي، وَبَيْنَ أَنْ يُجَابَ الآخَرُ إلَى
قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يُمْنَعَ شَرِيكِي مَعَ بَيْعِ حِصَّتِهِ، لأََنَّ فِي
ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيَّ فِي حِصَّتِي، وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ،
لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُمَكَّنٌ مِنْ حِصَّتِهِ، مَنْ شَاءَ بَاعَ
حِصَّتَهُ وَمَنْ شَاءَ أَمْسَكَ حِصَّتَهُ. وَقَدْ مَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ
(9/28)
ولا
يجوز بيع ما غنمه المسلم من دار الحرب
...
1541 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ
الْحَرْبِ لأََهْلِ الذِّمَّةِ لاَ مِنْ رَقِيقٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ
قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ
الْجِهَادِ ".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ: أَتَى عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ بِآنِيَةٍ مُخَوَّصَةٍ بِالذَّهَبِ مِنْ آنِيَةِ الْعَجَمِ
فَأَرَادَ أَنْ يَكْسِرَهَا وَيُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَاسٌ
مِنْ الدَّهَاقِينَ: إنْ كَسَرْت هَذِهِ كَسَرْت ثَمَنَهَا، وَنَحْنُ نُغْلِي لَك
بِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَمْ أَكُنْ لأََرُدَّ لَكُمْ مِلْكًا نَزَعَهُ اللَّهُ
مِنْكُمْ، فَكَسَرَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ.
قال أبو محمد: هَذَا مِنْ الصَّغَارِ، وَكُلُّ صَغَارٍ فَوَاجِبٌ حَمْلُهُ
عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الرَّقِيقُ: فَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ
إلَى الإِسْلاَمِ وَاجِبٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَمِنْ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى
الإِسْلاَمِ كَوْنُ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَةِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ، وَمِنْ
الأَسْبَابِ الْمُبْعِدَةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ كَوْنُهُمَا عِنْدَ كَافِرٍ يُقَوِّي
بَصَائِرَهُمَا فِي الْكُفْرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/29)
ولا
يحل بيع ممن يوقن أنه يعصى الله
...
1542- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَعْصِي
اللَّهَ بِهِ أَوْ فِيهِ، وَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا. كَبَيْعِ كُلِّ شَيْءٍ
يُنْبَذُ أَوْ يُعْصَرُ مِمَّنْ يُوقَنُ بِهَا أَنَّهُ يَعْمَلُهُ خَمْرًا.
وَكَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يُدَلِّسُ بِهَا.
وَكَبَيْعِ الْغِلْمَانِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِمْ أَوْ
يُخْصِيهِمْ. وَكَبَيْعِ الْمَمْلُوكِ
(9/29)
ومن
باع شيئا جزافا يعلم كيله أو وزنه
...
1543 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا جُزَافًا كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ
زَرْعُهُ أَوْ عَدَدُهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ
لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ، عَنْ هَذَا الْبَيْعِ نَهْيٌ فِي
نَصٍّ أَصْلاً، وَلاَ فِيهِ غِشٌّ، وَلاَ خَدِيعَةٌ وَمَنَعَ مِنْهُ: طَاوُوس،
وَمَالِكٌ وَأَجَازَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ،
أَوْ زَرْعَهُ أَوْ عَدَدَهُ، وَلاَ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ أَنْ
يَعْلَمَ مَنْ نَسَجَ الثَّوْبَ، وَلِمَنْ كَانَ، وَمَتَى نُسِجَ، وَأَيْنَ
أُصِيبَ هَذَا الْبُرُّ، وَهَذَا التَّمْرُ وَلاَ يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مُخْطِئٌ وَقَائِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ".
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا جُزَافًا
قَدْ عَلِمَ كَيْلَهُ حَتَّى يَعْلَمَ صَاحِبُهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فَاحِشُ
الأَنْقِطَاعِ" . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ،
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ إِلاَّ الطَّعَامُ فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا:
"قِسْنَا عَلَى الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ قلنا: فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَى
الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُقْبَضَ فَإِنْ
قَالُوا: لَمْ يَأْتِ النَّصُّ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ.قلنا: وَلَيْسَ فِي هَذَا
الْخَبَرِ إِلاَّ الطَّعَامُ فأما اتَّبِعُوا النَّصَّيْنِ مَعًا دُونَ الْقِيَاسِ،
وَأَمَّا قِيسُوا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ،
فَكَيْفَ وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالنَّهْيِ، عَنِ الْبَيْعِ فِي كُلِّ مَا
اُبْتِيعَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ فَخَالَفُوهُ" وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/30)
1544
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْحِيتَانِ - الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ - أَوْ
الأُُتْرُجِّ - الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ - أَوْ الدُّلَّاعِ، أَوْ الثِّيَابِ،
أَوْ الْخَشَبِ، أَوْ الْحَيَوَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جُزَافًا: حَلَالٌ لَا
كَرَاهِيَةَ فِيهِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِبَارِ مِنْ
الْحِيتَانِ، وَالْخَشَبِ، وَأَجَازَهُ فِي الصِّغَارِ - وَهَذَا بَاطِلٌ
لِوُجُوهٍ -:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا بَيْعٌ حَلَالٌ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلٌ
بِتَحْرِيمِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ فَاسِدٌ، إذْ لَمْ يَجِدْ الْكَبِيرَ الَّذِي
مُنِعَ بِهِ مِنْ بَيْعِ الْجُزَافِ مِنْ الصَّغِيرِ الَّذِي أَبَاحَهُ بِهِ -
وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ حَرَّمَ وَحَلَّلَ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ مَا
الْحَرَامُ فَيَجْتَنِبُهُ مَنْ يَبِيعُهُ، وَمَا الْحَلَالُ فَيَأْتِيهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ
(9/30)
1545
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ أَلْبَانِ النِّسَاءِ جَائِزٌ.وَكَذَلِكَ الشُّعُورُ،
وَبَيْعُ الْعَذِرَةِ وَالزِّبْلِ لِلتَّزْبِيلِ، وَبَيْعُ الْبَوْلِ لِلصَّبَّاغِ
: جَائِزٌ وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ هَذَا.
قال أبو محمد: "لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْلُبَ لَبَنَهَا
فِي إنَاءٍ وَتُعْطِيَهُ لِمَنْ يَسْقِيهِ صَبِيًّا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا
لَهُ، وَكُلُّ مَا صَحَّ مِلْكُهُ وَانْتِقَالُ الإِمْلاَكِ فِيهِ حَلَّ
بَيْعُهُ"، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إِلاَّ
مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا وَأَمَّا الشُّعُورُ، وَالْعَذِرَةُ،
وَالْبَوْلُ: فَكُلُّ ذَلِكَ يُطْرَحُ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ أَحَدٌ: هَذَا
عَمَلُ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِذَا تُمُلِّكَ لأََحَدٍ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا
ذَكَرْنَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ
يَسْتَمْتِعَ بِشُعُورِ النَّاسِ، كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ.
(9/31)
1546 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ النَّحْلِ، وَدُودِ الْحَرِيرِ، وَالضَّبِّ، وَالضَّبُعِ: جَائِزٌ حَسَنٌ: أَمَّا الضَّبُّ وَالضَّبُعُ: فَحَلاَلٌ أَكْلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَصَيْدٌ مِنْ الصَّيُودِ، وَمَا جَازَ تَمَلُّكُهُ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا النَّحْلُ، وَدُودُ الْحَرِيرِ: فَلَهُمَا مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَهُمَا مَمْلُوكَانِ: فَبَيْعُهُمَا جَائِزٌ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّحْلِ، وَدُودِ الْقَزِّ وَأَمَّا مَا عَسَّلَتْ النَّحْلُ فِي غَيْرِ خَلاَيَا مَالِكِهَا: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ بَعْضَهَا، وَلاَ مُتَوَلِّدًا مِنْهَا كَالْبَيْضِ، وَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، لَكِنَّهُ كَسْبٌ لَهَا، كَصَيْدِ الْجَارِحِ، وَهُمَا غَيْرُ النَّحْلِ وَالْجَارِحِ: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا وَضَعَتْ فِي خَلاَيَا صَاحِبِهَا فَلَهُ، لأََنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَ الْخَلاَيَا، فَمَا صَارَ فِيهَا فَهُوَ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ حِبَالَةً لِلصَّيْدِ، أَوْ قُلَّةً لِلْمَاءِ، أَوْ حَظِيرًا لِلسَّمَكِ فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ، لأََنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِوَضْعِ مَا ذَكَرْنَا لَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/31)
1547 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ الْحَرِيرِ جَائِزٌ، وَقَالَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَرِهَ التِّجَارَةَ فِي الشَّابِرِيِّ الرَّقِيقِ، وَالْحَرِيرِ وَلُبْسَهُ. جَاءَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ
(9/31)
وابتياع
ولد الزنا والزانية حلالا
...
1548 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ وَلَدِ الزِّنَى، وَالزَّانِيَةِ حَلاَلٌ
.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "وَلَدُ الزِّنَى لاَ
تَبِعْهُ، وَلاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَأْكُلْ ثَمَنَهُ".قَالَ عَلِيٌّ:
"لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَقَدْ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِبَيْعِ الأَمَةِ
الْمَحْدُودَةِ فِي الزِّنَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ إذَا زَنَتْ الرَّابِعَةَ".
(9/32)
1549
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ جُلُودِ الْمَيْتَاتِ كُلِّهَا حَلاَلٌ إذَا دُبِغَتْ،
وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ وَأَمَّا شَعْرُهُ وَعَظْمُهُ فَلاَ. وَلاَ
يَحِلُّ عِظَامُ الْمَيْتَةِ أَصْلاً وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ بَيْعِ جُلُودِهَا
وَإِنْ دُبِغَتْ وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ
بَيْعَ صُوفِ الْمَيْتَةِ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"هَلَّا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ إنَّهَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَأَمَرَ عليه السلام بِأَنْ
يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْلَهَا
حَرَامٌ، وَالْبَيْعُ مَنْفَعَةٌ بِلاَ شَكٍّ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّحْلِيلِ،
وَخَارِجٌ، عَنِ التَّحْرِيمِ إذْ لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ، قَالَ تَعَالَى:
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أَمَّا الْخِنْزِيرُ: فَحَرَامٌ
كُلُّهُ، حَاشَا طَهَارَةَ جِلْدِهِ بِالدِّبَاغِ فَقَطْ. وَمِنْ عَجَائِبِ
احْتِجَاجِ الْمَالِكِيِّينَ هَهُنَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْجِلْدَ يَمُوتُ،
وَكَذَلِكَ الرِّيشُ تُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَلاَ
يَمُوتُ فَلَوْ عُكِسَ قَوْلُهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: بَلْ الْجُلُودُ لاَ تَمُوتُ
وَكَذَلِكَ الرِّيشُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَتُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ
بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَنْفَصِلُونَ، وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى كَدَعْوَى
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ، وَأَبَاحَ الأَنْتِفَاعَ
بِعَظْمِ الْفِيلِ وَبَيْعَهُ: طَاوُوس، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/32)
وبيع
المكاتب قيل أن يودى شيئا من كتابته
...
1550 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ
كِتَابَتِهِ جَائِزٌ، وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَدَّى مِنْهَا
شَيْئًا حَرُمَ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى، وَجَازَ بَيْعُ مَا قَابَلَ
مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ، وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ، وَبَقِيَ
مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى حُرًّا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَدَّى عُشْرَ
كِتَابَتِهِ، فَإِنَّ عُشْرَهُ حُرٌّ وَيَجُوزُ بَيْعُ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ،
وَهَكَذَا فِي كُلِّ جُزْءٍ كَثُرَ أَوْ قَلَّ وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ
(9/32)
1551
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ، حَلاَلٌ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ، وَلِغَيْرِ دَيْنٍ لاَ كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَبْطُلُ
التَّدْبِيرُ بِالْبَيْعِ، كَمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِبَيْعِ الْمُوصَى
بِعِتْقِهِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وقال
أحمد: "يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ كَمَا قلنا، وَلاَ تُبَاعُ الْمُدَبَّرَةُ. وَهَذَا
تَفْرِيقٌ لاَبرهان عَلَى صِحَّتِهِ"، وقال مالك: "لاَ يُبَاعُ
الْمُدَبَّرُ، وَلاَ الْمُدَبَّرَةُ إِلاَّ فِي الدَّيْنِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ
الدَّيْنُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ بِيعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِمَا، وَإِنْ
كَانَ الدَّيْنُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يُبَاعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ
الْمُدَبِّر، وَبِيعَا فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثَ
الْمُدَبَّرُ، وَلاَ دَيْنَ هُنَالِكَ أُعْتِقَ مِنْهُ مَا يَحْمِلُ الثُّلُثَ
وَرَقَّ" سَائِرُهُ. قَالَ: فَإِنْ بِيعَ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ دَيْنٍ فَأَعْتَقَهُ
الَّذِي اشْتَرَاهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَجَازَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ
التَّنَاقُضِ، وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا فَمَا يَحِلُّ بَيْعُهُ لاَ فِي
دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ أُعْتِقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ كَمَا لاَ تُبَاعُ أُمُّ
الْوَلَدِ، وَلاَ يَنْفُذُ بَيْعُهَا وَإِنْ أُعْتِقَتْ وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ
حَلاَلاً فَمَا يَحْرُمُ مَتَى شَاءَ سَيِّدُهُ بَيْعَهُ. وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
فِي هَذَا التَّقْسِيمِ حُجَّةً لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ،
وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.وقال أبو حنيفة:
"لاَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ لاَ فِي دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ دَيْنٍ لاَ فِي
الْحَيَاةِ، وَلاَ بَعْدَ الْمَوْتِ" وَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ
يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ اسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَقَالَ زُفَرُ: "هُوَ
مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً،
وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ فِي مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا
فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَاسْتَسْعُوهُ فِي ثُلُثَيْ
قِيمَتِهِ فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ".
قال أبو محمد: "وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْهَا" خَبَرٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ مُوسَى
بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
ثِقَةٌ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدَةَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُدَبَّرُ لاَ
يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ" وَهَذَا خَبَرٌ
مَوْضُوعٌ، لأََنَّ عَبْدَ الْبَاقِي رَاوِي
(9/35)
كُلِّ
بَلِيَّةٍ، وَقَدْ تُرِكَ حَدِيثُهُ، إذْ ظَهَرَ فِيهِ الْبَلاَءُ. ثُمَّ سَائِرُ
مَنْ رَوَاهُ إلَى أَيُّوبَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ
مَجْهُولُونَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ إنْ كَانَ هُوَ السِّنْجَارِيَّ
فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ
الْمَالِكِيُّونَ قَدْ خَالَفُوهُ. وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ بَيْعَ
الْمُدَبَّرِ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي عَبْدٍ بَيْنَ
اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرُ نَصِيبَهُ: فَإِنَّ عَلَى
الَّذِي دَبَّرَ نَصِيبَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ الَّذِي
أَعْتَقَ حِصَّتَهُ وَهَذَا بَيْعٌ لِلْمُدَبَّرِ فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا
الْخَبَرَ الْمَوْضُوعَ مَعَ احْتِجَاجِهِمْ بِهِ. وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرُ
مِمَّنْ يَرُدُّ حَدِيثَ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ، وَحَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثَ
النَّهْيِ، عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ، مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا وَانْتِشَارِهَا
ثُمَّ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْكَذِبَةِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ
فِي مُرْسَلٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْحَنَفِيِّينَ
وَالْمَالِكِيِّينَ، أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ بَيْعَ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ: مَا
لَهُمْ أَثَرٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ فِي أَوْلاَدِ الْمُدَبَّرَةِ: إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا مَا
نَرَاهُمْ إِلاَّ أَحْرَارًا، وَوَلَدُهَا كَذَلِكَ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ عُضْوٌ
مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا فِي الأَعْرَابِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَبَعَثَ
فِي طَلَبِ الْجَارِيَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَأَخَذَ الثَّمَنَ
فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مَكَانَهَا عَلَى تَدْبِيرِهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ،
عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
أَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَسَاقِطٌ، لأََنَّ الزُّهْرِيَّ، وَرَبِيعَةَ، لَمْ
يُولَدَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَزِيَادَةً،
فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَيْضًا فَفِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوُجُوه
أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ خَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ
قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْهَا، وَلاَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا، وَهَذَا تَنَازُعٌ، فَالْوَاجِبُ
عِنْدَ التَّنَازُعِ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا يُبِيحَانِ
بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّ فِيهِ
أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الثَّمَنَ فَابْتَاعَ بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مُدَبَّرَةً
مَكَانَهَا وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ
الْفَاسِدِ، الظَّاهِرِ الْعَوَارِ، إذْ يَحْرُمُ بَيْعُ مَمْلُوكَةٍ مِنْ أَجْلِ
مَمْلُوكَةٍ أُخْرَى بِيعَتْ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا. وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَنْ
بَاعَ حُرًّا أَنْ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ مَكَانَهُ، وَهَذَا
خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا،
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَكَيْفَ إنْ ذَهَبَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ
تُوجَدْ بِهِ رَقَبَةٌ أَوْ وُجِدَتْ بِهِ رِقَابٌ أَوْ وُجِدَتْ الْمَبِيعَةُ
بَعْدَ أَنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأُُخْرَى مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا، وَلَعَلَّ هَذِهِ
تَمُوتُ مَمْلُوكَةً، فَكَيْفَ
(9/36)
الْعَمَلُ
أَوْ لَعَلَّهَا تَعِيشُ وَتَمُوتُ الْمَبِيعَةُ مَمْلُوكَةً فَكَيْفَ الْعَمَلُ
فِي هَذَا التَّخْلِيطِ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِقَوْلِ عُمَرَ. وَأَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ: فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِيهِ
أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيهٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدٌ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا فِيهِ حُكْمُ وَلَدِهَا
إنْ عَتَقَتْ هِيَ فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ لَهُمْ حَيَاءٌ مَا مَوَّهُوا فِي
الدِّينِ بِمِثْلِ هَذَا، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ جَابِرٍ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "وَلَدُ
الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يُرَقُّونَ بِرِقِّهَا، وَيُعْتَقُونَ
بِعِتْقِهَا". وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ
فَهَذَا جَابِرٌ يَرَى إرْقَاقَ الْمُدَبَّرَةِ فإن قيل: "هَذَا
مُرْسَلٌ" قلنا: "بِالْمُرْسَلِ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْنَا فَخُذُوهُ أَوْ
فَلاَ تَحْتَجُّوا بِهِ".وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّمَا فِيهِ
الْكَرَاهَةُ فَقَطْ وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ جَوَازِ بَيْعِ
الْمُدَبَّرَةِ، كَمَا رُوِّينَا بِأَصَحِّ سَنَدٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لاَ يَطَأُ الرَّجُلُ
وَلِيدَةً إِلاَّ وَلِيدَةً إنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا، وَإِنْ
شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَبَّرَ
جَارِيَتَيْنِ لَهُ، فَكَانَ يَطَؤُهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فَهَذَا
نَصٌّ جَلِيٌّ مِنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِنْ
ادَّعَوْا إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ وَطْئِهَا كَذَبُوا، لِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ
يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ مُدَبَّرَتَهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَقُلْت لَهُ:
"لِمَ تَكْرَهُهُ" فَقَالَ: لِقَوْلِ عُمَرَ: "لاَ تَقْرَبْهَا
وَفِيهَا شَرْطٌ لأََحَدٍ". فَظَهَرَ فَسَادُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، عَنِ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ جَاءَ
عَنْهُمْ، وَمَوَّهُوا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا فَرَّقَ
بَيْنَ اسْمِ الْمُدَبَّرِ، وَاسْمِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ
بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.
قال أبو محمد: "وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ برهان، وَلَيْسَ
كُلُّ اسْمَيْنِ اخْتَلَفَا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهُمَا وَحُكْمُهُمَا
إذَا وُجِدَا فِي اللُّغَةِ مُتَّفِقِي الْمَعْنَى: فَإِنَّ " الْمُحَرَّرَ،
وَالْمُعْتَقَ " اسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، "
وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ " كَذَلِكَ، " وَالزَّوَاجُ، وَالنِّكَاحُ
" كَذَلِكَ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا
الْحُكْمُ الْفَاسِدُ لَكَانَ الْوَاجِبُ إذَا جَاءَ فِيهِمَا نَصٌّ أَنْ يُوقَفَ
عِنْدَهُ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ الأَسْمَيْنِ مَا يُوجِبُ أَنْ
يُبَاعَ أَحَدُهُمَا،وَلاَ يُبَاعَ الآخَرُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ اسْمُ: الْفَرَسِ
وَالْعَبْدِ، وَكِلاَهُمَا يُبَاعُ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ أَصْلاً وَمِنْ الْبُرْهَانِ
عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ مُتَمَلَّكٍ جَائِزٌ إِلاَّ مَا
فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِهِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِ
الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ
(9/37)
فَبَيْعُهُمَا
حَلاَلٌ. وَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ" .وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ
مِنْ الأَنْصَارِ غُلاَمًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَبْتَاعُهُ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ" قَالَ جَابِرٌ: غُلاَمٌ قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ
أَوَّلَ فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
اللَّيْثِ وَأَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ:
فَهَذَا أَثَرٌ مَشْهُورٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ وَأَمْرٌ
كَانَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، كُلُّهُمْ مُسَلِّمٌ رَاضٍ، فَلَوْ
ادَّعَى الْمُسْلِمُ هَهُنَا الإِجْمَاعَ لَمَا أَبْعَدَ، لاَ كَدَعَاوِيهِمْ
الْكَاذِبَةِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَذِبِ: بَيْعٌ فِي دَيْنٍ، وَإِلَّا
فَلأََيِّ وَجْهٍ بِيعَ.فَقُلْنَا: "كَذَبْتُمْ وَأَفَكْتُمْ، وَإِنَّمَا
بِيعَ"، لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمُدَبِّرِهِ مَالٌ غَيْرُهُ، فَلِهَذَا
بَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ
فَبَيْعُهُ مُبَاحٌ لاَ وَاجِبٌ كَسَائِرِ مَنْ تَمَلَّكَ.وَمِنْ طَرِيقِ
النَّظَرِ أَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ قَبْل
أَنْ يُدَبَّرَ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُدَبَّرَ فَقَدْ أَبْطَلَ
وَادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَوْ صَحَّ
الْقِيَاسُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَصَحَّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ
بِصِفَةٍ لاَ يَدْرِي أَيُدْرِكُهَا الْمُعْتَقُ بِهَا أَمْ لاَ وَالْمُوصَى
بِعِتْقِهِ: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ مَجِيءِ تِلْكَ
الصِّفَةِ، وَالْمُدَبَّرُ مُوصًى بِعِتْقِهِ، كِلاَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ فَوَاجِبٌ
إنْ صَحَّ الْقِيَاسُ أَنْ يُبَاعَ الْمُدَبَّرُ كَمَا يُبَاعُ الآخَرَانِ،
وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ. وَمِمَّنْ
صَحَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
جَدَّتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ، بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، قَالاَ جَمِيعًا: الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ.وبه إلى مَعْمَرٍ،عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، قَالَ: "سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ
الْمُدَبَّرِ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ أَبِي فِيهِ، أَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ"
فَقُلْت: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: يَبِيعُهُ إنْ احْتَاجَ فَقَالَ ابْنُ
الْمُنْكَدِرِ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ طَاوُوس لاَ
يَرَى بَأْسًا أَنْ يَعُودَ الرَّجُلُ فِي عَتَاقَتِهِ قَالَ عَمْرٌو: يَعْنِي
التَّدْبِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ يَرْجِعُ فِيهِ إذَا
شَاءَ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت
عَطَاءً يَقُولُ: يُعَادُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَفِي كُلِّ وَصِيَّةٍ وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ: كَرَاهِيَةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ،
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ يَبِيعُهُ الْجَرِيءُ، وَيَرَعُ عَنْهُ الْوَرِعُ.
(9/38)
قال أبو محمد: "بَلْ يَبِيعُهُ الْوَرِعُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقِفُ عَنْهُ الْجَاهِلُ وَتَاللَّهِ مَا تُخَافُ تَبِعَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرٍ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي تَحْرِيمِنَا مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ، أَوْ فِي تَوَقُّفِنَا فِيهِ خَوْفَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا. قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ مِمَّا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلاَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
(9/39)
1552
مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا حَمَلَتْ بِهِ
قَبْلَ التَّدْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ حَلاَل ٌ وَبَيْعُ مَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ
قَبْلَ أَنْ تُكَاتَبَ وَبَعْدَ أَنْ كُوتِبَتْ مَا لَمْ تُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ
كِتَابَتِهَا: حَلاَلٌ. وَبَيْعُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهِ
قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ: حَلاَلٌ. هَذَا كُلُّهُ لاَ خِلاَفَ فِي شَيْءٍ
مِنْهُ، إِلاَّ مَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ.وَأَمَّا
مَا وَلَدَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ
وَلَدٍ: فَحَرَامٌ بَيْعُهُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ أُمِّهِ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ مَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ بَعْدَ أَنْ تُؤَدِّيَ
شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا فِي " كِتَابِ الْمُكَاتَبِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ
إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ الَّتِي تَحْمِلُ بِهِ بَعْدَ
التَّدْبِيرِ: هُوَ أَنَّهُ وَلَدُ أَمَةٍ جَائِزٌ بَيْعُهَا، فَهُوَ عَبْدٌ،
لأََنَّ وَلَدَ الأَمَةِ عَبْدٌ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا هَذَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ:
أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ لاَ عِتْقَ
لَهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَابْنِ
عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَطَاءٍ،
كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ
عَبِيدٌ، وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ ثُمَّ أَدْرَكَهَا الْعِتْقُ قَبْلَ أَنْ
تَضَعَهُ فَهُوَ حُرٌّ مَعَهَا مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ السَّيِّدُ لِمَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ: مِنْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَهُوَ تَبَعٌ لَهَا.وَاحْتَجَّ
الْمُخَالِفُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَةِ
أُمِّهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ
الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
قال أبو محمد: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلاَفَهُمْ لِطَوَائِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ
لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، كَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَصُهَيْبٍ،
وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لِدَارٍ وَاشْتِرَاطَ سُكْنَاهَا
مُدَّةَ عُمُرِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ
مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا.وَأَمَّا وَلَدُ أُمِّ
الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُهُمْ، لأََنَّهَا حَرَامٌ بَيْعُهَا وَهُوَ إذَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْضُهَا:
فَحَرَامٌ بَيْعُهُ، وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ بِيَقِينٍ فَلاَ يَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ
إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي
(9/39)
جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهَا.فَإِنْ ذَكَرُوا " كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا " فَهُوَ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا فِي وَلَدِ الْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، وَوَلَدُ الْمُعْتَقَةِ إلَى أَجَلٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/40)
1553 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بِصِفَةٍ : حَلاَلٌ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْعِتْقُ بِحُلُولِ تِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا، فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُصْبِحْ الْغَدُ، أَوْ كَمَنْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ إذَا أَفَاقَ مَرِيضِي: فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُفِقْ مَرِيضُهُ، لأََنَّهُ عَبْدٌ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِتْقَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِمْ.وقال مالك: "كَذَلِكَ فِي الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ تَكُونَ، وَلَمْ يَقُلْهُ فِي الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ.فَقُلْنَا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا إِلاَّ أَنَّهُ حَتَّى الآنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى وَاحْتِجَاجٌ لِقَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِمْ".
(9/40)
وجائز
لمن أتى السوق من أهله ومن غير أهله
...
1554 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِمَنْ أَتَى السُّوقَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ
غَيْرِ أَهْلِهِ، أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي السُّوقِ،
وَبِأَكْثَرَ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لأََهْلِ السُّوقِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ
لِلسُّلْطَانِ وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ
سِعْرِهَا، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ.
قال علي: "وهذا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ التَّرْخِيصِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَيُبِيحُونَ لَهُ التَّغْلِيَةَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَا نَعْلَمُ
قَوْلَهُمْ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ. ثُمَّ زَادُوا فِي الْعَجَبِ
وَاحْتَجُّوا بِاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ
أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ
إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَأَمَّا أَنْ تَرْفَعَ، عَنْ سُوقِنَا".
قال علي: "هذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ
حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالثَّانِي
أَنَّهُمْ كَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ كَإِجْبَارِهِ بَنِي عَمٍّ عَلَى
النَّفَقَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِمْ وَكَعِتْقِهِ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ إذَا
مَلَكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، لأََنَّ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ إِلاَّ نَعْيَهُ
النُّعْمَانَ بْنَ مُقْرِنٍ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا
قَدْ أَخْطَئُوا فِيهِ عَلَى عُمَرَ، فَتَأَوَّلُوهُ بِمَا لاَ يَجُوزُ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ إمَّا أَنْ
تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، يُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ مِنْ الْمَكَايِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا
تَبِيعُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ هَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ
أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ مُبَيَّنًا
كَمَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حَاطِبَ بْنَ
أَبِي بَلْتَعَةَ يَبِيعُ الزَّبِيبَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَبِيعُ يَا
حَاطِبٌ فَقَالَ: مُدَّيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَبْتَاعُونَ بِأَبْوَابِنَا،
وَأَفْنِيَتِنَا
(9/40)
ومن
ابتاع سلعة في السوق فلا يحل أن يحكم عليه بشر كفيها
...
1555 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ
يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُشْرِكُهُ فِيهَا أَهْلُ تِلْكَ السُّوقِ، وَهِيَ
لِمُشْتَرِيهَا خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ.وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ:
"يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُشْرِكُوهُ فِيهَا وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ
غَيْرَهُمْ وَهُوَ ظُلْمٌ ظَاهِرٌ، وَيُبْطِلُهُ" قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَلَمْ يَتَرَاضَ
الْبَائِعُ إِلاَّ مَعَ هَذَا الْمُبْتَاعِ لاَ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ بِهِ
لِغَيْرِهِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. بَلْ قَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ الْحُكْمُ عَلَى أَهْلِ
السُّوقِ بِهَذَا فِي غَيْرِهِمْ لاَ لَهُمْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "قَدِمَ الْمَدِينَةَ
طَعَامٌ فَخَرَجَ أَهْلُ السُّوقِ إلَيْهِ فَابْتَاعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ:
أَفِي سُوقِنَا هَذَا تَتَّجِرُونَ أَشْرِكُوا النَّاسَ، أَوْ اُخْرُجُوا
فَاشْتَرُوا ثُمَّ ائْتُوا فَبِيعُوا".
قال علي: "وهذا الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ أَعْظَمُ الضَّرَرِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لأََنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَةِ مِنْ السُّوقِ يَتَوَاطَئُونَ
عَلَى إمَاتَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي يَبِيعُهَا الْجَالِبُ أَوْ الْمُضْطَرُّ،
وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَزِيدُوا فِيهَا، وَيَتْرُكُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ
يَسُومُهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمُضْطَرُّ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهَا
بَيْنَهُمْ، وَهَذَا وَاجِبٌ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لأََنَّهُ غِشٌّ، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا" .
(9/41)
ولا
يجوز البيع بالبراءة من كل عيب ولا على أن لا يقوم على العيب
...
1556 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ،
وَلاَ عَلَى أَنْ لاَ يُقَوَّمَ عَلَيَّ بِعَيْبٍ وَالْبَيْعُ هَكَذَا فَاسِدٌ
مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْبَرَاءَةِ،
وَلَمْ يَرَ لِلْمُشْتَرِي الْقِيَامَ بِعَيْبٍ أَصْلاً عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ
لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ سُفْيَانُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ: إلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعُيُوبِ
عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ
لاَ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ إِلاَّ فِي الْحَيَوَانِ
خَاصَّةً فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ عُيُوبِ الْحَيَوَانِ
الْمَبِيعِ، وَلاَ يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ عُيُوبِهِ فَكَتَمَهُ.
وَلِمَالِكٍ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: "أَحَدُهَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا
أَنَّهُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
حَرْفًا حَرْفًا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ.وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ
بِذَلِكَ إِلاَّ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً، فَيَبْرَأُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ وَلاَ
يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَ
(9/41)
1557 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ كُتُبِ الْعُلُومِ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا
(9/44)
لأََنَّ
الَّذِي يُبَاعُ إنَّمَا هُوَ الرَّقُّ أَوْ الْكَاغَدُ أَوْ الْقِرْطَاسُ
وَالْمِدَادُ، وَالأَدِيمُ إنْ كَانَتْ مُجَلَّدَةً وَحِلْيَةً إنْ كَانَتْ
عَلَيْهَا فَقَطْ وَأَمَّا الْعِلْمُ فَلاَ يُبَاعُ، لأََنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي
سُلَيْمَانَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ، وَتَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ
بِالأَرْشِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَجْلاَنَ هُوَ الأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت أَنَّ الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ
الْمَصَاحِفِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا هَمَّامُ بْنُ
يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى الْحَرَشِيِّ، عَنْ
مُطَرِّفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْت فَتْحَ تُسْتَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ فَأَصَبْنَا دَانْيَالَ بِالسُّوسِ وَمَعَهُ رَبْعَةٌ فِيهَا
كِتَابٌ، وَمَعَنَا أَجِيرٌ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ: تَبِيعُونِي هَذِهِ الرَّبْعَةَ
وَمَا فِيهَا قَالُوا: إنْ كَانَ فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ كِتَابُ اللَّهِ
لَمْ نَبِعْك قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَرِهُوا
بَيْعَهُ، قَالَ: " فَبِعْنَاهُ الرَّبْعَةَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَوَهَبْنَا
لَهُ الْكِتَابَ"، قَالَ قَتَادَةُ: "فَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ بَيْعُ
الْمَصَاحِفِ، لأََنَّ الأَشْعَرِيَّ وَالصَّحَابَةَ كَرِهُوا بَيْعَ ذَلِكَ
الْكِتَابِ".
قال أبو محمد: "إنَّمَا كَرِهُوا الْبَيْعَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ
أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ وَهَبُوهُ
لَهُ بِلاَ ثَمَنٍ".وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ،
وَمَسْرُوقًا، وَشُرَيْحًا، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَقَالُوا: "لاَ
نَأْخُذُ لِكِتَابِ اللَّهِ ثَمَنًا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ"،
عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ ذَكَرَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ فِي الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا". وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي
الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ شِرَاءَ الْمَصَاحِفِ وَبَيْعَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قُلْت لِعَلْقَمَةَ: أَبِيعُ مُصْحَفًا قَالَ:
"لاَ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
لَحْسُ الدُّبُرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.وَمِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "لاَ
يُورَثُ الْمُصْحَفُ": هُوَ لأََهْلِ الْبَيْتِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ.وَمِنْ
طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا خَالِدٌ
هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ
قَالَ:
(9/45)
كَانَ
يَكْرَهُ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ
الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا، وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ
أَنَا مَهْدُ بْنُ مَيْمُونٍ سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، عَنْ كُتَّابِ
الْمَصَاحِفِ بِالأَجْرِ فَقَالَ: "كَرِهَ كُتَّابَهَا وَاسْتِكْتَابَهَا وَبَيْعَهَا
وَشِرَاءَهَا".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سَالِمٍ هُوَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: "بِئْسَ التِّجَارَةُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَشُعْبَةَ، قَالَ
سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ
أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ،
وَابْنُ جُبَيْرٍ قَالاَ جَمِيعًا: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ تَبِعْهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اشْتَرِ، وَلاَ تَبِعْ يَعْنِي الْمَصَاحِفَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَفَّانَ أَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ قَالَ: اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا وَهُوَ
قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ،
عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَكَرِهَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ
تَبِعْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ حَتَّى
أَرْخَصَ لَهُ، فَهَؤُلاَءِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَكُلُّ مَنْ مَعَهُ مِنْ
صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عُمَرَ: سِتَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَسْمَائِهِمْ،
ثُمَّ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِإِطْلاَقٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَمِنْ
التَّابِعِينَ الْمُسَمَّيْنَ: مَسْرُوقٌ، وَشُرَيْحٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ مَالِكٍ،
وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ،
وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، كُلُّهُمْ يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَلاَ
يَرَاهُ سِوَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ
وَمَا نَعْلَمُهُ رَوَى إبَاحَةَ بَيْعِهَا إِلاَّ، عَنِ الْحَسَنِ،
وَالشَّعْبِيِّ بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُمَا، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَثَرَيْنِ
مَوْضُوعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ
طَلْقِ بْنِ السَّمْحِ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَمْرٍو الأَيْلِيِّ قَالَ:
كَانَ ابْنُ مُصَبِّحٍ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ وَيَبِيعُهَا،
وَلاَ يُنْكَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالآخَرُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ،
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ
عَنْ بُكَيْرٍ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهَا يَتَّخِذُهَا مَتْجَرًا، وَلاَ يَرَى بَأْسًا بِمَا
عَمِلَتْ يَدَاهُ
(9/46)
مِنْهَا أَنْ يَبِيعَهُ. ابْنُ حَبِيبٍ سَاقِطٌ، وَابْنُ مُصَبِّحٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَطَلْقُ بْنُ السَّمْحِ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَمْرٍو سَاقِطٌ وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَبُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ ضَعِيفٌ ثُمَّ هُمَا مُخَالِفَانِ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُصَبِّحٍ: أَنَّ عُثْمَانَ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَلاَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَّخِذَ بَيْعَهَا مَتْجَرًا. فَأَيْنَ الْمَالِكِيُّونَ، وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، وَالْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ وَافَقُوا هَهُنَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ عَنْهَا أَبْلَغَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ فِي ابْتِيَاعِهِ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَيْعِهِ إيَّاهُ مِنْ الَّتِي بَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَقَدْ خَالَفَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ.، وَلَمْ يَقُولُوا هَهُنَا فِيمَا صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ مِنْ إبَاحَةِ قَطْعِ الأَيْدِي فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ جُمْلَةً فَهَلاَّ قَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ"، وَلَكِنْ هَهُنَا يَلُوحُ تَنَاقُضُهُمْ فِي كُلِّ مَا تَحْكُمُوا بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ.وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَمْ قَلُّوا كَائِنًا مَنْ كَانَ الْقَائِلُ، لاَ نَتَكَهَّنُ فَنَقُولُ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَنَنْسُبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ جِهَارًا. وَالْحُجَّةُ كُلُّهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا حَلاَلٌ، إذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَلَوْ فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ لَحَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/47)
1558
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى حَالَّةً، أَوْ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا فَلَهُ أَنْ يَبْتَاعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ
مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ مِثْلِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ مِنْهُ،
وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ حَالًّا وَإِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَقْرَبَ مِنْ
الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ إلَيْهِ، أَوْ أَبْعَدَ وَمِثْلَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ
لاَ كَرَاهِيَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَنْ شَرْطٍ
مَذْكُورٍ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ، عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ
مَفْسُوخٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله
تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَانِ بَيْعَانِ
فَهُمَا حَلاَلاَنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلُ تَحْرِيمِهِمَا
فِي كِتَابٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فَلَيْسَا بِحَرَامٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ ذَلِكَ
فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"
(9/47)
وَذَهَبَ
أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَا وَقَبَضَ
السِّلْعَةَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْبَائِعِ لَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ
الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ هُوَ الثَّمَنَ الَّذِي
كَانَ اشْتَرَاهَا هُوَ بِهِ: فَالْبَيْعُ الثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ
الَّذِي كَانَ ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِدَنَانِيرَ، وَكَانَ هُوَ قَدْ اشْتَرَاهَا
بِدَرَاهِمَ أَوْ ابْتَاعَهَا بِدَنَانِيرَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا
بِدَرَاهِمَ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الثَّمَنِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ
الثَّمَنِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا
بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهَا هُوَ
مِنْهُ بِسِلْعَةٍ جَازَ ذَلِكَ كَانَ ثَمَنُهَا أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي
اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنْ ابْتَاعَهَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا
بِثَمَنٍ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ
الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ: "وَكُلُّ مَا
يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْبَائِعِ الأَوَّلِ فَهُوَ يَحْرُمُ
عَلَى شَرِيكِهِ فِي التِّجَارَةِ الَّتِي تِلْكَ السِّلْعَةُ مِنْهَا"،
وَعَلَى وَكِيلِهِ، وَعَلَى مُدَبَّرِهِ، وَعَلَى مُكَاتَبِهِ، وَعَلَى عَبْدِهِ
الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ, وقال مالك: "مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً
بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ ابْتَاعَهَا هُوَ مِنْ الَّذِي
ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الأَجَلِ
لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً لَيْسَتْ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا
بِثَمَنٍ مُسَمًّى ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ بَاعَهَا مِنْهُ قَبْلَ
أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَلاَ
بَأْسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعَيْنَةِ وَقَدْ نَقَدَهُ
الثَّمَنَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ فَإِنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي
بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، أَوْ بِسِلْعَةٍ
تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ
ذَلِكَ الأَجَلِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ
يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ
نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، أَوْ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ بَائِعِهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، وَلاَ بِسِلْعَةٍ تُسَاوِي
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ".
قال أبو محمد: "احْتَجَّ أَهْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ امْرَأَتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ
يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةَ بِنْتِ أَيْفَعَ بْنِ
شُرَحْبِيلَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمِّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "إنِّي بِعْت غُلاَمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ
بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّك قَدْ أَبْطَلْت
جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَمَا
اشْتَرَيْت وَبِئْسَمَا شَرَيْت قَالَتْ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ
مَالِي قَالَتْ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ فَقَالُوا: مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلاَ فِيمَا
سَبِيلُهُ الأَجْتِهَادُ فَصَحَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ". وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ
(9/48)
الثَّوْرِيُّ،
عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَيْسِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَبِيعُ الْجَرِيرَةَ إلَى رَجُلٍ فَكَرِهَ أَنْ
يَشْتَرِيَهَا يَعْنِي بِدُونِ مَا بَاعَهَا. وَقَالُوا: "هِيَ دَرَاهِمُ
بِأَكْثَرَ مِنْهَا" وَقَالُوا: "هَذَانِ أَرَادَا الرِّبَا
فَتَحَيَّلاَ لَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ مَا لَهُمْ شَيْءٌ شَغَبُوا بِهِ غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَاهُ".
فأما خَبَرُ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ فَفَاسِدٌ جِدًّا، لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا
أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولَةُ الْحَالِ، لَمْ يَرْوِ عَنْهَا
أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا، وَوَلَدُهَا يُونُسُ، عَلَى أَنَّ يُونُسَ قَدْ
ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ بِأَقْبَحِ التَّضْعِيفِ وَضَعَّفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا، وَقَالَ فِيهِ شُعْبَةُ: أَمَا قَالَ لَكُمْ:
حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ مُدَلِّسٌ،
وَأَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمْ تَسْمَعْهُ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلاَ وَلَدُهَا: أَنَّهَا
سَمِعَتْ سُؤَالَ الْمَرْأَةِ لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ جَوَابَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ لَهَا، إنَّمَا فِي حَدِيثِهَا دَخَلْت عَلَى أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا، وَأُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَسَأَلَتْهَا
أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
السُّؤَالُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ،
فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ
الأَنْصَارِيُّ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ
اللَّخْمِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ الْقَاضِي أَنَا الْحَسَنُ بْنُ
مَرْوَانَ الْقَيْسَرَانِيُّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا لَهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ،
فَاحْتَاجَ فَابْتَاعَتْهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: "بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا
اشْتَرَيْت مِرَارًا"، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ
جِهَادُهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قَالَتْ: "فَإِنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ مَالِي
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ", وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ:
"سَمِعْت امْرَأَةَ أَبِي السَّفَرِ تَقُولُ: سَأَلْت عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْت: بِعْت زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ خَادِمًا إلَى الْعَطَاءِ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ بِئْسَ مَا شَرَيْت أَوْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت
أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ: أَفَرَأَيْت إنْ أَخَذْت رَأْسَ
مَالِي قَالَتْ: "لاَ بَأْسَ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ" فَبَيَّنَ سُفْيَانُ الدَّفِينَةَ الَّتِي فِي
هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْهُ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا رَوَتْهُ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ،
وَهِيَ الَّتِي بَاعَتْ مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدٍ، وَهِيَ فِي
الْجَهَالَةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنْ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَصَارَتْ
مَجْهُولَةً عَنْ أَشَدَّ مِنْهَا جَهَالَةً وَنَكِرَةً فَبَطَلَ جُمْلَةً
وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَلَيْسَ بَيْنَ يُونُسَ، وَبَيْنَ سُفْيَانَ
نِسْبَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْحِفْظِ، فَالرِّوَايَةُ مَا رَوَى سُفْيَانُ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ عَلَى كَذِبِ هَذَا الْخَبَرِ
وَوَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَصْلاً: مَا فِيهِ
مِمَّا نُسِبَ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّهَا قَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدَ
بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ
(9/49)
أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَزَيْدٌ لَمْ يَفُتْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا غَزْوَتَانِ فَقَطْ بَدْرٌ، وَأُحُدٌ فَقَطْ، وَشَهِدَ مَعَهُ عليه السلام سَائِرَ غَزَوَاتِهِ، وَأَنْفَقَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَشَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالصِّدْقِ وَبِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَنَصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَوَاَللَّهِ مَا يُبْطِلُ هَذَا كُلَّهُ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ غَيْرُ الرِّدَّةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَطْ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَعَاذَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْبَاطِلَ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُوَضِّحُ كَذِبَ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ زَيْدًا أَتَى أَعْظَمَ الذُّنُوبِ مِنْ الرِّبَا الْمُصَرَّحِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ لَكَانَ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ أَجْرًا وَاحِدًا غَيْرَ آثِمٍ، وَلَكَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لأَبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ جِهَارًا يَدًا بِيَدٍ، وَمَا لِطَلْحَةَ رضي الله عنه إذْ أَخَذَ دَنَانِيرَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ثُمَّ أَخَّرَهُ بِالدَّرَاهِمِ فِي صَرْفِهَا إلَى مَجِيءِ خَازِنِهِ مِنْ الْغَابَةِ بِحَضْرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه: فَمَا زَادَ عُمَرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ، وَلاَ زَادَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى لِقَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ. وَمَا أَبْطَلَ عُمَرُ. وَلاَ أَبُو سَعِيدٍ بِذَلِكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً مِنْ عَمَلِ طَلْحَةَ. وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلاَ الْوَجْهَيْنِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ رِبًا صُرَاحٌ، وَلاَ شَيْءَ فِي الرِّبَا فَوْقَهُ. فَكَيْفَ يُظَنُّ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إبْطَالُ جِهَادِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي شَيْءٍ عَمِلَهُ مُجْتَهِدًا، لاَ نَصَّ فِي الْعَالَمِ يُوجَدُ خِلاَفُهُ، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ هَذَا وَاَللَّهِ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، فَلْيَتُبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يُحَرِّمُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ بَرَاهِينُ أَرْبَعَةٌ فِي بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَكْذُوبَةٌ ثم نقول: "إنَّهُ لَوْ صَحَّ صِحَّةَ الشَّمْسِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ"، وَمَا قَوْلُهَا بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ زَيْدٍ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْهُ إذَا تَنَازَعَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالرَّدِّ إلَى أَحَدٍ دُونَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ لَهُمْ كَمْ قَوْلَةٍ رَدَدْتُمُوهَا لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ كَبَيْعِهَا الْمُدَبَّرَةَ وَإِبَاحَتِهَا الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَاطَّرَحْتُمْ حُكْمَهَا وَتَعَلَّقْتُمْ بِمُخَالَفَةِ عُمَرَ لَهَا فِي الْمُدَبَّرَةِ وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ مَنْ قَدَّمَ ثِقْلَهُ مِنْ مِنًى قَبْلَ أَنْ يَنْفِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ، وَالأَشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ، فَأَطْرَحْتُمْ قَوْلَ عُمَرَ، وَلَمْ تَقُولُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ وَخَالَفْتُمُوهُ" لِقَوْلِ ابْنِهِ: لاَ أَعْرِفُ الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَمَرَّةً يَكُونُ قَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةً، وَمَرَّةً لاَ يُشْتَغَلُ بِهِ، وَمَرَّةً تَكُونُ عَائِشَةُ حُجَّةً عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعُمَرُ حُجَّةً عَلَى عَائِشَةَ، وَابْنُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى عُمَرَ، وَغَيْرُ ابْنِ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا هُوَ التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ وَبِالْحَقَائِقِ
(9/50)
وَالثَّالِثُ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي
قَبْلَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي
بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَهَلاَّ قُلْتُمْ مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ
كَمَا قُلْتُمْ هَهُنَا وَالرَّابِعُ أَنَّ مِنْ الضَّلاَلِ الْعَظِيمِ أَنْ
يُظَنَّ أَنَّ عِنْدَهَا، رضي الله عنها، فِي هَذَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَثَرًا ثُمَّ تَكْتُمُهُ فَلاَ تَرْوِيهِ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى حَاشَا لَهَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكْتُمَ مَا عِنْدَهَا مِنْ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَمَا حَصَلُوا إِلاَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْوِيلِهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، إذْ لَوْ
قَالَهُ لَكَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ إلَى
أُمَّتِهِ، وَالْكَذِبِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخَامِسُ أَنَّهَا
أَنْكَرَتْ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ بِقَوْلِهَا بِئْسَ مَا شَرَيْت
وَالْمَالِكِيُّونَ يُبِيحُونَهُ بِمِثْلِ هَذَا، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا نِصْفُ
كَلاَمِهَا حُجَّةٌ وَنِصْفُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالسَّادِسُ أَنَّنَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ خَدِيجِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أُمِّ مَحَبَّةَ خَتَنَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا
نَذَرَتْ مَشْيًا إلَى مَكَّةَ فَعَجَزَتْ فَقَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ
لَكِ ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا أَعْظَمُ فِي
نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ لاَ حُجَّةَ فِيهَا
فَهِيَ تِلْكَ نَفْسُهَا أَوْ مِثْلُهَا، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ، عَنْ أُمِّ مَحَبَّةَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ حُجَّةً
فَهَذَا حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ التَّنَاقُضُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا
الأَحْتِجَاجِ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ
عُمَرَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "ذُكِرَ لأَبْنِ عُمَرَ رَجُلٌ بَاعَ سَرْجًا
بِنَقْدٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ
يَنْتَقِد"َ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَعَلَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ
غَيْرِهِ بَاعَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا", وَكَمْ قِصَّةٍ
لأَبْنِ عَبَّاسٍ خَالَفُوهُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا آنِفًا فَسَقَطَ
تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
قَالَ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ
الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قَاصَصَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهَا دَرَاهِمُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا
فَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ جِدًّا، وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِهِمْ: مَا تَقُولُونَ
فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ بِدِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ
بِدِينَارَيْنِ؟ فَقَالَ: حَلاَلٌ فَقُلْت لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَاهُ بِدِينَارٍ رِبًا وَدِينَارًا
بِدِينَارَيْنِ، وَلَمْ يَجِبْ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهُ
بِدِينَارَيْنِ أَنْ يَكُونَ رِبًا وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ، وَهَلْ فِي
الْهَوَسِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَبِيعَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو دِينَارًا
بِدِينَارَيْنِ فَيَكُونَ رِبًا، وَيَبِيعَ مِنْهُ دِينَارَيْنِ بِدِينَارٍ فَلاَ
يَكُونُ رِبًا، لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ دِينٍ وَجَدْتُمْ هَذَا أَمْ فِي أَيِّ
عَقْلٍ فَمَا أَتَى بِفَرْقٍ، وَلاَ يَأْتُونَ بِهِ أَبَدًا.وَأَمَا قَوْلُهُمْ:
إنَّهُمَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْنَا فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا
(9/51)
الْعَمَلِ
فَجَوَابُهُمْ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْتُمْ
فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا الْعَمَلِ، فَبَارَكَ اللَّهُ فِيهِمَا، فَقَدْ أَحْسَنَا
مَا شَاءَا إذْ هَرَبَا مِنْ الرِّبَا الْحَرَامِ إلَى الْبَيْعِ الْحَلاَلِ،
وَفَرَّا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مَا أَحَلَّ، وَلَقَدْ أَسَاءَ
مَا شَاءَ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِمَا، وَأَثِمَ مَرَّتَيْنِ لأَِنْكَارِهِ
إحْسَانَهُمَا، ثُمَّ لِظَنِّهِ بِهِمَا مَا لَعَلَّهُمَا لَمْ يَخْطِرْ
بِبَالِهِمَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الظَّنُّ
أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" .
وَأَمَّا أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ تَقْسِيمِهِمَا، وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَهُ يَرَى
أَنَّهَا تَقَاسِيمُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَالتَّنَاقُضِ. كَتَفْرِيقِ أَبِي
حَنِيفَةَ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِسِلْعَةٍ وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِدَنَانِيرَ،
وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ وَكَتَحْرِيمِهِ ذَلِكَ
عَلَى وَكِيلِهِ وَشَرِيكِهِ وَكَتَفْرِيقِ مَالِكٍ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ
بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَ بَاعَهَا بِهِ فَيَرَاهُ حَلاَلاً، وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ
بِأَقَلَّ فَيَرَاهُ حَرَامًا، وَهَذِهِ عَجَائِبُ بِلاَ دَلِيلٍ كَمَا تَرَى
ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْهَمَ أَنَّهُ أَخَذَ بِخَبَرِ عَائِشَةَ، رضي الله
عنها، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، لأََنَّهُ يَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ
حَالٍّ مَا لَمْ يَنْتَقِدْ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي خَبَرِ
عَائِشَةَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/52)
1559 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ دُورِ مَكَّةَ أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَابْتِيَاعُهَا حَلاَلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
(9/52)
وبيع
الأعمى أو ابتاعياعه بالصفة جائز
...
1560 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الأَعْمَى، أَوْ ابْتِيَاعُهُ بِالصِّفَةِ جَائِزٌ
كَالصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/52)
1561- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْعَبْدِ، وَابْتِيَاعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ جَائِزٌ، مَا لَمْ يَنْتَزِعْ سَيِّدُهُ مَالَهُ فَإِنْ انْتَزَعَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَالُ السَّيِّدِ، لاَ يَحِلُّ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ حَرَامًا لَفَصَّلَهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَنَا، وَلَمَا أَلْجَأَنَا فِيهِ إلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ وَالآرَاءِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ حَلاَلٌ غَيْرُ حَرَامٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الزَّكَاةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ صِحَّةَ مِلْكِ الْعَبْدِ لِمَالِهِ، وَأَمَّا انْتِزَاعُ السَّيِّدِ مَالَ الْعَبْدِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَسَأَلَ، عَنْ ضَرِيبَتِهِ فَأَمَرَ مَوَالِيَهِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ قَالَ ] "حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ" فَصَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لأََنَّهُ عليه السلام أَعْطَاهُ أَجْرَهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ وَصَحَّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَهُ بِأَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يُخَفِّفَ
(9/52)
1562 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ مُذْ تَبْلُغُ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَُبِ، وَغَيْرِ ذَاتِ الأَُبِ وَالثَّيِّبِ ذَاتِ الزَّوْجِ وَاَلَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا جَائِزٌ، وَابْتِيَاعُهَا كَذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي " كِتَابِ الْحَجْرِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.
(9/54)
ومن
مالك معدنا له جاز بيعه
...
1563 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَلَكَ مَعْدِنًا لَهُ جَازَ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ مَالٌ
مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ بِذَهَبٍ،
لِأَنَّهُ ذَهَبٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، إذْ الذَّهَبُ مَخْلُوقٌ فِي مَعْدِنِهِ
كَمَا هُوَ هُوَ، جَائِزٌ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ [ وَبِغَيْرِ الْفِضَّةِ ]
نَقْدًا وَإِلَى أَجَلٍ وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ فِضَّةٍ
جَازَ بَيْعُهُ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ نَقْدًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى أَجَلٍ،
لِأَنَّهُ لَا فِضَّةَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ تُرَابُهُ بِالطَّبْخِ
فِضَّةً. وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَقَدْ أَجَازَ بَيْعَ النَّخْلِ لَا ثَمَرَ
فِيهَا بِالتَّمْرِ نَقْدًا وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ وَنَسِيئَةً، وَالتَّمْرُ
يَخْرُجُ مِنْهَا وَكَذَلِكَ أَبَاحَ بَيْعَ الأَُرْضِ بِالْبُرِّ، وَكُلُّ هَذَا
سَوَاءٌ - وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.
(9/54)
1564
- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْكَلاَِ جَائِزٌ فِي أَرْضٍ وَبَعْدَ قَلْعِهِ،
لأََنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الأَرْضِ وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ
الْمَرْءِ فَهُوَ مِنْ مَالِهِ، كَالْوَلَدِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالثَّمَرِ،
وَالنَّبَاتِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وقال
أبو حنيفة: "لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْكَلاَِ إِلاَّ بَعْدَ
قَلْعِهِ".قَالَ عَلِيٌّ: وَمَا نَعْلَمُ لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً
وَإِنَّمَا هُوَ تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ، وَدَعْوَى سَاقِطَةٌ فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَا أَبُو خِدَاشٍ "
أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: إنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ غَزَوَاتٍ
فَسَمِعَهُ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ الْمَاءُ وَالْكَلاَُ
وَالنَّارُ" وَرَوَاهُ أَيْضًا حُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ
زَيْدٍ الشَّرْعَبِيِّ وَهُوَ أَبُو خِدَاشٍ نَفْسُهُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَرْنٍ
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُرَيْرِيُّ
قَالَ لِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"اتَّقُوا السُّحْتَ بَيْعَ الشَّجَرِ وَإِجَارَةَ الأَمَةِ الْمُسَافِحَةِ
وَثَمَنَ الْخَمْرِ" وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ أَنَا أَبِي كَهْمَسٍ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ مَنْظُورٍ
الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُهَيْسَةَ، عَنْ أَبِيهَا سَأَلَ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم مَا الَّذِي لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ فَأَجَابَهُ: الْمَاءُ،
وَالْمِلْحُ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ أَبُو خِدَاشٍ هُوَ حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ
الشَّرْعَبِيُّ نَفْسُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ
الْحَنَفِيِّينَ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ
أَوْلَى بِهِ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ النَّارِ
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ,وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ
(9/54)
1565 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الشِّطْرَنْجِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالْعِيدَانِ، وَالْمَعَازِفِ، وَالطَّنَابِيرِ: حَلاَلٌ كُلُّهُ، وَمَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صُورَةً مُصَوَّرَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، لأََنَّهَا مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهَا.وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَابْتِيَاعُهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ َرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ لاَ تَصِحُّ، أَوْ يَصِحُّ بَعْضُهَا، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، وَهِيَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى ب