5. زاد المعاد في هدي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى :
751هـ)
وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ
الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة،
فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد
غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً فى أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان
ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن
الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب
فى قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة
أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده، فتولَّد من فعله المأذون فيه
من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا
ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ فى وقت،
وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن،
وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه فى وقته على الوجه الذى ينبغى
فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل فى سببها،
كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة فى
إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ،
والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى فى إيجابهما الضمانَ فى ذلك،
واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية
الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه
النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ
الشافعىُّ بين
المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين
غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن فى الفعل إنما وقع
مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر
إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر
كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه فى مَظِنَّة
العُدوان.
فصل
القسمُ الثانى: متطبِّبٌ جاهِلٍ باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم
المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له فى طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه
الصورة ظاهرَ الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل،
وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له فى طِبه لأجل
معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن
أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
فصل
القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق، أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت
إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ،
لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن
عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة فى ماله، أو فى بيت المال ؟ على قوليْن، هما روايتان عن
أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا،
ففى ماله؛ وإن كان مسلماً،
ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو
تجب فى مال الجانى ؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
فصل
القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته، اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ فى
اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض فى بيت
المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد فى خطإ
الإمام والحاكم.
فصل
القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها، فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو
مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ،
فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو
وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما
على المُحسنين من سبيلٍ. وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ فى
إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع
نظر.
فصل
والطبيبُ فى هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذى يُخَصُّ باسم
الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ،
وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام،
وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته
وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم،
كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة
بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
فصل
والطبيب الحاذق: هو الذى يراعى فى علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر فى نوع المرض من أى الأمراض هو ؟
الثانى: النظر فى سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التى كانت سببَ حدوثه
ما هى ؟
الثالث: قوة المريض، وهل هى مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه ؟ فإن كانت مقاومةً للمرض،
مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو ؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء فى وقت المرض.
الحادى عشر: النظر فى الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثانى عشر: النظر فى قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ
يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى
أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه
متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى
الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء
البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل
المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر فى العِلَّة، هل هى مما يمكن علاجُها أو لا ؟ فإن لم يُمكن
علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن
أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا ؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل
يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا ؟ فإن لم يمكن
تقليلُها، ورأى أنَّ غاية
الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة
السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ
نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم
فى علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب
إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا
خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً فى علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ
طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل
الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر.
ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال
إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ فى دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من
الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها فى ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل،
فإنَّ لِحذَّاق الأطباء فى التخييل أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق
يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان:
حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو
تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى
المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما،
وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة مدارُ
العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التى يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله
أعلم.
فصل
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على
الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ فى كل
حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى فى ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما
يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة فى
ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة
الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك فى صعود المرض،
لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض
ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر
آخر، ولكن الواجب فى هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ فى استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ فى
الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ
سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ فى الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته
وشَوْكتُه إنما هى فى ابتدائه،
وحال استفراغه، وسعة قُوَّته،
فهكذا الداء والدواء سواء.
فصل
وَمِن حِذق الطبيب أنه حيث أمكن التدبير بالأسهل، فلا يَعْدِلُ إلى الأصعب،
ويتدَّرج من الأضعف إلى الأقوى إلا أن يخاف فَوتَ القُوَّة حينئذ، فَيجبُ أن
يبتدىء بالأقوى، ولا يُقيم فى المعالجة على حال واحدة فتألفُها الطبيعة، ويَقِلُّ
انفعالُها عنه، ولا تَجْسُر على الأدوية القوية فى الفصول القوية، وقد تقدَّم أنه
إذا أمكنه العِلاجُ بالغذاء، فلا يُعالِج بالدواء، وإذا أشكل عليه المرضُ أحارٌ هو
أم بارد ؟ فلا يقدم حتى يتبيَّن له، ولا يُجرِّبه بما يخاف عاقبته، ولا بأس
بتجرِبته بما لا يضرُّ أثرُه.
وإذا اجتمعت أمراض، بدأ بما تخصه واحدة من ثلاث خصال:
إحداها: أن يكون بُرء الآخر موقوفاً على بُرئه كالورم والقُرحة، فإنه يبدأ بالورم.
الثانية: أن يكون أحدهُما سبباً للآخر، كالسَّدة والحُمَّى العَفِنة، فإنه يبدأ
بإزالة السبب.
الثالثة: أن يكون أحدهما أهمَ من الآخر، كالحاد والمزمن، فيبدأ بالحاد. ومع هذا
فلا يغفُلُ عن الآخر. وإذا اجتمع المرض والعَرَض، بدأ بالمرض، إلا أن يكون
العَرَضُ أقوى كالقُولنج، فيُسكن الوجع أولاً، ثم يُعالج السَّدة. وإذا أمكنه أن
يعتاضَ عن المعالجة بالاستفراغ بالجوع أو الصوم أو النوم، لم يستفرغه، وكُلّ صحة
أراد حفظها، حفظها بالمثل أو الشبه، وإن أراد نقلها إلى ما هو أفضلُ منها، نقلها
بالضد.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى التحرز من الأدواء المعدية بطبعها، وإرشاده الأصحاءَ إلى
مجانبة أهلها
ثبت فى "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله، أنه كان فى وَفْد ثَقِيف
رجلٌ مجذومٌ، فأرسل إليه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"ارْجِعْ فَقَدْ بايَعْنَاكَ".
وروى البخارى فى "صحيحه" تعليقاً مِن حديث أبى هريرة، عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا
تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ".
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا تُدِيمُوا النَّظَرَ إلى الْمَجْذُومِين ".
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة، قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ".
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِّمْ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ
أَوْ رُمْحَيْنِ ".
الجُذَام: عِلَّة رديئة تحدثُ من انتشار المِرَّةِ السَّوداء فى البدن كُلِّه،
فيفسُد مِزاجُ الأعضاء وهيئتُها وشكلُها، ورُبما فسد فى آخره اتصالُها حتى
تتأكَّلَ الأعضاء وتسقط، ويُسمى داءَ الأسد.
وفى هذه التسمية ثلاثةُ أقوال للأطباء؛ أحدها: أنها لِكثرة ما تعترى الأسد.
والثانى: لأنَّ هذه العِلَّة تُجهِّم وجهَ صاحبها وتجعلُه فى سُحنةَ الأسد.
والثالث: أنه يفترِسُ مَن يقرُبه، أو يدنو منه بدائه افتراسَ الأسد.
وهذه العِلَّة عند الأطباء من العلل المُعدية المتوارثة، ومقارِبُ المجذوم، وصاحبِ
السِّل يَسْقَمُ برائحته، فالنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكمال شفقته
على الأُمة، ونُصحه لهم نهاهم عن الأسباب التى تُعرِّضهم لوصول العيب والفساد إلى
أجسامهم وقلوبهم، ولا ريب أنه قد يكون فى البدن تهيُّؤ واستعداد كامن لقبول هذا
الداء، وقد تكون الطبيعةُ سريعة الانفعال قابلةً للاكتساب من أبدان مَن تُجاوِرُه
وتُخالطه، فإنها نقَّالة، وقد يكون خوفُها من ذلك ووهمهُا مِن أكبر أسباب إصابة
تلك العِلَّة لها، فإنَّ الوهم فعَّال مستَوْلٍ على القُوَى والطبائع، وقد تَصِلُ
رائحة العليل إلى الصحيح فتُسقمه، وهذا
معايَن فى بعض الأمراض،
والرائحةُ أحدُ أسباب العدوى، ومع هذا كله فلا بد من وجود استعدادِ البدن وقبوله
لذلك الداء، وقد تزوَّج النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأةً، فلما
أراد الدخولَ بها، وجَد بكَشْحها بياضاً، فقال: "الْحَقِى بأهْلِكِ".
وقد ظنَّ طائفة مِن الناس أنَّ هذه الأحاديث معارَضةٌ بأحاديثَ أُخَر تُبطلها
وتُناقضها، فمنها: ما رواه الترمذى، من حديث عبد الله بن عمر (ان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيَدِ رجُلٍ مجذومٍ، فأدخلها معه فى القَصْعَةِ،
وقال: "كُلْ باسم الله، ثِقَةً بالله، وتوكُّلاً عليه" ، ورواه ابن
ماجه.
وبما ثبت فى "الصحيح"، عن أبى هُريرة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة".
ونحن نقول: لا تعارُض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة. فإذا وقع التعارضُ، فإما أن
يكون أحدُ الحديثين ليس مِن كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد غَلِطَ
فيه بعضُ الرواة مع كونه ثقةً ثَبتاً، فالثقةُ يَغْلَطُ، أو يكونُ أحدُ الحديثين
ناسخاً للآخر إذا كان مما يَقْبَلُ النسخ، أو يكونُ التعارضُ فى فهم السامع، لا فى
فى نفس كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بُدَّ مِن وجه من هذه الوجوه
الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان مِن كل وجه، ليس أحدُهما ناسخاً
للآخر، فهذا لا يُوجد أصلاً، ومعاذَ اللهِ أن يُوجَدَ فى كلام الصادق المصدوق الذى
لا يخرج من بين شفتيه إلا الحقُّ، والآفةُ مِن التقصير فى
معرفة المنقول، والتمييز بين
صحيحه ومعلوله، أو من القُصور فى فهم مُراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً. ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد
ما وقع.. وبالله التوفيق.
قال ابن قتيبة فى كتاب "اختلاف الحديث" له حكايةً عن أعداء الحديث
وأهله: قالوا: حديثان متناقضان رويتُم عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال: "لا عَدوَى ولا طِّيَرَة". وقيل له: إنَّ
النُّقْبَةَ تقع بمِشْفَرِ البَعيرِ، فيجرَبُ لذلك الإبلُ،
قال: "فما أعدَى الأولَ" ؟، ثم رويتُم: " لا يُوردُ ذو عاهة على
مُصِحٍّ" و"وفِرَّ من المجذومِ فِرارَك من الأسَدِ" ، وأتاه رجل
مجذوم ليُبايَعه بَيْعة الإسلام، فأرسل إليه البَيْعةَ، وأمَره بالانصراف، ولم
يأذن له، وقال: "الشُّؤمُ فى المرأة والدارِ والدَّابةِ".. قالوا: وهذا
كُلُّه مختلِفٌ لا يُشبه بعضُه بعضاً.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه
ليس فى هذا اختلافٌ، ولكل معنى منها وقتٌ وموضع، فإذا وُضِع موضعَه زال الاختلاف
والعدوى جنسان ؛ أحدهما: عدوى الجُذام، فإنَّ المجذوم تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمُ
مَن أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأةُ تكونُ تحتَ المجذوم، فتُضاجِعُه فى
شِعارَ واحد، فيُوصِل إليها الأذى، وربما جُذِمَتْ، وكذلك ولدُه يَنزِعُون فى
الكِبر إليه، وكذلك مَن كان به سِلٌ ودِقٌ ونُقْبٌ. والأطباء تأمر ألا يُجالَس
المسلول ولا المجذُوم، ولا يُريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يُريدون به معنى
تغيُّرِ الرائحة، وأنها قد تُسْقِمْ مَن أطال اشتمامَها، والأطباء أبعدُ الناس عن
الإيمان بيُمن وشُؤم، وكذلك النُّقْبةُ تكون بالبعير وهو جَرَبٌ رَطبٌ فإذا خالط
الإبلَ أو حاكَّها، وأوَى فى مَباركها، وصل إليها بالماء الذى يَسيل منه،
وبالنَّطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذى قال فيه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يُورَدُ ذو عاهة على مُصِح"، كَرِهَ أن يُخالط
المَعْيُوه الصحيحَ، لئلا ينالَه مِن نَطَفه وحِكَّته نحو مما به.
قال: وأما الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعونُ ينزلُ ببلد، فيخرُج منه خوفَ
العدوى، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا وقَعَ بِبَلَدٍ
وأنْتُم به، فلا تَخْرُجُوا مِنْه، وإذا كان بِبَلَدٍ، فلا تَدْخُلُوه ".
يريد بقوله: لا تَخْرُجُوا مِن البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أنَّ الفِرارَ مِن
قَدَر الله يُنجيكم من الله، ويُريد بقوله:
"وإذا كان ببلد فلا تدخلوه "، أى: مُقامُكم فى الموضع الذى لا طاعون فيه
أسْكنُ لقلوبكم، وأطيبُ لعيشكم، ومن ذلك المرأةُ تُعرف بالشؤم أو الدارُ، فينال
الرجلَ مكروةٌ أو جائحةٌ، فيقول: أعدتْنى بشؤمها، فهذا هو العدوى الذى قال فيه
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا عَدْوَى".
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الأمرُ باجتنابِ المجذوم والفِرار منه على
الاستحباب، والاختيار،
والإرشاد. وأما الأكل معه، ففَعلُه لبيانِ الجواز، وأنَّ هذا ليس بحرام.
وقالت فِرْقة أُخرى: بل الخطابُ بهذين الخطابين جزئى لا كلى. فكلُّ واحد خاطبه
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يليق بحاله، فبعضُ الناس يكون
قوىَّ الإيمان، قوىَّ التوكل تدفع قوةُ توكله قُوَّةَ العدوى، كما تدفع قوةُ
الطبيعة قوةَ العِلَّة فتُبطلها، وبعضُ الناس لا يَقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط
والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعل الحالتين معاً،
لتقتدى به الأُمة فيهما، فيأخذ مَن قَوى من أُمته بطريقة التوكل والقُوَّة والثقة
بالله، ويأخذ مَن ضَعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط، وهما طريقان صحيحان. أحدهما:
للمؤمن القوى، والآخر: للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حُجَّةٌ وقُدوةٌ
بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوى،
وأثنَى على تارِك الكىِّ، وقرن تركَه بالتوكل، وتَرَكَ الطِّيرة، ولهذا نظائرُ
كثيرة، وهذه طريقة لطيفةٌ حسنة جداً مَن أعطاها حقَّها، ورُزِق فقْه نَفْسه فيها،
أزالت عنه تعارضاً كثيراً يظنه بالسُّنَّةِ الصحيحة.
وذهبت فِرقة أُخرى إلى أنَّ الأمر بالفِرار منه، ومجانبتِه لأمر طبيعى، وهو
انتقالُ الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح، وهذا يكون مع
تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكلُه معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة،
فلا بأس به، ولا تحصُل العدوى مِن مرَّةٍ واحدة ولحظة واحدة، فنَهى سداً للذريعة،
وحِمايةً للصحة، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارُضَ بين الأمرين.
وقالت طائفة أُخرى: يجوز أن يكونَ هذا المجذومُ الذى أكل معه به من الجُذام أمرٌ
يسير لا يُعدى مثله، وليس الْجَذْمَى كُلُّهم سواءً، ولا
العدوى حاصلة من جميعهم، بل
منهم مَن لا تضرُّ مخالطته، ولا تُعدى، وهو مَن أصابه من ذلك شىء يسير، ثم وقف
واستمر على حاله، ولم يُعْدِ بقيةَ جسمه، فهو أن لا يعدِىَ غيره أولى وأحرى.
وقالت فِرقة أُخرى: إنَّ الجاهلية كانت تعتقد أنَّ الأمراض المعدية تُعدى بطبعها
من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اعتقادَهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله سبحانه هو الذى يُمرض
ويَشفى، ونهى عن القُرب منه ليتبينَ لهم أنَّ هذا من الأسباب التى جعلها الله
مُفضية إلى مسبباتها، ففى نهيه إثباتُ الأسباب، وفى فعله بيان أنها لا تستقِلُّ
بشىء، بل الربُّ سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقى عليها
قُواها فأثَّرت.
وقالت فِرقة أُخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فيُنظر فى تاريخها، فإن
عُلِمَ المتأخر منها، حُكِمَ بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
وقالت فِرقة أُخرى: بل بعضُها محفوظ، وبعضها غيرُ محفوظ، وتكلمت فى حديث: "لا
عَدّوَى"، وقالت: قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً، ثم شكَّ فيه فتركه،
وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تُحدِّث به، فأبى أن يُحدِّث به.
قال أبو سلمة: فلا أدرى، أنسىَ أبو هريرة، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر: أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيدِ مجذوم،
فأدخلها معه فى القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ، وغاية ما قال فيه الترمذى:
إنه غريب، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه. وقد قال شعبة وغيرُه: اتقوا هذه الغرائبَ.
قال الترمذى: ويُروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأنُ هذين
الحديثين اللَّذين عُورض بهما
أحاديثُ النهى، أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثانى: لا يَصِحُّ
عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله أعلم، وقد أشبعنا الكلام
فى هذه المسألة فى كتاب "المفتاح"، بأطولَ من هذا.. وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى المنع من التداوى
بالمحرَّمات
روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللهَ أَنْزَلَ
الدَّاءَ وَالدَّوَاء، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَدَاوَوْا
بِالْمُحَرَّم".
وذكر البخارى فى "صحيحه" عن ابن مسعود: "إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ
شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم".
وفى "السنن" عن أبى
هريرة، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ
الخَبِيثِ.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ، أنه سأل النبىَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخمر، فنهاه، أو كَرِهَ أن يصنَعَها، فقال: إنما
أصنعُها للدواء، فقال: " إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ".
وفى "السنن" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عن الخمر
يُجْعَل فى الدَّواء، فقال: "إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ "
رواه أبو داود، والترمذى.
وفى "صحيح مسلم" عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال: قلت: يا رسول الله ؛
إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها، قال: "لا". فراجعتُه، قلتُ:
إنَّا نستشفى للمريض قال: "إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ
دَاءٌ".
وفى "سنن النسائى" أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً فى دواءٍ عند رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهاه عن قَتْلِها.
ويُذكر عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ، فَلا شَفَاهُ
اللهُ".
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه
الأحاديثِ وغيرها. وأمَّا العقلُ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه، فإنه
لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ
بقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء: 160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه،
وتحريمُه له حِمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ
من الأسقام والعِلل، فإنه وإن أثَّر فى إزالتها، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه
فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه، فيكون المُدَاوَى به قد سعى فى إزالة سُقْم البدن
بسُقْم القلب.
وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق، وفى اتخاذه دواء حضٌ
على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ
عليه صاحبُ الشريعة، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً.
وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية
الدواء انفعالاً بَيِّناً، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً،
فكيف إذا كان خبيثاً فى ذاته، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ
والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته.
وأيضاً فإنَّ فى إباحة التداوى به، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً
إلى تناوله للشهوة واللَّذة، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ
لأسقامِها جالبٌ لِشفائها، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى
تناوله
بكُلِّ ممكن، ولا ريبَ أنَّ
بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً.
وأيضاً فإنَّ فى هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من
الشِّفاء، ولنفرضْ الكلام فى أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله لنا فيها شفاءً
قَطُّ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الأطباء، وكثير من
الفقهاء والمتكلمين.
قال "أبقراط" فى أثناء كلامه فى الأمراض الحادة: ضرر الخمرة بالرأس
شديد. لأنه يُسرع الارتفاع إليه. ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو فى البدن، وهو
لذلك يضر بالذهن.
وقال صاحب "الكامل": إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب.
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان:
أحدهما: تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم،
ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها، فيصير
حينئذ داءً لا دواء.
والثانى: ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلاً، فهذا ضررُه
أكثرُ من نفعه، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك.
وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه
بالقبول، واعتقادُ منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإنَّ النافعَ هو
المبارَك، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذى
يُنتفَع به حيث حَلَّ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ
بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها، وبين حُسن ظنه بها، وتلقِّى طبعه لها بالقبول،
بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً، كان أكره لها
وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعُه
أكره شىء لها، فإذا تناولها فى هذه الحال، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ
اعتقادُ الخُبث فيها، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة، وهذا يُنافى الإيمان، فلا
يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج القَمْلِ الذى فى الرأس
وإزالته
فى "الصحيحين" عن كعب بن عُجْرةَ، قال: كان بى أذىً مِن رأسى،
فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقَمْلُ
يَتناثَرُ على وجهى، فقال : "ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما
أرَى" ، وفى رواية: فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ
سِتَّةٍ، أو يُهدِىَ شاة، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ.
القمل يتولَّد فى الرأس والبدن من شيئين: خارج عن البدن وداخلٍ فيه، فالخارجُ:
الوسخُ والدنس المتراكم فى سطح الجسد، والثانى: من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة
بين الجلد واللَّحم، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية فى البَشَرَةِ بعد خُروجها من
المسام، فيكون مِنه القملُ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام، وبسبب
الأوساخ، وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر
لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم
الأسباب التى تُولِّد القمل، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رؤوسَ بنى جعفر.
ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة، فتتصاعد الأبخرة الرديئة،
فتضعفُ مادة الخلط، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى تقتل القمل،
وتمنع تولُّده.
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها: نُسُك وقُربة. والثانى: بِدعة وشرك. والثالث:
حاجة ودواء.
فالأول: الحلق فى أحد النُّسُكين، الحجِّ أو العُمرة.
والثانى: حلقُ الرأس لغير الله سبحانه. كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم، فيقول
أحدهم: أنا حلقتُ رأسى لفلان، وأنت حلقتَه لفلان، وهذا بمنزلة أن يقول: سجدتُ
لفلان، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل، ولهذا كان من تمام الحجِّ، حتى
إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به. فإنه وضعُ النواصى بين يدى
ربها خضوعاً لعظمته، وتذللاً لعِزَّته، وهو من أبلغ أنواع العبودية، ولهذا كانت
العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه، حلقوا رأسه وأطلقُوه، فجاء شيوخُ
الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة، فأرادوا
مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم، كما زيَّنوا لهم
السجودَ لهم، وسمَّوه بغير اسمه، وقالوا: هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ، ولعَمرُ
الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا
لهم، ويتوبُوا لهم، ويَحلِفُوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن
دُونِ الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن
دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ وَلاَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً،
أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79-80].
وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء
والجبابرة، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء
منها الركوعَ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء، وأخذ
الجبابرةُ منهم القيامَ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم، وهم جلوس،
وقد نهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الأُمور الثلاثة على
التفصيل، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له، فنَهى عن السجود لغير الله وقال: "لا
يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ" . وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال:
"مَهْ". وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير
الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية، فإذا جَوَّز هذا
المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ، وقد صَحَّ
أنه قيل له: الرَّجُلُ يَلقَى
أخاه أَيَنْحَنِى له ؟ قال: "لا". قيل: أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ؟
قال: "لا". قيل: أَيُصافِحُه ؟ قال: "نعم".
وأيضاً.. فالانحناءُ عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى:
{وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً}[البقرة: 58] أى: منحنين، وإلا فلا يُمكن الدخول
على الجباه، وصَحَّ عنه النهىُ عن القيام، وهو جالس، كما تُعَظِّم الأعاجمُ بعضُها
بعضاً، حتى منع مِن ذلك فى الصلاة، وأمرَهم إذا صَلَّى جالساً أن يُصَلُّوا
جلوساً، وهم أصحاء لا عُذرَ لهم، لئلا يقوموا على رأسه وهو جالس، مع أنَّ قيامَهم
لله، فكيف إذا كان القيامُ تعظيماً وعبوديةً لغيره سبحانه.
والمقصود.. أنَّ النفوس الجاهلة الضالة أسقطتْ عبوديةَ الله سبحانه، وأشركت فيها
مَن تُعَظِّمه مِن الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيامَ
الصلاة، وحلفت بغيره، ونذرَتْ لغيره، وحَلَقَتْ لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لِغير
بيته، وعَظَّمته بالحب، والخوف، والرجاء، والطاعة، كما يُعَظَّم الخالقُ، بل أشد،
وسوَّتْ مَن تعبُده من المخلوقين بربِّ العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة
الرُّسُل، وهم الذين بربهم يَعدِلون، وهم الذين يقولون وهم فى النار مع آلهتهم
يختصمون: {تَاللهِ إن كُنَّا لَفِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 98]، وهم الذين قال الله فيهم :{وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ، وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ}[البقرة: 165] وهذا كُلُّه مِن الشِّرك،
والله لا يغفر أَنْ يُشْرَكَ به. فهذا فصل معترض فى هَدْيه فى حلق الرأس، ولعله أهمُّ مما قُصِدَ الكلام فيه.. والله الموفق.
فصل فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية الإلهية المفردة، والمركَّبة
منها، ومن الأدوية الطبيعية
...
[فصول: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج بالأدوية الروحانية
الإلهية المفردة، والمركَّبة منها، ومن الأدوية الطبيعية]
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج المصاب بالعَيْنِ
روى مسلم فى "صحيحه" عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ ولو كان شَىْءٌ سَابَقَ القَدَرِ،
لَسَبَقتْهُ العَيْنُ".
وفى "صحيحه" أيضاً عن أنس: "أنَّ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رخَّصَ فى الرُّقية مِن الحُمَةِ، والعَيْنِ والنَّملةِ"
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَيْنُ حَقٌ".
وفى "سنن أبى داود" عن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان يُؤمَرُ العائِنُ
فيتوضَّأ، ثم يَغْتَسِلُ منه
المَعِينُ.
وفى "الصحيحين" عن عائشة قالت: أمرنى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أو أَمَرَ أن نَسْتَرْقِىَ من العَيْن.
وذكر الترمذى، من حديث سفيان بن عُيَينةَ، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن
عُبيد بن رفاعة الزُّرَقىِّ، أنَّ أسماء بنت عُمَيْس قالت: يا رسولَ الله ؛ إنَّ
بَنِى جعفر تُصيبُهم العَينُ، أفأسترْقِى لهم ؟ فقال: "نعم فَلَوْ كان شَىْءٌ
يَسْبِقُ القضاءَ لسَبَقَتْهُ العَيْنُ" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وروى مالك رحمه الله، عن ابن شهابٍ، عن أبى أُمامةَ بن سهل بن حنيفٍ، قال: رأى
عامرُ بن ربيعة سَهْلَ بن حُنَيف يغتسِلُ، فقال: واللهِ ما رأيتُ كاليوم ولا
جِلْدَ مُخَبَّأة، قال: فلُبِطَ سَهْلٌ، فأتى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عامراً، فتَغَيَّظَ عليه، وقال: "عَلامَ يَقْتُلُ أحدُكُم أخاهُ ؟
ألاَ بَرَّكْتَ ؟ اغْتَسِلْ له"، فغسل له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقَيْه
ورُكبتيه، وأطرافَ رِجليه، وداخِلَة إزاره فى قدح، ثم صبَّ عليه، فراحَ مع الناس.
وروى مالك رحمه الله أيضاً عن محمد بن أبى أُمامة بن سهل، عن أبيه هذا الحديث،
وقال فيه: " إنَّ العيْنَ حقٌ، توضَّأْ لهُ"، فتوضَّأ له.
وذكر عبد الرزَّاق، عن
مَعْمَرٍ، عن ابن طاووس، عن أبيه مرفوعاً: "العَيْنُ حَقٌ، ولو كان شىءٌ
سَابَقَ القَدَرَ، لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكمْ،
فَلْيَغْتَسِلْ" ، ووصْله صحيحٌ.
قال الزُّهْرى: يُؤْمَر الرجل العائن بقدح، فيُدخِلُ كفَّه فيه، فيتمضمض، ثم
يَمُجّه فى القدح، ويغسِلُ وجهه فى القدح، ثم يُدخِل يده اليُسرى، فيصُبُّ على رُكبته
اليُمنى فى القَدَح، ثم يُدخِلُ يده اليُمنى، فيصُبُّ على رُكبته اليُسرى، ثم
يَغْسِلُ داخِلَة إزارِهِ، ولا يُوضع القَدَحُ فى الأرض، ثم يُصَبُّ على رأس الرجل
الذى تُصيبه العينُ من خلفه صبةً واحدةً.
والعَيْن عَيْنان: عَيْنٌ إنسية، وعَيْنٌ جِنِّية. فقد صح عن أُمِّ سلمةَ، أنَّ
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى فى بيتها جاريةً فى وجهها
سَفْعَةٌ، فقال: "اسْتَْرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظرَة".
قال الحسين بن مسعود الفرَّاء: وقوله "سَفْعَة" أى: نظرة، يعنى من الجن،
يقول: بها عينٌ أصابْتها من نظَرِ الجن أنفذُ من أسِّنَة الرِماح
ويُذكر عن جابر يرفعه:
"إنَّ العَيْنَ لتُدْخِلُ الرجُلَ القَبْرَ، والجَمَلَ القِدْرَ".
وعن أبى سعيد، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوَّذ من
الجان، ومن عَيْن الإنسان.
فأبطلت طائفةٌ ممن قلَّ نصيبُهم مِن السمع والعقل أمْرَ العَيْن، وقالوا: إنما ذلك
أوهامٌ لا حقيقةَ لها، وهؤلاء مِن أجهل الناس بالسَّمعِ والعقل، ومِن أغلظهم
حِجاباً، وأكثفِهم طِباعاً، وأبعدِهم معرفةً عن الأرواح والنفوسِ، وصفاتها
وأفعالِها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأُمم على اختلافِ مِللهم ونِحلهم لا تدفَعُ أمر
العَيْن، ولا تُنكره، وإن اختلفوا فى سببه وجهة تأثير العَيْن.
فقالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة، انبعث مِن عينه
قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر
انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن
نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ
مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له الضررُ.
وقالت فِرقة أُخرى: قد أجرى
الله العادةَ بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عَيْنِ العائن لمن يَعِينه مِن غير
أن يكون منه قوةٌ ولا سببٌ ولا تأثيرٌ أصلاً، وهذا مذهبُ منكرى الأسباب والقُوَى
والتأثيرات فى العالَم، وهؤلاء قد سدُّوا على أنفسهم بابَ العِلل والتأثيرات والأسباب،
وخالفوا العقلاء أجمعين.
ولا ريب أنَّ اللهَ سبحانه خلق فى الأجسام والأرواح قُوَى وطبائع مختلفة، وجعل فى
كثير منها خواصَّ وكيفياتٍ مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكارُ تأثير الأرواح فى
الأجسام، فإنه أمر مُشاهَدٌ محسوس، وأنت ترى الوجهَ كيف يحمَرُّ حُمرةً شديدة إذا
نظر إليه مَن يحتشِمُه ويَستحى منه، ويصفرُّ صُفرة شديدة عند نظر مَن يخافُه إليه،
وقد شاهد الناسُ مَن يَسقَم من النظر وتضعُف قواه، وهذا كُلُّه بواسطة تأثير
الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعَيْن يُنسب الفعل إليها، وليست هى الفاعلة، وإنما
التأثيرُ للرَّوح. والأرواحُ مختلفة فى طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها، فروحُ
الحاسد مؤذية للمحسود أذىً بيِّناً. ولهذا أمر اللهُ سبحانه رسولَه أن يستعيذَ به
من شره. وتأثيرُ الحاسد فى أذى المحسود أمرٌ لا يُنكره إلا مَن هو خارج عن حقيقةِ
الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعَيْن، فإنَّ النفس الخبيثة الحاسدة تتكيَّفُ
بكيفية خبيثة، وتُقَابِلُ المحسود، فتؤثِّرُ فيه بتلك الخاصِّية، وأشبهُ الأشياء
بهذا الأفعى، فإن السُّمَّ كامِنٌ فيها بالقوة، فإذا قابلتْ عدوَّها، انبعثت منها
قوة غضبية، وتكيَّفتْ بكيفية خبَيثةٍ مؤذية، فمنها ما تشتدُّ كيفيتُها وتقوى حتى
تؤثر فى إسقاط الجنين، ومنها ما تؤثر فى طمس البصر، كما قال النبىُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الأَبْتَر، وذى الطُّفْيَتَيْن مِنَ الحيَّات :
"إنَّهمَا يَلتَمِسَان البَصَرَ، ويُسقطان الحَبَلَ".
ومنها: ما تُؤثر فى الإنسان
كيفيتُها بمجرد الرؤية من غير اتصال به، لشدة خُبْثِ تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة
المؤثرة، والتأثيرُ غيرُ موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنُّه مَن قلَّ علمُه
ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثيرُ يكون تارةً بالاتصال، وتارةً بالمقابلة،
وتارةً بالرؤية، وتارةً بتوجه الرَّوح نحوَ مَن يُؤثر فيه، وتارةً بالأدعية
والرُّقَى والتعوُّذات، وتارةً بالوهم والتخيُّل، ونفسُ العائن لا يتوقفُ تأثيرُها
على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيُوصف له الشىء، فتؤثِّرُ نفسه فيه، وإن لم يره،
وكثيرٌ من العائنين يُؤثر فى المَعِين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه:{
وَإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا
سَمِعُواْ الذِّكْرَ} [القلم: 51]وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ
مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى
الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ} فكلُّ عائنٌ حاسدٌ، وليس كلُّ حاسد
عائناً
فلمَّا كان الحاسد أعمَّ من العائن، كانت الاستعاذةُ منه استعاذةً من العائن، وهى
سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحوَ المحسود والمَعِين تُصيبُه تارةً وتُخطئه
تارة، فإن صادفْته مكشوفاً لا وِقاية عليه، أثَّرتْ فيه، ولا بُدَّ، وإن صادفته
حَذِراً شاكىَ السِّلاح لا منفذَ فيهِ للسهام، لم تُؤثر فيه، وربما رُدَّتْ
السهامُ على صاحبها، وهذا بمثابة الرمى الحِسِّىّ سواء، فهذا مِن النفوس والأرواح،
وذاك مِن الأجسام والأشباح. وأصلُه مِن إعجاب العائن بالشىء، ثم تتبعه كيفيةُ
نفسِه الخبيثة، ثم تستعينُ على تنفيذ سُمِّها بنظرة إلى المَعِين، وقد يَعِينُ
الرجلُ نفسَه، وقد يَعينُ بغير
إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ
ما يكونُ من النوع الإنسانى، وقد قال أصحابُنا وغيرُهم من الفقهاء: إنَّ مَن
عُرِفَ بذلك، حبَسه الإمامُ، وأجرَى له ما يُنفِقُ عليه إلى الموت، وهذا هو
الصوابُ قطعاً.
فصل
والمقصودُ: العلاجُ النبوىُّ لهذه العِلَّة، وهو أنواعٌ، وقد روى أبو داود فى
"سننه" عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه،
فخرجتُ محموماً، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فقال: "مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ". قال: فقلتُ: يا سيدى ؛ والرُّقَى
صالحة ؟ فقال: " لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ، أو حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ".
والنَّفْس: العَيْن، يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أى: عَيْن. والنافِس: العائن.
واللَّدْغة بدال مهملة وغين معجمة وهى ضربةُ العقرب ونحوها.
فمن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ
الكُرسى، ومنها التعوذاتُ النبوية.
نحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كُلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومِن
كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
ونحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ التى لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ ولا
فاجرٌ، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرَأ، ومِن شَرِّ ما ينزلُ من السماء، ومِن شَرِّ
ما يَعرُجُ
فيها، ومِن شَرِّ ما ذرأ فى
الأرض، ومِن شَرِّ ما يخرُج مِنها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنهار، ومِن شَرِّ
طَوَارق الليلِ، إلا طارقاً يَطرُق بخير يا رحمن".
ومنها: "أَعُوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّةِ مِن غضبه وعِقَابه، ومِن شرِّ
عباده، ومِن هَمَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونِ".
ومنها: "اللهُمَّ إنى أعوذُ بوجْهِكَ الكريم، وكلماتِك التامَّاتِ من شرِّ ما
أنت آخِذٌ بناصيته، اللهُمَّ أنتَ تكشِفُ المأثَمَ والمَغْرَمَ، اللهُمَّ إنه لا
يُهْزَمُ جُنْدُكَ، ولا يُخلَفُ وعدُك، سبحانَك وبحمدِك".
ومنها: "أَعُوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذى لا شىءَ أعظمُ منه، وبكلماتِه
التامَّات التى لا يُجاوزُِهن بَرٌ ولا فاجرٌ، وأسماءِ الله الحُسْنَى، ما علمتُ
منها وما لم أعلم، مِن شَرِّ ما خلق وذرَأ وبرأ، ومن شَرِّ كُلِّ ذى شرٍّ لا أُطيق
شرَّه، ومِن شَرِّ كُلِّ ذى شَرٍّ أنتَ آخِذٌ بناصيته، إنَّ ربِّى على صِراط
مستقيم".
ومنها: "اللهُمَّ أنت ربِّى لا إله إلا أنتَ، عليك توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ
العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله،
أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شىء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شىء علماً، وأحصَى
كُلَّ شىءٍ عدداً، اللهُمَّ إنى أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسى، وشَرِّ الشيطانِ
وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّى على صِراط
مستقيم".
وإن شاء قال: "تحصَّنتُ باللهِ الَّذى لا إله إلا هُوَ، إلهى وإله كُلِّ شىء،
واعتصمتُ بربى وربِّ كُلِّ شىء، وتوكلتُ على الحىِّ الذى لا يموتُ، واستَدْفَعتُ
الشرَّ بلاحَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، حسبىَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، حسبىَ
الربُّ مِن العباد، حسبىَ الخَالِقُ من المخلوق، حسبىَ الرازقُ مِنَ المرزوق،
حسبىَ الذى هو حسبى، حسبىَ الذى بيده ملكوتُ كُلِّ شىءٍ، وهو يُجيرُ
ولا يُجَارُ عليه، حسبىَ الله
وكَفَى، سَمِعَ الله لمنْ دعا، ليس وراء اللهِ مرمَى، حسبىَ الله لا إله إلا هُوَ،
عليه توكلتُ، وهُوَ ربُّ العرشِ العظيم".
ومَن جرَّب هذه الدعوات والعُوَذَ، عَرَفَ مِقدار منفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ
إليها، وهى تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها،
وقوةِ نفسه، واستعداده، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها سلاح، والسلاحُ بضاربه.
فصل
وإذا كان العائنُ يخشى ضررَ عينه وإصابتهَا للمَعين، فليدفع شرِّها بقوله:
اللهُمَّ بَارِكْ عليه، كما قال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعامر بن
ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: " ألا برَّكْتَ" أى: قلتَ: اللهُمَّ بارِكْ
عليه .
ومما يُدفع به إصابةَ العَيْن قولُ: "ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله"،
روى هشام ابن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئاً يُعجِبُه، أو دخل حائطاً مِن
حِيطانه، قال: "ما شاء الله، لا قُوَّة إلا بالله".
ومنها رُقْيَةُ جِبريل عليه السَّلامُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
التى رواها مسلم فى "صحيحه": "باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ
شَىْءٍ يُؤذيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عَيْنِ حَاسدٍ اللهُ يَشفِيكَ، باسمِ
اللهِ أرْقِيكَ".
ورأى جماعة من السَّلَف أن تُكتب له الآياتُ مِن القرآن، ثم يشربَها. قال مجاهد:
لا بأس أن يكتُبَ القرآنَ، ويغسِلَه، وَيْسقِيَه المريضَ، ومثلُه عن أبى قِلابَةَ.
ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يُكَتبَ لامرأة تَعَسَّرَ عليها
وِلادُها أثرٌ من القرآن، ثم
يُغسل وتُسقى. وقال أيوب: رأيتُ أبا قِلابَةَ كتب كتاباً من القرآن، ثم غسله بماء،
وسقاه رجلاً كان به وجعٌ.
فصل
[فى أمر العائن بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره]
ومنها: أن يُؤمر العائِنُ بغسل مَغابنِهِ وأطرافه وداخِلَةِ إزاره، وفيه قولان ؛
أحدهما: أنه فرجُه. والثانى: أنه طرفُ إزاره الداخل الذى يلى جسدَه من الجانب
الأيمن، ثم يُصَبُّ على رأس المَعِين مِن خلفه بغتة، وهذا مما لا ينالُه عِلاجُ
الأطباء، ولا ينتفِعُ به مَن أنكره، أو سَخِرَ منه، أو شَكَّ فيه، أو فعله
مجرِّباً لا يعتقد أنَّ ذلك ينفعُه.
وإذا كان فى الطبيعة خواصٌ لا تَعْرِفُ الأطباءُ عِلَلَها ألبتةَ، بل هى عندهم
خارجةٌ عن قياس الطبيعة تفعل بالخاصِّية، فما الذى يُنكره زنادقتهم وجهلتُهم من
الخواص الشرعية، هذا مع أنَّ فى المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهدُ له العقولُ
الصحيحة، وتُقِرُّ لمناسبته، فاعلم أنَّ تِرياق سُمِّ الحيَّة فِى لحمها، وأنَّ
علاجَ تأثير النفس الغضَبية فى تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يَدِكَ عليه، والمسح
عليه، وتسكينِ غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شُعلة من نار، وقد أراد أن يَقذِفَك بها،
فصبِبِتَ عليها الماء، وهى فى يده حتى طُفئتْ، ولذلك أُمِرَ العائِنُ أن يقول: "اللهُمَّ
بارِكْ عَلَيْه" ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء الذى هو إحسانٌ إلى
المَعِين، فإنَّ دواء الشىء بضِدِّه. ولما كانت هذه الكيفيةُ الخبيثة تظهر فى
المواضِع الرقيقة من الجسد، لأنها تطلب النفوذَ، فلا تجد أرقَّ مِن المغابن،
وداخِلَةِ الإزار، ولا سِيَّما إن كان كنايةً عن الفَرْج، فإذا غُسِلَتْ بالماء،
بطل تأثيرها وعملها، وأيضاً فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.
والمقصود: أنَّ غسلها بالماء
يُطفىء تلك النارية، ويَذهبُ بتلك السُّمِّية.
وفيه أمر آخر، وهو وُصول أثرِ الغسل إلى القلب من أرقِّ المواضع وأسرعها تنفيذاً،
فيُطفىء تلك النارية والسُّمِّية بالماء، فيشفى المَعِين، وهذا كما أنَّ ذواتِ
السموم إذا قُتِلت بعد لَسعها، خَفَّ أثرُ اللسعة عن الملسوع، ووَجد راحة، فإن
أنفسَها تمدُّ أذاها بعد لَسعها، وتُوصِله إلى الملسوع. فإذا قُتِلَتْ، خَفَّ
الألم، وهذا مُشَاهَد. وإن كان من أسبابه فرحُ المَلسوع، واشتفاءُ نفسه بقتل
عدوِّه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه.
وبالجملة.. غسل العائن يُذهِبُ تلك الكيفية التى ظهرت منه، وإنما ينفع غسلُه عند
تكيُّفِ نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبةُ الغسل، فما مناسبةُ صبِّ ذلك الماء على المَعِين ؟
قيل: هو فى غاية المناسبة، فإنَّ ذلك الماء ماء طُفىء به تلك النارية، وأبطل تلك
الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طُفئت به النارية القائمة بالفاعِل طُفئت به،
وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائِن، والماءُ الذى يُطفأ به
الحديدُ يدخُل فى أدوية عِدَّة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذى طُفىء به نارية
العائِن، لا يُستنكر أن يدخل فى دواء يُناسب هذا الداء.
وبالجملة.. فطب الطبائعية وعلاجُهم بالنسبة إلى العلاج النبوىِّ، كطب الطُّرقية
بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإنَّ التفاوتَ الذى بينهم وبين الأنبياء أعظمُ، وأعظمُ
من التفاوت الذى بينهم وبين الطُّرقية بما لا يُدرِكُ الإنسان مقداره، فقد ظهر لك
عقدُ الإخاء الذى بين الحِكمة والشرع، وعدمُ مناقضة أحدهما للآخر، واللهُ يهدى مَن
يشاء إلى الصواب، ويفتحُ لمن أدام قرعَ باب التوفيق منه كُلَّ باب، وله النعمة
السابغة، والحُجَّة البالغة.
فصل
ومن علاج ذلك أيضاً والاحتراز منه سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن بما يردُّها
عنه، كما ذكر البغوىُّ فى كتاب "شرح السُّنَّة": أنَّ عثمان رضى الله
عنه رأى صبياً مليحاً، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تُصيبه العَيْن، ثم قال فى
تفسيره: ومعنى "دسِّمُوا نونته" أى: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة
التى تكون فى ذقن الصبىِّ الصغير.
وقال الخطَّابى فى "غريب الحديث" له عن عثمان: إنه رأى صبياً تأخذه
العَيْن، فقال: دسِّموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد
بالنونة: النُّقرة التى فى ذقنه. والتدسيمُ: التسويد. أراد: سَوِّدُوا ذلك الموضع
من ذقنه، ليرد العَيْن. قال ومن هذا حديثُ عائشةَ ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب ذاتَ يومٍ، وعلى رأسهِ عِمامةٌ دَسْماء أى: سوداء أراد
الاستشهاد على اللَّفظة، ومن هذا أخذ الشاعرُ قَوله:
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى ... عَيبٍ يُوَقِّيهِ مِنَ الْعَيْنِ
فصل
ومن الرُّقَى التى تردُّ العَيْن ما ذُكر عن أبى عبد الله السَّاجى، أنه كان فى
بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارِهَةٍ، وكان فى الرفقة رجل عائن، قلَّما نظر
إلى شىء إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفَظْ ناقَتكَ مِنَ العائِن، فقال: ليس له
إلى ناقتى سبيل، فأُخْبِرَ العائِنُ بقوله، فتَحيَّنَ غَيبة أبى عبد الله، فجاء
إلى رَحْله، فنَظر إلى الناقةَ، فاضطربتْ وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأُخْبِرَ
أنَّ العائِنَ قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دُلُّونى عليه. فدُلَّ، فوقف عليه،
وقال: بسمِ اللهِ، حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ، وشِهابٌ قابِسٌ، ردَّت عين
العائن عليه، وعلى أحبِّ الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ
* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً
وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك: 3-4] فخرجتْ حَدَقَتا العائنِ، وقامت الناقةُ لا بأسَ بها.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العلاج العام لكل شكوى
بالرُّقية الإلهية
روى أبو داود فى "سننه": من حديث أبى الدرداء، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "مَن اشتكى منكم شيئاً، أو اشتكاهُ
أخٌ له فلْيقُلْ: رَبَّنا اللهَ الذى فى السَّماء، تقدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فى
السَّماء والأرضِ كما رَحْمَتُك فى السَّماءِ، فاجعل رحمتكَ فى الأرض، واغفر لنا
حُوْبَنَا وخطايانا أنتَ ربُّ الطَّيِّبِين، أنْزِلْ رحمةً من رحمتك، وشفاءً من
شفائك على هذا
الوَجَع، فيَبْرأ بإذْنِ اللهِ
".
وفى "صحيح مسلم" عن أبى سعيد الخُدْرِى، أنَّ جبريلَ عليه السلام أتى
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمدُ ؛ أشتكيْتَ ؟ فقال: "نعم".
فقال جبريلُ عليه السلام : "باسمِ اللهِ أَرقيكَ مِن كُلِّ شىءٍ يُؤذيكَ، مِن
شَرِّ كُلِّ نفْسٍ أو عَيْن حاسدٍ اللهُ يَشفيكَ، باسمِ اللهِ أرقيكَ".
فإن قيل: فما تقولون فى الحديث الذى رواه أبو داود: "لا رُقيةَ إلا من
عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، والحُمَةُ: ذوات السُّموم كلها ؟
فالجواب: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية
فى غيرها، بل المرادُ به: لا رُقية أولى وأنفعُ منها فى العَيْن والحُمَة، ويدل
عليه سياقُ الحديث، فإنَّ سهل ابن حُنيف قال له لما أصابته العَيْن: أوَ فى
الرُّقَى خير ؟ فقال: "لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ
أو حُمَةٍ" ويدل عليه سائرُ أحاديث الرُّقَى العامة والخاصة، وقد روى أبو
داود من حديث أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ يَرْقأُ".
وفى "صحيح مسلم" عنه أيضاً:"رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ".
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة اللَّدِيغ بالفاتحة
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث أبى سعيد الخدرى، قال: "انْطلَقَ
نَفَرٌ من أصحابِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سفرةٍ سافرُوها
حتى نزلوا على حىٍّ مِن أحياءِ العرب، فاسْتَضَافوهم، فأبَوْا أن يُضَيِّفُوهُم،
فلُدِغَ سَيِّدُ ذلك الحىِّ، فَسَعَوْا له بكُلِّ شىء لا يَنْفَعُه شىء، فقال
بعضهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرَّهطَ الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شىء.
فأتوهم، فقالوا: يا أيُّهَا الرَّهطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنا لُدِغَ، وسَعينا له بكُلِّ
شىء لا يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أحدٍ منكم من شىء ؟ فقال بعضُهم: نعم واللهِ إنى
لأَرْقى، ولكن اسْتَضَفْناكُمْ، فلم تَضيِّفُونَا، فما أنا بَرَاقٍ حتى تَجْعَلُوا
لنا جُعْلاً، فصالَحُوهم على قطيعٍ من الغنم، فانطلَقَ يَتْفُل عليه، ويقرأ:
{الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فكأنما أُنشِطَ من عِقَالٍ، فانطلق يمشى وما
به قَلَبَةٌ، قال: فأوفَوْهُم جُعْلَهُم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضُهم:
اقتسِمُوا، فقال الذى رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتىَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنذكُرَ له الذى كان، فننظُرَ ما يأمرُنا، فَقَدِمُوا على
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له ذلك، فقال: "وما
يُدْريكَ أنَّها رُقْيَةٌ" ؟، ثم قال: "قد أصَبْتُم، اقسِمُوا واضْرِبوا
لى مَعَكُم سهماً".
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث على قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ".
ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذى فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذى هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادى، والرحمة العامة، الذى لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء: 82]. و"مِن" ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرَاً عَظِيماً}[الفتح:29] وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل فى القرآن، ولا فى التوراة، ولا فى الإنجيل، ولا فى الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معانى كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهى: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه فى طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شىءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك فى كتابنا الكبير "مدارج السالكين" فى شرحها. وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ
شأنها، أن يُستشفى بها من
الأدواء، ويُرقَى بها اللَّديغُ.
وبالجملة.. فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ، وتفويضِ
الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها،
وهى الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية
الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها :{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 4]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا
الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ
والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهى عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف الوسائل وهى
الاستعانةُ به على عبادته ما ليس فى غيرها، ولقد مرَّ بى وقت بمكة سَقِمْتُ فيه،
وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها
عليها مراراً، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير
من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع.
فصل
وفى تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها فى علاج ذواتِ السُّموم سِرٌ بديع، فإنَّ
ذواتِ السموم أثَّرت بكيفيات نفوسِها الخبيثة، كما تقدَّم، وسِلاحها حُماتها التى
تلدَغُ بها، وهى لا تلدغ حتى تغضَب، فإذا غضبت، ثار فيها السُّمُّ، فتقذفه بآلتها،
وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شىءٍ ضِداً، ونفس الراقى تفعلُ فى نفس
المرقى، فيقعُ بين نفسيهما فعلٌ وانفعالٌ، كما يقع
بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ
الراقى وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن اللهِ، ومدارُ تأثير
الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين،
يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحانى، والطبيعى، وفى النَّفْث والتَّفل
استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرُّقية، والذِكْر والدعاء، فإنَّ
الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقى وفمه، فإذا صاحبها شىءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق
والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيراً، وأقوى فعلاً ونفوذاً، ويحصُل بالازدواج
بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقى تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين
بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقى أقوى،
كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفى النفث سِرٌ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه
السَّّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ
فِى الْعُقَدِ} ، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ
أنفاسَها سِهاماً لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذى معه شىء مِن الرِّيق مصاحب
لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن لم تتصل بجسم
المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل ذلك فى المسحور
بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرَّوح الزكية الطيبة بكيفية الدفع
والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِىَ كان الحكمُ له، ومقابلةُ
الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها
سواء، بل الأصلُ فى المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن
غلب عليه الحِسُّ
لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح
وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم
الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود.. أنَّ الرَّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعانى الفاتحة، واستعانت
بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذى حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته.. والله
أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج لدغة العقرب
بالرُّقْيَة
روى ابن أبى شَيْبَةَ فى "مسنده"، من حديث عبد الله بن مسعود، قال: بينا
رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلِّى، إذ سجد فَلَدَغَتْه عقربٌ
فى أُصبعه، فانصرفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال:
"لَعَنَ اللهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نبيّاً ولا غَيْرَه" ، قال: ثُمَّ
دعا بإناءٍ فيه ماء ومِلح، فَجَعَلَ يَضَعُ موضِعَ اللَّدغة فى الماء والمِلحِ،
ويقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، والمُعَوِّذَتَيْن} حتى سكنتْ.
ففى هذا الحديث العلاجُ بالدواء المركَّب مِنَ الأمرين: الطبيعىِّ والإلهىِّ،
فإنَّ فى سورة الإخلاص مِن كمال التوحيد العِلمى الاعتقادى، وإثبات الأحَدِيَّة
للهِ، المستلزِمة نفىَ كُلِّ شركة عنه، وإثباتِ الصَّمديَّةِ المستلزمةِ لإثبات
كُلِّ كمال له مع كونِ الخلائق تَصمُدُ إليه فى حوائجها، أى: تقصِدُه الخليقةُ،
وتتوجه إليه، عُلويُّها وسُفليُّها، ونفى الوالد
والولد، والكُفْءِ عنه المتضمن
لنفى الأصل، والفرع والنظير، والمماثل مما اختصَّت به وصارت تعدِلُ ثُلُثَ القرآن،
ففى اسمه "الصمد" إثباتُ كل الكمال، وفى نفى الكُفْءِ التنزيهُ عن
الشبيه والمثال. وفى "الأحد" نفىُ كُلِّ شريك لذى الجلال، وهذه الأُصول
الثلاثة هى مجامعُ التوحيد.
وفى المعوِّذتين الاستعاذةُ مِن كل مكروه جملةً وتفصيلاً، فإنَّ الاستعاذَة مِن
شَرِّ ما خلق تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُستعاذ منه، سواء أكان فى الأجسام أو الأرواح،
والاستعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسق وهو اللَّيل، وآيتِهِ وهو القمر إذا غاب، تتضمن
الاستعاذةَ مِن شَرِّ ما ينتشِرُ فيه من الأرواح الخبيثة التى كان نورُ النهار
يحولُ بينها وبين الانتشار، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمرُ، انتشرت وعاثت.
والاستعاذة مِن شَرِّ النفاثات فى العُقد تتضمن الاستعاذة من شَرِّ السواحر
وسِحرهن.
والاستعاذة مِن شَرِّ الحاسد تتضمن الاستعاذَة مِن النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها
ونظرها.
والسورةُ الثانية: تتضمن الاستعاذة مِن شَرِّ شياطين الإنس والجن، فقد جمعت
السورتان الاستعاذة من كُلِّ شَرٍّ، ولهما شأنٌ عظيم فى الاحتراس والتحصن من
الشرور قبل وقوعها، ولهذا أوصى النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقبةَ
بن عامر بقراءتهما عَقِبَ كُلِّ صلاةٍ، ذكره الترمذىُّ فى "جامعه" وفى
هذا سِرٌ عظيم فى استدفاع الشرورِ من الصلاة إلى الصلاة. وقال: ما تَعَوَّذ المتعوِّذون
بمثلهما. وقد ذُكر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ فى إحدى عشرةَ
عُقدة، وأنَّ جبريلَ
نزل عليه بهما، فجعَلَ كُلَّما
قرأ آية منهما انحلَّتْ عُقدة، حتى انحلَّتْ العُقَد كُلُّها، وكأنما أُنْشِطَ من
عِقَال.
وأما العلاج الطبيعى فيه، فإنَّ فى المِلح نفعاً لكثير من السُّموم، ولا سِيَّما
لدغة العقرب، قال صاحب "القانون": يُضمَّد به مع بذر الكتان للسع
العقرب، وذكره غيرُه أيضاً. وفى المِلح من القوة الجاذبة المحلِّلة ما يَجذِبُ
السُّموم ويُحللها، ولَمَّا كان فى لسعها قوةٌ نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج
جمع بين الماءِ المبرد لنار اللَّسعة، والمِلح الذى فيه جذبٌ وإخراج، وهذا أتم ما
يكون من العلاج وأيسره وأسهله، وفيه تنبيه على أنَّ علاج هذا الداء بالتبريد
والجذب والإخراج.. والله أعلم.
وقد روى مسلم فى "صحيحه" عن أبى هُريرة قال: جاء رجلٌ إلى النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما لقيتُ مِنْ عقربٍ لَدَغْتنى
البارحةَ فقال: "أما لو قُلْتَ حِينَ أمْسَيْتَ: أعُوذُ بكلماتِ اللهِ
التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ،
لم تَضُرَّك".
واعلم أنَّ الأدوية الطبيعية الإلهية تنفعُ مِن الداء بعد حصوله، وتمنَعُ من
وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما
تنفعُ، بعد حصول الداء، فالتعوُّذاتُ والأذكار، إما أن تمنعَ وقوعَ هذه الأسباب،
وإما أن تحولَ بينها وبين كمالِ تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرُّقَى
والعُوَذ تُسْتَعمل لحفظ الصحة، ولإزالة المرض، أما الأول: فكما فى
"الصحيحين" من حديث عائشة كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ فى كَفَّيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و
المُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ
بهما وجهه، وما بلغت يدُه من جسده".
وكما فى حديث عُوذة أبى الدرداء المرفوع: "اللهُمَّ أنت رَبِّى لا إله إلا
أنت عليكَ تَوَكَّلْتُ وأنتَ رَبُّ العَرْشِ العظيم"، وقد تقدَّم وفيه:
"مَن قالها أوَّل نهارِهِ لم تُصِبْهُ مُصيبة حتى يُمسى، ومَن قالها آخر
نهارِهِ لم تُصِبْه مُصيبةٌ حتى يُصْبِح".
وكما فى "الصحيحين": "مَن قَرَأَ الآيَتَيْن مِن آخرِ سُورةِ
البقرةِ فى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ".
وكما فى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَن نَزَلَ مَنْزِلاً فقال: أَعُوذُ بكلمات ِاللهِ التَّامَّاتِ مِن شرَِّ
ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِن مَنْزِلهِ ذلِكَ".
وكما فى "سنن أبى داود" أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كان فى السفر يقول باللَّيل :"يا أرضُ ؛ رَبِّى ورَبُّكِ اللهُ،
أَعُوذُ باللهِ مِن شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ، وشَرِّ ما يَدُبُّ عليكِ، أعوذُ
باللهِ مِن أسَدٍ وأسْوَدٍ، ومِن الحَيَّةِ والعقربِ، ومِن ساكنِ البَلَدِ، ومن
والدٍ وما وَلَدَ".
وأما الثانى: فكما تقدَّم من
الرُّقية بالفاتحة، والرُّقية للعقرب وغيرها مما يأتى.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة النَّمْلَة
قد تقدَّم من حديث أنس الذى فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "رخَّص فى الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ والعَيْنِ
والنَّمْلَةِ".
وفى "سنن أبى داود" عن الشِّفَاء بنت عبد الله، قالت: دخل علىَّ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا عِند حَفْصَة، فقال: "ألا
تُعَلِّمينَ هذه رُقية النَّمْلةِ كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ".
النَّمْلَة: قُروح تخرج فى الجنبين، وهو داء معروف، وسُمِّى نملةً، لأن صاحِبَه
يُحس فى مكانه كأنَّ نملة تَدِبُّ عليه وَتعضُّه، وأصنافها ثلاثة، قال ابن قتيبة
وغيرُه: كان المجوسُ يزعمون أنَّ ولد الرجل من أُخته إذا خُطَّ على النَّملَةِ،
شُفِىَ صاحبها، ومنه قول الشاعر:
وَلاَ عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَرٍ ... كِرامٍ وَأَنَّا لاَ نَخُطُّ
عَلَى النَّمْلِ
وروى الخَلاَّل: أنَّ الشِّفَاء بنتَ عبد الله كانت تَرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة،
فلمَّا هاجرت إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت قد بايعته
بمكة، قالت: يا رسول الله ؛ إنِّى كنت أرقى فى الجاهلية من النَّمْلَة، وإنى
أُريدُ أن أعْرِضَهَا عليكَ، فعرضت عليه فقالت: بسم اللهِ ضَلَّت حتى تعود مِن
أفواهها،
ولا تَضُرُّ أحداً، اللهُمَّ
اكشف البأسَ ربَّ الناسِ، قال: ترقى بِهَا عَلَى عُودٍ سبعَ مَرات، وتقصِدُ
مَكاناً نظيفاً، وَتَدْلُكُهُ على حجر بخَلِّ خَمرٍ حاذق، وتَطْلِيه على
النَّمْلَةِ. وفى الحديث: دليلٌ على جواز تعليم النساء الكتابة.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة الحَيَّة
قد تقدَّم قوله: "لا رُقْيَةَ إلا فى عَيْنٍ، أو حُمَةٍ"، الحُمَة: بضم
الحاء وفتح الميم وتخفيفها.
وفِى "سنن ابن ماجه" من حديث عائشة: "رخَّص رسولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب".
ويُذكر عن ابن شهاب الزُّهْرى، قال: لَدَغَ بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَّةٌ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"هَلْ مِن رَاقٍ" ؟ فقالوا: يا رسول الله ؛ إن آل حزم كانوا يَرْقُون
رُقيةَ الحَيَّةِ، فلما نَهَيْتَ عن الرُّقَى تركوها، فقال: "ادْعُو عُمارة
بن حزم" فدعوه، فعرضَ عليه رُقاه، فقال: "لا بأسَ بها" فأذن له
فيها فرقاه.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رُقْيَة القَرْحة والجُرْح
أخرجا فى "الصحيحين" عن عائشة قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اشتكى الإنسانُ أو كانت به قَرحةٌ أو جُرحٌ، قال بأصبعه:
هكذا ووضع سفيانُ سبَّابَتَهُ بالأرض، ثم رفعها وقال: "بسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ
أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا، يُشْفَى سَقِيمُنا بإذنِ رَبِّنا".
هذا من العلاج الميسر النافع المركَّب، وهى معالجة لطيفة يُعالج بها القُروحُ
والجِراحات الطرية، لا سِيَّما عند عدم غيرِها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض،
وقد عُلِمَ أنَّ طبيعة التراب الخالص باردةٌ يابسة مجفِّفةٌ لرطوبات القروح
والجراحات التى تمنع الطبيعةُ من جودة فعلها، وسرعةِ اندمالها، لا سِيَّما فى البلاد
الحارَّة، وأصحاب الأمزجة الحارَّة، فإنَّ القُروح والجِراحات يتبعُها فى أكثر
الأمر سوءُ مزاجٍ حارٍ، فيجتمِعُ حرارة البلد والمزاجُ والجِراحُ، وطبيعةُ التراب
الخالص باردة يابسة أشدُّ مِن برودة جميع الأدوية المفردة الباردة، فتُقَابِلُ
برودةُ الترابِ حرارةَ المرض، لا سِيَّما إن كان الترابُ قد غُسِلَ وجُفِّفَ،
ويتبعها أيضاً كثرةُ الرطوبات الرديئة، والسيلان، والتُّراب مُجَفِفٌ لها، مُزِيلٌ
لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الرديئة المانعة من برئها، ويحصل به مع ذلك تعديلُ مزاج
العضو العليل، ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة، ودفعت عنه الألم بإذن
الله.
ومعنى الحديث: أنه يأخذ مِن
ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب، فيعلَق بها منه شىء، فيمسح به
على الجُرح، ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله، وتفويض الأمر إليه،
والتوكل عليه، فينضَمُّ أحدُ العلاجين إلى الآخر، فَيقْوَى التأثير.
وهل المراد بقوله: "تُرْبَةُ أَرضِنا" جميع الأرض أو أرضُ المدينة خاصة
؟ فيه قولان، ولا ريبَ أنَّ مِن التُربة ما تكون فيه خاصية ينفع بخاصيته من أدواءٍ
كثيرة، ويشفى بها أسقاماً رديئة.
قال "جالينوس": رأيتُ بالإسكندرية مَطحُولين، ومُستسقين كثيراً،
يستعملون طين مصر، ويطلُون به على سُوقهم، وأفخاذهم، وسواعدهم، وظهورهم، وأضلاعهم،
فينتفعون به منفعة بَيِّنة. قال: وعلى هذا النحو فقد ينفع هذا الطلاء للأورام
العفنة والمترهِّلة الرخوة، قال: وإنِّى لأعرفُ قوماً ترهَّلَت أبدانُهم كُلُّها من
كثرة استفراغ الدم من أسفل، انتفعوا بهذا الطين نفعاً بَيِّناً، وقوماً آخرين
شَفَوْا به أوجاعاً مزمنة كانت متمكنة فى بعض الأعضاء تمكناً شديداً، فبرأت وذهبت
أصلاً.
وقال صاحب "الكتاب المسيحى": قُوَّة الطين المجلوب من "كنوس"
وهى جزيرة المصطكى قوة تجلو وتغسل، وتُنبت اللحمَ فى القروح، وتختم القُروح..
انتهى.
وإذا كان هذا فى هذه التُرْبات، فما الظنُّ بأطيبِ تُربة على وجه الأرض وأبركها،
وقد خالطت ريقَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقارنت رُقيته باسم
ربه، وتفويض الأمر إليه، وقد تقدم أن قُوَى الرُّقْيَة وتأثيرَها بحسب الراقى،
وانفعال المرقى عن رُقْيَته، وهذا أمر لا يُنكره طبيب فاضل عاقل مسلم، فإن انتفى
أحد الأوصاف، فليقل ما شاء.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج الوجع بالرقية
روى مسلم في "صحيحه" عن عثمان بن أبي العاص، "أنه شكى إلى رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ضع يَدَكَ عَلَى الَّذي
تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وقُل: بِسْمِ الله ثلاثاً، وقُلْ سبع مرات: أعوذُ
بِعِزَّةِ الله وقُدرَتهِ منْ شَرِّ مِا أجدُ وأُحاَذِر" ففي هذا العلاج من
ذكر الله، والتفويض إليه، والاستعاذة بعزته وقدرته من شر الألم ما يَذهب به،
وتكراره ليكونَ أنجعَ وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة، وفي السبع خاصية لا
توجد في غيرها، وفي "الصحيحين": أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، "كان يعوِّذُ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهمَّ
رَبَّ الناس، أَذهِب الباَسَ، واشفِ أنت الشّافي، لا شِفَاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا
يغادرُ سَقَماً". ففي هذه الرُقية توسل إلى الله بكمال زبوبيته، وكما رحمته
بالشفاء، وأنه وحده الشافي، وأنه لا شفاء إلا شِفاؤُه، فتضمنت التوسل إليه بتوحيده
وإحسانه وربوبيته.
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }[البقرة: 155] . وفي "المسند" عنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ
فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي
خيراً منهَا، إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيراً منها".
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين
عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية،
فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ:
عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي
أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا
يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر
تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا
ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء
ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة، ولكن بالحسنات
والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو
يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم
علم
اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن
ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى
الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا،
إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ
تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد:
22].
ومن علاجه أن ينظر إلى ما أُصيبَ به، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله، أو أفضل منه،
وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة،
وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى.
ومن عِلاجه أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب، وليعلم أنه فى كل
وادٍ بنو سعد، ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً ؟ ثم ليعطف يَسْرةً، فهل يرى
إلا حسرةً ؟، وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو
حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً،
أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً،
وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ
شرور.
قال ابن مسعود رضى الله عنه: لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا
مُلِىءَ تَرحاً.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء.
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم
لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً
خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن
أمرها، فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى
العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ،
لعل أحداً آذاك ؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ
سروراً إلا امتلأت حُزناً.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يوماً، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟
فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس
مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم
بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ
نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا
وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها، وهو فى الحقيقة من تزايد
المرض.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاةُ والرحمة
والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ
الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره،
ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه، وردَّه خاسئاً، وأرضى ربه، وسرَّ
صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه، فهذا هو الثباتُ
والكمال الأعظم، لا لطمُ الخدودِ، وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور،
والسخَطُ على المقدور.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة
أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد
الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظرْ: أىُّ المصيبتين أعظمُ
؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً: "يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت
تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ".
وقال بعضُ السَّلَف: لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس.
ومِن عِلاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله، فإنه من كُلِّ شىء
عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ
عِوَضُ
ومن عِلاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له، فمن رضى، فله الرِّضى،
ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها،
فإن أحدثت له سخطاً وكفراً، كُتِب
فى ديوان الهالكين، وإن أحدثت
له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب، أو فى فعل مُحَرَّم، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين،
وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين، وإن أحدثتْ له
اعتراضاً على الله، وقدحاً فى حكمته، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه، وإن أحدثت له
صبراً وثباتاً لله، كُتِبَ فى ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله،
كُتِبَ فى ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين،
وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه،
كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفى "مسند الإمام أحمد" والترمذىِّ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه:
"إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن
سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ". زاد أحمد: "ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ".
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه، فآخِرُ أمره إلى صبر
الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب، قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم
من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ
البهائم
وفى "الصحيح" مرفوعاً: "الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى".
وقال الأشعث بن قيس: إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ
البهائِم.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ
أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له، وأن خاصيَّة المحبة
وسِرَّها موافقةُ المحبوب، فمَن ادَّعى محبة محبوب، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه،
وأحبَّ ما يُسخطه، فقد شهد على نفسه بكذبه، وتَمقَّتَ إلى محبوبه.
وقال أبو الدرداء: إنَّ الله إذا قضى قضاءً، أحب أن يُرضَى به.
وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته: أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه، وكذلك قال
أبو العالية.
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به.
ومِن عِلاجها: أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين، وأدْوَمِهما: لذَّةِ
تمتعه بما أُصيب به، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له، فإن ظهر له الرجحان، فآثر
الراجِحَ، فليحمدِ الله على توفيقه، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه، فليعلم أنَّ
مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين،
وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به، ولا ليُعذبه به، ولا ليَجْتاحَه،
وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه، وليراه
طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً قصصَ الشكوى إليه.
قال الشيخ عبد القادر: يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ، وإنَّما
جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ، والسَّبُعُ لا يأكل
الميتةَ.
والمقصود: أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله، فإما أن
يخرج ذهباً أحمر، وإما أن يخرج
خَبَثاً كله، كما قيل:
سَبَكْنَاه ونَحْسِبهُ لُجَيْناً ... فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم، فإذا علم العبد
أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك، وأنه لا بد من
أحد الكِيرَين، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها، لأصاب العبدَ مِن أدْواء
الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمةِ
أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حِمية له من
هذه الأدواء، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة
منه، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ
الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطَغَوا، وبَغَوْا،
وعَتَوْا، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان
على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه،
أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا، وهى عبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيتُه وقُربه
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة، يَقلِبُها
الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة
منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك. فإن خَفِىَ عليك هذا، فانظر إلى قول
الصادق المصدوق: "حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ،
وحُفَّتِ النَّارُ
بالشَّهَواتِ"
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق، وظهرت حقائقُ الرجال، فأكثرُهم آثرَ
الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ
لِحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد،
فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإيمان ضعيفٌ، وسلطانُ الشهوة حاكم،
فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر
الأُمور، وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة،
ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخرُ.
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة
الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب
والحسرات الدائمة، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ،
وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه، وما هو الأَوْلَى به، ولا تستطِلْ هذا العلاج،
فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه، وبالله التوفيق.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج الكرب والهم والغم
والحزن
أخرجا فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول عند الكَرْب: " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ
الحَلِيمُ، لا إلهَ
إلا اللهُ ربُّ العرشِ
العَظِيمُ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع، ورَبُّ الأرْض , رَبُّ
العَرْشِ الكَرِيمُ".
وفى "جامع الترمذىِّ" عن أنس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، "كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ، قال : "يا حَىُّ يا قَيُّومُ
برحمتِكَ أستغيثُ".
وفيه عن أبى هُريرة: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان
إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سُبْحَانَ الله
العظيمِ"، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: "يا حَىُّ يا قَيُّومُ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أبى بكر الصِّدِّيق، أنَّ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دَعَواتُ المكروبِ: اللهُمَّ رَحْمَتَكَ
أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا
إله إلا أنْتَ".
وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو فى
الكَرْبِ: "اللهُ رَبِّى
لا أُشْرِكُ به شيئاً".
وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات.
وفى "مسند الإمام أحمد" عن ابن مسعود، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال: اللهُمَّ
إنِّى عَبْدُكَ، ابنُ عَبْدِكَ، ابنُ أمتِكَ، ناصِيَتى بيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ،
عَدْلٌْ فىَّ قضاؤكَ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو
أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به فى
عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى، ونُورَ
صَدْرى، وجِلاءَ حُزنى، وذَهَابَ هَمِّى، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ،
وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً".
وفى "الترمذىِّ" عن سعد بن أبى وَقَّاص، قال: قال رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو فى
بَطْنِ الحُوتِ: {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له".
وفى رواية: "إنِّى لأعلمُ
كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخى يُونُس".
وفى "سنن أبى داود" عن أبى سعيد الخدرى، قال: دخل رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له:
أبو أُمَامة، فقال: "يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ فى المسجدِ فى غَيْرِ
وَقْتِ الصَّلاةِ" ؟ فقال: هُمومٌ لَزِمَتْنى، وديونٌ يا رسولَ الله، فقال:
"ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ
وقَضَى دَيْنَكَ" ؟ قال: قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: " قُلْ إذا
أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ،
وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ، وأعُوذُ
بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال"، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب
الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى، وقَضى عنى دَيْنِى.
وفى "سنن أبى داود"، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن لَزِمَ الاستغفارَ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ
هَمٍّ فَرَجاً، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا
يَحْتَسِب"
وفى "المسند": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا
حَزَبَه أمرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاة، وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ
وَالْصَّلاَة}
وفى "السنن":
"عَلَيْكُم بالجِهَادِ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ، يدفعُ اللهُ به عن
النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ".
ويُذكر عن ابن عباس، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن
كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ
إلاَّ باللهِ".
وثبت فى "الصحيحين": أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة.
وفى "الترمذى ": أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة.
هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داءِ
الهَمِّ والغَمِّ والحزن، فهو داءٌ قد استحكم، وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ
كُلِّى..
الأول: توحيد الرُّبوبية.
الثانى: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمى الاعتقادى.
الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب
ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسُّل إلى الرَّب
تعالى بأحبِّ الأشياء، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات:
الحىُّ القَيُّوم.
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه، والتفويضِ إليه، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه فى
يده، يُصرِّفُه كيف يشاء، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان، وأن
يَسْتَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت،
ويَتعزَّى به عن كل مصيبة، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه،
وشفاءَ همِّه وغَمِّه.
الحادى عشر: الاستغفار.
الثانى عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه.
فصل: فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ
بالألم، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً، إذا فقده، حضرتْه
أسقامُه وآلامُه من الهموم
والغموم والأحزان.
فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له
مِن قوة السَّمْع، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام، فقدتْ كمالَها
والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به، والابتهاج بحبه، والرضى
عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، ودوام
ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه، وأجَلَّ
فى قلبه مِن كل ما سواه، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ، بل ولا حياة إلا
بذلك، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته،
فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه، ورهْنٌ مقيم عليه.
ومن أعظم أدوائه: الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه،
وتركُ التفويض إليه، وقِلَّةُ الاعتماد عليه، والركونُ إلى ما سواهُ، والسخطُ
بمقدوره، والشكُّ فى وعده ووعيده.
وإذا تأملتَ أمراض القلب، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها
سِواها، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من
الأُمور المضادة لهذه الأدواء، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد، والصِّحةُ تُحفظ
بالمِثْل، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية، وأمراضُه بأضدادها.
فالتوحيد.. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج، والتوبةُ
استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه، وحِميةٌ له من التخليط،
فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد، ويُغْلَق
باب الشرور بالتوبة والاستغفار.
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم، فليقلِّلْ
مِن الطعام والشراب، ومَن أراد
عافية القلب، فليترُكْ الآثام.
وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة
الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام.
والذنوبُ للقلب، بمنزلة السُّموم، إن لم تُهلكْه أضعفتْه، ولا بُدَّ، وإذا ضعُفت
قوته، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ ... وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة
ظالمة، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها،
ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده، وتضعُ
الدواء موضع الداء فتجتنبه، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء، واجتنابِها للدواء
أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء، ويتعذَّرُ معها الشفاء. والمصيبةُ
العظمى، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر، فتُبرِّىء نفسَها، وتلومُ ربَّها بلسان
الحال دائماً، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان.
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه،
فيُحييه حياةً جديدة، ويرزقُه طريقةً حميدة، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء
الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم،
وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة، والإحسان والتجاوز، ووصفِه بكمال
ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها.
والرُّبوبية
التامة تستلزِمُ توحيدَه، وأنه
الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له. وعظمتُه
المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه. وحِلمُه يستلزم كمال
رحمته وإحسانه إلى خلقه.
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج
واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد
عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويُقوِّى نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى،
فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته
فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور،
وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها، وباشر قلبُه حقائقَها.
وفى تأثير قوله: "يا حىُّ يا قَيُّومُ، برحمتِك أستغيثُ" فى دفع هذا
الداء مناسبة بديعة، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها،
وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى
إذا دُعىَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم، والحياة
التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم
يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال،
وتنافى القيومية، فكمالُ القيومية لكمال الحياة، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا
يفوتُه صِفة الكمال ألبتة، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة، فالتوسل
بصفة الحياة والقَيُّومية
له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ
الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
ونظير هذا توسلُ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ربه بربوبيته
لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه، فإنَّ
حياة القلب بالهداية، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة،
فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ
الأبدان والحيوان، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم
وعَودِ الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة
الموكلة بالحياة، له تأثير فى حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات، وكشف
الكُربات.
وفى "السنن" و"صحيح أبى حاتم" مرفوعاً: "اسمُ اللهِ
الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين: {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحةِ آلِ عمران: {آلم اللهُ لاَ إلهَ
إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران: 1-2] ، قال الترمذىُّ: حديث صحيح
وفى "السنن" و"صحيح ابن حِبَّان" أيضاً: من حديث أنس أنَّ
رجلاً دعا، فقال: اللهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إلَهَ إلا أنتَ
المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، يا ذا الجلال والإكرام، يا حىُّ يا
قَيُّومُ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لقد دَعَا اللهَ
باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى".
ولهذا كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اجتهد فى الدعاء، قال:
"يَا حىُّ يا قَيُّومُ".
وفى قوله: "اللهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ
عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ" من تحقيق الرجاء لمن
الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده، وتفويضُ الأمر إليه، والتضرع إليه، أن
يتولَّى إصلاح شأنه، ولا يَكِلَه إلى نفسه، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ
قوى فى دفع هذا الداء، وكذلك قوله: "اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه
شَيْئاً".
وأما حديث ابن مسعود: "اللهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ"، ففيه
من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب، فإنه يتضمَّن
الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف
يشاء، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا
نُشوراً، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شىءٌ من أمره، بل هو عانٍ فى
قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: "ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ" متضمنٌ لأصلين عظيمين
عليهما مدارُ التوحيد.
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه،
لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له فى دفعها.
والثانى: أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام، غير ظالم لعبده،
بل لا يخرُج فيها عن موجب
العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه،أو سفهُه، فيستحيلُ
صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه،
ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده، كما لم
تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا قال
نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه
بآلهتهم:{ إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
*مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ
علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود: 54-57] ، أى مع
كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا
يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: "ماضٍ فىَّ
حُكْمُكَ"، مطابقٌ لقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا} ، وقولُه: "عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ"، مطابقٌ لقوله:
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 57] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه
بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما
استأثره فى علم الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيّاً مرسلاً،
وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ، وكذلك القرآنُ
ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى
يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى
يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله
أن يُزيلَ عنه داءه، ويُعقبه شفاءً تاماً، وصحةً وعافيةً.. والله الموفق.
وأما دعوةُ ذى النون.. فإنَّ
فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من
أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء
الحوائج، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ
وعيب وتمثيل عنه. والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب،
ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله، واستقالته عثرتَه، والاعترافَ بعبوديته،
وافتقاره إلى ربه، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد، والتنزيه،
والعبودية، والاعتراف.
وأما حديث أبى أمامة: "اللهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ
والحَزَنِ"، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء، كُلُّ اثنين منها قَرينان
مزدوجان، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان، والعجزُ والكسلُ أخوان، والجُبنُ والبُخلُ
أَخوان، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على
القلب، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً
فى المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه، إما أن يكون مِن
عدم القُدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه
وعن بنى جنسه، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه، فهو الجُبن، أو بماله، فهو البخل،
وقهرُ النَّاس له إما بحق، فهو ضَلَعُ الدَّيْن، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال،
فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ.
وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق، فلِمَا اشترَكَ فى
العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ
والغَمَّ، والخوفَ والحُزن، وضيقَ الصدر، وأمراض القلب، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا
منها أوطارَهم، وسئمتها نفوسُهم، ارتكبوها دفعاً لما
يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق
والهَمِّ والغَمِّ، كما قال شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ
والاستغفار
وأما الصَّلاةُ.. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ
شأن، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله، وقربه والتنعم بذكره، والابتهاجِ
بمناجاته، والوقوفِ بين يديه، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته،
وإعطاء كل عضو حظَّه منها، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم،
وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما
صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ
الصحيحة. وأمَّا القلوبُ العليلة، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة.
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا
والآخرة، وهى منهاةٌ عن الإثم، ودافعةٌ لأدواء القلوب، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن
الجسد، ومُنوِّرةٌ للقلب، ومُبيِّضَةٌ للوجه، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس، وجالِبةٌ
للرزق، ودافعةٌ للظلم، وناصِرةٌ للمظلوم، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات، وحافِظةٌ
للنعمة، ودافِعةٌ للنِّقمة، ومُنزِلةٌ للرحمة، وكاشِفة للغُمَّة، ونافِعةٌ من كثير
من أوجاع البطن.
وقد روى ابن ماجه فى "سننه" من حديث مجاهد، عن أبى هريرة قال: رآنى
رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: "يا أبا هُرَيْرَة ؛
أشِكَمَتْ دَرْدْ" ؟ قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: "قُمْ فَصَلِّ،
فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً".
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد، وهو
أشبهُ. ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج، فيُخاطَبُ بصناعة الطب، ويقالُ له:
الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن
الانتصاب، والركوع، والسجود، والتورُّك، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى
يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة، كالمَعِدَة،
والأمعاء، وسائر آلات النَّفَس، والغذاء، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات
تقويةٌ وتحليلٌ للمواد، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة،
فتقوى الطبيعة، فيندفع الألم.
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ
ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ
وَتَوَلَّى
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم، فأمرٌ معلوم بالوجدان، فإنَّ النفس متى
تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه، اشتد همُّها وغمُّها، وكربُها وخوفها،
فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً، كما قال
تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ}[التوبة: 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه
من الجهاد..
والله المستعان.
وأمَّا تأثيرُ "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله" فى دفع هذا الداءِ،
فلِما فيها من كمالِ التفويضِ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به، وتسليمِ
الأمر كله له، وعدمِ منازعته فى شىء منه، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال
فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ، والقوةِ على ذلك التحول، وأنَّ ذلك كُلَّه
باللهِ وحدَه، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء.
وفى بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب
"لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله"، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد
الشيطان.. والله المستعان.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاجِ الفَزَع، والأرَقِ
المانِع من النوم
روى الترمذىُّ فى "جامعه" عن بُريدةَ قال: شكى خالدٌ إلى النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ،
فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْع
وَمَا أظَلَّتْ، ورَبَّ الأرَضِينَ، وَمَا أَقَلَّتْ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما
أضَلَّتْ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ
علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ، عَزَّ جَارُك، وجَلَّ ثَنَاؤُكَ، ولا
إلهَ غَيْرُك".
وفيه أيضاً: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ: " أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ
التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ، وعِقَابِهِ، وَشرِّ عِبَادِه، وَمِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ" ، قال: وكان عبد الله بن
عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من بنيه، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه، فأعلقه عليه،
ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى علاج داء الحريق وإطفائه
يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا، فإنَّ التكبيرَ
يُطفِئُهُ".
لما كان الحريقُ سببهُ النارُ، وهى مادةُ الشيطان التى خُلِقَ منها، وكان فيه من
الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه، كان للشيطان إعانةٌ عليه، وتنفيذ
له، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ، وهذان الأمران وهما العلوُّ فى
الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يُهلِكُ بنى آدم، فالنار
والشيطان كل منهما يُريد العلو فى الأرض والفسادَ، وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ
تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ. ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ فى إطفاء
الحريق، فإنَّ
كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شىء، فإذا كبَّر المسلمُ ربَّه، أثَّر تكبيرُه فى خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هى مادته، فيُطفىءُ الحريقَ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا، فوجدناه كذلك.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ الصحة
لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة،
فالرطوبة مادته، والحرارةُ تُنضِجُهَا، وتدفع فضلاتِها، وتُصلحها، وتلطفها، وإلا
أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه، وكذلك الرطوبةُ هى غِذاءُ الحرارة، فلولا الرطُوبة،
لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته، فقِوامُ كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها، وقِوام
البدنِ بهما جميعاً، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها
وتمنعها من الفساد والاستحالة، والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها، ومتى
مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى، حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك،
فالحرارةُ دائماً تُحَلِّلُ الرطوبة، فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما
حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ، ومتى زاد على مقدار
التحللِ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته، فاستحالتْ موادَّ رديئة، فعاثتْ فى
البدن، وأفسدتْ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب تنوُّع موادِّها، وقبولِ الأعضاء
واستعدادِها، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ
تُسْرِفُواْ} [الأعراف: 31]، فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِيمُ البدنَ من
الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به البدنُ فى
الكمِّية والكيفية، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً، وكلاهما
مانعٌ من الصحة جالبٌ للمرض،
أعنى عدم الأكل والشرب، أو الإسراف فيه.
فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين الإلهيتين، ولا ريب أنَّ البدن دائماً فى التحلل
والاستخلاف، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها، فإنَّ كثرةَ التحلل
تُفنى الرطوبة، وهى مادة الحرارة، وإذا ضعفت الحرارة، ضعفَ الهضم، ولا يزال كذلك
حتى تَفنى الرطوبةُ، وتنطفئ الحرارة جملةً، فيستكملُ العبدُ الأجلَ الذى كتب اللهُ
له أن يَصِلَ إليه.فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى
هذه الحالة، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة
والقوَّة بهما، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر فى هذه الدار، وإنما غايةُ الطبيب
أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها، ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها،
ويعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدنُ الإنسان، كما أنَّ به قامت
السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات، إنما قوامُها بالعدل
ومَن تأمَّل هَدْىَ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجده أفضلَ هَدْى
يُمكن حِفظُ الصِّحة به، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب،
والملبس والمسكن، والهواء والنوم، واليقظة والحركة، والسكون والمَنكَح، والاستفراغ
والاحتباس، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد
والسِّنِّ والعادة، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل
ولمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده، وأجزل عطاياه، وأوفر
مِنحه، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق، فحقيق لمن رُزق حظاً
مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا يُضادها.وقد
روى البخارىُّ فى
"صحيحه" من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ
والفَرَاغُ".
وفى "الترمذى" وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصارى، قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أصْبَحَ مُعَافىً فى
جَسَدِهِ، آمناً فى سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ
الدُّنيا". وفى "الترمذى" أيضاً من حديث أبى هريرة، عن النبىِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ
يومَ القيامَةِ مِنَ النَّعِيم، أن يُقال له: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ،
ونُرَوِّكَ مِنَ الماءِ البارد". ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف فى قوله
تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر: 8] قال: عن
الصحة
وفى "مسند الإمام أحمد": أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال للعباس: "يا عباس، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ
فى الدُّنْيَا والآخِرَة".
وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق، قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: " سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ، فما أُوتِىَ أحدٌ
بَعْدَ اليقينِ خَيراً من العافية"،
فجمع بين عافيتى الدِّينِ
والدنيا، ولا يَتِمُّ صلاح العبد فى الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع
عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه.
وفى "سنن النسائى" من حديث أبى هريرة يرفعه: "سَلُوا اللهَ
العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيراً من
مُعافاةٍ". وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو، والحاضرة
بالعافية، وَالمستقبلة بالمعافاة، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية.
وفى "الترمذى" مرفوعاً: "ما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلَيْهِ من
العافيةِ".
وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: عن أبى الدرداء، قلت: يا رسول الله ؛ لأن أُعافَى
فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتََلى فأصبر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ ".
ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فقال له: ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس ؟ فقال: "سَلِ اللهَ
العافيةَ" ، فأعاد عليه، فقال له فى الثالثة: "سَلِ اللهَ العَافِيةَ فى
الدُّنيا والآخرَة".
وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ، فنذكُرُ من هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فى مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على
الإطلاق ينال به حفظَ صحةِ البدن والقلب، وحياة الدُّنيا والآخرة، والله
المستعانُ، وعليه التُّكلان، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله.
فصل
فأما المطعمُ والمشرب، فلم يكن مِن عادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبسُ
النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة
جداً، وقد سيتعذَّر عليها أحياناً، فإن لم يتناول غيرَه، ضعفَ أو هلكَ، وإن تناول
غيره، لم تقبله الطبيعة، واسْتضرَّ به، فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل
الأغذية خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم،
والفاكهة، والخُبز، والتمر، وغيره مما ذكرناه فى هَدْيه فى المأكول، فعليك
بمراجعته هناك
وإذا كان فى أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ، كسَرها وعدلها بضدها إن
أمكن، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ، وإن لم يجد ذلك، تناوَله على حاجة وداعيةٍ
من النفس من غير إسراف، فلا تتضرر به الطبيعة
وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله، ولم يُحمِّلْها إيَّاه على كُره، وهذا أصل
عظيم فى حفظ الصحة، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه، ولا تشتهيه، كان تضرُّره به
أكثر من انتفاعه.قال أنس: ما عابَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طعاماً قَطُّ، إن اشتهاه أكلَه، وإلا تركه، ولم يأكلْ منه. ولمَّا قُدِّمَ إليه
الضَّبُّ المشوىُّ لم يأكلْ منه، فقيل له: أهو حرامٌ ؟
قال: "لا، ولكنْ لم يكن
بأرضِ قَوْمى، فأجِدُنى أعافُه". فراعى عادتَه وشهوتَه، فلمَّا لم يكن يعتادُ
أكله بأرضه، وكانت نفسُه لا تشتهيه، أمسَكَ عنه، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه،
ومَنْ عادتُه أكلُه.
وكان يحبُّ اللَّحم، وأحبُّه إليه الذراعُ، ومقدم الشاة، ولذلك سُمَّ فيه.وفى
"الصحيحين": "أُتِىَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بلحم، فرُفِع إليه الذراع، وكانت تُعجبُه".وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة
بنت الزُّبير، أنها ذَبحتْ فى بيتها شاةً، فأرسل إليها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ أطعِمِينا من شاتكم، فقالت للرسول: ما بقىَ عندَنا إلاَّ
الرَّقبةُ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فرجع الرسولُ فأخبره، فقال: "ارْجِعْ إليها فقلْ لها: أَرْسِلى
بِهَا، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر، وأبعدُها مِنَ الأذَى"
ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة، ولحمُ الذراع والعَضُد، وهو أخفُّ على
المَعِدَة، وأسرعُ انهضاماً، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التى تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛
أحدها: كثرةُ نفعها وتأثيرها فى القُوَى. الثانى: خِفَّتُها على المَعِدَة، وعدمُ
ثقلها عليها. الثالث: سرعةُ هضمها، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء. والتغذِّى
باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره.
وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ، وهذه الثلاثة أعنى: اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة والقوة، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة.وكان يأكُلُ الخبز مأدُوماً ما وَجَدَ له إداماً، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول: "هُوَ سَيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ" رواه ابن ماجه وغيره "وتارة بالبطيخ، وتارةً بالتمر،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير، وقال: "هذا إدامُ هذه". وفى هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس، والتمر حار رطب على أصح القولين، فأَدمُ خبزِ الشعير به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة، وتارةً بالخَلِّ، ويقول: "نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ" ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر، لا تفضيلٌ له على غيرِه، كما يظن الجُهَّالُ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوماً، فقدَّموا له خبزاً، فقال: "هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ" ؟ قالوا: ما عِندَنا إلاَّ خَل. فقال: "نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ".والمقصود: أنَّ أكل الخبز مأدوماً من أسباب حِفظ الصحة، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده. وسُمِىَ الأُدمُ أُدماً: لإصلاحه الخبزَ، وجعلِه ملائماً لحفظ الصحة. ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظرَ: "إنه
أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما"،
أى: أقربُ إلى الالتئام والموافقة، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة، فلا يندَم.
وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يَحتمِى عنها، وهذا أيضاً من أكبر أسباب
حفظ الصحة، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به
أهلُها فى وقتِهِ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم، ويُغنى عن كثير من
الأدوية، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس
جسماً، وأبعدِهم من الصحة والقوة.وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات، فحرارةُ الفصل
والأرض، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ فى تناولها، ولم
يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه، ولا
أفسَدَها بشرب الماء عليها، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى منها، فإن القُولَنْج
كثيراً ما يَحدث عند ذلك، فمَن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه
الذى ينبغى، كانت له دواءً نافعاً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى هيئة الجلوسِ للأكل
صحَّ عنه أنه قال: "لا آكُلُ مُتَّكِئاً"، وقال: "إنما أجْلِسُ
كما يَجْلِسُ العبدُ، وآكُلُ
كما يأكُلُ العبدُ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو منبطحٌ على
وجهه.وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع، وفُسِّر بالاتكاء على الشىء، وهو الاعتمادُ
عليه، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب. والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء، فنوعٌ منها
يضرُّ بالآكل، وهو الاتكاء على الجنب، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته،
ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة، ويضغطُ المَعِدَةَ، فلا يستحكم فتحُها
للغذاء، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة.وأما
النوعان الآخران: فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية، ولهذا قال: "آكُلُ كما
يأكُلُ العبد" وكان يأكل وهو مُقْعٍ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل
مُتَورِّكاً على ركبتيه، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً
لربه عَزَّ وجَلَّ، وأدباً بين يديه، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل، فهذه الهيئة
أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى
خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة
الأدبية، وأجودُ ما اغتذى
الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان
منتصباً الانتصابَ الطبيعى، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب، لما تقدم من
أن المَرِىء، وأعضاء الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة، والمَعِدَةُ لا تبقى على
وضعها الطبيعى، لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل
بين آلات الغذاء، وآلات التنفس
وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس، فيكون
المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئاً على الأوْطِية والوسائد، كفعل الجبابرة، ومَن
يُرِيد الإكثار من الطعام، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما يأكل العبد.
فصل
وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث، وهذا أنفعُ ما يكون من الأكلات، فإنَّ الأكل بأصبع
أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل، ولا يُمريه، ولا يُشبعه إلا بعدَ طول، ولا تفرحُ
آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها فى كل أكلة، فتأخذَها على إغماضٍ، كما يأخذ
الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك، فلا يلتذُّ بأخذه، ولا يُسَرُّ به،
والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته، وعلى المَعِدَةُ، وربما
انسدَّت الآلات فمات، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه، والمَعِدَةُ على احتماله، ولا يجد
له لذةً ولا استمراءً، فأنفعُ الأكل أكلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأكلُ مَن اقتدى به بالأصابع الثلاث.
فصل
ومَن تدبَّر أغذيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان يأكلهُ، وجَده لم
يجمع قَطُّ بين لبن وسمك، ولا بين لبن وحامض، ولا بين غذائين حارَّين، ولا
بارِدين، ولا لَزِجَين، ولا قابضين، ولا مُسهلين، ولا غليظين، ولا مُرخيين، ولا
مستحيلين إلى خلط واحد، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل، وسريع الهضم وبطيئه، ولا
بين شَوىٍّ وطبيخ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض، ولا بين لحم ولبن، ولم
يكن يأكل طعاماً فى وقت شدة حرارته، ولا طبيخاً بائتاً يُسخَّن له بالغد، ولا
شيئاً من الأطعمة العَفِنَةِ والمالحة، كالكَوامخ والمخلَّلات، والملوحات. وكل هذه
الأنواع ضار مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال.وكان يُصلح ضرر بعض
الأغذية ببعض إذا وَجد إليه سبيلاً، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا، ويُبوسةَ هذا
برطُوبة هذا، كما فعل فى القِثَّاء والرُّطَب، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن، وهو
الحَيْسُ، ويشربُ نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر
بالعَشاء، ولو بكفٍّ من تمر، ويقول: "تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ"، ذكره
الترمذىُّ فى "جامعه"، وابن ماجه فى "سننه"
وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل، ويذكر أنه يُقسى القلب،
ولهذا فى وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة: أن يمشىَ بعد
العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة
خطوة، ولا ينام عَقِبه، فإنه مضر جداً، وقال مسلموهم: أو يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ
الغِذاء بقعرِ المَعِدَة، فيسهلَ هضمه، ويجودَ بذلك. ولم يكن من هَدْيه أن يشربَ
على طعامه فيُفسده، ولا سِيَّما إن كان الماء حاراً أو بارداً، فإنه ردىءٌ جداً.
قال الشاعر:
لا تَكنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ ... وَدخُولِ الْحَمَّامِ تَشربُ مَاءَ
فَإذَا ما اجْتَنَبْتَ ذلكَ حَقّاً ... لَمْ تَخَفْ ما حَيِيتَ فِىالْجَوْفِ داءَ
ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة، والتعبِ، وعقيبَ الجِمَاع، وعقيبَ الطعامِ وقبله،
وعقيبَ أكل الفاكهة، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها أسهلَ مِن بعض، وعقب الحمَّام،
وعند الانتباه من النوم، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ الصحة، ولا اعتبار بالعوائد،
فإنها طبائع ثوانٍ.
فصل
وأما هَدْيه فى الشراب، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة، فإنه كان يشرب العسلَ
الممزوجَ بالماء البارد، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى إلى معرفته إلا
أفاضلُ الأطباء، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم، ويغسِلُ خَمْل
المَعِدَة، ويجلُو لزوجتها، ويدفع عنها الفضلات، ويُسخنها باعتدال، ويفتحُ سددها،
ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها،
وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء، فربما هيَّجها،
ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً، وشربه أنفع من كثير من
الأشربة
المتخذة من السكر أو أكثرِها،
ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة، ولا ألِفَها طبعُه، فإنه إذا شربها لا
تلائمه ملاءمةَ العسل، ولا قريباً منه، والمحكَّمُ فى ذلك العادة، فإنها تهدم
أُصولاً، وتبنى أُصولاً
وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة، فمن أنفع شىء للبدن، ومن أكبر أسباب
حفظ الصحة، وللأرواح والقُوى، والكبد والقلب، عشقٌ شديدٌ له، واستمدادٌ منه، وإذا
كان فيه الوصفانِ، حصَلتْ به التغذيةُ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء، وإيصاله إليها
أتمَّ تنفيذ.
والماء البارد رطب يقمع الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية، ويرد عليه بدل
ما تحلَّل منها، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه فى العروق.
واختلف الأطباء: هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين: فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً
على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به، ولا سِيَّما عند شدة
الحاجة إليه.
قالوا: وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها: النموُّ
والاغتذاءُ والاعتدال، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه، ولهذا كان غِذاءُ النبات
بالماء، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء، وأن يكون جزءاً من غذائه التام.
قالوا: ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام، وإنما أنكرنا أن لا يكون
للماء تغذية ألبتة. قالوا: وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية،
ولولاها لما حصلت به التغذيةُ.قالوا: ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات، ولا
ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء، حصلت به التغذية، فكيف إذا كانت مادته
الأصلية، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ
حَىٍّ}[الأنبياء: 30]، فكيف
ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو
مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا: وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد، تراجعت إليه قواه
ونشاطُه وحركته، وصبرَ عن الطعام، وانتفع بالقدر اليسير منه، ورأينا العطشانَ لا
ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ، ونحن لا ننكِرُ
أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن، وإلى جميع الأعضاء، وأنه لا يتم أمر
الغذاء إلا به، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة، ويكاد قولُه عندنا
يدخُل فى إنكار الأُمورالوجدانية.
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم
الاكتفاء به، وأنه لا يقومُ مقام الطعام، وأنه لا يزيد فى نموِّ الأعضاء، ولا يخلف
عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية، فإنهم
يَجعلون تغذيته بحسب جوهره، ولطافته ورقته، وتغذيةُ كل شىء بحسبه، وقد شُوهد
الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه، والرائحة الطيبة تُغذِّى
نوعاً من الغذاء، فتغذية الماء أظهر وأظهر.
والمقصودُ: أنه إذا كان بارداً، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب، أو التمر أو
السكر، كان من أنفع ما يدخل البدن، وحفِظَ عليه صحته، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى
رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البارِدَ الحلوَ. والماءُ الفاتِرُ
ينفخ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء.
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه، قال النبىُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان: "هَلْ
من ماءٍ بات فى شَنَّة" ؟ فأتاه به، فشرب منه، رواه البخارى ولفظُه:
"إنْ كان عِنْدَكَ
ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ
كَرَعْنَا".والماء البائت بمنزلة العجين الخمير، والذى شُرِب لوقته بمنزلة
الفطير، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات، وقد ذُكِر أنَّ
النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسْتَعْذَبُ له الماء، ويَختار
البائت منه. وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُستقى
له الماء العذب مِن بئر السقيا.
والماء الذى فى القِرَب والشنان، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار
وغيرهما، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماءً بات فى شَنَّة دون غيرها من الأوانى، وفى الماء إذا وُضع
فى الشِّنان، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح
منها الماء، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه، وأبردُ فى الذى لا
يرشَح، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق، وأشرفهم نفساً، وأفضلهم هَدْياً فى كل
شىء، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان، والدُّنيا
والآخرة
قالت عائشةُ: كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الحُلوَ البارِدَ.
وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ
العذبَ، كمياه العيون والآبار الحلوة، فإنه كان يُستعذَب له الماء. ويحتملُ أن
يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ. وقد يُقال
وهو الأظهر: يعمُّهما جميعاً
وقولُه فى الحديث الصحيح: "إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا
كَرَعْنَا"، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع، وهو الشرب بالفم من الحوضِ
والمِقْراةِ ونحوها، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع
بالفم، أو قاله مبيِّناً لجوازه، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه، والأطباءُ تكادُ
تُحَرِّمُه، ويقولون: إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه
عن ابن عمر، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا أنْ نشرب على
بطوننا، وهو الكَرْعُ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال:
"لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ
حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً"
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا، وإن صحَّ، فلا تعارُضَ بينهما، إذ لعلَّ الشربَ
باليد لم يكن يمكن حينئذٍ، فقال: "وإلا كَرَعْنا"، والشربُ بالفم إنما
يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه، كالذى يشربُ من النهر والغدِير، فأمَّا
إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو
بفمه.
فصل
وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً، هذا كان هديَه المعتادَ وصحَّ عنه أنه نهى عن
الشُّرب قائماً، وصحَّ عنه أنه أمر الذى شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ، وصَحَّ عنه أنه
شرب قائماً.
فقالت طائفةٌ: هذا ناسخٌ للنهى، وقالت طائفةٌ: بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس
للتحريم، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى، وقالت طائفةٌ: لا تعارُضَ بينهما أصلاً، فإنه
إنما شَرِبَ قائماً للحاجة، فإنه جاء إلى زمزمَ، وهم يَستَقُون منها، فاستَقَى
فناولُوه الدَّلوَ، فشرب وهو قائم، وهذ كان موضعَ حاجة.
وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها: أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام، ولا يستَقِرُّ فى
المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى
المَعِدَة، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها، ويُشوشها، ويُسرع النفوذ إلى أسفل
البدن بغير تدريج، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة،
لم يَضره، ولا يُعترض بالعوائد على هذا، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ، ولها أحكامٌ
أُخرى، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء.
فصل
وفى "صحيح مسلم" من حديث أنس بن مالك، قال: كان رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتنفَّسُ فى الشَّراب ثلاثاً، ويقولُ: "إنه
أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ "
الشراب فى لسان الشارع
وحمَلَةِ الشرع: هو الماء، ومعنى تنفُّسِه فى الشراب: إبانتُه القَدَح عن فيه،
وتنفُّسُه خارجَه، ثم يعود إلى الشراب، كما جاء مصرَّحاً به فى الحديث الآخر:
" إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ فى القَدَحِ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ
عن فيهِ"
وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة، وفوائدٌ مهمة، وقد نبَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ على مَجامِعها، بقوله: " إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ" فأروَى:
أشدُّ ريَّاً، وأبلغُه وأنفعُه، وأبرأُ: أفعلُ من البُرء، وهو الشِّفاء، أى يُبرىء
من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ، فتُسَكِّن الدفعةُ
الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه، وأيضاً فإنه
أسلمُ لحرارة المَعِدَة، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة،
ونَهْلةً واحدة.وأيضاً فإنه لا يُروِى
لمصادفته لحرارة العطش لحظةً، ثم يُقلع عنها، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها،
وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج.
وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة،
فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده، وكثرةِ كميته، أو يُضعفَها
فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد، وإلى
أمراض رديئة، خصوصاً فى سكان
البلاد الحارة، كالحجاز واليمن ونحوهما، أو فى الأزمنة الحارة كشدة الصيف، فإن
الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف فى بواطن
أهلها، وفى تلك الأزمنة الحارة.
وقوله: "وأمْرَأُ": هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ فى بدنه: إذا
دخله، وخالطه بسهولة ولذة ونفع. ومنه: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء: 4]،
هنيئاً فى عاقبته، مريئاً فى مذاقه. وقيل: معناه أنه أسرعُ انحداراً عن المَرِىء
لسهولته وخفته عليه، بخلاف الكثير، فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه.
ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب
لكثرة الوارد عليه، فيغَصَّ به، فإذا تنفَّس رُويداً، ثم شرب، أمِنَ من ذلك.
ومن فوائده: أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذى
كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها، فإذا
شرِب مرةً واحدةً، اتفق نزولُ الماء البارد، وصعودُ البخار، فيتدافعان ويتعالجان،
ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء، ولا يُمرئُه، ولا يتم
رِيُّه.
وقد روى عبد الله بن المبارك، والبَيْهَقىُّ، وغيرُهما عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً، ولا
يَعُبَّ عبَّا، فإنَّه مِن الكُبَادِ ".والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو
وجع الكبد، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها
ويُضعفُ حرارتَها، وسببُ ذلك المضادةُ التى بين حرارتها، وبين ما ورد عليها من
كيفية المبرود
وكميته. ولو ورد بالتدريج
شيئاً فشيئاً، لم يضاد حرارتَها، ولم يُضعفْها، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد
على القِدْر وهى تفور، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً.
وقد روى الترمذىُّ فى "جامعه" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا تَشْرَبُوا نَفَساً واحداً كَشُرْبِ البَعيرِ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى
وثُلاثَ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ".
وللتسمية فى أول الطعام والشراب، وحمد الله فى آخره تأثيرٌ عجيب فى نفعه
واستمرائه، ودفع مَضَرَّته.
قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً، فقد كَمُل: إذا ذُكِرَ اسمُ الله فى
أوله، وحُمِدَ اللهُ فى آخره، وكثرتْ عليه الأيدى، وكان من حِلٍّ.
فصل
وقد روى مسلم فى "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله، قال: سَمِعْتُ رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "غطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا
السِّقاءَ، فإنَّ فى السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ
ليس عليه غِطَاءٌ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك
الدَّاء".
وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم، وقد عرفه مَن عرفه من عقلاء الناس
بالتجربة. قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث: الأعاجمُ عندنا يتَّقون تلك
الليلة فى السنة، فى كانُونَ الأول منها.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير
الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه عُوداً. وفى عرض العود عليه من الحكمة، أنه لا ينسى
تخميرَه، بل يعتادُه حتى بالعود، وفيه: أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه،
فيمرُّ على العود، فيكون العودُ جسراً له يمنعه من السقوط فيه.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله، فإنَّ ذِكْر اسم الله عند
تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ، ولذلك أمر بذكر اسم
الله فى هذين الموضعين لهذين المعنيين.
وروى البخارى فى "صحيحه" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء.
وفى هذا آدابٌ عديدة، منها: أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة
كريهة يُعاف لأجلها.ومنها: أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء، فتضرَّر به.
ومنها: أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه. ومنها: أنَّ الماء ربما كان فيه
قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب، فتَلِج جوفه. ومنها: أنَّ الشرب كذلك يملأ
البطن من الهواء، فيضيقُ عن أخذ
حظَّه من الماء، أو يُزاحمه،
أو يؤذيه، ولغير ذلك من الحِكَم.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "جامع الترمذي": أنَّ رسولَ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بإداوة يومَ أُحُد، فقال: "اخْنُثْ فَمَ
الإدَاوَة" ، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا.قلنا: نكتفى فيه بقول الترمذى:
هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه،
ولا أدرى سمع من عيسى، أو لا... انتهى.يريد عيسى بن عبد الله الذى رواه عنه، عن
رجل من الأنصار.
فصل
وفى "سنن أبى داود" من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ، قال: "نهى رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأن
ينفُخَ فى الشَّراب". وهذا من الآداب التى تتم بها مصلحةُ الشارب، فإن
الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه عِدَّةُ مفاسد:
أحدها: أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف
الجانب الصحيح.
الثانى: أنَّه ربما شوَّش على الشارب، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثُّلْمة.
الثالث: أنَّ الوسخ والزُّهومة
تجتمِعُ فى الثُّلْمة، ولا يصل إليها الغَسلُ، كما يصل إلى الجانب الصحيح.
الرابع: أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب فى القَدَح، وهى أردأُ مكان فيه، فينبغى
تجنُّبه، وقصدُ الجانب الصحيح، فإنَّ الردىء من كل شىء لا خير فيه، ورأى بعض
السَّلَف رجلاً يشترى حاجة رديئة، فقال: لا تفعل، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ نزع
البركة من كل ردىء.
الخامس: أنَّه ربما كان فى الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب، ولغيرِ هذه من
المفاسد.
وأما النفخ فى الشراب.. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها،
ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم. وبالجملة: فأنفاس النافخ تُخالطه، ولهذا جمع
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النهى عن التنفُّس فى الإناء
والنفخ فيه، فى الحديث الذى رواه الترمذىُّ وصحَّحه، عن ابن عباس رضى الله عنهما،
قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتنفَّسَ فى الإناء، أو
يُنْفَخَ فيه.
فإن قيل: فما تصنعون بما فى "الصحيحين" من حديث أنس، "أنَّ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتنفَّسُ فى الإناء ثلاثاً" ؟.
قيل: نُقابلُه بالقبول والتسليم، ولا مُعارضة بينه وبين الأول، فإن معناه أنه كان
يتنفس فى شربه ثلاثاً، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب، وهذا كما جاء فى الحديث
الصحيح: أنَّ إبراهيم ابن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات فى الثَّدْى، أى: فى مُدة الرَّضاع.
فصل
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب اللَّبن خالصاً تارةً، ومُشَوباً
بالماء أُخرى. وفى شرب اللَّبن الحلو فى تلك البلاد الحارة خالصاً ومَشوباً نفعٌ
عظيم فى حفظ الصحة، وترطيبِ البدن، ورَىِّ الكبد، ولا سِيَّما اللبنَ الذى ترعى
دوابُّه الشيحَ والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية،
وشرابٌ مع الأشربة، ودواءٌ مع الأدوية.
وفى جامع "الترمذى" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا
أكل أحدكم طعاماً فيلقُلْ: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وأطْعِمنا خيراً منه، وإذا
سُقى لبناً فليقل: اللهُمَّ بارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنه ليس شىءٌ يُجْزِئُ
منَ الطعام والشرابِ إلاَّ اللبنُ". قال الترمذى: هذا حديث حسن.
فصل
وثبت فى "صحيح مسلم" أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان
يُنْبَذُ له أوَّل الليل، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك، والليلةَ التى تجىءُ،
والغَد، واللَّيلةَ الأُخرى،
والغَد إلى العصر، فإن بقى منه
شىءٌ سقاه الخادِمَ، أو أمر به فَصُبَّ.
وهذا النبيذ: هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه، وهو يدخل فى الغذاء والشراب، وله نفع
عظيم فى زيادة القوة، وحفظِ الصحة، ولم يكن يشربه بعدَ ثلاث خوفاً من تغيُّره إلى الإسكار.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملبس
وكان من أتم الهَدْى، وأنفعه للبدن، وأخفِّه عليه، وأيسره لُبساً وخَلعاً، وكان
أكثر لُبسه الأردية والأُزُر، وهى أخفُّ على البدن من غيرها، وكان يلبسُ القميص،
بل كان أحبَّ الثياب إليه.
وكان هَديُه فى لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن، فإنه لم يكن يُطيل أكمامه،
ويُوسِعُها، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا يُجاوز اليد، فتشق على لابسها،
وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه، فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين، فيؤذىَ الماشى
ويَؤُوده، ويجعله كالمقيَّد، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه، فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر
والبرد.
ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها، ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف
والآفات، كما يُشَاهَد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التى تقصرُ عن وقاية الرأس من
الحر والبرد ؛ بل وَسَطاً بين ذلك، وكان يُدخلها تحت حَنكه، وفى ذلك فوائدُ عديدة:
فإنها تقى العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها، ولا سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل،
والكرِّ والفرِّ، وكثير من
الناس اتخذ الكلاَليب عوضاً عن الحنك، ويا بُعدَ ما بينهما فى النفع والزينة، وأنت
إذا تأملت هذه اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها فى حفظ صحة البدن
وقوته، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن.
وكان يلبسُ الخِفاف فى السفر دائماً، أو أغلب أحواله لِحاجة الرِّجلين إلى ما
يقيهما من الحر والبرد، وفى الحَضَر أحياناً.
وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ، والحِبَرَة، وهى: البرود المحبَّرة.
ولم يكن مِن هَدْيه لُبس الأحمر، ولا الأسود، ولا المصبَّغ، ولا المصقول
وأما الحُلَّة الحمراء التى لبسها، فهى الرداءُ اليمانىُّ الذى فيه سوادٌ وحُمرة
وبياض، كالحُلَّةِ الخضراء، فقد لبس هذه وهذه، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، وتغليطُ مَن
زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر المسكن
لمَّا علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه على ظهرِ سيرٍ، وأن الدنيا
مرحلةُ مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة، لم يكن من
هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها، وتعليتها وزَخرفتها
وتوسِيعها، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد، وتسترُ عن العيون،
وتمنعُ من ولوج الدوابِّ، ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها، ولا تُعشش فيها الهوام
لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها،
وليست تحت الأرض فتؤذىَ
ساكنها، ولا فى غاية الارتفاع عليها، بل وسط، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها،
وأقلُّها حراً وبرداً، ولا تضيقُ عن ساكنها، فينحصِر، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا
فائدة، فتأوَى الهوامُّ فى خلوها، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها، بل
رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يُحبُّ الطيب، ولا يزال عنده، وريحه هو من أطيب
الرائحة، وعَرَقُه من أطيب الطيب، ولم يكن فى الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه، ولا
ريبَ أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن، وحفظِ صحته.
فصل: فى تدبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر النوم واليقظة
مَن تدبَّر نومه ويقظَته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدَه أعدلَ نوم،
وأنفعَه للبدن والأعضاء والقُوى، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل، ويستيقظ فى أول
النصف الثانى، فيقومُ ويَستاك، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له، فيأخذُ البدن
والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر،
وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر
المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعلُه على أكمل
الوجوه، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن، ذاكراً الله حتى
تغلبه عيناه، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ، ولا
متخذٍ للفُرش المرتفعة، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف، وكان يَضطجع على
الوِسادة، ويضع يده تحت خدِّه أحياناً.
ونحن نذكر فصلاً فى النوم،
والنافع منه والضار
فنقول: النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن
لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعى، وغيرُ طبيعى.
فالطبيعى: إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة
الإرادية، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى، واجتمعتْ الرطوباتُ
والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة فى الدماغ الذى هو مبدأ
هذه القُوَى، فيتخدَّرُ ويَسترخِى، وذلك النومُ الطبيعى.
وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى، فيكونُ لعَرض أو مرض، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على
الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما
يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه، فَيتخدَّرَ،
ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها، فيكون النوم.
وللنوم فائدتان جليلتان، إحداهما: سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب،
فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة، ويُزيل الإعياء والكَلال.
والثانية: هضم الغذاء، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى
باطن البدن، فتُعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار.
وأنفعُ النوم: أن ينامَ على الشِّق الأيمن، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة فى
المَعِدَة استقراراً حسناً، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً، ثم
يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على
الكَبِد، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً
عن المَعِدَة، فيكونُ النوم
على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ
بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصبُّ إليه المواد.
وأردأُ النومِ النومُ على الظهر، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم،
وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه، وفى "المسند" و"سنن ابن
ماجه"، عن أبى أُمامةَ قال: مرَّ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على رجُلٍ نائم فى المسجد منبطح على وجهه، فضرَبه برجله، وقال: " قُمْ أوِ
اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ".
قال "أبقراطٌ" فى كتاب "التَّقدِمة": وأما نومُ المريض على
بطنه من غير أن يكون عادتُه فى صحته جرتْ بذلك، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل، وعلى
ألمٍ فى نواحى البطن، قال الشُرَّاح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة
رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن.
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها، مريحٌ للقوة النفسانية،
مُكْثرٌ من جوهر حاملها، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح.
ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ، ويُفسد اللَّون، ويُورث
الطِّحال، ويُرخى العصبَ، ويُكسل، ويُضعف الشهوة، إلاَّ فى الصَّيفِ وقتَ
الهاجِرة، وأردؤه نومُ أول النهار، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر، ورأى عبد
الله بن عباس ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ، فقال
له: قم، أتنام فى الساعة التى
تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلقٌ، وحُرق، وحُمق. فالخُلق: نومة الهاجرة، وهى خُلق
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والحُرق: نومة الضحى، تُشغل عن أمر
الدنيا والآخرة. والحُمق: نومة العصر. قال بعض السَّلَف: مَن نام بعد العصر،
فاختُلِسَ عَقلُه، فلا يلومنَّ إلا نفسه. وقال الشاعر:
أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ... خَبَالاً وَنَوْمَاتُ
الْعُصَيْرِ جُنُونُ
ونوم الصُّبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو وقتُ
قسمة الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه
البدن، وإفسادِه للفضلات التى ينبغى تحليلُها بالرياضة، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً
وضَعفاً. وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشىء، فذلك
الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء.
والنومُ فى الشمس يُثير الداءَ الدَّفين، ونومُ الإنسان بعضُه فى الشمس، وبعضُه فى
الظل ردىء، وقد روى أبو داود فى "سننه" من حديث أبى هريرة، قال: قال
رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان أحدكم فى الشَّمْسِ
فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ، فصار بَعْضُهُ فى الشَّمْسِ وبَعْضُهُ فى الظِّل،
فَلْيَقُمْ".
وفى "سنن ابن ماجه"
وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب، "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس"، وهذا
تنبيه على منع النوم بينهما.
وفى "الصحيحين" عن البَرَاء بن عازِبٍ، أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ
للصَّلاة، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل: اللهُمَّ إنِّى أسْلمتُ
نَفْسِى إليكَ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ إليكَ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ، وألجأْتُ ظَهْرى
إليكَ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ، آمَنتُ
بكتابِكَ الذى أنْزَلْتَ، ونبيِّكَ الذى أرْسلتَ. واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ، فإن
مِتَّ مِن ليلتِك، مِتَّ على الفِطْرة".
وفى "صحيح البخارى" عن عائشة أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، "كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُنَّتَها اضْطَّجَعَ على
شِقِّه الأيمنِ".
وقد قيل: إنَّ الحكمة فى النوم على الجانب الأيمن، أن لا يستغرقَ النائم فى نومه،
لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن، طلب القلبُ
مُستقَرَّه من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله فى نومه،
بخلاف قراره فى النوم على اليسار، فإنه مُستقَرُّه، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة،
فيستغرق الإنسان فى نومه، ويَستثقِل، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه.
ولما كان النائمُ بمنزلة
الميت، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحىِّ الذى لا يموت، وأهلُ الجنَّة لا
ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من
الآفات، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى
لذلك وحدَه. علَّم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النائمَ أن يقولَ
كلماتِ التفويضِ والالتجاء، والرغبة والرهبة، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له،
وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ، وينامَ عليه،
ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه، فإنه ربما توفاه الله فى منامه، فإذا كان
الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة، فتضمَّن هذا الهَدْىُ فى المنام مصالحَ القلب
والبدن والروح فى النوم واليقظة، والدنيا والآخرة، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن
نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله: "أسلَمتُ نفْسى إليكَ" ؛ أى: جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ
العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه.
وتوجيهُ وجهه إليه: يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه، وإخلاص القصد والإرادة له،
وإقراره بالخضوع والذل والانقياد، قال تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}. وذكر الوجهَ إذ هو أشرفُ ما فى الإنسان،
ومَجْمَعُ الحواس، وأيضاً ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من قوله:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ
الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وتفويض الأمر إليه: ردُّهُ إلى الله سبحانه، وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه،
والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه، والتفويضُ
من أشرف مقامات العبودية، ولا
عِلَّة فيه، وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمى خلاف ذلك.
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه: يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه، والثقة به، والسكونَ
إليه، والتوكلَ عليه، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ، لم يخف السقوطَ.
ولمَّا كان للقلب قوَّتان: قوة الطلب، وهى الرغبة، وقوة الهرب، وهى الرهبة، وكان
العبد طالباً لمصالحه، هارباً من مضارِّه، جمع الأمرين فى هذا التفويض والتوجُّه،
فقال: "رغبةً ورهبةً إليك".
ثم أثنى على ربه، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه، ولا منجا له منه غيره، فهو الذى يلجأ
إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه، كما فى الحديث الآخر: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن
سَخَطِكَ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ، وأعوذُ بِكَ مِنْكَ" ، فهو سبحانه
الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته، فمنه البلاءُ، ومنه
الإعانةُ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه، وإليه الالتجاءُ فى النجاة، فهو الذى يُلجأ
إليه فى أن يُنجىَ مما منه، ويُستعاذُ به مما منه، فهو ربُّ كل شىء، ولا يكون شىء
إلا بمشيئته: {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[الأنعام:
17]، {قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا
أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}[الأحزاب: 17]
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذى هو مَلاكُ النجاة، والفوز
فى الدنيا والآخرة، فهذا هَدْيُه فى نومه.
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَ ... انَ شَاهِدٌ فِى هَدْيِهِ يَنْطِقُ
فصل
وأمَّا هَدْيُه فى يقظته، فكان يَستيقظ إذا صاح الصَّارخُ وهو الدِّيك، فيحمَدُ
اللهَ تعالى ويُكبِّره، ويُهلِّله ويدعوه، ثم يَستاك، ثم يقوم إلى وضُوئه، ثم
يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه، مُناجياً له بكلامه، مُثنياً عليه، راجياً له،
راغباً راهباً، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن، والرُّوح والقُوَى، ولنعيم الدنيا
والآخرة فوقَ هذا.
فصل
وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون، وهو الرياضة، فنذكرُ منها فصلاً يُعلم منه مطابقةُ
هَدْيِه فى ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها، فنقول:
من المعلوم افتقارُ البدن فى بقائه إلى الغذاء والشراب، ولا يَصير الغذاءُ بجملته
جزءاًمن البدن، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما، إذا كثُرتْ على ممر
الزمان اجتمع منها شىء له كميةٌ وكيفية، فيضُرُّ بكميته بأن يسد ويُثقلَ البدن،
ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية، لأن أكثرها سُمِيَّة،
ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به، ويضر بكيفيته، بأن يسخن بنفسه، أو
بالعَفِن، أو يبردُ بنفسه، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه.
وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ، والحركةُ أقوى الأسباب فى
منع تولُّدِها، فإنها تُسخِّن الأعضاء، وتُسيل فضلاتِها، فلا تجتمعُ على طول
الزمان، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط، وتجعلُه قابلاً للغذاء، وتُصلِّب
المفاصِل، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية وأكثر الأمراض
المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها فى وقته، وكان باقى التدبير صواباً.
ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار
الغذاء، وكمال الهضم، والرياضةُ المعتدلة هى التى تحمرُّ فيها البَشْرة، وتربُو
ويَتَنَدَّى بها البدنُ، وأما التى يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ، وأىُّ عضو
كثرتْ رياضتُه قَوِىَ، وخصوصاً على نوع تلك الرياضة، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها،
فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه
المفكِّرة، ولكل عضو رياضةٌ تخصُّه، فللصدرِ القراءةُ، فليبتدئ فيها من الخِفية
إلى الجهر بتدريج، ورياضةُ السمع بسمعِ الأصوات، والكلام بالتدريج، فينتقل من
الأخف إلى الأثقل، وكذلك رياضةُ اللِّسان فى الكلام، وكذلك رياضةُ البصر، وكذلك
رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً.
وأمَّا ركوبُ الخيل، ورمىُ النُّشَّاب، والصراعُ، والمسابقةُ على الأقدام، فرياضةٌ
للبدن كلِّه، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ، كالجُذام والاستسقاء والقولنج.
ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب، والفرح والسرور، والصبر والثبات، والإقدام
والسماحة، وفِعْل الخير، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ، ومن أعظم رياضتها:
الصبرُ والحب، والشجاعة والإحسان، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصيرَ
لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً، ومَلَكاتٍ ثابتةً.
وأنت إذا تأمَّلت هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذلك، وجدتَه أكملَ
هَدْىٍ حافظٍ للصحة والقُوَى، ونافعٍ فى المعاش والمعاد.
ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن، وإذابةِ أخلاطه وفضلاته،
ما هو من أنفع شىء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان، وسعادةِ الدنيا والآخرة،
وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة،
ومن أمنع الأُمور لكثير من
الأمراض المزمنة، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب، كما فى "الصحيحين"
عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "يَعقِدُ الشَّيْطَانُ
على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ:
عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ، فارقُدْ، فإنْ هو استيقَظ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ
عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ ثانيةٌ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ
عُقْدُهُ كُلُّهَا، فأصبحَ نشيطاً طَيِّبَ النفْسِ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ
النَّفْسِ كَسْلانَ".
وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ
الفطرة.
وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هى من أعظم أسباب القوة، وحفظ الصحة،
وصلابةِ القلب والبدن، ودفعِ فضلاتهما، وزوالِ الهم والغم والحزن، فأمر إنَّما
يعرفه مَن له منه نصيبٌ، وكذلك الحجُّ، وفعلُ المناسك، وكذلك المسابقةُ على الخيل،
وبالنِّصال، والمشىُ فى الحوائج، وإلى الإخوان، وقضاءُ حقوقهم، وعيادة مرضاهم،
وتشييعُ جنائزهم، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات، وحركةُ الوضوء
والاغتسال، وغير ذلك.
وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة، ودفع الفضلات، وأما ما شُرع
له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة، ودفع شرورهما، فأمرٌ وراء ذلك.
فعلمتَ أنَّ هَدْيَه فوق كل هَدْىٍ فى طبِّ الأبدان والقلوب، وحفظِ صحتها، ودفع
أسقامهما، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده.. وبالله التوفيق.
فصل
[فى الجِماع والباه وهَدْى النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه]
وأما الجِماعُ والباهُ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْىٍ، يحفَظ به الصحة، وتتمُّ به
اللَّذةُ وسرور النفس، ويحصل به مقاصدُه التى وُضع لأجلها، فإن الجِمَاع وُضِعَ فى
الأصل لثلاثة أُمور هى مقاصدُه الأصلية:
أحدها: حفظُ النسل، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة التى قدَّر الله بروزَها إلى
هذا العالَم.
الثانى: إخراجُ الماء الذى يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن.
الثالث: قضاءُ الوَطر، ونيلُ اللَّذة، والتمتعُ بالنعمة، وهذه وحدَها هى الفائدةُ
التى فى الجنَّة، إذ لا تناسُلَ هناك، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ.
وفضلاءُ الأطباء: يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسباب حفظ الصحة. قال
"جالينوسُ": الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ، ومِزاجُه
حار رطب، لأن كونه من الدم الصافى الذى تغتذى به الأعضاءُ الأصلية، وإذا ثبت فضلُ
المَنِىِّ، فاعلم أنه لا ينبغى إخراجُه إلا فى طلب النسل، أو إخراجُ المحتقن منه،
فإنه إذا دام احتقانُه، أحدث أمراضاً رديئة، منها: الوسواسُ والجنون، والصَّرْع،
وغيرُ ذلك، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيراً، فإنه إذا طال احتباسُه،
فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضاً رديئة كما ذكرنا، ولذلك تدفعُه
الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع.
وقال بعض السَّلَف: ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً: أن لا يدعَ المشىَ، فإن
احتاج إليه يوماً قدَر عليه، وينبغى أن لا يدَع الأكل، فإن أمعاءه تضيق، وينبغى أن
لا يدَع الجِمَاعَ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ، ذهب ماؤها.
وقال محمد بن زكريا: مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة،
ضعفتْ قُوى أعصابه، وانسدَّت
مجاريها، وتقلَّص ذَكرُه. قال: ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبرُدَتْ
أبدانُهُم، وعَسُرَتْ حركاتُهُم، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب، وقَلَّتْ شهواتُهُم
وهضمُهُم.. انتهى.
ومن منافعه: غضُّ البصر، وكفُّ النفس، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام، وتحصيلُ
ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه فى دنياه وأُخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعاهدُه ويُحبُه، ويقول: "حُبِّبَ إلىَّ مِن
دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ والطِّيبُ". وفى كتاب "الزهد" للإمام أحمد
فى هذا الحديث زيادةٌ لطيفة، وهى: "أصبرُ عن الطعام والشراب، ولا أصبرُ
عنهنَّ".
وحثَّ على التزويج أُمَّته، فقال: "تَزَوَّجوا، فإنِّى مُكاثرٌ بِكُمُ
الأُمَمَ".
وقال ابن عباس: خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً.
وقال: "إنِّى أتزوَّجُ النساءَ، وأنامُ وأقومُ، وأَصُومُ وأُفطِرُ، فمن
رَغِبَ عن سُنَّتى فليس منِّى".
وقال: "يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ، فإنه
أغضُّ للبصرِ، وأحْفَظُ
للْفِرْج، ومَن لم يستطعْ، فعليه بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ"
ولما تزوج جابر ثيِّباً قال له: "هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُها
وتُلاعِبُكَ".
وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث أنس بن مالك قال، قال رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهراً
مُطَهَّراً، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ".وفى "سننه" أيضاً من حديث
ابن عباس يرفعه، قال: "لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ".
وفى "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا
المرأةُ الصَّالِحَةُ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان،
وذواتِ الدين، وفى "سنن النسائى" عن أبى هريرةَ قال: سُئل رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أىُّ
النساءِ خير ؟ قال: "التى
تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ فى
نفسِها ومالِهِ ".
وفى "الصحيحين" عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قال: "تُنكَحُ المرأةُ لمالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِينِهَا،
فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين، تَرِبَتْ يَدَاكَ".
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود، وَيَكرهُ المرأة التى لا تلد، كما فى "سنن
أبى داودَ" عن مَعْقِل بن يَسار، أنَّ رجلاً جاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ، وإنَّها لاَ
تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُها ؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانيةَ، فَنَهَاه، ثم
أتاه الثالثةَ، فقال: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإنِّى مُكَاثِرٌ
بِكُمْ".
وفى "الترمذى" عنه مرفوعاً: "أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ:
النِّكاحُ، والسِّواكُ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ". رُوى فى
"الجامع" بالنون ووالياء، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول: الصواب:
أنه الخِتَان، وسقطت النونُ من الحاشية، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى
الترمذى.
وممَّا ينبغى تقديُمُه على
الجِماع ملاعبةُ المرأة، وتقبيلُها، ومصُّ لِسانها، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُلاعبُ أهله، ويُقَبلُها
وروى أبو داود فى "سننه": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"كان يُقبِّلُ عائشةَ، ويمصُّ لِسَانَها".
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال: "نَهَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد،
وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن، فروى مسلم فى "صحيحه" عن أنس أنَّ
النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد.
وروى أبو داود فى "سننه" عن أبي رافع مولَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على
نسائه فى ليلة، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلاً، فقلتُ: يا رسول الله ؛
لو اغتسلتَ غُسلاً واحداً، فقال: "هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ".
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن، كما روى
مسلم فى "صحيحه" من حديث أبى سعيد الخدرىِّ، قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ، ثم أرادَ أن يعودَ
فلْيَتَوَضأ".
وفى الغُسْلِ والوضوء بعد
الوطء من النشاطِ، وطيبِ النفس، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع، وكمالِ الطُهْر
والنظافة، واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع، وحصولِ
النظافة التى يُحبها الله، ويُبغض خلافها ما هو مِن أحسن التدبير فى الجِماع، وحفظ
الصحة والقُوَى فيه.
فصل
وأنفعُ الجِماع: ما حصلَ بعد الهضم، وعند اعتدال البدن فى حرِّه وبرده، ويُبوسته
ورطوبته، وخَلائه وامتلائه. وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند
خُلوِّه، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة، وعند حرارته أقلُّ
منه عند برودته، وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ، وحصَلَ الانتشارُ
التام الذى ليس عن تكلُّفٍ، ولا فكرٍ فى صورة، ولا نظرٍ متتابع.
ولا ينبغى أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليُبادْر إليه
إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ، واشتد شَبَقُهُ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ
التى لا يُوطأُ مثلُها، والتى لا شهوة لها، والمريضةِ، والقبيحةِ المنظرِ، والبَغيضة،
فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية، وغلط مَن قال من الأطباء:
إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة، وهذا من القياس الفاسد، حتى
ربما حذَّر منه بعضُهم، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ، ولِما اتفقتْ عليه
الطبيعةُ والشريعة.
وفى جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها، وامتلاءِ
قلبها من محبته، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره، ما ليس للثَيِّب. وقد قال
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابر: "هلاَّ تَزوَّجتَ بِكراً
"، وقد جعل الله سبحانه
من كمالِ نساء أهل الجنَّة من
الحُور العين، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له، من أهل
الجنَّة. وقالت عائشةُ للنبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيْتَ لو
مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها، ففى أيِّهما كنتَ
تُرتِعُ بعيرَك ؟ قال: "فى التى لم يُرْتَعْ فيها". تريد أنه لم يأخذ
بكراً غيرَها.
وجِماعُ المرأة المحبوبة فى النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه
للمَنِىِّ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه،
وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعاً، فإنه مضرٌ جداً، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر
منه.
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ، مُستفرِشاً لها بعدَ المُلاعبة
والقُبلة، وبهذا سُميت المرأة فِراشاً، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "الولَدُ لِلفِراش"، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على
المرأة، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]،
وكما قيل:
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَاً يُقِلُّنِى ... وَعِنْدَ فَرَاغِى خَادِمٌ
يَتَمَلَّقُ
وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]،
وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال، فإن فِراش الرجل لباسٌ له، وكذلك لِحَافُ
المرأة لباسٌ لها، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية، وبه يَحسن موقعُ
استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر.
وفيه وجه آخرُ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً، فتكونُ عليه كاللِّباس،
قال الشاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها ... تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا
وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ، ويُجامِعَها على ظهره، وهو خلافُ الشكل
الطبيعى الذى طبع الله عليه الرجل والمرأة، بل نوعَ الذكر والأُنثى، وفيه من المفاسد،
أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه، فربما بقى فى العضو منه فيتعفنُ ويفسد،
فيضر.
وأيضاً: فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج.
وأيضاً: فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه،
وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد.
وأيضاً: فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعاً وشرعاً، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى
الطبع والشرع.
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ، ويقولون: هو أيسرُ
للمرأة.
وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن، فعابَتِ اليهودُ عليهم
ذلك، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى "الصحيحين" عن جابر، قال: كانت اليهود تقولُ: إذا أتى الرجلُ
امرأتَه من دُبُرِها فى قُبُلِها، كان الولدُ أَحوَلَ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى لفظ لمسلم: "إن شاء مُجَبِّيَة، وإن شاء غير مُجَيِّبَة، غَيْرَ أنَّ ذلك
فى صِمِامٍ واحدٍ
و"المُجَبِّية":
المُنْكَبَّة على وجهها، و"الصمام الواحد": الفَرْج، وهو موضع الحرْثِ
والولد.
وأما الدُّبرُ: فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبىٍّ من الأنبياء، ومَن نسب إلى بعض
السَّلَف إباحة وطء الزوجة فى دُبُرها، فقد غلط عليه.
وفى "سنن أبى داود" عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعونٌ مَن أتى المرأةَ فى دُبُرِها".
وفى لفظ لأحمد وابن ماجه: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه فى
دُبُرِها".
وفى لفظ للترمذى وأحمد: " مَن أتى حائضاً، أو امرأةً فى دُبُرِها، أوْ كاهناً
فَصَدَّقَهُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ".
وفى لفظ للبيهقى: "مَنْ أتى شيئاً مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ فى الأدبار
فقد كفر".
وفى "مصنَّف وكِيع": حدثنى زمْعة بن صالح، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن
عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من
الحقِّ، لا تأتُوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ"، وقال مَرَّة: "فى
أدبارِهِنَّ".
وفى "الترمذى": عن
على بن طَلْق، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا
تأتوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ".
وفى "الكامل" لابن عَدِى: من حديثه عن المحامِلى، عن سعيد بن يحيى
الأموىِّ، قال: حدَّثنا محمد بن حمزَةَ، عن زيد بن رَفيع، عن أبى عُبيدة، عن عبد
الله بن مسعود يرفعه: "لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعْجَازِهِنَّ".
وروينا فى حديث الحسن بن على الجوهرىِّ، عن أبى ذرٍّ مرفوعاً: "مَنْ أتى
الرِّجَال والنِّسَاءَ فى أدْبَارِهنَّ، فقد كَفَرَ".
وروى إسماعيل بن عيَّاش، عن سُهيل بن أبى صالح، عن محمد ابن المُنْكَدِر، عن جابر
يرفعه: "اسْتَحْيُوا مِنَ الله، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ، لا
تأْتُوا النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
ورواه الدارقُطنِىُّ من هذه الطريق، ولفظه: "إنَّ الله لا يَسْتَحيى مِنَ
الحق، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ".
وقال البغوىُّ: حدثنا هُدْبَةُ، حدثنا همَّام، قال: سُئِل قتادة عن الذى يأتى
امرأته فى دُبُرِها ؛ فقال: حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، أنَّ رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تلك اللُّوطِيَّةُ
الصُّغْرى".
وقال أحمد فى
"مسنده": حدَّثنا عبد الرحمن، قال: حدَّثنا همَّام، أُخبِرنا عن
قتادَةَ، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، فذكره.
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس: أنزلت هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَّكُمْ} [البقرة: 223] فى أُناسٍ من الأنصار، أتَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه، فقال: "ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان فى
الفَرْج".
وفى "المسند" أيضاً: عن ابن عباس، قال: جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: هلكتُ. فقال: "وما
الذى أهلكَكَ" ؟ قال: حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ، قال: فلم يَرُدَّ عليه
شيئاً، فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَقْبِلْ وأَدْبِرْ، واتَّقِ الحَيْضَةَ
والدُّبُرَ".
وفى "الترمذى": عن ابن عباس مرفوعاً: "لا يَنْظُرُ اللهُ إلى
رَجُلٍ أتى رَجُلاً أو امرأةً فى الدُّبُرِ".
وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا، عن البَراء
بن عازِب يرفعه: "كَفَرَ
باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة: القاتِلُ، والسَّاحِرُ، والدُّيُّوثُ، وناكحُ
المرأةِ فى دُبُرِها، ومانِعُ الزكاةِ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ،
وشاربُ الخَمْرِ، والسَّاعِى فى الفِتَنِ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ، ومَن
نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه".
وقال عبد الله بن وهب: حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ، عن مِشرَح بن هاعانَ، عن
عقبةَ بن عامر، أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"مَلْعُونٌ مَن يأتى النِّسَاءَ فى محاشِّهِنَّ" ؛ يعنى: أدْبَارِهِنَّ.
وفى "مسند الحارث بن أبى أُسامة" من حديث أبى هريرة، وابن عباس قالا:
خطبنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفاته، وهى آخِرُ خُطبةٍ
خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ، وعظنا فيها وقال : "مَن نَكَحَ
امرأَةً فى دُبُرِها أو رجلاً أو صَبِيَّاً، حُشِرَ يَوْمَ القيامة، وريحُهُ أنْتَنُ
مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ،
ولا يَقْبَلُ منه صَرْفاً ولا عدلاً، ويُدْخَلُ فى تابوتٍ من نارٍ، ويُشَدُّ عليه
مَساميرُ من نارٍ"، قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه، "إنَّ الله لا
يَسْتَحي مِنَ الحَق، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ".
وقال الشافعي: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبد الله بن علي بن
السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، عن خزيمة
بن ثابت، أن رجلا سأل النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال:
"حلال"، فلما ولى، دعاه فقال: "كيف قُلتَ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ،
أو في أي الخَرْزَتَينِ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا ؟
فَنَعَم. أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ، فلا، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق،
لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ".
قال الربيع: فقيل للشافعي: فما تقول ؟ فقال: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد
أثنى على الأنصاري خيراً، يعني عمرو بن الجلاح، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته، فلست
أرخص فيه، بل انهي عنه.
قلت: ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا
أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه
على السامع "من" ب "في" ولم يظن بينهما فرقاً، فهذا الذي
أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه.
وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] قال
مجاهد: سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
الله} [البقرة: 222]، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض. وقال
علي بن أبي طلحة عنه يقول: في الفرج، ولا تعدُه إلى غيره.
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين: أحدهما: أنه أباح إتيانها في
الحرث، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من
قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] الآية قال: {فَأْتُواْ
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ
من الآية أيضا، لأنه قال: أنى
شئتم، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف. قال ابن عباس: فأتوا حرثكم، يعني:
الفرج.
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظنُّ بالحشِّ الذي
هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة
جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها، ولا يقضي
وطَرَها، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج،
فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم،
لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ فى الدُّبُر لا
يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى.
وأيضاً: يضر من وجه آخَر، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً: فإنه محل القذر والنَّجْوِ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه، ويُلابسه.
وأيضاً: فإنه يضرُّ بالمرأة جداً، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع، مُنافر لها
غايةَ المنافرة.
وأيضاً: فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً: فإنه يُسَوِّدُ الوجه، ويُظلم الصدر، ويَطمِسُ نور القلب،
ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه
كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ولا
بُدَّ.
وأيضاً: فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح، إلا أن
يشاءَ الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً: فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضِدَّها. كما يُذهب بالمَوَدَّة
بينهما، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً.
وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم، وحُلول النِقَم، فإنه يوجب اللَّعنةَ
والمقتَ من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا،
وأىُّ شر يأمنُه، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه،
ولم ينظر إليه.
وأيضاً: فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً، والحياءُ هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلبُ،
استحسَن القبيح، واستقبحَ الحسن، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه.
وأيضاً: فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع
لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نُكِسَ الطبعُ
انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات، ويفسد
حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً: فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه.
وأيضاً: فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً: فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء، وازدراءِ الناس له،
واحتقارِهم إيَّاه،
واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا
والآخرة فى هَدْيِه واتباعِ ما جاء به، وهلاكُ الدنيا والآخرة فى مخالفة هَدْيِه
وما جاء به.
فصل
والجِماع الضار: نوعان ؛ ضارٌ شرعاً، وضارٌ طبعاً.
فالضار شرعاً: المحرَّم، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض. والتحريمُ العارض منه
أخفُّ من اللازم، كتحريم الإحرام، والصيام، والاعتكاف، وتحريم المُظاهِرِ منها قبل
التكفير، وتحريمِ وطء الحائض... ونحو ذلك، ولهذا لا حدَّ فى هذا الجِمَاع.
وأما اللازمُ: فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة، كذواتِ المَحارم، فهذا من
أضر الجِمَاع، وهو يُوجب القتل حداً عند طائفة من العلماء، كأحمد ابن حنبلٍ رحمه
الله وغيرِه، وفيه حديث مرفوع ثابت.
والثانى: ما يمكن أن يكون حلالاً، كالأجنبية، فإن كانت ذاتَ
زوج، ففى وطئها حَقَّان: حقٌّ
للهِ، وحقٌّ للزوج. فإن كانت مُكرَهة، ففيه ثلاثةُ حقوق، وإن كان لها أهل وأقاربُ
يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق، فإن كانت ذات مَحْرَم منه، صار فيه خمسةُ
حقوق. فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته فى التحريم.
وأما الضار طبعاً، فنوعان أيضاً: نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدَّم، ونوعٌ ضار بكميته
كالإكثار منه، فإنه يُسقط القُوَّة، ويُضر بالعصب، ويُحدث الرِّعشةَ، والفالج،
والتشنج، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى، ويُطفئُ الحرارةَ الغريزية، ويُوسع
المجارىَ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.
وأنفعُ أوقاته، ما كان بعد انهضام الغذاء فى المَعِدَة وفى زمانٍ معتدلٍ لا على
جوع، فإنه يُضعف الحار الغريزى، ولا على شبع، فإنه يُوجب أمراضاً شديدةً، ولا على
تعب، ولا إثْرَ حمَّام، ولا استفراغٍ، ولا انفعالٍ نفسانى كالغمِّ والهمِّ والحزنِ
وشدةِ الفرح.
وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ الطعام، ثم يغتسل أو يتوضأ،
وينامُ عليه، وينامُ عقبه، فَتَراجَعُ إليه قواه، وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه،
فإنها مضرة جداً.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب، مخالفٌ لسائر الأمراض فى ذاته وأسبابه وعِلاجه، وإذا
تمكَّنَ واستحكم، عزَّ على الأطباء دواؤه، وأعيى العليلَ داؤُه، وإنَّما حكاه
اللهُ سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس: من النِّسَاء،
وعشاقِ الصبيان المُرْدان،
فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوسفَ، وحكاه عن قوم لوط، فقال تعالى إخباراً عنهم
لمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ
إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:
68-73].
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقَّ
قدره أنه ابتُلِىَ به فى شأن زينب بنت جَحْش، وأنه رآها فقال: "سُبحانَ
مُقَلِّبِ القُلُوبِ". وأخذتْ بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ:
"أمْسِكْها" حتى أنزل الله عليه: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ
وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ
أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب: 37] ، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك فى شأن العشق، وصنَّف
بعضهم كتاباً فى العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة، وهذا من جهلِ هذا
القائل بالقرآن وبالرُّسُل، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه، ونسبتِه رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما برَّأَه الله منه، فإنَّ زينبَ بنت
جحش كانت تحتَ
زيدِ بن حارثةَ، وكان رسولُ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنَّاه، وكان يُدعى "زيد بن
محمد"، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه، فشاور رسولَ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى طلاقها، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله"، وأخفى فى
نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة
ابنه، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه، فهذا هو الذى أخفاه فى نفسه، وهذه هى الخشية من
الناس التى وقعت له، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا
يُعاتبه فيها، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ
اللهَ أحق أن يخشاه، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس، ثم أخبره أنه
سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به فى ذلك،
ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه، ولهذا قال فى آية
التحريم: { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[النساء:23]،
وقال فى هذه السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن
رِّجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40]، وقال فى أولها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]، فتأمَّلْ هذا
الذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودَفْع طعنِ الطاعنين
عنه، وبالله التوفيق.
نعم.. كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ نساءه، وكان
أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه
نهايةَ الحب، بل صح أنه قال: "لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً
لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً"، وفى لفظ: "وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ
الرَّحْمَن".
فصل
وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة الله تعالى، المُعْرِضةُ
عنه، المتعوِّضةُ بغيره عنه، فإذا امتلأَ القلبُ من محبة الله والشوق إلى لقائه،
دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور، ولهذا قال تعالى فى حقِّ يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:
24]، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء
التى هى ثمرتُه ونتيجتُه، فصرفُ المسبب صرفٌ لسببه، ولهذا قال بعضُ السَّلَف:
العشقُ حركة قلب فارغ، يعنى فارغاً مما سوى معشوقه. قال تعالى: { وَأَصْبَحَ
فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً}[القصص: 11]، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أى: فارغاً
من كل شىء إلا من موسى لفرطِ محبتها له، وتعلُّقِ قلبها به
والعشق مُرَكَّب من أمرين: استحسانٍ للمعشوق، وطمع فى الوصول إليه، فمتى انتفى
أحدهُما انتفى العشقُ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير من العقلاء، وتكلم فيها
بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب.
فنقول: قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ فى خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف
بين الأشباه، وانجذابِ الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ، وهُروبه من مخالفه،
ونُفرته عنه بالطبع، فسِرُّ التمازج والاتصال فى العالم العُلوى والسُّفلى، إنما
هو التناسبُ والتشاكلُ، والتوافقُ، وسِرُّ التباين والانفصال، إنما هو بعدم
التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمِثْلُ إلى مثلِه مائلٌ، وإليه
صائرٌ، والضِّدُّ عن ضده هارب، وعنه نافرٌ، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِى
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى
امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه، فدل
على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة، ولا الموافقة فى القصد والإرادة، ولا فى الخلق
والهُدَى، وإن كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة.
وقد ثبت فى "الصحيح" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال : "الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف، وما
تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ". وفى "مسند الإمام أحمد" وغيره فى سبب هذا
الحديث: أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ، فجاءت إلى المدينة، فنزلتْ على
امرأة تُضِحكُ الناسَ، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الأرواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ"... الحديثَ.
وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشىء حُكْمُ مثله، فلا تُفَرِّقُ شريعته
بين متماثلين أبداً، ولا تجمعُ بين مضادَّين، ومَن ظنَّ خِلاف ذلك، فإمَّا لِقلَّة
علمه بالشريعة، وإما لِتقصيره فى معرفة التماثُل والاختلاف، وإمَّا لنسبته إلى
شريعته ما لم يُنزلْ به سلطاناً، بل يكونُ من آراء الرجال، فبحكمتِه وعدلِه ظهر
خَلقُه وشرعُه، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع، وهو التسويةُ بين
المتمائلَيْن، والتفريق بين المختلفَيْن.
وهذا كما أنه ثابت فى الدنيا،
فهو كذلك يومَ القيامة. قال تعالى: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى
صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات: 22].
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد رحمه الله: أزواجهم أشباهُهم
ونُظراؤهم.
وقال تعالى: {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير: 7] أى: قُرِن كلُّ صاحب عملٍ
بشكله ونظيره، فقُرِن بين المتحابِّين فى الله فى الجَنَّة، وقُرِن بين
المتحابِّين فى طاعة الشيطان فى الجحيم، فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى، وفى
"مستدرك الحاكم" وغيره عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا يُحِبُّ المَرءُ قَوْماً إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم".
والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلُّها: المحبةُ فى الله ولله ؛ وهى تستلزِمُ
محبةَ ما أحبَّ اللهُ، وتستلزِمُ محبةَ الله ورسوله.
ومنها: محبة الاتفاق فى طريقةٍ، أو دين، أو مذهب، أو نِحْلة، أو قرابة، أو صناعة،
أو مرادٍ ما.
ومنها: محبةٌ لنَيْل غرض من المحبوب، إمَّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه
وإرشاده، أو قضاء وطر منه، وهذه هى المحبة العَرَضية التى تزول بزوال
مُوجِبها، فإنَّ مَن وَدَّك
لأمر، ولَّى عنك عند انقضائه.
وأمَّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التى بين المحب والمحبوب، فمحبةٌ لازمة لا تزولُ
إلا لعارض يُزيلها، ومحبةُ العشق مِن هذا النوع، فإنها استحسانٌ روحانى، وامتزاج
نفسانى، ولا يَعرِض فى شىء من أنواع المحبةِ من الوَسْواس والنُّحول، وشَغْلِ
البال، والتلفِ ما يعرضُ مِن العشق.
فإن قيل: فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من الاتصال والتناسب الروحانى، فما بالُه
لا يكون دائماً مِنَ الطرَفين، بل تجدُه كثيراً من طرف العاشق وحده، فلو كان سببُه
الاتصالَ النفسى والامتزاجَ الروحانى، لكانت المحبةُ مشتركة بينهما.
فالجواب: أنَّ السبب قد يتخلَّفُ عنه مسبِّبه لفوات شرط، أو لوجود مانع، وتخلُّف
المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب:
الأول: عِلَّةٌ فى المحبة، وأنها محبة عَرَضية لا ذاتية، ولا يجب الاشتراكُ فى
المحبة العَرَضية، بل قد يلزمها نُفرةٌ من المحبوب.
الثانى: مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له، إما فى خُلُقه، أو خَلْقِهِ أو
هَدْيه أو فعله، أو هيئته أو غير ذلك.
الثالث: مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمحبِ فى محبته، ولولا ذلك المانعُ،
لقام به من المحبة لمحبه مثلَ ما قام بالآخر، فإذا انتفتْ هذه الموانعُ، وكانت
المحبة ذاتيةً، فلا يكون قَطُّ إلا من الجانبين، ولولا مانعُ الكِبْر والحسد،
والرياسة والمعاداة فى الكفار، لكانت الرُّسُلُ أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم
وأموالهم، ولما زال هذا المانعُ من قلوب أتباعهم، كانت محبتُهم لهم فوقَ محبة
الأنفس والأهل والمال.
فصل
والمقصود: أنَّ العشق لما كان مرضاً مِن الأمراض، كان قابلاً للعلاج، وله أنواع
مِن العِلاج، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعاً وقدْراً، فهو علاجه،
كما ثبت فى
"الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضى الله عنه، قال: قال رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا معشر الشَّبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباءةَ
فلْيتزوَّج، ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم، فإنَّه له وِجَاءٌ". فدَل
المحبَّ على علاجين: أصلىٍّ، وبدلىٍّ. وأمره بالأصلى، وهو العلاج الذى وُضع لهذا
الداء، فلا ينبغى العدولُ عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلاً.
وروى ابن ماجه فى "سننه" عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لَمْ نَرَ للمُتحابَّيْنِ مِثْلَ
النِّكاح". وهذا هو المعنى الذى أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرِهن
وإمائهن عند الحاجة بقوله: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ
الإنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء: 28] فذكرُ تخفيفِه فى هذا الموضع، وإخبارُه عن ضعف
الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة، وأنه سبحانه خفَّف عنه أمرها بما
أباحه له من أطايب النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وأباح له ما شاء مما ملكتْ
يمينُه، ثم أباح له أن يتزوَّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجاً لهذه الشهوة،
وتخفيفاً عن هذا الخُلق الضعيف، ورحمةً به.
فصل
وإن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْراً أو شرعاً، أو هو ممتنع عليهِ من
الجهتين، وهو الداء العُضال، فمِن علاجه، إشعارُ نفسه اليأسَ منه، فإنَّ النفسَ
متى يئستْ من الشىء، استراحت منه، ولم تلتفت إليه، فإن لم يَزلْ مرضُ العشق مع
اليأس، فقد انحرف الطبعُ انحرافاً شديداً، فينتقل إلى عِلاج آخرَ، وهو علاجُ عقله
بأن يعلم بأنَّ تعلُّق القلب بما لا مطمع فى حصوله نوعٌ من الجنون، وصاحبه بمنزلة
مَن يعشق الشمس، وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدَّوَرانِ معها فى فلكها، وهذا
معدودٌ عند جميع العقلاء فى زُمرة المجانين.
وإن كان الوِصال متعذراً شرعاً لا قدراً، فعِلاجُه بأن يُنزله منزلة المتعذر
قدراً، إذ ما لم يأذن فيه الله، فعِلاجُ العبد ونجاتُه موقوف على اجتنابه،
فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع لا سبيلَ له إليه، وأنه بمنزلة سائر المحالات، فإن
لم تُجبْه النَّفْسُ الأمَّارة، فليتركْه لأحد أمرين: إما خشية، وإما فواتِ محبوب
هو أحبُّ إليه، وأنفع له، وخير له منه، وأدْوَمُ لَذَّةً وسروراً، فإن العاقل متى
وازَنَ بين نَيْل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظمَ منه، وأدومَ، وأنفعَ،
وألذَّ أو بالعكس، ظهر له التفاوتُ، فلا تبعْ لَذَّة الأبد التى لا خطرَ لها
بلذَّة ساعة تنقلبُ آلاماً، وحقيقتُها أنها أحلامُ نائم، أو خيالٌ لا ثبات له،
فتذهبُ اللَّذة، وتبقى التبعةُ، وتزولَ الشهوة، وتبقَى الشِّقوة.
الثانى: حصولُ مكروه أشقَّ عليه مِن فوات هذا المحبوب، بل يجتمع له الأمران، أعنى:
فوات ما هُو أحبُّ إليه من هذا المحبوب، وحصولُ
ما هو أكرهُ إليه من فوات هذا
المحبوب، فإذا تيقَّن أنَّ فى إعطاء النفسِ حظَّها من هذا المحبوب هذين الأمرين،
هان عليه تركُه، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهلُ من صبره عليهما بكثير، فعقلُه
ودينه، ومروءته وإنسانيته، تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذى ينقلِبُ سريعاً
لذَّةً وسروراً وفرحاً لدفع هذين الضررين العظيمين. وجَهلُه وهواه، وظلمه وطيشه،
وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالباً عليه ما جلب، والمعصومُ مَن
عصمه الله.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، ولم تُطاوعه لهذه المعالجة، فلينظر ما تجلبُ عليه
هذه الشهوةُ مِن مفاسد عاجِلته، وما تمنعه مِن مصالحها، فإنها أجلبُ شىء لمفاسد
الدنيا، وأعظمُ شىء تعطيلاً لمصالحها، فإنها تحول بين العبد وبين رُشده الذى هو
مِلاكُ أمره، وقِوامُ مصالحه.
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء، فليتذكر قبائحَ المحبوب، وما يدعوه إلى النُّفرة
عنه، فإنه إن طلبها وتأملها، وجدها أضعافَ محاسنه التى تدعو إلى حبه، وليسأل
جيرانَه عما خفى عليه منها، فإنَّ المحاسن كما هى داعيةُ الحبِّ والإرادة،
فالمساوئ داعيةُ البغضِ والنُّفرة، فليوازن بين الداعيَيْن، وليُحبَّ أسبَقهما
وأقرَبَهما منه باباً، ولا يكن ممن غَرَّه لونُ جمال على جسم أبرصَ مجذوم
وليُجاوِزْ بصره حُسنَ الصورة إلى قبح الفعل، ولْيَعبُرْ مِن حُسن المنظر والجسم
إلى قبح المخبر والقلب.
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صِدقُ اللجأ إلى مَن يُجيب المضطَر
إذا دعاه، وليطرح نفسه بين يديه على بابه، مستغيثاً به، متضرعاً، متذللاً،
مستكيناً، فمتى وُفِّقَ لذلك، فقد قرع باب التوفيق، فليَعِفَّ وليكتُم، ولا
يُشَبِّبْ بذكر المحبوب، ولا يفضحْه بين الناس ويُعرِّضه
للأذى، فإنه يكون ظالماً
متعدياً.
ولا يغترَّ بالحديث الموضوع على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى
رواه سُويد بن سعيد، عن علىّ بن مُسْهرٍ، عن أبى يحيى القَتَّات، عن مجاهد، عن ابن
عباس رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه عن أبى
مسهر أيضاً، عن هشام بن عروةَ، عن أبيه، عن عائشة، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه الزُّبَيْر بن بَكَّار، عن عبد الملك ابن عبد العزيز بن
الماجِشُون، عن عبد العزيز بن أبى حازم، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس
رضى الله عنهما، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "مَنْ
عَشِقَ، فعَفَّ، فماتَ فهو شهيدٌ" وفى رواية: "مَنْ عَشِقَ وكتم وعفَّ
وصبرَ، غفر اللهُ لَهُ، وأدخَلَهُ الجنَّة".
فإنَّ هذا الحديثَ لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا
يجوز أن يكونَ من كلامه، فإنَّ الشهادة درجةٌ عالية عند الله، مقرونةٌ بدرجة
الصِّدِّيقية، ولها أعمال وأحوال، هى شرط فى حُصُولها، وهى نوعان: عامةٌ وخاصةٌ.
فالخاصة: الشهادةُ فى سبيل الله.
والعامةُ خمسٌ مذكورة فى "الصحيح" ليس العشقُ واحداً منها.
وكيف يكون العشقُ الذى هو
شِرْكٌ فى المحبة، وفراغُ القلب عن الله، وتمليكُ القلب والروح، والحب لغيره تُنال
به درجةُ الشهادة، هذا من المحال، فإنَّ إفساد عشق الصور للقلب فوقَ كل إفساد، بل
هو خمرُ الروح الذى يُسكرها، ويصدُّها عن ذكر الله وحبِّه، والتلذذِ بمناجاته،
والأنسِ به، ويُوجب عبودية القلب لغيره، فإنَّ قلبَ العاشق مُتَعبِّدٌ لمعشوقه، بل
العشقُ لُبُّ العبودية، فإنها كمال الذل، والحب والخضوع والتعظيم، فكيف يكون
تعبُّد القلب لغير الله مما تُنال به درجةُ أفاضل الموحِّدين وساداتهم، وخواص
الأولياء، فلو كان إسنادُ هذا الحديث كالشمسِ، كان غلطاً ووهماً، ولا يُحفظ عن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظُ العشق فى حديث صحيح ألبتة.
ثم إنَّ العشق منه حلالٌ، ومنه حرامٌ، فكيف يُظَن بالنبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يحكم على كُلِّ عاشقٍ يكتُم ويَعِفُّ بأنه شهيد، فترَى مَن
يعشق امرأةَ غيره، أو يعشق المُرْدانَ والبغَايا، يَنال بعشقه درجةَ الشهداء، وهل
هذا إلا خلافُ المعلوم من دينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالضرورة ؟ كيف
والعشقُ مرض من الأمراض التى جعل اللهُ سبحانه لها الأدويةَ شرعاً وقدراً،
والتداوى منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً، وإما مُسْتَحَب
وأنت إذا تأملت الأمراضَ والآفاتِ
التى حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابها بالشهادة، وجدتها
من الأمراض التى لا علاج لها، كالمطعون، والمَبْطُون، والمجنون، والحريقِ،
والغرِيقِ، وموتِ المرأة يقتُلها ولدُها فى بطنها، فإنَّ هذه بلايَا من الله لا
صُنع للعبد فيها، ولا عِلاجَ لها، وليست أسبابُها محرَّمة، ولا يترتب عليها مِن
فساد القلب وتعبُّده لغير الله ما يترتب على العشق، فإن لم يكفِ هذا فى إبطال نسبة
هذا الحديثِ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلِّدْ أئمةَ
الحديث العالمين به وبعلله، فإنه لا يُحفظ عن إمام واحد منهم قَطُّ أنه شهد له
بصحة، بل ولا بحُسن، كيف وقد أنكروا على سُويدٍ هذا الحديث، ورموه لأجله بالعظائم،
واستحلَّ بعضُهم غزوَه لأجله. قال أبو أحمد بن عَدِىٍّ فى "كامله": هذا
الحديث أحدُ ما أُنكر على سُويد، وكذلك قال البَيْهقى: إنه مما أُنكر عليه، وكذلك
قال ابن طاهر فى "الذخيرة" وذكره الحاكم فى "تاريخ نيسابور"،
وقال: أنا أتعجب من هذا الحديث، فإنه لم يحدَّث به عن غير سُويد، وهو ثقة، وذكره
أبو الفرج بن الجوزى فى كتاب "الموضوعات"، وكان أبو بكر الأزرقُ يرفعه
أوَّلاً عن سُويد، فعُوتب فيه، فأسقط النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وكان لا يُجاوِزُ به ابنَ عباس رضى الله عنهما.
ومن المصائب التى لا تُحتمل جعلُ هذا الحديث من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومَن له أدنى
إلمام بالحديث وعلله، لا يحتمِلُ هذا البتة، ولا يحتمِلُ أن يكونَ من حديث
الماجشون، عن ابن أبى حازم، عن ابن أبى نَجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله
عنهما مرفوعاً، وفى صحته موقوفاً على ابن عباس نظرٌ، وقد رمى الناسُ سويدَ بن سعيد
راوىَ هذا الحديث بالعظائم، وأنكره عليه يحيى بن مَعِين وقال: هو ساقط كذَّاب، لو
كان لى فرس ورمح كنت
أغزوه، وقال الإمام أحمد:
متروك الحديث. وقال النسائى: ليس بثقة، وقال البخارى: كان قد عمىَ فيلقن ما ليس من
حديثه، وقال ابن حِبَّان: يأتى بالمعضلات عن الثقات يجبُ مجانبةُ ما روى.. انتهى.
وأحسنُ ما قيل فيه قولُ أبى حاتم الرازىِّ: إنه صدُوق كثير التَّدْليس، ثم قولُ
الدَّارَقُطنىِّ: هو ثقة غير أنه لما كَبِرَ كان ربما قُرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ
النكارة، فيُجيزه.. انتهى.
وعِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه، وهذه حالُه، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه
غيرُه، ولم ينفرِدْ به، ولم يكن منكراً ولا شاذاً بخلاف هذا الحديث.. والله أعلم.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ الصحة بالطيب
لما كانت الرائحةُ الطيبة غذاءَ الروح، والروحُ مطيةُ القُوَى، والقُوَى تزداد
بالطيب، وهو ينفعُ الدماغَ والقلب، وسائر الأعضاء الباطنية، ويُفرِّحُ القلب،
ويَسُرُّ النفس ويَبسُطُ الروحَ، وهو أصدقُ شىء للروح، وأشدُّه ملاءمةً لها، وبينه
وبين الروح الطيبة نِسبةٌ قريبة. كان أحدَ المحبوبَيْن من الدنيا إلى أطيب
الطَيِّبين صلوات الله عليه وسلامه.
وفى "صحيح البخارى": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا
يَرُدُّ الطِّيبَ.
وفى "صحيح مسلم" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من
عُرِضَ عليه رَيْحانٌ، فلا يَرُدَّهُ فإنه طَيِّبُ الرِّيح، خَفِيفُ
المَحْمِلِ".
وفى "سنن أبى داود"
و"النسائي"، عن أبى هريرةَ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَن عُرِضَ عَلَيهِ طِيبٌ، فَلا يَرُدَّهُ، فَإنَّهُ
خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ".
وفى "مسند البزَّار": عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: " إنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ،
كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوادٌ يُحِبُّ الجُودَ، فَنَظِّفُوا أفْنَاءَكُم
وسَاحَاتِكُم، ولا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ يَجْمَعُون الأكُبَّ فى دُورِهِمْ
". الأكُب: الزبالة.
وذكر ابن أبى شيبة، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لَهُ سُكَّةٌ
يَتَطَيَّب منها.
وصَحَّ عنه أنه قال: "إنَّ للهِ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ
فِى كُلِّ سَبْعَةِ أيَّامٍ، وَإنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ".
وفى الطيب من الخاصية، أنَّ الملائكة تُحبه، والشياطين تنفِرُ عنه، وأحبُّ شيءٍ
إلى الشياطين الرائحةُ المنتنة الكريهة، فالأرواحُ الطيبة تُحِبُّ الرائحة الطيبة،
والأرواحُ الخبيثة تُحِبُّ الرائحة الخبيثة، وكل روح تميل إلى ما يناسبها،
فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، والطيباتُ للطيبين، والطيبون للطيبات،
وهذا
وإن كان فى النساء والرجال،
فإنه يتناولُ الأعمالَ والأقوالَ، والمطاعم والمشارب، والملابس والروائح، إما
بعموم لفظه، أو بعموم معناه.
فصل: فى هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حفظ صحة العَيْن
روى أبو داود فى "سننه": عن عبد الرحمن بن النُّعمان بن معبد بن
هَوْذَةَ الأنصارى، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بالإِثْمِدِ المُروَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وقال:
"ليتَّقِهِ الصَّائِمُ". قال أبو عبيد: المروَّح: المطيَّب بالمسك.
وفى "سنن ابن ماجه" وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت للنبىِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنها ثلاثاً فى كُلِّ
عَيْنٍ.
وفى "الترمذي": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اكتحَلَ يجعلُ فى اليمنَى ثلاثاً، يبتدىء بها،
ويختم بها، وفى اليُسْرى ثنتين.
وقد روى أبو داود عنه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ اكْتَحَلَ فلْيُوتِرْ" . فهل الوترُ
بالنسبة إلى العينين كلتيهما، فيكون فى هذه ثلاث، وفى هذه ثنتان، واليُمنى أولى
بالابتداء والتفضيل، أو هو بالنسبة إلى كُلِّ عَيْن، فيكون فى هذه ثلاث، وفى هذه
ثلاث، وهما قولان فى مذهب أحمد وغيره.
وفى الكُحْلِ حفظ لصحة العَيْن، وتقويةٌ للنور الباصر، وجِلاءٌ لها، وتلطيفٌ
للمادة الرديئة، واستخراجٌ لها مع الزينة فى بعض أنواعه، وله عند النوم مزيدُ فضل
لاشتمالها على الكُحْلِ، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها، وخدمةِ الطبيعة لها،
وللإثْمد مِن ذلك خاصيَّة.
وفى "سنن ابن ماجه" عن سالم، عن أبيه يرفعه: "عَلَيْكُم
بالإثْمِدِ، فإنَّهُ يَجْلُو البَصَر، ويُنْبِتُ الشَّعرَ".
وفى كتاب أبى نُعيم: "فإنه مَنْبَتَةٌ للشَّعر، مذهبة للقذَى، مصْفاة
للبصر".
وفى "سنن ابن ماجه" أيضاً: عن ابن عباس رضى الله عنهما يرفعه: "خيرُ أكْحالِكم الإثمد، يجلُو البَصَرَ، ويُنبت الشَّعرَ".
فصل: فى ذكر شىء من الأدوية
والأغذية المفردة التى جاءت على لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتبة
على حروف المعجم
حرف الهمزة
إثْمِدٌ: هو حجر الكحل الأسود، يُؤْتَى به من أصبِهانَ، وهو أفضلُه، ويؤتَى به من
جهة المغرب أيضاً، وأجودُه السريعُ التفتيتِ الذى لفُتاته بصيصٌ، وداخلُه أملسُ
ليس فيه شىء من الأوساخ.
ومزاجُه بارد يابس ينفعُ العين ويُقوِّيها، ويشد أعصابَها، ويحفظُ صِحتها، ويُذهب
اللَّحم الزائد فى القُروح ويُدملها، ويُنقِّى أوساخها، ويجلوها، ويُذهب الصداع
إذا اكتُحل به مع العسل المائى الرقيق، وإذا دُقَّ وخُلِطَ ببعض الشحوم الطرية،
ولُطخ على حرق النار، لم تعرض فيه خُشْكَرِيشةٌ، ونفع من التنفُّط الحادث بسببه،
وهو أجود أكحال العين لا سِيَّما للمشايخ، والذين قد ضعفت أبصارُهم إذا جُعِلَ معه
شىءٌ من المسك.
أُتْرُج: ثبت فى "الصحيح": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال: "مَثَلُ المؤمن الذى يقرأ القرآن، كمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ،
طعْمُها طَيِّبٌ، وريحُها طَيِّبٌ".
وفى الأُترج منافع كثيرة، وهو
مركَّب من أربعة أشياء: قشر، ولحم، وحمض، وبزر، ولكل واحد منها مِزاج يخصُّه،
فقشره حار يابس، ولحمُه حار رطب، وحمضُه بارد يابس، وبزرُه حار يابس.
ومن منافع قشره: أنه إذا جُعل فى الثياب منع السوسَ، ورائحتُهُ تُصْلِحُ فسادَ
الهواء والوباء، ويُطيِّبُ النَّكْهَةَ إذا أمسكه فى الفم، ويُحلِّل الرياح، وإذا
جُعِلَ فى الطعام كالأبازِير، أعان على الهضم. قال صاحب "القانون":
وعُصَارة قشره تنفع مِن نهْش الأفاعى شرباً، وقِشرُه ضِمَادَاً، وحُرَاقةُ قِشره
طِلاءٌ جيد للبَرَص.. انتهى.
وأمَّا لحمه: فملطِّف لحرارة المَعِدَة، نافعٌ لأصحاب المِرَّة الصفراء، قامِعٌ
للبخارات الحارة. وقال الغافِقىُّ: أكل لحمه ينفع البواسير.. انتهى.
وأمّا حمضُه: فقابضٌ كاسر للصفراء، ومسكنٌ للخفقان الحار، نافعٌ من اليَرَقَان
شرباً واكتحالاً، قاطعٌ للقىء الصفراوى، مُشَهٍّ للطعام، عاقل للطبيعة، نافع من
الإسهال الصفراوى، وعُصَارَةُ حمضه يُسَكِّن غِلْمَةَ النساء، وينفع طِلاَءً من
الكَلَفِ، ويُذهب بالقَوْباء، ويُستدَل على ذلك مِن فعله فى الحِبر إذا وقَعَ فى
الثياب قَلَعَه، وله قوةٌ تُلطِّف، وتقطع، وتبرد، وتُطفئُ حرارة الكبد، وتُقوِّى
المَعِدَة، وتمنع حِدَّة المِرَّة الصفراء، وتُزِيلُ الغمَّ العارض منها، وتسكن
العطش.
وأمَّا بزره: فله قوة محلِّلة مجففة. وقال ابن ماسويه: خاصية
حَبِّه، النفع من السموم
القاتلة إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقال مقشَّراً بماء فاتر، وطِلاء مطبوخ. وإن دُقَّ
ووضع على موضع اللَّسعة، نفع، وهو مُلَيِّنٌ للطبيعة، مُطَيِّبٌ للنكْهة، وأكثر
ُهذا الفعل موجودٌ فى قشره.
وقال غيرُه: خاصية حَبُّه النفع مِن لَسعات العقارب إذا شُرِبَ منه وزنُ مثقالين
مقشراً بماء فاتر، وكذلك إذا دُقَّ ووُضِعَ على موضع اللَّدغة.
وقال غيره: حَبُّه يصلُح للسُّموم كُلِّهَا، وهو نافع من لدغ الهوام كلها.
وذُكِرَ أنَّ بعض الأكاسرة غَضِبَ على قوم من الأطباء، فأمر بحبسهم، وخيَّرهم
أُدماً لا يزيد لهم عليه، فاختارُوا الأترج، فقيل لهم: لِمَ اخترتموه على غيره ؟
فقالوا: لأنه فى العاجل ريحانٌ، ومنظره مفرح، وقشرُه طيب الرائحة، ولحمه فاكهة،
وحَمْضُه أُدم، وحبُّه تِرياق، وفيه دُهنٌ.
وحقيقٌ بشىء هذه منافعه أن يُشَبَّهَ به خلاصةُ الوجود، وهو المؤمن الذى يقرأ
القرآن، وكان بعضُ السَّلَف يُحِبُّ النظر إليه لما فى منظره من التفريح.
أَرُزُّ: فيه حديثان باطلان موضوعان على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؛ أحدهما: أنه "لو كان رجلاً، لكان حليماً"، الثانى:
"كُلُّ شىء أخرجتْه الأرضُ ففيه داءٌ وشفاءٌ إلا الأَرُزَّ: فإنه شفاءٌ لا
داءَ فيه" ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعد.. فهو حار يابس، وهو أغْذَى الحُبوبِ بعد الحِنْطَة، وأحمدُها خلطاً، يَشدُّ
البطن شدّاً يسيراً، ويُقَوِّى المَعِدَة، ويَدبغُها، ويمكثُ فيها. وأطباءُ الهند
تزعم أنه أحمدُ الأغذية وأنفعُها إذا طُبِخَ بألبان البقر، وله تأثيرٌ فى خِصب
البدن، وزيادةِ المَنِىّ، وكثرةِ التغذية، وتصفيةِ اللون.
أَرْزٌ بفتح الهمزة وسكون الراء: وهو الصَّنَوْبَر. ذكره النبىُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فى قوله: "مَثَلُ المُؤمِنِ مَثَلُ الخامَةِ من الزرع، تُفيئُها
الرِّياحُ، تُقيمُهَا مَرَّةً، وتُميلُهَا أُخْرى، ومَثَلُ المُنَافِقِ مَثَلُ
الأَرْزَةِ لا تَزَالُ قائمةً على أصْلِها حتى يكونَ انْجِعَافُها مَرَّةً
واحدةً".
وَحَبُّه حار رطب، وفيه إنضاجٌ وتليين، وتحليل، ولذعٌ يَذهب بنقعه فى الماء، وهو
عَسِرُ الهضم، وفيه تغذيةٌ كثيرةٌ، وهو جيدٌ للسُّعال، ولتنقيةِ رطوبات الرِّئة،
ويَزِيدُ فى المَنِىِّ، ويُولِدُ مغصاً، وتِرْيَاقُه حَبُّ الرُّمان المُزِّ.
إذْخِرٌ: ثبت فى "الصحيح"، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال فى مكةَ: " لا يُختَلَى خَلاَها "، قال له العباس رضى الله عنه: إلا
الإذْخِرَ يا رسولَ اللهِ؛ فإنه لِقَيْنِهم ولبيوتِهِم، فقال: "إلا
الإذْخِرَ".
والإذْخِرُ حارٌ فى الثانية، يابسٌ فى الأُولى، لطيف مفتح للسُّددِ، وأفواه
العروقُ، يُدرُّ البَوْل والطَّمْث، ويُفَتِّتُ الحصى، ويُحلِّل الأورام الصلبة فى
المَعِدَة والكَبِد والكُلْيَتين شرباً وضِماداً، وأصلُه يُقوِّى عمودَ الأسنان
والمَعِدَة، ويسكن الغَثَيان، ويَعْقِلُ البطن.
حرف الباء
بِطِّيخٌ: روى أبو داود والترمذىُّ، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أنه كان يأكل
البِطيخَ بالرُّطَبِ، يقول:
" نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا ببَرْدِ هذا، وبَرْدَ هَذا بِحَرِّ هذا".
وفى البِطِّيخ عدةُ أحاديث لا يَصِحُّ منها شىء غيرُ هذا الحديث الواحد، والمرادُ
به الأخضر، وهو باردٌ رطب، وفيه جِلاءٌ، وهو أسرعُ انحداراً عن المَعِدَة من
القِثَّاء والخيار، وهو سريعُ الاستحالة إلى أى خلط كان صادفه فى المَعِدَة، وإذا
كان آكَلُهُ مَحْرُوراً انتفع به جداً، وإن كان مَبْروداً دفع ضررُه بيسير من
الزَّنْجَبيل ونحوه، وينبغى أكلُه قبل الطعام، ويُتْبَعُ به، وإلاّ غَثَّى
وقيَّأَ. وقال بعض الأطباء: إنه قبل الطعام يَغسلُ البطن غسلاً، ويُذهب بالداء
أصلاً.
بَلَحٌ: روى النسائى وابن ماجه فى "سننهما": من حديث هشام ابن عروةَ، عن
أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "كُلُوا البلحَ بالتَّمْرِ، فإنَّ الشيطانَ إذا نظرَ إلى ابنِ
آدمَ يأكُلُ البَلَحَ بالتمْرِ يقولُ: بَقِىَ ابنُ آدمَ حتى أكَلَ الحَديثَ
بالعَتِيق".
وفى رواية: " كُلُوا البَلَحَ بالتَّمَرِ، فإنَّ الشَّيْطانَ يحزَنُ إذا رأى
ابنَ آدمَ يأكُلُهُ يقولُ: عاشَ ابنُ آدمَ حتى أكل الجَديدَ بالخَلَقِ" رواه
البزار فى "مسنده"، وهذا لفظه.
قلت: الباءُ فى الحديث بمعنى "مع"؛ أى: كُلُوا هذا معَ هذا. قال بعض
أطباء الإسلام: إنَّما أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكل البلح
بالتمر، ولم يأمُرْ
بأكل البُسْر مع التمر، لأن
البلحَ بارد يابس، والتمرَ حار رطب، ففى كُلٍّ منهما إصلاحٌ للآخر، وليس كذلك
البُسْر مع التَّمْرِ، فإنَّ كُلَّ واحد منهما حارٌ، وإن كانت حرارةُ التمر أكثر،
ولا ينبغى من جهة الطِّبِّ الجمعُ بين حارَّين أو باردَين، كما تقدَّم.
وفى هذا الحديث: التنبيهُ على صحةِ أصل صناعة الطب، ومراعاةِ التدبير الذى يصلُح
فى دفع كيفيات الأغذية والأدوية بعضِها ببعض، ومراعاةِ القانون الطبى الذى تُحفظ
به الصحة.
وفى البلح برودةٌ ويبوسةٌ، وهو ينفع الفمَ واللِّثَة والمَعِدَة، وهو ردىءٌ للصدر
والرِّئة بالخشونة التى فيه، بطىءٌ فى المَعِدَة يسيرُ التغذية، وهو للنخلة
كالحِصْرِم لشجرة العنب، وهما جميعاً يُولِّدان رياحاً، وقَرَاقِرَ، ونفخاً، ولا
سِيَّما إذا شُرب عليهما الماء، ودفعُ مضرتهما بالتَّمْر، أو بالعسل والزُّبد.
بُسْرٌ: ثبت فى "الصحيح": أنَّ أبا الهيثم بن التَّيْهان، لما ضافه
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما، جاءهم
بِعذْقٍ وهو من النخلة كالعُنُقودِ من العنب فقال له: "هلاَّ انتقَيْتَ لنا
من رُطَبهِ" فقال: أحببتُ أنْ تَنْتَقُوا من بُسْرِهِ ورُطَبِهِ.
البُسْر: حار يابس، ويُبسه أكثرُ من حرِّه، يُنشِّفُ الرطوبةَ، ويَدْبَغُ المعدة،
وَيحبِسُ البطن، وينفع اللِّثة والفم، وأنفعه ما كان هشَّاً وحُلواً، وكثرةُ أكله
وأكل البَلح يُحدث السَّدد فى الأحشاء.
بَيْضٌ: ذكر البيهقى فى "شُعَبِ الإيمان" أثراً مرفوعاً: أنَّ نبياً من
الأنبياء شكى إلى الله سبحانه
الضعفَ، فأمره بأكل البيض. وفى ثبوته نظرٌ.
يُختار من البيض الحديثُ على العتيق، وبيضُ الدَّجاج على سائر بيض الطير، وهو
معتدل يميل إلى البرودة قليلاً.
قال صاحب "القانون": ومُحُّهُ: حار رطب، يُولِّد دماً صحيحاً محموداً،
ويُغذى غذاءً يسيراً، ويُسرعُ الانحدارَ من المعدة إذا كان رِخواً.
وقال غيره: مُحُّ البيض: مسكن للألم، مملسٌ للحلق وقصبة الرئة، نافع للحلق
والسُّعال وقُروح الرئة والكُلَى والمثانة، مذهِبٌ للخشونة، لا سِيَّما إذا أُخِذَ
بدُهن اللَّوز الحلو، ومنضجٌ لما فى الصدر، ملين له، مسهل لخشونة الحلق، وبياضه
إذا قُطِرَ فى العين الوارمة ورماً حاراً، برَّده، وسكَّن الوجع، وإذا لُطخ به
حرقُ النار أو ما يعرض له، لم يدَعه يتنفَّط، وإذا لُطخ به الوجع، منع الاحتراق
العارض من الشمس، وإذا خُلِطَ بالكُنْدُر، ولُطخ على الجبهة، نفع من النزلة.
وذكره صاحب "القانون" فى الأدوية القلبية، ثم قال: وهو وإن لم يكن من
الأدوية المطلقة فإنه مما له مدخل فى تقوية القلب جداً، أعنى الصفرةَ، وهى تجمع
ثلاثة معان: سرعة الاستحالة إلى الدم، وقِلَّة الفضلة، وكون الدم المتولِّد منه
مجانساً للدم الذى يغذو القلبَ خفيفاً مندفعاً إليه بسرعة، ولذلك هو أوفقُ ما
يُتلافى به عاديةُ الأمراض المحلِّلة لجوهر الروح.
بَصَلٌ: روى أبو داودَ فى "سننه": عن عائشةَ رضى الله عنها، أنها
سُئِلَتْ عن البصل، فقالت: "إنَّ آخرَ طعام أكلَهُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيه بَصَلٌ".
وثبت عنه فى
"الصحيحين": "أنه منع آكِلَه من دُخُولِ المَسْجِدِ".
والبصل: حار فى الثالثة، وفيه رطوبة فَضليَّة ينفعُ من تغير المياه، ويدفعُ ريحَ
السموم، ويفتِّق الشهوة، ويقوِّى المَعِدَة، ويُهَيج الباه، ويزيد فى المَنِىِّ،
ويُحسِّن اللَّون، ويقطع البلغم، ويجلُو المَعِدَة، وبِزره يُذهب البَهَق، ويدلَّك
به حول داء الثعلب، فينفع جداً، وهو بالملح يقلع الثآلِيل، وإذا شَمَّهُ مَن شَرِب
دواءً مسهلاً منعه من القىء والغثيان وأذهب رائحة ذلك الدواء، وإذا استُعِطَ
بمائه، نَقَّى الرأس، ويُقطَّر فى الأُذن لثقَل السمع والطَّنين والقيح، والماء
الحادث فى الأُذنين، وينفع فى الماء النازل فى العينين اكتحالاً يُكتَحَل ببزره مع
العسل لبياض العين، والمطبوخ منه كثيرُ الغذاء ينفع مِن اليَرَقانِ والسُّعال،
وخشونةِ الصدر، ويُدِرُّ البَوْل، ويلين الطبع، وينفع مِن عضة الكلب غير الكَلِب
إذا نُطِلَ عليها ماؤه بملح وسَذَاب، وإذا احتُمل، فتح أفواهَ البواسير.
وأما ضررُه: فإنه يورث الشَّقِيقة، ويُصدِّع الرأس، ويُولِّد أرياحاً، ويُظلم
البصر، وكثرةُ أكله تُورث النسيان، ويُفسد العقل، ويُغيِّر رائحةَ الفم
والنَّكْهة، ويُؤذى الجليسَ، والملائكة، وإماتتُه طبخاً تُذهب بهذه المضرَّاتِ
منه.
وفى السنن: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أمَرَ آكِلَه وآكِلَ
الثُّومِ أن يُميتَهُما طبخاً".
ويُذهب رائحته مضغُ ورق السَّذَاب عليه.
باذِنْجان: فى الحديث الموضوع
المختلَق على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"الباذِنجانُ لما أُكِلَ له" ، وهذا الكلام مما يُستقبح نسبته إلى آحاد
العقلاء، فضلاً عن الأنبياء، وبعد.. فهو نوعان: أبيضُ وأسودُ، وفيه خلاف، هل هو
بارد أو حار ؟ والصحيحُ: أنه حار، وهو مُوَلِّد للسوداء والبواسير، والسُّدد
والسرطان والجُذام، ويُفسد اللَّون ويُسوِّده، ويُضر بنتن الفم، والأبيضُ منه
المستطيل عارٍ من ذلك.
حرف التاء
تَمْرٌ: ثبت فى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَن تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَراتٍ" وفى لفظٍ: "مِن تَمْر
العَاليةلم يَضُرَّه ذلك اليَوْمَ سُمٌ ولا سِحْرٌ".
وثبت عَنه أنه قال: "بيتٌ لا تَمْرَ فيه جِيَاعٌ أهْلُهُ".
وثبتَ عنه أنه أكل التَّمرَ بالزُّبدِ، وأكل التَمْرَ بالخبز، وأكله مفرداً.
وهو حار فى الثانية، وهل هو رَطب فى الأُولى، أو يابس فيها ؟. على قولين. وهو
مقوٍّ للكبد، مُليِّن للطبع، يزيد فى الباه، ولا سِيَّما مع حَبِّ الصَّنَوْبر،
ويُبرىء من خشونة الحلق، ومَن لم يعتدْه كأهل البلاد الباردة
فإنهُ يُورث لهم السّدد،
ويُؤذى الأسنان، ويهيج الصُّداع. ودفعُ ضرره باللَّوز والخَشْخاش، وهو من أكثر
الثمار تغذيةً للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكلُه على الريق يقتُل الدود،
فإنه مع حرارته فيه قوةٌ تِرْياقيَّة، فإذا أُدِيمَ استعمالُه على الريق، خفَّف
مادة الدود، وأضعفه وقلَّله، أو قتله، وهو فاكهة وغذاء، ودواء وشراب وحَلوى.
تِينٌ: لما لم يكن التينُ بأرض الحجاز والمدينة، لم يأتِ له ذكرٌ فى السُّنَّة،
فإنَّ أرضَه تُنافى أرضَ النخل، ولكن قد أقسم الله به فى كتابه، لكثرة منافعه
وفوائِدِهِ، والصحيح: أنَّ المُقْسَمَ به: هو التينُ المعروف.
وهو حارٌ، وفى رطوبته ويبوسته قولان، وأجوده: الأبيض الناضج القشر، يجلُو رملَ
الكُّلَى والمثانة، ويُؤمِّن من السُّموم، وهو أغْذَى من جميع الفواكه وينفع
خشونَةَ الحلق والصدر، وقصبة الرئة، ويغسِلُ الكَبِدَ والطِّحَال، ويُنقِّى
الخَلْطَ البلغمىَّ من المَعِدَة، ويَغذُو البدن غِذاءً جيداً، إلا أنه يُولِّدُ
القملَ إذا أُكثر منه جداً.
ويابسُه يغذىوينفعُ العصب، وهو مع الجَوْز واللَّوز محمودٌ. قال
"جالينوسُ": "وإذا أُكل مع الجَوْز والسَّذَاب قبْلَ أخذِ السُّمِّ
القاتل، نفع، وحَفِظَ من الضرر"
ويُذكر عن أبى الدَّرْداء: أُهْدِى إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طبقٌ من تينٍ، فقال:
"كُلُوا"، وأكل منه، وقال: "لو قُلْتُ: إنَّ فاكهةً نزلتْ من
الجنَّة قلتُ هذه، لأنَّ فاكهة الجنَّةِ بلا عَجَمٍ، فكُلُوا منها فإنها تَقْطَعُ
البَوَاسير،
وتنفعُ من النقْرِس" .
وفى ثبوت هذا نظرٌ.
واللَّحمُ منه أجودُ، ويُعَطِّش المحرورين، ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح،
وينفعُ السُّعَال المُزْمن، ويُدِرُّ البَوْل، ويفتحُ سدَدَ الكبد والطِّحَال،
ويُوافق الكُلَى والمثانة، ولأكلِه على الريق منفعة عجيبة فى تفتيح مجارى الغذاء،
وخصوصاً باللَّوز والجَوْز، وأكلُه مع الأغذية الغليظة ردىءٌ جداً، والتُّوت
الأبيض قريبٌ منه، لكنه أقلُّ تغذيةً وأضرُّ بالمَعِدَة.
تَلبينةٌ: قد تقدَّم أنها ماءُ الشَّعير المطحون، وذكرنا منافعها، وأنها أنفعُ
لأهل الحجاز من ماء الشَّعِير الصحيح.
حرف الثاء
ثَلْجٌ: ثبت فى "الصحيح" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قال: "اللهُمَّ اغْسِلْنى مِنْ خطاياىَ بالماءِ والثَّلْجِ
والبَرَدِ".
وفى هذا الحديث من الفقه: أنَّ الداء يُداوَى بضده، فإنَّ فى الخطايا من الحرارة
والحريق ما يُضاده الثلجُ والبَرَدُ، والماءُ البارد، ولا يقال: إنَّ الماء الحار
أبلغُ فى إزالة الوسخ، لأنَّ فى الماء البارد من تصليب الجسم وتقويته ما ليس فى
الحار، والخطايا تُوجب أثرين: التدنيس والإرخاء، فالمطلوبُ مداواتها بما ينظِّفُ
القلب ويُصْلِّبُهُ، فذكر الماء البارد والثلج والبَرَد إشارةٌ إلى هذين الأمرين.
وبعد.. فالثلجُ بارد على
الأصح، وغَلِطَ مَن قال: حارٌ، وشُبهته تَولُّد الحيوان فيه، وهذا لا يدل على
حرارته، فإنه يتولَّد فى الفواكه الباردة، وفى الخَلِّ، وأما تعطيشه، فلتهييجه
الحرارةَ لا لحرارتِه فى نفسه، ويضرُّ المَعِدَة والعصب، وإذا كان وجعُ الأسنانِ
من حرارة مفرطة، سَكَّنها.
ثُومٌ: هو قريب من البصل، وفى الحديث: "مَن أكَلَهُما فلْيُمِتْهُمَا
طَبْخاً". وأُهدى إليه طعامٌ فيه ثومٌ، فأرسل به إلى أبى أيوب الأنصارىِّ،
فقال: يارسولَ الله؛ تَكْرهه وتُرْسِلُ به إلىَّ ؟ فقال: "إنىِّ أُناجى مَنْ
لا تُنَاجِى"
وبعد فهو حار يابس في الرابعة، يسخن تسخنياً قوياً، ويجفف تجفيفاً بالغاً، نافع
للمبرودين، ولمن مزاجه بلغمي، ولمن أشرف على الوقوع في الفالج، وهو مجفف للمني،
مفتح للسدد، محلل للرياح الغليظة، هاضم للطعام، قاطع للعطش، مطلق للبطن، مدر
للبول، يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام الباردة مقام الترياق، وإذا دق وعمل
منه ضماد على نهش الحيات، أو
على لسع العقارب، نفعها وجذب السموم منها، ويسخن البدن، ويزيد في حرارته، ويقطع
البلغم، ويحلل النفخ، ويصفي الحلق، ويحفظ صحة أكثر الأبدان، وينفع من تغير المياه،
والسعال المزمن، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً ومشوياً، وينفع من وجع الصدر من البرد،
ويخرج العلق من الحلق وإذا دق مع الخل والملح والعسل، ثم وضع على الضرس المتأكل،
فتته وأسقطه، وعلى الضرس الوجع، سكن وجعه. وإن دق منه مقدار درهمين، وأخذ مع ماء
العسل، أخرج البلغم والدود، وإذا طلي بالعسل على البهق، نفع.
ومن مضاره: أنه يصدع، ويضر الدماغ والعينين، ويضعف البصر والباه، ويعطش، ويهيج
الصفراء، ويجيف رائحة الفم، ويذهب رائحته أن يمضغ عليه ورق السذاب.
ثريد: ثبت في "الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام".
والثريد وإن كان مركباً، فإنه مركب من خبز ولحم، فالخبز أفضل الأقوات، واللحم سيد
الإدام، فإذا اجتمعا لم يكن بعدهما غاية.
وتنازع الناس أيهما أفضل ؟ والصواب أن الحاجة إلى الخبز أكثر وأعم، واللحم أجل
وأفضل، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه، وهو طعام أهل الجنة، وقد قال تعالى
لمن طلب البقل: والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي
هو خير} [البقرة: 62]،
وكثير من السلف على أن الفوم
الحنطة، وعلى هذا فالآية نص على أن اللحم خير من الحنطة.
حرف الجيم
جمار: قلب النخل، ثبت في "الصحيحين": عن عبد الله بن عمر قال: بينا نحن
عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس، إذ أتي بجمار نخلة، فقال
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من الشجر شجرة مثل الرجل
المسلم لا يسقط ورقها.. الحديث". والجمار: بارد يابس في الأولى، يختم القروح،
وينفع من نفث الدم، واستطلاق البطن، وغلبه المرة الصفراء، وثائرة الدم، وليس برديء
الكيموس، ويغذو غذاء يسيراً، وهو بطيء الهضم، وشجرته كلها منافع، ولهذا مثلها
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرجل المسلم لكثرة خيره ومنافعه.
جبن: في "السنن" عن عبد الله بن عمر قال: "أتي النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجبنة في تبوك، فدعا بسكين، وسمى وقطع" رواه أبو
داود، وأكله الصحابة رضي الله عنهم بالشام، والعراق، والرطب منه غير المملوح جيد
للمعدة، هين السلوك في الأعضاء، يزيد في اللحم، ويلين البطن تلييناً معتدلاً،
والمملوح أقل غذاء من الرطب، وهو رديء للمعدة، مؤذ للأمعاء،
والعتيق يعقل البطن، وكذا
المشوي، وينفع القروح ويمنع الإسهال. وهو بارد رطب، فإن استعمل مشوياً، كان أصلح
لمزاجه، فإن النار تصلحه وتعدله، وتلطف جوهره، وتطيب طعمه ورائحته. والعتيق
المالح، حار يابس، وشيه يصلحه أيضاً بتلطيف جوهره، وكسر حرافته لما تجذبه النار
منه من الأجزاء الحارة اليابسة المناسبة لها، والمملح منه يهزل، ويولد حصاة الكلى
والمثانة، وهو رديء للمعدة، وخلطة بالملطفات أردأ بسبب تنفيذها له إلى المعدة.
حرف الحاء
حناء: قد تقدمت الأحاديث في فضله، وذكر منافعه، فأغنى عن إعادته.
حبة السوداء: ثبت في "الصحيحين": من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي
الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " عليكم بهذة
الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام ". السام: الموت.
الحبة السوادء: هي الشونيز في لغة الفرس، وهي الكمون الأسود، وتسمى الكمون الهندي،
قال الحربي، عن الحسن: إنها الخردل، وحكى الهروي: أنها الحبة الخضراء ثمرة البطم،
وكلاهما وهم، والصواب: أنها الشونيز.
وهي كثيرة المنافع جداً، وقوله: "شفاء من كل داء"، مثل قوله تعالى:
{تدمر كل شيء بأمر ربها} [الأحقاف: 25] أي: كل شيء
يقبل التدمير ونظائره، وهي
نافعة من جميع الأمراض الباردة، وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض، فتوصل
قوى الأدوية الباردة الرطبة إليها بسرعة تنفيذها إذا أخذ يسيرها.
وقد نص صاحب "القانون" وغيره، على الزعفران في قرص الكافور لسرعة تنفيذه
وإيصاله قوته، وله نظائر يعرفها حذاق الصناعة، ولا تستبعد منفعة الحار في أمراض
حارة بالخاصية، فإنك تجد ذلك في أدوية كثيرة، منها: الأنزروت وما يركب معه من
أدوية الرمد، كالسكر وغيره من المفردات الحارة، والرمد ورم حار باتفاق الأطباء،
وكذلك نفع الكبريت الحار جداً من الجرب.
والشونيز حار يابس في الثالثة، مذهب للنفخ، مخرج لحب القرع، نافع من البرص وحمى
الربع، والبلغمية مفتح للسدد، ومحلل للرياح، مجفف لبلة المعدة ورطوبتها. وان دق
وعجن بالعسل، وشرب بالماء الحار، أذاب الحصاة التي تكون في الكليتين والمثانة،
ويدر البول والحيض واللبن إذا أديم شربه أياماً، وإن سخن بالخل، وطلي على البطن،
قتل حب القرع، فإن عجن بماء الحنظل الرطب، أو المطبوخ، كان فعله في إخراج الدود
أقوى، ويجلو ويقطع، ويحلل، ويشفي من الزكام البارد إذا دق وصير في خرقة، واشتم
دائماً، أذهبه.
ودهنه نافع لداء الحية، ومن الثآليل والخيلان، وإذا شرب منه ثقال بماء، نفع من
البهر وضيق النفس، والضماد به ينفع من الصداع
البارد، وإذا نقع منه سبع حبات
عدداً في لبن امرأة، وسعط به صاحب اليرقان، نفعه نفعاً بليغاً.
وإذا طبخ بخل، وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان عن برد، وإذا استعط به مسحوقاً، نفع
من ابتداء الماء العارض في العين، وإن ضمد به مع الخل، قلع البثور والجرب المتقرح،
وحلل الأورام البلغمية المزمنة، والأورام الصلبة، وينفع من اللقوة إذا تسعط بدهنه،
وإذا شرب منه مقدار نصف مثقال إلى مثقال، نفع من لسع الرتيلاء، وإن سحق ناعماً
وخلط بدهن الحبة الخضراء، وقطر منه في الأذن ثلاث قطرات، نفع من البرد العارض فيها
والريح والسدد.
وإن قلي، ثم دق ناعماً، ثم نقع في زيت، وقطر في الأنف ثلاث قطرات أو أربع، نفع من
الزكام العارض معه عطاس كثير.
وإذا أحرق وخلط بشمع مذاب بدهن السوسن، أو دهن الحناء، وطلي به القروح الخارجة من
الساقين بعد غسلها بالخل، نفعها وأزال القروح.
وإذا سحق بخل، وطلي به البرص والبهق الأسود، والحزاز الغليظ، نفعها وأبرأها.
وإذا سحق ناعماً، واستف منه كل يوم درهمين بماء بارد من عضه كلب كلب قبل أن يفرغ
من الماء، نفعه نفعاً بليغاً، وأمن على نفسه من
الهلاك. وإذا استعط بدهنه، نفع
من الفالج والكزاز، وقطع موادهما، وإذا دخن به، طرد الهوام.
وإذا أذيب الأنزروت بماء، ولطخ على داخل الحلقة، ثم ذر عليها الشونيز، كان من
الذرورات الجيدة العجيبة النفع من البواسير، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا، الشربة منه
درهمان، وزعم قوم أن الإكثار منه قاتل.
حرير: قد تقدم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباحه للزبير، ولعبد
الرحمن بن عوف من حكة كانت بهما، وتقدم منافعه ومزاجه، فلا حاجة إلى إعادته.
حرف: قال أبو حنيفة الدينوري: هذا هو الحب الذي يتداوى به، وهو الثفاء الذي جاء
فيه الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونباته يقال له: الحرف،
وتسميه العامة: الرشاد، وقال أبو عبيد: الثفاء: هو الحرف.
قلت: والحديث الذي أشار إليه، ما رواه أبو عبيد وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ماذا في
الأمرين من الشفاء ؟ الصبر والثفاء " رواه أبو داود في المراسيل.
وقوته في الحرارة واليبوسة في الدرجة الثالثة، وهو يسخن، ويلين البطن، ويخرج الدود
وحب القرع، ويحلل أورام الطحال، ويحرك شهوة الجماع، ويجلو الجرب المتقرح
والقوباء.وإذا ضمد به مع العسل، حلل ورم الطحال، وإذا طبخ مع الحناء أخرج الفضول
التي في الصدر، وشربه ينفع من نهش الهوام ولسعها،
وإذا دخن به في موضع، طرد
الهوام عنه، ويمسك الشعر المتساقط، وإذا خلط بسويق الشعير والخل، وتضمد به، نفع من
عرق النسا، وحلل الأورام الحارة في آخرها.
وإذا تضمد به مع الماء والملح أنضج الدماميل، وينفع من الاسترخاء في جميع الأعضاء،
ويزيد في الباه، ويشهي الطعام، وينفع الربو، وعسر التنفس، وغلظ الطحال، وينقي
الرئة، ويدر الطث، وينفع من عرق النَّسا، ووجع حقِّ الوَرِك مما يخرج من الفضول،
إذا شرب أو احتقن به، ويجلو ما في الصدر والرئة من البلغم اللزج.
وإن شرب منه بعد سحقه وزن خمسة دراهم بالماء الحار، أسهل الطبيعة، وحلل الرياح،
ونفع من وجع القولنج البارد السبب، وإذا سحق وشرب، نفع من البرص.
وإن لطخ عليه وعلى البهق الأبيض بالخل، نفع منهما، وينفع من الصداع الحادث من
البرد والبلغم، وإن قلي، وشرب، عقل الطبع لا سيما إذا لم يسحق لتحلل لزوجته
بالقلي، وإذا غسل بمائه الرأس، نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة.
قال جالينوس: قوته مثل قوة بزر الخردل، ولذلك قد يسخن به أوجاع الوَرِك المعروفة
بالنَّسا، وأوجاع الرأس، وكل واحد من العلل التي تحتاج إلى تسخين، كما يسخن بزر
الخردل، وقد يخلط أيضاً في أدوية يسقاها أصحاب الربو من طريق أن الأمر فيه معلوم
أنه يقطع الأخلاط الغليظة تقطيعاً قوياً، كما يقطعها بزر الخردل، لأنه شبيه به في
كل شيء.
حلبة: يذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه عاد سعد بن أبي وقاص
رضي الله
عنه بمكة، فقال: ادعوا لي
طبيباً، فدعي الحارث بن كلدة، فنظر إليه فقال: ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة،
وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ وقوة الحلبة من
الحرارة في الدرجة الثانية، ومن اليبوسة في الأولى، وإذا طبخت بالماء، لينت الحلق
والصدر والبطن، وتسكن السعال والخشونة والربو، وعسر النفس، وتزيد في الباه، وهي
جيدة للريح والبلغم والبواسير، محدرة الكيموسات المرتبِكَة في الأمعاء، وتحلل
البلغم اللزج من الصدر، وتنفع من الدبيلات وأمراض الرئة، وتستعمل لهذا الأدواء في
الأحشاء مع السمن والفانيذ.
وإذا شربت مع وزن خمسة دراهم فُوةٍ، أدرت الحيض، وإذا طبخت، وغسل بها الشعر جعدته،
وأذهبت الحزاز.ودقيقها إذا خلط بالنطرون والخل، وضمد به، حلل ورم الطحال، وقد تجلس
المرأة في الماء الذي طبخت فيه الحلبة، فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه.
وإذا ضمد به الأورام الصلبة القليلة الحرارة، نفعتها وحللتها، وإذا شرب ماؤها، نفع
من المغص العارض
من الرياح، وأزلق الأمعاء.
وإذا أكلت مطبوخة بالتمر، أو العسل، أو التين على الريق، حللت البلغم اللزج العارض
في الصدر والمعدة، ونفعت من السعال المتطاول منه.
وهي نافعة من الحصر، مطلقة للبطن، وإذا وضعت على الظفر المتشنج أصلحته، ودهنها
ينفع إذا خلط بالشمع من الشقاق العارض من البرد، ومنافعها أضعاف ما ذكرنا.
ويذكر عن القاسم بن عبد الرحمن، أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "استشفوا بالحلبة" وقال بعض الأطباء: لو علم الناس منافعها،
لاشتروها بوزنها ذهباً.
حرف الخاء
خُبْزٌ: ثبت فى "الصحيحين"، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أنه قال : "تكونُ الأَرضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً واحدةً
يَتَكَفَّؤُها الجبَّارُ بيده كما يَكْفُؤُ أَحَدُكُم خُبْزَتَه فى السَّفَر
نُزُلاً لأهل الجنَّةِ".
وروى أبو داود فى "سننه": من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، قال:
"كان أحبَّ الطعامِ إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الثريدُ مِن الخُبز"،والثريدُ من الحَيْس.
وروى أبو داود فى (سننه) أيضا،
من حديث ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "وَدِدْتُ أنَّ عندى خُبْزَةً بَيضاءَ من بُرَّةٍ سَمْراءَ
مُلَبَّقَةٍ بسَمْنٍ ولَبنٍ" ، فقام رجلٌ من القوم فاتخذه، فجاء به، فقال:
"فى أىِّ شىءٍ كان هذا السَّمْنُ" ؟ فقال: فى عُكَّةِ ضَبٍّ. فقال:
"ارفَعْهُ".
وذكر البيهقى من حديث عائشة رضى الله عنها ترفعه: "أكرِمُوا الخُبْزَ، ومِنْ
كرامتِه أن لا يُنتظرَ به الإدامُ". والموقوف أشْبَهُ، فلا يثبت رفعُه، ولا
رفعُ ما قبله.
وأما حديثُ النهى عن قطع الخبز بالسكين، فباطل لا أصل له عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المروىُّ: النهى عن قطع اللَّحم بالسِّكِّين،
ولا يَصِحُّ أيضاً.
قال مُهَنَّا: "سألتُ أحمد عن حديث أبى معشرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة رضى الله عنها، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا
تقطعوا اللَّحْمَ بالسِّكِّين، فإن ذلك من فِعْلِ الأعاجِم ". فقال: ليس
بصحيح، ولا يُعرف هذا، وحديثُ عمرو بن أُميَّةَ خلاف هذا، وحديثُ المغيرة يعنى
بحديث عمرو بن أُمية: كان النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتزُّ مِن
لحم الشاة. وبحديث
المغيرة أنه لمَّا أضافه أمَرَ
بِجَنْبٍ فشُوِىَ، ثم أخذَ الشَّفْرَةَ، فجعل يَحُزُّ.
فصل
وأحمدُ أنواع الخبز أجودُها اختماراً وعجناً، ثم خبزُ التَّنُّور أجودُ أصنافه،
وبعدَه خبزُ الفرن، ثم خبزُ المَلَّة فى المرتبة الثالثة، وأجودُه ما اتُّخِذَ من
الحنطة الحديثة.
وأكثرُ أنواعه تغذيةً خبزُ السَّميذ، وهو أبطؤها هضماً لِقلَّة نخالته، ويتلُوه
خبز الحُوَّارَى، ثم الخُشْكَار.
وأحمدُ أوقات أكله فى آخِر اليوم الذى خُبِزَ فيه، والليِّنُ منه أكثر تلييناً
وغذاءً وترطيباً وأسرع انحداراً، واليابسُ بخلافه.
ومزاج الخبز من البُرِّ حار فى وسط الدرجة الثانية، وقريبٌ من الاعتدال فى الرطوبة
واليُبُوسة، واليُبسُ يَغْلِبُ على ما جفَّفَتْه النارُ منه، والرطوبة على ضده.
وفى خبز الحِنْطة خاصيَّةٌ، وهو أنه يُسمِّن سريعاً، وخبز القطائف يُوَلِّد خلطاً
غليظاً، والفَتيتُ نفَّاخ بطىءُ الهضم، والمعمول باللَّبن مسدِّد كثير الغذاء،
بطىء الانحدار.
وخبزُ الشعير بارد يابس فى الأُولى، وهو أقل غذاءً من خبزَ الحِنْطة.
خَلٌ: روى مسلم فى "صحيحه": عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، أنَّ
رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أهلَه الإدَامَ، فقالوا: ما
عندنَا إلا خَلٌ،
فدعا به، وجعل يأكُلُ ويقول:
"نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ، نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ".
وفى "سنن ابن ماجه" عن أُمِّ سعد رضى الله عنها عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ، اللهُمَّ بَارِكْ فى الخَلِّ، فإنه كان إدامَ
الأنبياء قبلى، ولَمْ يَفْتَقِر بيتٌ فيه الخَلُّ".
الخَل: مركَّب من الحرارة، والبرودة أغلبُ عليه، وهو يابس فى الثالثة، قوىُّ
التجفيف، يمنع من انصباب المواد، ويُلطِّف الطبيعة، وخَلُّ الخمر ينفع المعدة
الملتهبة، ويَقْمَعُ الصَّفْرَاء، ويدفع ضَرَر الأدوية القتَّالة، ويُحَلِّل
اللَّبنَ والدم إذا جَمَدا فى الجوف، وينفع الطِّحَالَ، ويدبغ المَعِدة، ويَعقِلُ
البطن، ويقطعُ العطش، ويمنع الورمَ حيث يُريد أن يحدث، ويُعين على الهضم، ويُضاد
البلغم، ويُلطِّف الأغذية الغليظة، ويُرِقُّ الدم.
وإذا شُرِب بالملح، نفع من أكل الفُطُر القتَّال، وإذا احتُسى، قطع العلق المتعلق
بأصل الحنَكِ، وإذ تُمضمض به مُسَخَّناً، نفع من وجع الأسنان، وقوَّى اللِّثَة.
وهو نافع للدَّاحِس، إذا طُلِىَ به، والنملةِ والأورام الحارة، وحرق النار، وهو
مُشَهٍّ للأكل، مُطيِّب للمَعِدة، صَالح للشباب، وفى الصيف لسكان البلاد الحارة.
خِلاَلٌ: فيه حديثان لا يَثبُتان، أحدهما: يُروى من حديث أبى أيوب الأنصارىِّ
يرفعه:
"يا حَبَّذَا المُتَخَلِّلونَ من الطَّعَام، إنه ليس شىءٌ أشدَّ
على المَلَكِ من بَقيَّةٍ
تَبْقَى فى الفم من الطَّعَامِ"، وفيه واصلُ بن السائب، قال البخارى والرازى:
منكر الحديث، وقال النسائى والأَزْدِى: متروك الحديث.
الثانى: يُروى من حديث ابن عباس، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبى عن شيخ روى عنه
صالحٌ الوُحَاظىُّ يقال له: محمد بن عبد الملك الأنصارى، حدَّثنا عطاءُ عن ابن
عباس، قال: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُتَخَلَلَ
باللِّيط والآس، وقال: "إنهما يسقيان عُروقَ الجُذَام" ، فقال أبى:
رأيتُ محمد ابن عبد الملك وكان أعمى يضعُ الحديث ويكذب.
وبعد.. فالخِلالُ نافع لِلِّثة والأسنان، حافظ لصحتها، نافع من تغير النكهة،
وأجودُه ما اتُّخِذَ من عيدان الأخِلة، وخشب الزيتون والخِلاف، والتخللُ بالقصب
والآس والرَّيحان والباذروج مُضِرٌ.
حرف الدال
دُهْنٌ: روى الترمذى فى كتاب "الشمائل" من حديث أنس بن مالك رضى الله
عنهما، قال: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ
دُهْنَ رأسِهِ،
وتسريحَ لِحيته، وُيكْثِرُ
القِنَاعَ كأن ثَوْبَه ثَوْبُ زَيَّاتٍ".
الدُّهن يسد مسامَ البدن، ويمنع ما يتحلَّل منه، وإذا استُعْمِلَ بعد الاغتسال
بالماء الحار، حسَّنَ البدنَ ورطَّبَهُ، وإن دُهن به الشَّعر حسَّنه وطوَّله، ونفع
من الحَصْبَةِ، ودفع أكثر الآفاتِ عنه.
وفى الترمذى: من حديث أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعاً: "كُلُوا الزِّيْتَ
وادَّهِنُوابه".. وسيأتى إن شاء الله تعالى.
والدُّهْن فى البلاد الحارة كالحجاز ونحوه من آكد أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن،
وهو كالضرورى لهم، وأما البلادُ الباردة، فلا يحتاجُ إليه أهلُها، والإلحاح به فى
الرأس فيه خطرٌ بالبصر.
وأنفع الأدهان البسيطة: الزيت، ثم السمن، ثم الشَّيْرَج.
وأما المركَّبة: فمنها بارد رطب، كدُهن البنفسج ينفع من الصُّداع الحار، ويُنوِّم
أصحاب السهر، ويُرطِّبُ الدماغ، وينفعُ مِن الشُّقاق، وغلبة اليبس، والجفاف،
ويُطلَى به الجرب، والحِكَّة اليابسة فينفعُها، ويُسَهِّلُ حركة المفاصل، ويصلح
لأصحاب الأمزجة الحارة فى زمن الصيف، وفيه حديثان باطلان موضوعان على رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أحدُهما: "فضلُ دُهن البَنَفْسَج على
سائر الأدهان، كَفَضْلى على سائرِ الناس ". والثانى: "فضلُ دُهن
البنفسَج على سائر الأدهان، كفضل الإسلام على
سائر الأديان".
ومنها: حارٌ رطب، كدُهْن البان، وليس دُهنَ زهره، بل دُهن يُستخرج من حبٍّ أبيض
أغبرَ نحو الفُسْتق، كثيرِ الدُّهنية والدسم، ينفع من صلابة العصب، ويُليِّنه،
وينفع من البَرَش، والنَّمَش، والكَلَفِ، والبَهَقِ، ويُسَهِّلُ بلغماً غليظاً،
ويُلين الأوتار اليابسة، ويُسخِّن العصب، وقد رُوى فيه حديث باطل مختلَق لا أصل
له: "ادَّهِنُوا بالبانِ، فإنه أحظى لكم عند نسائكم".ومن منافعه أنه
يَجلو الأسنان، ويُكسبَها بهجةً، ويُنَقِّيَها من الصدأ، وَمَن مسح به وجهَه
وأطرافه لم يُصبه حصىً ولا شُقاق، وإذا دهن به حِقْوَه ومذَاكِيره وما والاها، نفع
من برد الكُليَتَين، وتقطير البَوْل.
حرف الذال
ذَرِيرَةٌ: ثبت فى "الصحيحين": عن عائشة رضى الله عنها قالت:
"طَيَّبتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدى، بذَرِيرَةٍ فى
حَجَّةِ الوَدَاع لِحَلِّه وإحرامِهِ".
تقدم الكلام فى الذَّريرة ومنافعها وماهِيتها، فلا حاجة لإعادته.
ذُبَابٌ: تقدَّم فى حديث أبى هريرة المتفق عليه فى أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِغَمْسِ الذُّباب فى الطعام إذا سقط فيه لأجل الشِّفَاء الذى فى جناحه،
وهو كالتِّرْياق للسُّمِّ الذى فى الجناح الآخر، وذكرنا منافع الذُّباب هناك.
ذَهَبٌ: روى أبو داود،
والترمذى: "أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّص
لعَرْفَجَةَ ابن أسعدَ لَمَّا قُطع أنفُهُ يومَ الكُلاب، واتَّخَذَ أنفاً من
وَرِقٍ، فأَنْتَن عليه، فأمَرَه النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
يَتَّخِذَ أنفاً من ذَهبٍ". وليس لعَرْفَجَةَ عندهم غيرُ هذا الحديث الواحد.
الذهبُ: زينةُ الدنيا، وطِلَّسْمُ الوجود، ومفرِّح النفوس، ومقوِّى الظُّهور،
وسِرُّ اللهِ فى أرضه، ومزاجُه فى سائر الكيفيات، وفيه حرارةٌ لطيفة تدخل فى سائر
المعجونات اللطيفة والمفرحات، وهو أعدل المعادن على الإطلاق وأشرفُها.
ومن خواصه أنه إذا دُفِنَ فى الأرض، لم يضره الترابُ، ولم يَنقُصه شيئاً،
وبُرَادتُهُ إذا خُلِطت بالأدوية، نفعتْ من ضعف القلب، والرَّجَفَان العارض من
السوداء، وينفع من حديث النَفْس، والحزن، والغم، والفزع، والعشق، ويُسمِّن البدن،
ويُقوِّيه، ويُذهب الصفار، ويُحسِّنِ اللَّون، وينفع من الجُذَام، وجميعِ الأوجاعِ
والأمراض السَّوْدَاوِيَّةِ، ويَدخل بخاصيَّة فى أدوية داء الثعلب، وداء الحية
شُرباً وطِلاءً، ويجلو العَيْن ويُقوِّيها، وينفع من كثير من أمراضها، ويُقوِّى
جميع الأعضاء.
وإمساكُهُ فى الفم يُزيل البَخر، وَمَن كان به مرض يَحتاج إلى الَكىِّ، وكُوِىَ
به، لم يتنفطْ موضِعُهُ، وَيَبرأْ سريعاً، وإن اتَّخذ منه ميلاً واكتَحَلَ به،
قَوَّى العَيْن وجَلاها، وإن اتَّخذ منه خاتمٌ فَصُّه منه وأُحمىَ، وكُوِىَ
به قَوَادِمُ أجنحةِ الحمَام،
ألِفَتْ أبراجَها، ولم تنتقِلْ عنها.
وله خاصيَّة عجيبة فى تقوية النفوس، لأجلِها أُبِيحَ فى الحرب والسِّلاحِ منه ما
أُبيح، وقد روى الترمذى من حديث مَزِيدَة العَصَرى رضى الله عنه، قال: دخل رسولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الفَتْح، وعلى سيفِهِ ذَهَبٌ
وفِضةٌ.
وهو معشوقُ النفوس التى متى ظَفِرَتْ به، سلاها عن غيره من محبوباتِ الدنيا، قال
تعالى :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
المُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ}[آل عمران: 14].
وفى "الصحيحين": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لو كان لابنِ آدَمَ وادٍ من ذَهبٍ لابْتَغَى إليه ثانياً، ولو كان له ثانٍ،
لابتَغَى إليه ثالثاً، ولا يَملأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إلاَّ التُّرَابُ، وَيتوبُ
اللهُ عَلى مَن تابَ".
هذا وإنه أعظم حائلٍ بيْنَ الخلِيقةِ وبيْنَ فوزِهَا الأكبر يومَ مَعَادها، وأعظمُ
شىء عُصِىَ اللهُ به، وبه قُطِعَتِ الأرحامُ، وأُرِيقتِ الدِّماءُ، واستُحِلَّتِ
المحارمُ، ومُنِعَتِ الحقوق، وتَظَالَمَ العباد، وهو المُرَغِّب فى الدنيا
وعاجِلِها، والْمزَهِّد فى الآخرة وما أعدَّه اللهُ لأوليائه فيها، فكم أُمِيتَ به
من حقٍّ، وأُحيِىَ به من باطلٍ، ونُصِرَ به ظالمٌ، وقُهِرَ به مظلومٌ. وما أحسن ما
قال فيه الحَرِيرىُّ:
تَبَّاً لَهُ مِنْ خَادِعٍ
مُمَاذِقِ ... أصْفَرَ ذِى وَجْهَيْنِ كالْمُنَافِقِ
يَبْدُو بوَصْفَيْنِ لِعَينِ الرَّامِقِ ... زِينَة مَعشُوقٍ وَلَوْنِ عاشِقِ
وَحُبُّهُ عِنْدَ ذَوِى الْحَقَائِقِ ... يَدْعُو إلى إرْتِكَابِ سُخْطِ الْخالِقِ
لَوْلاَهُ لَمْ تُقْطَعْ يَمينُ السَّارِقِ ... وَلاَ بَدَتْ مَظْلِمَةٌ من فاسِقِ
وَلاَ اشْمأَزَّ باخِلٌ مِنْ طَارِقِ ... وَلاَ اشتكى الْمَمْطُولُ مَطْلَ
الْعَائِقِ
وَلا اسْتُعِيذَ من حَسُودٍ رَاشِقِ ... وَشَرُّ ما فِيهِ مِنَ الْخَلاَئِقِ
أنْ ليْسَ يُغْنِى عَنْكَ فى الْمَضَايِقِ ... إلاَّ إذَا فَرَّ فِرَارَ الآبقِ
حرف الراء
رُطَبٌ: قال الله تعالى لمريَمَ: {وَهُزِّى إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى
عَيْناً}[مريم: 25].
وفى "الصحيحين" عن عبد الله بن جعفر، قال: " رأيتُ رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُلُ القِثَّاءَ بالرُّطَبِ ".
وفى "سنن أبى داود"، عن أنس قال: "كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُفْطِرُ على رُطَباتٍ قَبْلَ أن يُصَلِّىَ، فإنْ لم تكُنْ رُطباتٍ
فتمراتٍ، فإن لم تكن تَمَراتٍ، حَسَا حسْوَاتٍ من ماءٍ".
طبْعُ الرُّطَبِ طبعُ المياه
حار رَطب، يُقوِّى المعدة الباردة ويُوافقها، ويزيد فى الباه، ويُخصِبُ البدنَ،
ويوافق أصحابَ الأمزجة الباردة، ويَغذُو غِذاءً كثيراً.
وهو مِن أعظم الفاكهة موافقةً لأهلِ المدينة وغيرِها من البلاد التى هو فاكهتُهم
فيها، وأنفعها للبدن، وإن كان مَن لم يَعْتَدْهُ يُسرعُ التعفُّن فى جسده،
ويَتولَّدُ عنه دم ليس بمحمود، ويحدث فى إكثاره منه صُدَاعٌ وسوداءٌ، ويُؤذى
أسنانه، وإصلاحُه بالسَّكنْجَبِين ونحوه.
وفى فِطر النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصوم عليه، أو على التمر،
أو الماء تدبيرٌ لطيفٌ جداً، فإن الصوم يُخلى المعدة من الغذاء، فلا تَجِدُ الكبدُ
فيها ما تَجذِبُه وتُرسله إلى القُوَى والأعضاء، والحلوُ أسرع شىء وصولاً إلى
الكبد، وأحبُّه إليها، ولا سِيَّما إن كان رطباً، فيشتدُّ قبولها له، فتنتفع به هى
والقُوَى، فإن لم يكن، فالتمرُ لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن، فحسواتُ الماء تُطفىء
لهيبَ المعدة، وحرارة الصوم، فتنتبهُ بعده للطعام، وتأخذه بشهوة.
رَيْحانٌ: قال تعالى: {فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}[الواقعة: 88]. وقال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن: 12]
وفى "صحيح مسلم" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَن عُرِضَ عليه رَيْحَانٌ، فَلا يَرُدَّهُ، فإنَّه خَفيفٌ المَحْمِلِ
طَيِّبُ الرَّائِحَةِ".
وفى "سنن ابن ماجه": من حديث أُسامةَ رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ألا مُشَمِّرٌ للجَنَّةِ، فإنَّ
الجَنَّةَ لا خَطَرَ لها، هى وربِّ الكَعْبَةِ،
نُورٌ يَتَلأْلأُ،
وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وقَصْرٌ مَشِيدٌ، ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ
نَضِيجَةٌ، وَزَوْجةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلةٌ، وحُلَلٌ كثيرةٌ فِى مَقَامٍ أَبَداً، فى
حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، فى دُورٍ عالية سليمة بهيَّة" ، قالوا: نعمْ يا رسول
الله، نحن المشمِّرون لها، قال: "قولوا: إنْ شاء الله تعالى"، فقال
القوم: إنْ شاء الله.
الرَّيحان كلُّ نبت طيِّب الريح، فكلُّ أهل بلد يخصونه بشىء من ذلك، فأهلُ الغرب
يخصونه بالآس، وهو الذى يعرِفُه العرب من الرَّيحان، وأهلُ العراق والشام يخصُّونه
بالحَبَق.
فأما الآسُ، فمزاجُه بارد فى الأُولى، يابس فى الثانية، وهو مع ذلك مركَّب من
قُوَى متضادة، والأكثرُ فيه الجوهرُ الأرضىُّ البارد، وفيه شىءٌ حار لطيف، وهو
يُجفِّف تجفيفاً قوياً، وأجزاؤه متقاربةُ القُوَّة، وهى قوةٌ قابضة حابسة من داخل
وخارج معاً.
وهو قاطع للإسهال الصفراوىّ، دافع للبخار الحار الرَّطب إذا شُمَّ، مفرِّح للقلب
تفريحاً شديداً، وشمُّه مانع للوباء، وكذلك افتراشُه فى البيت.
ويُبرىء الأورام الحادثة فى الحالِبَيْن إذا وُضع عليها، وإذا دُقَّ ورقُه وهو
غَضٌ وضُرِبَ بالخل، ووُضِعَ على الرأس، قطع الرُّعاف، وإذا سُحِقَ ورقه اليابس،
وذُرَّ على القروح ذواتِ الرطوبة نفعها، ويُقوِّى الأعضاء الواهية إذا ضُمِّدَ به،
وينفع داء الداحِس، وإذا ذُرَّ على البثورِ والقروحِ التى فى اليدين والرِّجْلين،
نفعها.
وإذا دُلِكَ به البدنُ قطع العَرَق، ونشَّفَ الرطوباتِ الفضلية، وأذهب
نَتْنَ الإبط، وإذا جُلس فى
طبيخه، نفع من خراريج المَقْعدة والرَّحم، ومن استرخاء المفاصل، وإذا صُبَّ على
كسور العِظام التى لم تَلتحِمْ، نفعها.
ويجلو قشورَ الرأس وقروحَه الرَّطبة، وبُثورَه، ويُمسِكُ الشعر المتساقط
ويُسَوِّدُه، وإذا دُقَّ ورقُه، وصُبَّ عليه ماء يسير، وخُلِطَ به شىءٌ من زيت أو
دُهن الورد، وضُمِّدَ به، وافق القُروح الرَّطبة والنملة والحُمْرة، والأورام
الحادة، والشرى والبواسير.
وحَبُّه نافع من نفْث الدم العارض فى الصدر والرِّئة، دابغٌ للمَعِدَة وليس بضارٍّ
للصدر ولا الرئة لجلاوته، وخاصيتُه النفعُ من اسْتِطلاق البطن مع السُّعال، وذلك
نادر فى الأدوية، وهو مُدِرٌ للبَوْل، نافع من لذع المثانة، وعضِّ الرُّتَيْلاء،
ولسْع العقارب، والتخلل بعِرْقه مُضِر، فليُحذَر.
وأما الرَّيحانُ الفارسىُّ الذى يُسمَّى الحَبَق، فحارٌ فى أحد القولين، ينفع
شمُّه من الصُّداع الحار إذا رُشَّ عليه الماء، ويبرد، ويرطب بالعرض، وباردٌ فى
الآخر، وهل هو رطب أو يابس ؟ على قولين. والصحيحُ: أنَّ فيه من الطبائع الأربع،
ويَجْلِبُ النوم، وبزره حابس للإسهال الصفراوىِّ، ومُسَكِّن للمغص، مُقَوٍّ للقلب،
نافع للأمراض السوداويَّة.
رُمَّانٌ: قال تعالى :{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن: 68]
ويُذكر عن ابن عباس موقوفاً ومرفوعاً: "ما مِن رُمَّانٍ من رُمَّانِكم هذا
إلا وهو مُلقَّحٌ بحبَّةٍ من رُمَّانِ الجَنَّةِ" والموقوفُ أشْبَهُ. وذكر
حَربٌ وغيره عن علىٍّ أنه قال: "كُلُوا الرُّمَّانَ بِشحْمِه، فإنه دباغُ
المَعِدَةِ".
حلوُ الرُّمَّان حار رطب، جيدٌ للمَعِدَة، مقوٍ لها بما فيه من قبْضٍ لطيف، نافع
للحلق والصدر والرِّئة، جيدٌ للسُّعال، وماؤه مُلَيِّن للبطن، يَغْذى البدن غِذاءً
فاضلاً يسيراً، سريعُ التحلُّل لرِّقَّته ولطافته، ويُولِّد حرارة
يسيرة فى المعدة وريحاً، ولذلك
يُعين على الباه، ولا يصلح للمَحْمُومين، وله خاصيَّة عجيبة إذا أُكل بالخبز يمنعه
من الفساد فى المعدة.وحامضه بارد يابس، قابض لطيف، ينفع المَعِدَة الملتهبة،
ويُدِرُّ البَوْل أكثرَ من غيره من الرُّمَّان، ويُسكِّنُ الصَّفْراء، ويقطع
الإسهال، ويمنع القىء، ويُلطِّف الفضول، ويُطفىءُ حرارة الكبد، ويُقَوِّى الأعضاء،
نافع من الخَفَقان الصَّفراوى، والآلام العارضة للقلب، وفم المعدة، ويُقوِّى
المَعِدَة، ويدفع الفُضول عنها، ويُطفئُ المِرَّة الصفراء والدم
وإذا استُخرجَ ماؤه بشَحْمه، وطُبِخَ بيسير من العسل حتى يصير كالمرهم، واكتُحِلَ
به، قطع الصفرة من العَيْن، ونقَّاها من الرطوبات الغليظة، وإذا لُطخ على
اللِّثَة، نفع من الأَكلة العارضة لها، وإن استُخرج ماؤهما بشحمهما، أطلَق البطن،
وأحْدَر الرُّطوباتِ العَفِنَةَ المُرِّية، ونفع مِن حُميَّات الغب المُتطاوِلة.
وأما الرُّمَّان المزُّ، فمتوسط طبعاً وفعلاً بين النوعين، وهذا أمْيَلُ إلى لطافة
الحامض قليلاً، وحَبُّ الرُّمَّان مع العسل طِلاءٌ للداحِس والقروح الخبيثة،
وأقماعُه للجراحات، قالوا: ومَن ابتلع ثلاثةً من جُنبُذِ الرُّمَّان فى كل سنة،
أمِنَ مِنَ الرَّمد سنته كلَّها.
حرف الزاي
زَيْتٌ: قال تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا
شَرْقِيَّةٍ وَلاَ
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}[النور: 35]
وفى الترمذىِّ وابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كُلُوا الزَّيتَ وادَّهِنُوا به، فإنَّه من
شَجَرَةٍ مُبَارَكةٍ".
وللبَيْهَقِى وابن ماجه أيضاً: عن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتَدِمُوا بالزَّيتِ، وادَّهِنُوا به،
فإنه من شَجَرَةٍ مُبَارَكةٍ".
الزَّيْتُ حار رطب فى الأُولى، وغَلِط مَن قال: يابسٌ، والزَّيت بحسب زيتونه،
فالمعتصَرُ من النَّضيج أعدلُه وأجوده، ومن الفَجِّ فيه برودةٌ ويُبوسة، ومن
الزيتون الأحمر متوسطٌ بين الزَّيتَيْن، ومن الأسود يُسخِّن ويُرطِّب باعتدال،
وينفع من السُّموم، ويُطلق البطن، ويُخرج الدود، والعتيقُ منه أشد تسخيناً
وتحليلاً، وما استُخْرِجَ منه بالماء، فهو أقلُّ حرارةً، وألطفُ وأبلغ فى النفع،
وجميعُ أصنافه مليِّنة للبَشْرة، وتُبطىءُ الشَيْب.
وماء الزَّيتون المالح يمنع من تنفُّط حرق النار، ويَشُد اللِّثَةَ، وورقهُ ينفع
من الحُمرة، والنَّملة، والقُروح الوَسِخة، والشَّرَى، ويمنع العَرَق، ومنافعه
أضعاف ما ذكرنا.
زُبْدٌ: روى أبو داود فى "سننه"، عن ابنَىْ بُسْرٍ السُّلَميَّيْن رضى
الله عنهما، قالا: دخل علينا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فقدَّمنا له زُبداً وتمراً، وكان يُحِبُّ الزُّبدَ والتَّمْرَ.
الزُّبد حار رطب، فيه منافعُ
كثيرة، منها الإنضاجُ والتحليل، ويُبرىء الأورامَ التى تكون إلى جانب الأُذُنَيْن
والحالِبَيْن، وأورام الفم، وسائر الأورام التى تَعرِضُ فى أبدان النِّساء
والصبيان إذا استُعمِلَ وحده، وإذا لُعِقَ منه، نفع في نفْث الدَّم الذى يكون مِن
الرئة، وأنضَجَ الأَورام العارضة فيها
وهو مُلَيِّن للطبيعة والعصب والأورام الصلبة العارضة من المِرَّة السوداء
والبلغم، نافعٌ من اليُبس العارض فى البدن، وإذا طُلِىَ به على منابت أسنان الطفل،
كان معيناً على نباتها وطلوعها، وهو نافع من السُّعال العارض من البرد واليبس،
ويُذهب القُوباء والخشونة التى فى البدن، ويُلَيِّن الطبيعة، ولكنه يُضْعف شهوة
الطعام، ويذهب بوخامته الحلو، كالعسل والتمر، وفى جمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بين التمر وبينه من الحكمة إصلاحُ كل منهما بالآخر
.زَبيبٌ: رُوى فيه حديثان لا يَصِحَّان. أحدهما: "نِعْمَ الطعامُ الزَّبِيبُ
يُطيِّبُ النَّكْهَةَ، ويُذيبُ البلغم". والثانى: "نِعْمَ الطعامُ
الزَّبيبُ يُذهبُ النَصَبَ، ويَشُدُّ العَصَبَ، ويُطفىء الغضَبَ، ويُصفِّى
اللَّونَ، ويُطيِّبُ النَّكْهةَ". وهذا أيضاً لا يصح فيه شىء عن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وبعد.. فأجودُ الزَّبيب ما كَبُر جسمه، وسَمِن
شحمه ولحمه، ورَقَّ قشره، ونُزِع عَجَمُه، وصَغُرَ حَبُّه.وجُرْم الزبيب حارٌ رطب
فى الأُولى، وحَبُّه بارد يابس، وهو كالعنب المتَّخَذ منه: الحلوُ منه حار،
والحامضُ قابض بارد، والأبيضُ أشد قبضاً من غيره، وإذا أُكِلَ لحمُه، وافق قصبة
الرِّئة، ونفع من السُّعال، ووجع الكُلَى، والمثَانة، ويُقَوِّى المَعِدَة،
ويُلَيِّن البَطْن.
والحلو اللَّحمِ أكثرُ غِذَاءً
مِن العنب، وأقلُّ غِذاءً من التِّين اليابس، وله قوةٌ منضِجة هاضمة قابضة محلِّلة
باعتدال، وهو بالجملة يُقَوِّى المَعِدَة والكَبِد والطِّحال، نافعٌ من وجع الحلق
والصدر والرِّئة والكُلَى والمثانة، وأعدلُه أن يؤكل بغير عَجَمه.
وهو يُغذِّى غِذاءً صالحاً، ولا يسدِّد كما يفعل التَّمَرُ، وإذا أُكل منه
بعَجَمِه كان أكثر نفعاً للمَعِدَة والكَبِدْ والطِّحال، وإذا لُصِقَ لحمُه على
الأظافير المتحركة أسرع قلعَها، والحلوُ منه وما لا عَجَمَ له نافعٌ لأصحاب
الرُّطوبات والبلغم، وهو يُخصب الكَبِدَ، وينفعُها بخاصيَّته.
وفيه نفعٌ للحفظ: قال الزُّهْرى: مَن أحبَّ أن يحفظ الحديث، فليأكل الزبيبَ. وكان
المنصور يذكر عن جده عبد الله بن عباس: عَجَمُه داء، ولحمُه دواء.
زَنْجَبِيلٌ: قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلاً}[الإنسان:17]
وذكر أبو نُعيم فى كتاب "الطب النبوى" من حديث أبى سعيد الخُدرىّ رضى
الله عنه قال: أهدى ملك الرُّوم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَرَّةَ زَنجبيلٍ، فأطعمَ كلَّ إنسان قطعة، وأطعمنى قطعة.
الزنجبيل حارٌ فى الثانية، رطب فى الأُولى، مُسْخِّن مُعين على هضم الطعام،
مُلَيِّن للبطن تلييناً معتدلاً، نافع من سدد الكَبِدِ العارِضةِ عن البرد
والرُّطوبة، ومن ظُلمة البصر الحادثة عن الرُّطوبة أكلاً واكتحالاً، مُعين على
الجِمَاع، وهو مُحلِّل للرياح الغليظة الحادثة فى الأمعاء والمَعِدَة.
وبالجملة.. فهو صالح للكَبِد والمَعِدَة الباردتَى المزاج، وإذا أُخِذَ منه مع
السكر وزنُ درهمين بالماء الحار، أسهلَ فُضولاً لَزِجَةً لُعابية، ويقع فى
المعجونات التى تُحلِّل البلغم وتُذيبه.
والمُزِّىُّ منه حارٌ يابس
يهيج الجِمَاع، ويزيدُ فى المَنِىِّ، وُيسخِّن المَعِدَة والكَبِد، ويُعين على
الاستمراء، ويُنشِّف البلغم الغالب على البدن، ويزيد فى الحفظ، ويُوافق برْدَ
الكَبِد والمَعِدة، ويُزيل بلتها الحادثة عن أكل الفاكهة، ويُطيِّب النَّكْهة،
ويُدفع به ضرر الأطعمة الغليظة الباردة.
حرف السين
سَنا: قد تقدَّم، وتقدَّم "سَنُّوت" أيضاً، وفيه سبعة أقوال:
أحدها: أنه العسل. الثانى: أنه رُبُّ عُكَّة السَّمْن يخرج خططاً سوداءَ على
السَّمْن. الثالث: أنه حَبٌ يُشبه الكَمُّون، وليس بكمون. الرابع: الكمونُ
الكِرَمْانىُّ. الخامس: أنه الشِّبِتُّ. السادس: أنه التَّمْر. السابع: أنه
الرَّازْيَانج.
سَفَرْجَلٌ: روى ابن ماجه فى "سننه": من حديث إسماعيل ابن محمد الطلحى،
عن نقيب بن حاجب، عن أبى سعيدِ، عن عبد الملك الزُّبيرى، عن طلحة بن عُبيد الله
رضى الله عنه قال: دخلتُ على النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيدِه
سَفَرْجَلة، فقال: "دُونَكَها يا طَلْحَةُ، فإنها تُجِمُّ الفُؤادَ".
ورواه النسائىٌّ من طريق آخرَ، وقال: "أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو فى جماعةٍ من أصحابه، وبيده سفرجلة يُقلِّبُها، فلمَّا جلستُ إليه،
دحَا بها إِلىّ ثم قال:
"دُونَكَها أبا ذَرٍ؛
فإنَّها تَشُدُّ القَلْبَ، وتُطيِّبُ النَّفْسَ، وتَذهَبُ بِطَخَاءِ
الصَّدْرِ"
وقد رُوى فى السفرجل أحاديثُ أُخر، هذه أمثَلُها، ولا تصح.
والسفرجل بارد يابس، ويختلفُ فى ذلك باختلاف طعمه، وكلُّه بارد قابض، جيد
للمَعِدَة، والحلوُ منه أقلُّ برودة ويُبساً، وأمْيَلُ إلى الاعتدال، والحامِضُ
أشدُّ قبضاً ويُبساً وبرودة، وكُلُّه يُسَكِّن العطشَ والقىء، ويُدِرُّ البَوْل،
ويَعقِلُ الطبع، وينفع من قرحة الأمعاء، ونفْث الدَّم، والهيْضَة، وينفعُ من
الغَثَيان، ويمنع من تصاعُدِ الأبخرة إذا استُعْمِلَ بعد الطعام، وحُرَاقةُ أغصانه
وورقه المغسولة كالتوتياء فى فعلها.
وهو قبل الطعام يقبض، وبعده يُليِّن الطبع، ويُسرع بانحدار الثفل، والإكثارُ منه
مُضِرٌ بالعصب، مُولِّد للقُولَنْج، ويُطْفىء المِرَّة الصفراء المتولدة فى
المعدة.
وإن شُوِىَ كان أقلَّ لخشونته، وأخفَّ، وإذا قُوِّرَ وسطُه، ونُزِعَ حبُّه،
وجُعِلَ فيه العسلُ، وَطُيِّنَ جُرمُه بالعجين، وأُودِع الرماد الحارَّ، نفع نفعاً
حسناً.
وأجودُ ما أُكِلَ مشوياً أو مطبوخاً بالعسل، وحَبُّه ينفع من خشونة الحلق، وقصبة
الرِّئة، وكثير من الأمراض، ودُهنه يمنع العَرَق، ويُقَوِّى المَعِدَة، والمربَّى
منه يُقَوِّى المَعِدَة والكَبِد، ويشد القلب، ويُطيِّب النَّفَس.
ومعنى تُجِمُّ الفؤاد: تُريحه. وقيل: تفتحُه وتوسعه، مِن جمام الماءِ، وهو اتساعه
وكثرته، والطَّخاء للقلبُ مِثلُ الغَيْم على السماء. قال أبو عُبيدٍ: الطَّخاء
ثِقَلٌ وغَشْى، تقول: ما فى السماء طخاءٌ، أى: سحابٌ وظُلمة.
سِوَاكٌ: فى
"الصحيحين" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلا أن
أَشُقَّ على أُمَّتى لأَمَرْتُهُمْ بالسِّواكِ عند كُلِّ صلاةٍ ".
وفيهما: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قامَ من اللَّيل يَشُوصُ
فَاهُ بالسِّوَاكِ.
وفى "صحيح البخارى" تعليقاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ".
وفى "صحيح مسلم": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا دَخَلَ
بيته، بدأ بِالسِّوَاكِ.
والأحاديثُ فيه كثيرة، وصَحَّ عنه من حديث أنه استاك عند موته بسواك عبد الرحمن بن
أبى بكر، وصَحَّ عنه أنه قال: "أكْثَرْتُ عَلَيْكُم فى السِّوَاكِ".
وأصلح ما اتُخِذَ السِّواكُ من خشب الأراك ونحوه، ولا ينبغى أن يُؤخذ من شجرة
مجهولة، فربما كانت سُماً، وينبغى القصدُ فى استعماله، فإن بالغ فيه، فربما أذهب
طَلاَوةَ الأسنان وصقالتها، وهيأَها لقبولِ الأبخرة
المتصاعدة من المَعِدَة
والأوساخ، ومتى استُعمل باعتدال، جلا الأسنان، وقوَّى العمود، وأطلق اللِّسَان،
ومنع الحَفَر، وطيَّب النَّكهة، ونقَّى الدِّمَاغ، وشَهَّى الطَّعام.
وأجود ما استُعمل مبلولاً بماء الورد، ومن أنفعه أُصولُ الجَوْز. قال صاحب
"التيسير": "زعموا أنه إذا استاك به المستاك كلَّ خامسٍ من الأيام،
نقَّى الرأس، وصفَّى الحواسَّ، وأحَدَّ الذهنَ"
وفى السِّوَاك عدة منافع: يُطيِّب الفم، ويشد اللِّثَةَ، ويقطع البلغم، ويجلو
البصرَ، ويُذهب بالحَفَر، ويُصحُّ المَعِدَة، ويُصفِّى الصوت، ويُعين على هضم
الطعام، ويُسَهِّل مجارى الكلام، ويُنَشِّطُ للقراءة، والذِّكر والصلاة، ويطرُد
النوم، ويُرضى الرَّبَّ، ويُعْجِبُ الملائكة، ويُكثر الحسنات.
ويُستحَبُّ كلَّ وقت، ويتأكد عند الصلاة والوضوء، والانتباهِ من النوم، وتغيير
رائحة الفم، ويُستَحب للمفطر والصائم فى كل وقت لعموم الأحاديث فيه، ولحاجة الصائم
إليه، ولأنه مرضاةٌ للرَّبِّ، ومرضاتُه مطلوبة فى الصوم أشدَّ من طلبِها فى
الفِطر، ولأنه مَطْهَرَةٌ للفم، والطهور للصائم من أفضل أعماله.
وفى "السنن": عن عامر بن ربيعة رضى الله عنه، قال: رأيتُ رسولَ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا أُحْصى يَستاكُ، وهو صائمٌ.
وقال البخارىُّ: قال ابن عمرَ: يستاكُ أول النَّهار وآخره.
وأجمع الناسُ على أنَّ الصائم يتمضمض وجوباً واستحباباً، والمضمضةُ
أبلغُ مِنَ السِّواك، وليس لله
غرضٌ فى التقرُّب إليه بالرائحة الكريهة، ولا هى من جنس ما شُرِعَ التعبُّدُ به،
وإنما ذكر طِيب الخُلوف عند الله يوم القيامة حثّاً منه على الصوم؛ لا حثاً على
إبقاء الرائحة، بل الصائمُ أحوجُ إلى السِّوَاك من المْفطرِ.
وأيضاً فإنَّ رضوان الله أكبرُ من استطابتِه لخلوف فم الصائم.
وأيضاً فإنَّ محبَّته للسِّوَاك أعظمُ من محبته لبقاء خُلوف فم الصائم.
وأيضاً فإنَّ السِّوَاك لا يمنعُ طيبَ الخُلُوفِ الذى يُزيله السِّوَاكُ عند الله
يوم القيامة، بل يأتى الصائمُ يوم القيامة، وخُلوفُ فمِه أطيبُ من المسك علامةً
على صيامه، ولو أزاله بالسِّوَاك، كما أنَّ الجريحَ يأتى يوم القيامة، ولونُ دم
جُرحه لونُ الدم، وريحُه ريحُ المسك، وهو مأمور بإزالته فى الدنيا.
وأيضاً فإنَّ الخُلوف لا يزولُ بالسِّوَاك، فإنَّ سبَبَه قائم، وهو خُلو المَعِدَة
عن الطعام، وإنما يزولُ أثره، وهو المنعقِدُ على الأسنان واللِّثَة.
وأيضاً فإنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم أُمَّته ما
يُسْتَحب لهم فى الصيام، وما يُكره لهم، ولم يجعلِ السِّوَاكَ من القسم المكروه،
وهو يعلم أنهم يفعلونه، وقد حضَّهم عليه بأبلغ ألفاظِ العموم والشمول، وهم
يُشاهدونه يَستاك وهو صائم مراراً كثيرة تَفُوتُ الإحصاء، ويعلم أنهم يقتدون به،
ولم يقل لهم يوماً من الدهر: لا تستاكوا بعد الزوال، وتأخير البيان عن وقت الحاجة
ممتنع.. والله أعلم.
سَمْنٌ: روى محمد بن جرير الطبرى بإسناده، من حديث صُهيب يرفعُه "عليكم
بألبان البقَرِ، فإنها شفاءٌ، وسَمْنُها دَواءٌ، ولُحومُها داء" رواه عن أحمد
بن الحسن الترمذى، حدَّثنا محمد ابن موسى النسائى، حدَّثنا
دَفَّاع ابن دَغْفَلٍ
السَّدوسى، عن عبد الحميد بن صَيفى بن صُهيب، عن أبيه، عن جده، ولا يثبت ما فى هذا
الإسناد.
والسمن حار رطب فى الأُولى، وفيه جِلاء يسير، ولطافة وتفشية الأورام الحادثة مِن
الأبدان الناعمة، وهو أقوى من الزُّبد فى الإنضاج والتليين، وذكر "جالينوس":
أنه أبرأ به الأورامَ الحادثة فى الأُذن، وفى الأرنبة، وإذا دُلِكَ به موضعُ
الأسنان، نبتت سريعاً، وإذا خُلِطَ مع عسل ولَوْزٍ مُرٍّ، جلا ما فى الصدر والرئة،
والكَيموساتِ الغليظة اللَّزِجة، إلا أنه ضار بالمَعِدَة، سِيَّما إذا كان مزاجُ
صاحبها بلغمياً.
وأما سمن البقر والمَعِزِ، فإنه إذا شُرِبَ مع العسل نفع من شرب السُّمِّ القاتل،
ومِن لدغ الحيَّات والعقارب، وفى كتاب ابن السُّنى: عن على بن أبى طالب رضى الله
عنه قال: لم يَسْتشفِ الناسُ بشىءٍ أفضل مِنَ السمن.
سَمَكٌ: روى الإمام أحمد بن حنبل، وابن ماجه فى "سننه": من حديث عبد
الله بن عمر، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
"أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتانِ ودَمَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، والكَبِدُ
والطِّحَالُ".
أصنافُ السَّمَك كثيرة، وأجودُه ما لذَّ طعمه، وطابَ ريحُه، وتوسَّط مقدارُه، وكان
رقيقَ القشر، ولم يكن صلبَ اللَّحم ولا يابسه، وكان فى ماءٍ عذب جارٍ على الحصباء،
ويتغذَّى بالنبات لا الأقذار، وأصلح
أماكنه ما كان فى نهر جيد
الماء، وكان يأوِى إلى الأماكن الصخرية، ثم الرملية، والمياه الجارية العذبة التى
لا قذرَ فيها، ولا حمأة، الكثيرة الاضطراب والتموج، المكشوفة للشمس والرِّياح.
والسَّمَك البحرى فاضل، محمود، لطيف، والطرى منه بارد رطب، عَسِر الانهضام،
يُولِّد بلغماً كثيراً، إلا البحرىَ وما جرى مجراه، فإنه يُولِّد خلطاً محموداً،
وهو يُخْصِبُ البدن، ويزيد فى المَنِىِّ، ويُصلح الأمزجة الحارة.
وأما المالح، فأجودُه ما كان قريبَ العهد بالتملُّح، وهو حار يابس، وكلما تقادم
عهدُه ازداد حرُّه ويبسه، والسِّلور منه كثير اللزوجة، ويسمى الجِرِّىَّ، واليهودُ
لا تأكله. وإذا أُكِلَ طريٍّا، كان مليِّناً للبطن، وإذا مُلِّحَ وعتق وأُكِلَ،
صفَّى قصبة الرئة، وجوَّد الصوتَ، وإذا دُقَّ وَوُضِعَ مِن خارجٍ، أخرج السَّلَى
والفضول من عُمق البدن من طريق أنَّ له قوة جاذبة.
وماء ملح الجِرِّىِّ المالح إذا جلسَ فيه مَن كانت به قرحة الأمعاء فى ابتداء
العِلَّة، وافقه بجذبه الموادَّ إلى ظاهر البدن، وإذا احتُقِنَ به، أبرأ من عِرْق
النَّسَا.
وأجودُ ما فى السَّمَك ما قرُب من مؤخرها، والطرىُّ السمين منه يُخصب البدن لحمُه
ووَدَكُه.
وفى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال:
"بعثنا النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ثلاثمائة راكب،
وأميرُنا أبو عُبيدة بن الجرَّاح، فأتينا الساحِلَ، فأصابنا جوعٌ شديد، حتى أكلنا
الخَبَطَ، فألقى لنا البحرُ
حوتاً يقال لها: عنبر، فأكلنا منه نِصفَ شهرٍ، وائتدمنا بوَدَكِه حتى ثابت
أجسامُنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، وحمل رَجُلاً على بعيره، ونصبه، فمرَّ
تحته".
سِلْقٌ: روى الترمذىُّ وأبو داود، عن أُمِّ المُنذِر، قالت: دخل علىَّ رسولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه على رضى الله عنه، ولنا دَوَالٍ معلَّقةٌ،
قالت
: فجعل رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكُلُ وعلىٌ معه يأكُلُ،
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَهْ يا علىُّ فإنَّكَ
ناقِهٌ" ، قالت: فجعلتُ لهم سِلْقاً وشعيراً، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا علىُّ؛ فأصِبْ من هذا، فإنه أوفَقُ لَكَ". قال
الترمذىُّ: حديثٌ حسن غريب.
السِّلق حار يابس فى الأُولى، وقيل: رطب فيها، وقيل: مُرَكَّبٌ منهما، وفيه برودةٌ
ملطِّفة، وتحليلٌ، وتفتيحٌ. وفى الأسود منه قبضٌ ونفعٌ من داء الثعلب، والكَلَف،
والحَزَارِ، والثآليل إذا طُلِىَ بمائه، ويقتل القمل، ويُطلَى به القُوَبَاء مع
العسل، ويفتح سُدَدَ الكَبِدِ والطِّحال.
وأسودُه يَعقِلُ البطن، ولا سِيَّما مع العدس، وهما رديئان، والأبيضُ: يُلَيِّن مع
العدس، ويُحْقَن بمائه للإسهال، وينفع من القُولَنْج مع المَرِىِّ والتَّوَابِل
وهو قليل الغذاء، ردىء الكَيْمُوس، يحرق الدمَ، ويُصلحه الخل والخَرْدَل، والإكثار
منه يُولِّد القبض والنفخ.
حرف الشين
شُونيزٌ: هو: الحبَّة السوداء، وقد تقدَّم فى حرف الحاء.
شُبْرُمٌ: روى الترمذىُّ وابن ماجه فى
"سننهما": من حديث أسماء بنت عُمَيْس، قالت: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: "بماذا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ" ؟ قالت: بالشُّبْرُمِ. قال: "حارٌ
جارٌ".
الشُّبْرُمُ شجر صغير وكبير، كقامة الرجل وأرجح، له قُضبانٌ حُمر ملمَّعة ببياض،
وفى رؤوس قضبانه جُمَّةٌ مِن وَرق، وله نَوْرٌ صِغار أصفرُ إلى البياض، يسقط
ويخلفه مراودُ صِغار فيها حَبٌ صغير مثل البُطْم، فى قدره، أحمرُ اللَّون، ولها
عروقٌ عليها قُشورٌ حُمر، والمستعمَل منه قِشْرُ عرُوقه، ولبنُ قضبانه.
وهو حارٌ يابس فى الدرجة الرابعة، ويُسَهِّلُ السوداء، والكَيْمُوسات الغليظة،
والماءَ الأصفر، والبلغم، مُكْرِبٌ، مُغَثٍّ، والإكثارُ منه يقتل، وينبغى إذا
استُعمِلَ أن يُنقَعَ فى اللَّبن الحليب يوماً وليلة، ويُغيَّرَ عليه اللَّبنُ فى
اليوم مرتين أو ثلاثاً، ويُخْرَج، ويُجفَّفُ فى الظل، ويُخلَطُ معه الورود
والكَثِيراءُ، ويُشرب بماء العسل، أو عصير العِنَب، والشَّرْبَةُ مِنه ما بيْنَ
أربع دوانِق إلى دانِقَيْن على حسب القوة، قال حُنَيْن: أمَّا لبنُ الشُّبْرُم،
فلا خيرَ فيه، ولا أرى شُربه ألبتة، فقد قَتَلَ به أطباءُ الطُّرقاتِ كثيراً من
الناس
شَعِيرٌ: روى ابن ماجه: من
حديث عائشة، قالت: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أخذ
أحداً من أهْلِهِ الوَعْكُ، أمَرَ بالحَسَاءِ مِنَ الشَّعيرِ، فصُنِعَ، ثم أمرهم
فَحَسَوْا مِنْهُ، ثم يقول: "إنَّه ليَرْتُو فُؤادَ الحزينِ ويَسْرُو فُؤادَ
السَّقِيم كما تَسْرُو إحداكُنَّ الوَسَخَ بالماءِ عن وَجْهِهَا".
ومعنى "يرتوه": يشُدُّه ويُقوِّيه. و"يَسرو": يكشِفُ
ويُزِيلُ.
وقد تقدَّم أنَّ هذا هو ماء الشعير المغلى، وهو أكثرُ غِذاءً من سويقه، وهو نافع
للسُّعال، وخشونةِ الحلق، صالح لقَمْع حِدَّة الفُضول، مُدِرٌ للبَوْلِ، جَلاء لما
فى المَعِدَة، قاطِعٌ للعطش، مُطْفِىءٌ للحرارة، وفيه قوة يجلو بها ويُلَطِّف
ويُحَلِّل.
وصفته: أن يُؤخذ مِن الشعير الجيدِ المرضوضِ مقدارٌ، ومن الماء الصافى العذبِ
خمسةُ أمثاله، ويُلقى فى قِدْر نظيف، ويُطبخ بنار معتدلة إلى أن يَبقى منه
خُمُساه، ويُصفَّى، ويُستعملَ منه مقدار الحاجة مُحَلاً.
شِوَاءٌ: قال الله تعالى فى ضيافة خليله إبراهيم عليه السلام لأضيافه: {فَمَا
لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[هود: 79]
و"الحَنِيذ": المشوى على الرَّضْفِ، وهى الحجارةُ المحماة.
وفى الترمذى: عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها، "أنها قرَّبت إلى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنباً مشوياً، فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم
يتوضأ". قال الترمذى: حديثٌ صحيح.
وفيه أيضاً: عن عبد الله بن
الحارث، قال: أكلنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِواءً فى
المسجد.وفيه أيضاً: عن المغيرَة بن شُعبة قال: "ضِفتُ مع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة، فأمر بجنبٍ، فشُوِىَ، ثم أخذ الشِّفْرَة،
فجعل يَحُزُّ لى بها منه، قال: فجاء بلال يُؤذِّن للصلاة، فألقى الشِّفْرَة فقال :
"مَا لَه تَرِبَتْ يَدَاهُ".
أنفع الشِواء شِواء الضأن الحَوْلىِّ، ثم العِجلِ اللَّطيف السمين، وهو حارٌ رطب
إلى اليبوسة، كثيرُ التوليد للسَّوداء، وهو من أغذية الأقوياء والأصحاء
والمرتاضين، والمطبوخُ أنفع وأخف على المعدة، وأرطبُ منه، ومن المُطجَّن.
وأردؤه المشوى فى الشمس، والمشوى على الجمر خير من المشوى باللهب، وهو الحَنِيذ.
شَحْمٌ: ثبت فى "المسند" عن أنس"أنَّ يهودياً أضاف رسولَ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدَّم له خُبزَ شَعِيرِ، وإهالَةً
سَنِخَةً"، و"الإهالة": الشَّحْم المذاب، والألْية.
و"السَّنِخَةُ": المتغيرة.
وثبت فى "الصحيح": عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال:"دُلِّى جِرَابٌ
من شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، فالتزمتُه وقلتُ: واللهِ لا أُعطى أحداً منه شيئاً،
فالتفتُّ، فإذا رسولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ، ولم يقل شيئاً".
أجود الشحمِ ما كان مِن حيوان مكتمل، وهو حارٌ رطب، وهو أقلُّ رطوبةً من السمن،
ولهذا لو أُذيب الشحمُ والسمن كان الشَحمُ أسرعَ جموداً.
وهو ينفع من خشونة الحلق، ويُرخى ويعفن، ويُدفع ضرره باللَّيْمون المملُوح،
والزنجبيل، وشحمُ المَعز أقبضُ الشحوم، وشحم التُّيوس أشدُّ تحليلاً، وينفع مِن
قروح الأمعاء، وشحمُ العَنز أقوى فى ذلك، ويُحتقَن به للسَّحَج والزَّحِير.
حرف الصاد
صَلاَةٌ: قال اللهُ تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ، وَإنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة: 45]
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ،
إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 44].
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، لاَ
نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَّحْنُ نَرْزُقُكَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه: 132]
وفى "السنن": "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذا حَزَبَهُ أمْرٌ، فَزِعَ إلى الصَّلاةِ".
وقد تقدَّم ذكر الاستشفاء
بالصلاة من عامة الأوجاع قبل استحكامها.
والصلاة مجلبةٌ للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأَدواء، مقوِّية للقلب،
مبيِّضة للوجه، مُفْرِحةٌ للنفس، مُذهبة للكسل، منشِّطةٌ للجوارح، ممدَّة للقُوَى،
شارحِة للصَّدر، مغذِّية للروح، مُنوِّرة للقلب، حافِظةٌ للنعمة، دافعة للنقمة،
جالِبة للبركة، مُبعِدة من الشيطان، مُقرِّبة من الرحمن.
وبالجملة.. فلها تأثير عجيب فى حفظ صحة البدن والقلب، وقواهما، ودفع المواد
الرديئة عنهما، وما ابتُلى رجلان بعاهةٍ أو داءٍ أو مِحنةٍ أو بَليةٍ إلا كان حظُّ
المُصَلِّى منهما أقلَّ، وعاقبتُه أسلم.
وللصلاة تأثيرٌ عجيب فى دفع شُرور الدنيا، ولا سِيَّما إذا أُعطيت حقها من التكميل
ظاهراً وباطناً، فما استُدْفِعَتْ شرورُ الدُّنيا والآخرة، ولا استُجْلِبَت
مصالِحُهُمَا بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك أنَّ الصلاة صِلةٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ،
وعلى قدر صِلَةِ العبد بربه عَزَّ وجَلَّ تُفتح عليه من الخيرات أبوابَها، وتُقطعُ
عنه من الشرور أسبابَها، وتُفِيضُ عليه موادَ التوفيق مِن ربه عَزَّ وجَلَّ،
والعافية والصحة، والغنيمة والغِنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرَّات، كلها
محضرةٌ لديه، ومسارِعةٌ إليه.
صَبْرٌ: "الصبر نِصفُ الإيمان"، فإنَّهُ ماهِيَّة مُركَّبة من صبر وشكر،
كما قال بعضُ السَّلَف: الإيمانُ نصفان: نِصفٌ صَبْرٌ، ونِصفٌ شكرٌ، قال تعالى:
{إنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم: 5].
والصَّبْرُ من الإيمان بمنزلة
الرأسِ مِنَ الجَسَدِ، وهو ثلاثةُ أنواع: صَبْرٌ على فرائض الله، فلا يُضَيِّعُها،
وصبرٌ عن مَحارمه، فَلا يرتكِبُها، وصبرٌ على أقضيته وأقداره، فلا يتسخَّطُها،
ومَن استكمَلَ هذهِ المراتبَ الثلاث، استكمَل الصبرَ. ولذةُ الدنيا والآخرة
ونعيمها، والفوزُ والظفرُ فيهما، لا يَصِل إليه أحدٌ إلا على جِسْر الصبر، كما لا
يَصِلُ أحد إلى الجنَّةِ إلا على الصِّراطِ، قال عمرُ ابن الخطاب رضى الله عنه:
خيرُ عيشٍ أدركناه بالصَّبْرِ.
وإذا تأملتَ مراتِبَ الكمال المكتسَب فى العالَم، رأيتَها كلها مَنُوطةً
بالصَّبْرِ، وإذا تأملتَ النُّقصان الذى يُذَمُّ صاحبُه عليه، ويدخُل تحتَ قُدرته،
رأيتَه كله مِن عدمِ الصبر، فالشجاعةُ والعِفَّةُ، والجودُ والإيثارُ، كلُّه صبرُ
ساعة.
فالصَّبْرُ طِلَّسْمٌ عَلَى كَنْزِ الْعُلَى مَنْ حَلَّ ذَا الطِّلَّسْمَ فَازَ
بِكَنْزِهِ
وأكثرُ أسقام البدن والقلب، إنما تنشأ من عدم الصبر، فما حُفِظَتْ صِحَةُ القلوب
والأبدان والأرواح بمثل الصَّبْر، فهو الفاروق الأكبر، والتِّرياق الأعظم، ولو لم
يكن فيه إلا معيةُ اللهِ مع أهله، فإنَّ الله مع الصابرين ومحبتُه لهم، فإنَّ الله
يُحب الصابرين، ونصرُهُ لأهله، فإنَّ النصرَ مع الصَّبْر، وإنه خير لأهله،
{وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}[النحل: 126]، وإنه سببُ
الفلاح: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ
وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200]
صَبِرٌ: روى أبو داود فى كِتاب "المَرَاسيل" من حديث قيس ابن
رافع القَيْسىِّ، أنَّ رسولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ماذا فى الأَمَرَّيْن من
الشِّفَاءِ ؟ الصَّبِرُ والثُّفَّاءُ".
وفى "السنن" لأبى داود: من حديث أُمِّ سَلَمَة، قالت: دخلَ علىَّ رسولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين تُوفِّىَ أبو سلمةَ، وقد جعلتُ
علىَّ صَبِرَاً، فقال: "ماذا يا أُمَّ سلمةَ" ؟ فقلت: إنما هو صَبِرٌ يا
رسولَ اللهِ، ليس فيه طيِبٌ، قال: "إنَّهُ يَشُبُّ الوَجْهَ، فَلا تجعليه إلا
بالليل" ونَهى عنه بالنهار.
الصَّبِرُ كثيرُ المنافع، لا سِيَّما الهندىَّ منه، يُنقِّى الفُضول الصفراوية
التى فى الدماغ وأعصابِ البصر، وإذا طُلِىَ على الجبهة والصُّدغ بدُهن الورد، نفع
من الصُّدَاع، وينفع من قُروح الأنف والفمِ، ويُسهل السَّوداء والمالِيخُولْيا.
والصَّبِرُ الفارسى يُذكى العقل، ويُمِدُّ الفؤاد، ويُنقِّى الفُضُول الصفراويةَ
والبلغميَّةَ مِن المَعِدَة إذا شُرِبَ منه مِلْعقتان بماء، ويردُّ الشهوةَ
الباطلة والفاسدة، وإذا شُرِب فى البرد، خِيف أن يُسهل دماً
صَوْمٌ: الصوم جُنَّةٌ من أدواء الروح والقلب والبدن، منافِعُه تفوت الإحصاء، وله
تأثيرٌ عجيب فى حفظ الصحة، وإذابةِ الفضلاتِ، وحبْسِ النفسِ عن تناول مؤذياتها،
ولا سِيَّما إذا كان باعتدالٍ وقصدٍ فى أفضلِ أوقاته شرعاً، وحاجَةُ البدنِ إليه
طبعاً.
ثم إنَّ فيه من إراحة القُوَى والأعضاء ما يحفظُ عليها قُواها، وفيه خاصيةٌ تقتضى
إيثارَه، وهى تفريحُه للقلب عاجلاً وآجلاً، وهو أنفعُ
شىءٍ لأصحاب الأمزجة البارِدةِ
والرطبة، وله تأثيرٌ عظيم فى حفظ صحتهم.
وهو يدخلُ فى الأدوية الروحانية والطبيعية، وإذا راعى الصائمُ فيه ما ينبغى
مراعاتُه طبعاً وشرعاً، عظُمَ انتفاعُ قلبه وبدنه به، وحبس عنه الموادَّ الغريبةَ
الفاسدةَ التى هو مستعدٌ لها، وأزال الموادَّ الرديئة الحاصلة بحسب كماله ونقصانه،
ويحفظ الصائمَ مما ينبغى أن يُتحفَّظَ منه، ويُعينه على قيامه بمقصود الصوم وسرّه
وعلته الغائية، فإن القصدَ منه أمر آخر وراءَ تركِ الطعام والشراب، وباعتبار ذلك
الأمر اختُصَّ من بين الأعمال بأنه لله سبحانه، ولمَّا كان وقايةً وجُنَّةً بين
العبد وبين ما يؤذى قلبه وبدنه عاجلاً وآجلاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 188]. فأحدُ مقصودَى الصيام
الجُنَّةُ والوِقاية، وهى حِمية عظيمةُ النفع، والمقصودُ الآخر: اجتماعُ القلب
والهم على الله تعالى، وتوفيرُ قُوَى النفس على محابِّه وطاعته، وقد تقدَّم
الكلامُ فى بعض أسرار الصوم عند ذكر هَدْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فيه.
حرف الضاد
ضَبٌ: ثبت فى "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عنه لمَّا قُدِّم إليه، وامتنعَ من أكله: أحرامٌ
هو ؟ فقال: "لا، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمِى، فأجِدُنِى أَعَافُهُ، وأُكِلَ
بين يديه وعلى مائدته وهو يَنْظُرُ "
وفى "الصحيحين" من
حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
"لا أُحِلُّه ولا أُحَرِّمُه".
وهو حارٌ يابس، يُقوِّى شهوة الجِماع، وإذا دُقَّ، ووُضِعَ على موضع الشَّوْكة
اجتذَبها.
ضِفْدِعٌ: قال الإمام أحمدُ: الضِّفدَعُ لا يَحِل فى الدواء، نهى رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلها، يريدُ الحديثَ الذى رواهُ فى
"مسنده" من حديث عثمان بن عبد الرحمن رضى الله عنه"أنَّ طبيباً ذكر
ضِفدعاً فى دواء عندَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاه عن
قتلها".
قال صاحب القانون: مَن أكل مِن دم الضِّفْدَع أو جُرمه، ورِم بدنُه، وكَمَدَ
لونُه، وقذف المَنِىَّ حتى يموت، ولذلك ترك الأطباءُ استعماله خوفاً من ضرره.
وهى نوعان: مائيَّة وتُرابيَّة، والترابية يقتل أكلُها.
حرف الطاء
طِيبٌ: ثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
"حُبِّبَ إلىَّ من دُنياكُم: النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعلتْ قُرَّةُ عَيْنى فى
الصَّلاة".
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكثِرُ التطيُّبَ، وتشتدُّ عليه الرائحةُ
الكريهة، وتَشُقُّ عليه.
والطِّيبُ غِذَاءُ الروح التى هى مطيةُ القُوَى، والقُوَى تتضاعف وتزيدُ
بالطِّيبِ، كما تزيدُ بالغذاء والشراب، والدَّعَةِ والسرورِ، ومعاشرةِ الأحبةِ،
وحدوثِ الأُمور المحبوبة،
وغَيبةِ مَن تَسُرُّ غَيبتُه، ويَثقُلُ على الروح مشاهدتُه، كالثُّقلاء
والبُغَضاء، فإنَّ مُعاشرتهم تُوهِنُ القُوَى، وتَجلب الهم والغم، وهى للروح
بمنزلة الحُمَّى للبدن، وبمنزلة الرائحة الكريهة، ولهذا كان مما حبَّبَ الله
سبحانَه الصحابةَ بنهيُهم عن التخلُّق بهذا الخُلُق فى معاشرة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتأذِّيه بذلك، فقال: {إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ
فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ * إنَّ ذلِكُمْ
كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْيي مِنْكُمْ، وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيي مِنَ
الْحَقِّ}[الأحزاب: 52-53]
والمقصود أنَّ الطِّيب كان من أحبِّ الأشياء إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله تأثيرٌ فى حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام وأسبابها، بسبب
قوة الطبيعة به.
طِينٌ: ورد فى أحاديث موضوعة لا يَصِحُّ منها شىء مثل حديث: "مَنْ أكل
الطِّينَ، فقد أعانَ على قتلِ نفسِه" ، ومثلُ حديث: "يا حُمَيْراء؛ لا
تأكلى الطِّينَ فإنه يَعصِمُ البَطْنَ، ويُصَفِّرُ اللَّونَ، ويُذهِبُ بَهاءَ
الوَجْهِ".
وكلُّ حديث فى الطين فإنه لا يصح، ولا أصلَ له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أنه ردىءٌ مؤذٍ، يسُدّ مجارى العروق، وهو بارد يابس،
قوىُّ التجفيف، ويمنع استطلاقَ البطن، ويُوجب نفْثَ الدَّم وقروحَ الفم.
طَلْحٌ: قال تعالى: {وَطَلْحٍ مَّنضْوُدٍ}[الواقعة: 29]، قال أكثر المفسِّرين: هو
المَوْز. و"المنضودُ": هو الذى قد نُضِّدَ بعضُه على بعض، كالمُشْط. وقيل:
"الطلحُ": الشجرُ ذو الشَّوْك، نُضِّدَ مكانَ كل شَوْكة ثمرة، فثمرُه قد
نُضِّدَ بعضُه إلى بعض، فهو مثل الموز، وهذا القولُ أصح، ويكون مَن ذكر الموزَ من
السَّلَف أراد التمثيل لا التخصيصَ.. والله أعلم.
وهو حارٌ رطب، أجودُه النضيج
الحلو، ينفع مِن خشونة الصدر والرئة والسُّعال، وقروح الكُلْيتَيْن، والمثانة،
ويُدِرُّ البَوْل، ويزيد فى المَنِىِّ، ويُحَرِّكُ الشهوة للجِماع، ويُليِّن
البطن، ويُؤكل قبل الطعام، ويَضر المَعِدَة، ويزيد فى الصفراء والبلغم، ودفعُ ضرره
بالسكر أو العسل طَلْعٌ: قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ}[ق: 10]، وقال تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء: 148]
طلعُ النخل: ما يبدو من ثمرته فى أول ظهوره، وقشرُه يسمى الكُفُرَّى،
و"النضيدُ": المَنْضود الذى قد نُضِّدَ بعضُه على بعض، وإنما يُقال له
"نضيدٌ" ما دام فى كُفُرَّاه، فإذا انفتح فليس بنضيد.
وأما "الهضيم": فهو المنضم بعضُه إلى بعض، فهو كالنضيد أيضاً، وذلك يكون
قبل تَشَقُّقِ الكُفُرَّى عنه.
والطلع نوعان: ذكرٌ وأُنثى، والتلقيح هو أن يُؤخَذ من الذكر وهو مثلُ دقيق الحِنطة
فيُجعل فى الأُنثى، وهو "التأْبِير"، فيكون ذلك بمنزلة اللقاح بين الذكر
والأُنثى.
وقد روى مسلم فى "صحيحه": عن طلحةَ بن عُبيد الله رضى الله عنه، قال:
"مررتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى نخلٍ، فرأى قوماً
يُلَقِّحُونَ، فقال: "ما يصنعُ هؤلاء" ؟ قالوا: يأخُذون من الذكر
فيجعلونه فى الأُنثى. قال:
"ما أَظُنُّ ذلك يُغنى شيئاً"، فبلغهم، فتركوه، فلم يَصْلُحْ، فقال
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنما هُوَ ظََنٌ، فإن كان
يُغنى شيئاً، فاصنَعوهُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وإنَّ الظَنَّ يُخطِئٌ
ويُصيبُ، ولكنْ ما قلتُ لكم عنِ الله عَزَّ وجَلَّ، فلن أكذِبَ على اللهِ" ..
انتهى.
طلعُ النخل ينفع من الباه،
ويَزيد فى المُباضَعة. ودقيقُ طلعه إذا تحمَّلتْ به المرأةُ قبل الجِماع أعان على
الحَبَل إعانةً بالغة، وهو فى البرودة واليُبوسة فى الدرجة الثانية، يُقَوِّى
المَعِدَة ويُجفِّفها، ويُسَكِّن ثائرة الدم مع غلظةٍ وبطءِ هضم.
ولا يحتمِلُه إلا أصحابُ الأمزجة الحارَّة، ومَن أكثرَ منه فإنه ينبغى أن يأخذ
عليه شيئاً من الجُوَراشات الحارَّة، وهو يَعقِلُ الطبع، ويُقوِّى الأحشاء،
والجُمَّارُ يجرى مجراه، وكذلك البلحُ، والبُسْرُ، والإكثارُ منه يضرُّ بالمَعِدَة
والصدر، وربما أورث القُولَنْج، وإصلاحُه بالسمن، أو بما تقدَّم ذكرُه.
حرف العين
عِنَبٌ: فى "الغَيْلانيَّات" من حديث حَبيب بن يَسَار، عن ابن عباس
رضى الله عنه قال: رأيتُ رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكلُ العِنبَ خَرْطاً.
قال أبو جعفر العقيلىُّ: لا أصلَ لهذا الحديث، قلتُ: وفيه داودُ بن عبد الجبار أبو
سُلَيم الكوفىُّ، قال يحيى بن مَعين: كان يكذب.
ويُذكر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يُحبُّ العنبَ
والبِطيخَ.
وقد ذكر الله سبحانه العِنَبَ فى ستة مواضع مِن كتابه فى جملة نعمه التى أنعم بها
على عباده فى هذه الدار وفى الجَنَّة، وهو من أفضلِ الفواكه وأكثرِها منافعَ، وهو
يُؤكل رطباً ويابساً، وأخضرَ ويانعاً، وهو فاكهةٌ مع الفواكه، وقوتٌ مع الأقواتِ،
وأُدمٌ مع الإدام، ودواءٌ مع الأدوية، وشرابٌ مع الأشربة، وطبعُه طبعُ الحَبَّات:
الحرارة والرطوبةُ، وجيدُه الكُبَّارُ المائىُّ، والأبيضُ أحمدُ من الأسود إذا
تساويا فى الحلاوة، والمتروكُ بعد قطفه يومين أو ثلاثة أحمدُ من المقطوف فى يومه،
فإنه مُنفِخ مُطلِق للبطن، والمعلَّقُ حتى يَضمُرَ قشره جيدٌ للغذاء، مقوٍّ للبدن،
وغِذاؤه كغذاء التِّين والزَّبيب، وإذا أُلقَى عَجَمُ العِنَب كان أكثر تلييناً
للطبيعة، والإكثارُ منه مصدع للرأس، ودفع مضرته بالرُّمَّان المُزِّ.
ومنفعةُ العِنَب يُسَهِّل الطبع، ويُسَمِّن، ويَغذو جيدُه غِذاءً حسناً، وهو أحدُ
الفواكه الثلاث التى هى ملوك الفواكه، هو والرُّطَب والتين.
عَسَلٌ: قد تقدَّم ذكر منافعه.
قال ابن جُرَيْج: قال الزُّهرىُّ: عليك بالعسل، فإنه جيد للحفظ.
وأجودُه أصفاه وأبيضُه، وألينُه حِدّةً، وأصدقه حلاوةً، وما يُؤخذ من الجبال
والشجر له فضلٌ على ما يُؤخذ من
الخلايا، وهو بحسب مرعَى
نَحْلِه
عَجْوَةٌ: فى "الصحيحين": من حديث سعد بن أبى وقَّاص رضى الله عنه، عن
النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " مَن تَصَبَّحَ
بِسَبْعِ تَمَراتٍ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرَّهُ ذلك اليومَ سُمٌ ولا سِحْرٌ".
وفى "سنن النسائى" وابن ماجه: من حديث جابر، وأبى سعيد رضى الله عنهما،
عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العَجْوَةُ مِنَ الجَنَّةِ،
وهى شِفاءٌ مِنَ السُّمِّ، والكَمْأةُ مِنَ المَنِّ، وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
".
وقد قيل: إنَّ هذا فى عجوة المدينة، وهى أحدُ أصناف التمر بها، ومن أنفع تمر
الحجاز على الإطلاق، وهو صِنف كريم، ملذذ، متين للجسم والقوة، مِن ألين التمر
وأطيبه وألذه.
وقد تقدَّم ذكرُ التمر وطبعه ومنافعه فى حرف التاء، والكلامُ على دفع العَجْوَة
للسُّمِّ والسِّحْر، فلا حاجة لإعادته.
عَنبَرٌ: تقدَّم فى "الصحيحين" من حديث جابر، فى قصة أبى عُبيدةَ،
وأكلِهم من العنبر شهراً، وأنهم تزوَّدُّوا من لحمه وشَائِقَ إلى المدينة، وأرسلوا
منه إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحدُ ما يدل على أنَّ
إباحة ما فى البحر لا يَختصُّ بالسمك، وعلى أن ميتته حلال.
واعتُرِضَ على ذلك بأنَّ البحر ألقاه حياً، ثم جَزَرَ عنه الماء، فمات، وهذا حلال،
فإنَّ موتَه بسبب
مفارقته للماء، وهذا لا
يَصِحُّ، فإنهم إنما وجدوه ميتاً بالساحل، ولم يُشاهدوه قد خرج عنه حيَّاً، ثم
جَزَرَ عنه الماء.
وأيضاً: فلو كان حياً لما ألقاه البحر إلى ساحله، فإنه من المعلوم أنَّ البحرَ
إنما يقذِفُ إلى ساحله الميتَ من حيواناته لا الحىَّ منها.
وأيضاً: فلو قُدِّرَ احتمالُ ما ذكروه لم يجز أن يكون شرطاً فى الإباحة، فإنه لا
يُباح الشىء مع الشك فى سبب إباحته، ولهذا مَنَعَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من أكل الصيد إذا وجده الصائِدُ غريقاً فى الماء للشك فى سبب موته، هل
هو الآلة
أم الماء ؟
وأما العنبرُ الذى هو أحدُ أنواع الطِّيب، فهو مِن أفخر أنواعه بعد المسك، وأخطأ
مَن قدَّمه على المسك، وجعله سيدَ أنواع الطِّيب، وقد ثبت عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فى المِسْك: "هُوَ أطْيَبُ
الطِّيب"، وسيأتى إن شاء الله تعالى ذكرُ الخصائص والمنافع التى خُصَّ بها
المسكُ، حتى إنه طِيبُ الجَنَّة، والكُثبانُ التى هى مقاعدُ الصِّدِّيقين هناك مِن
مِسْكٍ لا من عَنبرٍ.
والذى غَرَّ هذا القائل أنه لا يدخله التغير على طول الزمان، فهو كالذهب، وهذا لا
يَدُلُّ على أنه أفضل من المسك، فإنه بهذه الخاصية الواحدة لا يُقاوِم ما فى المسك
من الخواص.
وبعد.. فضروبُه كثيرة، وألوانه مختلفة، فمنه الأبيضُ، والأشهبُ، والأحمرُ،
والأصفرُ، والأخضرُ، والأزرقُ، والأسودُ، وذو الألوان.
وأجودُه: الأشهب، ثم الأزرق، ثم الأصفر. وأردؤه: الأسود.
وقد اختلف الناسُ فى عُنصره، فقالت طائفة: هو نبات يَنبُت فى قعر البحر،
فيبتلِعُه بعض دوابه، فإذا
ثَمِلَتْ منه قَذَفتْه رَجِيعاً، فيقذِفُه البحر إلى ساحله.
وقيل: طَلٌ ينزل من السماء فى جزائر البحر، فتُلقيه الأمواج إلى الساحل.
وقيل: رَوْثُ دابة بحرية تُشبه البقرة.
وقيل: بل هو جُفَاء من جُفَاء البحر، أى: زَبَدٌ.
وقال صاحب "القانون": هو فيما يُظَن ينبع مِن عَيْن فى البحر، والذى
يُقال: إنه زَبَد البحر، أو روثُ دابة بعيدٌ.. انتهى.
ومزاجه حار يابس، مقوٍّ للقلب، والدماغ، والحواس، وأعضاء البدن، نافع من الفالج
واللَّقْوة، والأمراض البلغمية، وأوجاع المَعِدَة الباردة، والرياح الغليظة، ومن
السُّدد إذا شُرب، أو طُلِىَ به من خارج، وإذا تُبُخِّر به، نفع من الزُّكام،
والصُّداع، والشَّقِيقة الباردة.
عُودٌ: العود الهندى نوعان؛ أحدهما: يُستعمل فى الأدوية وهو الكُسْت، ويقال له:
القُسْط، وسيأتى فى حرف القاف.
الثانى: يُستعمل فى الطِّيب، ويقال له: الأَلُوَّة
وقد روى مسلم فى "صحيحه": عن ابن عمر رضى الله عنهما، "أنه كان
يَسْتَجْمِرُ بالأَلُوَّة غير مُطرَّاة، وبكافُور يُطْرَحُ معها"، ويقول:
هكذا كان يستجمرُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت عنه فى صفة
نعيم أهل الجَنَّة: "مجامِرُهُمُ الألُوَّةُ".
و"المجامر": جمع مِجْمَرٍ؛
وهو ما يُتجمَّر به مِن عود
وغيره، وهو أنواع: أجودُها: الهندى، ثم الصِّينى، ثم القَمارى، ثم المنْدَلى.
وأجوده: الأسود والأزرق الصُّلب الرزينُ الدسم، وأقلَّه جودة: ما خفَّ وطفا على
الماء.
ويقال: إنه شجر يُقطع ويُدفن فى الأرض سنة، فتأكل الأرض منه ما لا ينفع، ويبقى
عودُ الطِّيب، لا تعمل فيه الأرض شيئاً، ويتعفَّن منه قِشرُه وما لا طِيبَ فيه.
وهو حارٌ يابس فى الثالثة، يفتح السُّدد، ويكسر الرياح، ويُذهب بفضل الرُّطوبة،
ويُقوِّى الأحشاء والقلب ويُفرحه، وينفع الدماغ، ويُقوِّى الحواس، ويحبِسُ البطن،
وينفع مِن سَلَس البَوْل الحادث عن برد المثانة.
قال ابن سمجون: العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الأَلُوَّة، ويُستعمل من داخل وخارج،
ويُتجمَّرُ به مفرداً ومع غيره، وفى الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبى، وهو
إصلاحُ كل منهما بالآخر، وفى التجمُّر مراعاةُ جوهر الهواء وإصلاحُه، فإنه أحدُ
الأشياء الستة الضرورية التى فى صلاحها صلاحُ الأبدان.
عَدَسٌ: قد ورد فيه أحاديثُ كُلُّهَا باطلة على رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يَقُلْ شيئاً منها، كحديث: "إنه قُدِّس على لسانِ
سبعين نبياً"
وحديث: "إنه يرق القلب، ويُغْزِرُ الدَّمعة، وإنه مأكول الصالحين"،
وأرفع شىء جاء فيه وأصحه، أنه شهوةُ اليهود التى قدَّموها على المنِّ والسلوَى،
وَهُو قَرِينُ الثوم والبصل فى الذكر.
وطبعه طبعُ المؤنث، بارد يابس، وفيه قوتان متضادَّتان. إحداهما: يَعقِلُ الطبيعة.
والأخرى: يُطلقها، وقشره حار يابس فى الثالثة، حِرِّيف
مُطْلِق للبطن، وترِياقُه فى
قشره، ولهذا كان صِحاحهُ أنفعَ من مطحونه، وأخفَّ على المَعِدَة، وأقلَّ ضرراً،
فإنَّ لُبَّه بطىءُ الهضم لبرودته ويُبوسته، وهو مولِّد للسَّوداء، ويَضُرُّ
بالماليخوليا ضرراً بيِّناً، ويَضُرُّ بالأعصاب والبصر.
وهو غليظُ الدم، وينبغى أن يتجنبه أصحابُ السوداء، وإكثارهم منه يُولِّد لهم أدواء
رديئة: كالوسواس، والجذام، وحُمَّى الربِّع، ويُقلل ضرره السلقُ، والإسفاناخ،
وإكثار الدُّهن، وأردأ ما أُكِلَ بالنمكسود، وليُتجنب خلط الحلاوة به، فإنه يُورث
سُدداً كبديَّة، وإدمانه يُظلم البصر لشدة تجفيفه، ويُعَسِّر البَوْل، ويُوجِبُ
الأورام الباردة، والرياحَ الغليظة. وأجودُه: الأبيضُ السمينُ، السريع النُّضج.
وأما ما يظنُّه الجُهَّالُ أنه كان سِماطَ الخليل الذى يُقدِّمه لأضيافه، فَكَذِبٌ
مفترَى، وإنما حكى الله عنه الضيافَة بالشِّوَاء، وهو العِجل الحَنِيذ.
وذكر البيهقى عن إسحاق قال: سُئل ابنُ المبارك عن الحديث الذى جاء فى العَدَس، أنه
قُدِّسَ على لسان سبعين نبيّاً، فقال: ولا على لسان نبى واحد، وإنَّه لمؤذ منفخ،
مَن حدثكم به ؟ قالوا: سَلم بن سالم، فقال: عمَّن ؟ قالوا: عنك. قال: وعنى
أيضاً،،؟
حرف الغين
غَيْثٌ: مذكور فى القرآن فى عِدة مواضع، وهو لذيذ الاسم على السمع، والمسمَّى على
الروح والبدن، تبتهجُ الأسماعُ بذكره، والقلوب بوروده، وماؤُه أفضلُ المياه،
وألطفُهَا وأنفعُهَا وأعظمُهَا بركة، ولا سِيَّما إذا كان مِن سحاب راعد، واجتمع
فى مستنقعات الجبال.
وهو أرطبُ من سائر المياه، لأنه لم تَطُلْ مُدَّته على الأرض، فيَكتسب من
يُبوستها، ولم يُخالطه جوهر يابس، ولذلك يتغيَّر ويتعفَّن سريعاً للطافته وسرعة
انفعاله.
وهل الغَيْثُ الرَّبيعى ألطفُ من الشتوى أو بالعكس ؟ فيه قولان.
قال مَن رجَّح الغَيْث الشتوى: حرارةُ الشمس تكون حينئذ أقلَّ، فلا تجتذِب من ماء
البحر إلا ألْطفَه، والجوُّ صافٍ وهو خالٍ من الأبخرة الدخانيَّة، والغبار المخالط
للماء، وكُلُّ هذا يوجب لطفه وصفاءه، وخُلوَّه من مخالط.
وقال مَن رجَّح الرَّبيعى: الحرارة تُوجب تحلُّلَ الأبخرة الغليظة، وتُوجب رِقة
الهواء ولطافته، فيخِفُّ بذلك الماء، وتَقِلُّ أجزاؤه الأرضية، وتُصادِف وقتَ حياة
النبات والأشجار وطِيب الهواء
وذكر الشافعى رحمه الله عن أنس بن مالك رضى الله عنهما، قال: كُنَّا مع رسولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصابنا مطرٌ، فَحَسَر رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبَه، وقال: "إنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ
بِرَبِّه" ، وقد تقدَّم فى هَدْيه فى الاستسقاء ذكر استمطاره صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبركه بماء الغَيْث عند أوَّلَ مجيئه.
حرف الفاء
فَاتِحَةُ الْكِتاب: وأُمُّ القرآن، والسبعُ المثانى، والشفاءُ التام، والدواءُ
النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوة، ودافعةُ الهم
والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دائه،
وعَرَفَ وجهَ الاستشفاء والتداوى بها، والسرَّ الذى لأجله كانت كذلك.
ولما وقع بعضُ الصحابة على ذلك، رقى بها اللَّديغ، فبرأ لوقته. فقال له النبىُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "وما أدراك أنَّها رُقْيَة".
ومَن ساعده التوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرارِ هذه السورة، وما
اشتملت عليه مِنَ التوحيد، ومعرفةِ الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثباتِ
الشرع والقَدَر والمعاد، وتجريدِ توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض
إلى مَن له الأمر كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجع
الأمرُ كُلُّه، والافتقار إليه فى طلب الهداية التى هى أصلُ سعادة الدارين،
وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقة
التامة، والنعمةَ الكاملة مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحقق بها، أغنته عن كثير من
الأدوية والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابَه.
وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ
مقالةٌ فاسدة، ولا بدعةٌ باطلة إلا وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنة لردها وإبطالها بأقرب
الطُرُق، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ
باباً من أبواب المعارف
الإلهية، وأعمالِ القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إلا وفى فاتحة الكتاب
مفتاحُه، وموضعُ الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السائرين إلى ربِّ العالمين
إلا وبدايتُه ونهايتُه فيها.
ولعَمْرُ الله إنَّ شأنها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها،
واعتصم بها، وعقل عمن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً
مبيناً، وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغى ووقع فى بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابه مرضٌ
من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقر.
هذا.. وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن
ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سر هذه
السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به،
لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفةً ولا استعارةً؛، بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة فى
إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة فى إخفاء كنوز الأرض
عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس
وبينها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها الإيمانى، معها
منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة، فلا
يُقاوِمُ تلك الأرواح ولا يَقْهَرُها، ولا ينال من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتل
قتيلاً فله سلبه
فَاغِيَةٌ: هى نَوْرُ الحِنَّاء، وهى من أطيب الرياحين، وقد روى البيهقى فى كتابه
"شُعَب الإيمان" من حديث عبد الله بن بُريدَة، عن أبيه رضى الله
عنه يرفعه: "سيدُ
الرَّياحين فى الدنيا والآخرة الفاغِيَةُ"، وروى فيه أيضاً، عن أنس بن مالك
رضى الله عنه، قال: "كان أحَبَّ الرَّياحين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاغِيَةُ". والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد
على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا نعلم صِحته.
وهى معتدلةٌ فى الحر واليُبْس، فيها بعضُ القبض، وإذا وُضِعَتْ بين طىِّ ثياب
الصوف حفظتْها من السوس، وتدخل فى مراهم الفالج والتمدد، ودُهنها يُحلِّل الأعضاء،
ويُلَيِّن العصب.
فِضَّةٌ: ثبت أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خاتِمُه من
فِضَّة، وفَصُّه منه، وكانت قَبِيعةُ سيفِه فِضَّة، ولم يصح عنه فى المنع من لباس
الفِضَّة والتحلِّى بها شىءٌ البتة، كما صَحَّ عنه المنع من الشُّرب فى آنيتها،
وبابُ الآنية أضيقُ من باب اللباس والتحلى، ولهذا يُباح للنساء لباساً وحليةً ما
يحرُم عليهن استعمالُه آنيةً، فلا يلزم من تحريم الآنية تحريمُ اللباس والحلية.
وفى "السنن" عنه: "وأما الفِضَّةُ فالعبوا بها لَعْباً".
فالمنع يحتاجُ إلى دليل يُبينه، إما نصٌ أو إجماع، فإن ثبت أحدُهما، وإلا ففى
القلب
من تحريم ذلك على الرجال شىء،
والنبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك بيده ذهباً، وبالأخرى حريراً،
وقال: "هذان حرامٌ على ذُكُور أُمَّتى، حِلٌ لإناثهم".
والفِضَّة سِرٌ من أسرار الله فى الأرض وطلسم الحاجات، وإحسانُ أهل الدنيا بينهم،
وصاحبُها مرموقٌ بالعيون بينهم، معظَّمٌ فى النفوس، مُصدَّرٌ فى المجالس، لا تُغلق
دونه الأبواب، ولا تُمَلُّ مجالستُه، ولا معاشرتُه، ولا يُستثقل مكانه، تُشير
الأصابعُ إليه، وتعقِد العيون نِطاقها عليه، إن قال سُمِعَ قوله، وإن شَفَعَ
قُبِلَتْ شفاعتُه، وإن شهد زُكِّيتْ شهادتُه، وإن خَطَبَ فكُفء لا يُعاب، وإن كان
ذا شيبة بيضاء فهى أجمل عليه من حِلية الشباب.
وهى من الأدوية المفرحة النافعةِ من الهمِّ والغمِّ والحزن، وضعف القلب وخفقانه،
وتدخُلُ فى المعاجين الكُبَّار، وتجتذب بخاصيتها ما يتولَّد فى القلب من الأخلاط
الفاسدة، خصوصاً إذا أُضيفت إلى العسل المصفَّى، والزعفران.
ومزاجُها إلى اليبُوسة والبُرودة، ويتولَّد عنها مِن الحرارة والرُّطوبة ما
يتولَّد، والجِنَانُ التى أعدَّها الله عَزَّ وجَلَّ لأوليائه يومَ يلقونه أربعٌ:
جنَّتانِ من ذهب، وجنَّتان مِن فِضَّة، آنيتهُما وحليتهما وما فيهما.
وقد ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فى "الصحيح" من حديث أُم سلمة أنه قال: " الذى يشربُ فى آنيةِ
الذَّهَب والفِضَّة إنما يُجَرْجِرُ فى بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ".
وصحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تشربوا فى آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ، ولا
تأكُلُوا فى صِحَافِهما، فإنها لَهُم فى الدُّنْيا ولكم فى الآخِرَةِ".
فقيل: عِلَّةُ التحريم تضييقُ النقود، فإنها إذا اتُّخِذَتْ أوانىَ فاتت الحِكمةُ
التى وُضعت لأجلها من قيام مصالح بنى آدم، وقيل: العِلَّةُ الفخر والخُيلاَء.
وقيل: العِلَّةُ كسرُ قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها.
وهذه العللُ فيها ما فيها، فإنَّ التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلى بها
وجعلِها سبائكَ ونحوَها مما ليس بآنيةٍ ولا نقْدٍ، والفخرُ والخيلاءُ حرام بأى شىء
كان، وكسر قلوب المساكين لا ضابطَ له، فإنَّ قُلوبَهم تنكسر بالدُّور الواسعة،
والحدائق المعجبة، والمراكبِ الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير
ذلك من المباحات، وكُلُّ هذه عللٌ منتقَضة، إذ تُوجد العِلَّةُ، ويَتَخلَّف
معلولُها.
فالصواب أنَّ العِلَّة والله أعلم ما يُكْسِب استعمالُها القلبَ من الهيئة،
والحالة المنافية للعبودية منافاةً ظاهرة، ولهذا عَلَّل النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها للكفار فى الدُّنْيا، إذ ليس لهم نصيب مِن العبودية التى
ينالون بها فى الآخرة نعيمها، فلا يصلُح استعمالُها لعبيد الله فى الدنيا، وإنما
يستعمِلُها مَنْ خرج عن عبوديته، ورَضِىَ بالدنيا وعاجِلهَا من الآخرة.
حرف القاف
قُرْآنٌ: قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82 ]
والصحيح: أنَّ "من" هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ
وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ}[يونس: 57].
فالقرآنُ هو الشِّفاء التام مِن جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواءِ الدنيا
والآخرة، وما كُلُّ أحدٍ يُؤهَّل ولا يُوفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل
التداوىَ به، ووضعَه على دائه بصدقٍ وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم، واستيفاءِ
شروطه، لم يُقاوِمْهُ الداءُ أبداً.
وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماءِ الذى لو نزل على الجبال،
لصَدَعَهَا، أو على الأرض، لقطعها، فما مِن مرضٍ من أمراض القُلُوبِ والأبدان إلا
وفى القُرآن سبيلُ الدلالة على دوائه وسببه، والحِمية منه لمن رزقه الله فهماً فى
كتابه.
وقد تقدَّم فى أول الكلام على الطب بيانُ إرشاد القرآن العظيم إلى أُصوله ومجامعه
التى هى حفظُ الصحة والحِميةُ، واستفراغُ المؤذى، والاستدلالُ بذلك على سائر أفراد
هذه الأنواع.
وأما الأدوية القلبية، فإنه يذكرها مُفصَّلةً، ويذكر أسبابَ أدوائها وعلاجها. قال:
{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ}[العنكبوت: 51] ، فمَن لم يَشْفِه القرآنُ، فلا شفاه الله، ومَن لم
يَكفِه، فلا كفاه الله.
قِثَّاءٌ: فى "السنن": من حديث عبد الله بن جعفر رضى الله عنه
"أنَّ رسولَ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكلُ القِثَّاءَ بالرُّطب". ورواه الترمذىُّ
وغيره.
القِثَّاء بارد رطب فى الدرجة الثانية، مطفىءٌ لحرارة المَعِدَة الملتهبة، بطىء
الفساد فيها، نافعٌ من وجع المثانة، ورائحتُه تنفع من الغَشْى، وبِزرُه يُدِرُّ
البَوْل، وورقهُ إذا اتُّخِذ ضِماداً، نفع من عضة الكلب.
وهو بطىءُ الانحدار عن المَعِدة، وبرده مُضِرٌ ببعضها، فينبغى أن يُستعملَ معه ما
يُصلحه ويكسر برودته ورطوبته، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذ أكله بالرُّطب، فإذا أُكل بتمر أو زبيب أو عسل عدَّله.
قُسْطٌ وكُسْت:
بمعنى واحد. وفى "الصحيحين": من حديث أنس رضى الله عنه، عن النبىِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خيرُ ما تداوَيْتُم به الحِجامةُ
والقُسْطُ البَحْرِىُّ".
وفى "المسند": من حديث أُمِّ قيس، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " عليكم بهذا العُود الهندىِّ، فإنَّ فيه سَبْعَةَ أشْفِيةٍ منها
ذاتُ الجَنْبِ".
القُسْط: نوعان. أحدهما: الأبيضُ الذى يُقَال له: البحرىُّ. والآخر: الهندىُّ، وهو
أشدُّهما حراً، والأبيضُ ألينهُما، ومنافعُهما كثيرة جداً.
وهما حاران يابسان فى الثالثة،
يُنشِّفان البلغم، قاطعانِ للزُّكام، وإذا شُرِبَا، نفعا من ضعف الكَبِدِ
والمَعِدَة ومن بردهما، ومِن حُمَّى الدَّوْرِ والرِّبع، وقطعا وجعَ الجنب، ونفعا
مِن السُّمُوم، وإذا طُلِىَ به الوجهُ معجوناً بالماء والعسل، قَلَعَ الكَلَف.
وقال "جالينوسُ": ينفع من الكُزَاز، ووجع الجَنْبين، ويقتل حَبَّ
القَرَع.
وقد خفىَ على جُهَّال الأطباء نفعُه من وجِعَ ذاتِ الجَنْب، فأنكروه، ولو ظَفِر
هذا الجاهلُ بهذا النقل عن "جالينوس" لنزَّله منزلةَ النص، كيف وقد نصَّ
كثيرٌ من الأطباء المتقدمين على أنَّ القُسْطَ يصلحُ للنوع البلغمىِّ من ذات
الجنب، ذكره الخطَّابىُّ عن محمد بن الجَهْم.
وقد تقدَّم أنَّ طِبُّ الأطباء بالنسبة إلى طِبِّ الأنبياء أقلُّ من نسبةِ طِب
الطُّرقيَّة والعجائز إلى طِبِّ الأطباء، وأنَّ بيْن ما يُلقَّى بالوحى، وبيْن ما
يُلَقَّى بالتجربة، والقياسِ من الفرْق أعظمَ مما بَيْن القَدَم والفرق.
ولو أنَّ هؤلاء الجُهَّال وجدوا دواءً منصوصاً عن بعض اليهود والنصارى والمشركين
من الأطباء، لتلقَّوْه بالقبول والتسليم، ولم يتوقَّفُوا على تجربته.
نعم.. نحن لا ننكِرُ أنَّ للعادة تأثيراً فى الانتفاع بالدواء وعدمه، فمَن اعتاد
دواءً وغذاءً، كان أنفعَ له، وأوفقَ ممن لم يَعتدْه، بل ربما لم ينتفع به مَن لم
يعتده.
وكلامُ فضلاء الأطباء وإن كان مطلَقاً فهو بحسب الأمزجة والأزمنة، والأماكن
والعوائد، وإذا كان التقييدُ بذلك لا يقدح فى كلامهم ومعارفهم، فكيف يقدح فى كلام
الصادق المصدوق، ولكن نفوس البَشَر مركبةٌ على الجهل والظلم، إلا مَن أيَّده الله
بروح الإيمان، ونَوَّرَ بَصيرته بنور الهُدَى.
قَصَبُ السُّكَّرِ: جاء فى بعض
ألفاظ السُّنَّة الصحيحة فى الحَوض: "ماؤه أحلى من السكَّر" ولا أعرف
"السكر" فى الحديث إلا فى هذا الموضع.
والسكر حادث لم يتكلم فيه متقدِّمو الأطباء، ولا كانوا يعرفونه، ولا يَصِفونه فى
الأشربة، وإنما يعرفون العسل، ويُدخلونه فى الأدوية.
وقصبُ السكر حارٌ رطب ينفع من السُّعال، ويجلو الرطوبةَ والمثانة، وقصبةَ الرِّئة،
وهو أشدُّ تلييناً من السكر، وفيه معونةٌ على القىء، ويُدِرُّ البَوْل، ويزيد فى
الباه. قال عفان بن مسلم الصفَّار: مَنْ مَصَّ قصبَ السكر بعد طعامه، لم يزل يومَه
أجمعَ فى سرور.. انتهى.
وهو ينفع من خشونة الصدر والحلق إذا شُوِىَ، ويُولِّد رياحاً دفعُها بأن يُقشَّرَ
ويُغسل بماء حار.
والسكر حارٌ رطب على الأصح، وقيل: بارد. وأجودُه: الأبيض الشفاف الطَّبَرْزَد،
وعَتيقُه ألطفُ من جديده، وإذا طُبِخَ ونُزِعَتْ
رغوتُه، سكَّن العطشَ
والسُّعال، وهو يضر المَعِدَة التى تتولَّد فيها الصفراءُ لاستحالته إليها، ودفعُ
ضرره بماء اللَّيمون أو النارَنْجِ، أو الرُّمان اللفَّان.
وبعضُ الناس يُفضِّلُه على العسل لقِلَّة حرارته ولينه، وهذا تحامل منه على العسل،
فإنَّ منافع العسل أضعافُ منافع السكر، وقد جعله الله شِفاءً ودواءً، وإداماً
وحلاوةً، وأين نفعُ السكر مِن منافع العسل: مِن تقويةِ المَعِدَة، وتليين الطبع،
وإحدادِ البصر، وجِلاءِ ظُلمته، ودفعِ الخوانيق بالغرغرةِ به، وإبرائِهِ من الفالج
واللَّقْوة، ومِن جميع العلل الباردة التى تَحدُث فى جميع البدن من الرطوبات،
فيجذِبُها من قعر البدن، ومن جميع البدن، وحفظِ صحته وتسمينه وتسخينه، والزيادةِ
فى الباه، والتحليلِ والجِلاءِ، وفتح أفواهِ العروق، وتنقيةِ المِعَى، وإحدارِ
الدُّود، ومنعِ التخم وغيره من العفن، والأُدم النافع، وموافقةِ مَن غلب عليه
البلغمُ والمشايخ وأهلِ الأمزجة الباردة.. وبالجملة: فلا شىء أنفعُ منه للبدن، وفى
العلاج وعجز الأدوية، وحفظِ قواها، وتقويةِ المَعِدة إلى أضعاف هذه المنافع، فأين
للسُّكَّرِ مثلُ هذه المنافع والخصائص أو قريبٌ منها ؟
حرف الكاف
كِتَابٌ لِلحُمَّى: قال المرْوَزِىُّ: بَلَغَ أبا عبد الله أنى حُممتُ، فكتب لى من
الحُمَّى رقعةً فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمدٌ رسول الله،
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلاَمَاً عَلَى إبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}[الأنبياء: 69-70] ، اللهُمَّ ربَّ
جبرائيلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، اشفِ صاحبَ هذا الكتابِ بِحَوْلِك وقُوَّتِكَ
وجَبَرُوتِكَ،
إله الحق آمين .
قال المروزي : وقرأ على أبي عبد الله - وأنا أسمع - أبو المنذر عمرو بن مجمع ،
حدثنا يونس بن حبان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلق التعويذ ، فقال :
إن كان من كتاب الله أو كلام عن نبي الله فعلقه واستشف به ما استطعت .
قلت : أكتب هذه من حمى الربع : باسم الله ، وبالله ، ومحمد رسول الله إلى آخره ؟
قال : أي نعم .
وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها ، أنهم سهلوا في ذلك .
قال حرب : ولم يشدد فيه أحمد بن حنبل ، قال أحمد : وكان ابن مسعود يكرهه كراهة
شديدة جداً .
وقال أحمد وقد سئل عن التمائم تعلق بعد نزول البلاء ؟ قال : أرجو أن لا يكون به
بأس .
قال الخلال : وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع ،
وللحمى بعد وقوع البلاء .
كتاب لعسر الولادة : قال الخلال : حدثني عبد الله بن أحمد : قال رأيت أبي يكتب
للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض ، أو شئ نظيف ، يكتب حديث ابن عباس رضي
الله عنه : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم ، الحمد
لله رب العالمين : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ }
[ الأحقاف : 35 ] ، { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } [ النازعات
: 46 ] .
قال الخلال : أنبانا أبو بكر المروزي ، أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال : يا أبا
عبد الله ! تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين ؟ فقال : قل له : يجيء بجام
واسع ، وزعفران ، ورأيته يكتب لغير واحد
ويُذكر عن عِكرمةَ، عن ابن
عباس، قال: مَرَّ عيسى صلَّى الله على نبيِّنا وعليه وسَلَّم على بقرة قد اعتَرَضَ
ولدُها فى بطنها، فقالت: يا كلمةَ الله؛ ادعُ الله لى أن يُخَلِّصَنى مما أنا فيه.
فقال: يا خالقَ النفسَ مِنَ النفسِ، ويا مخلِّصَ النفسَ مِنَ النفسِ، ويا مُخْرِجَ
النفسَ مِنَ النفسِ، خَلِّصْهَا. قال: فرمتْ بولدها، فإذا هى قائمة تَشُمُّه. قال:
فإذا عَسُرَ عَلى المرأة ولدُها، فاكتبْه لها. وكل ما تقدم من الرقى، فإن كتابته
نافعة.
ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله
فيه.
كتاب آخر لذلك: يكتب في إناء نظيف: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
} [الانشقاق: 1-4]، وتشرب منه الحامل، ويرش على بطنها.
كتاب للرعاف: كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته: { وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ
الْأَمْرُ } [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحد فبرأ، فقال: ولا يجوز
كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام
الله تعالى.
كتاب آخر له: خرج موسى عليه السلام برداء، فوجد شعيباً، فشده بردائه { يَمْحُوا
اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [الرعد: 39].
كتاب آخر للحزاز: يكتب عليه: { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
} [البقرة: 266] بحول الله وقوته.
كتاب آخر له: عند اصفرار الشمس يكتب عليه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد: 28].
كتاب آخر للحمى المثلثة: يكتب على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرَّت، بسم الله مرت،
بسم الله قلت، ويأخذ كل يوم ورقة، ويجعلها في فمه، ويبتلعها بماء.
كتاب آخر لعرق النسا: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء،
وخالق كل شيء، أنت خلقتني، وأنت خلقت النَّسا، فلا تسلطه علي بأذى، ولا تسلطني
عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر سقماً، لا شافي إلا أنت.
كتاب للعرق الضارب: روى الترمذي في "جامعه": من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلمهم من الحمى، ومن
الأوجاع كلها أن يقولوا: "بسم الله الكبير، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق
نعار، ومن شر حر النار".
كتاب لوجع الضرس: يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم: { قُلْ
هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } [النحل: 78]، وإن شاء كتب: { وَلَهُ
مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنعام:
13].
كتاب للخراج: يكتب عليه: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا
رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا
أَمْتاً } [طه: 105].
كمأة: ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الكمأة من
المن وماؤها شفاء
للعين" ، أخرجاه في
"الصحيحين".
قال ابن الأعرابي: الكمأة: جمع، واحده كمء، وهذا خلاف قياس العربية، فإن ما بينه
وبين واحده التاء، فالواحد منه بالتاء، وإذا حذفت كان للجمع. وهل هو جمع، أو اسم
جمع ؟ على قولين مشهورين، قالوا: ولم يخرج عن هذا إلا حرفان: كمأة وكمء، وجبأة
وجبء، وقال غير ابن الأعرابي: بل هي على القياس: الكمأة للواحد، والكمء للكثير،
وقال غيرهما: الكمأة تكون واحداً وجمعاً.
واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئاً على أكمؤ، قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلاولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وهذا يدل على أن "كمء" مفرد، "وكمأة" جمع.
والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع، وسميت كمأة لاستتارها، ومنه كمأ الشهادة:
إذا سترها وأخفاها، والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها، ولا ساق، ومادتها من جوهر
أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء، وتنميه أمطار الربيع،
فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسداً، ولذلك يقال لها: جدري الأرض، تشبيهاً
بالجدري في صورته ومادته، لأن مادته رطوبة دموية، فتندفع
عند سن الترعرع في الغالب، وفي
ابتداء استيلاء الحرارة، ونماء القوة.
وهي مما يوجد في الربيع، ويؤكل نيئاً ومطبوخاً، وتسميها العرب: نبات الرعد لأنها
تكثر بكثرته، وتنفطر عنها الأرض، وهي من أطعمة أهل البوادي، وتكثر بأرض العرب،
وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء.
وهي أصناف: منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الاختناق.
وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة، رديئة للمعدة، بطيئة الهضم، وإذا أدمنت، أورثت
القولنج والسكتة والفالج، ووجع المعدة، وعسر البول، والرطبة أقل ضرراً من اليابسة
ومن أكلها فليدفنها فى الطين الرَّطب، ويَسلِقها بالماء والملح والصَّعْتر،
ويأكلها بالزيت والتوابِل الحارَّة، لأن جوهرها أرضى غليظ، وغِذاءها ردىء، لكن
فيها جوهر مائى لطيف يدل على خفتها، والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرَّمد
الحار، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأنَّ ماءها يجلو العَيْن. وممن ذكره المسيحىُّ،
وصاحب القانون، وغيرهما.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الكَمْأَة من المَنِّ"، فيه
قولان:
أحدهما: أنَّ المنَّ الذى أُنزل على بنى إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط، بل أشياءُ
كثيرة مَنَّ الله عليهم بها من النبات الذى يُوجد عفواً من غير صنعة ولا عِلاج
ولاحرث، فان المن مصدر بمعنى المفعول أى "ممنون" به فكل ما رزقه الله
العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج، فهو مَنٌ محضٌ، وإن كانت سائر نعمه مَنّاً منه
على عبده، فخصَّ منها ما لا كسب
له فيه، ولا صُنعَ باسم
"المنِّ"، فإنه مَنٌ بلا واسطة العبد، وجعل سبحانه قُوتَهم بالتِّيه
"الكمأة"، وهى تقومُ مقام الخبز، وجعل أُدمهم "السَّلْوى"،
وهو يقوم مقام اللَّحم، وجعل حَلواهم "الطلَّ" الذى ينزلُ على الأشجار
يقوم لهم مقام الحلوى. فكَمُل عيشهُم.
وتأمل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الكمأة من المنِّ الذى أنزله
الله على بنى إسرائيل" فجعلها من جملته، وفرداً من أفراده، والترنْجبين الذى
يسقط على الأشجار نوع من المَنِّ، ثم غلب استعمال المَنِّ عليه عُرْفاً حادثاً.
والقول الثانى: أنه شَبَّهَ الكمأةَ بالمَنِّ المُنَزَّل من السماء، لأنه يُجمع من
غير تعب ولا كلفة ولا زرع بِزر ولا سقى.
فإن قلت: فإذا كان هذا شأنَ الكمأة، فما بالُ هذا الضرر فيها، ومن أين أتاها ذلك ؟
فاعلم أنَّ اللهَ سبحانه أتقن كُلَّ شىء صنعه، وأحسن كُلَّ شىء خلقه، فهو عند مبدإ
خلقه برىءٌ من الآفات والعلل، تامُّ المنفعة لما هُيىء وخُلِقَ له، وإنما تعرِضُ
له الآفاتُ بعد ذلك بأُمور أُخَر من مجاورة، أو امتزاج واختلاط، أو أسباب أُخَر
تقتضى فسادَه، فلو تُرِكَ على خِلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به، لم
يفسد.
ومَنْ له معرفة بأحوال العالَم ومبدئه يعرِف أنَّ جميع الفساد فى جَوِّه ونباته
وحيوانه وأحوالِ أهله، حادثٌ بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثَه، ولم تزل أعمالُ بنى
آدَم ومخالفتُهم للرُّسُل تُحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من
الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض،
وثمارها، ونباتها،v
وسلب منافعها، أو نقصانها
أُموراً متتابعة يتلو بعضُهَا بعضاً.
فإن لم يَتَّسِعْ علمك لهذا فاكتفِ بقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ}[الروم:41]، ونَزِّل هذه الآية على
أحوالِ العالَم، وطابِقْ بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفاتُ والعلل كل
وقت فى الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدُث من تلك الآفات آفاتٌ أُخَرُ متلازمة،
بعضُها آخذ برقاب بعض، وكُلَّما أحدث الناسُ ظلماً وفجوراً، أحدث لهم ربهم تبارك
وتعالى من الآفات والعلل فى أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم،
وصُورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم.
ولقد كانت الحبوب من الحِنطة وغيرها أكبرَ مما هى اليوم، كما كانت البركةُ فيها
أعظمَ. وقد روى الإمام أحمد بإسناده: أنه وجد فى خزائن بعض بنى أميةَ صرة فيها
حِنطةٌ أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها: هذا كان ينبُت أيامَ العدل. وهذه القصة،
ذكرها فى "مسنده" على أثر حديث رواه
وأكثرُ هذه الأمراض والآفات العامة بقيةُ عذاب عُذِّبتْ به الأُممُ السالفة، ثم
بقيت منها بقية مُرصَدَةٌ لمن بقيت عليه بقيةٌ من أعمالهم، حكماً قسطاً، وقضاءً
عدلاً، وقد أشار النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا بقوله فى
الطاعون: "إنَّه بقيةُ رجز أو عذاب أُرسِلَ على بنى إسرائيلَ".
وكذلك سلَّط اللهُ سبحانه وتعالى الريحَ على قومٍ سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام، ثم
أبقَى فى العالَم منها بقيةً فى تلك الأيام، وفى نظيرها عِظةً وعِبرة.
وقد جعل اللهُ سبحانه أعمال البَرِّ والفاجر مقتضياتٍ لآثارها فى هذا
العالَم اقتضاءً لا بد منه،
فجعل منعَ الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغَيْث من السماء، والقحطِ
والجَدْبِ، وجعَلَ ظلمَ المساكين، والبخسَ فى المكاييل والموازين، وتعدِّى
القَوِّىُّ على الضعيف سبباً لجَوْر الملوك والولاة الذين لا يَرحمون إن
اسْتُرْحِموا، ولا يَعْطِفُون إن استُعطِفُوا، وهم فى الحقيقة أعمالُ الرعايا ظهرت
فى صور وُلاتهم، فإنَّ اللهَ سبحانه بحكمته وعدله يُظهِرُ للناس أعمالَهم فى
قوالِب وصورٍ تناسبها، فتارةً بقحط وجدب، وتارة بعدوٍّ، وتارةً بولاة جائرين،
وتارةً بأمراضٍ عامة، وتارةً بهُموم وآلام وغموم تحضُرها نفوسُهم لا ينفكُّونَ
عنها، وتارةً بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارةً بتسليط الشياطين عليهم
تَؤُزُّهم إلى أسباب العذاب أزَّاً، لِتَحِقَّ عليهم الكلمة، وليصيرَ كل منهم إلى
ما خُلِقَ له. والعاقل يُسَيِّر بصيرته بين أقطار العالَم، فيُشاهدُه، وينظر
مواقعَ عدل الله وحكمته، وحينئذ يَتَبيَّنُ له أنَّ الرُّسُلَ وأتباعَهُم خاصةً
على سبيل النجاة، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون، وإلى دار البَوار صائرون،
واللهُ بالغُ أمرِه، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا رادَ لأمره.. وبالله التوفيق
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الكمأة: "وماؤها شفاء
للعَيْنِ" فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّ ماءَها يُخلَط فى
الأدوية التى يُعالَج بها العَيْنُ، لا أنه يُستعمل وحده، ذكره أبو عُبيد.
الثانى: أنه يُستعمل بحْتاً بعد شَيِّها، واستقطار مائها، لأنَّ النار تُلطِّفه
وتُنضجه، وتُذِيبُ فضلاتِه ورطوبتَه المؤذية، وتُبقى المنافع.
الثالث: أنَّ المراد بمائها الماءُ الذى يحدث به من المطر، وهو أولُ قَطْر ينزل
إلى الأرض، فتكون الإضافة إضافةَ اقتران، لا إضافة جزء، ذكره ابن الجوزى، وهو
أبعدُ الوجوه وأضعفها.
وقيل: إن استُعمل ماؤها لتبريد ما فى العَيْن، فماؤها مجرَّداً شفاء، وإن كان لغير
ذلك، فمركَّب مع غيره.
وقال الغافقى: ماء الكمأة أصلح الأدوية للعَيْن إذا عُجِنَ به الإثمِد واكتُحِلَ
به، ويُقوِّى أجفانها، ويزيدُ الروحَ الباصرة قوةً وحِدَّة، ويدفع عنها نزول
النوازل.
كَبَاثٌ: فى "الصحيحين": من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه، قال:
كُنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْنِى الكَباثَ، فقال:
"عليكم بالأسْوَدِ مِنْهُ، فإنَّه أطْيَبُه".
الكَباث بفتح الكاف، والباء الموحدة المخففة، والثاء المثلثة ثمرُ الأراك. وهو
بأرض الحجاز، وطبعُه حار يابس، ومنافعُه كمنافع الأراك: يُقَوِّى المعدة، ويُجيدُ
الهضمَ، ويجلُو البلغمَ، وينفعُ مِن أوجاع الظهر، وكثيرٍ من الأدواء. قال ابن
جُلْجُل: إذا شُرِبَ طحينُه، أدرَّ البَوْلَ، ونقَّى المثانة، وقال ابنُ رضوان:
يُقَوِّى المَعِدَة، ويُمسكُ الطبيعة.
كَتَمٌ: روى البخارىُّ فى
"صحيحه": عن عثمان بن عبد الله ابن مَوْهَب، قال: دخلنا على أُمِّ
سَلَمة رضى الله عنها، فأخرجت إلينا شعَراً من شعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو مخضوبٌ بالحِنَّاء والكَتَمِ.
وفى "السنن الأربعة": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: " إنَّ أحسنَ ما غيَّرْتُم به الشَّيْبَ الحِنَّاءُ والكَتَمُ".
وفى "الصحيحين": عن أنس رضى الله عنه، أنَّ أبا بكر رضى الله عنه اختَضب
بالحِنَّاءِ والكَتَمِ.
وفى "سنن أبى داود": عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: مَرَّ على
النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ قد خَضَبَ بالحِنَّاء، فقال:
"ما أحْسَنَ هذا" ؟، فمرَّ آخرُ قد خَضَبَ بالحِنَّاءِ والكَتَم، فقال:
"هذا أحسنُ من هذا"، فمرَّ آخَرُ قد خَضَبَ بالصُّفرة، فقال: "هذا
أحسنُ من هذا كُلِّهِ".
قال الغافِقى: "الكَتَمُ نبتٌ ينبُت بالسهول، ورقُه قريب مِن ورق الزَّيْتون،
يعلُو فوقَ القامة، وله ثمر قَدْرَ حَبِّ الفُلفُل، فى داخله نوى، إذا رُضِخَ
اسودَّ، وإذا استُخرجَتْ عُصارة ورقه، وشُرِبَ منها قدرُ أُوقية، قَيَّأَ قيئاً
شديداً، وينفع عن عضة الكلب. وأصلُه إذا طبِخَ بالماء كان منه مِدادٌ يُكتب به.
وقال الكِندى: بزر الكَتَم إذا
اكتُحِلَ به، حلَّل الماء النازل فى العين وأبرأها.
وقد ظن بعض الناس أنَّ الكَتَمَ هو الوَسْمة، وهى ورق النِّيل، وهذا وهَمٌ، فإن
الوَسْمة غير الكَتَم. قال صاحب "الصحاح": "الكَتَم بالتحريك: نبت
يُخلط بالوَسْمة يُختضَب به. قيل: والوَسْمة نباتٌ له ورق طويل يَضرِبُ لونه إلى
الزرقة أكبرُ من ورق الخِلاف، يُشبه ورق اللُّوبياء، وأكبرُ منه، يُؤتى به من
الحجاز واليمن.
فإن قيل: قد ثبت فى "الصحيح" عن أنس رضى الله عنه، أنه قال: "لم
يختضِب النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قيل: قد أجاب أحمد بن حنبلٍ عن هذا وقال: قد شَهِدَ به غيرُ أنس رضى الله عنه على
النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خَضَبَ. وليس مَنْ شَهِدَ بمنزلة
مَن لم يشهدْ، فأحمدُ أثبتَ خِضاب النبىّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه
جماعة من المحدِّثين، ومالك أنكره.
فإن قيل: قد ثبت فى "صحيح مسلم" النهىُ عن الخِضاب بالسواد فى شأن أبى
قُحافةَ لمَّا أُتِىَ به ورأسُه ولحيتُه كالثَّغَامة بياضاً، فقال:
"غَيِّرُوا هذا الشَّيْبَ وجَنِّبُوهُ السَّوَاد". والكتمُ يُسَوِّد
الشعرَ.
فالجواب من وجهين، أحدهما: أنَّ النهى عن التسويد البحت،
فأمَّا إذا أُضيف إلى
الحِنَّاء شىءٌ آخرُ، كالكَتَم ونحوه، فلا بأس به، فإنَّ الكَتَمَ والحِنَّاء يجعل
الشعر بيْن الأحمر والأسود بخلاف الوَسْمة، فإنها تجعلُه أسود فاحماً، وهذا أصح
الجوابين.
الجواب الثانى: أنَّ الخِضَاب بالسَّوَاد المنهى عنه خِضابُ التدليس، كخِضاب شعر
الجارية، والمرأةِ الكبيرة تغرُّ الزوج، والسيدَ بذلك، وخِضَاب الشيخ يَغُرُّ
المرأةَ بذلك، فإنه من الغش والخِداع، فأما إذا لم يتضمن تدليساً ولا خِداعاً، فقد
صحَّ عن الحسن والحسين رضى الله عنهما أنهما كانا يخضِبان بالسَّواد، ذكر ذلك ابن
جرير عنهما فى كتاب "تهذيب الآثار"، وذكره عن عثمان ابن عفان، وعبد الله
بن جعفر، وسعد بن أبى وقاص، وعُقبةَ بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد
الله، وعمرو بن العاص.
وحكاه عن جماعة من التابعين، منهم: عمرو بن عثمان، وعلى بن عبد الله بن عباس، وأبو
سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزُّهْرى، وأيوب،
وإسماعيل بن معدى كرب.
وحكاه ابن الجوزى عن محارب بن دِثار، ويزيد، وابن جُريج، وأبى يوسفَ، وأبى إسحاق،
وابن أبى ليلى، وزياد بن عَلاقة، وغَيلان بن جامع، ونافع بن جُبير، وعمرو بن على
المُقَدَّمى، والقاسم بن سلام
كَرْمٌ: شجرة العِنَب، وهى الحَبَلَةُ، ويُكره تسميتها كَرْماً، لما روى مسلم فى
"صحيحه" عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "
لا يقولَنَّ أحدُكُمْ للعِنَبِ الكَرْمَ، الكَرْمُ: الرَّجُلُ المُسْلِمُ".
وفى رواية: "إنما الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ"، وفى أُخرى: "لا
تقولوا: الكرمُ، وقُولُوا: العِنَبُ والحَبَلَةُ".
وفى هذا معنيان:
أحدهما: أنَّ العرب كانت تُسمى شجرة العِنَب الكَرْمَ، لكثرة منافعها وخيرها، فكره
النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسميَتها باسم يُهيِّج النفوس على
محبتها ومحبة ما يُتخذ منها من المسكر، وهو أُمُّ الخبائث، فكره أن يُسمَّى أصلُه
بأحسن الأسماء وأجمعها للخير.
والثانى: أنه من باب قوله: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ"،
و"لَيْسَ المِسْكينُ بالطَّوَّافِ". أى: أنكم تُسمون شجرةَ العِنَب
كَرْماً لكثرة منافعه، وقلبُ المؤمن أو الرجل المسلم أولى بهذا الاسم منه، فإنَّ
المؤمنَ خيرٌ كُلُّه ونفع، فهو من باب التنبيه والتعريف لما فى قلب المؤمن من
الخير، والجود، والإيمان، والنور، والهدى، والتقوى، والصفات التى يستحق بها هذا
الاسم أكثرُ من استحقاق الحَبَلَة له.وبعد.. فقوةُ الحَبَلَةِ باردة يابسة، وورقُها
وعلائقها وعرمُوشها مبرد فى آخر الدرجة الأُولى، وإذا دُقَّت وضُمِّدَ بها من
الصُّدَاع سكنته، ومن الأورام الحارة والتهاب المعدة. وعُصارةُ قضبانه إذا شُرِبت
سكَّنت القىء، وعقلت البطن، وكذلك إذا مُضغت قلوبها الرطبة. وعُصارةُ ورقها،
تنفع من قروح الأمعاء، ونفْث
الدم وقيئه، ووجع المَعِدَة. ودمعُ شجره الذى يُحمل على القضبان، كالصمغ إذا
شُرِبَ أخرج الحصاة، وإذا لُطِخَ به، أبرأ القُوَبَ والجَرَبَ المتقرح وغيره،
وينبغى غسل العضو قبل استعمالها بالماء والنَّطْرون، وإذا تمسَّح بها مع الزيت حلق
الشعر، ورمادُ قضبانه إذا تُضمِّدَ به مع الخل ودُهْن الورد والسَّذاب، نفع من
الورم العارض فى الطِّحال، وقوةُ دُهْن زهرة الكَرْم قابضة شبيهةٌ بقوة دُهْن
الورد، ومنافعها كثيرة قريبة من منافع النخلة.
كَرَفْس: روى فى حديث لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أنه قال: "مَن أكَلَهُ ثم نامَ عليه، نام ونَكْهتُهُ طَيِّبةٌ، وينامُ آمناً
من وَجَعِ الأضراسِ والأسنانِ"، وهذا باطل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن البُسْتانىَّ منه يُطيِّب النكهة جدّاً، وإذا عُلِّق
أصله فى الرقبة نفع من وجع الأسنان.
وهو حارٌ يابس، وقيل: رطب مفتِّح لسُداد الكَبِد والطِّحال، وورقُه رطباً ينفعُ
المَعِدَة والكَبِدَ الباردة، ويُدِرُّ البَوْل والطَّمْث، ويُفتِّت الحصاة،
وحَبّه أقوى فى ذلك، ويُهيِّج الباه، وينفعُ مِن البَخَر. قال الرازىُّ: وينبغى أن
يُجتنب أكله إذا خِيفَ من لدغ العقارب.
كُرَّاثٌ: فيه حديث لا يصِحُّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل
هو باطل موضوع: " مََن أَكَلَ الكُرَّاث ثم نامَ عليه نام آمناً مِنْ ريح
البَوَاسيرِ واعْتَزَلَهُ الملََكُ لِنَتَنِ نََكْهَتِه حتى يُصْبحَ".
وهو نوعان: نَبَطىٌّ وشامىٌّ، فالنبطىُّ: البقلُ الذى يوضع على المائدة.
والشامىُّ: الذى له رؤوس، وهو حار يابس مُصدِّع، وإذا
طُبخَ وأُكِلَ، أو شُرِب ماؤه،
نفع من البواسير الباردة. وإن سُحِقَ بزره، وعُجِنَ بقَطِرَانٍ، وبُخِّرَت به
الأضراسُ التى فيها الدودُ نثرها وأخرجها، ويُسكِّن الوجع العارض فيها، وإذا دُخنت
المقعدةُ ببزره خَفَّت البواسير، هذا كله فى الكُرَّاث النَبَطى.
وفيه مع ذلك فساد الأسنان واللِّثَة، ويُصَدِّع، ويُرى أحلاماً رديئةً، ويُظلم
البصر، ويُنتن النَّكهة، وفيه إدرارٌ للبَوْل والطَّمث، وتحريكٌ للباه، وهو بطىءُ
الهضم.
حرف اللام
لَحْمٌ: قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا
يَشْتَهُونَ}[الطور: 22]، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:
21].
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث أبى الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيِّدُ طَعَامِ أهْلِ الدُّنيا وأهْلِ الجَنَّةِ
اللَّحْمُ". ومن حديث بُريدةَ يرفعه: " خَيْرُ الإدَامِ فِى الدُّنيا
والآخِرَةِ اللَّحْمُ ".
وفى "الصحيح" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فضلُ عائشةَ
على النِّساءِ كفضلِ الثَّريدِ على سائِرِ الطَّعَامِ ".
و"الثريد": الخبز واللَّحم. قال الشاعر:
إذَا مَا الْخبْزُ تَأْدِمُهُ
بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثّرِيدُ
وقال الزُّهْرى: أكل اللَّحْم يَزيدُ سبعين قوَّة، وقال محمد بن واسع: اللَّحْم
يزيد فى البصر، ويُروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه:
"كُلُوا اللَّحْمَ، فإنه يُصَفِّى اللَّوْنَ، ويُخْمِصُ البَطْنَ، ويُحَسِّنُ
الخُلُقَ"، وقال نافع: كان ابن عمر إذا كان رمضانُ لم يَفُتْه اللَّحْم، وإذا
سافر لم يفته اللَّحْمَ. ويُذكر عن علىٍّ: مَن تركه أربعين ليلة ساء خُلُقه.
وأما حديث عائشة رضى الله عنها، الذى رواه أبو داود مرفوعاً: "لا تَقْطَعُوا
اللَّحْمَ بالسكِّين، فإنه من صَنِيع الأعَاجِم، وانْهشُوهُ، فإنه أَهْنَأُ
وأمرأُ". فرده الإمام أحمد بما صحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِن قَطعِه بالسِّكِين فى حديثين، وقد تقدَّما.
واللَّحمُ أجناس يختلِفُ باختلافِ أُصولِهِ وطبائعه، فنذكرُ حُكمَ كل جنس وطبعَه
ومنفعَته ومضرَّته.
لحم الضأن: حار فى الثانية، رطب فى الأُولى، جيده الحَوْلىُّ، يُولِّدُ الدم
المحمود القوى لمن جاد هضمُه، يصلح لأصحاب الأمزجة الباردة والمعتدلة، ولأهل
الرياضات التامة فى المواضع والفصول الباردة، نافع لأصحاب المِرَّة السوداء،
يُقوِّى الذهن والحفظ. ولحم الهَرِمِ والعَجيفِ ردىء، وكذلك لحمُ النِّعاج،
وأجوده: لحمُ الذَّكَر الأسود
منه، فإنه أخف وألذ وأنفع،
والخصىُّ أنفعُ وأجود، والأحمر من الحيوان السمين أخفُّ وأجودُ غذاءً، والجَذَعُ
مِن المَعْز أقل تغذية، ويطفو فى المَعِدَة.
وأفضل اللَّحْم عائذه بالعظم، والأيمن أخف وأجود من الأيسر، والمقدم أفضل من
المؤخر، وكان أحبُّ الشاة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مقدمها، وكلُّ ما علا منه سوى الرأس كان أخفَّ وأجود مما سَفَل، وأعطى الفرزدقُ
رجلاً يشترى له لحماً وقال له: "خذ المقدَّم، وإياك والرأسَ والبطنَ، فإنَّ
الداء فيهما".
ولحم العنق جيد لذيذ، سريعُ الهضم خفيف، ولحم الذراع أخفُّ اللَّحْم وألذُّه
وألطفه وأبعدُه من الأذى، وأسرعُه انهضاماً.
وفى "الصحيحين": أنه كان يُعجِب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولحم الظَّهْر كثير الغذاء، يُولِّد دماً محموداً. وفى "سنن ابن ماجه"
مرفوعاً: "أطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ".
لحمُ المَعْز: قليل الحرارة، يابس، وخِلْطُه المتولد منه ليس بفاضل وليس بجيد
الهضم، ولا محمود الغذاء. ولحمُ التَّيْس ردىءٌ مطلقاً، شديد اليُبس، عَسِرُ
الانهضام، مُولِّد للخلط السوداوى.
قال الجاحظ: قال لى فاضل من الأطباء: يا أبا عثمان؛ إياك ولحمَ المَعْز، فإنه
يُورث الغم، ويُحرِّك السوادءَ، ويُورث النسيان، ويُفسد الدم، وهو واللهِ يَخْبِلُ
الأولاد.
وقال بعض الأطباء: إنما
المذمومُ منه المُسِنُّ، ولا سِيَّما للمُسنِّين، ولا رداءةَ فيه لمن اعتاده.
و"جالينوس" جعل الحَوْلىَّ منه من الأغذية المعتدلة المعدِّلة للكَيْموس
المحمود، وإناثُه أنفعُ من ذكوره.
وقد روى النسائى فى "سننه": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أحْسِنوا إلى الماعِزِ وأمِيطُوا عنها الأذى، فإنها من دوابِّ
الجَنَّةِ". وفى ثبوت هذا الحديث نظرٌ.
وحكمُ الأطباء عليه بالمضرَّة حكمٌ جزئىٌ ليس بكلىٍّ عام، وهو بحسب المَعِدَة
الضعيفة، والأمزجة الضعيفة التى لم تعتده، واعتادت المأكولات اللطيفة، وهؤلاء أهل
الرفاهية من أهل المدن، وهم القليلون من الناس.
لحم الجَدْى: قريب إلى الاعتدال، خاصةً ما دام رَضيعاً، ولم يكن قريبَ العهد
بالوِلادة، وهو أسرعُ هضماً لما فيه من قُوَّة اللَّبن، مُليِّن للطبع، موافق
لأكثر الناس فى أكثر الأحوال، وهو ألطفُ مِن لحم الجمل، والدمُ المتولد عنه معتدل.
لحم البَقَر: بارد يابس، عَسِرُ الانهضام، بطىءُ الانحدار، يُوَلِّدُ دماً
سوداوياً، لا يصلُح إلا لأهلِ الكَدِّ والتعب الشديد، ويُورث إدمانُه الأمراضَ
السوداوية، كالبَهَق والجَرَب، والقُوباء والجُذام، وداء الفيل، والسَّرَطانِ،
والوسواس، وحُمَّى الرِّبع، وكثير من الأورام، وهذا لمن لم يعتده، أو لم يَدفعْ
ضررَه بالفُلفُل والثُّوم والدارصينى والزنجبيل ونحوه، وَذَكَرُه أقلُّ بُرودةً،
وأُنثاه أقلُّ يبساً.
ولحمُ العِجل ولا سِيَّما السمينَ مِن أعدل الأغذية وأطيبِها وألذها وأحمدِهَا،
وهو حار رطب، وإذا انهضم غذَّى غذاءً قوياً.
لحم الفَرَس: ثبت فى
"الصحيح" عن أسماءَ رضى الله عنها، قالت: نَحرْنا فرساً فأكلناه على
عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أذن فى لحوم الخيل، ونَهى عن لحوم الحُمُرِ. أخرجاه فى
الصحيحين.
ولا يثبت عنه حديثُ المِقدام بن معدى كرب رضى الله عنه أنه نهى عنه. قاله أبو داود
وغيره من أهل الحديث
واقترانُه بالبغالِ والحَميرِ فى القرآن لا يدل على أنَّ حكم لحمه حكم لحومها بوجه
من الوجوه، كما لا يدُلُّ على أنَّ حكمها فى السهم فى الغنيمة حكمُ الفَرَس، والله
سبحانه يَقْرِنُ فى الذِّكْرِ بين المُتماثِلات تارةً، وبين المختلفات، وبين
المتضادَّات، وليس فى قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} ما يمنع من أكلها، كما ليس فيه ما
يمنعُ من غير الركوب من وجوه الانتفاع، وإنما نَصَّ على أجلِّ منافعها، وهو
الركوبُ، والحديثان فى حِلِّها صحيحان لا مُعَارِضَ لهما.
وبعد.. فلحمُهَا حارٌ يابس، غليظٌ سوداوىٌّ مُضِرٌ لا يصلح للأَبدان اللَّطيفة.
لحم الجَمل: فَرْقُ ما بين الرافضة وأهل السُّنَّة، كما أنه أحد الفروق بين اليهود
وأهل الإسلام. فاليهود والرافضة تَذُمُّه ولا تأكله، وقد عُلِمَ بالاضطرار من دين
الإسلام حِلُّه، وطالَما أكله رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأصحابُه حَضَراً وسَفَراً
ولحم الفَصيل منه مِن ألذِّ
اللُّحوم وأطيبها وأقواها غِذاءً، وهو لمن اعتاده بمنزلة لحم الضأن لا يضرُّهم
ألبتة، ولا يُولِّد لهم داء، وإنما ذمَّه بعضُ الأطباء بالنسبة إلى أهل الرفاهية
مِن أهل الحَضَر الذين لا يعتادوه، فإنَّ فيه حرارة ويُبْساً، وتوليداً للسَّوداء،
وهو عَسِرُ الانهضام، وفيه قوةٌ غيرُ محمودة، لأجلها أمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوضوء مِن أكله فى حديثين صحيحين لا معارض لهما، ولا يصح
تأويلهُمَا بغسل اليد، لأنه خلافُ المعهود من الوضوء فى كلامه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتفريقه بينه وبين لحم الغنم، فخيَّر بين الوضوء وتركه منها،
وحتَّم الوضوء من لحوم الإبل. ولو حُمِلَ الوضوءُ على غسل اليد فقط، لحُمِلَ على
ذلك فى قوله: "مَن مسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَأ".
وأيضاً: فإنَّ آكِلَهَا قد لا يباشر أكلها بيده بأن يوضع فى فمه، فإن كان وضوؤه
غسلَ يده، فهو عبث، وحملٌ لكلام الشارع على غير معهوده وعُرْفه، ولا يَصِحُّ
معارضته بحديث: "كان آخرُ الأمرين من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ترك الوضوء مما مسَّت النار" لعدة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا عامٌ، والأمر بالوضوء منها خاص.
الثانى: أنَّ الجهة مختلفة، فالأمرُ بالوضوء منها بجهة كونها لحمَ
إبل سواء أكان نِيئاً، أو
مطبوخاً، أو قديداً، ولا تأثيرَ للنار فى الوضوء. وأمَّا تركُ الوضوء مما مسَّتِ
النَّار، ففيه بيانُ أنَّ مَسَّ النارِ ليس بسبب للوضوء، فأينَ أحدُهما مِن الآخر
؟ هذا فيه إثباتُ سبب الوضوء، وهو كونُه لحمَ إبل، وهذا فيه نفىٌ لسبب الوضوء، وهو
كونُه ممسوسَ النار. فلا تعارضَ بينهما بوجه.
الثالث: أنَّ هذا ليس فيه حكايةُ لفظ عام عن صاحب الشرع، وإنما هو إخبارٌ عن واقعة
فعل فى أمرين، أحدهما: متقدَّم على الآخر، كما جاء ذلك مبيَّناً فى نفس الحديث:
"أنهم قرَّبوا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحماً، فأكل،
ثم حضرتِ الصلاة، فتوضأ فصلَّى، ثم قرَّبوا إليه فأكل، ثم صلَّى، ولم يتوضأ، فكان
آخِرُ الأمرين منه تركَ الوضوءِ مما مسَّت النارُ"، هكذا جاء الحديثُ،
فاختصره الراوى لمكان الاستدلالِ، فأين فى هذا ما يصلُح لنسخ الأمر بالوضوء منه،
حتى لو كان لفظاً عاماً متأخراً مقاوِماً، لم يصلح للنسخ، ووجب تقديمُ الخاص عليه،
وهذا فى غاية الظهور.
لحم الضَّب: تقدَّم الحديثُ فى حِلِّه، ولحمه حار يابس، يُقوِّى شهوة الجِماع.
لحم الغزال: الغزالُ أصلحُ الصيد وأحمدُه لحماً، وهو حارٌ يابس، وقيل: معتدل جداً،
نافع للأبدان المعتدلة الصحيحة، وجيّدُه الخِشْف.
لحم الظَّبى: حارٌ يابس فى الأُولى، مجفِّف للبدن، صالح للأبدان الرطبة.
قال صاحب "القانون": وأفضلُ لحومِ الوحش لحمُ الظَّبىِ مع ميله إلى
السوداوية.
لحم الأرانب: ثبت فى "الصحيحين": عن أنس بن مالك، قال:"أنْفَجْنَا
أرنباً فَسَعَوْا فى طلبها، فأخذوها، فبعث أبو طلحة بِوَرِكِهَا
إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهُ".
لحم الأرنب: معتدل إلى الحرارة واليبوسة، وأطيبُها وَرِكُهَا، وأحمدُهُ أكل لحمها
مشوياً، وهو يَعقِل البطن، ويُدِرُّ البَوْل، ويُفتِّت الحصى، وأكلُ رؤوسها ينفعُ
مِن الرِّعشة.
لحم حمار الوَحْش: ثبت فى "الصحيحين": من حديث أبى قتادة رضى الله عنه:
"أنهم كانوا مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى بعض
عُمَرِهِ، وأنه صادَ حِمَارَ وحش، فأمَرُهم النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بأكله وكانوا مُحْرِمِين، ولم يكن أبو قتادة مُحْرِماً".
وفى "سنن ابن ماجه": عن جابر قال: "أكلْنا زمنَ خيبرَ الخيلَ
وحُمُرَ الوحش".
لحمه حار يابس، كثيرُ التغذية، مُولِّد دماً غليظاً سوداوياً، إلا أنَّ شحمَه نافع
مع دُهْن القُسط لوجع الظَّهر والرِّيح الغليظة المرخية للكُلَى، وشحمُه جيد
لِلْكَلَفِ طِلاءً، وبالجملة فلحومُ الوحوش كُلُّهَا تُولِّد دماً غليظاً سوداوياً،
وأحمدُه الغزال، وبعده الأرنب.
لحوم الأجِنَّة: غير محمودة لاحتقان الدم فيها، وليست بحرام لقوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَكَاةُ الجَنِين ذَكَاةُ أُمِّهِ ".
ومنعَ أهلُ العراق مِن أكله
إلا أن يُدْرِكَه حَيّاً فيُذَّكيه، وأوَّلوا الحديثَ على أن المراد به أنَّ ذكاته
كذكاة أُمِّه. قالوا: فهو حُجَّة على التحريم، وهذا فاسد، فإنَّ أول الحديث أنهم
سألوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالُوا: يا رسولَ الله؛
نذبحُ الشاةَ، فنجدُ فى بطنها جنيناً، أفنأكلهُ ؟ فقال: "كُلُوهُ إنْ شِئْتُم
فإنَّ ذكاتَهُ ذَكاةُ أُمِّهِ".
وأيضاً: فالقياسُ يقتضى حِلَّهُ، فإنه ما دامَ حَمْلاً فهو جزء من أجزاء الأُم،
فذكاتُهَا ذكاةٌ لجميع أجزائها، وهذا هو الذى أشار إليه صاحبُ الشرع بقوله:
"ذكاتُه ذكاةُ أُمِّه"، كما تكون ذكاتُها ذكاةَ سائر أجزائها، فلو لم
تأتِ عنه السُّنَّةُ الصريحة بأكله، لكان القياسُ الصحيحُ يقتضى حِلَّه.
لحم القَدِيد: فى "السنن": من حديث ثوبان رضى الله عنه قال: ذبحتُ
لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاةً ونحن مسافرون، فقال:
"أصْلِحْ لَحْمَها" فلم أزل أُطِعمُه منه إلى المدينة.
القديدُ: أنفع من النمكسود، ويُقوِّى الأبدان، ويُحدثُ حِكَّة، ودفعُ ضرره
بالأبازير الباردة الرطبة، ويُصلح الأمزجة الحارة.
والنمكسودُ: حارٌ يابس مجفِّف، جيِّدُه من السمين الرطب، يضرُّ بالقُولنْج، ودفعُ
مضرَّته طبخُه باللَّبن والدُّهْن، ويصلح للمزاج الحار الرطب.
فصل: فى لحوم الطير
قال الله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة: 21].
وفى "مسند البزَّار" وغيره مرفوعاً: "إنَّكَ لَتَنْظُرُ إلى
الطَّيْرِ فى الجَنَّةِ، فَتَشْتَهيهِ، فيَخِرُّ مشويّاً بين يَدَيْكَ".
ومنه حلال، ومنه حرام. فالحرامُ: ذو المِخلَب، كالصَّقرِ والبازى والشاهِين، وما
يأكلُ الجِيَفَ كالنَّسْر، والرَّخَم، واللَّقْلَق، والعَقْعَق، والغُراب
الأَبْقع، والأسود الكبير، وما نُهىَ عن قتله كالهُدهُدِ، والصُّرَدِ، وما أُمِرَ
بقتله كالحِدَأة والغراب.
والحلالُ أصناف كثيرة، فمنه:
الدَّجاج: ففى "الصحيحين" من حديث أبى موسى "أنَّ النبىَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل لحمَ الدَّجاجِ".
وهو حارٌ رطب فى الأُولى، خفيفٌ على المَعِدَة، سريعُ الهضم، جيدُ الخَلْطِ، يَزيد
فى الدِماغ والمَنِىِّ، ويُصفىِّ الصوت، ويُحَسِّنُ اللَّون، ويُقَوِّى العقل،
ويُوَلِّد دماً جيداً، وهو مائل إلى الرطوبة، ويقال: إنَّ مداومَة أكله تُورث
النِّقْرس، ولا يثبت ذلك.
ولحمُ الديك: أسخنُ مزاجاً، وأقلُّ رطوبة، والعتيقُ منه دواء
ينفع القُولنج والرَّبو
والرِّياح الغليظة إذا طُبخَ بماء القُرْطُم والشِّبْث، وخصِيُّها محمودُ
الغِذَاء، سريعُ الانهضام، والفَراريجُ سريعة الهضمِ، مُليِّنة للطبع، والدَّمُ
المتولد منها دمٌ لطيف جيد.
لحم الدُّرَّاج: حارٌ يابس فى الثانية، خفيفٌ لطيف، سريعُ الانهضام، مُولِّد للدم
المعتدل، والإكثارُ منه يُحِدُّ البصر.
لحم الحَجَل: يُوَلِّد الدم الجيد، سريعُ الانهضام.
لحم الإوَزِّ: حارٌ يابس، ردىء الغذاء إذا أُعتِيد، وليس بكثير الفضول.
لحم البَطِّ: حارٌ رطب، كثيرُ الفضول، عَسِرُ الانهضام، غيرُ موافق للمَعِدَة.
لحم الحُبَارَى: فى "السنن" من حديث بُرَيْهِ بن عمر بن سَفينةَ، عن
أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال :"أكلتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْمَ حُبَارَى".
وهو حارٌ يابس، عَسِرُ الانهضام، نافِعٌ لأصحاب الرياضة والتعب.
لحم الكُرْكىِّ: يابسٌ خفيف، وفى حرِّه وبرده خلافٌ، يُوَلِّد دماً سوداوياً،
ويصلُح لأصحاب الكَدِّ والتعب، وينبغى أن يُترك بعد ذبحه يوماً أو يومين، ثم يؤكل.
لحم العصافير والقَنَابِر: روى النسائِى فى "سننه": من حديث عبد الله بن
عمرو رضى الله عنه، أنَّ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "
ما من إنسانٍ يَقْتُل عُصفوراً فما فوقَهُ بغير حَقِّهِ إلاَّ سألَهُ اللهُ عَزَّ
وجَلَّ عنها". قيل: يا رسول الله؛ وما حقُّه ؟ قال: "تَذْبحُه
فتأكُلُهُ، ولا تَقْطَعُ رأسهُ وتَرْمى به".
وفى "سننه" أيضاً:
عن عمرو بن الشَّريد، عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً عَبَثاً، عَجَّ إلى الله يقولُ: يا
ربِّ؛ إنَّ فُلاناً قَتَلَنِى عَبَثاً، ولم يَقْتُلْنى لِمَنْفَعَةٍ".
ولحمُه حارٌ يابس، عاقِلٌ للطبيعة، يَزيدُ فى الباه، ومرقُه يُلَيِّن الطبع، وينفع
المفاصِل، وإذا أُكِلَتْ أدمغتها بالزنجبيل والبصل، هيَّجَتْ شهوَة الِجماع،
وخَلطُها غير محمود.
لحم الحَمَام: حارٌ رطب، وحشيُّه أقل رطوبةً، وفراخُه أرطب خاصية، ما رُبِّى فى
الدُّور وناهضُه أخف لحماً، وأحمدُ غذاءً، ولحمُ ذكورها شفاءٌ من الاسترخاء
والخَدَرِ والسَّكتة والرِّعشة، وكذلك شَمُّ رائحة أنفاسها. وأكلُ فِراخها معينٌ
على النساء، وهو جَيِّد للكُلَى، يزيدُ فى الدم، وقد روى فيها حديثٌ باطل لا أصل
له عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنَّ رجلاً شكى إليه الوَحدة،
فقال: "اتَّخِذْ زوجاً مِن الحَمام". وأجودُ من هذا الحديث أنه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً يتبعُ حمامةً، فقال: "شَيْطانٌ يَتْبَعُ
شَيْطَانَةً".
وكان عثمان بن عفان رضى الله
عنه فى خطبته يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام.
لحم القَطَا: يابس، يُولِّد السوداء، ويحبِسُ الطبع، وهو من شر الغذاء، إلا أنه
ينفع من الاستسقاء.
لحم السُّمَانى: حارٌ يابس، ينفعُ المفاصل، ويضُرُّ بالكَبِدِ الحار، ودفعُ
مضَّرته بالخَلِّ والكُسْفَرَة، وينبغى أن يُجتنبَ مِن لحوم الطير ما كان فى
الآجام والمواضع العَفِنة.
ولحومُ الطير كلها أسرعُ انهضاماً من المواشى، وأسرعُها انهضاماً أقلُّها غذاءً،
وهى الرِّقاب والأجنحة، وأدمغتُها أحمد من أدمغة المواشى.
الجراد: فى "الصحيحين": عن عبد الله بن أبى أوْفَى قال: "غزونا مع
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعَ غَزَواتٍ، نأكُلُ
الجَرَادَ".
وفى "المسند" عنه: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ: الحُوتُ
والجرادُ، والكَبِدُ والطِّحالُ". يُروى مرفوعاً وموقوفاً على ابن عمر رضى
الله عنه.
وهو حارٌ يابس، قليل الغذاء، وإدامةُ أكله تُورث الهزال، وإذا تُبُخِّرَ به نفع من
تقطير البَوْل وعُسرِه، وخصوصاً للنساء، ويُتبخَّر به للبواسير، وسِمانُه يُشوى
ويُؤكل للسع العقرب، وهو ضار لأصحابِ الصَّرع، ردىء الخَلط.
وفى إباحة ميتته بلا سبب قولان: فالجمهور على حِلِّه، وحرَّمه مالك، ولا خِلافَ فى
إباحة ميتته إذا مات بسبب، كالكبسِ والتحريق ونحوه.
فصل: [فى ضرر المداومة على أكل
اللَّحم]
وينبغى أن لا يُداوَمَ على أكل اللَّحم، فإنه يُورث الأمراض الدموية والامتلائية،
والحمّياتِ الحادَّة، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم واللَّحم، فإنَّ له
ضَرَاوةً كضراوة الخَمر ،[وإنَّ الله يبغض أهل البيت اللَّحمين] (1). ذكره مالك فى
الموطأ عنه.
وقال "أبقراط": لا تجعلوا أجوافكم مقبرةً للحيوان
فصل: فى الألبان
اللَّبن: قال الله تعالى: { وَإنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً،
نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً
سَائِغاً لِّلشَّارِبينَ} [النحل: 66].
وقال فى الجنَّة: {فِيهَا أنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن
لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}[محمد: 15]
وفى "السنن" مرفوعاً: "مَن أطْعَمَهُ اللهُ طَعاماً فَلْيَقُلْ:
اللهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وارزُقْنا خَيراً منه، وَمَن سقاه اللهُ لبناً،
فَلْيَقُلْ: اللُّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنى لا أعلم ما يُجْزِئ من
الطعام والشرابِ إلا اللَّبَن".
اللَّبن: وإن كان بسيطاً فى الحس، إلا أنه مُركَّب فى أصل الخِلقة تركيباً طبيعياً
من جواهرَ ثلاثةٍ: الجُبْنِيةِ، والسَّمنيةِ، والمائيَّةِ. فالجُبْنِيةُ: باردة
رطبة، مُغذِّية للبدن. والسَّمنيةُ: معتدلة الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن
الإنسانى الصحيح، كثيرةُ المنافع. والمائيةُ: حارة رطبة، مُطْلِقة للطبيعة،
مُرطِّبة للبدن. واللَّبنُ على الإطلاق أبردُ وأرطبُ مِنَ المعتدل.
__________
(1) قال منسق الكتاب للشاملة : ما بين المعكوفتين ليس في ط الرسالة ، ووجدته في
مطبوعة أخرى لزاد المعاد .. ، ولم أجده في الموطأ
وقيل: قوَّتُه عند حلبه الحرارةُ
والرطوبةُ، وقيل: معتدل فى الحرارة والبرودة.
وأجودُ ما يكون اللَّبن حين يُحلب، ثم لا يزال تنقصُ جُودتُه على ممر الساعات،
فيكونُ حين يُحلب أقلَّ برودةً، وأكثرَ رطوبةً، والحامِض بالعكس، ويُختار اللَّبن
بعد الولادة بأربعين يوماً، وأجودُه ما اشتد بياضُه، وطاب ريحُه، ولذَّ طعمُه،
وكان فيه حلاوةٌ يسيرة، ودُسومةٌ معتدِلة، واعتدل قِوَامه فى الرِّقة والغِلَظِ،
وحُلِبَ من حيوان فتيٍ صحيح، معتدِلِ اللَّحم، محمودِ المرعَى والمَشربَ.
وهو محمودٌ يُوَلِّد دماً جيداً، ويُرَطِّب البدنَ اليابس، ويغذو غِذَاءً حسناً،
وينفع مِن الوَسواس والغم والأمراض السوداويَّة، وإذا شُرِبَ مع العسل نقَّى
القُروح الباطنة من الأخلاط العفنة. وشُربُه مع السكر يُحسِّنُ اللَّون جداً.
والحليب يتدارك ضرر الجِماع، ويُوافق الصدر والرئة، جيد لأصحاب السُّل، ردىء للرأس
والمَعِدَة، والكبد والطِّحال، والإكثارُ منه مضرٌ بالأسنان واللِّثَة، ولذلك
ينبغى أن يُتمضمض بعدَه بالماء، وفى "الصحيحين": أنَّ النبىَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب لبناً، ثم دعا بماء فتمضمض وقال: "إنَّ لَهُ
دَسَماً".
وهو ردىء للمحمومين، وأصحاب الصُّداع، مؤذٍ للدماغ، والرأس الضعيف. والمُداومةُ
عليه تُحدث ظلمة البصر والغِشاء، ووجع المفاصل،
وسُدة الكبد، والنفخ فى المعدة
والأحشاء، وإصلاحُه بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه، وهذا كُلُّهُ لمن لم يعتدْه.
لبن الضَّأْن: أغلظُ الألبان وأرطبُهَا، وفيه من الدُّسومة والزُّهومة ما ليس فى
لبن الماعِز والبقر، يُوَلِّدُ فضولاً بلغميّاً، ويُحدِث فى الجلدِ بياضاً إذا
أُدمن استعمالُه، ولذلك ينبغى أن يُشاب هذا اللَّبنُ بالماء ليكون ما نال البدنُ
منه أقل، وتسكينُه للعطش أسرع، وتبريدُه أكثر.
لبن المَعْز: لطيف معتدل، مُطْلِق للبطن، مُرَطِّب للبدن اليابس، نافع مِن قروح
الحلق، والسُّعال اليابس، ونفث الدم.
واللَّبنُ المطلَقُ أنفعُ المشروبات للبدن الإنسانىِّ لما اجتمع فيه من التغذية
والدَّموية، ولاعتيادِهِ حالَ الطفولية، وموافقتِهِ للفطرة الأصلية.
وفى "الصحيحين": "أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُتىَ ليلةَ أُسْرِىَ به بقَدَحٍ من خَمْرٍ، وقَدَحٍ من لَبَنٍ، فنظر إليهما، ثم
أخذ اللَّبنَ، فقال جبريل: الحمدُ للهِ الذى هَدَاك لِلفِطْرَةِ، لو أخَذْتَ
الخَمْرَ، غَوَتْ أُمَّتُكَ". والحامض منه بطىء الاستمراء، خامُ الخِلط،
والمَعِدَة الحارة تهضِمُهُ وتنتفعُ به.
لبن البَقَر: يَغذُو البدن، ويُخصبه، ويُطلق البطن باعتدال، وهو من أعدل الألبان
وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز، فى الرِّقَة والغِلظ والدَّسم.
وفى "السنن": من حديث عبد الله بن مسعود يرفعه: " عليكم بألبانِ
البَقَرِ، فإنها تَرُمُّ من كُلِّ الشَّجَرِ ". لبن الإبلِ: تقدَّم ذكره فى
أول الفصل، وذكر منافعه، فلا حاجة
لإعادته.
لُبَانٌ: هو الكُنْدُرُ: قد ورد فيه عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "بَخِّروا بُيُوتَكُم باللُّبان والصَّعْتَرِ "، ولا يصحُّ
عنه، ولكن يُروى عن علىٍّ أنه قال لرجل شكا إليه النسيانَ: عليك باللُّبان، فإنه
يُشَجِّع القلبَ، ويَذْهَبُ بالنِّسيان. ويُذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنَّ
شُربه مع السُّكَّر على الريق جيدٌ للبَوْل والنِّسيان. ويُذكر عن أنس رضى الله
عنه أنه شكا إليه رجلٌ النسيانَ، فقال: عليك بالكُنْدُر وانقَعْهُ مِن اللَّيل،
فإذا أصبحتَ، فخُذْ منه شربةً على الرِّيق، فإنه جَيِّدٌ للنِّسيان.
ولهذا سبب طبيعى ظاهر، فإن النِّسيانَ إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلبُ على
الدماغ، فلا يحفَظُ ما ينطبعُ فيه، نفع منه اللُّبان، وأمَّا إذا كان النِّسيانُ
لغلبة شىء عارض، أمكن زوالُه سريعاً بالمرطبات. والفرق بينهما أنَّ اليبوسىَّ
يتبعه سهر، وحفظ الأُمور الماضية دون الحالية، والرُّطوبى بالعكس.
وقد يُحدِثُ النِّسيانَ أشياءُ بالخاصية، كحجامةُ نُقْرة القفا، وإدمانِ أكل
الكُسْفُرَة الرطبة، والتفاحِ الحامض، وكثرةِ الهَمِّ والغَمِّ، والنظرِ فى الماء
الواقف، والبَوْلِ فيه، والنظر إلى المَصلوب، والإكثارِ من قراءة ألواح القُبور،
والمشى بين جَمَلين مقطُورَين، وإلقاء القملِ فى الحياض، وأكل سُؤْر الفأر،
وأكثَرُ هذا معروف بالتجربة.
والمقصود: أنَّ اللُّبان مسخِّن فى الدرجة الثانية، ومجفِّف فى الأُولى، وفيه قبض
يسير، وهو كثيرُ المنافع، قليل المضار، فمن منافعه: أن ينفع مِن قذف الدم ونزفه،
ووجع المَعِدَة، واستطلاق البطن، ويهضِمُ الطعام،
ويطْرُدُ الرِّياح، ويجلُو
قروح العَيْن، ويُنبت اللَّحم فى سائر القروح، ويُقَوِّى المَعِدَة الضعيفة،
ويُسخِّنها، ويُجفف البلغم، ويُنَشِّف رطوباتِ الصدر، ويجلو ظُلمة البصر، ويمنع
القروح الخبيثة من الانتشار، وإذا مُضِغَ وحدَه، أو مع الصَّعْتر الفارسىِّ جلب
البلغم، ونفع من اعتقالِ اللِّسان، ويزيدُ فى الذهن ويُذكيه، وإن بُخِّرَ به ماء،
نفع من الوباء، وطيَّبَ رائحة الهواء.
حرف الميم
ماءٌ: مادةُ الحياة، وسَيِّدُ الشَّراب، وأحد أركان العالَم، بل ركنُه الأصلى،
فإنَّ السمواتِ خُلِقَتْ من بُخَارِه، والأرضَ مِن زَبَده، وقد جعل الله منه كُلَّ
شىءٍ حىٍّ.
وقد اختُلِف فيه: هل يَغذُو، أو يُنفذ الغذاءَ فقط ؟ على قولين، وقد تقدَّما،
وذكرنا القول الراجح ودليله.
وهو بارد رطب، يَقمعُ الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباتِهِ، ويرُد عليه بدلَ ما
تحلَّلَ منه، ويُرقِّق الغذاء، ويُنفذه فى العروق.
وتُعتبر جودةُ الماء من عشرة طرق:
أحدها: مِن لونه بأن يكون صافياً.
الثانى: مِن رائحته بأن لا تكون له رائحة البتة.
الثالث: مِن طعمه بأن يكون عذبَ الطعم حُلوَه، كماء النِّيل والفُرَات.
الرابع: مِن وزنه بأن يكون خفيفاً رقيقَ القِوام.
الخامس: مِن مجراه، بأن يكون
طيِّبَ المجرى والمسلك.
السادس: مِن منْبَعه بأن يكون بعيدَ المنبع.
السابع: مِن برُوزه للشمس والرِّيح، بأن لا يكون مختفياً تحت الأرض، فلا تتمكن
الشمس والريح من قُصارته.
الثامن: مِن حركته بأن يكونَ سريع الجرى والحركة.
التاسع: مِن كثرته بأن يكونَ له كثرة يدفع الفضلاتِ المخالطة له.
العاشر: مِن مصبه بأن يكون آخذاً من الشَّمال إلى الجنوب، أو من المغرب إلى
المشرق.
وإذا اعتبرتَ هذه الأوصاف، لم تجدها بكمالها إلا فى الأنهار الأربعة: النيلِ،
والفُرات، وسَيْحونَ، وجَيْحونَ.
وفى "الصحيحين" من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَيْحَانُ، وجَيْحَانُ، والنِّيلُ،
والفُرَاتُ، كُلٌ من أنهارِ الجنَّة".
وتُعتبر خِفة الماء من ثلاثة أوجه، أحدها: سُرعة قبوله للحر والبرد. قال
"أبقراط": المَاء الذى يسخُن سريعاً، ويبرُد سريعاً أخفُّ المياه.
الثانى: بالميزان.
الثالث: أن تُبَل قُطنتان متساويتا الوزنِ بماءين مختلفين، ثم يُجففا بالغاً، ثُم
توزنا، فأيتهما كَانت أخفَّ، فماؤها كذلك.
والماءُ وإن كان فى الأصل بارداً رطباً، فإن قُوَّته تنتقِلُ وتتغيَّرُ لأسباب
عارضة تُوجب انتقالها، فإن الماء المكشوفَ للشَّمال المستورَ عن الجهات
الأُخَر يكون بارداً، وفيه يبس
مكتسب من ريح الشَّمال، وكذلك الحكمُ على سائر الجهات الأُخَر.
والماءُ الذى ينبُع من المعادن يكونُ على طبيعة ذلك المَعْدِنِ، ويؤثر فى البدن
تأثيره.
والماءُ العذب نافع للمرضى والأصحاء، والباردُ منه أنفعُ وألذُّ، ولا ينبغى شربُه
على الريق، ولا عَقيبَ الجِمَاع، ولا الانتباهِ من النوم، ولا عَقيبَ الحمَّام،
ولا عَقيبَ أكل الفاكهة، وقد تقدَّم. وأما على الطعام، فلا بأس به إذا اضطُّر
إليه، بل يتعيَّنُ ولا يُكثر منه، بل يتمصَّصُه مصّاً، فإنه لا يضرُّه ألبتة، بل
يُقَوِّى المعدة، ويُنهض الشهوة، ويُزيل العطش.
والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضِدَّ ما ذكرناه، وبائتُه أجودُ مِن طريِّه وقد تقدَّم.
والباردُ ينفع من داخل أكثرَ مِن نفعه من خارج، والحارُّ بالعكسِ، وينفعُ الباردُ
مِن عفونة الدم، وصعود الأبخرة إلى الرأس، ويدفع العفوناتِ، ويُوافق الأمزجةَ
والأسنان والأزمانَ والأماكنَ الحارَّة، ويضر على كل حالة تحتاج إلى نُضج وتحليل،
كالزكام والأورام، والشديدُ البرودةِ منهُ يُؤذى الأسنان، والإدمانُ عليه يُحدث
انفجارَ الدَّم والنزلاتِ، وأوجاعَ الصدر.
والبارد والحار بإفراط ضارَّان للعصب ولأكثر الأعضاء، لأن أحدَهما محلِّل، والآخر
مُكَثِّف، والماء الحار يُسَكِّن لذع الأخلاط الحادة، ويُحلِّل ويُنضج، ويُخرج
الفضول، ويُرطِّب ويُسَخِّن، ويُفسد الهضمَ شربُه، ويَطفُو بالطعام إلى أعلى
المعدة ويُرخيها، ولا يُسرع فى تسكين العطش، ويُذبل البدن، ويُؤدى إلى أمراض
رديئة، ويضرُّ فى أكثر الأمراض على أنه صالح للشيوخ، وأصحاب الصَّرْعِ، والصُّداع
البارد،
والرَّمد. وأنفعُ ما استُعمل
مِن خارج.
ولا يصحُّ فى الماء المسخَّن بالشمس حديثٌ ولا أثر، ولا كرهه أحدٌ من قدماء
الأطباء، ولا عابوه، والشديدُ السخونةِ يُذيب شحم الكُلَى.
وقد تقدَّم الكلام على ماء الأمطار فى حرف الغين.
ماء الثَّلْجِ والبَرَد: ثبت فى "الصحيحين": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو فى الاستفتاح وغيره: "اللهُمَّ اغْسِلنى من
خطاياى بماءِ الثَّلْجِ والبَرَدِ".
الثلج له فى نفسه كيفية حادة دُخانية، فماؤه كذلك، وقد تقدَّم وجهُ الحكمة فى طلب
الغسل مِن الخطايا بمائه لما يحتاج إليه القلبُ من التبريد والتَّصْلِيب والتقوية،
ويُستفاد من هذا أصلُ طبِّ الأبدان والقلوب، ومعالجةُ أدوائها بضدها.
وماء البَرَد ألطف وألذُّ من ماء الثلج، وأما ماءُ الجَمَد وهو الجليد فبحسب
أصله.والثلج يكتسب كيفية الجبالِ والأرضِ التى يسقُط عليها فى الجودة والرداءة،
وينبغى تجنُّب شربِ الماء المثلوج عقيبَ الحمَّام والجِمَاع، والرياضة والطعام
الحار، ولأصحاب السُّعَال، ووجع الصدر، وضعف الكَبِد، وأصحاب الأمزجة الباردة.
ماء الآبار والقُنِىِّ: مياهُ الآبار قليلة اللَّطافة، وماء القُنِىِّ المدفونة
تحت الأرض ثقيل، لأن أحدهما محتقِنٌ لا يخلو عن تعفُّن، والآخر محجوبٌ عن الهواء،
وينبغى ألا يُشربَ على الفور حتى يصمدَ للهواء، وتأتىَ عليه ليلةٌ، وأردؤه ما كانت
مجاريه مِن رَصاص، أو كانت بئره معطَّلة، ولا سِيَّما إذا كانت تربُتَها رديئَةٌ،
فهذا الماء وبىءٌ وخيم.
ماء زمزمَ: سيِّدُ المياه وأشرفُهَا
وأجلُّهَا قدراً، وأحبُّها إلى النفوس وأغلاها ثمناً، وأنَفَسُهَا عند الناس، وهو
هَزْمَةُ جبريلَ، وسُقيَا الله إسماعيلَ.
وثبت فى "الصحيح": عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قال لأبى ذَرٍّ وقد أقام بين الكعبة وأستارِهَا أربعينَ ما بين يومٍ وليلةٍ، ليس
له طعامٌ غيرُه؛ فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها
طَعَامُ طُعْمٍ". وزاد غيرُ مسلم بإسناده: "وشفاءُ سُقْمٍ".
وفى "سنن ابن ماجه": من حديث جابر بن عبد الله، عن النبىِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ماءُ زَمْزَمَ لِما شُرِبَ له".
وقد ضعَّف هذا الحديثَ طائفةٌ
بعبد الله ابن المؤمَّل راويه
عن محمد بن المنكدر. وقد روينا عن عبد الله بن المبارَك، أنه لمَّا حَجَّ، أتى
زَمْزَمَ، فقال: اللهُمَّ إنَّ ابن أبى الموالى حدَّثنا عن محمد بن المُنْكَدِر،
عن جابر رضى الله عنه، عن نبيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
"ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له"، وإنِّى أشربُه لظمإ يوم القيامة.. وابن أبى
الموالى ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صحَّحه بعضُهم، وجعله بعضُهم موضوعاً، وكِلا
القولين فيه مجازفة.
وقد جربتُ أنا وغيرى من الاستشفاء بماء زمزمَ أُموراً عجيبة، واستشفيتُ به من عدة
أمراض، فبرأتُ بإذن الله، وشاهدتُ مَن يتغذَّى به الأيامَ ذواتِ العدد قريباً من
نصف الشهر، أو أكثر، ولا يجِدُ جوعاً، ويطوفُ مع الناس كأحدهم، وأخبرنى أنه ربما
بقى عليه أربعين يوماً، وكان له قوةٌ يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مراراً.
ماء النِّيل: أحد أنهارِ الجنَّة، أصلُه مِن وراء جبال القمر فى أقصى بلاد الحبشة
مِن أمطار تجتمِعُ هناك، وسيول يمدُّ بعضُها بعضاً، فيسوقُه الله تعالى إلى الأرض
الجُرُزِ التى لا نبات لها، فيُخرج به زرعاً، تأكل منه الأنعام والأنام.ولما كانت
الأرضُ التى يسوقه إليها إبْليزاً صلبة، إن أُمطرت مطر العادة، لم ترو، ولم تتهيأ
للنبات، وإن أُمطرت فوق العادة، ضرَّتْ المساكنَ والسَّاكِن، وعطَّلتْ المعايشَ
والمصالح، فأمطرَ البلادَ البعيدة، ثم ساق تلك الأمطارَ إلى هذه الأرض فى نهر
عظيم، وجعل سبحانه زيادَته فى أوقات معلومة على قدرِ رِىِّ البلاد وكِفايتها، فإذا
أروى البلادَ وعمَّها، أذن سبحانَه بتناقُصِهِ وهُبوطه لتتم المصلحةُ بالتمكن مِن
الزرع، واجتمع فى هذا الماء الأمورُ العشرة التى تقدَّم ذكرُها، وكان
من ألطف المياه وأخفها وأعذبها
وأحلاها.
ماء البحر: ثبت عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فى البحر:
"هو الطَّهورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُه". وقد جعله الله سبحانه مِلْحاً
أُجَاجاً مُرّاً زُعَاقاً لتمام مصالح مَنْ هو على وجه الأرض مِن الآدميين
والبهائم، فإنه دائمٌ راكدٌ كثيرُ الحيوان، وهو يموتُ فيه كثيراً ولا يُقبر، فلو
كان حلواً لأنتَنَ من إقامته وموت حيواناته فيه وأجافَ، وكان الهواءُ المحيطُ
بالعالَم يكتسِبُ منه ذلك، وينتُن ويجيف، فيفسُد العالَمِ، فاقتضت حكمةُ الرَّب
سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التى لو أُلقِىَ فيه جِيَفَ العالَم كلُّها
وأنتانُه وأمواتُه لم تُغيره شيئاً، ولا يتغير على مُكثهِ مِن حين خُلق، وإلى أن
يَطْوِىَ اللهُ العالَم، فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأمَّا الفاعلىُّ،
فكونُ أرضِه سَبِخَةً مالحةً.
وبعد.. فالاغتسالُ به نافع من آفات عديدة فى ظاهر الجلد، وشربُه مُضِرٌ بداخله
وخارجه، فإنه يُطلق البطن، ويُهزل، ويُحدث حِكَّة وجرباً، ونفخاً وعطشاً، ومَن
اضطر إلى شربه فله طرق من العلاج يدفعُ به مضرتَه.
منها: أن يُجعل فى قدِر، ويُجعل فوق القِدر قصباتٌ وعليها صوفٌ جديد منفوش، ويُوقد
تحت القِدر حتى يرتفع بخارُها إلى الصُّوف، فإذا كثُر عَصَره، ولا يزال يفعل ذلك
حتى يجتمع له ما يريد، فيحصل فى الصُّوف من البُخار ما عَذُبَ، ويبقى فى القِدْرِ
الزُّعاق.
ومنها: أن يُحفر على شاطئه حُفرة واسعة يرشُح ماؤه إليها، ثم إلى جانبها قريباً
منها أُخرى ترشَح هى إليها، ثم ثالثةٌ إلى أن يعذُبَ الماءُ. وإذا ألجأتْه
الضرورةُ إلى شُرب الماء الكَدِرِ، فعِلاجُه أن يُلقَى فيه نَوى المِشمش،
أو قطعة من خشب الساج، أو
جمراً ملتهباً يُطفأُ فيه، أو طيناً أرْمَنِيّاً، أو سَويقَ حِنطة، فإنَّ كُدرته
ترسبُ إلى أسفل.
مِسْكٌ: ثبت فى "صحيح مسلم"، عن أبى سعيد الخُدرىِّ رضى الله عنه، عن
النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أطيبُ الطِّيبِ
المِسْكُ".
وفى "الصحيحين" عن عائشة رضى الله عنها: "كنتُ أُطيِّبُ النبىَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يَحْرِمَ ويومَ النَّحْرِ قبل أن يطوفَ
بالبيت بطيبٍ فيه مِسْكٌ".
المِسك: مَلِكُ أنواعِ الطيب، وأشرُفهَا وأطيُبَها، وهو الذى تُضرب به الأمثال،
ويُشَبَّه به غيرُه، ولا يُشبَّه بغيره، وهو كُثبان الجنَّة، وهو حارٌ يابس فى
الثانية، يَسُرُّ النفس ويُقَوِّيها، ويُقَوِّى الأعضاء الباطنة جميعها شُرباً
وشمّاً، والظاهرةَ إذا وُضِعَ عليها. نافع للمشايخ، والمبرودين، لا سِيَّما زمن
الشتاء، جيد للغَشْى والخفقانِ، وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية، ويجلو بياضَ
العين، ويُنشِّف رطوبتها، ويَفُشُّ الرياح منها ومن جميع الأعضاء، ويُبطل عملَ
السموم، وينفعُ مِن نَهْش الأفاعى، ومنافِعُه كثيرة جداً، وهو أقوى المفرِّحات.
مَرْزَنْجُوش: ورد فيه حديث لا نعلم صحته: "عليكم بالْمَرْزَنْجُوش، فإنه
جيدٌ لِلخُشامِ". و"الخُشام": الزُّكام.
وهو حارٌ فى الثالثة يابس فى الثانية، ينفع شمُّه من الصُّداع البارد،
والكائن عن البلغم، والسوداء،
والزُّكام، والرياح الغليظة، ويفتح السُّدد الحادثة فى الرأس والمنخرين، ويُحلِّل
أكثرَ الأورام الباردة، فينفعُ مِن أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرَّطبة، وإذا
احتُمِل، أدرَّ الطَّمث، وأعان على الحَبَل، وإذا دُقَّ ورقُه اليابس، وكُمِدَ به،
أذهب آثارَ الدَّم العارض تحت العَيْن، وإذا ضُمِّد به مع الخل، نفع لسعة العقرب.
ودُهنه نافع لوجع الظهر والرُّكبتين، ويُذهب بالإعياء، ومَن أدْمَن شمَّه لم ينزل
فى عينيه الماء، وإذا استُعِطَ بمائه مع دُهن اللَّوز المُر، فتح سُدد المنخرين،
ونفع مِن الريح العارضة فيها، وفى الرأس
مِلحٌ: روى ابن ماجه فى "سننه": من حديث أنس يرفعه: "سَيِّدُ
إدامِكُم المِلحُ". وسيد الشىء: هو الذى يُصلحه، ويقومُ عليه، وغالبُ الإدام
إنما يصلح بالملح.
وفى "مسند البزَّار" مرفوعاً: "سَيُوشِكُ أن تكونوا فى النَّاس
مِثْلَ المِلْحِ فى الطَّعَام، ولا يَصلُحُ الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ".
وذكر البغوىُّ فى "تفسيره": عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مرفوعاً:
"إنَّ اللهَ أنزلَ أربعَ بركاتٍ من السَّمَاء إلى الأرْضِ: الحَدِيدَ،
والنارَ، والماءَ، والمِلْحَ". والموقوف أشبَهُ.
المِلْحُ يُصلِح أجسام الناس وأطعمتهم، ويُصلِح كُلَّ شىء يُخالطه حتى الذَّهبَ
والفِضَّة، وذلك أن فيه قوةً تزيدُ الذهبَ صُفرةً، والفِضَّةَ بياضاً، وفيه جِلاءٌ
وتحليل، وإذهابٌ للرطوبات الغليظة، وتنشيفٌ لها، وتقويةٌ للأبدان، ومنعٌ من
عفونتها وفسادها، ونفعٌ من الجرب المتقرِّح.
وإذا اكتُحِلَ به، قلع اللَّحم
الزائد من العَيْن، ومحَقَ الظَّفَرَة. والأندرانى أبلغُ فى ذلك، ويمنعُ القروحَ
الخبيثة من الانتشار، ويُحدِرُ البراز، وإذا دُلِكَ به بطونُ أصحابِ الاستسقاء،
نفعهم، ويُنقى الأسنانَ، ويدفعُ عنها العُفُونة، ويشُدُّ اللِّثة ويُقويها،
ومنافعه كثيرة جدّاً
حرف النون
نَخْلٌ: مذكور فى القرآن فى غير موضع، وفى "الصحيحين": عن ابن عمر رضى
الله عنهما، قال: بيْنَا نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ
أُتِىَ بجُمَّارِ نخلة، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرةً مَثَلُها مَثَلُ الرَّجُلِ المسلِمِ لا يَسقُطُ
وَرَقُها، أخْبِرُونى ما هِىَ ؟ فوقع الناسُ فى شجر البوادى، فوقع فى نفسى أنها
النخلة، فأردتُ أن أقول: هى النخلة، ثم نظرتُ فإذا أنا أصغرُ القوم سِنّاً،
فسكتُّ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هى النَّخْلَةُ
"، فذكرتُ ذلك لعمرَ، فقال: لأَنْ تكونَ قُلْتَهَا أحبُّ إلىَّ من كذا
وكذا.ففى هذا الحديث إلقاءُ العالِمُ المسائلَ على أصحابه، وتمرينُهم، واختبارُ ما
عندهم.
وفيه ضربُ الأمثال والتشبيه.
وفيه ما كان عليه الصحابةُ من الحياء من أكابرهم وإجلالهم
وإمساكهم عن الكلام بين
أيديهم. وفيه فرحُ الرجل بإصابة ولده، وتوفيقه للصوابوفيه أنه لا يُكره للولد أن
يُجيبَ بما يَعْرِفُ بحضرة أبيه، وإن لم يَعرفه الأبُ، وليس فى ذلك إساءةُ أدب
عليه.وفيه ما تضمنه تشبيهُ المسلم بالنخلة من كثرة خيرها، ودوامِ ظلها، وطيبِ
ثمرها، ووجودِهِ على الدوام.
وثمرُها يؤكل رطباً ويابساً، وبلحاً ويانعاً، وهو غذاء ودواء وقوت وحَلْوى، وشرابٌ
وفاكهة، وجذُوعها للبناء والآلات والأوانى، ويُتخَذ مِن خُوصها الحُصُر والمكاتِل
والأوانى والمراوح، وغير ذلك، ومن ليفها الحبالُ والحشايا وغيرها، ثم آخر شىء
نواها علفٌ للإبل، ويدخل فى الأدوية والأكحال، ثم جمالُ ثمرتها ونباتها وحسنُ
هيئتها، وبهجةُ منظرها، وحسنُ نضد ثمرها، وصنعته وبهجته، ومسرَّةُ النفوس عند
رؤيته، فرؤيتها مذكِّرة لفاطرها وخالقها، وبديع صنعته، وكمالِ قدرته، وتمامِ
حكمته، ولا شىء أشبَهُ بها من الرجل المؤمن، إذ هو خيرٌ كُلُّهُ، ونفعٌ ظاهرٌ
وباطن.
وهى الشجرة التى حَنَّ جِذعُها إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لما فارقه شوقاً إلى قُربه، وسماع كلامه، وهى التى نزلتْ تحتها مريمُ لما ولدتْ
عيسى عليه السلام.
وقد ورد فى حديث فى إسناده نظرٌ: "أكرِمُوا عَمَّتَكُم النخلَةَ، فإنها
خُلِقَتْ من الطِّين الذى خُلق منه آدَمُ".
وقد اختلف الناسُ فى تفضيلها
على الحَبْلَةِ أو بالعكس على قولين، وقد قرن اللهُ بينهما فى كتابه فى غير موضع،
وما أقْربَ أحدَهما من صاحبه، وإن كان كُلُّ واحد منهما فى محل سلطانه ومَنبِته،
والأرض التى توافقه أفضلَ وأنفعَ.
نرجس: فيه حديث لا يصح: "عليكم بِشَمِّ النَّرجِس فإنَّ فى القَلْبِ حَبَّةَ
الجنونِ والجُذام والبَرَصِ، لا يقطعُها إلا شمُّ النَّرجِسِ".
وهو حارٌ يابس فى الثانية، وأصلُه يُدمل القروحَ الغائرة إلى العَصَب، وله قوة
غَسَّالة جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ، وإذا طُبِخَ وشُرِبَ ماؤه، أو أُكِلَ مسلوقاً،
هَيَّج القىء، وجذبَ الرطوبة من قعر المَعِدَة، وإذا طُبِخَ مع الكِرْسِنَّة
والعسل، نقَّى أوساخَ القُروح، وفجَّر الدُّبَيْلاَتِ العَسِرَةِ النضج.
وزهرُه معتدل الحرارة، لطيفٌ ينفع الزُّكام البارد، وفيه تحليل قوى، ويفتحُ سُدد
الدماغ والمنخرين، وينفعُ من الصُّداع الرطب والسَّوداوى، ويصدَعُ الرؤوس الحارة،
والمُحْرَقْ منه إذا شُقَّ بصلُه صَلِيباً، وغُرِسَ، صار مضاعَفاً، ومَن أدْمَن
شمَّه فى الشتاء أمِنَ من البِرْسام فى الصيف، وينفعُ مِن أوجاع الرأس الكائنة من
البلغم والمِرَّة السوداء، وفيه من العِطرية ما يُقوِّى القلبَ والدماغ، وينفعُ من
كثير من أمْراضها. وقال صاحب "التيسير": "شمُّه يُذهب بصَرْع
الصبيان".
نُوَرةٌ: روى ابن ماجه: من حديث أُمِّ سلمة رضى الله عنها، أنَّ النبىَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اطََّلى بدأ بعورتِه، فطَلاَها بالنُّوَرة،
وسائِرَ جسدِه أهلُه، وقد ورد فيها عدةُ أحاديث هذا أمثَلُها.
وقد قيل: إنَّ أولَ مَن دخل
الحمَّام، وصُنِعَتْ له النُّوَرةُ: سليمانُ بن داودَ.
وأصلُها: كِلْسٌ جزآن، وزِرْنيخ جزء، يُخلطان بالماء، ويُتركان فى الشمس أو
الحمَّام بقدر ما تَنْضَجُ، وتشتد زُرقته. ثم يُطلى به، ويجلِس ساعة رَيْثَما
يعمل، ولا يُمَس بماء، ثم يُغسل، ويُطلى مكانها بالحِنَّاء لإذهاب ناريَّتِها.
نَبِقٌ: ذكر أبو نعيم فى كتابه "الطب النبوى" مرفوعاً: "إنَّ آدمَ
لَمَّا أُهْبِطَ إلى الأرض كان أولَ شىء أكل مِن ثمارها النَّبِقُ".
وقد ذكر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِقَ فى الحديث المتفق
على صحته: أنه رأى سِدْرَة المُنتهى ليلةَ أُسْرِىَ به، وإذا نَبِقُها مِثْلُ
قِلالِ هَجَرٍ.
والنَبِق: ثمر شجر السدر يعقِل الطبيعة، وينفع من الإسهال، ويدبُغ المَعِدَة، ويُسَكِّن
الصفراء، ويَغذو البدنَ، ويُشهِّى الطَّعام، ويُولِّد بلغماً، وينفع الذَّرَب
الصفراوىَّ، وهو بطىء الهضم، وسَويقُه يُقوِّى الحشا، وهو يُصْلِحُ الأمزجة
الصفراوية، وتُدفع مضرتُه بالشهد.واختُلِفَ فيه، هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين.
والصحيح: أنَّ رطبه بارد رطب، ويابسه بارد يابس.
حرف الهاء
هِنْدَبَا: ورد فيها ثلاثةُ أحاديث لا تصِحُّ عن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يثبُت مثلها، بل هى موضوعة.. أحدها: "كُلُوا
الهِندَبَاءَ ولا تَنْفُضُوهُ
فإنه ليس يومٌ مِنَ الأيام إلا
وقَطَراتٌ من الجَنَّةِ تَقْطُر عليه". الثانى: "مَن أكَلَ الهِندبَاء،
ثم نام عليها لم يَحِلَّ فيهِ سَمٌ ولا سِحرٌ". الثالث: "ما مِنْ
وَرَقةٍ من وَرَقِ الهِنْدبَاء إلا وعليها قَطْرَةٌ من الجَنَّةِ".
وبعد.. فهى مستحيلة المزاج، منقلبةٌ بانقلاب فصول السنة، فهى فى الشتاء باردة
رطبة، وفى الصيف حارة يابسة، وفى الرَّبيعِ والخريفِ معتدِلة، وفى غالب أحوالِها
تميلُ إلى البرودة واليُبْس، وهى قابضة مبردةٌ، جيدةٌ للمَعِدَة، وإذا طُبِخَت
وأُكلت بِخَلٍّ، عقَلتِ البطن وخاصةٌ البَرىَّ منها، فهى أجود للمَعِدَة، وأشد
قبضاً، وتنفع مِن ضعفها.
وإذا تُضمِّد بها، سلبت الالتهاب العارض فى المَعِدَة، وتنفع من النقْرس، ومن
أورام العَيْن الحارة. وإذا تُضمِّد بَوَرَقِها وأُصولها، نفعت من لسع العقرب.وهى
تُقَوِّى المَعِدَة، وتفتح السُّدد العارضة فى الكَبِد، وتنفع مِن أوجاعها حارِّها
وباردِها، وتفتح سُدَد الطِّحال والعروق والأحشاء، وتُنَقِّى مجارى الكُلَى.
وأنفعُهَا للكَبِدِ أمرُّها، وماؤها المعتَصَر ينفع من اليَرَقان السدَدى، ولا
سِيَّما إذا خُلِط به ماء الرَّازَيَانَج الرطب، وإذا دُقَّ ورقُها، ووُضِع على
الأورام الحارة برَّدها وحلَّلها، ويجلو ما فى المَعِدَة، ويُطفئُ حرارة الدَّم
والصفراء.
وأصلحُ ما أُكلت غير مغسولة ولا منفوضة، لأنها متى غُسلت أو نُفِضَت، فارقتها
قُوَّتُها، وفيها مع ذلك قوة تِرياقية تنفعُ مِن جميع السموم.
وإذا اكتُحِلَ بمائها، نفع من
العَشَا، ويدخل ورقُها فى الترياق، وينفعُ من لدغ العقرب، ويُقاوِم أكثرَ السموم،
وإذا اعتُصِرَ ماؤها، وصُبَّ عليه الزيتُ، خلَّص من الأدوية القتَّالة، وإذا
اعتُصِرَ أصلُهَا، وشُرِبَ ماؤه، نفع من لسع الأفاعى، ولسع العقرب، ولسع الزنبور،
ولبن أصلها يجلو بياضَ العَيْن.
حرف الواو
وَرْسٌ: ذكر الترمذى فى "جامعه": من حديث زيد بن أرْقمَ، عن النبىِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أنه كان ينعَتُ الزَّيْتَ والوَرْسَ من
ذات الجَنْبِ"، قال قتادةُ: يُلَدُّ به، ويُلَدُّ من الجانبِ الذى يشتكِيه.
وروى ابن ماجه فى "سننه" من حديث زيد بن أرقم أيضاً، قال: "نعتَ
رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذَاتِ الجَنْبِ وَرْساً
وقُسْطاً وزيتاً يُلَدُّ به".
وصَحَّ عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها قالت: "كانت النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ بعدَ
نِفاسِهَا أربعينَ يوماً، وكانت إحدانا تَطْلى الوَرْسَ على وَجْهِهَا من
الكَلَف".
قال أبو حنيفة اللُّغوىُّ: الوَرْسُ
يُزرع زرعاً، وليس ببَرِّىٍّ، ولستُ أعرفه بغيرِ أرضِ العربِ، ولا مِن أرض العرب
بغير بلاد اليمن.وقوتُه فى الحرارة واليُبوسة فى أوَّل الدرجة الثانية، وأجودُه
الأحمرُ اللَّيِّن فى اليد، القليلُ النُّخالة، ينفع من الكَلَفِ، والحِكَّة،
والبثور الكائنة فى سطح البدن إذا طُلِىَ به، وله قوةٌ قابضة صابغة، وإذا شُرِبَ
نفع مِن الوَضَحِ، ومقدارُ الشربة منه وزنُ درهم.وهو فى مزاجه ومنافعه قريبٌ من
منافع القُسْط البحرىِّ، وإذا لُطخ به على البَهَق والحِكَّة والبثورِ والسُّفعة
نفع منها، والثوبُ المصبوغ بالوَرْس يُقوِّى على الباه.
وسْمَةً: هى: ورق النيل، وهى تُسوِّد الشعر، وقد تقدَّم قريباً ذكرُ الخلاف فى
جواز الصبغ بالسواد ومَن فعله.
حرف الياء
يَقْطِينٌ: وهو الدُّبَّاء والقرع، وإن كان اليقطينُ أعمَّ، فإنه فى اللُّغة: كل
شجر لا تقومُ على ساق، كالبِّطيخ والقِثاء والخيار. قال الله تعالى:
{وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146]
فإن قيل: ما لا يقومُ على ساق يُسمى نَجْماً لا شجراً، والشجر: ما له ساق قاله أهل
اللُّغة فكيف قال: {شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}[الصافات:146] ؟ .فالجواب: أنَّ الشجر
إذا أُطلِقَ، كان ما له ساق يقوم عليه، وإذا قُيِّدَ بشىءٍ تقيَّد به، فالفرقُ بين
المطلقَ والمقيَّد فى الأسماء باب مهمٌ عظيم النفع فى الفهم، ومراتب اللُّغة.
واليقطين المذكور فى القرآن:
هو نبات الدُّبَّاء، وثمره يُسمى الدُّبَّاء والقرْعَ، وشجرة اليقطين.وقد ثبت فى
"الصحيحين": من حديث أنس بن مالك، أنَّ خياطاً دعا رسولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنَعه، قال أنسٌ رضى الله عنه: فذهبتُ مع رسولِ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرَّب إليه خُبزاً من شعير، ومرَقاً فيه
دُبَّاءٌ وقَدِيدٌ، قال أنس: فرأيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتتبَّعُ الدُّبَّاء من حَوالى الصَّحْفَةِ، فلم أزل أُحِبُّ
الدُّبَّاءَ من ذلك اليوم.وقال أبو طالُوتَ: دخلتُ على أنس بن مالك رضى الله عنه،
وهو يأكل القَرْع، ويقول: يا لكِ من شجرةٍ ما أحبَّك إلىَّ لحُبِّ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكِ.
وفى "الغَيْلانيَّات": من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشةَ رضى
الله عنها قالت: قال لى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا
عائشةُ؛ إذا طبَخْتُم قِدْراً، فأكثِروا فيها من الدُّبَّاء، فإنَّهَا تَشُدُّ
قَلْبَ الحَزِين".
اليقطين: بارد رطب، يغذو غِذاءً يسيراً، وهو سريعُ الانحدارِ، وإن لم يفسُد قبل
الهضم، تولَّد منه خِلْطٌ محمود، ومِن خاصيته أنه يتولَّد منه خِلط محمود مجانس
لما يصحبُه، فإن أُكِلَ بالخَرْدل، تولَّد منه خِلطٌ حِرِّيف، وبالملح خِلطٌ مالح،
ومع القابض قابضٌ، وإن طُبخَ بالسفرجل غَذَا البدن غِذاءً جيداً.
وهو لطيفٌ مائىٌ يغذو غذاءً رطباً بلغمياً، وينفع المَحْرورين، ولا يُلائم
المَبْرودين، ومَن الغالبُ عليهم البلغمُ، وماؤه يقطعُ العطش، ويُذهبُ الصُّداع
الحار إذا شُرِبَ أو غُسِلَ به الرأسُ، وهو مُليِّن للبطن
كيف استُعْمِل، ولا يتداوَى
المحرورون بمثله، ولا أعجلَ منه نفعاً.ومن منافعه: أنه إذا لُطِخَ بعجين، وشُوِىَ
فى الفرن أو التَّنُّور، واستُخْرِج ماؤه وشُرِبَ ببعض الأشربة اللَّطيفة، سَكَّن
حرارة الحُمَّى الملتهبة، وقطع العطش، وغذَّى غِذاءً حسناً، وإذا شُرِبَ بترنْجبين
وسَفَرْجَل مربَّى أسهل صفراءَ محضةً.
وإذا طُبِخَ القرعُ، وشُرِبَ ماؤه بشىءٍ من عسل، وشىءٍ من نَطْرون، أحدَرَ بلغماً
ومِرَّة معاً، وإذا دُقَّ وعُمِلَ منه ضِمادٌ على اليافوخ، نفع من الأورام الحارة
فى الدماغ.
وإذا عُصِرَت جُرَادتُه، وخُلِطَ ماؤها بدُهن الورد، وقُطِر منها فى الأُذن، نفعتْ
مِن الأورام الحارة، وجُرادتُه نافعة من أورامِ العَيْن الحارة، ومن النِّقْرِس
الحار.وهو شديدُ النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين، ومتى صادف فى المَعِدَة
خِلطاً رديئاً، استحال إلى طبيعته، وفسد، وولَّد فى البدن خِلْطاً رديئاً، ودفعُ
مضرته بالخلِّ والمُرِّى.وبالجملةِ.. فهو من ألطفِ الأغذيةِ، وأسرعِهَا انفعالاً،
ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان يُكثرُ مِن أكلِه.
[فصول متفرقة من الوصايا
النافعة فى العِلاج والتدبير ]
فصل
وقد رأيتُ أن أختِمَ الكلامَ فى هذا البابِ بفصلٍ مختصر عظيمِ النفع
فى المحاذِرِ، والوصايا الكلية
النافعةِ لِتتمَّ منفعةُ الكتاب
ورأيتُ لابن ماسَوَيْه فصلاً فى كتاب "المحاذير" نقلتُه بلفظه،
قال:"مَن أكل البصلَ أربعين يوماً وكَلِفَ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن
افتَصد، فأكل مالِحاً فأصابه بَهَقٌ أو جَرَبٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن جمع فى مَعِدَته البيض والسمكَ، فأصابه فالِج أو لَقْوةٌ، فلا يلومَنَّ إلا
نفسَه.
ومَن دخلَ الحمَّامَ وهو ممتلئ، فأصابه فالجٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسه.
ومَن جمع فى مَعِدته اللَّبنَ والسَّمكَ، فأصابه جُذام، أو بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ،
فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن جمع فى مَعِدَتِهِ اللَّبنَ والنِّبيذَ، فأصابه بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا
يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن احتَلَم، فلم يغتسلْ حتى وَطِىءَ أهلَه، فولدتْ مجنوناً أو مَخَبَّلاً، فلا
يلومَنَّ إلا نفسَه.
ومَن أكل بَيْضاً مسلوقاً بارداً، وامتلأ منه، فأصابه رَبوٌ، فلا يلومَنَّ إلا
نفسَه.ومَن جامَعَ، فلم يَصْبِر حتى يُفْرِغَ، فأصابه حصاة، فلا يلومَنَّ إلا
نفسَه.
ومَن نظر فى المرآة ليلاً، فأصابه لَقْوة، أو أصابه داء، فلا يلومَنَّ إلاَّ
نفسَه".
فصل [فى التحذير من الجمع بين
البَيْض والسَّمَك]
وقال ابن بَخْتَيَشُوع: "احذرْ أن تجمعَ البَيْضَ والسَّمكَ، فإنهما يُورثان
القُولنْج والبواسير، ووجعَ الأضراس"
وإدامةُ أكل البَيْض يُوَلِّد الكَلَف فى الوجه، وأكلُ الملوحة والسَّمَك المالح
والافتصاد بعد الحمَّام يُولِّد البَهَق والجَرَب.
إدامةُ أكل كُلَى الغنم يَعقِرُ المثانة.
الاغتسالُ بالماء البارد بعد أكل السَّمَكِ الطرىِّ يُولِّدُ الفالج.
وطءُ المرأة الحائض يُولِّدُ الجُذام.
الجماعُ من غير أن يُهَرِيقَ الماء عقيبَه يُولِّد الحصاة.
"طولُ المُكث فى المَخْرج يُولِّد الداءَ الدَّوِىَّ".
وقال أبقراط: "الإقلال مِن الضار، خيرٌ مِن الإكثار من النافع"، وقال:
"استديموا الصحة بتركِ التكاسل عن التعب، وبتركِ الامتلاء من الطعام
والشراب".
وقال بعضُ الحكماء: "مَن أراد الصِّحة، فليجوِّد الغِذاء، وليأكل على نقاء،
وليشرب على ظمإٍ، وليُقلِّلْ مِن شُرب الماء، ويتمدَّدْ بعد الغداء، ويَتَمشَّ
بعدَ العَشاء، ولا ينم حتى يَعْرِضَ نفسَه على الخَلاء، وليحذر دخول الحمَّام
عقيبَ الامتلاء، ومرةٌ فى الصيف خيرٌ من عشرٍ فى الشتاء، وأكلُ القديد اليابس
بالليل مُعِينٌ على الفناء، ومجامعةُ العجائز تُهْرِمُ أعمارَ الأحياءِ، وتُسقِم
أبدان الأصحاء".
ويُروى هذا عن علىٍّ رضى الله عنه، ولا يَصِحُّ عنه، وإنما بعضُه مِن كلام الحارث
بن كلَدَةَ طبيبِ العرب، وكلامِ غيره.
وقال الحارث: "مَن سَرَّه
البقاء ولا بقاء فليُباكِرِ الغَداء، وليُعَجِّل العَشَاء، وليُخفِّف الرِّداء،
وليُقِلَّ غِشيان النساء".
وقال الحارث: "أربعةُ أشياءَ تهدِمُ البدن: الجِماعُ على البِطْنة، ودخولُ
الحمَّام على الامتلاء، وأكلُ القديد، وجِماعُ العجوز".ولما احتُضِرَ الحارث
اجتمع إليه الناسُ، فقالوا: مُرْنا بأمر ننتهى إليه مِن بعدك. فقال: "لا تتزوجوا
من النساء إلا شابةً، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا فى أوان نُضجها، ولا يتعالجَنَّ
أحدُكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بتنظيف المَعِدَة فى كل شهر، فإنها مُذيبة
للبلغم، مُهلكة للمِرَّة، مُنبتة للحم، وإذا تَغدَّى أحدكم، فلينم على إثر غدائه
ساعة، وإذا تعشَّى فليمشِ أربعين خطوةً".
وقال بعض الملوك لطبيبه: لعلَّك لا تبقَى لى، فصِفْ لى صِفة آخذُها عنك، فقال:
"لا تنكِحْ إلا شابةً، ولا تأكُلْ مِن اللَّحم إلا فَتِّياً، ولا تشربِ
الدواء إلا من عِلَّة، ولا تأكُلِ الفاكهةَ إلا فى نُضجها، وأجِدْ مضغَ الطعام،
وإذا أكلتَ نهاراً فلا بأس أن تنامَ، وإذا أكلتَ ليلاً فلا تنم حتى تمشىَ ولو
خمسين خطوة، ولا تأكلنَّ حتى تجوع، ولا تتكارَهَنَّ على الجِمَاع، ولا تحبِس
البَوْل، وخُذ مِن الحَمَّام قبلَ أن يأخُذَ منك، ولا تأكلَنَّ طعاماً وفى
مَعِدَتِك طعامٌ، وإياكَ أن تأكل ما تعجز أسنانُك عن مضغِه، فتعجِزَ مَعِدَتُك عن
هضمه، وعليك فى كل أسبوعٍ بقيئة تُنقِّى جسمَك، ونِعْمَ الكنزُ الدمُ فى جسدك، فلا
تُخْرِجْه إلا عند الحاجة إليه، وعليك بدخول الحمَّام، فإنه يُخرج مِن الأطباق ما
لا تَصِلُ الأدوية إلى إخراجه".
وقال الشافعى: "أربعةٌ تُقوِّى البدن: أكلُ اللَّحم، وشمُّ الطِّيب، وكثرةُ
الغسلِ
مِن غير جِماع، ولُبْسُ
الكَتَّان"
وأربعةُ تُوهِن البدن: كثرةُ الجِماع، وكثرةُ الهم، وكثرةُ شرب الماء على الرِّيق،
وكثرةُ أكل الحامِض.
وأربعةُ تُقوِّى البصر: الجلوسُ حِيالَ الكعبة، والكحلُ عند النوم، والنظرُ إلى
الخُضرة، وتنظيف المجلس.
وأربعةُ توهِنُ البصر: النظرُ إلى القذَرِ، وإلى المصلوبِ، وإلى فَرْجِ المرأة،
والقعودُ مستدبِرَ القِبْلَة.
وأربعةُ تزيدُ فى الجِمَاع: أكلُ العصافير، والإطْرِيفل، والفُسْتُق، والخرُّوب.
وأربعةُ تزيد فى العقل: تَرْكُ الفُضول مِن الكلام، والسِّواكُ، ومجالسةُ
الصَّالحين، ومجالسةُ العلماء".
وقال أفلاطون: "خمسٌ يُذبنَ البدنَ وربما قتلن: قِصَرُ ذاتِ اليد، وِفراقُ
الأحِبَّة، وتجرُّع المغايظ، وردُّ النصح، وضحكُ ذوى الجهل بالعُقلاء".
وقال طبيبُ المأمون: "عليك بخصالٍ مَنْ حَفِظَها فهو جديرٌ أن لا يعتلَّ إلا
عِلَّة الموت: لا تأكُلْ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعام، وإيَّاكَ أن تأكل طعاماً
يُتْعِبُ أضراسكَ فى مضغه، فتعجزُ مَعِدَتُك عن هضمه، وإياكَ وكثرةَ الجِماع، فإنه
يُطفىء نور الحياة، وإياك ومجامعة العجوز، فإنه يُورث موت الفَجْأة، وإياكَ
والفصدَ إلا عند الحاجة إليه، وعليك بالقىء فى الصَّيف".
ومن جوامع كلمات أبقراط قوله:
"كُلُّ كثيرٍ فهو مُعادٍ للطبيعة".
وقيل لجالينوسَ: ما لَكَ لا تمرَضُ ؟ فقال: "لأنى لم أجمع بين طعامَين
رديئين، ولم أُدْخِلْ طعاماً على طعام، ولم أَحْبِسُ فى المَعِدَة طعاماً تأذَّيتُ
به".
فصل
وأربعةُ أشياء تُمرض الجسم: الكلامُ الكثير، والنومُ الكثير، والأكلُ الكثير،
والجِماعُ الكثير.
فالكلامُ الكثير: يُقلِّل مخَّ الدِّماغ ويُضعفه، ويُعجِّل الشيب.
والنومُ الكثير: يُصفِّرُ الوجه، ويُعمى القلب، ويُهيِّجُ العَيْن، ويُكسِلُ عن
العمل، ويُولِّد الرطوباتِ فى البدن.
والأكلُ الكثيرُ: يُفسِدُ فمَ المَعِدَة، ويُضْعِفُ الجسم، ويُولِّدُ الرياح
الغليظة، والأدواء العَسِرة.
والجِماعُ الكثير: يَهُدُّ البدن، ويُضعفُ القُوَى، ويُجفِّف رطوباتِ البدن،
ويُرخى العصبَ، ويُورث السُّدد، ويَعُمُّ ضررُه جميعَ البدن، ويخصُّ الدماغ لكثرة
ما يتحلَّل به من الروح النفسانىِّ، وإضعافُه أكثر من إضعاف جميع المستفرِغات،
ويَستفرغ مِن جوهر الروح شيئاً كثيراً.
وأنفعُ ما يكون إذا صادف شهوةً صادقة مِن صورة جميلة حديثةِ السِّنِ حلالاً مع
سِنِّ الشُّبوبية، وحرارةِ المزاج ورطوبته، وبُعدِ العهد به وخَلاءِ القلب من
الشواغل النفسانية، ولم يُفْرطْ فيه، ولم يُقارنه ما ينبغى تركُه معه مِن امتلاء
مفرط، أو خَوَاء، أو استفراغ، أو رياضة تامة،
أو حَرٍّ مفرِط، أو بردٍ
مفرِط، فإذا راعى فيه هذه الأُمور العشرة، انتفعَ به جداً، وأيُّها فُقِدَ فقد
حصلَ له من الضرر بحسبه، وإن فُقِدَتْ كلُّها أو أكثرها، فهو الهلاك المعجَّل.
فصل
والحِمْيَةُ المفرطة فى الصحة، كالتخليط فى المرض. والحِمْيَةُ المعتدلة
نافعة.وقال جالينوسُ لأصحابه: "اجتنِبوا ثلاثاً، وعليكم بأربع، ولا حاجةَ بكم
إلى طبيب: اجتنبوا الغُبار، والدخان، والنَّتن، وعليكم بالدَّسم، والطِّيب،
والحَلْوى، والحمَّام، ولا تأكلوا فوقَ شِبعكم، ولا تتخلَّلوا بالباذَرُوج
والرَّيحان، ولا تأكلوا الجَوزَ عند المساء، ولا ينمْ مَن به زُكمةٌ على قفاه، ولا
يأكل مَن به غَمٌ حامِضاً، ولا يُسرعِ المشىَ مَن افتَصد، فإنه مخاطرةُ الموت، ولا
يتقيَّأ مَن تؤلمه عينُه، ولا تأكلُوا فى الصيف لحماً كثيراً، ولا ينمْ صاحبُ
الحُمَّى الباردة فى الشمسِ، ولا تقرَبُوا الباذَنجان العتيق المبزر، ومَن شرب
كُلَّ يوم فى الشتاء قدحاً من ماء حار، أمِنَ من الأعلال، ومَن دَلَكَ جسمه فى
الحمَّام بقشُور الرُّمَّان أمِنَ مِنَ الجرَب والحِكَّة، ومَن أكل خمسَ سَوْسنات
مع قليل من مُصْطَكى رومى، وعودٍ خام، ومسك، بقى طولَ عمره لا تضعُفَ مَعِدَتُه
ولا تفسُد، ومَن أكل بِزر البطِّيخ مع السكر، نظَّف الحَصَى مِن مَعِدَته، وزالت
عنه حُرْقة البَوْل".
فصل
أربعةٌ تَهدِم البدن: الهمُّ، والحزنُ، والجوعُ، والسهرُ.
وأربعةٌ تُفرح: النظرُ إلى الخُضرةِ، وإلى الماءِ الجارى، والمحبوب، والثمار.
وأربعةٌ تُظلم البصر: المشىُ حافياً، والتصبُّحُ والتمسى بوجه البغيض والثقيل
والعدو، وكثرةُ البكاء، وكثرةُ النظر فى الخط الدقيق.
وأربعةٌ تُقوِّى الجسم: لُبْسُ الثوب الناعم، ودخولُ الحمَّام المعتدل، وأكلُ
الطعام الحلو والدَّسم، وشَمُّ الروائح الطيبة.
وأربعةٌ تُيبس الوجه، وتُذهب ماءه وبهجته وطلاوته: الكَذِبُ، والوقاحةُ، وكثرةُ
السؤال عن غير علم، وكثرةُ الفجور
وأربعةٌ تَزيد فى ماء الوجه وبهجتِهِ: المروءةُ، والوفاءُ، والكرمُ،
والتقوى.وأربعةٌ تَجلِبُ البغضاء والمقت: الكِبرُ، والحَسَدُ، والكَذِبُ،
والنَّميمةُ.
وأربعةٌ تَجلِبُ الرِّزق: قيامُ اللَّيل، وكثرةُ الاستغفار بالأسحار، وتعاهُدُ
الصَدَقة، والذِكْرُ أولَ النهارِ وآخرَه.
وأربعةٌ تمنع الرِّزق: نومُ الصُّبْحة، وقِلَّةُ الصلاة، والكَسَلُ،
والخيانةُ.وأربعةٌ تَضُرُّ بالفهم والذهن: إدمانُ أكل الحامض والفواكه، والنومُ
على القفا، والهمُّ، والغمُّ.
وأربعةٌ تَزيد فى الفهم: فراغُ
القلب، وقِلَّةُ التملِّى من الطعام والشراب، وحُسنُ تدبير الغذاء بالأشياء الحُلوة
والدَّسِمة، وإخراجُ الفَضلات المُثْقِلَةِ للبدن.
وممَّا يضرُّ بالعقل: إدمانُ أكل البصل، والباقِلا، والزَّيتون، والباذِنجان،
وكَثرةُ الجِماع، والوحدةُ، والأفكارُ، والسُّكْرُ، وكَثْرةُ الضَّحِك، والغم.
قال بعضُ أهل النظر: "قُطِعتُ فى ثلاث مجالسَ، فلم أجِد لذلك عِلَّةً إلاَّ
أنى أكثرتُ من أكل الباذنجان فى أحد تلك الأيام، ومن الزيتون فى الآخر، ومن
الباقِلا فى الثالث".
فصل
قد أتَيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبِّ العلمىِّ والعملىّ، لعلَّ الناظرَ لا
يظفرُ بكثير منها إلا فى هذا الكتاب، وأرَيْناك قُربَ ما بينها وبينَ الشريعة،
وأنَّ الطبَّ النبوى نسبةُ طِبِّ الطبائعيين إليه أقلُّ مِن نسبة طب العجائز إلى
طبهم.
والأمر فوق ما ذكرناه، وأعظمُ مما وصفناه بكثير، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير
على ما وراءه، ومَن لم يرزُقه اللهُ بصيرة على التفصيل، فليعلمْ ما بيْنَ القوَّةِ
المؤيَّدةِ بالوحى من عند اللهِ، والعلومِ التى رزقها اللهُ الأنبياءَ، والعقولِ
والبصائر التى منحهم الله إياها، وبين ما عند غيرهم.
ولعل قائلاً يقولُ: ما لهَدْىِ
الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما لِهذا الباب، وذكْرِ قُوى
الأدوية، وقوانين العِلاج، وتدبيرِ أمر الصحة ؟وهذا مِن تقصير هذا القائل فى فهم
ما جاء به الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ هذا وأضعافَه وأضعافَ
أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به، وإرشادِه إليه، ودلالته عليه، وحُسنُ الفهم عن الله
ورسوله مَنٌ يَمُنُّ اللهُ به على مَنْ يشاءُ من عباده.
فقد أوجدناك أُصولَ الطِّب الثلاثة فى القرآن، وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث
بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها
مُرشدة إلى حِفظ صحتها، ودفع آفاتها بطُرق كُليَّة قد وُكِلَ تفصيلُها إلى العقل
الصحيح، والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو فى كثير من
مسائل فروع الفقه، ولا تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه.ولو رُزِقَ العبدُ تضلُّعاً
مِن كتاب الله وسُنَّة رسوله، وفهماً تاماً فى النصوص ولوازمها، لاستغنَى بذلك عن
كُلِّ كَلامٍ سواه، ولاستنبَطَ جميعَ العلومِ الصحيحة منه.
فمدارُ العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخَلْقِه، وذلك مُسْلَّم إلى الرُّسُل
صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلمُ الخلق بالله وأمرِه وخَلْقِه وحِكمته فى خلقه
وأمره.
وطبُّ أتباعهم: أصحُّ وأنفعُ مِن طبِّ غيرهم، وطِبُّ أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم
محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم: أكملُ الطِّب وأصحُّه وأنفعُه.
ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن عرف طبَّ الناسِ سواهم وطِبَّهم، ثم وازن بينهما،
فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ، وهم
أصَحُّ الأُمم عقولاً
وفِطَراً، وأعظمُهم علماً، وأقربُهم فى كل شىء إلى الحَقِّ لأنهم خِيرة الله من
الأُمم، كما أنَّ رسولهم خيرتُه مِن الرُّسُل، والعلمُ الذى وهبهم إيَّاه، والحلمُ
والحكمةُ أمرٌ لا يدانيهم فيه غيرُهم.
وقد روى الإمامُ أحمد فى "مسنده": من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن
جده رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أنتُمْ تُوَفُّون سبعين أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ".
فظَهَر أثرُ كرامتها على الله سبحانه فى علومهم وعقولهم، وأحلامهم وفِطَرهم، وهم
الذين عُرِضَتْ عليهم علومُ الأُمم قبلَهم وعقولهم، وأعمالُهم ودرجاتُهم، فازدادوا
بذلك عِلماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض اللهُ سبحانه وتعالى عليهم مِن علمه وحلمه
ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم، والصفراويَّةُ لليهود، والبلغميَّةُ للنصارى،
ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ، وغَلَبَ على اليهود
الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ
والنجدةُ، والفرحُ والسرور.
وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُنَ فهمُه، ولَطُفَ ذِهنُه،
وغَزُرَ عِلمُه، وعرف ما عند الناس.. وبالله التوفيق.
وبعونه تعالى تم الجزء الرابع من زاد المعاد في هدي خير العباد ويليه الجزء الخامس
وأوله فصل في هدية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقضيته وأحكامه
فصل: في هديه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأقضِيَة والأنكِحَة والبُيُوع
وليس الغرضُ من ذلك ذكر التشريع العام وإن كانت أقضيتهُ الخاصةُ تشريعاً عاماً،
وإنما الغرضُ ذكرُ هديه فى الحكومات الجزئية التى فصل بها بينَ الخصوم، وكيف كان
هديهُ فى الحكم بين الناس، ونذكرُ مع ذلك قضايا مِن أحكامه الكلية.
فصل
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث بهزِ بن حكيم، عن أبيه، عن
جده، " أن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رجلاً فى
تُهْمةٍ". قال أحمد وعلى بن المدينى: هذا إسناد صحيح.
وذكر ابنُ زياد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى "أحكامه": أنه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجن رجلاً أعتق شِرْكاً له فى عبد، فوجب عليه
استتمام عتقه حتى باع غُنَيْمَةً له.
فصل: فى حكمه فيمن قَتَلَ عبده
روى الأوزاعى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدَّه، أن رجلاً قتل عبدَه متعِّمداً،
فجلده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة جلدةً، ونفاه سنةً، وأمره
أن يعتِقَ رقبةً ولم يُقِدْهُ به.
وروى الإمام أحمد: من حديث الحسن، عن سَمُرَةَ رضىَ اللهُ عنه، عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاه " فإن كان هذا
محفوظاً، وقد سمعه منه الحسن، كان قتلُه تعزيزاً إلى الإمام بحسب ما يراه من
المصلحة.
وأمرَ رجلاً بملازمة غريمه، كما ذكر أبو داود، عن النَّضر بن شُميل، عن الهِرماس
بن حبيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال: أتيتُ النبىَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغريم لى، فقال لى: "الْزَمْهُ" ثم قال لى: "يا
أخا بنى سَهْم ما تُريدُ أنْ تَفْعَلَ بِأسِيرك"؟ وروى أبو عبيدٍ، أنه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقتل القاتل، وصبْرِ الصابر. قال أبو عبيد: أى:
بحبسه للموتِ
حتى يموت.
وذكر عبدُ الرزاق فى "مصنفه" عن على: يُحبس المُمْسِكُ فى السِّجْنِ حتى
يَموتَ.
فصل: فى حكمه فى المحاربين
حَكم بقطع أيدِيهم، وأرجُلهِم، وسَمْلِ أعينهم، كما سملُوا عينَ الرِّعاء، وتركهم
حتى ماتُوا جوعاً وعطشاً كما فعلوا بالرِّعاء.
فصل: فى حكمه بين القاتل وولى المقتول
ثبت فى "صحيح مسلم": عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجلاً
ادَّعى على آخر أنه قتلَ أخاهُ، فاعترف، فقالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ"،
فلما ولَّى، قال: "إنْ
قَتَلَهُ، فهو مِثْلُه" ،
فرجعَ فقال: إنما أخذتُه بأمرك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أمَا تُريدُ أَن يَبوءَ بإثْمِكَ وإِثْم صَاحِبَكَ"؟ فقال: بلى فخلّى
سبيلَه.
وفى قوله: "فهو مثلُه"، قولان، أحدهما: أن القاتل إذا قِيد منه، سقط ما
عليه، فصار هو والمستفيدُ بمنزلةٍ واحدة، وهو لم يقل: إنه بمنزلته قبل القتل،
وإنما قال: "إن قتله فهو مثلُه"، وهذا يقتضى المماثلةَ بعد قتله، فلا
إشكالَ فى الحديث، وإنما فيه التعريضُ لصاحب الحقّ بترك القود والعفو.
والثانى: أنه إن كان لم يُرد قتلَ أخيه قتلَه به، فهو متعدٍّ مثله إذ كان القاتل
متعدياً بالجناية، والمقتصُّ متعدٍ بقتل من لم يتعمدِ القتلَ، ويدلُّ على التأويل
ما روى الإمام أحمد فى "مسنده": من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال:
قُتِلَ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُفِعَ إلى
رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدفَعه إلى ولىَّ المقتول، فقال
القاتِلُ: يا رسولَ الله، ما أردتُ قتلَه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للولى: "أمَا إنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقاً، ثم قَتَلْتَه
دَخَلْتَ النَّار" ، فخلَّى سبيله. وفى كتاب ابن حبيب فى هذا الحديث زيادةُ،
وهى: قال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"عَمْدُ يَدٍ، وخَطَأُ قَلْبٍ".
فصل: فى حكمه بالقَوَدِ على من
قتل جاريةً، وأنه يُفعَلُ به كما فَعَلَ
ثبت فى "الصحيحين": "أن يهودياً رضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حجريْنِ على
أوضاحٍ لها، أى: حُلِىٍّ، فأُخِذَ، فاعْتَرَفَ، فأمر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُرَضَّ رأسُه بين حَجَرَيْنِ".
وفى هذا الحديثِ دليلٌ على قتلِ الرجل بالمرأة، وعلى أن الجانىَ يُفعل به كمَا
فَعَلَ، وأن القتل غيلة لا يُشترط فيه إذنُ الولى، فإنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل: إن شِئتُم فاقتلُوه،
وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتماً، وهذا مذهبُ مالك، واختيارُ شيخِ الإسلام ابن
تيمية، ومن قال: إنه فعل ذلك لِنقض العهد، لم يَصِحَّ، فإن ناقض العهد لا تُرضخُ
رأسهُ بالحجارة، بل يُقتل بالسيف.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن ضرب امرأةً حامِلاً فَطرحهَا
فى "الصحيحين": "أن امرأتينِ من هُذيل رمت إحداهُما الأُخرى بحجَرٍ
فقتلتها وما فى بطنها، فقضى فيها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بغُرَّةً: عَبْدٍ أَو ولِيدَةٍ فى الجنين، وجعل دِيةَ المقتولةِ على عَصَبة
القاتِلةِ"، هكذا
فى "الصحيحين". وفى
النسائى: "فقضى فى حملها بغُرَّة، وأن تُقتل بها"، وكذلك قال غيرُه
أيضاً: إنه قتلها مكانها، والصحيح: أنه لم يقتلها لما تقدم. وقد روى البخارىُّ فى
"صحيحه" عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قضى فى جنينِ امرأةٍ من بنى لَحيان بغُرَّةٍ: عبدٍ أو
وليدةٍ، ثم إن المرأة التى قضى عليها بالغُرة تُوفيت، فقضى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقلَ على
عصبتها".
وفى هذا الحكم أن شِبهَ العمدِ لا يُوجب القود، وأن العاقِلَة تحمل الغُرَّةَ
تبعاً للدية، وأن العاقلة هم العصبةُ، وأن زوجَ القاتلة لا يدخُلُ معهم، وأن
أولادهَا أيضاً ليسوا مِن العاقِلة.
فصل: فى حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقَسامة فيمن لم يُعرف قاتِلُه
ثبت فى "الصحيحين": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بها بين
الأنصار واليهود،
وقال لِحُوَيِّصَةَ
ومُحَيِّصَةَ وعَبْدِ الرحمن: "أتَحْلِفُونَ وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ
صَاحِبكُم"؟ وقال البخارى: "وتستحقون قَاتِلَكُم أو صاحِبَكُم"،
فقالوا: أمرُ لم نشهده ولم نره، فقال: "فَتُبْرئكُم يَهُودُ بأَيْمَانِ
خَمْسِينَ "، فَقَالُوا: كيف نقبلُ أيمان قَوْمٍ كفار؟ فوداه رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عنده.
وفى لفظ: ويُقْسِمُ خمسون منكم على رجل منهم، فيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ إليه".
واختلف لفظُ الأحاديث الصحيحة فى محل الدِّية، ففى بعضها أنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، وفى بعضها وداه من إبل الصدقة.
وفى "سنن أبى داود": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ألقى
ديتَه على اليهود، لأنه وُجِدَ بينهم".
وفى "مصنف عبد الرزاق": أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"بدأ بيهود، فأبَوْا أن يحلِفُوا، فردَّ القسامةَ على الأنصار، فأبوا أن
يحلِفُوا فجعل عَقلَه على يهود".
وفى "سنن النسائى": "فجعل عقله على اليهود، وأعانهم ببعضِها".
وقد تضمنت هذه الحكومة أموراً:
منها: الحكمُ بالقَسامة، وأنها
مِن دين الله وشرعه.
ومنها: القتلُ بها لِقوله: "فيدفع بُرمَّتِهِ إليه"، وقوله فى لفظ آخر:
"وتستحِقُّونَ دمَ صاحبكم"، فظاهرُ القرآن والسنة القتلُ بأيمان الزوج
الملاعن وأيمانِ الأولياء فى القسامة، وهو مذهبُ أهل المدنية، وأما أهلُ العراق،
فلا يقتلُونَ فى واحد منهما، وأحمدُ يقتل فى القسامةِ دون اللعان، والشافعى عكسه.
ومنها: أنه يبدأ بأيمان المُدَّعِينَ فى القَسامة بخلاف غيرِها من الدَّعاوى.
ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا منعوا حقاً عليهم، انتقضَ عهدُهم لِقوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إما أن تدوه، وإما أن تأذنُوا بحرب".
ومنها: أن المدَّعىَ عليه إذا بَعُدَ عن مجلس الحكم، كَتَبَ إليه، ولم يُشْخِصْهُ.
ومنها: جوازُ العملِ والحُكم بِكتابِ القاضى وإن لم يُشهد عليه.
ومنها: القضاء على الغائب.
ومنها: أنه لا يُكتفى فى القَسامة بأقلَّ من خمسين إذا وُجدوا.
ومنها: الحكمُ على أهل الذمة بحكم الإسلام، وإن لم يتحاكموا إلينا إذا كان الحكمُ
بينهم وبينَ المسلمين.
ومنها: وهو الذى أشكل على كثيرٍ من الناس إعطاؤه الدية مِن إبل الصدقةِ، وقد ظنَّ
بعضُ الناس أن ذلك مِن سهم الغارمين، وهذا لا يصِح، فإن غارِمَ أهلِ الذمة لا
يُعطى من الزكاة، وظن بعضُهم أن ذلك مما فَضَل مِن الصدقة عن أهلها، فللإمام أن
يصرِفه فى المصالح، وهذا أقربُ مِن الأول، وأقربُ منه: أنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه مِن عنده، واقترضَ الدية
من إبل الصدقة، ويدل عليه:
"فواده من عنده" وأقربُ من هذا كُلِّه أن يُقال: لما تحمَّلَها النبىُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإصلاح ذات البين بين الطائفتين، كان حكمُها
حكمَ القضاء على الغرم لما غرمه لإصلاح ذاتِ البين، ولعل هذا مرادُ من قَال: إن
قضاها مِن سهم الغارمين، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأخذ منها
لنفسه شيئاً، فإن الصدقةَ لا تحِلُّ له، ولكن جرى إعطاءُ الدية منها مجرى إعطاء
الغارم منها لإصلاح ذات البين. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله "فجعل عقلَه على اليهود"؟ فيقال: هذا مجمل
لم يحفظ راويه كيفيةَ جعله عليهم، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب
إليهم أن يدوا القتيلَ، أو يأذنوا بحربٍ، كان هذا كالإلزام لهم بالدِّية، ولكن
الذى حفظوا أنهم أنكروا أن يكونوا قتلوا، وحلفوا على ذلك، وأن رسولَ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وداه من عنده، حفِظُوا زيادة على ذلك، فهم أولى
بالتقديم.
فإن قيل: فكيف تصنعون برواية النسائى: "أنه قسمها على اليهود، وأعانهم
ببعضها"؟ قيل: هذا ليس بمحفوظ قطعاً، فإن الدية لا تلزم المدّى عليهم بمجرد
دعوى أولياءِ القتيل، بل لا بُد من إقرار أو بينة، أو أيمان المدعين، ولم يُوجد
هنا شىء من ذلك، وقد عرضَ النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيمانَ
القسامة على المدعين، فأَبَوْا أن يحلِفُوا، فكيف يلزم اليهود بالدية بمجرد
الدعوى.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى أربعةً سقطُوا فى بئر،
فتعلَّق بعضُهم ببعض، فهلكُوا
ذكر الإمام أحمد، والبزار، وغيرُهما، أن قوماً احتفروا بئراً باليمن،
فسقط فيها رجلٌ، فتعلَّق بآخر،
الثانى بالثالث، والثالث بالرابع، فسقطُوا جميعاً، فماتُوا، فارتفع أولياؤُهم إلى
على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال: اجمعُوا مَنْ حفر البئرَ مِن النَّاسِ، وقضى
للأول بُربع الدية، لأنه هلك فوقَه ثلاثة، وللثانى بُثلثها لأنه هلك فوقه اثنان،
وللثالث بنصفهما لأنه هلك فوقَه واحد، وللرابع بالدية تامة، فأَتوا رسولَ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العامَ المقبلَ، فقصُّوا عليه القِصَّة، فقال :
"هُوَ مَا قضَى بَيْنكُمْ "، هكذا سياقُ البزار.
وسياق أحمد نحوه، وقال: "إنهم أَبَوْا أَن يرضوا بقضاء على، فَأَتْوا رسولَ
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عند مقام إبراهيم عليه السلام،
فقصُّوا عليه القِصة، فأجازه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل
الدية على قبائل الذين ازدحموا".
فصل: فيمن تزوج إمرأة أبيه
روى الإمام أحمد، والنسائى وغيرُهما: عن البراء رضى الله عنه، قال: لقيتُ خالى أبا
بُردة ومعه الراية، فقال: "أرسلنى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى رجلٍ تزوَّج امرأة أبيه أن أقتُله وآخذ ماله".
وذكر ابن أبى خيثمة فى
"تاريخه"، من حديث معاوية بن قُرة، عن أبيه، عن جده، رضى الله عنه، أن
رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى رجل أعْرسَ بامرأةِ أبيه،
فضرب عنقَه، وخمَّسَ ماله. قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح.
وفى "سنن ابن ماجه" من حديث ابن عباس قال: قال رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ وَقَعَ عَلى ذَاتِ مَحْرمٍ
فَاقْتُلُوهُ".
وذكر الجوزجانى، أنه رُفِعَ إلى الحجاجِ رجلٌ اغتصبَ أختَه على نفسها، فقال:
احبِسُوهُ، وسلوا مَنْ هاهنا من أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فسألوا عبد الله بن أبى مطرِّف رضى الله عنه، فقال: سمعتُ رسول الله
يقول: "مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ المُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَه
بالسَّيفِ".
وقد نص أحمد فى رواية إسماعيل بن سعيد، فى رجل تزوَّج امرأة أبيه أو بذاتِ محرم،
فقال: يُقتل، ويُدخل مالُه فى بيت المال.
وهذا القولُ هو الصحيح، وهو مقتضى حكمِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة: حدُّه حدُّ الزانى، ثم قال أبو
حنيفة: إن وطئها بعد، عُزِّرَ،
ولا حد عليه، وحكمُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضاؤه أحق وأولى.
فصل: فى حُكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل من اتُّهِمَ بأم ولده فلما
ظهرت براءتُه، أمسك عنه
روى ابن أبى خيثمة وابن السكن وغيرُهما من حديث ثابت، عن أنس رضى الله عنه، أن
ابنَ عمِّ ماريةَ كان يُتَّهم بها، فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "اذْهَبْ فَإنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَ مَارِيَةَ،
فاضْرِبْ عُنُقَهُ"، فأتاهُ علىٌّ فإذا هو فى رَكِىٍّ يتبَرَّدُ فيها، فقال
له على: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر، فكفَّ عنه على، ثم
أتى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله: إنه مجبوب،
ماله ذكر. وفى لفظ آخر: أنه وجده فى نخلة يجمع تمراً، وهو ملفوفٌ بخرقة، فلما رأى
السيفَ، ارتعد وسقطت الخِرقة، فإذا هو مجبوبٌ لا ذكر له.
وقد أشكلَ هذا القضاءُ على كثيرٍ من الناس، فطعن بعضُهم فى الحديث، ولكن ليس فى
إسناده من يتعلَّق عليه، وتأوَّله بعضُهم على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لم يُردْ حقيقةَ القتل، إنما أرادَ تخويفَه ليزدجِرَ عن مجيئه إليها.
قال: وهذا كما قال سليمان للمرأتين اللتين اختصمتا إليه فى الولد: "على
بالسِّكين حتى أشُقَّ الولد بينهما"، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل قصد استعلامَ
الأمر من هذا القول، ولذلك كان مِن تراجم الأئمة على هذا الحديث:
باب الحاكم يُوهم خلاف الحق
لِيتوصل به إلى معرفة الحق، فأحبَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن يَعرِفَ الصحابة براءته، وبراءة مارية، وعلم أنه إذا عاين السيفَ، كشف عن حقيقة
حاله، فجاء الأمرُ كما قدَّره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأحسنُ من هذا أن يقال: إن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر علياً رضى
الله عنه بقتله تعزيراً لإقدامه وجرأته على خلوته بأم ولده، فلما تبيَّن لعلى
حقيقة الحال، وأنه برىء من الريبة، كفَّ عن قتله، واستغنى عن القتل بتبيين الحال،
والتعزيرُ بالقتل ليس بلازم كالحدِّ، بل هو تابعٌ للمصلحة دائرٌ معها وجوداً
وعدماً.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى القتيل يُوجد بينَ قريتين
روى الإمام أحمد، وابن أبى شيبة، من حديث أبى سعيد الخدرى رضىَ الله عنه قال:
"وُجدَ قتيلٌ بَينَ قريتينِ، فأمر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَرَعَ ما بينهما، فوُجِدَ إلى أحدهما أقرب، فكأنى أنظر إلى شِبر رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فألقاهُ عَلَى أقربِهِمَا".وفى
"مصنف عبد الرزاق" قال عمرُ بن عبد العزيز: "قضى رسولُ الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بلغنا فى القتيل يُوجد بين ظهرانى دِيارِ قومٍ:
أنَّ الأيمانَ على المدَّعى عليهم، فإن نَكَلُوا، حُلِّفَ المدعون، واستحقُّوا،
فإن نكل الفريقانِ،
كانت الديةُ نِصفُها على
المدَّعى عليهم، وبطل النصفُ إذا لم يحلِفُوا".
وقد نص الإمام أحمد فى رواية المروَزى على القول بمثل رواية أبى سعيد، فقال: قلت
لأبى عبد الله: القومُ إذا أعطوا الشىء، فتبينوا أنه ظُلِمَ فيه قوم؟ فقال: يُرد
عليهم إن عُرِفَ القوم. قلت: فإن لم يُعرفوا؟ قال: يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع،
فقلت: فما الحُجة فى أن يُفرَّق على مساكين ذلك الموضع؟ فقال: عمر بنُ الخطاب رضى
الله عنه جعل الديةَ على أهل المكانِ يعنى القرية التى وُجِدَ فيها القتيل، فأراه
قال: كما أن عليهم الدية هكذا يُفرَّقُ فيهم، يعنى: إذا ظُلِمَ قوم منهم ولم
يُعرفوا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد قضى بموجب هذا الحديث، وجعل الديةَ
على أهل المكان الذى وُجِدَ فيه القتيلِ، واحتج به أحمد، وجعل هذا أصلاً فى تفريق
المال الذى ظُلم فيه أهلُ ذلك المكان عليهم إذا لم يُعرفوا بأعيانهم.
وأما الأثر الآخر، فمرسل لا تقومُ بمثله حجة، ولو صحَّ تعيَّن القولُ بمثله، ولم
تَجُز مخالفته، ولا يُخالف باب الدعاوى، ولا باب القسامة، فإنه ليس فيهم لَوْثٌ
ظاهر يُوجب تقديم المدعين، فيقدم المدَّعى عليهم فى اليمين، فإذا نَكَلُوا، قوىَ
جانبُ المدَّعين من وجهين: أحدهما: وجودُ القتيل بين ظهرانيهم. والثانى: نكولُهم
عن براءة ساحتهم باليمن، وهذا يقومُ مقامَ اللوثِ الظاهر، فَيَحْلِفُ المدَّعون،
ويستحقون، فإذا نكل الفريقانِ كلاهما، أورث ذلك شبهةً مركبة من
نكول كُلِّ واحد منهما، فلم
ينهض ذلك سبباً لإيجاب كمال الدية عليهم إذا لم يحلِف غرماؤهم، ولا إسقاطُها عنهم
بالكلية حيث لم يحلِفُوا، فجعلت الدية نصفين، ووجب نصفُها على المدَّعى عليهم
لثبوت الشبهة فى حقهم بترك اليمين، ولم تَجِب عليهم بكمالها، لأن خُصومَهم لم
يحلِفُوا، فلما كان اللوثُ متركباً من يمين المدعين، ونكول المدَّعى عليهم، ولم
يتمَّ، سقط ما يقابل أيمان المدعين وهو النصفُ، ووجب ما يُقابل نكول المدَّعى
عليهم وهو النصف، وهذا مِن أحسن الأحكام وأعدِلها، وبالله التوفيق.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأخير القِصاصِ من الجُرح حتى
يَنْدَمِلَ
ذكر عبد الرزاق فى "مصنفه" وغيرُه: من حديث ابن جريج، عن عمرو بن شعيب
قال: "قضى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى رجل طعن آخر بقرن
فى رجله، فقال: يا رسول الله: أقِدْنى، فقال: "حَتَّى تَبْرَأَ
جِرَاحُكَ"، فأبى الرجل إلاَّ أن يستقيده، فأقاده النبىُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصحَّ المستقادُ منه، وعرج المستقيد، فقال: عرجتُ وبرأ صاحبى،
فقال النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ آمُرْكَ أَن لا
تَستَقيدَ حَتَّى تَبْرأَ جِراحُكَ فَعَصَيْتَنى، فَأَبعدَكَ اللهُ وبطل عَرجك
"، ثم أمر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان به جُرح بعد
الرجل الذى عَرَجَ أن لا يُستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه. فالجراح على ما بلغ حتى
يبرأ، فما كان مِن عَرَج أو شللَ، فلا قود فيه، وهو عقل، ومن استقاد جرحاً، فأصيب
المستقادُ منه، فعقل ما فضل من دِيته على جُرح صاحبه له.
قلت: الحديثُ فى "مسند
الإمام أحمد". من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه متصل،"أن رجلاً
طعن بِقَرْن فى رُكْبَتِهِ فجاء إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال: أقدنى. فقال : حَتَّى تَبْرَأَ"، جاء إليه فقال: أَقِدْنى. فأقاده، ثم
جاء إليه، فقال: يا رسولَ الله، عرجتُ، فقال: " قَدْ نَهَيْتُكَ
فَعَصَيْتَنى، فَأَبْعَدَكَ الله وبَطَّلَ عَرْجَتَكَ" ، ثم نهى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُقتصَّ مِن جُرح حتى يبَرأ صاحبه".
وفى سنن الدارقطنى: عن جابر رضى الله عنه، "أن رجلاً جُرِحَ، فأرادَ أَن
يستقيدَ، فنهى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُستقاد مِن
الجارح حتى يبرَأ المجروحُ".وقد تضمنتَ هذه الحكومةُ، أنه لا يجوز الاقتصاصُ
مِن الجُرح حتى يسِتقرَّ أمرُه، إما باندمالٍ، أو بسِراية مستقرة، وأنَّ سراية
الجناية مضمونة بالقود، وجوازِ القِصاص فى الضربة بالعصا والقَرن ونحوهما، ولا
ناسخ لهذه الحكومة، ولا مُعارِضَ لها، والذى نسخ بها تعجيلُ القصاص قبل الاندمال
لا نفسُ القصاص فتأمله، وأن المجنى عليه إذا بادر واقتصَّ من الجانى، ثم سرتِ
الجناية إلى عُضو من أعضائه، أو إلى نفسه بعد القصاص، فالسرايةُ هدر.
وأنه يُكتفى بالقصاص وحدَه دون
تعزير الجانى وحبسِه، قال عطاء: الجروحُ قِصاص، وليس للإمام أن يضرِبَه ولا
يسجِنه، إنما هو القصاص، وما كان ربك نسياً، ولو شاء، لأمر بالضرب والسجن. وقال
مالك: يُقتص منه بحقِّ الآدمى، ويُعاقب لجرأته.
والجمهور يقولون: القصاصُ يُغنى عن العقوبة الزائدة، فهو كالحدِّ إذا أُقيم على
المحدود، لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى.
والمعاصى ثلاثة أنواع: نوعٌ عليه حدٌّ مقدَّر، فلا يُجمع بينه وبين التعزير. ونوعٌ
لا حدَّ فيه، ولا كفارة، فهذا يُردع فيه بالتعزير، ونوع فيه كفارة، ولا حد فيه،
كالوطء فى الإحرام والصيام، فهل يُجمع فيه بين الكفارة والتعزير؟ على قولين
للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، والقِصاص يجرى مجرى الحدِّ، فلا يُجمع بينه وبين
التعزير.
فصل: فى قضائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقِصاصِ فى كسرِ السن
فى "الصحيحين": من حديث أنس، أن ابنة النضر أختَ الرُّبَيِّعِ لطمَتْ
جَارِية، فكسرت سِنَّها، فاختصمُوا إلى النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فأمر بالقِصاصِ، فقالت أُمُّ الرُّبَيِّعِ: يا رسول الله، أَيقتص مِن
فُلانة، لا والله لا يُقْتَصُّ منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سبحان الله يا أم الربيع كتاب الله القصاص فقالت لا والله لا يقتص منها
أبدا فعفا القوم وقبلوا الدية فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ".
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن عضَّ يدَ رَجُلٍ، فانتزع يده من فيه، فسقطت ثنية العاض
بإهدارها
ثبت فى "الصحيحين": أن رجلاً عضَّ يدَ رجل، فنزع يدَه من فيه، فوقعت
ثناياه، فاختصمُوا إلى النبىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال:
"يَعَضُّ أحَدُكُم أَخَاهُ كما يَعَضُّ الفَحْلُ، لا دِيةَ لَكَ".
وقد تضمَّنتْ هذه الحكومةُ أن مَنْ خلَّص نَفَسَه مِن يدِ ظالمٍ له، فَتَلِفَتْ
نَفْسُ الظالم، أو شىءٌ مِنْ أطرافه أو مَالِهِ بذلك، فهو هَدْرٌ غَيْرُ مضمون.
فصل: فى قضائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن أطلع فى بيت رجُلٍ بغير
إذنه، فَحذَفَهُ بحَصَاةٍ أَو عُود، ففقأ عينه، فلا شىء عليه
ثبت فى "الصحيحين" من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَوْ أَنَّ امرءاً اطَّلعَ عَلَيْكَ
بِغَيْرِ إِذْن، فَحذَفْتَهُ، بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ
عَلَيْكَ جُنَاحٌ".
وفى لفظ فيهما: "مَنِ
اطَّلعَ فى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ، فَلاَ دِيةَ
لَهُ ولا قِصَاصِ".
وفيهما: "أن رجلاً اطلعَ من جُحْرٍ فى بعضِ حُجَرِ النبىِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إليهِ بمِشْقَصٍ، وجعلَ يختِلهُ لِيطعَنه"، فذهب
إلى القول بهذه الحكومة، إلى التى قبلها فقهاءُ الحديث، منهم: الإمامُ أحمد،
والشافعى ولم يقل بها أبو حنيفة ومالك.
فصل
وقضَى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن الحامِلَ إذا
قَتَلَت عمداً لا تُقتل حتى تضَعَ ما فى بطنها وحتَّى تُكَفِّلَ وَلَدَهَا".
ذكره ابن ماجه فى "سننه".
وقضى "أن لا يُقتل الوالدُ بالولَدِ". ذكره النسائى وأحمد.
وقضى "أن المؤمنين تتكافأ
دماؤهم، ولا يُقْتَل مؤمِنٌ بكافر".
وقضى أن من قُتِلَ له قتيل، فأهله بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إما أن يقتلُوا أو يأخذوا
العقل.وقضى أن فى دية الأصابع من اليدين والرِّجلين فى ك