كتاب
:مجلد 7. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى
: 456هـ)
وَيَزِيدُ
مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ
الدَّيْنِ الْحَالِ وَالْمُؤَجَّلِ فِي ذَلِكَ وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا
تُكَلَّفُهُ الأُُمُّ وَبَيْنَ مَا يُكَلَّفُهُ الْوَلَدُ. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ
إقْرَارِهِ بِالْحَمْلِ وَبَيْنَ إقْرَارِهِ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْوَضْعِ فِيمَا
يُكَلَّفُهُ مِنْ الأَسْتِسْعَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا
تُكَلَّفُهُ أُمُّ الْوَلَدِ وَبَيْنَ مَا يُكَلَّفُهُ الْعَبْدُ بِعِتْقِ.
وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الرُّجُوعِ مَرَّةً عَلَى السَّيِّدِ بِمَا غَرِمَ
الْغَارِمُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ مَنْعِهِمْ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَرَّةً
بِذَلِكَ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: إنَّ الْوَلَدَ يُسْتَسْعَى،
فَلَيْتَ شِعْرِي إلَى مَتَى بَقِيَ هَذَا الدَّيْنُ الْمَسْخُوطُ حَتَّى وُلِدَ
الْمَحْمُولُ بِهِ، وَحَتَّى فُطِمَ، وَكَبِرَ، وَبَلَغَ، وَتَصَرَّفَ أَفَإِنْ
مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ مَاذَا يَكُونُ كُلُّ هَذَا بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ
وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُمْ، وَلاَ قِيَاسٍ أَصْلاً، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ مَا
مِثْلُ عُقُولٍ أَنْتَجَتْ هَذِهِ الأَقْوَالَ بِمَأْمُونَةِ عَلَى تَدْبِيرِ
نَوَاةٍ مُحْرِقَة، فَكَيْفَ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ وَإِنَّ نِعَمَ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا لَعَظِيمَةٌ فِي تَوْفِيقِهِ لَنَا إلَى اتِّبَاعِ
كِتَابِهِ، وَسُنَنِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يُمَوِّهُونَ بِأَنْ
يَقُولَ: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَسْتِسْعَاءِ الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَعْتِقُهُ سَيِّدُهُ وَهُوَ
مُعْسِرٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي عَبْدٍ يَمْلِكُهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا
وَلَيْسَ هَاهُنَا مَالُك غَيْرَ الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ وَالْمُوَلِّدِ أَمَتَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ،
لأََنَّهُ قِيَاسُ حُكْمٍ عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ، وَعَلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ
فِي وُرُودٍ، وَلاَ فِي صَدْرٍ
قال أبو محمد: ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ؟ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ
وَبَيْعِهِ وَإِصْدَاقِهِ، إذْ أَجَزْتُمْ الْبَيْعَ بِغَيْرِ إجْمَاعٍ،
وَمَنَعْتُمْ مِنْ سَائِرِ ذَلِكَ؟.
وَأَمَّا هَلاَكُ الرَّهْنِ بِغَيْرِ فِعْلِ الرَّاهِنِ، وَلاَ الْمُرْتَهِنِ،
فَلِلنَّاسِ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَرَادَّانِ
الْفَضْلَ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ الرَّهْنَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ
الدَّيْنِ سَوَاءً، فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، عَنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ
سَقَطَ الدَّيْنُ بِمِقْدَارِهِ مِنْ الرَّهْنِ وَكُلِّفَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ
يُؤَدِّيَ إلَى الرَّاهِنِ مِقْدَارَ مَا كَانَ تَزِيدُهُ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَلَى
قِيمَةِ الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ
الدَّيْنِ بِمِقْدَارِهِ وَأَدَّى الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَضْلَ مَا زَادَ
الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ: يَتَرَاجَعَانِ الْفَضْلَ يَعْنِي فِي الرَّهْنِ يَهْلَكُ. وَرُوِيَ
أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ،
وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ
كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ أَوْ مِثْلَهَا فَقَدْ
بَطَلَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، وَلاَ غَرَامَةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي زِيَادَةِ
قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ الدَّيْنِ
(8/96)
فَإِنْ
كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ
بِمِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَأَدَّى الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ مَا بَقِيَ
مِنْ دَيْنِهِ: رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَطَاءٍ،
عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ
عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
وَمِنْ طَرِيق قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَلِيٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إدْرِيسَ الأَوْدِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَيْرٍ
قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مِثْلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَهَبَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ كَقِيمَةِ
الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إذَا تَلِفَ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَلاَ
يَغْرَمُ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ شَيْئًا صَحَّ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ،
وَقَتَادَةَ وَصَحَّ عَنْ طَاوُوسٍ فِي الْحَيَوَانِ يَرْتَهِن وَرُوِّينَا، عَنِ
النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ فِيمَنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَأَعْوَرَ عِنْدَهُ قَالاَ:
ذَهَبَ بِنِصْفِ دَيْنِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا
يَخْفَى كَالثِّيَابِ، وَنَحْوِهَا، فَضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنْهَا عَلَى
الْمُرْتَهِنِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَيَبْقَى دَيْنُهُ بِحَسَبِهِ حَتَّى
يُؤَدِّيَ إلَيْهِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يَظْهَرُ
كَالْعَقَارِ، وَالْحَيَوَانِ، فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ
وَدَيْنُهُ بَاقٍ بِكَمَالِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَخْفَى أَوْ مِمَّا لاَ يَخْفَى لاَ
ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَصْلاً وَدَيْنُهُ بَاقٍ بِكَمَالِهِ حَتَّى
يُؤَدِّيَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى أَنَا
قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الرَّهْنِ:
يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ بَرِئَ فَصَحَّ أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمْ يَرَ تُرَاد الْفَضْلِ إِلاَّ فِيمَا تَلِفَ
بِجِنَايَةِ الْمُرْتَهِنِ لاَ فِيمَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، بَلْ رَأَى
الْبَرَاءَةَ لَهُ مِمَّا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ
قَالَ: الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ إنْ هَلَكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ يَأْخُذُ
الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ كُلُّهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي
الرَّهْنِ يَهْلَكُ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ حَقُّ هَذَا إنَّمَا هَلَكَ مِنْ رَبِّ
الرَّهْنِ لَهُ غَنَمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ مَا يَخْفَى وَبَيْنَ مَا لاَ يَخْفَى:
فَقَوْلٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ،
وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ
قَبْلَهُ فَسَقَطَ، وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التُّهْمَةِ; وَالتُّهْمَةُ ظَنٌّ
كَاذِبٌ يَأْثَمُ صَاحِبُهُ، وَلاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ، وَالتُّهْمَةُ
مُتَوَجِّهَةٌ إلَى أَحَدٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرِ مُرْسَلٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لاَ
يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، لاَ
يُغْلَقُ الرَّهْنُ
(8/97)
مِمَّنْ
رُهِنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ ". وَقَالُوا: قَدْ أَجْمَعْ
الصِّحَابَةُ عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِيمَا زَادَ
مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ دَيْنِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُرْتَهِنَ أَمِينٌ فِيمَا فَضَلَ مِنْ
قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ دَيْنِهِ، فَدَعْوَى فَاسِدَةٌ، وَتَفْرِيقٌ
بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَا هُوَ إِلاَّ أَمِينٌ فِي الْكُلِّ أَوْ غَيْرُ أَمِينٍ فِي
الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَجْمَعَ الصِّحَابَةُ عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ،
فَقَوْلٌ جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْخَفِيفَةِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ
الْكَذِبِ عَلَى الصَّحَابَةِ بِلاَ مُؤْنَةٍ. وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ هَلْ جَاءَ
فِي هَذَا كَلِمَةٌ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلاَّ، عَنْ عُمَرَ،
وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ فَقَطْ. فأما عُمَرُ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ذَلِكَ،
لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعُبَيْدٍ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ
بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ أَوْ أَدْرَكَهُ صَغِيرًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلاَ يَصِحُّ عَنْهُ ; لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَمُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ،
وَأَصَحُّ الرِّوَايَات عَنْهُ إسْقَاطُ التَّضْمِينِ فِيمَا أَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ أَنَّ
الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُمْ
قَدْ خَالَفُوا الإِجْمَاعَ، لأََنَّهُمْ لاَ يُضَمِّنُونَ بَعْضَ الرَّهْنِ
وَهُوَ مَا زَادَ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى قِيمَةِ الدَّيْنِ فَهَذَا حُكْمُهُمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوا فَمُرْسَلٌ، وَلاَ
حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ
أَصْلاً، لأََنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلاَ
تَقْسِيمِهِمْ، وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ لَوْ صَحَّ هُوَ أَنَّ قَوْلَ لاَ يُغْلَقُ
الرَّهْنُ مِمَّنْ رُهِنَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، لَهُ غُنْمُهُ
وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، فَوَجَبَ ضَمَانُ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلاَ
بُدَّ بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ. وَقَوْلَهُ لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ
لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ إنْ كَانَ أَرَادَ بِصَاحِبِهِ مَالِكَهُ،
وَهُوَ الأَظْهَرُ، فَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ خَسَارَتَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَضْمَنُهُ
لَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِصَاحِبِهِ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ
يُوجِبُ ضَمَانَهُ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، فَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِكُلِّ
وَجْهٍ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ، وَنَقُولُ لَهُمْ: فِي أَيِّ الأُُصُولِ وَجَدْتُمْ
شَيْئًا وَاحِدًا رَهْنًا كُلَّهُ، عَنْ دَيْنٍ وَاحِدٍ بَعْضُهُ مَضْمُونٌ
وَبَعْضُهُ أَمَانَةٌ وَأَنْتُمْ تَرُدُّونَ السُّنَنَ بِخِلاَفِهَا بِالأُُصُولِ
بِزَعْمِكُمْ ثُمَّ تُخَالِفُونَهَا جِهَارًا بِلاَ نَصٍّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ
" يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ " فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً
إِلاَّ أَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّهْنُ مَكَانَ
الدَّيْنِ تَقَاصَّا فِيهِ، وَهَذَا رَأْيٌ، وَالدِّينُ لاَ يُؤْخَذُ بِالآرَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ " ذَهَبَتْ الرُّهُونُ بِمَا فِيهَا " فَإِنَّهُمْ
احْتَجُّوا بِخَبَرِ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ
عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلاً
(8/98)
رَهَنَ
فَرَسًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
ذَهَبَ حَقُّكَ ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ، فَالْوَاجِبُ
الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ
بْنُ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا
جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ الأَنْطَاكِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ،
حَدَّثَنَا نَضْرُ بْنُ عَاصِمٍ الأَنْطَاكِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ
وَرْقَاءَ، حَدَّثَنَا أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُغْلَقُ
الرَّهْنُ، الرَّهْنُ لِمَنْ رُهِنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ
". فَهَذَا مُسْنَدٌ مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ،
وَادَّعَوْا أَنَّ أَبَا عُمَرَ الْمُطَرِّزَ غُلاَمَ ثَعْلَبٍ، قَالَ: أَخْطَأَ
مَنْ قَالَ: إنَّ الْغُرْمَ الْهَلاَكُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ قَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ قوله تعالى: {وَمِنْ
الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا}. أَيْ يَرَاهُ هَالِكًا بِلاَ
مَنْفَعَةٍ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ الْمُطَرِّزِ.
قال أبو محمد: وَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَلَمْ يُحِلَّ لِغَرِيمِ
الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلاَ أَنْ يَضْمَنَ الرَّهْنَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي
تَضْمِينِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُضَيِّعَهُ فَيَضْمَنَهُ
حِينَئِذٍ بِاعْتِدَائِهِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ قَدْ
وَجَبَ فَلاَ يُسْقِطُهُ ذَهَابُ الرَّهْنِ.فَصَحَّ يَقِينًا مِنْ هَذَيْنِ
الأَصْلَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِالْقُرْآنِ، وَالإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ: أَنَّ
هَلاَكَ الرَّهْنِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّ
دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ بَاقٍ بِحَسْبِهِ لاَزِمٌ لِلرَّاهِنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى فِيمَنْ ارْتَهَنَ
أَرْضًا فَأَثْمَرَتْ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مِنْ الرَّهْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
طَاوُوسٍ: أَنَّ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ " مَنْ ارْتَهَنَ أَرْضًا فَهُوَ
يَحْتَسِبُ ثَمَرَهَا لِصَاحِبِ الرَّهْنِ ".
قال أبو محمد: الْحُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ، وَهُمَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ
الثَّمَرَةَ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ وَالآخَرُ: أَنَّهَا مِنْ الرَّهْنِ. وقال أبو
حنيفة: الْوَلَدُ، وَالْغَلَّةُ، وَالثَّمَرَةُ، رَهْنٌ مَعَ الأُُصُولِ. ثُمَّ
تَنَاقَضُوا، فَقَالُوا: إنْ هَلَكَ الْوَلَدُ، وَالْغَلَّةُ، وَالثَّمَرَةُ: لَمْ
يَسْقُطْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ، الدَّيْنِ شَيْءٌ، وَإِنْ هَلَكَ الأَصْلُ،
وَالأُُمُّ، وَالشَّجَرُ قُسِّمَ الدَّيْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى النَّمَاءِ،
فَمَا وَقَعَ لِلأَصْلِ سَقَطَ، وَمَا وَقَعَ لِلنَّمَاءِ بَقِيَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَهْنٌ عِنْدَهُمْ
ثُمَّ خَالَفُوا بَيْنَ
(8/99)
أَحْكَامِهَا بِلاَ بُرْهَانٍ. وقال مالك: أَمَّا الْوَلَدُ فَدَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ، وَأَمَّا الْغَلَّةُ وَالثَّمَرَةُ، فَخَارِجَانِ مِنْ الرَّهْنِ وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ جِدًّا بِلاَ بُرْهَانٍ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ الأُُمِّ قلنا: كَذَبَ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَكَيْف يَكُونُ بَعْضَهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى، وَيَكُونُ مُسْلِمًا، وَهِيَ كَافِرَةٌ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: وَالثَّمَرَةُ أَيْضًا بَعْضُ الشَّجَرِ دَعْوَى كَدَعْوَى. وقال الشافعي: كُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الأَصْلِ، وَلاَ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَقُّ، لأََنَّ الرَّهْنَ هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ الصَّفْقَةَ، لاَ مَا لَمْ يَتَعَاقَدَاهَا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَاقَدَا الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ، فَكُلُّهُ غَيْرُ الأَصْلِ، وَكُلُّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الأَصْلِ، فَكُلُّهُ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/100)
إن
مات الراهن أو المرتهن بطل الرهن ووجب رد الرهن إلى الراهن أو إلى ورثته وحل الدين
الؤجل
...
1215 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ بَطَلَ الرَّهْنُ
وَوَجَبَ رَدُّ الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ، وَحُلَّ
الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ
وَلاَ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ
حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلاَّ عَلَيْهَا} فَإِذَا مَا مَاتَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّمَا كَانَ حَقُّ
الرَّهْنِ لَهُ، لاَ لِوَرَثَتِهِ، وَلاَ لِغُرَمَائِهِ، وَلاَ لأََهْلِ
وَصِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا تُورَثُ الأَمْوَالُ لاَ الْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ
أَمْوَالاً: كَالأَمَانَاتِ، وَالْوَكَالاَت، وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِمَوْتِهِ وَجَبَ رَدُّ الرَّهْنِ إلَى
صَاحِبِهِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَإِنَّمَا كَانَ عَقْدُ الْمُرْتَهِنِ
مَعَهُ لاَ مَعَ وَرَثَتِهِ، وَقَدْ سَقَطَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، عَنِ الرَّهْنِ
بِمَوْتِهِ، وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَى وَرَثَتِهِ أَوْ إلَى غُرَمَائِهِ، وَهُوَ
أَحَدُ غُرَمَائِهِ، أَوْ إلَى أَهْلِ وَصِيَّتِهِ، وَلاَ عَقْدَ لِلْمُرْتَهِنِ
مَعَهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَاسِبًا
عَلَيْهِمْ، فَالْوَاجِبُ رَدُّ مَتَاعِهِمْ إلَيْهِمْ، وَلِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ ". وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ خَالَفَ هَذَا حُجَّةً أَصْلاً:
وَرُوِّينَا عَنِ الشَّعْبِيِّ فِيمَنْ رَهَنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَمَاتَ: أَنَّ
الرَّهْنَ لَهُ أَيْ لِوَرَثَتِهِ، قَالَ: الْحَكَمُ هُوَ لِلْغُرَمَاءِ.
(8/100)
من
ارتهن شيئا فخاف فساده ففرض عليه أن يأتي الحاكم فيبيعه ويوقف الثمن لصاحبه
...
1216 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ ارْتَهَنَ شَيْئًا فَخَافَ فَسَادَهُ كَعَصِيرِ خِيفَ
أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَيَبِيعَهُ
وَيُوقِفَ الثَّمَنَ لِصَاحِبِهِ
إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ يُنْصِفَ مِنْهُ الْغَرِيمَ الْمُرْتَهِنَ إنْ كَانَ
الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ يَصْرِفَ الثَّمَنَ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ
مُؤَجَّلاً، فَإِنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ السُّلْطَانُ فَلْيَفْعَلْ هُوَ مَا
ذَكَرْنَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلأََنَّ
ثَمَنَ الرَّهْنِ هُوَ غَيْرُ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا عَقْدُهُ فِي الرَّهْنِ لاَ
فِي ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا ثَمَنُهُ مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ كَسَائِرِ مَالِهِ،
وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/100)
1217
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ سِلْعَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَهْنًا، عَنْ
ثَمَنِهَا،
فَإِنْ وَقَعَ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ إمْسَاكُ
سِلْعَتِهِ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ ثَمَنِهَا إنْ كَانَ حَالًّا وَإِلَّا فَلَيْسَ
لَهُ ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ مَا اشْتَرَى
مُدَّةً مُسَمَّاةً وَهَذَا شَرْطٌ لَيْسَ
(8/100)
1218
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَكُونُ حُكْمُ الرَّهْنِ إِلاَّ لِمَا ارْتَهَنَ فِي نَفْسِ
عَقْدِ التَّدَايُنِ، وَأَمَّا مَا ارْتَهَنَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ
لَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ،
وَلِرَاهِنِهِ أَخْذُهُ مَتَى شَاءَ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ
الرَّهْنَ إِلاَّ فِي الْعَقْدِ كَمَا تَلَوْنَا وَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.
(8/101)
من
تداين فرهن في العقد رهنا صحيحا ثم بعد ذلك تداينا أيضا وجعلا ذلك الرهن رهنا عن
هذا الدين الثاني فالعقد باطل مردود
...
1219 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ تَدَايَنَ فَرَهَنَ فِي الْعَقْدِ رَهْنًا صَحِيحًا، ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ تَدَايَنَا أَيْضًا وَجَعَلاَ ذَلِكَ الرَّهْنَ رَهْنًا، عَنْ هَذَا
الدَّيْنِ الثَّانِي، فَالْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ مَرْدُودٌ،
لأََنَّ ذَلِكَ الرَّهْنَ قَدْ صَحَّ فِي الْعَقْدِ الأَوَّلِ، فَلاَ يَجُوزُ
نَقْلُهُ إلَى عَقْدٍ آخَر، إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ،
فَهُوَ شَرْعٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلُّ
عَقْدٍ انْعَقَدَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ لَمْ تُعْقَدْ لَهُ
صِحَّةٌ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ، فَلاَ صِحَّةَ لَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/101)
1220
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ رَهَنَ رَهْنًا صَحِيحًا ثُمَّ أَنْصَفَ مِنْ بَعْضِ
دَيْنِهِ أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجُ، عَنِ الرَّهْنِ
بِقَدْرِ مَا أَدَّى، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،
لأََنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ فِي جَمِيعِهِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَلاَ يَسْقُطُ، عَنْ
بَعْضِ الرَّهْنِ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْ أَجْلِ سُقُوطِ بَعْضِ الدَّيْنِ، إذْ
لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ. هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَصْحَابِنَا. فإن قيل: كَيْفَ تَمْنَعُونَ مِنْ إخْرَاجِ الرَّهْنِ إِلاَّ
بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ، وَتُجِيزُونَ بَيْعَهُ وَعِتْقَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ،
وَهُوَ إخْرَاجٌ لَهُ
(8/101)
1221
– مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ غَيْرِهِ، عَنْ
نَفْسِهِ، وَلاَ مَالَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، إِلاَّ بِإِذْنِ
صَاحِبِ السِّلْعَةِ الَّتِي يُرِيدُ رَهْنَهَا،
وَلاَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلاَ مَالَ يَتِيمِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، وَلاَ
مَالَ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ: لَهُ أَنْ
يَرْهَنَ، عَنْ نَفْسِهِ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمَالِكِيُّونَ:
وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ يَتِيمِهِ، عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالُوا: إذَا
أَذِنَ الأَجْنَبِيُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ، عَنْ نَفْسِهِ جَازَ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ أَنَّ لِلأَبِ الْوَصِيِّ أَنْ يُودِعَ مَالَ الأَبْنِ
وَالْيَتِيمِ، فَإِدْخَالُهُ فِي الذِّمَّةِ أَحَقُّ بِالْجِوَازِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمَا إيدَاعُهُ وَلاَ
قَرْضُهُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ نَظَرًا وَحِيَاطَةً لِلصَّغِيرِ وَلاَ
نَظَرَ لَهُ أَصْلاً فِي أَنْ يَرْهَنَهُ الأَبُ وَالْوَصِيُّ عَنْ أَنْفُسِهِمَا،
فَهُوَ ضَرَرٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُودِعَ
الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ أَذَا خَشِيَ هَلاَكَهَا عِنْدَهُ،
وَرَأَى السَّلاَمَةَ فِي إيدَاعِهَا: فَيَلْزَمُهُمْ بِهَذَا الأَسْتِدْلاَل
الْبَدِيعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي
ذَلِكَ بِمَا صَحَّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ
". وَمِنْ طَرِيقِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:" إنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ
كَسْبِهِ". رُوِّينَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ قَالَ:
حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ بَكْرٌ:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ
غَفَلَةَ وقال أحمد: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ الأَسْوَدِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ إنَّمَا هُمَا فِي الأَكْلِ وَهَكَذَا
نَقُولُ: يَأْكُلُ مِنْهُ مَا شَاءَ
(8/102)
مِنْ
بَيْتِهِ وَغَيْر بَيْتِهِ وَلَيْسَا فِي الْبَيْعِ وَلاَ فِي الأَرْتِهَانِ،
وَلاَ فِي الْهِبَةِ. وَلاَ فِي الأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكُنْتُمْ قَدْ
تَنَاقَضْتُمْ أَفْحَشَ تَنَاقُضٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} إلَى قوله تعالى: {أَوْ مَا
مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الأَكْلَ مِنْ
بُيُوتِ الأَصْدِقَاءِ وَاَلَّتِي مَفَاتِحُهَا بِأَيْدِينَا وَبُيُوتِ الإِخْوَةِ
وَالأَخَوَات وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي الآيَةِ فَأَبِيحُوا الأَرْتِهَانَ
مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى الأَكْلِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا وَأَنْتُمْ لاَ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَضْتُمْ قِيَاسَكُمْ وَتَرَكْتُمُوهُ وَقَضَيْتُمْ
بِفَسَادِهِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْفَسَادِ جُمْلَةً، وَالثَّانِي أَنَّكُمْ لاَ
تُجِيزُونَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ
النَّظَرِ لَهُ، وَلاَ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ شَيْئًا أَصْلاً لِغَيْرِ
الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إِلاَّ الأَرْتِهَانَ خَاصَّةً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ
أَنْ يُصَدِّقهُ، عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ
وَالتَّحَكُّمُ فِي الدِّينِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْمُضْطَرِبَةِ،
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد هُوَ الْخُرَيْبِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ
لأََبِيكَ ".
قال أبو محمد: فَأَبَاحُوا بِهِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ
وَأَسْقَطُوا عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءِ أَمَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
وَأَسْقَطُوا عَنْهُ الْحَدَّ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ،
وَالصَّغِيرِ، وَقَضَوْا عَلَى الأَبِ بِضَمَانِهِ وَرَدِّهِ، وَأَبَاحَ
الْمَالِكِيُّونَ بِهِ أَنْ يُصَدِّق مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، عَنْ نَفْسِهِ
وَأَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ خَاصَّةً وَيَضْمَنَ الْقِيمَةَ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفُوهُ فَلَمْ يُبِيحُوا لِلأَبِ مِنْ
مَالِ ابْنِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَالْحَدِيثُ عَامٌّ لَمْ يَخُصَّ هَذِهِ
الْوُجُوهَ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ تَخْصِيصُهَا بِدَعْوَى
كَاذِبَةٍ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبِيحُوا الأَرْتِهَانَ
وَالإِصْدَاقَ إِلاَّ مِنْ مَالِ الأَبْنِ الصَّغِيرِ لاَ مِنْ مَالِ الأَبْنِ
الْكَبِيرِ فَخَالَفُوا الْخَبَرَ وَتُحَكَّمُوا فِي الدَّيْنِ بِالتَّحْرِيمِ،
وَالتَّحْلِيلِ بِالدَّعْوَى الْمُبْطِلَةِ بِلاَ بُرْهَانٍ فَإِنْ ادَّعَوْا
إجْمَاعًا كَذَبُوا لأََنَّهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ
رَجُلاً صَنَعَ شَيْئًا فِي مَالِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَبَاهُ فَسَأَلَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ فَقَالَ: اُرْدُدْ
عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هُوَ سَهْمٌ مِنْ كِنَانَتِكَ "، وَقَدْ صَحَّ مَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلاَبَةَ الرَّقَاشِيُّ،
حَدَّثَنَا رَوْحٌ
(8/103)
هُوَ
ابْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَأْخُذُ الأَبُ، وَالأُُمُّ
مِنْ مَالِ وَلَدِهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلاَ يَأْخُذُ الأَبْنُ وَالأَبْنَةُ
مِنْ مَالِ أَبَوَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، وَصَحَّ مِثْلُهُ نَصًّا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد،
هُوَ ابْنُ غَفَلَةَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهَا ;
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُبَابُ بْنُ
فَضَالَةَ بْنِ هُرْمُزَ الْحَنَفِيُّ قَالَ: قُلْت لأََنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
جَارِيَةٌ لِي غَلَبَنِي عَلَيْهَا أَبِي لَمْ يَخْلِطُهَا مَالٌ لأََبِي فَقَالَ
لِي أَنَسٌ: هِيَ لَهُ، أَنْتَ وَمَالُك مِنْ كَسْبِهِ، أَنْتَ وَمَالُك لَهُ
حَلاَلٌ، وَمَالُهُ عَلَيْك حَرَامٌ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلاَبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد
هُوَ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ
حَمَّادٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
أَوْلاَدُكُمْ هِبَةُ اللَّهِ لَكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَكُمْ. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَتَاهُ أَبٌ
وَابْنٌ وَالأَبْنُ يَطْلُبُ أَبَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَقْرَضَهُ إيَّاهَا
وَالأَبُ يَقُولُ: إنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِ الأَبْنِ
فَوَضَعَهَا فِي يَدِ الأَبِ فَقَالَ: هَذَا وَمَالُهُ مَنْ هِبَةِ اللَّهِ لَك.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوُ هَذَا وَأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ
الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ وَجَوَّزَ مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
كَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَنْتَ مِنْ
هِبَةِ اللَّهِ لأََبِيك، أَنْتَ وَمَالُك لأََبِيك. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْحَسَنُ،
هُوَ ابْنُ حَيٍّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ، قَالاَ جَمِيعًا:
يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ إِلاَّ الْفَرْجَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ:
الْوَالِد فِي حِلٍّ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِلاَّ الْفَرْجَ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ خَاصَمَ أَبَاهُ إلَى
الشَّعْبِيِّ فِي مَالٍ لَهُ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ لِعَبْدِ اللَّهِ، أَجْعَلُك
وَمَالَك لَهُ يَعْنِي لِوَلَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ
بْنِ حَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الرَّجُلُ فِي حِلٍّ مِنْ
مَالِ وَلَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ
مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُضَارّهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: الْوَالِدُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ
(8/104)
وَلَدِهِ
مَا شَاءَ وَالْوَلَدُ لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَالِدِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ
الْبُرْسَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ:
يَأْخُذُ الْوَالِدَانِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِمَا مَا شَاءَا وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْت الْحَسَنَ وَسَأَلَهُ سَائِلٌ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ وَالِدِهِ فَقَالَ
لَهُ الْحَسَنُ: أَنْتَ وَمَالُك لأََبِيك، أَمَا عَلِمْت أَنَّك عَبْدُ أَبِيك
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
مَا شَاءَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً تَسُرَّاهَا، قَالَ قَتَادَةَ: لَمْ
يُعْجِبْنِي مَا قَالَ فِي الْجَارِيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِلاَّ الْفَرْجَ. وَقَدْ
رُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا إِلاَّ الْفَرْجَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:
لاَ يَغْرَمُ الأَبُ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ
لِمَالِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ خِلاَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ،
وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسٌ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، إِلاَّ رِوَايَةً صَحَّتْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأُخْرَى، عَنْ
عَلِيٍّ لَمْ يَصِحَّ. وَلاَ نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ
مُخَالِفًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيَّ،
وَمُجَاهِدًا، بِاخْتِلاَفِ عَنْهُمْ وَالزُّهْرِيَّ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
كَقَوْلِنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى بِمَالِهِ يَعْنِي الْوَالِدَ
وَالْوَلَدَ. وبه إلى عَبْدٍ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَيْسَ
لِلأَبِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ إِلاَّ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ
شَرَابٍ، أَوْ لِبَاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ فَيُسْتَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ، يَعُولُهُ ابْنُهُ،
كَمَا كَانَ الأَبُ يَعُولُهُ، فأما إذَا كَانَ الأَبُ مُوسِرًا فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ فَيَبْقَى بِهِ مَالُهُ، أَوْ يَضَعُهُ فِي مَا
لاَ يَحِلُّ قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ أُمُّ الْيَتِيمِ مُحْتَاجَةً أَنْفَقَ
عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، يَدُهَا مَعَ يَدِهِ، وَالْمُوسِرَةُ لاَ شَيْءَ لَهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خُذْ مِنْ مَالِ وَلَدِك مَا
أَعْطَيْته، وَلاَ تَأْخُذْ مِنْهُ مَا لَمْ تُعْطِهِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّ أَبِي يَحْرِمْنِي
مَالَهُ فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: كُلْ مَنْ مَالِ أَبِيك بِالْمَعْرُوفِ. حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ
حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَحَرَ جَزُورًا فَجَاءَ
سَائِلٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ؟
(8/105)
فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ: مَا هِيَ لِي فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: يَا أَبَتَاهُ فَأَنْتَ فِي
حِلٍّ، أَطْعِمْ مِنْهَا مَا شِئْت. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
إسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ
صَغِيرًا فَإِذَا كَبُرَ وَاحْتَازَ مَالَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إسْرَائِيلُ
ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: يَقُولُ ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ،
وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، نَقُولُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي
الأَكْلِ خَاصَّةً فَإِنَّ لِلأَبِ وَالأُُمِّ أَنْ يَأْكُلاَ مِنْ مَالِ
الْوَلَدِ حَيْثُ وَجَدَاهُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ غَيْرِ بَيْتٍ فَقَطْ ثُمَّ لاَ
شَيْءَ لَهُمَا، وَلاَ حُكْمَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لاَ بِعِتْقِ، وَلاَ
بِإِصْدَاقِ، وَلاَ بِارْتِهَانِ، إِلاَّ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ، فَيَأْخُذُ
الْفَقِيرُ مِنْهُمَا مَا احْتَاجَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مِنْ كِسْوَةٍ، وَأَكْلٍ،
وَسُكْنَى، وَخِدْمَةٍ، وَمَا احْتَاجَا إلَيْهِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْوَلَدُ
فَيَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ مَا شَاءَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا،
وَلاَ يَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ الْبَيْتِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَتْ النُّصُوصُ، لاَ
يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ احْتَاجَ أَخَذَ أَيْضًا كَمَا قلنا فِي
الْوَالِدَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي
الْقُرْبَى} ثُمَّ الْحُدُودُ، وَالأَحْكَامُ لاَزِمَةٌ لِلأَبِ فِي جَارِيَةِ
وَلَدِهِ، وَفِي مَالِ وَلَدِهِ، وَلاَزِمَةٌ لِلأَبْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ،
وَأُمِّهِ، وَمَالِهِمَا، كَمَا هِيَ فِيمَا بَيْنَ الأَجْنَبِيَّيْنِ سَوَاءٌ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ يُشَنِّعُونَ خِلاَفَ
الصَّاحِبِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ إذَا وَافَقَ شَهَوَاتهمْ،
وَيَجْعَلُونَهُ إجْمَاعًا وَيَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ. وَأَقْرَبُ ذَلِكَ: مَا
ذَكَرْنَا مِنْ دَعْوَى الْحَنَفِيِّينَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَضْمِينِ
الرَّهْنِ، وَلَيْسَ مِنْهُ إِلاَّ رِوَايَاتٌ لاَ تَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ،
وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ فَقَطْ. وَقَدْ صَحَّتْ، عَنْ عَلِيٍّ رِوَايَةٌ بِإِسْقَاطِ
التَّضْمِينِ إذَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ هَاهُنَا مَا قَدْ
صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حُجَّةٌ
أَصْلاً، وَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ، إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ عُمَرَ
رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
قُدَامَةَ الْحَنَفِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ: أَنَّ رَجُلاً خَاصَمَ أَبَاهُ
إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ لَهُ أَبُوهُ فَقَالَ عُمَرُ:
أَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَذَا أَيْضًا، مَعَ أَنَّهَا
لاَ تَصِحُّ، لأََنَّهَا عَمَّنْ لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ
أَعْجَبْ الْعَجَبِ وَمِمَّا يَنْبَغِي لِذِي الْحَيَاءِ أَنْ يَهَابَهُ، وَلِذِي
الدِّينِ أَنْ يُفَرِّقَهُ. فإن قيل: فَأَنْتُمْ الْقَائِلُونَ بِكُلِّ مَا صَحَّ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِمَ اسْتَحْلَلْتُمْ تَرْكَ الثَّابِتِ
عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأََبِيكَ "؟
قلنا: يُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنْ نَتْرُكَ خَبَرًا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام،
وَلَوْ أُجْلِبُ عَلَيْنَا مِنْ بَيْنِ الْبَحْرَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَصِحَّ
نَسْخُهُ وهذا الخبر مَنْسُوخٌ لاَ شَكَّ فِيهِ لأََنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
حَكَمَ بِمِيرَاثِ الأَبَوَيْنِ، وَالزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْبَنِينَ،
وَالْبَنَاتِ مِنْ مَالِ الْوَلَد
(8/106)
إذَا مَاتَ وَأَبَاحَ فِي الْقُرْآنِ لِكُلِّ مَالِك أَمَةٍ وَطْأَهَا بِمِلْكِ يَمِينِهِ، وَحَرَّمَهَا عَلَى مَنْ لاَ يَمْلِكُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ لَهُ وَالِدٌ، وَمَنْ لاَ وَالِدَ لَهُ. فَصَحَّ أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ بِيَقِينِ، لاَ لأََبَوَيْهِ، وَلاَ حَقَّ لَهُمَا فِيهِ إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الأَكْلِ، أَوْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لَمَا وَرِثَتْ زَوْجَةُ الْوَلَدِ، وَلاَ زَوْجُ الْبِنْتِ، وَلاَ أَوْلاَدُهُمَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، لأََنَّهُ مَالٌ لأَِنْسَانِ حَيٍّ، وَلاَ كَانَ يَحِلُّ لِذِي وَالِدٍ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ أَصْلاً، لأََنَّهَا لأََبِيهِ كَانَتْ تَكُونُ. فَصَحَّ بِوُرُودِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ وَبَقَائِهِمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مَنْسُوخَيْنِ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صَحَّ بِالنَّصِّ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ: أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَمَةً، أَوْ عَبْدًا لَهُمَا وَالِدٌ فَإِنَّ مِلْكَهُمَا لِمَالِكِهِمَا، لاَ لأََبِيهِمَا. فَصَحَّ أَيْضًا: أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: إنَّهُ لأََبِيهِ مَنْسُوخٌ، وَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ بِالأَثَرِ وَخَالَفُوا ذَلِكَ الأَثَرَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا رَهْنُ الْمَرْءِ السِّلْعَةَ تَكُونُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَإِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ، عَنِ الأَرْتِهَانِ إِلاَّ بِخُرُوجِهِ، عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِهَلاَكِهِ، أَوْ بِاسْتِحَالَتِهِ، حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ الأَسْمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حِينَ رُهِنَ، أَوْ بِقَضَاءِ الْحَقِّ الَّذِي رُهِنَ عَنْهُ، فَالْتِزَامُ غَيْرِ الرَّاهِنِ لِلرَّاهِنِ هَذَا كُلُّهُ فِي سِلْعَتِهِ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَخْذُ سِلْعَتِهِ مَتَى شَاءَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرُّهُونِ فِيمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ رَهْنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
إذا
استحق الرهن أو بعضه بطلت الصفة كلها
...
1222 – مَسْأَلَةٌ- وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الرَّهْنُ أَوْ بَعْضُهُ بَطَلَتْ
الصَّفْقَةُ كُلُّهَا
لأََنَّهُمَا تَعَاقَدَا صِحَّتَهَا بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَلَمْ يَتَعَاقَدَا
قَطُّ تِلْكَ الْمُدَايَنَةَ إِلاَّ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ الرَّهْنُ
لاَ صِحَّةَ لَهُ، تِلْكَ الْمُدَايَنَةُ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
إذا
رهن جماعة رهنا هو لهم عند واحد أو رهن واحد عند جماعة فأي واحد من الجماعة قضا ما
عليه خرج حقه من ذلك الرهن وبقي نصيب شركائه رهنا بحسبه
...
1223 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا رَهَنَ جَمَاعَةٌ رَهْنًا هُوَ لَهُمْ عِنْدَ
وَاحِدٍ، أَوْ رَهَنَ وَاحِدٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، فَأَيُّ الْجَمَاعَةِ قَضَى مَا
عَلَيْهِ خَرَجَ حَقُّهُ مِنْ ذَلِكَ الرَّهْنِ، عَنِ الأَرْتِهَانِ، وَبَقِيَ
نَصِيبُ شُرَكَائِهِ رَهْنًا بِحَسَبِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى الْوَاحِدُ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ حَقَّهُ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ
سَقَطَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ فِي الأَرْتِهَانِ، وَرَجَعَتْ حِصَّتُهُ مِنْ
الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ، وَبَقِيَتْ حِصَصُ شُرَكَائِهِ رَهْنًا بِحَسَبِهَا،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَصَحَّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
1224
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الرَّهْنِ،
فَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَوَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَذَلِكَ
الْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلرَّاهِنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "
الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
(8/107)
1225
- مَسْأَلَةٌ - وَرَهْنُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ طُبِعَتْ أَوْ لَمْ
تُطْبَعْ.
قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ تُطْبَعَ وَهَذَا قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ
لأََحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَئِنْ كَانَ يُخَافُ انْتِفَاعٌ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ
لَمَخُوفٍ عَلَى كُلِّ مَا يُرْهَنُ، وَلاَ فَرْقَ، وَلاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ:
إنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لاَ تَتَعَيَّنُ، وَإِنَّ امْرَأً لَوْ غَصَبَ
دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِرَدِّهِمَا بِعَيْنِهِمَا،
وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُهُمَا. وَهَذَا
عَجَبٌ جِدًّا مَعَ قَوْلِهِ فِي طَبْعِهِمَا فِي الرَّهْنِ. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الرَّهْنِ " وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(8/108)
كتاب
الحوالة
الدليل على مشروعية الحوالة
...
كتاب الحوالة
1226 - مَسْأَلَةٌ -
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ نا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَُعْرَجِ; وَقَالَ
مُسْلِمٌ: نا ابْنُ رَافِعٍ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ نا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ - ثُمَّ اتَّفَقَ الأَُعْرَجُ، وَهِشَامٌ، وَكِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" مَطْلُ
الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا اُتُّبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ
" . وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ
قَالَ: " إذَا ابْتَعْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ " .
فَوَجَبَ مِنْ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ آخَر حَقٌّ مِنْ
غَيْرِ الْبَيْعِ لَكِنْ مِنْ ضَمَانِ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ بِوَجْهِ مَا، أَوْ
مِنْ سَلَمٍ سَلَّمَ فِيهِ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ صُلْحٍ، أَوْ إجَارَةٍ،
أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ مِنْ كِتَابَةٍ، أَوْ مِنْ ضَمَانٍ، فَأَحَالَهُ بِهِ عَلَى
مَنْ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ، لَكِنْ بِأَحَدِ هَذِهِ
الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَا نُبَالِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ كَانَ
الْحَقَّانِ، أَوْ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ
يُوفِيه حَقَّهُ مِنْ وَقْتِهِ وَلَا يَمْطُلُهُ: فَفَرْضٌ عَلَى الَّذِي أُحِيلَ
أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ، وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْرَأَ الْمُحِيلُ
مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ . وَلَا رُجُوعَ لِلَّذِي أُحِيلَ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ
بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ - انْتَصَفَ، أَوْ لَمْ يَنْتَصِفْ - أَعْسَرَ
الْمُحَالُ عَلَيْهِ إثْرَ الإِحَالَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يُعْسَرْ، لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ،
وَلَا يَجُوزُ لَهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فَإِنْ غَرَّهُ وَأَحَالَهُ عَلَى غَيْرِ
مَلِيءٍ وَالْمُحِيلُ يَدْرِي أَنَّهُ غَيْرُ مَلِيءٍ أَوْ لَا يَدْرِي فَهُوَ
عَمَلٌ فَاسِدٌ وَحَقُّهُ
(8/108)
1227
- مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ
بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا فَهِيَ حَوَالَةٌ
صَحِيحَةٌ.
وقال مالك: لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ فَقَطْ وَهَذِهِ دَعْوَى
بِلاَ بُرْهَانٍ وَاحْتَجَّ لَهُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَنَّهُ قَدْ تُجْرَحُ
الْبَيِّنَةُ فَيَبْطُلُ الْحَقُّ قلنا: وَقَدْ يَرْجِعُ، عَنْ إقْرَارِهِ
بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَيُقِيمُ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَدَّاهُ،
فَيَبْطُلُ الْحَقُّ، وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ مَا لَمْ يَخُصُّهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
(8/110)
تجوز
الحوالة بالدين المؤجل إلى مثل أجله فقط وبالحال على الحال بخلا ف العكس
...
1228 - مَسْأَلَةٌ - وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى
الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إلَى مِثْلِ أَجَلِهِ لاَ إلَى أَبْعَدِ،
وَلاَ إلَى أَقْرَبَ وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْحَالِ عَلَى الْحَالِ، وَلاَ
تَجُوزُ بِحَالِ عَلَى مُؤَجَّلٍ ;، وَلاَ بِمُؤَجَّلِ عَلَى حَالٍ، وَلاَ
بِمُؤَجَّلِ عَلَى مُؤَجَّلٍ إلَى غَيْرِ أَجَلِهِ، لأََنَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ
إيجَابُ تَأْجِيلِ حَالٍ أَوْ إيجَابِ حُلُولِ. مُؤَجَّلٍ. وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
إذْ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ بِالْمُؤَجَّلِ إلَى أَجَلِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ
نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَمْرِهِ عليه السلام: " مَنْ
اُتُّبِعَ عَلَى مَلِيءٍ أَنْ يَتْبَعَهُ ". تَمَّ " كِتَابُ
الْحَوَالَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/110)
كتاب
الكفالة
تعريف الكفالة وأقوال العلماء في مشروعيتها
...
كِتَابُ الْكَفَالَةِ
1229 - مَسْأَلَةٌ . الْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ، وَهِيَ الزَّعَامَةُ، وَهِيَ
الْقَبَالَةُ، وَهِيَ الْحَمَالَةُ،
(8/110)
حكم
العبد والحر والمرأة والرجل والكافر سواء
...
1230 - مَسْأَلَةٌ - وَحُكْمُ الْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، وَالْمَرْأَةِ، وَالرَّجُلِ،
وَالْكَافِرِ، وَالْمُؤْمِنِ: سَوَاءٌ،
لِعُمُومِ النَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/117)
1231
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ ضَمَانُ مَا لاَ يَدْرِي مِقْدَارُهُ
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَنَا أَضْمَنُ عَنْك مَا لِفُلاَنٍ عَلَيْك، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَلأَِخْبَارِهِ عليه السلام
" أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ "
وَالتَّرَاضِي، وَطِيبُ النَّفْسِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى مَعْلُومِ الْقَدْرِ
هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
(8/117)
1232
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ ضَمَانُ مَالٍ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ،
كَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: أَنَا أَضْمَنُ لَك مَا تَسْتَقْرِضُهُ مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ
قَالَ لَهُ: اقْتَرِضْ مِنْ فُلاَنٍ دِينَارًا وَأَنَا أَضْمَنُهُ عَنْك، أَوْ
قَالَ لَهُ: أَقْرِضْ فُلاَنًا دِينَارًا وَأَنَا أَضْمَنُهُ لَك وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ
بَاطِلٌ. وَلأََنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ وَاجِبٌ، وَلاَ يَجُوزُ الْوَاجِبُ فِي
غَيْرِ وَاجِبٍ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ، وَهَذَا مُحَالٌ
وَقَوْلٌ مُتَفَاسِدٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَلْزَمْ حِينَ الْتِزَامِهِ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ فِي ثَانٍ، وَفِي حِينٍ لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ، وَقَدْ لاَ
يُقْرِضُهُ مَا قَالَ لَهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُقْرِضَهُ مَا أَمَرَهُ بِإِقْرَاضِهِ. فَصَحَّ بِكُلِّ هَذَا أَنَّهُ لاَ
يَلْزَمُ ذَلِكَ الْقَوْلُ. فَإِنْ قَالَ لَهُ: أَقْرِضْنِي كَذَا وَكَذَا
وَادْفَعْهُ إلَى فُلاَنٍ، أَوْ زِنْ عَنِّي لِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا، أَوْ
أَنْفِقْ، عَنِّي فِي أَمْرِ كَذَا فَمَا أَنْفَقْت فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ ابْتَعْ
لِي أَمْرَ كَذَا فَهَذَا جَائِزٌ لاَزِمٌ، لأََنَّهَا وَكَالَةٌ وَكَّلَهُ بِمَا
أَمَرَهُ بِهِ.
وَأَجَازَ مَا ذَكَرْنَا بُطْلاَنَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ بَعْضُ الْمُمْتَحَنِينَ بِتَقْلِيدِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ جَيْشَ الأُُمَرَاءِ،
فَإِنْ مَاتَ، فَالأَمِيرُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ مَاتَ،
فَالأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ . قَالَ: فَكَمَا تَجُوزُ
الْمُخَاطَرَةُ فِي الْوِلاَيَاتِ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الضَّمَانِ.
(8/117)
لا
يجوز أن يشترط في ضمان اثنين عن واحد أن يأخذ أيهما شاء بالجميع ولا أن يشترط ذلك
الضامن في نفسه والمضمون في نفسه وفي المضمون عنه
...
1233- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي ضَمَانِ اثْنَيْنِ، عَنْ
وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْجَمِيعِ،
وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الضَّامِنُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْمَضْمُونِ عَنْهُ،
وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَلِيءَ مِنْهُمَا، عَنِ الْمُعْسِرِ،
وَالْحَاضِر، عَنِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَأَجَازَ هَذَا الشَّرْطَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ،
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَهَذَا شَرْطٌ لَمْ
يَأْتِ بِإِبَاحَتِهِ نَصٌّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ ضَمَانٌ لَمْ
يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِمَا، وَلاَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا
هُوَ ضَمَانٌ مُعَلَّقٌ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لاَ يَدْرِي عَلَى
أَيِّهِمَا يَسْتَقِرُّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَرْءِ
بِعَيْنِهِ حِينَ عَقْدِهِ إيَّاهُ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِينِ لَمْ يَعْقِدْهُ، وَلاَ الْتَزَمَهُ وَهَذَا وَاضِحٌ لاَ
خَفَاءَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/118)
1234
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ ضَمِنَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا حَقًّا عَلَى إنْسَانٍ فَهُوَ
بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِمَا ذَكَرْنَا،
فَلَوْ ابْتَاعَ اثْنَانِ بَيْعًا أَوْ تَدَايَنَا دَيْنًا عَلَى أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ عَنِ الآخَرِ، فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا قَدْ انْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى الآخَرِ لَا يَجُوزُ غَيْرُ
هَذَا أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ . وَلِأَنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُ وَاحِدٍ عَلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا يَكُونُ
كُلُّهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَيِّرُ الدِّرْهَمُ
دِرْهَمَيْنِ وَلَا بُدَّ; أَوْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ،
وَلَا لَهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا هَوَسٌ لَا يُعْقَلُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
.
(8/118)
لا
يجوز أن يشترط في بيع ولا سلم ولا مداينة أصلا إعطاء ضامن ولا يجوز أن يكلف أحد في
خصومة إعطاء ضامن به لئلا يهرب
...
1235- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي بَيْعٍ، وَلاَ فِي سَلَمٍ،
وَلاَ فِي مُدَايِنَةٍ أَصْلاً إعْطَاءُ ضَامِنٍ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ
أَحَدٌ فِي خُصُومَةٍ إعْطَاءَ ضَامِنٍ بِهِ لِئَلَّا يَهْرُبَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ مَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ
ضَامِنًا. وَكُلُّ ذَلِكَ جَوْرٌ وَبَاطِلٌ لأََنَّهُ كُلُّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَلأََنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَمْ
يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ عليه السلام
بِإِيجَابِهِ، فَهُوَ شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ
احْتَجَّ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ
رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ، فَذَكَرَ كَلاَمًا، وَفِيهِ فَقَالَ: ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ
فَقَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلاً، فَقَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ
مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ
يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ
دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ
أَتَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ فَذَكَرَ كَلاَمًا، وَفِيهِ: فَرَمَى بِهَا إلَى
الْبَحْرِ " وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرَ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا
الْخَبَرَ مُنْقَطِعًا غَيْرَ مُتَّصِلٍ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. ثُمَّ لَوْ
صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ شَرِيعَةٌ غَيْرُ
شَرِيعَتِنَا، وَلاَ يَلْزَمُنَا غَيْرُ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه
وسلمقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ
أَلْبَتَّةَ لأََحَدٍ أَنْ يَقْذِفَ مَالَهُ فِي الْبَحْرِ لَعَلَّهُ يَبْلُغُ
إلَى غَرِيمِهِ، بَلْ يَقْضُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا بِالسَّفَهِ
وَيَحْجُرُونَ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّبُونَهُ فَكَيْفَ يَسْتَسْهِلُ ذُو حَيَاءٍ أَنْ
يَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
(8/119)
1236
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ ضَمَانُ الْوَجْهِ أَصْلاً، لاَ فِي مَالٍ، وَلاَ
فِي حَدٍّ، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ النَّظَرِ إنَّنَا نَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ تَكَفَّلَ بِالْوَجْهِ فَقَطْ
فَغَابَ الْمَكْفُولُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالضَّامِنِ لِوَجْهِهِ أَتُلْزِمُونَهُ
غَرَامَةَ مَا عَلَى الْمَضْمُونِ فَهَذَا جَوْرٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ
لأََنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ قَطُّ، أَمْ تَتْرُكُونَهُ فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ
الضَّمَانَ بِالْوَجْهِ الَّذِي جَاذَبْتُمْ فِيهِ الْخُصُومَ، وَحَكَمْتُمْ
بِأَنَّهُ لاَ مَعْنَى لَهُ، أَمْ تُكَلِّفُونَهُ طَلَبَهُ فَهَذَا تَكْلِيفُ
الْحَرَجِ، وَمَا لاَ طَاقَةَ لَهُ بِهِ، وَمَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى
إيَّاهُ قَطُّ، وَلاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ يَزُولُ، عَنْ مَوْضِعِكُمْ،
وَلاَ يَطْلُبُهُ، وَلَكِنْ يَشْتَغِلُ بِمَا يَعْنِيه. وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ
أَحَدُ
(8/119)
قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ
ضَمَانُ الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إنْ ضَمِنَ الْوَجْهَ غَرِمَ
الْمَالَ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْوَجْهَ خَاصَّةً، فَكَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ
طَرِيفًا جِدًّا، وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَا أَضْمَنُ
وَجْهَهُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَا أَضْمَنُ وَجْهَهُ خَالِصَةً، وَكِلاَ
الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ غَرَامَةَ مَالٍ، وَلاَ ضَمَانَةً أَصْلاً،
فَكَيْفُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِغَرَامَةِ مَالٍ لَمْ يَضْمَنْهُ قَطُّ
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَا نَعْلَمُ لِمَالِكٍ فِي هَذَا
التَّقْسِيمِ سَلَفًا.
وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ ضَمَانَ الْوَجْهِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُثَيْمَ بْنِ عِرَاكِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ خُثَيْمَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَلَ فِي تُهْمَةٍ ". وَبِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو
الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا عَلَى بَنِي
سَعْدِ هُذَيْمٍ فَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَفِيهِ " أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِمْ
رَجُلاً وَطِئَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَأَخَذَ حَمْزَةُ
بِالرَّجُلِ كَفِيلاً " لأََنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ عُمَرَ قَدْ عَرَفَ
خَبَرَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ رَجْمًا، لَكِنْ جَلَدَهُ مِائَةً،
فَلَمَّا أَتَى عُمَرَ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَصَدَّقَهُمْ عُمَرُ، قَالَ:
وَإِنَّمَا دَرَأَ عَنْهُ الرَّجْمَ لأََنَّهُ عَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أُتِيَ بِقَوْمٍ يُقِرُّونَ
بِنُبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ، وَفِيهِمْ ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَاسْتَتَابَهُ فَأَبَى
فَضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمَّ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي الْبَاقِينَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ
بِقَتْلِهِمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بِاسْتِتَابَتِهِمْ وَأَنْ يُكَفِّلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ،
فَاسْتَتَابَهُمْ، فَكَفَّلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ، وَنَفَاهُمْ إلَى الشَّامِ.
وَذَكَرُوا: أَنَّ شُرَيْحًا كَفَلَ فِي دَمٍ وَحَبَسَهُ فِي السِّجْنِ; وَأَنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَفَلَ فِي حَدٍّ قَالُوا: وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ كَمَا تَرَى.
قال أبو محمد: فِي احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِهَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى
رِقَّةِ دِينِ الْمُحْتَجِّ بِهِ، وَلاَ مَزِيدَ وَعَلَى قِلَّةِ مُبَالاَتِهِ
بِالْفَضِيحَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْخِزْيِ الآجِلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا
لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلاً غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ أَمَّا
الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَاطِلٌ لأََنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُثَيْمَ بْنِ عِرَاكٍ، وَهُوَ وَأَبُوهُ فِي غَايَةِ
الضَّعْفِ، لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا، وَمَعَاذَ اللَّهُ مِنْ أَنْ
يَأْخُذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا بِتُهْمَةٍ، وَهُوَ
الْقَائِلُ: " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ
" وَالتُّهْمَةُ ظَنٌّ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكْفُلَ إنْسَانٌ بِتُهْمَةٍ
لَوَجَبَ الْكَفِيلُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، إذْ لَيْسَ أَحَدٌ
بَعْدَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ يُقْطَعُ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ التُّهْمَةِ وَهَذَا
تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَالْمُحْتَجُّونَ بِهَذَا الْخَبَرِ لاَ يَقُولُونَ
بِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْكَفَالَةِ فِي التُّهْمَةِ، فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
يَحْتَجُّ
(8/120)
بِخَبَرٍ
يُطْلِقُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ
شَيْءٌ، وَهُوَ يُخَالِفُ كُلَّ مَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيَرَى الْحُكْمَ
بِمَا فِيهِ جَوْرًا وَظُلْمًا نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا.
وَأَمَّا خَبَرُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ فَبَاطِلٌ لأََنَّهُ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ الْمُحْتَجُّونَ
بِهِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهِ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَرَى أَنْ
يُجْلَدَ الْجَاهِلُ فِي وَطْءِ أَمَةِ امْرَأَتِهِ مِائَةً، وَلاَ أَنْ يُدْرَأَ
الرَّجْمُ، عَنِ الْجَاهِلِ فَكَيْف يَسْتَحِلُّونَ أَنْ يَحْتَجُّوا، عَنْ عُمَرَ
رضي الله عنه بِعَمَلٍ هُوَ عِنْدَهُمْ جَوْرٌ وَظُلْمٌ، أَمَا فِي هَذَا عَجَبٌ
وَعِبْرَةٌ مَا شَاءَ اللَّه كَانَ. وَأَيْضًا: فَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ
الْكَفَالَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وهذا الخبر إنَّمَا فِيهِ الْكَفَالَةُ
فِي حَدٍّ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، وَشُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنَ مُضَرِّبٍ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَهَذِهِ الأَسَانِيدُ هِيَ أَنْوَارُ الْهُدَى لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِمْ، وَلاَ ذَكَرَ مِنْهُمْ أَحَدٌ
كَفَالَةً إِلاَّ إسْرَائِيلَ وَحْدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ كَانَ ثِقَةً مَا
ضَرَّ رِوَايَتَهُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الثِّقَاتِ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ثُمَّ
لَوْ صَحَّتْ لَكَانَ جَمِيعُ الْمُحْتَجِّينَ بِهَا أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهَا،
لأََنَّهُمْ كُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الْكَفَالَةَ فِي الرِّدَّةِ تَابَ أَوْ
لَمْ يَتُبْ، وَلاَ يَرَوْنَ التَّغْرِيبَ عَلَى الْمُرْتَدِّ إذْ تَابَ، وَلَيْسَ
هَذَا مَكَانًا يُمَكِّنُهُمْ فِيهِ دَعْوَى نَسْخٍ بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ
مَجْمُوعَةٌ إمَّا صَوَابٌ وَحُجَّةٌ، وَأَمَّا خَطَأٌ وَغَيْرُ حَجَّةٍ:
الْكَفَالَةُ بِالْوَجْهِ فِي الْحُدُودِ وَفِي الرِّدَّةِ، وَالتَّغْرِيبُ فِي الرِّدَّةِ
وَجَلْدُ الْجَاهِلِ الْمَحْضِ فِي الزِّنَى مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلاَ يُرْجَمُ،
فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ كَيْف يَسْتَحِلُّ مَنْ لَهُ مُسْكَةُ حَيَاء أَنْ
يَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ. وَكَذَلِكَ
الرِّوَايَةُ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنَّمَا هِيَ
أَنَّهُمَا كَفَلاَ فِي حَدٍّ وَدَمٍ، وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ الْكَفَالَةَ فِيهِمَا
أَصْلاً، وَهِيَ بَعْدُ، عَنْ شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ
كَذَّابٌ. وَلاَ يُعْرَفَ هَذَا أَيْضًا يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوا مِنْ هَذِهِ التَّكَاذِيبِ إجْمَاعًا كَمَا
زَعَمُوا فَقَدْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمُخَالِفَةِ الإِجْمَاعِ،
فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، نَقُولُ فِيهِمْ: كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِيمَنْ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالضَّلاَلِ: {فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأََصْحَابِ السَّعِيرِ} وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
إِلاَّ إنَّ أُولَئِكَ نَادِمُونَ، وَهَؤُلاَءِ مُصِرُّونَ. وَأَمَّا نَحْنُ
فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا لَمَا كَانَ فِيهَا حُجَّةٌ،
لأََنَّهَا إنَّمَا هِيَ، عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَقَطْ،
وَأَيْنَ هَذِهِ مِنْ صَلاَةِ مُعَاذٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ
إمَامَتِهِ قَوْمَهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ
وَخَلْفَهُ ثَلاَثَةٌ
(8/121)
وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا مُسَمَّوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ سِوَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْمَشَاهِدِ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَرَوْا هَذَا إجْمَاعًا، بَلْ رَأَوْهَا صَلاَةً فَاسِدَةً، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هِيَ وَاَللَّهِ صَلاَةٌ مُقَدَّسَةٌ فَاضِلَةٌ، حَقٌّ، وَصَلاَةُ الْمُخَالِفِينَ لَهَا هِيَ الْفَاسِدَةُ حَقًّا. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ إعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ أَرْضَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ تَمْرٍ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ يُقِرُّونَهُمْ بِهَا كَمَا شَاءُوا، وَيُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا؟ فَلَمْ يَرَوْا هَذَا إجْمَاعًا، بَلْ رَأَوْهُ مُعَامَلَةً فَاسِدَةً مَرْدُودَةً، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هُوَ وَاَللَّهِ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَأَقْوَالُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ هِيَ الْفَاسِدَةُ الْمَرْدُودَةُ حَقًّا، وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَّ بِهِ. ثُمَّ اعْلَمُوا الآنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ إبَاحَةُ كَفَالَةِ الْوَجْهِ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ فَهِيَ بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ لاَ تَجُوزُ الْبَتَّةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الْكَفَالَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/122)
كتاب
الشركة
لا تجوز الشراكة بالأبدان أصلا لا في دلا لة ولا في تعليم ولا في خدمة ولا في عمل
يدفان وقعت فهي باطلة
...
كِتَابُ الشَّرِكَةِ
1237 - مَسْأَلَةٌ - لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالأَبْدَانِ أَصْلاً،
لاَ فِي دَلاَلَةٍ، وَلاَ فِي تَعْلِيمٍ، وَلاَ فِي خِدْمَةٍ، وَلاَ فِي عَمَلِ
يَدٍ، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ، فَإِنْ وَقَعَتْ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لاَ
تَلْزَمُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْهُمَا مَا كَسَبَ، فَإِنْ
اقْتَسَمَاهُ وَجَبَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِأَخْذِهِ، وَلاَ بُدَّ لأََنَّهُ شَرْطٌ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ} . وَهَذَا كُلُّهُ عُمُومٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لأََنَّهُ
لَمْ يَأْتِ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَمَنْ
ادَّعَى فِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ
يَعْلَمْ. وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ قلنا: مَا نَعْلَمُ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَوْ أَرَادَ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمَا أَهْمَلَهُ لِيُضِلَّنَا
وَلَبَيَّنَهُ لَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورُ بِبَيَانِ مَا
أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ
عليه السلام بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ قَاطِعٍ
بَاتٍّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ عُمُومَ مَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُهُ.
وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَقْضِيَ بِمَالِ
مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ،
وَإِلَّا فَهُوَ جَوْرٌ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذِهِ لَيْسَتْ تِجَارَةٌ أَصْلاً فَهِيَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ.
(8/122)
إن
كان العمل لا ينقسم واستأجرها صاحبه بأجرة واحدة فالأجرة بينهما على قدر عمل كل
واحد منهما
...
1238 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لاَ يَنْقَسِمُ وَاسْتَأْجَرَهُمَا
صَاحِبُهُ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَمَلِ
كُلِّ وَاحِدٍ
كَكَمْدِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ وَاحِدٍ، أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ
وَاحِدٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا وَكَذَلِكَ إنْ نَصَبَا حِبَالَةً مَعًا
فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَرْسَلاَ جَارِحَيْنِ فَأَخَذَا صَيْدًا وَاحِدًا
فَهُوَ بَيْنَهُمَا; وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَا صَادَ جَارِحُهُ. وقال أبو
حنيفة: شَرِكَةُ الأَبَدَانِ جَائِزَةٌ فِي الصِّنَاعَاتِ اتَّفَقَتْ
صِنَاعَتُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَتْ عَمَلاً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي
مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَرِضَ فَمَا أَصَابَ الصَّحِيحُ
الْحَاضِرُ فَبَيْنَهُمَا، وَلاَ تَجُوزُ فِي التَّصَيُّدِ، وَلاَ فِي
الأَحْتِطَابِ.
قال أبو محمد: هَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ
شَرِكَةَ الأَبَدَانِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ أَيْضًا لأََنَّ الْوَكَالَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ
فِي النِّكَاحِ فَتَجِبُ أَنْ تَجُوزَ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ فِي النِّكَاحِ.
وقال مالك شَرِكَةُ الأَبَدَانِ جَائِزَةٌ فِي الأَحْتِطَابِ وَطَلَبِ
الْعَنْبَرِ، إذَا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ إذَا
اشْتَرَكَا فِي صَيْدِ الْكِلاَبِ وَالْبُزَاةِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بَازٍ وَكَلْبٌ، يَتَعَاوَنُ الْبَازَانِ أَوْ الْكَلْبَانِ عَلَى
صَيْدٍ وَاحِدٍ وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُ عَلَى التَّعْلِيمِ فِي مَكَان
وَاحِدٍ; فَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسَيْنِ فَلاَ ضَيْرَ فِيهِ. وَأَجَازَ شَرِكَةَ
الأَبَدَانِ فِي الصِّنَاعَاتِ إذَا كَانَا فِي دُكَّانٍ وَاحِدٍ، كَالْقَصَّارِ
وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا
فَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إنْ غَابَ أَحَدُهُمَا أَوْ عَمِلَ
أَحَدُهُمَا يَوْمًا وَالآخَرُ يَوْمَيْنِ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتَرَاك
الْحَمَّالِينَ أَوْ النَّقَّالِينَ عَلَى الدَّوَابِّ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ
الأَشْتِرَاكُ فِي صِنَاعَتَيْنِ أَصْلاً كَحَدَّادٍ وَقَصَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا
وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي
ثَوْرٍ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ شَرِكَةَ الأَبَدَانِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: اشْتَرَكْت أَنَا وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ
أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ، وَمَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ
عَلَيْهِ أَمْرُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ؟ وَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلاَمَةَ مِنْ
التَّمْوِيهِ فِي دِينِهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ. أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا
خَبَرٌ مُنْقَطِعٌ لأََنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لاَ يَذْكُرُ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا:
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ
قَالَ: قُلْت لأََبِي عُبَيْدَةَ: أَتَذْكُرُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا قَالَ:
لاَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ
(8/123)
لَكَانَ
أَعْظَمَ حَجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُمْ أَوَّلُ قَائِلٍ مَعَنَا وَمَعَ سَائِرِ
الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لاَ تَجُوزُ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْفَرِدُ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِمَا يُصِيبُ دُونَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ
حَاشَا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّهُ إنْ
فَعَلَ فَهُوَ غُلُولٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ
شَرِكَةٌ لَمْ تَتِمَّ، وَلاَ حَصَلَ لِسَعْدٍ، وَلاَ لِعَمَّارٍ، وَلاَ لأَبْنِ
مَسْعُودٍ مِنْ ذَيْنِكَ الأَسِيرَيْنِ إِلاَّ مَا حَصَلَ لِطَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ، وَلِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الَّذِي
كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {قُلْ الأَنْفَالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فَكَيْف
يَسْتَحِلُّ مَنْ يَرَى الْعَارَ عَارًا أَنْ يَحْتَجَّ بِشَرِكَةٍ أَبْطَلَهَا
اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَمْضِهَا؟.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ -يَعْنِي الْحَنَفِيِّينَ لاَ يُجِيزُونَ الشَّرِكَةَ فِي
الأَصْطِيَادِ، وَلاَ يُجِيزُهَا الْمَالِكِيُّونَ فِي الْعَمَلِ فِي مَكَانَيْنِ،
فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ لاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ، فَمَنْ
أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِ بِرِوَايَةٍ لاَ تَجُوزُ
عِنْدَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى تَوْفِيقِهِ لَنَا.
(8/124)
لا
تجوز الشراكة إلا في أعيان الأموال
...
1239 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إِلاَّ فِي أَعْيَانِ الأَمْوَالِ،
فَتَجُوزُ فِي التِّجَارَةِ بِأَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا مَالاً وَالآخَرُ مَالاً
مِثْلُهُ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَيَخْلِطَا
الْمَالَيْنِ، وَلاَ بُدَّ، حَتَّى لاَ يُمَيِّزَ أَحَدُهُمَا مَالَهُ مِنْ
الآخَرِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا ابْتَاعَا بِذَلِكَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ
حِصَصِهِمَا فِيهِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْخَسَارَةُ عَلَيْهِمَا
كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا
ابْتَاعَهُ هُوَ أَوْ شَرِيكُهُ، بِهِ رِبْحُهُ كُلُّهُ لَهُ وَحْدُهُ،
وَخَسَارَتُهُ كُلُّهَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ فَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ
الْجُمْلَةُ مُشَاعَةً بَيْنَهُمَا، فَمَا ابْتَاعَا بِهَا فَمُشَاعٌ بَيْنَهُمَا،
وَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَثَمَنُهُ أَصْلُهُ، وَرِبْحُهُ مُشَاعٌ بَيْنَهُمَا
وَالْخَسَارَةُ مُشَاعَةٌ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ
فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ مَا اُبْتِيعَ بِمَالِ عَمْرٍو، أَوْ مَا
رَبِحَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ مَا خَسِرَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا
آنِفًا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا}.
(8/124)
إن
ابتاع اثنان فصاعدا سلعة بينهما على السواء أو ابتاع أحدهما منها أكثر من النصف
والآخر كذلك فهو بيع جائز والثمن على قدر حصتهما
...
1240 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ ابْتَاعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا سِلْعَةً بَيْنَهُمَا
عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ ابْتَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ،
وَالآخَرُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ، وَالثَّمَنُ
عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا،
فَمَا رَبِحَا أَوْ خَسِرَا فَبَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا، لأََنَّ
الثَّمَنَ بَدَلُ السِّلْعَةِ. وَهَكَذَا لَوْ وَرِثَا سِلْعَةً، أَوْ وُهِبَتْ
لَهُمَا، أَوْ مَلَكَاهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَاهَا بِهِ فَلَوْ تَعَاقَدَا أَنْ يَبْتَاعَا
هَكَذَا لَمْ يَلْزَمْ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَهُوَ بَاطِلٌ
(8/124)
لا
يحل للشريكين فصاعدا أن يشترطا أن يكون لأحدهما في الربح زيادة على مقدار ماله
فيما يبيع
...
1241 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لِلشَّرِيكَيْنِ فَصَاعِدًا أَنْ يَشْتَرِطَا
أَنْ يَكُونَ لأََحَدِهِمَا
(8/124)
إن
أخرج أحدهما ذهبا والآخر فضة أو عرضا أو ما أشبه ذلك لم يجز أصلا إلا بأن يبيع
أحدهما عرضه أو كلاهما حتى يصير الثمن ذهبا أو فضة ثم يخلطا
...
1242 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ذَهَبًا وَالآخَرُ فِضَّةً أَوْ
عَرَضًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَصْلاً، إِلاَّ بِأَنْ يَبِيعَ
أَحَدُهُمَا عَرَضَهُ أَوْ كِلاَهُمَا حَتَّى يَصِيرَ الثَّمَنُ ذَهَبًا فَقَطْ،
أَوْ فِضَّةً فَقَطْ،
ثُمَّ يَخْلِطَا الثَّمَنَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلاَ بُدَّ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
أَوْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ مِمَّا أَخْرَجَ بِمِقْدَارِ مَا يُرِيدُ
أَنْ يُشَارِكَهُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا مَخْلُوطًا لاَ
يَتَمَيَّزُ، وَلاَ بُدَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/125)
1243
- مَسْأَلَةٌ - وَمُشَارَكَةُ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ، وَلاَ يَحِلُّ
لِلذِّمِّيِّ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ عَامَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ وَهُمْ يَهُودُ بِنِصْفِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَالزَّرْعِ، وَالْغَرْسِ. وَقَدْ ابْتَاعَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ
وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ فَمَاتَ عليه السلام وَهِيَ رَهْنٌ عِنْدَهُ وَذَكَرْنَاهُ
بِإِسْنَادِهِ فِي "كِتَابِ الرَّهْنِ" مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَهَذِهِ
تِجَارَةُ الْيَهُودِ جَائِزَةٌ وَمُعَامَلَتُهُمْ جَائِزَةٌ وَمَنْ خَالَفَ هَذَا
فَلاَ بُرْهَانَ لَهُ. وَرُوِّينَا، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: لاَ بَأْسَ
بِمُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عِنْدَ
الْمُسْلِمِ وَتَوَلَّى الْعَمَلَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَرِهَ ذَلِكَ
أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ:
مُعَامَلَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ أَعْطَوْهُ دَرَاهِمَ الْخَمْرِ
وَالرِّبَا ثُمَّ يَكْرَهُونَ مُشَارَكَتَهُ حَيْثُ لاَ يُوقِنُ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ
بِمَا لاَ يَحِلُّ، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَدْرِي
أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرَامَ، كَمَا أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ لاَ
يُبَالِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَ الْمَالَ إِلاَّ أَنَّ مُعَامَلَةَ الْجَمِيعِ
جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُوقِنْ حَرَامًا، فَإِذَا أَيْقَنَاهُ حَرُمَ أَخْذُهُ مِنْ
كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ
(8/125)
إن
أخذ أحد الشريكين شيئا من المال حسبه على نفسه ونقص به من رأس ماله ولا يحل لأحد
منهما أن ينفق إلا من حصته
...
1244 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ
حَسَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَنَقَصَ بِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ
الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ
لَهُ.
وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُنْفِقَ إِلاَّ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ
الرِّبْحِ، وَلاَ مَزِيدَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَمْوَالَ مُحَرَّمَةٌ
عَلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا فَإِنْ تَكَارَمَا فِي ذَلِكَ جَازَ مَا نَفِدَ بِطِيبِ
نَفْسٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ إنْ لَمْ تَطِبْ بِهِ النَّفْسُ.
(8/126)
1245
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يُعَاوِنُهُ فِي خِيَاطَةٍ أَوْ
نَسْجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِنِصْفِ مَا يَرِدُ أَوْ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْهُ:
فَهُوَ بَاطِلٌ وَعَقْدٌ فَاسِدٌ،
وَلَهُ بِقَدْرِ مَا يَعْمَلُ، وَلاَ بُدَّ، فَإِنْ تَكَارَمَا بِذَلِكَ، عَنْ
غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَا دَامَ بِطِيبِ نُفُوسِهِمَا بِذَلِكَ فَقَطْ.
لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ ".
(8/126)
من
كانت بينهما الدابة مشتركة لم يجز أن يشترطا إستعمالها بالأيام
...
1246 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا الدَّابَّةُ مُشْتَرَكَةً لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَتَشَارَطَا اسْتِعْمَالَهَا بِالأَيَّامِ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ،
وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهَا الآخَرُ،
وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا إِلاَّ بِطِيبِ
أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ تَكَارَمَا فِي ذَلِكَ جَازَ مَا دَامَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ
بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُطَيِّبَ نَفْسَهُ مِنْ
مَالِهِ بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ
فِي الْعَبْدِ، وَالرَّحَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا
عَلَى الآخَرِ نِصْفُ أُجْرَةِ مَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ
الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ أُجْرَتِهَا، فَإِنْ آجَرَهَا
فَحَسَنٌ، وَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي تِلْكَ
السِّلْعَةِ.
(8/126)
من
كانت بينهما سلع مشتركة ابتاعها للبيع فأراد أحدهما البيع أجبر شريكه على البيع
...
1247- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا سِلَعٌ مُشْتَرَكَةٌ ابْتَاعَاهَا
لِلْبَيْعِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ أَجْبَرَ شَرِيكَهُ عَلَى الْبَيْعِ،
لأََنَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا الشَّرِكَةَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْبَيْعِ
لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ لاَ يُرِيدُهُ، لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ
نَصٌّ. وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا دَابَّةٌ، أَوْ عَبْدٌ، أَوْ حَيَوَانٌ،
أُجْبِرَا عَلَى النَّفَقَةِ، وَعَلَى مَا فِيهِ صَلاَحُ كُلِّ ذَلِكَ. وَمَنْ
كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ لَمْ يُجْبَرْ مَنْ لاَ يُرِيدُ عِمَارَتَهَا عَلَى
عِمَارَتِهَا، لَكِنْ يَقْتَسِمَانِهَا وَيَعْمُرُ مَنْ شَاءَ حِصَّتَهُ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا
أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمَنْ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا دَارٌ، أَوْ رَحَى، أَوْ مَا لاَ يَنْقَسِمُ، أُجْبِرَا عَلَى
الإِصْلاَحِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ،
وَلِكُلِّ أَوَامِرِهِ حَقُّهَا مِنْ الطَّاعَةِ لاَ يَحِلُّ ضَرْبُ بَعْضِهَا
بِبَعْضٍ. وَبَيْعُ الشَّرِيكِ فِيمَا اشْتَرَكَا فِيهِ لِلْبَيْعِ جَائِزٌ عَلَى
شَرِيكِهِ وَابْتِيَاعُهُ كَذَلِكَ، لأََنَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِلآخَرِ، فَإِنْ تَعَدَّى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَبَاعَ
بِوَضِيعَةٍ، أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ اشْتَرَى عَيْبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ
ذَلِكَ، لأََنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا أَبَاحَهُ لَهُ. وَلاَ يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا عَلَى
الآخَرِ فِي غَيْرِ مَا وَكَّلَهُ بِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ ابْتِيَاعٍ لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا أَرَادَ الأَنْفِصَالَ فَلَهُ ذَلِكَ. وَلاَ تَحِلُّ
الشَّرِكَةُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ "
كِتَابُ الشَّرِكَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
(8/127)
كتاب
القسمة
الدليل على أن القسمة جائزة في حق كل مشترك إذا امكن و على حسب ما يمكن
...
كِتَابُ الْقِسْمَةِ
1248 - مَسْأَلَةٌ - الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ إذَا
أَمْكَنَ، وَعَلَى حَسْبِ مَا يُمْكِنُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ
فَيَعْدِلُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ
تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ أَمْلِكُ " [يَعْنِي الْقَلْبَ]. فَهَذَانِ
نَصَّانِ عُمُومٌ لِكُلِّ قِسْمَةٍ، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَخُصَّهُمَا فِي
مِيرَاثٍ أَوْ بَيْنَ النِّسَاءِ بِرَأْيِهِ، وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي
وُجُوبِ الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ
(8/128)
يجبر
الممتنع منهما عليها ويوكل الصغير والمجنون والنائب من يعزل له حقه
...
1249 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَيُوَكِّلُ
الصَّغِيرُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْغَائِبُ مَنْ يَعْزِلُ لَهُ حَقَّهُ،
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْر رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطَى
كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذُ ذَلِكَ وَيَقْضِيَ بِهِ لِكُلِّ
مَنْ طَلَبَ حَقَّهُ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا فَلِقَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَهَذَا مِنْ الْقِسْطِ.
(8/128)
1250-
مَسْأَلَةٌ - وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ آخِذٍ حَظَّهُ مِنْ الْمَقْسُومِ أَنْ يُعْطِيَ
مِنْهُ مِنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قُرْبَى أَوْ مِسْكَيْنِ مَا طَابَتْ
بِهِ نَفْسُهُ،
وَيُعْطِيَهُ الْوَلِيُّ، عَنِ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْغَائِبِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . وَأَمْرُ اللَّهِ
تَعَالَى فَرْضٌ حَتَّى يَأْتِيَ نَصٌّ ثَابِتٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْضًا وَإِلَّا
فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لاَ يَلْزَمُ إنْفَاذُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِخُصُوصٍ
ادَّعَاهُ، أَوْ نَسْخٍ زَعَمَهُ، أَوْ لِنَدْبٍ أَطْلَقَهُ بِظَنِّهِ قَوْلٌ
سَاقِطٌ مَرْدُودٌ فَاسِدٌ فَاحِشٌ، إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمْعًا وَطَاعَةً، لأََنَّهُ الْمُبَلِّغُ،
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامَهُ، وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ فَلاَ. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ
عُبَيْدٍ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ
يُونُسُ، وَمَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ،
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، قَالاَ جَمِيعًا فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ
بِمَنْسُوخَةٍ. وبه إلى هُشَيْمٍ، عَنْ عَوْفٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي جَمِيلَةَ-
(8/128)
لا
يجوز أن يجبر أحد من الشركاء على بيع حصته مع شريكه أو شركائه ولا على تقاسمهما
الشيء الذي هما فيه شريكان أصلا
...
1251 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَكَاءِ عَلَى
بَيْعِ حِصَّتِهِ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ شُرَكَائِهِ، وَلاَ عَلَى تَقَاوُمِهِمَا
الشَّيْءَ الَّذِي هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ أَصْلاً
كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الْحَيَوَانِ، لَكِنْ
يُجْبَرَانِ عَلَى الْقِسْمَةِ إنْ دَعَا إلَيْهَا أَحَدُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمْ،
أَوْ تُقْسَمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لاَ تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ
وَمَنْ دَعَا إلَى الْبَيْعِ قِيلَ لَهُ: إنْ شِئْت فَبِعْ حِصَّتَك وَإِنْ شِئْت
فَأَمْسِكْ، وَكَذَلِكَ شَرِيكُك إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ
لِلْمَالِ بِلاَ شَيْءٍ مِنْ النَّفْعِ فَيُبَاعُ حِينَئِذٍ لِوَاحِدٍ كَانَ أَوْ
لِشَرِيكَيْنِ فَصَاعِدًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَكَا لِتِجَارَةٍ فَيُجْبَرُ
عَلَى الْبَيْعِ هَاهُنَا خَاصَّةً مَنْ أَبَاهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ
أَنْ يُخْرِجَ مَالَ أَحَدٍ، عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ تَرَاضٍ مِنْهُ،
وَالإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ إخْرَاجٌ لِلْمَالِ عَنْ صَاحِبِهِ إلَى مَنْ هُوَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ شَكَّ
فِيهِ. فإن قيل: إنَّ تَرْكَ أَحَدِهِمَا الْبَيْعَ ضَرَرًا بِانْتِقَاصِ قِيمَةِ
حِصَّةِ الآخَرِ قلنا: لاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ الضَّرَرُ كُلُّهُ هُوَ أَنْ
يُجْبَرَ الْمَرْءُ عَلَى إخْرَاجِ مِلْكِهِ، عَنْ يَدِهِ، فَهَذَا الضَّرَرُ هُوَ
الْمُحَرَّمُ، لاَ ضَرَرُ إنْسَانٍ بِأَنْ لاَ يُنَفِّذَ لَهُ هَوَاهُ فِي مَالِ
شَرِيكِهِ. وَقَدْ وَافَقَنَا الْمُخَالِفُونَ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ
قِطْعَةُ أَرْضٍ أَوْ دَارٌ صَغِيرَةٌ إلَى جَنْبِ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِغَيْرِهِ
لَوْ بِيعَتَا مَعًا لَتَضَاعَفَتْ الْقِيمَةُ لَهُمَا، وَإِنْ بِيعَتَا
مُتَفَرِّقَتَيْنِ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ
إنْ أَبَاهُ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُشْتَرَكِ مِنْ
الأَمْوَالِ دُونَ الْمَقْسُومِ مِنْهَا وَقَوْلُهُمْ هَاهُنَا عَارٍ مِنْ
الأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَظُلْمٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَأَمَّا مَا اُبْتِيعَ
لِلتِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ فَهُوَ شَرْطٌ قَدْ أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ،
فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُهُ إِلاَّ بِرِضًا مِنْهُمَا جَمِيعًا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الأَقْوَالِ: أَنَّ الَّذِينَ يُجْبِرُونَ الشَّرِيكَ عَلَى
الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ عَلَى تَقَاوُمِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لأََحَدِهِمَا
كُلَّهُ لاَ يَرَوْنَ الشُّفْعَةَ فِي ذَلِكَ فِيمَا عَدَا الأَرْضِ وَالْبِنَاءِ،
فَأَوْجَبُوا الْبَيْعَ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم وَأَبْطَلُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم وَهُمَا بَيْعٌ وَبَيْعُ.
(8/130)
يقسم
كل شيء إذا لم يكن بينهما مال مشترك سواه حاشا الرأس الواحد من الحيوان والمصحف
فلا يقسم أصلا بل يؤجرونه ويقتسمون أجرته
...
1252 - مَسْأَلَةٌ - وَيُقْسَمُ كُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٌ أَرْضًا كَانَ، أَوْ دَارًا
صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً، أَوْ حَمَّامًا، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ سَيْفًا، أَوْ
لُؤْلُؤَةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ،
إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَالٌ مُشْتَرَكٌ سِوَاهُ حَاشَا الرَّأْسَ
الْوَاحِدَ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْمُصْحَفَ فَلاَ يُقْسَمُ أَصْلاً، لَكِنْ
يَكُونُ بَيْنَهُمْ يُؤَاجِرُونَهُ
(8/130)
إن
كان المال المقسوم أشياء متفرقة فدعا أحد المقتسمين إلى إخراج نصيبه كله بالقرعة
في شخص من أشخاص المال أو في نوع منه قضي له بذلك أحب شركاؤه أم كرهوا
...
1253 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمَقْسُومُ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةً
فَدَعَا أَحَدُ الْمُقْتَسِمِينَ إلَى إخْرَاجِ نَصِيبِهِ كُلِّهِ بِالْقُرْعَةِ
فِي شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْمَالِ، أَوْ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ: قُضِيَ
لَهُ بِذَلِكَ، أَحَبَّ شُرَكَاؤُهُ أَمْ كَرِهُوا .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ كُلُّ نَوْعٍ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَلاَ كُلُّ دَارٍ
بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَلاَ كُلُّ ضَيْعَةٍ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، إِلاَّ بِاتِّفَاقِ
جَمِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَيُقْسَمُ الرَّقِيقُ، وَالْحَيَوَانُ،
وَالْمَصَاحِفُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ عَبْدٌ وَبَعْضُ
آخَرَ بَقِيَ شَرِيكًا فِي الَّذِي وَقَعَ حَظُّهُ فِيهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ قَوْلِنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ
تَرْكِ قَوْلِهِ هَذَا وَالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِنَا، أَوْ إبْطَالِ الْقِسْمَةِ
جُمْلَةً، وَتَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا
الْفَرْقُ بَيْنَك فِي قَوْلِك: تُقْسَمُ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ
ضَيْعَةٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ غَنَمٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ بَقَرٍ بَيْنَهُمْ،
وَكُلُّ رَقِيقٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ ثِيَابٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آخَرَ قَالَ:
بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ بَيْتٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ رُكْنٍ مِنْ كُلِّ فَدَّانٍ
بَيْنَهُمْ، لأََنَّهُ إذَا جَعَلْتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةً فِي كُلِّ
شَيْءٍ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ لَزِمَك هَذَا الَّذِي أَلْزَمْنَاك، وَلاَ بُدَّ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . قلنا: نَعَمْ هَذَا الْحَقُّ، وَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّتُنَا
عَلَيْك لأََنَّك إذَا حَمَلْتهَا عَلَى مَا قُلْت لَزِمَك مَا قلنا، وَلاَ بُدَّ،
وَالآيَةُ مُوجِبَةٌ لِقَوْلِنَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ
مِنَّا مَا قَدْ جَعَلَهُ فِي وُسْعِنَا، فَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى مِمَّا
قَلَّ مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ كَثُرَ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدْ تَعَالَى
قَطُّ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَقْسُومِ، إذْ لَوْ أَرَادَ تَعَالَى ذَلِكَ
لَكَانَ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَنَا مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ مِنْ قِسْمَةِ كُلِّ
جُزْءٍ مِنْهُ وَلَوْ عَلَى قَدْرِ الصُّؤَابَةِ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخَبَرَ الثَّابِتَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ بِبَعِير
"ٍ فِي حَدِيثٍ فَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا لأََنَّهُ عليه السلام أَعْطَى
بَعْضَهُمْ غَنَمًا، وَبَعْضَهُمْ إبِلاً، فَهَذَا عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ.
(8/132)
يقسم
كل ما لا يحل بيعه إذا حل ملكه كالكلاب والسنابير
...
1254 - مَسْأَلَةٌ - وَيُقْسَمُ كُلُّ مَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ إذَا حَلَّ
مِلْكُهُ: كَالْكِلاَبِ، وَالسَّنَانِيرِ،
وَالثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَالْمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ
ذَلِكَ بِالْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، لأََنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ حَقِّ
كُلِّ وَاحِدٍ وَتَخْلِيصُهُ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا
جَازَ أَنْ تَأْخُذَ الْبِنْتُ دِينَارًا وَالأَبْنُ دِينَارَيْنِ. وَكَذَلِكَ:
تَقْسِيمُ الضِّيَاعِ الْمُتَبَاعِدَةِ فِي الْبِلاَدِ الْمُتَفَرِّقَةِ،
فَيَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى بَلْدَةٍ، وَالآخَرُ إلَى أُخْرَى لِمَا ذَكَرْنَا
وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ هَذَا فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ يَئُولُ إلَى
التَّنَاقُضِ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِنَا، وَتَرْكِ قَوْلِهِمْ، إذْ لاَ
بُدَّ مِنْ تَرْكِ بَعْضٍ وَأَخْذِ بَعْضٍ وقال أبو حنيفة: لاَ يُقْسَمُ
الْحَيَوَانُ إِلاَّ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/133)
1255
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقِسْمَةِ لأََحَدِ
الْمُقْتَسِمِينَ عُلْوُ بِنَاءٍ وَالآخَرِ سُفْلُهُ،
وَهَذَا مَفْسُوخٌ أَبَدًا إنْ وَقَعَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْهَوَاءَ دُونَ الأَرْضِ لاَ يُتَمَلَّكُ، وَلاَ
يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَصْلاً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ لأََحَدٍ
إلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ
مُتَمَوِّجٌ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَلاَ مَضْبُوطٍ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعُلْوُ
فَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدُرَاتِ صَاحِبِهِ
وَسَطْحِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَهْدِمَ صَاحِبُ السُّفْلِ جُدُرَاتِهِ، وَلاَ
سَطْحَهُ، وَلاَ أَنْ يُعْلِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ أَنْ يُقَصِّرَهُ:
وَلاَ أَنْ يُقَبِّبَ سَطْحَهُ، وَلاَ أَنْ يُرَقِّقَ جُدُرَاتِهِ، وَلاَ أَنْ
يَفْتَحَ فِيهَا أَقْوَاسًا. وَكُلُّ هَذِهِ شُرُوطٌ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ
اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ". وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ
مَنْ لَهُ حَقٌّ فَهُوَ مُمَلَّكٌ إيَّاهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْف شَاءَ، مَا
لَمْ يَمْنَعْهُ قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بِيَقِينٍ
لاَ إشْكَالَ فِيهِ وَصَحَّ أَنَّ ابْتِيَاعَ الْعُلُوِّ عَلَى إقْرَارِهِ حَيْثُ
هُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ أَنْقَاضِهِ فَقَطْ،
فَإِذَا ابْتَاعَهَا فَلَيْسَ لَهُ إمْسَاكُهَا عَلَى جَدَرَاتِ غَيْرِهِ، إِلاَّ
مَا دَامَ تَطِيبُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِإِزَالَتِهَا،
عَنْ حَقِّهِ مَتَى شَاءَ. وَقَدْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اقْتِسَامِ سُفْلٍ
لِوَاحِدٍ وَعُلُوٍّ لأَخَر.َ
(8/133)
1256
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ إنْفَاذُ شَيْءٍ مِنْ
الْحُكْمِ فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ ،
وَلاَ فِي كُلِّهِ سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَوْ كَثُرَ لاَ بَيْعٌ، وَلاَ
صَدَقَةٌ، وَلاَ هِبَةٌ، وَلاَ إصْدَاقٌ، وَلاَ إقْرَارٌ فِيهِ لأََحَدٍ، وَلاَ
تَحْبِيسٌ، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَنْ بَاعَ رُبُعَ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ
ثُلُثَ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ شَرِيكُهُ
حَاضِرًا، أَوْ مُقَاسَمَتَهُ لَهُ مُمْكِنَةٌ، لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا
كَسْبٌ عَلَى غَيْرِهِ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيَقَعُ لَهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ
ذَلِكَ الْجُزْءُ أَمْ لاَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وَلِقَوْلِ
(8/133)
1257
- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فُسِخَ أَبَدًا
سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِصَّتِهِ أَوْ
لَمْ يَقَعْ: لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَصْلاً لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ " وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ عَمَلٌ وَقَعَ بِخِلاَفِ
أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ عليه السلام فَهُوَ رَدٌّ. وَأَيْضًا:
فَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ حِينَ عَقْدِهِ بَلْ وَجَبَ إبْطَالُهُ، فَمِنْ
الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَجُوزَ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَمْ يَعْقِدْ فِيهِ،
وَكُلُّ قَوْلٍ لَمْ يُصَدَّقْ حِينَ النُّطْقِ بِهِ فَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَدَّقَ حِينَ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي مَكَان مِنْ الأَمْكِنَةِ: قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ،
فَيُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَرْضٌ، أَوْ حَيَوَانٌ، أَوْ عَرَضٌ،
فَبَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ
أَصْدَقَهُ، فَإِنْ كَانَ شَرِيكُهُ غَائِبًا، وَلَمْ يُجِبْ إلَى الْقِسْمَةِ،
أَوْ حَاضِرًا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى الْقِسْمَةِ، أَوْ لَمْ
يُجِبْهُ إلَى الْقِسْمَةِ: فَلَهُ تَعْجِيلُ أَخْذِ حَقِّهِ، وَالْقِسْمَةِ
وَالْعَدْلِ فِيهَا، لأََنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ قِسْمَةِ الْحَاكِمِ إذَا
عَدَلَ، وَبَيْنَ قِسْمَةِ الشَّرِيكِ إذَا عَدَلَ، إذْ لَمْ يُوجِبْ الْفَرْقُ
بَيْنَ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَمَنْعِهِ مِنْ أَخْذِ
حَقِّهِ جَوْرٌ، وَكُلُّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ فَيُنْظَرُ حِينَئِذٍ فَإِنْ
كَانَ أَنْفَذَ مَا ذَكَرْنَا فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ بِالْعَدْلِ
غَيْرَ مُتَزَيَّدٍ، وَلاَ مُحَابٍ لِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً: فَهِيَ قِسْمَةُ
حَقٍّ، وَكُلُّ مَا أَنْفَذَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ نَافِذٌ: أَحَبَّ شَرِيكُهُ أَمْ
كَرِهَ. فَإِنْ كَانَ حَابَى نَفْسَهُ، فُسِخَ كُلُّ ذَلِكَ، لأََنَّهَا صَفْقَةٌ
جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلاَلاً فَلَمْ تَنْعَقِدْ صَحِيحَةً. فَلَوْ غَرَسَ وَبَنَى
وَعَمَّرَ: نَفَذَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ وَقَضَى بِمَا زَادَ
لِلَّذِي يُشْرِكُهُ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَغَرْسِهِ،
إِلاَّ قَلْعَ عَيْنِ مَالٍ، كَالْغَصْبِ، وَلاَ فَرْقَ. فَلَوْ كَانَ طَعَامًا
فَأَكَلَ مِنْهُ: ضَمِنَ مَا زَادَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ. فَإِنْ كَانَ
مَمْلُوكًا فَأَعْتَقَ: ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الْقِسْمَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
(8/134)
كتاب
الاستحقاق والغصب والجنايات على الأموال
لا يحل لأحد مال مسلم ولا مال ذمي إلا بما أباح الله عز وجل على لسان رسوله في
القرآن أو السنة
...
كِتَابُ الأَسْتِحْقَاقِ وَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الأَمْوَالِ
1258 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مَالُ مُسْلِمٍ، وَلاَ مَالُ ذِمِّيٍّ،
إِلاَّ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم فِي الْقُرْآنِ، أَوْ السُّنَّةِ
نَقْلُ مَالِهِ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِالْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْهِبَاتِ
الْجَائِزَةِ، وَالتِّجَارَةِ الْجَائِزَةِ، أَوْ الْقَضَاءِ الْوَاجِبِ
بِالدِّيَاتِ، وَالتَّقَاصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ. فَمَنْ
أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ صَارَ إلَيْهِ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا،
فَإِنْ كَانَ عَامِدًا عَالَمًا بَالِغًا مُمَيِّزًا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
(8/134)
من
غصب شيئا أو أخذه بغير حق لكن ببيع محرم أو هبة محرمة أو بعقد فاسد أو هو يظن أنه
له ففرض عليه أن يرده
...
1259 - مَسْأَلَةٌ - فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا، أَوْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ
بِبَيْعٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ هِبَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَهُوَ
يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ: فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ
إنْ كَانَ حَاضِرًا، أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ إنْ تَلِفَ بَعْضُهُ أَقَلُّهُ أَوْ
أَكْثَرُهُ وَمِثْلُ مَا تَلِفَ مِنْهُ، أَوْ يَرُدَّهُ وَمِثْلَ مَا نَقَصَ مِنْ
صِفَاتِهِ، أَوْ مِثْلَهُ إنْ فَاتَتْ عَيْنُهُ وَأَنْ يَرُدَّ كُلَّ مَا
اُغْتُلَّ مِنْهُ، وَكُلَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، كَمَا قلنا سَوَاءٌ سَوَاءٌ:
الْحَيَوَانُ، وَالدُّورُ، وَالشَّجَرُ، وَالأَرْضُ، وَالرَّقِيقُ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا قلنا. فَيَرُدَّ كُلَّ مَا اُغْتُلَّ مِنْ
الشَّجَرِ، وَمِنْ الْمَاشِيَةِ: مِنْ لَبَنٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ نِتَاجٍ، وَمِنْ
الْعَقَارِ: الْكِرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَأَوْلَدَهَا، فَإِنْ كَانَ
عَالَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ حَدُّ الزِّنَى وَبِرَدِّهَا وَأَوْلاَدِهَا وَمَا
نَقَصَهَا وَطْؤُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حَدٍّ،
وَلاَ إثْمَ، لَكِنْ يَرُدُّهَا، وَيَرُدُّ أَوْلاَدَهُ مِنْهَا رَقِيقًا
لِسَيِّدِهَا، وَيَرُدُّ مَا نَقَصَهَا وَطْؤُهُ، وَلاَ شَيْءَ لِكُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا
عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِيمَا أَنْفَقَ كَثُرَ أَمْ قَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ
مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَهُوَ لَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنْ خُصُومِنَا مَعَنَا، فَمَنْ
خَالَفَ مَا قلنا: فَقَدْ أَبَاحَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَأَبَاحَ
الْمَالَ الْحَرَامَ، وَخَالَفَ الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ، بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ
أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ
فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ
ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ " وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
(8/135)
هَذَا،
فَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كُلُّ ذَلِكَ
لِلْغَاصِبِ وَلِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا
تَوَلَّدَ مِنْ لَبَنٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ لِلْغَاصِبِ
وَالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ،وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلِلْمُسْتَحِقِّ وَفَرَّقَ
آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْغَاصِبِ:
فَجَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ
لِلْغَاصِبِ وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ مَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ قَائِمًا وَبَيْنَ
مَا هَلَكَ مِنْهُ فَلَمْ يُضَمِّنُوهُ مَا هَلَكَ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَرَاءٌ فَاسِدَةٌ مُتَخَاذِلَةٌ، وَحُجَّةُ
جَمِيعِهِمْ إنَّمَا هِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي لاَ يَصِحُّ، الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ
مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ " أَنَّ
الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ". ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ، لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ
وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، فَكَانَ خَرَاجُهُ لَهُ وَهَكَذَا نَقُولُ نَحْنُ،
لأََنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا صَحِيحًا فَاسْتَغَلَّ مَالَهُ لاَ مَالَ
غَيْرِهِ، وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلاَلِ، ثُمَّ
لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ كُلُّهُ أَوْ أَنْ يَحْكُمَ
لِلْبَاطِلِ بِحُكْمِ الْحَقِّ، وَلِلظَّالِمِ بِحُكْمِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ،
فَهَذَا الْجَوْرُ وَالتَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ لَوْ
صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عُمُومِهِ لَكَانَ تَقْسِيمُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الْغَاصِبِ وَبَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ
الْغَلَّةِ، وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالتَّأَلُّفِ بَاطِلاً مَقْطُوعًا بِهِ،
لأََنَّهُ لاَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَخَذَ، وَلاَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي قَدَّمْنَا
أَخَذَ، بَلْ خَالَفَ كُلَّ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلاَمُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ مَنْ رَأَى الْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ لِلْغَاصِبِ وَلِلْمُسْتَحَقِّ
عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَقَطْ، فَالنُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُوجِبُ مَا قلنا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ:
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
أَنَّهُ قَالَ: "مَ نْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ
لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ ". فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ صَارَ إلَيْهِ مَالُ
أَحَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَعِرْقُ ظَالِمٍ هُوَ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ،
خَالَفُوا الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ، وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَقَوْلَ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ، وَلَزِمَهُمْ أَنْ لاَ يَرُدُّوا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ شَيْئًا،
لأََنَّهُ لَيْسَ بِيَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلاَ بِيَدِ الْغَاصِبِ،
وَالظَّالِمُ بِعِرْقِ ظَالِمٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِرْقُ ظَالِمٍ فَهُوَ عِرْقُ
حَقٍّ، إذْ لاَ وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلاَّ الضَّلاَلُ} وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا وَإِنْ قَالُوا: بَلْ بِعِرْقِ
ظَالِمٍ هُوَ بِيَدِهِ، لَزِمَهُمْ أَنْ لاَ حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَرَى
فِيهِ ذَلِكَ الْعِرْقُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْغَلَّةِ: فَكَلاَمٌ
فِي غَايَةِ السُّخْفِ وَالْفَسَادِ، وَلَوْ عُكِسَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ مَا
انْفَصَلُوا مِنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَوْلاَدِ الأَحْيَاءِ
فَرَأَى رَدَّهُمْ، وَبَيْنَ الْمَوْتَى
(8/136)
فَلَمْ
يَرَ رَدَّهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ كُلِّ مَا نَتَجَتْ
الأُُمَّهَاتُ حِينَ الْوِلاَدَةِ إلَى سَيِّدِهِمْ وَسَيِّدِ أُمِّهِمْ أَمْ لاَ
فَإِنْ قَالُوا: لاَ، لَزِمَهُمْ أَنْ لاَ يَقْضُوا بِرَدِّهِمْ أَصْلاً أَحْيَاءً
وُجِدُوا أَمْ أَمْوَاتًا. وَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ،
قلنا: فَسُقُوطُ وُجُوبِ رَدِّهِمْ بِمَوْتِهِمْ كَلاَمٌ بَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ
بِهِ. وَلَهُمْ فِي أَوْلاَدِ الْمُسْتَحِقَّةِ مِمَّنْ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ
أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: فَمَرَّةً قَالُوا: يَأْخُذُهَا وَيَأْخُذُ قِيمَةَ
وَلَدِهَا، وَمَرَّةٌ قَالُوا: يَأْخُذُهَا فَقَطْ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي
الْوَلَدِ لاَ قِيمَةَ، وَلاَ غَيْرِهَا وَمَرَّةً قَالُوا: يَأْخُذُ قِيمَتَهَا
وَقِيمَةَ وَلَدِهَا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ
هَؤُلاَءِ الأَوْلاَدِ هَلْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ قَطُّ فِي أَوَّلِ خَلْقهمْ، أَوْ
حِينَ وِلاَدَتِهِمْ: مَلَكَ سَيِّدُ أُمِّهِمْ أَمْ لَمْ يَقَعْ لَهُ قَطُّ
عَلَيْهِمْ مِلْكٌ، وَلاَ ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ
قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِلْكُهُ قلنا: فَفِي أَيِّ دِينِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
وَجَدْتُمْ أَنْ تُجْبِرُوهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ بِلاَ ضَرَرٍ
كَانَ مِنْهُ إلَيْهِمْ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلاَءِ وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ
أَمَةً فَاسْتُرِقَّ وَلَدُهُ مِنْهَا فَهَلاَّ أَجْبَرْتُمْ سَيِّدَهَا عَلَى
قَبُولِ فَدَائِهِمْ فَإِنْ قَالُوا عَلَى هَذَا دَخَلَ النَّاكِحُ لَمْ يَنْوِ
الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ قلنا: فَكَانَ مَاذَا، وَمَا حُرِّمَتْ
أَمْوَالُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِنِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فِيهَا، أَوْ أَيْنَ وَجَدْتُمْ
هَذَا الْحُكْمَ وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ، وَإِذْ هُمْ فِي
مِلْكِهِ فَهُمْ لَهُ بِلاَ شَكٍّ. وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَقَعْ مِلْكُهُ قَطُّ
عَلَيْهِمْ قلنا: فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَقْضُونَ لَهُ بِقِيمَتِهِمْ وَهَذَا ظُلْمٌ
لأََبِيهِمْ بَيِّنٌ، وَإِيكَالٌ لِمَا لَهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِبَاحَةٌ لِثَمَنِ
الْحُرِّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام. وَيُقَالُ
لِمَنْ قَالَ: يَأْخُذُ قِيمَةَ الأُُمِّ فَقَطْ، أَوْ يَأْخُذُهَا فَقَطْ:
لأََيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُهَا، أَوْ قِيمَتَهَا فَإِنْ قَالُوا: لأََنَّهَا أَمَتُهُ
قلنا: فَأَوْلاَدُ أَمَتِهِ عَبِيدُهُ بِلاَ شَكٍّ، فَلِمَ أَعْطَيْتُمُوهُ بَعْضَ
مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ وَتَمْنَعُونَهُ الْبَعْضَ أَوْ لِمَ تَجْبُرُونَهُ عَلَى
بَيْعِهَا وَهُوَ لاَ يُرِيدُ بَيْعَهَا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ رَجُلاً بَاعَ جَارِيَةً لأََبِيهِ فَتَسَرَّاهَا
الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا فَجَاءَ أَبُوهُ فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فَرَدَّهَا وَوَلَدَهَا إلَيْهِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: دَعْ لِي
وَلَدِي، فَقَالَ لَهُ: دَعْ لَهُ وَلَدَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ شَفَاعَةٌ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَرَغْبَةٌ وَلَيْسَ
فَسْخًا لِقَضَائِهِ بِهَا وَبِوَلَدِهَا لِسَيِّدِهَا: وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ: أَنَّ أَمَةً أَتَتْ طَيِّئًا
فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَلَدَتْ لَهُ
أَوْلاَدًا ثُمَّ إنَّ سَيِّدَهَا ظَهَرَ عَلَيْهَا فَقَضَى بِهَا عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ: أَنَّهَا وَأَوْلاَدَهَا لِسَيِّدِهَا، وَأَنَّ لِزَوْجِهَا مَا
أَدْرَكَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمِلَّةَ وَالسُّنَّةَ كُلُّ رَأْسٍ
رَأْسَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(8/137)
عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً وَابْنًا
لَهَا بَاعَا جَارِيَةً لِزَوْجِهَا وَهُوَ أَبُو الْوَلَدِ فَوَلَدَتْ
الْجَارِيَةُ لِلَّذِي ابْتَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَخَاصَمَ إلَى عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ
بَاعَ ابْنُك وَبَاعَتْ امْرَأَتُك قَالَ: إنْ كُنْت تَرَى لِي حَقًّا فَأَعْطِنِي
قَالَ: فَخُذْ جَارِيَتَك وَابْنَهَا، ثُمَّ سَجَنَ الْمَرْأَةَ وَابْنَهَا حَتَّى
تَخَلَّصَا لَهُ، فَلَمَّا رَأَى الزَّوْجُ ذَلِكَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ. فَهَذَا
عَلِيٌّ قَدْ رَأَى الْحَقَّ أَنَّهَا وَوَلَدَهَا لِسَيِّدِهَا وَقَضَى بِذَلِكَ،
وَسَجَنَ الْمَرْأَةَ وَوَلَدَهَا وَهُمَا أَهْلٌ لِذَلِكَ لِتَعَدِّيهِمَا،
وَالأَخْذُ بِالْخَلاَصِ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ رَدَّ الثَّمَنِ وَهَذَا
حَقٌّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ،
عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً
فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا آخَرُ بِبَيِّنَةٍ قَالَ عَلِيٌّ: تَرُدُّ
عَلَيْهِ، وَيَقُومُ وَلَدُهَا فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
مُطَرِّفٌ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ وَالْمُغِيرَةُ، قَالَ مُطَرِّفٌ: عَنِ
الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الشَّعْبِيُّ،
وَإِبْرَاهِيمُ فِي وَلَدِ الْغَارَّةِ أَنَّ عَلَى أَبِيهِمْ أَنْ يَفْدِيَهُمْ
بِمَا عَزَّ وَهَانَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يُفْدَوْنَ بِعَبْدٍ عَبْدٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ أيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَضَى عُمَرُ فِي أَوْلاَدِ الْغَارَّة بِالْقِيمَةِ.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:
غَرَّتْ أَمَةٌ قَوْمًا وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَتْ فِيهِمْ
فَوَلَدَتْ أَوْلاَدًا فَوَجَدُوهَا أَمَةٌ فَقَضَى عُمَرُ بِقِيمَةِ أَوْلاَدِهَا
فِي كُلِّ مَغْرُورٍ غُرَّةٌ. وَقَضَى الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ فِي
وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِغُرَّةٍ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ،
وَالْحَسَنِ: مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ غُرَّةٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَى أَبِيهِمْ
قِيمَتُهُمْ وَيُهْضَمُ عَنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُنَا: وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، إِلاَّ فِي وَلَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَطْ،
فَإِنَّهُ نَاقَضَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ أَنَّ
رَجُلاً اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ
فَخَاصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيهِ فَاسْتَحَقَّهُ فَقَضَى لَهُ
بِالْعَبْدِ وَبِغَلَّتِهِ، وَقَضَى لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي
اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِمِثْلِ الْعَبْدِ، وَبِمِثْلِ غَلَّتِهِ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ:
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: هُوَ فَهْمٌ فَهَذَانِ
إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، يَقُولاَنِ بِقَوْلِنَا فِي
رَدِّ الْغَلَّةِ فِي الأَسْتِحْقَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إذَا اشْتَرَيْت غَنَمًا فَنَمَتْ ثُمَّ جَاءَ
أَمْرٌ بِرَدِّ الْبَيْعِ فِيهِ قَالَ: يَرُدُّهَا وَنَمَاءَهَا، وَالْجَارِيَةُ
إذَا وَلَدَتْ كَذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: فَلِمَ فَرَّقْتُمْ أَنْتُمْ بَيْنَ
الْغَاصِبِ
(8/138)
وَالْمُسْتَحِقِّ
فَأَلْحَقْتُمْ الْوَلَدَ بِالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَلَمْ تُلْحِقُوهُ
بِالْغَاصِبِ قلنا: نَعَمْ، لأََنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ مِنْ مُؤْمِنٍ
وَكَافِرٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ فَأَسْلَمَ
النَّاسُ وَفِيهِمْ أَوْلاَدُ الْمَنْكُوحَاتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ
وَالْمُتَمَلِّكَاتِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْمُتَمَلِّكُ، وَالنَّاكِحُ يَظُنَّانِ
أَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ حَقٌّ، فَأَلْحَقَهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَلَمْ
يُلْحِقْ قَطُّ وَلَدَ غَاصِبٍ، أَوْ زَانٍ بِمَنْ وَضَعَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ،
بَلْ قَالَ عليه السلام: " وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر "ُ وَالْغَاصِبُ
وَالْعَالِمُ بِفَسَادِ عَقْدِهِ مِلْكًا كَانَ أَوْ زَوَاجًا عَاهِرَانِ فَلاَ
حَقَّ لَهُمَا فِي الْوَلَدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا مَكَانٌ خَالَفُوا فِيهِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ إِلاَّ رِوَايَةٌ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهَا لَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: تُرَدُّ إلَيْهِ وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ
فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَ بِمَا عَزَّ وَهَانَ، فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا
بِهَذِهِ، وَقَدْ كَذَبُوا لأََنَّهُمْ لاَ يُغَرِّمُونَ الْبَائِعَ مَا يَفْدِي بِهِ
وَلَدَهُ، إِلاَّ الرِّوَايَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي أَوْلاَدِ الْغَارَّةِ بِقِيمَتِهِمْ وَالْقِيمَةُ قَدْ
صَحَّتْ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا عَبْدٌ مَكَانَ عَبْدٍ أَوْ عَبْدَانِ
مَكَانَ عَبْدٍ ; فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا أَيْضًا. وَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ
ذَكَرْنَا، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُمْ جُمْهُورُ مَنْ
رَوَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ فِي فِدَاءِ وَلَدِ الْغَارَّةِ
الْمُسْتَحَقَّةِ بِعَبْدٍ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ مَا مَاتَ
مِنْ الْوَلَدِ وَالنِّتَاجِ، وَمَا تَلِفَ مِنْ الْغَلَّةِ وَيَضْمَنُ
الزِّيَادَةَ فِي الْجِسْمِ وَالْقِيمَةَ، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالُ
الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ كُلَّ ذَلِكَ فَهُوَ
مُعْتَدٍ بِإِمْسَاكِهِ مَالَ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ مُعْتَدِيًا، لأََنَّهُ لَمْ
يُبَاشِرْ غَصْبَ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِيحٍ أَلْقَتْ ثَوْبًا
فِي مَنْزِلِ الإِنْسَانِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الَّذِي رَمَتْ الرِّيحُ
الثَّوْبَ فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ مُتَمَلِّكًا لَهُ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَلَزِمَهُ
ضَمَانُهُ، وَهَذَا الْمُشْتَرِي أَوْ الْغَاصِبُ مُتَمَلِّكٌ لِكُلِّ مَا
تَوَلَّدَ مِنْ غَلَّةٍ، أَوْ زِيَادَةٍ، أَوْ نَتَاجٍ، أَوْ ثَمَرَةٍ، حَائِلٌ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ إلَيْهِ،
وَحَرَّمَ عَلَيْهِ إمْسَاكَهُ عَنْهُ، فَهُوَ مُعْتَدٍ بِذَلِكَ يَقِينًا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى. وَأَمَّا
الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ حِينَ زَادَ ثَمَنُهُ كَانَ فَرْضًا
عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَكَانَ لاَزِمًا لَهُ أَنْ
يَرُدَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ يُسَاوِي تِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ
ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ رَدُّ مَا لَزِمَهُ رَدُّهُ.
وَأَمَّا الْكِرَاءُ: فَإِنَّهُ إذْ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ عَيْنِ
مَالِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنَافِعِهِ فَضَمِنَهَا، وَلَزِمَهُ أَدَاءُ مَا
مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَ
كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكِرَاءُ مَتَاعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِلاَ شَكٍّ، فَفَرْضٌ
عَلَى مَانِعِهِ إعْطَاؤُهُ حَقُّهُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: قَوْلُ الْحَنَفِيِّينَ إنَّ الْكِرَاءَ لِلْغَاصِبِ
وَالْغَلَّةَ وَلاَ يَضْمَنُ وَلَدَهَا
(8/139)
الْمَوْتَى،
ثُمَّ يَقُولُونَ فِيمَنْ صَادَ ظَبْيَةً فِي الْحَرَمِ فَأَمْسَكَهَا وَلَمْ
يَقْتُلْهَا، حَتَّى إذَا وَلَدَتْ عِنْدَهُ أَوْلاَدًا فَمَاتُوا وَلَمْ
يَذْبَحْهُمْ أَنَّهُ يَجْزِيهَا وَيَجْزِي أَوْلاَدَهَا فَلَوْ عَكَسُوا
لاََصَابُوا وَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى صَائِدَ الظَّبْيَةِ ضَمَانَهَا
عَاشَتْ أَوْ مَاتَتْ إِلاَّ أَنْ يَقْتُلَهَا عَامِدًا، وَإِلَّا فَلاَ، فَهُمْ
أَبَدًا يُحَرِّفُونَ كَلاَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مَوَاضِعِهِ. وأعجب شَيْءٍ
احْتِجَاجُ بَعْضِ مُتَصَدِّرِيهِمْ بِالْجَهْلِ بِأَنْ قَالَ: وَأَيُّ ذَنْبٍ
لِلْوَلَدِ حَتَّى يُسْتَرَقَّ .فَقُلْنَا: مَا عَلِمْنَا ذَنْبًا يُوجِبُ
الأَسْتِرْقَاقَ، وَالرِّدَّةَ، وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، وَتْرُكَ
الصَّلاَةِ، وَزِنَى الْمُحْصَنِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِرْقَاقَ فَاعِلِهِ وَأَوْلاَدُ الْكُفَّارِ يُسْتَرَقُّونَ،
وَلاَ ذَنْبَ لَهُمْ فَلَيْسَ يَعْتَرِضُ بِمِثْلِ هَذَا الْهَوَسِ إِلاَّ مَنْ
لاَ عَقْلَ لَهُ، وَلاَ دِينَ. وَأَمَّا إسْقَاطُنَا الْمَهْرَ فِي وَطْءِ
الْغَاصِبِ، وَالْمُسْتَحِقِّ، فَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَمَالُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ: حَرَامٌ، إِلاَّ مَا
أَوْجَبَهُ النَّصُّ، وَلاَ مَهْرَ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ لِلَّتِي
نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَقَطْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ
وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَهُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا بِزِنَى الْغَاصِبِ
أَوْ بِجَهْلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَقَطْ، لأََنَّهُ اسْتَهْلَكَ بِذَلِكَ
بَعْضَ قِيمَةِ أَمَةِ غَيْرِهِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالْمِثْلِ: فَإِنَّ
الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يُعْطَى إِلاَّ
الْقِيمَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ فِيمَنْ
اسْتَهْلَكَ حِنْطَةً أَنَّ لَهُ طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِهِ، قَالَ سُفْيَانُ، وَقَالَ
غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا: لَهُ الْقِيمَةُ. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: أَمَّا
مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا
ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ، وَالْحَيَوَانِ فَالْقِيمَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا:
الْمِثْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ، فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْمَضْمُونُ
لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ، وَبَيْنَ أَنْ
يَأْخُذَ الْقِيمَةَ. قال أبو محمد: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ
خِلاَفُهُ، وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ قَضَى بِالْقِيمَةِ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ
أَنَّ بَعْضَهُمْ أَتَى بِطَامَّةٍ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَضَى عَلَى مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ بِأَنْ يُقَوَّمَ
عَلَيْهِ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ، قَالُوا: فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ حِصَّةَ غَيْرِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ.
قال علي: وهذا مِنْ عَجَائِبِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَفْحَشُوا الْخَطَأَ فِي هَذَا
الأَحْتِجَاجِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِيمَنْ
اسْتَهْلَكَ، وَالْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ
يَسْتَهْلِكْ شَيْئًا، وَلاَ غَصَبَ شَيْئًا، وَلاَ تَعَدَّى أَصْلاً، بَلْ
أَعْتَقَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِتْقَهَا، وَإِنَّمَا
هُوَ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَذَهُ لاَ لِتَعَدٍّ مِنْ الْمُعْتَقِ
أَصْلاً. وَالثَّانِي عَظِيمٌ تَنَاقُضُهُمْ، لأََنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إنْ كَانَ
الْمُعْتِقُ الْمَذْكُورُ مُسْتَهْلِكًا حِصَّةَ شَرِيكِهِ، وَلِذَلِكَ يَضْمَنُ
الْقِيمَةَ
(8/140)
بِأَنْ
يُوجِبُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا كَمَا يَفْعَلُونَ فِي
كُلِّ مُسْتَهْلَكٍ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ هَذَا فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مَنْ
يَدْرِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَائِلُهُ، عَنْ كَلاَمِهِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ
عِبَادَ اللَّهِ تَعَالَى يَتَعَقَّبُونَ كَلاَمَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ
الْقَبِيحَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ إحَالَةِ السُّنَنِ، عَنْ مَوَاضِعِهَا
وَسَعْيِهِمْ فِي إدْحَاضِ الْحَقِّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا
هَاهُنَا إجْمَاعًا، لأََنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ
يُضَمِّنُونَهُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا، وَمَا نُبَالِي بِطَرْدِ هَذَيْنِ
أَصْلُهُمَا فِي الْخَطَأِ، لأََنَّهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفَانِ لِحُكْمِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُضَمِّنْ
الْمُعْسِرَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ فِي ذَلِكَ بِالأَسْتِسْعَاءِ
لِلْمُعْتَقِ فَقَطْ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرِ
بْنِ حَازِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ:" سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
يُحَدِّثُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ أَهْدَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَيَوْمِهَا: جَفْنَةً مِنْ حَيْسٍ،
فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذَتْ الْقَصْعَةَ فَضَرَبَتْ بِهَا الأَرْضَ
فَكَسَرَتْهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى قَصْعَةٍ لَهَا
فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانُ صَحْفَتِهَا وَقَالَ
لِعَائِشَةَ: لَكِ الَّتِي كَسَرْتِ " فَهَذَا قَضَاءٌ بِالْمِثْلِ لاَ
بِالدَّرَاهِمِ بِالْقِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُمَا قَضَيَا عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ فُصْلاَنًا بِفُصْلاَنٍ مِثْلِهَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْمِثْلِ فِيمَنْ
بَاعَ بَعِيرًا وَاسْتَثْنَى جِلْدَهُ، وَرَأْسَهُ، وَسَوَاقِطَهُ. وَعَنْ عُمَرَ،
وَعُثْمَانَ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، فِي فِدَاءِ وَلَدِ
الْغَارَّةِ بِعَبِيدٍ لاَ بِالْقِيمَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى فِي
قَصَّارٍ شَقَّ ثَوْبًا أَنَّ الثَّوْبَ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ فَقَالَ
رَجُلٌ: أَوْ ثَمَنُهُ فَقَالَ شُرَيْحٌ: إنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ
ثَمَنِهِ، قَالَ: إنَّهُ لاَ يَجِدُ، قَالَ: لاَ وَجَدَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ
قَضَى فِي ثَوْبٍ اُسْتُهْلِكَ بِالْمِثْلِ.
قال أبو محمد: لَمْ نُورِدْ قَوْلَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَوْرَدْنَا احْتِجَاجًا بِهِ،
وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِئَلَّا يَهْجُمُوا بِدَعْوَى الإِجْمَاعِ جُرْأَةً
عَلَى الْبَاطِلِ، فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ بِالْمَكْسُورِ
لِلْكَاسِرِ، فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْحَدِيثَ قلنا: حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ
لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَعَلِمْنَا أَنَّهُ عليه السلام لاَ يُعْطِي أَحَدًا
غَيْرَ حَقِّهِ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّهَا
لَك مِنْ أَجْلِ كَسْرِك إيَّاهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ
هَذَا الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَهُ عليه السلام. فَصَحَّ بِذَلِكَ
يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ الْكِسَارَةَ الَّتِي أَعْطَى لِعَائِشَةَ، رضي الله عنها،
لاَ تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنَّهَا لَمْ
تَصْلُحْ لِشَيْءٍ فَأَبْقَاهَا كَمَا يَحِلُّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا مَا فَسَدَ
جُمْلَةً مِنْ مَتَاعِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا أَنَّ
قَصْعَةَ عَائِشَةَ الَّتِي أَعْطَى كَانَتْ خَيْرًا مِنْ الَّتِي كَانَتْ
لِزَيْنَبِ، رضي الله عنها، فَجَبْرَ عليه السلام تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِتِلْكَ
الْكِسَارَةِ
(8/141)
وَإِلَّا
فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يُعْطِي أَحَدًا مَالَ
غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ
مَالِهِ لاَ فِي غَيْرِهِ، فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا
مَوْجُودَيْنِ فَلاَ حَقَّ لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ عَدِمَ جُمْلَةً
فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ بِالْمِثْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا عَدِمَ الْمِثْلَ مِنْ نَوْعِهِ فَكُلُّ مَا قَاوَمَهُ
وَسَاوَاهُ فَهُوَ أَيْضًا مِثْلٌ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ
أَقَلُّ مِثْلَيْهِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَوْعِهِ، فَلِذَلِكَ قَضَيْنَا
بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/142)
من
كسر لأخيه شيئا أو جرح له عبدا أو حيوانا أو خرق له ثوبا قوم ذلك صحيحا مما جني
عليه
...
1260 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَسَرَ لأَخَرَ شَيْئًا، أَوْ جَرَحَ لَهُ عَبْدًا،
أَوْ حَيَوَانًا، أَوْ خَرَقَ لَهُ ثَوْبًا، قُوِّمَ كُلُّ ذَلِكَ صَحِيحًا مِمَّا
جَنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قُوِّمَ كَمَا هُوَ السَّاعَةُ، وَكُلِّفَ الْجَانِي أَنْ
يُعْطِيَ صَاحِبَ الشَّيْءِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ،
وَلاَ بُدَّ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّيْءَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ
لِلْجَانِي لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى فَقَطْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ صَغِيرَةً أَوْ
كَبِيرَةً لاَ يَحِلُّ هَذَا. وَلِلْحَنَفِيِّينَ هَاهُنَا اضْطِرَابٌ وَتَخْلِيطٌ
كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّ إلَى صَاحِبِهِ
فَإِنْ وُجِدَ وَقَدْ قَطَعَهُ الْغَاصِبُ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
أَخْذِهِ كَمَا هُوَ وَمَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ
لِلْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ وَقَدْ
خَاطَهُ قَمِيصًا: فَهُوَ لِلْغَاصِبِ بِلاَ تَخْيِيرٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ
قِيمَةُ الثَّوْبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ تُغْصَبُ فَتُطْحَنُ
وَالدَّقِيقُ يُغْصَبُ فَيُعْجَنُ، وَاللَّحْمُ يُغْصَبُ فَيُطْبَخُ أَوْ يُشْوَى.
قال أبو محمد: مَا فِي الْمُجَاهَرَةِ بِكَيْدِ الدِّينِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا،
وَلاَ فِي تَعْلِيمِ الظَّلَمَةِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا،
فَيُقَالُ لِكُلِّ فَاسِقٍ: إذَا أَرَدْت أَخْذَ قَمْحِ يَتِيمٍ، أَوْ جَارِك،
وَأَكْلَ غَنَمِهِ، وَاسْتِحْلاَلَ ثِيَابِهِ، وَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ أَنْ
يَبِيعَك شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاغْصِبْهَا، وَاقْطَعْهَا ثِيَابًا عَلَى
رَغْمِهِ، وَاذْبَحْ غَنَمَهُ وَأَطْبُخْهَا، وَاغْصِبْهُ حِنْطَتَهُ
وَاطْحَنْهَا، وَكُلْ كُلَّ ذَلِكَ حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَيْسَ عَلَيْك إِلاَّ
قِيمَةُ مَا أَخَذْت، وَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ فِي نَهْيِهِ تَعَالَى أَنْ
نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بِالْبَاطِلِ، وَخِلاَفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي قَوْلِهِ: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ" " و مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ ". وَمَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ كُلَّ
ثَوْبٍ قُطِعَ مِنْ شُقَّةٍ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الشُّقَّةِ، وَكُلَّ دَقِيقٍ
طُحِنَ مِنْ حِنْطَةِ إنْسَانٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ، وَكُلَّ لَحْمٍ
شُوِيَ فَهُوَ لِصَاحِبِ اللَّحْمِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِهَذَا ثُمَّ لاَ
يُبَالُونَ بِأَنْ يَقُولُوا: الْغَصْبُ، وَالظُّلْمُ، وَالتَّعَدِّي يُحِلُّ أَمْوَالَ
الْمُسْلِمِينَ لِلْغُصَّابِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَصْعَةِ
الْمَكْسُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ
الْخَبَرِ فَخَالَفُوهُ فِيمَا فِيهِ، وَاحْتَجُّوا لَهُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ
مِنْهُ شَيْءٌ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِخَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي دَعَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى طَعَامٍ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَرَادَتْ
ابْتِيَاعَ شَاةٍ فَلَمْ تَجِدْهَا فَأَرْسَلَتْ إلَى جَارَةٍ لَهَا: ابْعَثِي
إلَيَّ الشَّاةَ الَّتِي لِزَوْجِكِ فَبَعَثَتْ
(8/142)
بِهَا
إلَيْهَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّاةِ أَنْ تُطْعَمَ
الأَسَارَى قَالَ هَذَا الْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
حَقَّ صَاحِبِ الشَّاةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهَا إذْ شُوِيَتْ.
قال أبو محمد: وهذا الخبر لاَ يَصِحُّ، لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ حُجَّةٍ
عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ خِلاَفٌ لِقَوْلِهِمْ، إذْ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ
يُبْقِ ذَلِكَ اللَّحْمُ فِي مِلْكِ الَّتِي أَخَذَتْهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا،
وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ لِلْغَاصِبِ حَلاَلٌ وهذا الخبر فِيهِ أَنَّهُ لَمْ
يَأْخُذْ رَأْيَهَا فِي ذَلِكَ فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْمَحْفُوظُ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلُوا بِأَهْلِ مَاءٍ وَفِيهِمْ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَانْطَلَقَ النُّعْمَانُ فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُمْ: يَكُونُ
كَذَا وَكَذَا وَهُمْ يَأْتُونَهُ بِالطَّعَامِ وَاللَّبَنِ، وَيُرْسِلُ هُوَ
بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَرَانِي
آكِلُ كِهَانَةَ النُّعْمَانِ مُنْذُ الْيَوْمِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَده فِي حَلْقِهِ
فَاسْتَقَاءَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي مَغَازِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنْت فِي غَزْوَةِ ذَاتِ
السَّلاَسِلِ فَذَكَرَ قِسْمَتُهُ الْجَزُورَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَنَّهُمْ
أَعْطَوْهُ مِنْهَا، فَأَتَى بِهِ إلَى أَصْحَابِهِ فَطَبَخُوهُ فَأَكَلُوهُ،
ثُمَّ سَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالاَ لَهُ:
وَاَللَّهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا ثُمَّ قَامَا يَتَقَيَّآنِ مَا
فِي بُطُونِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ
أَنَّهُ حُلِبَ لَهُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَأَدْخَلَ عُمَرُ أُصْبُعَهُ
فَاسْتَقَاءَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَالُوا
لَهُ: قَدْ شَرِبَ عَلِيٌّ نَبِيذَ الْجَرِّ قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقُلْت لَهُمْ:
هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ يُحَدِّثُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَبِيذَ جَرِّ تَقَيَّأَهُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذُرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُوَيْهٍ قَالَ: سَمِعْت
عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: دَخَلَ مَعْمَرٌ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عِنْدَهَا
فَاكِهَةٌ فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَهْدَتْهَا
إلَيْنَا فُلاَنَةُ النَّائِحَةُ، فَقَامَ مَعْمَرٌ فَتَقَيَّأَ مَا أَكَلَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ
وَعِلْمِهِمْ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ لاَ يَرَوْنَ الطَّعَامَ
الْمَأْخُوذَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِلْكًا لأَخِذِهِ، وَإِنْ أَكَلَهُ، بَلْ يَرَوْنَ
عَلَيْهِ إخْرَاجَهُ، وَأَنْ لاَ يُبْقِيَهُ فِي جِسْمِهِ مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَى
ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعَلَّقَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ
فِي إبَاحَةِ الْحَرَامِ جِهَارًا؟
قال أبو محمد: وَبِهَذَا نَقُولُ، فَمَا دَامَ الْمَرْءُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يَتَقَيَّأَهُ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلاَ
(8/143)
يَحِلُّ
إمْسَاكُ الْحَرَامِ أَصْلاً فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ،
وَالسُّنَنَ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ، وَتَقْلِيدًا لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِي
خَطَأٍ أَخْطَأَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالُوا أَيْضًا:
قِسْنَا هَذَا عَلَى الْعَبْدِ يَمُوتُ فَتُضْمَنَ قِيمَتُهُ.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ، لاَ لَهُمْ، لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَتَمَلَّكُهُ
الْغَاصِبُ.
(8/144)
من
غصب دار فتهدمت كلف رد بنائها كما كان
...
1261 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ دَارًا فَتَهَدَّمَتْ كُلِّفَ رَدَّ بِنَائِهَا
كَمَا كَانَ، وَلاَ بُدَّ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَهُوَ قَدْ اعْتَدَى عَلَى الْبِنَاءِ
الْمُؤَلَّفِ فَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَنَا
وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مَأْمُورٌ بِرَدِّهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى
صَاحِبِهَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِهَدْمِهَا مَا لَزِمَهُ.
وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ دَارٍ تَتَهَدَّمُ وَبَيْنَ عَبْدٍ يَمُوتُ
فَكَانَ احْتِجَاجُ صَاحِبِهِمْ: أَنَّ الدُّورَ وَالأَرَضِينَ لاَ تُغْصَبُ،
فَكَانَ هَذَا عَجَبًا جِدًّا. وَمَا نَعْلَمُ لأَِبْلِيسِ دَاعِيَةً فِي
الإِسْلاَمِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطْلِقُ الظَّلَمَةَ عَلَى غَصْبِ دُورِ النَّاسِ وَأَرَاضِيهمْ
ثُمَّ يُبِيحُ لَهُمْ كِرَاءَهَا وَغَلَّتَهَا، وَلاَ يَرَى عَلَيْهِمْ ضَمَانَ
مَا تَلِفَ مِنْهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
(8/144)
1262
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، أَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا
فَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَمَا نَقَصَ مِنْهَا،
وَمُزَارَعَتُهُ مِثْلُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهَا
وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ لِلأَرْضِ إِلاَّ الزَّرْعُ
وَالْمُزَارِعَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي " الْمُزَارَعَةِ " إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الأَرْضُ لاَ تُغْصَبُ، وَهَذَا
كَذِبٌ مِنْهُمْ، لأََنَّ الْغَصْبَ هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ حَقِّهِ
ظُلْمًا وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَخَذَ مِنْ
الأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ [بِهِ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ ". فَصَحَّ أَنَّ الأَرْضَ تُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ.فَصَحَّ
أَنَّهَا تُغْصَبُ.
(8/144)
1263
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ زُرَيْعَةً فَزَرَعَهَا. أَوْ نَوًى فَغَرَسَهُ أَوْ
مَلُوخًا فَغَرَسَهَا، فَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ الزَّرْعِ فَلِصَاحِبِ الزَّرِيعَةِ
يَضْمَنُهُ لَهُ الزَّارِعُ وَكُلُّ مَا نَبَتَ مِنْ النَّوَى، وَالْمَلُوخِ
فَلِصَاحِبِهَا وَكُلُّ مَا أَثْمَرَتْ تِلْكَ الشَّجَرُ فِي الأَبَدِ فَلَهُ، لاَ
حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقّ "ٌ.
وَلأََنَّ كُلَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ
لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ خَطْبَ لَهُ بِهِ مِمَّا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ
صَاحِبُهُ فَيَطْرَحُهُ مُبِيحًا لَهُ، مِنْ أَخْذِهِ مِنْ النَّوَى وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَقَطْ، لاَ مَا لَمْ يُبِحْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/144)
كل
من عدا عليه حيوان ممتلك من بعير أو فرس فلم يقد على دفعه عن نفسه إلا بقتله فقتله
فلا ضمان عليه
...
1264 - مَسْأَلَةٌ . وَكُلُّ مَنْ عَدَا عَلَيْهِ حَيَوَانٌ مُتَمَلَّكٌ مِنْ
بَعِيرٍ، أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ، أَوْ فِيلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ، عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ فَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ
الْحَنَفِيُّونَ: يَضْمَنُهُ، وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ ".
وَبِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ " إنَّ
إنْسَانًا عَدَا عَلَيْهِ فَحْلٌ لِيَقْتُلَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ
فَأَغْرَمَهُ أَبُو بَكْرٍ إيَّاهُ، وَقَالَ: بَهِيمَةٌ لاَ تَعْقِلُ ".
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "
مَنْ أَصَابَ الْعَجْمَاءَ غُرِّمَ ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ: أَنَّ
غُلاَمًا دَخَلَ دَارَ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فَضَرَبَتْهُ نَاقَةٌ لِزَيْدٍ
فَقَتَلَتْهُ فَعَمَدَ أَوْلِيَاءُ الْغُلاَمِ فَعَقَرُوهَا فَأَبْطَلَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ دَمَ الْغُلاَمِ وَأَغْرَمَ وَالِدَ الْغُلاَمِ ثَمَنَ
النَّاقَةِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الْحَدِيثُ " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَار "ٌ
فَفِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ،
لأََنَّنَا لَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي أَنَّ مَا جَرَحَتْهُ الْعَجْمَاءُ لاَ
يَغْرَمُ وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ هَذَا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي
تَضْمِينِهِمْ الرَّاكِبَ، وَالسَّائِقَ، وَالْقَائِدَ، مَا أَصَابَ الْعَجْمَاءُ
مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهَا عَلَيْهِ فَهُمْ الْمُخَالِفُونَ لِهَذَا الأَثَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَشُرَيْحٍ، فِيهِ نَقُولُ: مَنْ
قَتَلَتْ بَهِيمَةٌ وَلِيَّهُ فَمَضَى بَعْدَ جِنَايَتِهَا فَقَتَلَهَا فَهُوَ
ضَامِنٌ لَهَا، لأََنَّهَا لاَ ذَنْبَ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ
فَصَحِيحٌ، وَمَنْ أَصَابَ الْعَجْمَاءَ قَاصِدًا لَهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَهُوَ
غَارِمٌ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، فَمُنْقَطِعَةٌ،
وَلاَ حُجَّةَ فِي مُنْقَطِعٍ لَوْ كَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَكَيْفَ عَمَّنْ دُونَهُ؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا أَبَا بَكْرٍ وَغَيْرَهُ حَيْثُ لاَ
يَجُوزُ خِلاَفُهُ، أَقْرَبُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم مِنْ تَقَيُّئِهِمْ مَا أَكَلُوا أَوْ شَرِبُوا
مِمَّا لاَ يَحِلُّ فَخَالَفُوا، فَإِنَّمَا هُمْ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ
وَافَقُوا أَبَا حَنِيفَةَ لاَ حَيْثُ خَالَفُوهُ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّينِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الأَسَدَ، وَالسَّبُعَ، حَرَامٌ قَتْلُهُ
فِي الْحَرَمِ وَعَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءُ، إِلاَّ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُحْرِمُ
بِأَذًى فَلَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجْزِيه فَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ، وَالْهَدْمُ،
وَالْبِنَاءُ وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُشَنِّعِينَ بِقَوْلِ
الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ
سَوَاءٌ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا، وَلَكِنَّهُ مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَخْلُو مَنْ عَدَتْ الْبَهِيمَةُ عَلَيْهِ فَخَشِيَ أَنْ
تَقْتُلَهُ أَوْ أَنْ تَجْرَحَهُ، أَوْ أَنْ تَكْسِرَ لَهُ
(8/145)
عُضْوًا أَوْ أَنْ تُفْسِدَ ثِيَابَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهَا، مَنْهِيًّا، عَنِ الأَمْتِنَاعِ مِنْهَا وَدَفْعِهَا، وَهَذَا مِمَّا لاَ يَقُولُونَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ زَائِدًا فِي ضَلاَلِهِمْ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ، أَوْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِدَفْعِهَا، عَنْ نَفْسِهِ مَنْهِيًّا، عَنْ إمْكَانِهَا مِنْ رُوحِهِ، أَوْ جِسْمِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا هُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّجَاةِ مِنْهَا إِلاَّ بِقَتْلِهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهَا، لأََنَّ قَتْلَهَا هُوَ الدَّفْعُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ وَإِذْ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} .
(8/146)
لا
ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته في مال أو دوم ليل ونهارا
...
1265 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ فِيمَا جَنَتْهُ فِي
مَالٍ أَوْ دَمٍ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا
لَكِنْ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِضَبْطِهِ، فَإِنْ ضَبَطَهُ فَذَاكَ، وَإِنْ عَادَ
وَلَمْ يَضْبِطْهُ بِيعَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
" الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ لَيْلاً،
وَلاَ يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ نَهَارًا وَهُوَ قَضَاءُ شُرَيْحٍ، وَحُكْمُ
الشَّعْبِيِّ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ
حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا سَبَقُونَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ،
وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ
حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ.فَصَحَّ
أَنَّهُ مُرْسَلٌ لأََنَّ حَرَامًا لَيْسَ، هُوَ ابْنُ مُحَيِّصَةُ لِصُلْبِهِ
إنَّمَا، هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، وَسَعْدٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
الْبَرَاءِ، وَلاَ أَبُو أُمَامَةَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُنْقَطِعٍ وَلَقَدْ كَانَ
يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ سَوَاءٌ
أَنْ يَقُولُوا بِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَهُوَ مَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ
إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ، وَأَنَّ
سُلَيْمَانَ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي ذَلِكَ فِي غَنَمٍ أَفْسَدَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ بِأَنْ دَفَعَ الْغَنَمَ إلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، لَهُمْ صُوفُهَا
وَأَلْبَانُهَا حَتَّى يَعُودَ الْعِنَبُ أَوْ الْحَرْثُ كَمَا كَانَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا وَاَلَّذِي لاَ نَشُكُّ
فِيهِ أَنَّ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ عليه السلام
مَا فِي رِيَاحٍ وَمَهَامِهَ فَيْحَاءَ،وَلَوْ رَوَوْا لَنَا ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَامَتْ بِهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُ مُرْسَلٌ. ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ أَوَّلَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ
لاَ يَحْكُمُونَ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَيَا لِلَّهِ كَيْفَ يَنْطِقُ لِسَانُ
مُسْلِمٍ بِأَنْ يَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ فِي الدِّينِ بِحُكْمٍ لاَ يَحِلُّ
عِنْدَهُ
(8/146)
أَنْ
يُؤْخَذَ بِهِ؟ وَحَسْبُنَا اللَّهُ. وَعَجَبٌ آخَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ: وَهُوَ
أَنَّهُ لاَ يَرَى الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ ثُمَّ أَبَاحَ هَاهُنَا الأَمْوَالَ
بِمُرْسَلٍ لاَ يَصِحُّ أَصْلاً. وَأَمَّا بَيْعُ مَا تَعَدَّى مِنْ الْعَجْمَاءِ
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَمِنْ
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى حِفْظُ الزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ الَّتِي هِيَ أَمْوَالُ
النَّاسِ فَلاَ يُعَانُ عَلَى فَسَادِهَا، فَإِبْعَادُ مَا يُفْسِدُهَا فَرْضٌ،
وَلاَ سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِالْبَيْعِ الْمُبَاحِ، وَهَا هُنَا آثَارٌ،
عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَدْ خَالَفُوهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: بِرَدِّ الْبَعِيرِ، وَالْبَقَرَةِ،
وَالْحِمَارِ، وَالضَّوَارِي، إلَى أَهْلِهِنَّ ثَلاَثًا إذَا حُظِرَ الْحَائِطُ
ثُمَّ يُعْقَرْنَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَمِعْت عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَذْكُرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ
بِالْحَائِطِ أَنْ يُحْظَرَ وَيُسَدَّ الْحَظْرُ مِنْ الضَّارِي الْمُدِلِّ ثُمَّ
يُرَدُّ إلَى أَهْلِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُعْقَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
التَّيْمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُكَاتَبٌ لِبَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ أَتَى بِنَقَدٍ
مِنْ السَّوَادِ إلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى جِسْرِ الْكُوفَةِ جَاءَ
مَوْلًى لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَتَخَلَّلَ النَّقَدَ عَلَى الْجِسْرِ فَنَفَرَتْ
مِنْهَا نَقْدَةٌ فَقَطَرَتْ الرَّجُلَ فِي الْفُرَاتِ فَغَرِقَ فَأَخَذْت فَجَاءَ
مَوَالِيهِ إلَى مَوَالِيَّ فَعَرَضَ مَوَالِيَّ عَلَيْهِمْ صُلْحًا أَلْفَيْ
دِرْهَمٍ، وَلاَ يَرْفَعُونَ إلَى عَلِيٍّ فَأَبَوْا فَأَتَيْنَا عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُمْ: إنْ عَرَفْتُمْ النَّقْدَةَ بِعَيْنِهَا
فَخُذُوهَا، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ عَلَيْكُمْ فَشَرْوَاهَا.
قال أبو محمد: إنَّ فِي الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، الْعَجَبَ إذْ
يَحْتَجُّونَ فِي إبْطَالِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ فِي أَنَّ الْبَيِّعَيْنِ لاَ
بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ ثُمَّ يَرُدُّونَ
هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهَذِهِ الأُُخْرَى عَنْ
عَلِيٍّ فَهَلاَّ قَالُوا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَلَكِنْ هَذَا
حُكْمُ الْقَوْمِ فِي دِينِهِمْ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ أَهْلُ السُّنَنِ عَلَى
عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عِنْدَهُمْ.
(8/147)
من
كسر إناء فضة أو ذهب فلا شيء عليه وقد أحسن
...
1266 - مَسْأَلَةٌ . وَمَنْ كَسَرَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءَ ذَهَبٍ فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَحْسَنَ
لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
" الْوُضُوءِ " " وَالأَطْعِمَةِ " " وَالأَشْرِبَةِ
" وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ أَهْرَقَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ ; أَوْ
لِذِمِّيٍّ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: " إنْ أَهْرَقَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ
مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ أَهْرَقَهَا ذِمِّيٌّ فَعَلَيْهِ
مِثْلُهَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلاَ قِيمَةَ لِلْخَمْرِ، وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِهَرْقِهَا، فَمَا لاَ يَحِلُّ
بَيْعُهُ، وَلاَ مِلْكُهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، فَإِنْ قَالُوا: هِيَ أَمْوَالُ
أَهْلِ الذِّمَّةِ قلنا:
(8/147)
كَذَبْتُمْ
وَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُذْ حَرَّمَهَا مَالاً لأََحَدٍ، وَلَكِنْ
أَخْبِرُونَا: أَهِيَ حَلاَلٌ لأََهْلِ الذَّمَّةِ أَمْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ؟
فَإِنْ قَالُوا: هِيَ لَهُمْ حَلاَلٌ كَفَرُوا; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
أَخْبَرَ فِيمَا نَعَاهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. وَلاَ يَخْتَلِفُ
مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ دِينَ الإِسْلاَمِ لاَزِمٌ لِلْكُفَّارِ لُزُومَهُ
لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ
كَمَا بُعِثَ إلَيْنَا، وَأَنَّ طَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هِيَ عَلَيْنَا
؟فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هِيَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ قلنا: صَدَقْتُمْ فَمَنْ أَتْلَفَ
مَالاً لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى الْجُعْفِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قِيلَ لَهُ: عُمَّالُك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ،
وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ فَقَالَ لَهُ بِلاَلٌ: إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ
فَقَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلُوا وَلُّوهُمْ هُمْ بَيْعَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، عَنْ [كِدَامٍ] الأَنْصَارِيِّ عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ بِلاَلاً قَالَ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ: إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي
الْخَرَاجِ فَقَالَ: لاَ تَأْخُذُوهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ أَنْتُمْ
بَيْعهَا وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَن.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّة فِيهِ لأََنَّ حَدِيثَ سُفْيَانَ وَهُوَ
الصَّحِيحُ لَيْسَ فِيهِ مَا زَادَ إسْرَائِيلُ وَإِنَّمَا فِيهِ "
وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ". وَهَذَا كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى} وَإِسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ
يُخَالِفُوا عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْ
الْمَجُوسِ وَنَهْيِهِ لَهُمْ، عَنِ الزَّمْزَمَةِ ثُمَّ يُقَلِّدُونَ هَاهُنَا
رِوَايَةً سَاقِطَةً مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ وَإِنْ كَانَتْ
الْخَمْرُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ الصَّلِيبَ وَالأَصْنَامَ عِنْدَهُمْ
أَجَلُّ مِنْ الْخَمْرِ، فَيَجِبُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَنْ يُضَمِّنُوا
مَنْ كَسَرَ لَهُمْ صَلِيبًا أَوْ صَنَمًا حَتَّى يُعِيدَهُ سَالِمًا صَحِيحًا
وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ نَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ
بِمَكَّةَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ،
وَالْخَنَازِيرِ "، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ
يُبِيحَ ثَمَنَ بَيْعٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَحِلُّ
مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ تُضْمَنُ
لَهُمْ؟ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
(8/148)
من
كسر حلية فضة في سرج أو لجام أو حلي ذهب لإمرأته أو لرجل يعده لأهله أو للبيع كلف
إعادته صحيحا
...
1267 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَسَرَ حِلْيَةَ فِضَّةٍ فِي سَرْجٍ، أَوْ لِجَامٍ،
أَوْ مَهَامِيزَ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ تَاجٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ حُلِيَّ
ذَهَبٍ لأَمْرَأَةٍ، أَوْ لِرَجُلٍ يُعِدُّهُ لأََهْلِهِ، أَوْ لِلْبَيْعِ:
كُلِّفَ إعَادَتَهُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ
لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، فَإِنْ تَرَاضَيَا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَا
بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَكْسُورًا: جَازَ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ مِثْلُ مَا
اعْتَدَى بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَّفِقَا مِنْ ذَلِكَ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ
عَلَى ذَهَبٍ، وَفِي حُلِيِّ الْفِضَّةِ عَلَى فِضَّةٍ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ
بِهِ مَا شَاءَ ; لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ بَيْعًا وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِدَاءٌ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْهِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/149)
كل
ما جني على العبد أو أمة أو بعير أو حمار فان في الخطأ في العبد والأمة خاصة وفي
غيرهما خطأ أو عمدا ما نفص من قيمته بالغا ما بلغ
...
1268 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ بَعِيرٍ،
أَوْ فَرَسٍ، أَوْ بَغْلٍ، أَوْ حِمَارٍ، أَوْ كَلْبٍ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، أَوْ
سِنَّوْرٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ إبِلٍ، أَوْ ظَبْيٍ، أَوْ كُلِّ
حَيَوَانٍ مُتَمَلَّكٍ فَإِنَّ فِي الْخَطَأِ فِي الْعَبْدِ وَفِي الأَمَةِ
[خَاصَّةً] وَفِي سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا خَطَأً أَوْ عَمْدًا مَا نَقَصَ مِنْ
قِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالأَمَةُ فَفِيمَا جَنَى عَلَيْهِمَا عَمْدًا الْقَوَدُ
وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِمَا. أَمَّا الْقَوَدُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
وَأَمَّا مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ فَلِلسَّيِّدِ فِيمَا اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ
مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأً اسْتَكْرَهَ أَمَةً فَقَتَلَهَا
لَكَانَ عَلَيْهِ الْغَرَامَةُ لِسَيِّدِهَا وَالْحَدُّ فِي زِنَائِهِ بِهَا،
وَلاَ يُبْطِلُ حَقٌّ حَقًّا، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَأَمَّا الْقَوَدُ بَيْنَ الْحُرِّ،
وَالْعَبْدِ فَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي "كِتَابِ
الْقِصَاصِ". وَأَمَّا مَا نَقَصَهُ فَلِلنَّاسِ هَاهُنَا اخْتِلاَفٌ،
وَكَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ وَقَوْلُنَا فِي الْحَيَوَانِ هُوَ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفة: كَذَلِكَ إِلاَّ فِي
الإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالْخَيْلِ خَاصَّةً فِي
عُيُونِهَا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ قَالَ فِي عَيْنِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا رُبْعُ
ثَمَنِهِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَثَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ
بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْضِ فِي الرَّأْسِ إِلاَّ فِي
ثَلاَثٍ: الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمُوضِحَةِ، وَالآمَّةِ وَفِي عَيْنِ الْفَرَسِ
بِرُبْعِ ثَمَنِهِ. وَبِرِوَايَةٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَمَعْمَرٍ قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ جَابِرٍ
الْجُعْفِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ لَهُ: قَالَ لِي عُمَرُ،
وَقَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا
أَنَّهُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ ثَمَنِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ
شُرَيْحٍ قَالَ: أَتَانِي عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بِأَنَّ فِي
عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعَ ثَمَنِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي
الْمُهَلَّبِ، عَنْ عُمَرَ فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعُ ثَمَنِهَا.
(8/149)
وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ ثَمَنِهَا.
قَالَ عَلِيٌّ: الرِّوَايَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ تَصِحُّ ;
لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُمَا مَجْهُولاَنِ. ثُمَّ لَيْسَ
فِيهِ إِلاَّ الْفَرَسُ فَلاَ هُمْ خَصُّوهُ كَمَا جَاءَ مَخْصُوصًا، وَلاَ هُمْ
قَاسُوا عَلَيْهِ جَمِيعَ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ. وَأَمَّا، عَنْ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ
رضي الله عنهما فَمَرَاسِيلُ كُلُّهَا، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِيهَا
حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم . وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي خِلاَفِ
عُمَرَ، وَعَلِيٍّ إذَا خَالَفَا أَبَا حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُمَا
آنِفًا مِنْ أَنَّهُمَا تَقَيَّآ مَا شَرِبَا إذْ عَلِمَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَتَبَ
عُمَرُ مَعَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ إلَى شُرَيْحٍ فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعُ
ثَمَنِهَا وَأَحَقُّ مَا صَدَقَ بِهِ الرَّجُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَنْتَفِيَ
مِنْ وَلَدِهِ أَوْ يَدَّعِيَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ
عَلِيًّا قَضَى فِي الْفَرَسِ تُصَابُ عَيْنُهُ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَضَى فِي عَيْنِ جَمَلٍ أُصِيبَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ثُمَّ نَظَرَ
إلَيْهِ بَعْدُ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ نَقَصَ مِنْ قُوتِهِ، وَلاَ هِدَايَتِهِ
فَقَضَى فِيهِ بِرُبْعِ ثَمَنِهِ. فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَعَلَ إحْدَى
قَضِيَّتَيْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، أَوْلَى مِنْ الأُُخْرَى وَهَلَّا أَخَذُوا
بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ فِي عَيْنِ الأَنِسَانِ
نِصْفَ ثَمَنِهِ، وَقَدْ أَضْعَفَ عُمَرُ عَلَى حَاطِبٍ قِيمَةَ النَّاقَةِ
الَّتِي انْتَحَرَهَا عَبِيدُهُ، وَجَاءَ بِذَلِكَ أَثَرٌ: كَمَا رُوِّينَا، عَنِ
ابْنِ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ " أَنَّ
رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَرَى
فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ قَالَ : هِيَ وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ ". فَهَذَا
خَبَرٌ أَصَحُّ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي عَيْنِ الْفَرَسِ رُبْعُ ثَمَنِهِ. وَأَصَحُّ
مِنْ خَبَرِهِمْ، عَنْ عُمَرَ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِتَقْلِيدِ الصَّاحِبِ،
وَأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذِهِ الآثَارِ، وَإِلَّا فَقَدْ
تَنَاقَضُوا.
وَأَمَّا مَا جُنِيَ عَلَى عَبْدٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، أَوْ عَلَى أَمَةٍ
كَذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَمَا قلنا: إنَّمَا فِيهِ لِلسَّيِّدِ مَا نَقَصَ مِنْ
ثَمَنِهِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.وَقَالَ قَوْمٌ: جِرَاحُ الْعَبْدِ مِنْ
ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، بَالِغًا ثَمَنُ الْعَبْدِ وَالأَمَةِ
مَا بَلَغَ، فَفِي عَيْنِ الْعَبْدِ نِصْفُ ثَمَنِهِ، وَلَوْ أَنَّ ثَمَنَهُ
أَلْفَا دِينَارٍ وَفِي عَيْنِ الأَمَةِ نِصْفُ ثَمَنِهَا وَلَوْ بَلَغَ عَشَرَةَ
آلاَفِ دِينَارٍ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الأَعْضَاءِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ قَالَ: جِرَاحَاتُ الْعَبِيدِ
(8/150)
فِي
أَثْمَانِهِمْ بِقَدْرِ جِرَاحَاتِ الأَحْرَارِ فِي دِيَاتِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ إِلاَّ أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: إنْ بَلَغَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ، أَوْ يَأْخُذَ مَا نَقَصَ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج،
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: وَعَقْلُ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ كَعَقْلِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إنَّ
رِجَالاً مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيَقُولُونَ: الْعَبِيدُ وَالإِمَاءُ سِلَعٌ، فَيَنْظُرُ
مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهِمْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلُنَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهِ مَا نَقَصَ إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ اسْتِهْلاَكًا كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ، أَوْ
الرِّجْلَيْنِ، أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ، فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ
يَأْخُذَ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْجَانِي
وَيَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا لَوْ كَانَتْ عَلَى
حُرٍّ لَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا أَسْلَمَهُ إلَى الْجَانِي، وَلاَ
بُدَّ، وَأَلْزَمَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ،
وَالشَّعْبِيِّ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: يُدْفَعُ إلَى الْجَانِي وَتَلْزَمُهُ
قِيمَتُهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَتَادَةَ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي
رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قَالَ: هُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِيمَنْ جَدَعَ أُذُنَ عَبْدٍ،
أَوْ أَنْفَهُ أَوْ أَشَلَّ يَدَهُ أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ وَيَغْرَمُ
لِصَاحِبِهِ مِثْلَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إنْ شَجَّ عَبْدًا، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ، فَقِيمَتُهُ كَمَا
أَفْسَدَهُ: وَرَأَى فِي مُوضِحَتِهِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ.
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: مَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَقِيمَتُهُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ
فَأَكْثَرَ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ، وَفِي الأَمَةِ قِيمَتُهَا كَذَلِكَ مَا لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ بَلَغَتْهَا فَلَيْسَ فِيهَا إِلاَّ خَمْسَةُ آلاَفِ
دِرْهَمٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَحْدَهُ: وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْ قِيمَتِهَا مِثْلُ مَا فِي
الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْشَ ذَلِكَ مِنْ
الْحُرِّ، أَنْقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
هَكَذَا جُمْلَةٌ. ثُمَّ رَجَعَ، عَنِ الأُُذُنِ وَالْحَاجِبِ خَاصَّةً فَقَالَ:
فِيهِمَا مَا نَقْصُهُمَا فَقَطْ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُسْتَهْلَكَةً
فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إمْسَاكُهُ، كَمَا هُوَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ إسْلاَمُهُ
وَأَخَذَ مَا كَانَ يَأْخُذُ لَوْ قُتِلَ خَطَأً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي
قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً وَالْجِنَايَةِ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ
(8/151)
مَا
بَلَغَتْ وَلَوْ تَجَاوَزَتْ دِيَاتٍ وَوَافَقَهُ مُحَمَّدٌ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ. وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ فِي الْجِنَايَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ عَلَى
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ
أَمْسَكَهُ أَخَذَ قِيمَةَ مَا نَقَصْته الْجِنَايَةُ الْمُسْتَهْلَكَةُ. وَقَدْ
رُوِيَ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ خَاصَّةً مِثْلُ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَاجِبُ، وَالأُُذُنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ. وَرُوِيَ، عَنْ زُفَرَ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ مَرَّةً مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الآخِرِ، وَمَرَّةً مِثْلُ قَوْلِهِ
الأَوَّلِ، وَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ فِي النَّفْسِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي قِيمَتِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ فِي
دِيَتِهِ إِلاَّ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ
فَصَاعِدًا أَوْ تَبْلُغَ قِيمَةُ الأَمَةِ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا
فَلاَ تَبْلُغُ بِأَرْشِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ مِقْدَارَهَا مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ،
أَوْ الْحُرَّةِ، لَكِنْ يَحُطُّ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتَهَا مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
فِي الْعَبْدِ، وَحِصَّتَهَا مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِي الأَمَةِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ قَطْعَ أُذُنٍ فَبَرِئَ، أَوْ نَتْفَ حَاجِبٍ فَبَرِئَ، وَلَمْ يَنْبُتْ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا نَقَصَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَإِنْ
بَلَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى حُرٍّ لَوَجَبَتْ
فِيهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إمْسَاكُهُ كَمَا هُوَ، وَلاَ
شَيْءَ لَهُ أَوْ إسْلاَمُهُ إلَى الْجَانِي وَأَخْذُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ مَا لَمْ
يَبْلُغْ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ عَشَرَةُ
آلاَفٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِي الأَمَةِ نِصْفُ ذَلِكَ.
وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ إنْ فَقَأَ عَيْنَ أَمَةٍ تُسَاوِي خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَى مِائَةِ أَلْفِ فَأَكْثَرَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ
إِلاَّ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ.
وَإِنْ فَقَأَ عَيْنَ عَبْدٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ آلاَفٍ فَمَا زَادَ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إِلاَّ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَهَكَذَا
فِي سَائِرِ الْجِرَاحَاتِ. فَلَوْ سَاوَتْ الأَمَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ،
وَالْعَبْدُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ إِلاَّ
خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَقَطْ، وَفِي عَيْنِ الأَمَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَطْ،
وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي سَائِرِ الْقِيَمِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: إنَّ
مُنَقِّلَةَ الْعَبْدِ، وَمَأْمُومَتَهُ، وَجَائِفَتَهُ، وَمُوضِحَتَهُ مِنْ
ثَمَنِهِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ فَهِيَ مِنْ الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ: فَفِي
مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهِ وَلَوْ أَنَّهُ أَلْفُ أَلْفِ
دِرْهَمٍ. وَفِي مُنَقِّلَتِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ كَذَلِكَ وَنِصْفُ عُشْرِ
قِيمَتِهِ كَذَلِكَ. وَفِي جَائِفَتِهِ، وَمَأْمُومَتِهِ ثُلْثُ ثَمَنِهِ بَالِغٌ
مَا بَلَغَ. وَأَمَّا سَائِرُ الْجِرَاحَاتِ، وَقَطْعُ الأَعْضَاءِ فَإِنَّمَا
فِيهِ مَا نَقَصَهُ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ
أَيْضًا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَيْ عَبْدٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ أُعْتِقَ
عَلَيْهِ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ كَامِلَةً لِسَيِّدِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ: مِنْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ
فَعَلَيْهِ
(8/152)
قِيمَتُهُ
كُلُّهَا لِسَيِّدِهِ، وَيَبْقَى الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ سَوَاءٌ زَادَ ذَلِكَ فِي
قِيمَتِهِ أَوْ نَقَصَ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ: جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي قِيمَتِهِ كَجِرَاحِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ: فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ،
وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ، لَكِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى
الْحُرِّ; لأََنَّهُ إنْسَانٌ مِثْلُهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ
الْبَاطِلِ; لأََنَّ كَثِيرًا مِنْ دِيَاتِ أَعْضَاءِ الْحُرِّ مُؤَقَّتٌ لاَ
زِيَادَةَ فِيهَا، وَلاَ نَقْصَ. وَقَدْ وَافَقْنَا مَنْ خَالَفْنَا هَاهُنَا
عَلَى أَنَّ دِيَةَ أَعْضَاءِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ لاَ خِلاَفَ فِي
ذَلِكَ، إذْ قَدْ يُسَاوِي الْعَبْدُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَتَكُونُ دِيَةُ
عَيْنِهِ عِنْدَهُمْ عَشْرَ دَنَانِيرَ. وَتُسَاوِي الأَمَةُ خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَتَكُونُ دِيَةُ عَيْنِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ
غَيْرَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ تَكُونُ دِيَةُ عَيْنِهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ
عَشَرَةَ آلاَفِ دِينَارٍ، فَقَدْ أَصْفَقُوا عَلَى أَنَّ الدِّيَاتِ فِي ذَلِكَ
غَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَعَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ دِيَةِ عُضْوِ الْمَرْأَةِ عَلَى
دِيَةِ عُضْوِ الرَّجُلِ، بِخِلاَفِ الأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فَقَدْ ظَهَرَ
فَسَادُ قِيَاسِهِمْ جُمْلَةً بِهَذِهِ الدَّلاَئِلِ وَبِغَيْرِهَا أَيْضًا
فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ:
يُسَلِّمُهُ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ، فَوَجَدْنَاهُ أَيْضًا غَيْرَ صَحِيحٍ;
لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ إخْرَاجُ مَالٍ، عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ إلَى غَيْرِهِ
بِغَيْرِ تَرَاضٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلَمْ يَأْتِ
بِهَذَا هَاهُنَا نَصٌّ أَصْلاً، فَسَقَطَ أَيْضًا جُمْلَةً. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي
قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَوَجَدْنَاهُمَا أَشَدَّ الأَقْوَالِ
فَسَادًا ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهُ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ أَصْلاً، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ
لَهُ وَجْهٌ، بَلْ مَا نَعْرِفُ هَذَيْنِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَئِمَّةِ قَبْلَ
هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَظُلْمٌ بَيِّنٌ لاَ
خَفَاءَ بِهِ أَنْ يَكُونَ يَقْطَعُ يَدَ جَارِيَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلاَفِ
دِينَارٍ فَلاَ يَقْضِي لِصَاحِبِهَا إِلاَّ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ
دِينَارًا غَيْرَ مَا تُسَاوِي مِنْ الذَّهَبِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَيَكُونُ
تُغْصَبُ لَهُ خَادِمٌ أُخْرَى قِيمَتُهَا أَلْفُ دِينَارٍ فَتَمُوتُ عِنْدَ
الْغَاصِبِ فَيَغْرَمُ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ كَامِلَةً، عَلَى هَذَا الْحُكْمِ
الدِّثَارُ وَالدَّمَارُ وَنَحْنُ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ فِي
الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: فَتَقْسِيمٌ
فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلَوْ عُكِسَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ مَا تَخَلَّصُوا مِنْهُ
لَوْ قِيلَ لَهُمْ: بَلْ فِي الْمُنَقِّلَةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَالْمَأْمُومَةِ:
مَا نَقَصَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا سَائِرُ الْجِرَاحَاتِ فَمِنْ ثَمَنِهِ بِقَدْرِهَا
مِنْ الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لاَ يَشْتَغِلُ بِهِ إِلاَّ
مَحْرُومٌ. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ جِرَاحَاتٌ
يُشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَتْلَفَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْرَأَ،
وَلاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، وَلاَ ضَرَرٌ .فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَاجْعَلُوا هَذَا
دَلِيلَكُمْ
(8/153)
فِي
أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا إِلاَّ مَا نَقَصَ فَقَطْ.
قال أبو محمد: وَالْحُكْمُ عَلَى الْجَانِي بِمَا نَقَصَ فِيمَا جَنَاهُ عَلَى
الْعَبْدِ مِنْ خِصَاءٍ، أَوْ مَأْمُومَةٍ، أَوْ جَائِفَةٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ،
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ الْجِنَايَاتِ إنَّمَا يَكُونُ
بِأَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا، ثُمَّ يُقَوَّمَ فِي أَصْعَبِ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ
حَالُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَأَشَدِّ مَا كَانَ مِنْهَا مَرَضًا وَضَعْفًا
وَخَوْفًا عَلَيْهِ، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ بِهِ
صِحَّةٌ، وَلاَ تَخَفُّفٌ أَصْلاً ; لأََنَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ
فِي تَأْثِيرِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ الْجَانِي عَلَيْهِ فِي كُلِّ تِلْكَ
الأَحْوَالِ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْهَا مَا نَقَصَ بِجِنَايَتِهِ مِنْ
مَالِ سَيِّدِهِ بِلاَ شَكٍّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ، أَوْ الأَمَةُ وَصَحَّا، وَزَادَتْ تِلْكَ الْجِنَايَاتُ
فِي أَثْمَانِهِمَا، كَالْخِصَاءِ فِي الْعَبْدِ، أَوْ قَطْعِ إصْبَعٍ زَائِدَةٍ;
أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّيِّدِ، وَلاَ
رُجُوعَ لِلْجَانِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِمَّا غَرِمَ. وَكَذَلِكَ لَوْ
لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا حَتَّى صَحَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ بُدَّ; لأََنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ أَدَاءُ مِثْلِ مَا
اعْتَدَى فِيهِ، فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِبُرْءِ الْجِنَايَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ
قَطَعَ شَجَرَةً لأَِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا سَوَاءٌ نَبَتَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ وَنَمَتْ أَوْ لَمْ تَنْبُتْ، وَلاَ نَمَتْ، لِمَا ذَكَرْنَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا إنْ قَتَلَ الْمَرْءُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ أَوْ أَمَةً عَمْدًا أَوْ
خَطَأً، فَقِيمَتُهُمَا، وَلاَ بُدَّ لِسَيِّدِهِمَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِمَا
ذَكَرْنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَبْدًا قُتِلَ
خَطَأً وَكَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
دِيَتَهُ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ. وَصَحَّ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، قَالاَ
جَمِيعًا: لاَ يَبْلُغُ بِدِيَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ. وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا، عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.وَبِهِ
يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: يَنْقُصُ مِنْهَا الدِّرْهَمُ وَنَحْوُهُ،
وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ يَتَجَاوَزُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ
حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَزُفَرُ، وَمُحَمَّدٌ: إنْ
كَانَ عَبْدًا فَقِيمَتُهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ
بَلَغَهَا أَوْ تَجَاوَزَهَا بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَغْرَمْ قَاتِلُهُ
إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَإِنْ كَانَتْ
أَمَةً فَقِيمَتُهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ
بَلَغَتْهَا أَوْ تَجَاوَزَتْهَا بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَغْرَمْ
قَاتِلُهَا إِلاَّ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: يَغْرَمُ الْقِيمَةَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: وَابْنِ
مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ قَالُوا: ثَمَنُهُ وَإِنْ خَالَفَ دِيَةَ الْحُرِّ وَصَحَّ
هَذَا أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ
وَالزُّهْرِيِّ.
(8/154)
وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَطَاءٍ
وَمَكْحُولٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ لأََنَّهُ
حَدَّ مَا يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ بِحَدٍّ لاَ يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ رَأْيِهِ الْفَاسِدِ. وَقَالَ مُقَلِّدُوهُ: يَنْقُصُ مِنْ
ذَلِكَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ثُمَّ قَدْ
تَنَاقَضْتُمْ فَأَسْقَطْتُمْ مِنْ دِيَةِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ
تُقْطَعُ فِيهَا الْيَدُ فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ مَا أَصَّلْتُمْ
مِنْ كَثَبٍ. ثم نقول لَهُمْ: وَهَلَّا نَقَصْتُمْ مِنْ الدِّيَةِ مَا نَقَصْتُمْ
مِنْ الأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فِي جَعْلِ الآبِقِ إذَا كَانَ يُسَاوِيهَا وَهَلَّا
نَقَصْتُمْ مِنْ الدِّيَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهَلْ هَذَا إِلاَّ
رَأْيٌ زَائِفٌ مُجَرَّدٌ وَكُلُّ قَوْلٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلاً،
وَلاَ كَانَ لَهُ سَلَفٌ فَأَوْلَى قَوْلٍ بِالأَطِّرَاحِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي
قَوْلِ مَنْ قَالَ: لاَ يَبْلُغُ بِدِيَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ:
فَوَجَدْنَاهُ قَوْلاً فَاسِدًا لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ هُمْ يَتَنَاقَضُونَ،
فَيَقُولُونَ: فِيمَنْ قَتَلَ كَلْبًا يُسَاوِي أَلْفَيْ دِينَارٍ أَنَّهُ يُعْطِي
أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَإِنْ عَقَرَ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ
أَدَّى إلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِنْ قَتَلَ نَصْرَانِيًّا يَجْعَلُ لِلَّهِ
تَعَالَى الْوَلَدَ وَأُمَّ الْوَلَدِ أَنَّهُ يُعْطِي فِيهِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ
فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَيَبْلُغُ كَلْبٌ، وَخِنْزِيرٌ، وَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ
الْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ: دِيَةَ الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِلاَلٌ لَوْ
قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ دِيَةَ مُسْلِمٍ نَعَمْ، وَلاَ دِيَةَ كَافِرٍ
يَعْبُدُ الصَّلِيبَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ
الْيَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ. ثُمَّ قَدْ
تَنَاقَضُوا فَقَالُوا: مَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ عِنْدَهُ وَقِيمَتُهُ
عَشَرَةُ آلاَفِ دِينَارٍ أَدَّى عَشَرَةَ آلاَفِ دِينَارٍ فَهَلْ سُمِعَ
بِأَسْخَفَ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ ثُمَّ قَدْ جَعَلُوا دِيَةَ الْعَبْدِ عَشَرَةَ
آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ أَوْ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَتَجَاوَزُوا
بِهَا دِيَةَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَهَذِهِ وَسَاوِسُ يُغْنِي ذِكْرُهَا،
عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَا ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي
الله عنهم فِي ذَلِكَ فَخَالَفُوهُمَا. وَقَدْ جَسَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: قَدْ
أُجْمِعَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ
.فَقُلْنَا: كَذَبْت وَأَفَكْت هَذَا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ
لِعُثْمَانَ رضي الله عنه وَأَمِيرُ الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ لِمُعَاوِيَةَ، لاَ
يَتَجَاوَزُ بِدِيَةِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
قال أبو محمد: وَالْعَبْدُ، وَالأَمَةُ مَالٌ، فَعَلَى مُتْلِفِهِمَا مِثْلُ مَا
تَعَدَّى فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا
جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ فَفِي مَالِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
(8/155)
لَهُ
مَالٌ فَفِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَالٌ فِي رِقِّهِ أَوْ
بَعْدَ عِتْقِهِ، وَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِهِ فِدَاؤُهُ وَلاَ بِمَا قَلَّ، وَلاَ
بِمَا كَثُرَ، وَلاَ إسْلاَمُهُ فِي جِنَايَتِهِ، وَلاَ بَيْعُهُ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ
الْمَأْذُونِ، وَغَيْرِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ، الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فِي كُلِّ
ذَلِكَ سَوَاءٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُؤْخَذَ
أَحَدٌ بِجَرِيرَةِ أَحَدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَقَالَ تَعَالَى {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَالْعَبْدُ مَالٌ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ ثَمَنُهُ.وَكَذَلِكَ
سَائِرُ مَالِ السَّيِّدِ، فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا هَاهُنَا بِأَيِّ كِتَابِ
اللَّهِ، أَمْ بِأَيِّ سَنَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
اسْتَحْلَلْتُمْ إبَاحَةَ مَالِ السَّيِّدِ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْنِ شَيْئًا
وَلَعَلَّهُ صَغِيرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ غَائِبٌ فِي أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ
نَائِمٌ، أَوْ فِي صَلاَةٍ، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ عَجِيبٌ!.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مَرْوَانَ الْفَزَارِيّ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانَ الْيَمَامِيِّ عَنْ نِمْرَانَ
بْنِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ مَمْلُوكًا قَطَعَ يَدَ
رَجُلٍ ثُمَّ لَقِيَ آخَرَ فَشَجَّهُ فَاخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَبْدَ إلَى
الْمَقْطُوعِ يَدُهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ فَدَفَعَهُ إلَى الْمَشْجُوجِ،
فَصَارَ لَهُ وَرَجَعَ سَيِّدُ الْعَبْدِ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ بِلاَ شَيْءٍ .
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لأََنَّ دَهْثَمَ بْنَ قُرَّانَ ضَعِيفٌ
مُتَّفَقٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِهِ وَنِمْرَانُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ
يَجُزْ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا سَبَقُونَا إلَى الأَخْذِ بِهِ، وَقَدْ
ادَّعَى بَعْضُ مَنْ لاَ يُبَالِي بِالْكَذِبِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلاَمِ
الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ، وَقَدْ كَذَبَ هَذَا
الْجَاهِلُ وَأَفِكَ، مَا جَاءَ فِي هَذَا [الْخَبَرِ ]، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي عِلْمِنَا إِلاَّ مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا فَاتَنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ
ثَابِتٌ أَصْلاً، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَفُتْنَا أَيْضًا مَعْلُولٌ: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ
حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
عَنِ الْحَارِثِ هُوَ الأَعْوَرُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" مَا جَنَى الْعَبْدُ فَفِي
رَقَبَتِهِ، وَيَتَخَيَّرُ مَوْلاَهُ إنْ شَاءَ فَدَاهُ وَإِنْ شَاءَ
دَفَعَهُ". وَهَذِهِ فَضِيحَةُ الْحَجَّاجِ، وَالْحَارِثِ الأَعْوَرِ،
أَحَدُهُمَا كَانَ يَكْفِي. وَقَدْ خَالَفُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي
إسْلاَمِهِ الشَّاةَ إلَى أَوْلِيَاءِ الَّتِي نُطِحَتْ فَغَرِقَتْ فِي
الْفُرَاتِ، فَمَا الَّذِي جَعَلَ حُكْمَهُ هُنَالِكَ أَوْلَى مِنْ حُكْمِهِ
هَاهُنَا لَوْ صَحَّ عَنْهُ فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ نَعَمْ، وَقَدْ خَالَفُوا
عَلِيًّا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا جَنَى
الْعَبْدُ مِنْ دَمٍ
(8/156)
عَمْدًا
فَلَيْسَ فِي رَقَبَتِهِ وَلاَ يَفْدِيه سَيِّدُهُ وَلاَ يَدْفَعُهُ إنَّمَا هُوَ
الْقَوَدُ أَوْ الْعَفْوُ أَوْ مَا تَصَالَحُوا عَلَيْهِ. وَمَالِكٌ يَقُولُ:
جِنَايَةُ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى سَيِّدِهِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لاَ يَلْزَمُ
السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَ عَبْدَهُ وَلاَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لَكِنْ يُبَاعُ فِي
جِنَايَتِهِ فَقَطْ.
وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً
لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
فَأَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ
لِحَاطِبٍ: إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ لاَُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك
ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِك قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ
قَالَ: فَأَعْطِهِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي
هَذَا. فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ حُكْمِهِ فِي قَضِيَّةٍ
وَاحِدَةٍ حَقًّا وَبَعْضُهُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا بَاطِلاً، إنَّ
هَذَا لَهُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ. وَرِوَايَةٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ الأَعْوَرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ: جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلاَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ ;
لأََنَّ السَّلُولِيَّ الأَعْوَرَ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى. ثُمَّ قَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَمَالِكٌ يَقُولُ: لاَ
يَغْرَمُ عَنْهُ سَيِّدُهُ مَا جَنَى، وَلاَ يَدْفَعُهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ
أَنْ يُسْتَخْدَمَ فِي جِنَايَتِهِ فَقَطْ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ
أَيْضًا فِيمَا جَنَى فِي الأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، فَهُمْ
أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، فَمَنْ أَقَلُّ حَيَاءً مِمَّنْ يَجْعَلُ
مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا ثُمَّ لاَ يَرَى صَوَابًا فَكَيْفَ سُنَّةً فَكَيْفَ
إجْمَاعًا دَفْعَهُمْ كُلَّهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِخَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ تَمْرٍ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، لَكِنْ
يُقِرُّونَهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ، وَيُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا مُدَّةَ
حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مُدَّةَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ مُدَّةَ
عُمَرَ رضي الله عنهما لاَ أَحَدَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَأَيُّ عَجَبٍ أَعْجَبُ
مِنْ هَذَا، وَلاَ يَرَى أَيْضًا آخِرَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَلَمْ
يَخْفَ ذَلِكَ عَمَّنْ غَابَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَدَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالصَّلاَةِ
بِهِمْ صَوَابًا، وَلاَ سُنَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا.
قال أبو محمد: ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُبَاعُ
الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي دِيَتِهِ وَلاَ يُسَلَّمُ وَلاَ يَفْدِيه
سَيِّدُهُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فَهُوَ الَّذِي يُبَاعُ أَوْ يُسَلَّمُ
أَوْ يُفْدَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُبَاعُ الْمَأْذُونُ وَلاَ غَيْرُ
الْمَأْذُونِ فِي دَيْنٍ وَلاَ يُسَلَّمُ وَلاَ يُفْدَى وَأَمَّا جِنَايَتُهُمَا
فَيُبَاعَانِ فِيهِمَا أَوْ يُسَلَّمَانِ أَوْ يُفْدَيَانِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْمَأْذُونُ وَغَيْرُ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ، وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ سَوَاءٌ،
كِلاَهُمَا يُبَاعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ يُسَلِّمُهُ سَيِّدُهُ أَوْ يَفْدِيه.
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ كَمَا تَرَوْنَهَا
(8/157)
مَا
نَحْتَاجُ فِي رَدِّهَا إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهَا; لأََنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ
تُخَطِّئُ الأُُخْرَى، وَتُبْطِلُ قَوْلَهَا وَكُلُّهَا بَاطِلٌ. وقال أبو حنيفة،
وَأَصْحَابُهُ: إنْ قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا فَلَيْسَ إِلاَّ الْقَوَدُ أَوْ
الْعَفْوُ، وَهُوَ لِسَيِّدِهِ كَمَا كَانَ، إنْ عَفَا عَنْهُ وَكَذَلِكَ
الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ. قَالُوا: فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ
عَبْدًا خَطَأً، أَوْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ
عَمْدًا أَوْ خَطَأً قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أَوْ كَثُرَتْ كُلِّفَ سَيِّدُهُ أَنْ
يَدْفَعَهُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى وَلِيِّهِ كَثُرَ الْمَجْنِيُّ
عَلَيْهِمْ أَمْ قَلُّوا أَوْ يَفْدِيه بِجَمِيعِ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ. قَالُوا:
فَإِنْ جَنَى فِي مَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى السَّيِّدِ إِلاَّ أَنْ
يُبَاعَ فِي جِنَايَتِهِ فَإِنْ وَفَّى ثَمَنُهُ بِالْجِنَايَاتِ فَذَلِكَ، وَإِنْ
لَمْ يَفِ بِهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ، وَلاَ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ
فَضَلَ فَضْلٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ. قَالُوا: فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ فَقَتَلَ
خَطَأً، أَوْ جَنَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَلَى سَيِّدِهِ الأَقَلُّ مِنْ
قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَوْ الدِّيَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ
ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْجِنَايَةِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ
فَصَاعِدًا، فَلاَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِلاَّ عَشَرَةُ آلاَفٍ غَيْرَ عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ، فَإِنْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَلاَ شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ، لَكِنْ
يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
أَوَّلاً فَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَخَذَ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَهَكَذَا أُمُّ
الْوَلَدِ فِي جِنَايَتِهَا فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وقال أبو
حنيفة: فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ عَلَى مَالٍ فَعَلَيْهِمَا
السَّعْيُ فِي قِيمَةِ مَا جَنَيَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَى سَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ.
قال أبو محمد: هَذَا الْفَصْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ سَائِرُ جِنَايَاتِهِمَا، وَجِنَايَاتِ الْعَبِيدِ، وَلاَ فَرْقَ،
وَهَذِهِ تَفَارِيقُ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ
ادَّعَى مُدَّعٍ فِي هَذِهِ التَّخَالِيطِ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ لَمَا بَعُدَ، عَنِ
الصِّدْقِ. وَقَالُوا: إنْ جَنَى الْمُكَاتَبُ فَقَتَلَ خَطَأً، أَوْ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مِنْ
أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ جَنَى فِي
مَالٍ: سَعَى فِي قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وقال مالك: جِنَايَةُ
الْعَبْدِ فِي الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَالٌ
فَكُلُّ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِقَدْرِ الْمَالِ أَوْ
يَدْفَعَهُ، فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ فَفِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ
اُسْتُخْدِمَ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ فَعَلَى سَيِّدِهَا
أَنْ يَفْدِيَهَا بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ
فَقَطْ، ثُمَّ كُلَّمَا جَنَتْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ
جَنَى الْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ كُلِّفَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَرْشَ مَا جَنَى، فَإِنْ
عَجَزَ أَوْ أَبَى رُقَّ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْعَبِيدِ.
وَهَذِهِ تَفَارِيقُ لاَ تُحْفَظُ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَبْلَهُ،
وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ عَلَيْهَا لَمَا بَعُدَ عَنِ
الصِّدْقِ إِلاَّ قَوْلُهُ: إنَّ الْجِنَايَاتِ فِي مَالِ الْعَبْدِ
وَالْمُدَبَّرِ فَهُوَ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وقال
الشافعي: كُلُّ مَا جَنَى الْمُدَبَّرُ، وَالْعَبْدُ مِنْ دَمٍ، أَوْ فِي مَالٍ
أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ
(8/158)
فَإِنَّمَا
يَلْزَمُ السَّيِّدَ بَيْعُهُ فِيهَا فَقَطْ فَإِنْ وَفَّى فَذَلِكَ فَإِنْ فَضَلَ
فَضْلٌ فَلِلسَّيِّدِ وَإِنْ لَمْ يَفِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى
الْعَبْدِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ وَلاَ أَنْ
يَفْدِيَهُ. فَإِنْ جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ فِدَاهَا سَيِّدُهَا بِالأَقَلِّ مِنْ
قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ جَنَتْ ثَانِيَةً فَقَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يَفْدِيهَا أَيْضًا، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ
الآخَرُ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَخَذَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى
السَّيِّدِ وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَكُلُّ
هَذِهِ الأَقْوَالِ لَيْسَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ
صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. فَإِنْ مَوَّهُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ مَالَ
لَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ شَيْئًا قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، بَلْ يَمْلِكُ كَمَا يَمْلِكُ
الْحُرُّ، وَلَكِنْ هَبْكُمْ الآنَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ كَمَا تَدَّعُونَ
عُدُّوهُ فَقِيرًا، وَأَتْبِعُوهُ بِهِ إذَا مَلَكَ يَوْمًا مَا كَمَا يُتْبَعُ
الْفَقِيرُ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَقَدْ
وَعَدَهُمْ اللَّهُ أَوْ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِالْغِنَى، فَانْتَظَرُوا بِهِمْ
ذَلِكَ الْغِنَى، فَكَيْفَ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِ الْعَبْدِ
ظَاهِرَةٌ؟ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: وَيُقَادُ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ الْمَمْلُوكِ فِي كُلِّ
عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحِ، فَإِنْ اصْطَلَحُوا
عَلَى الْعَقْلِ فَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ أَوْ الْجَارِحِ.
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلُنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ، وَبَيَانُ هَذَا
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَرَى الْعَبْدَ مَالِكًا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ أُخِذَ عَبْدٌ
أَسْوَدُ آبِقٌ قَدْ عَدَا عَلَى رَجُلٍ فَشَجَّهُ لِيَذْهَبَ بِرَقَبَتِهِ، فَرُفِعَ
ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ يَرَ لَهُ شَيْئًا. وَهَذَا
قَوْلُنَا: وَقَدْ جَاءَ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ " أَنَّ
غُلاَمًا لأَُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلاَمٍ لأَُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ
فَأَتَى أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَلَيْهِ شَيْئًا .
قال أبو محمد: لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَلاَ بَاعَهُ، وَلاَ أَلْزَمَهُ مَالاً
يَمْلِكُهُ، وَلاَ أَلْزَمَ سَادَاتِهِ فِدَاءَهُ وَهَذَا قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. تَمَّ " كِتَابُ الْغَصْبِ وَالأَسْتِحْقَاقِ
وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الأَمْوَالِ ".
(8/159)
كتاب
الصلح
لا يحل الصلح البتة على الانكار ولا على السكوت الذي لا انكار معه ولا اقرار ولا
على اسقاط يمين قد وجبت
...
بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الصُّلْحِ
1269 – مَسْأَلَةٌ- لاَ يَحِلُّ الصُّلْحُ أَلْبَتَّةَ عَلَى الإِنْكَارِ، وَلاَ
عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إنْكَارَ مَعَهُ، وَلاَ إقْرَارَ، وَلاَ عَلَى
إسْقَاطِ يَمِينٍ قَدْ وَجَبَتْ، وَلاَ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ مُقِرٌّ عَلَى
غَيْرِهِ
(8/160)
وَذَلِكَ
الَّذِي صُولِحَ عَنْهُ مُنْكِرٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الإِقْرَارِ
بِالْحَقِّ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِلاَّ أَنَّهُ جَوَّزَ
الصُّلْحَ عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إقْرَارَ مَعَهُ، وَلاَ إنْكَارَ. وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ جَوَّزَ الصُّلْحَ عَلَى إسْقَاطِ
الْيَمِينِ، وَأَنْ يُقِرَّ إنْسَانٌ، عَنْ غَيْرِهِ وَيُصَالِحَ عَنْهُ بِغَيْرِ
أَمْرِهِ وَهَذَا نَقْضٌ لأََصْلِهِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
إِلاَّ أَنَّهُ جَوَّزَ الصُّلْحَ عَلَى إسْقَاطِ الْيَمِينِ وَهَذَا نَقْضٌ
لأََصْلِهِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى
رَجُلٍ حَقٌّ فَصَالَحَهُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ فَخَاصَمَهُ إلَى شُرَيْحٍ،
فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: شَاهِدَانِ ذَوَا عَدْلٍ أَنَّهُ تَرَكَهُ وَلَوْ شَاءَ
أَدَّيْتَهُ إلَيْهِ. فَهَذَا شُرَيْحٌ لَمْ يُجِزْ الصُّلْحَ إِلاَّ مَعَ
قُدْرَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِأَدَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ إلَيْهِ حَقَّهُ، وَفَسْخِهِ إنْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٌ قَالَ:
أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ، عَنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهَا مَا تَرَكَ
زَوْجُهَا، فَتِلْكَ الرِّيبَةُ كُلُّهَا. وَهَذَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ
يَجُزْ الصُّلْحُ إِلاَّ عَلَى إقْرَارٍ بِمَعْلُومٍ. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ:
الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ وَعَلَى السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إقْرَارَ مَعَهُ
وَلاَ إنْكَارَ جَائِزٌ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ
مَالٍ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ صَاحِبِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُبِيحَهُ
لِغَيْرِهِ إِلاَّ حَيْثُ أَبَاحَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ إخْرَاجَهُ، أَوْ
أَوْجَبَا إخْرَاجَهُ. وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى شَيْءٍ
مِمَّا ذَكَرْنَا. وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا
بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى
هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ
ابْنِي بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ
فَقَالُوا: إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا
الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لاََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ، وَالْغَنَمُ
فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْخَبَرِ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّلْحَ
الْمَذْكُورَ وَفَسَخَهُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُجِيزُونَ لِلصُّلْحِ عَلَى
الإِنْكَارِ وَعَلَى سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ
(8/161)
طَرِيقِ
كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كِلاَهُمَا
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً
وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ". وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
إلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ
صُلْحًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا. وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طُرُقٍ
كَثِيرَةٍ مِنْهَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ، وَهُشَيْمٍ،
وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: أُتِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي شَيْءٍ فَقَالَ:
إنَّهُ لَجَوْرٌ، وَلَوْ لاَ أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْته. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} قَالُوا: وَالصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ تِجَارَةٌ، عَنْ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ كُلُّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} : و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
فَالْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ
مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ كِلْتَا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لَيْسَتَا عَلَى
عُمُومِهِمَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ قَطُّ كُلَّ صُلْحٍ، وَلاَ
كُلَّ عَقْدٍ، وَأَنَّ امْرَأً لَوْ صَالَحَ عَلَى إبَاحَةِ فَرْجِهِ، أَوْ فَرْجِ
امْرَأَتِهِ، أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ عَلَى تَرْكِ
صَلاَةٍ، أَوْ عَلَى إرْقَاقِ حُرٍّ، أَوْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ هَذَا
لَكَانَ هَذَا صُلْحًا بَاطِلاً لاَ يَحِلُّ، وَعَقْدًا فَاسِدًا مَرْدُودًا،
فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ يَكُونُ صُلْحٌ، وَلاَ عَقْدٌ يَجُوزُ
إمْضَاؤُهُمَا، إِلاَّ صُلْحٌ، أَوْ عَقْدٌ: شَهِدَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ
بِجَوَازِهِمَا. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَكِنْ كُلُّ صُلْحٍ وَكُلُّ عَقْدٍ فَلاَزِمَانِ
إِلاَّ صُلْحًا أَوْ عَقْدًا جَاءَ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ بِإِبْطَالِهِمَا
قلنا: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالطَّاعَةِ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عليه السلام:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ". فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فَحُكْمُهُ
الإِبْطَالُ، إِلاَّ شَرْطًا جَاءَ بِإِبَاحَتِهِ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ،
وَكُلُّ عَقْدٍ، وَكُلُّ صُلْحٍ فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ شَرْطٌ، فَحُكْمُهُمَا
الإِبْطَالُ أَبَدًا حَتَّى يُصَحِّحَهُمَا قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي السُّنَّةِ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ عَلَى الإِنْكَارِ، وَلاَ
عَلَى السُّكُوتِ، وَلاَ عَلَى إسْقَاطِ الْيَمِينِ، وَلاَ صُلْحِ إنْسَانٍ، عَنْ
مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَلاَ إقْرَارِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَبَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الصُّلْحِ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَلاَمُ عُمَرَ رضي
الله عنه فَكِلاَهُمَا لاَ يَجُوزُ
(8/162)
الْحُكْمُ بِهِ أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَاقِطَةٌ لأََنَّهُ انْفَرَدَ بِهَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ سَاقِطٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اطِّرَاحِهِ وَأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ لاَ تَحِلُّ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ فَانْفَرَدَ بِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ وَكِلاَهُمَا لاَ شَيْءَ، ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَكَانَا حُجَّةً لَنَا; لأََنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإِنْكَارِ وَعَلَى السُّكُوتِ لاَ يَخْلُو ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ طَالِبَ حَقٍّ وَالْمَطْلُوبُ مَانِعُ حَقٍّ أَوْ مُمَاطِلاً لِحَقٍّ أَوْ يَكُونَ الطَّالِبُ طَالِبَ بَاطِلٍ وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مُحِقًّا فَحَرَامٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَقَّهُ أَوْ أَنْ يَمْطُلَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْصَافِهِ حَتَّى يَضْطَرَّهُ إلَى إسْقَاطِهِ بَعْضَ حَقِّهِ أَوْ أَخْذِ غَيْرِ حَقِّهِ فَالْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أَكَلَ مَالَ الطَّالِبِ بِالْبَاطِلِ وَبِالظُّلْمِ وَالْمَطْلِ وَالْكَذِبِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مُبْطِلاً فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِالْبَاطِلِ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالطَّالِبُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ: أَكَلَ مَالَ الْمَطْلُوبِ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَهَذَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَلَعَمْرِي إنَّنَا لَيَطُولُ عَجَبُنَا كَيْفَ خَفِيَ هَذَا الَّذِي هُوَ أَشْهُرُ مِنْ الشَّمْسِ عَلَى مَنْ أَجَازَ الصُّلْحَ بِغَيْرِ الإِقْرَارِ إذْ لاَ بُدَّ فِيهِ ضَرُورَةً مِنْ أَكْلِ مَالٍ مُحَرَّمٍ بِالْبَاطِلِ لأََحَدِ الْمُتَصَالِحَيْنِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْيَمِينِ فَلاَ تَخْلُو تِلْكَ الْيَمِينُ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا الْمُنْكِرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً إنْ حَلَفَ بِهَا أَوْ تَكُونَ كَاذِبَةً إنْ حَلَفَ بِهَا وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَاذِبًا إنْ حَلَفَ: فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ آكِلٌ مَالَ خَصْمِهِ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ صَادِقًا إنْ حَلَفَ فَحَرَامٌ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَلْسًا فَمَا فَوْقَهُ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا لاَ خَفَاءَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ يَتَأَمَّلُهُ وَيَسْمَعُهُ. وَأَمَّا مُصَالَحَةُ الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَهَذَا أَبْطَلُ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَإِقْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَسْبٌ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمُصَالَحَتُهُ، عَنْ غَيْرِهِ لاَ تَخْلُو أَيْضًا مِمَّا قَدَّمْنَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي صُولِحَ عَنْهُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ، أَوْ مَطْلُوبًا بِحَقٍّ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ فَحَرَامٌ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ فَلْسًا فَمَا فَوْقَهُ أَوْ شَيْئًا أَصْلاً بِطَلَبِ بَاطِلٍ فَيَكُونُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي صُولِحَ عَنْهُ مَطْلُوبًا بِحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ ضَامِنًا لِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَالْحَقُّ قَدْ تَحَوَّلَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقِرِّ، فَإِنَّمَا صَالَحَ حِينَئِذٍ، عَنْ نَفْسِهِ لاَ، عَنْ غَيْرِهِ، وَعَنْ حَقٍّ يَأْخُذُهُ بِهِ الطَّالِبُ كُلُّهُ إنْ شَاءَ، وَهَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لاَ نَمْنَعُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَ عَنْهُ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ وَلاَ فَرْقَ. وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُصَالِحَ، عَنْ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَقَدْ صَحَّ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ صُلْحٍ عَلَى غَيْرِ الإِقْرَارِ
(8/163)
فَهُوَ
مُحِلٌّ حَرَامًا وَمُحَرِّمٌ حَلاَلاً، ذَانِكَ الأَثَرَانِ لَوْ صَحَّا لَكَانَا
حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ قَاطِعَةً.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَإِنْ شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ
الشُّرُوطُ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِهَا
وَإِبَاحَتِهَاوَأَمَّا كُلُّ شَرْطٍ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ أَوْ
إيجَابِهِ فَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ
الْكَافِرِينَ أَوْ الْفَاسِقِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَلَيْسَ
الْبَاطِلُ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْلِمِينَ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيٍّ فَهُوَ خَبَرُ سُوءٍ يُعِيذُ اللَّهُ عَلِيًّا فِي
سَابِقَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِمَامَتِهِ مِنْ أَنْ يُنْفِذَ الْجَوْرَ وَهُوَ
يُقِرُّ أَنَّهُ جَوْرٌ. وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ هَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يُنْفِذَ جَوْرًا لَئِنْ صَحَّ هَذَا لَيُنْفِذَنَّ الرِّبَا وَالزِّنَى
وَالْغَارَةُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لأََنَّهُ كُلُّهُ جَوْرٌ. وَالآفَةُ فِي
هَذَا الْخَبَرِ وَالْبَلِيَّةُ مِنْ قِبَلِ الإِرْسَالِ; لأََنَّ الشَّعْبِيَّ
لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ مِنْ عَلِيٍّ كَلِمَةً وَإِنَّمَا أَخَذَ هَذَا الْخَبَرَ
بِلاَ شَكٍّ، مِنْ قِبَلِ الْحَارِثِ وَأَشْبَاهِهِ، وَهَذَا عَيْبُ الْمُرْسَلِ.
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذِهِ الْبَلِيَّةِ، وَهُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لَهَا فَلاَ يَرَوْنَ إنْفَاذَ الْجَوْرِ، لاَ فِي صُلْحٍ، وَلاَ
غَيْرِهِ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّيَانَةِ، وَضَلاَلٌ، وَإِضْلاَلٌ. فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رَدِّدُوا الْخُصُومَ حَتَّى
يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ قلنا:
هَذَا لاَ يَصِحُّ عَنْ عُمَرَ أَصْلاً; لأََنَّنَا إنَّمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عُمَرَ، وَعُمَرُ لَمْ يُدْرِكْهُ
مُحَارِبٌ، وَمُحَارِبٌ ثِقَةٌ، فَهُوَ مُرْسَلٌ. وَيُعِيذُ اللَّهُ عُمَرَ مِنْ
أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ فَيَأْمُرُ بِتَرْدِيدِ ذِي الْحَقِّ، وَلاَ يَقْضِي
لَهُ بِحَقِّهِ، هَذَا الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ اللَّذَانِ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى
عُمَرَ فِي إمَامَتِهِ وَدِينِهِ وَصَرَامَتِهِ فِي الْحَقِّ مِنْ أَنْ يَفُوهَ
بِهِ. ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي
لَمْ يَصِحَّ قَطُّ عَرِّفُونَا مَا حَدُّ هَذَا التَّرْدِيدِ الَّذِي
تُضِيفُونَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه وَتَحْتَجُّونَ بِهِ
وَتَأْمُرُونَ بِهِ أَتَرْدِيدُ سَاعَةٍ فَإِنَّهُ تَرْدِيدٌ فِي اللُّغَةِ بِلاَ
شَكٍّ، أَمْ تَرْدِيدُ يَوْمٍ، أَمْ تَرْدِيدُ جُمُعَةٍ، أَمْ تَرْدِيدُ شَهْرٍ،
أَوْ تَرْدِيدُ سَنَةٍ، أَمْ تَرْدِيدُ بَاقِي الْعُمْرِ فَكُلُّ ذَلِكَ
تَرْدِيدٌ، وَلَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ بِاسْمِ التَّرْدِيدِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ،
وَكُلُّ مَنْ حَدَّ فِي هَذَا التَّرْدِيدِ حَدًّا فَهُوَ كَذَّابٌ، قَائِلٌ
بِالْبَاطِلِ فِي دَيْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَرْكَ
الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ الْمُحِقُّ عَلَى حُكْمِ الْبَاطِلِ، أَوْ
يَتْرُكَ الطَّلَبَ، أَوْ يَمَلَّ مِنْ طَلَبِ الْمُبْطِلِ فَيُعْطِيَهُ مَالَهُ
بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ تَوْرِيثًا لِلضَّغَائِنِ بَيْنَ الْقَوْمِ مِنْ فَصْلِ
الْقَضَاءِ بِلاَ شَكٍّ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الإِسْنَادَ فِي
دِينِنَا فَصْلاً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْكَذِبِ.
فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إيَاسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(8/164)
إذا
صح الإقرار بالصلح فيفصل فيه
...
1270 - مَسْأَلَةٌ - فَإِذَا صَحَّ الإِقْرَارُ بِالصُّلْحِ،
فأما أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ
ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْضَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَيُبْرِئَهُ
الَّذِي لَهُ الْحَقُّ مِنْ بَاقِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ
مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَفَعَلَ: فَهَذَا حَسَنٌ جَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ
فِعْلُ خَيْرٍ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً حَاضِرَةً
أَوْ غَائِبَةً فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ، فَهَذَا بَيْعٌ
صَحِيحٌ يَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَيَحْرُمُ فِيهِ مَا يَحْرُمُ
فِي الْبَيْعِ، وَلاَ مَزِيدَ، أَوْ بِالإِجَارَةِ حَيْثُ تَجُوزُ الإِجَارَةُ،
لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤَاجَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ
لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ مَالٌ فَمَرَّ بِهِمَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيَا كَعْبُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ
يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفَهُ.
(8/164)
1271-
مَسْأَلَةٌ - وَلَا يَجُوزُ فِي الصُّلْحِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ إبْرَاءٌ مِنْ
الْبَعْضِ شَرْطُ تَأْجِيلٍ أَصْلًا ;
لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنَّهُ يَكُونُ
حَالًّا فِي الذِّمَّةِ يُنْظِرُهُ بِهِ مَا شَاءَ بِلَا شَرْطٍ ; لِأَنَّهُ
فِعْلُ خَيْرٍ .
(8/165)
1272
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ مَجْهُولِ الْقَدْرِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالرِّضَا لاَ يَكُونُ
فِي مَجْهُولٍ أَصْلاً، إذْ قَدْ يَظُنُّ الْمَرْءُ أَنَّ حَقَّهُ قَلِيلٌ
فَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَثِيرٌ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ
بِهِ وَلَكِنْ
(8/165)
1273
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الأَمْوَالِ الْوَاجِبَةِ الْمَعْلُومَةِ بِالإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ،
إِلاَّ فِي أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَقَطْ: فِي الْخُلْعِ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي:( كِتَابِ النِّكَاحِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. أَوْ فِي
كَسْرِ سِنٍّ عَمْدًا، فَيُصَالِحُ الْكَاسِرُ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ أَوْ فِي
جِرَاحَةٍ عَمْدًا عِوَضًا مِنْ الْقَوَدِ أَوْ فِي قَتْلِ نَفْسٍ عِوَضًا مِنْ
الْقَوَدِ بِأَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ بِأَكْثَرَ، وَبِغَيْرِ مَا يَجِبُ فِي
الدِّيَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَلاَ يَحِلُّ
إعْطَاءُ مَالٍ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ أَوْ إيجَابِهِ.
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَالصُّلْحُ شَرْطٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ
حَيْثُ أَبَاحَهُ نَصٌّ، وَلاَ مَزِيدَ، وَلَمْ يُبِحْ النَّصُّ إِلاَّ حَيْثُ
ذَكَرْنَا فَقَطْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ،
حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ
الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:" كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ أُخْتُ
أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم فَقَضَى بِكِتَابِ
(8/166)
اللَّهِ
الْقِصَاصَ فَقَالَ ابْنُ النَّضْرِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ
ثَنِيَّتُهَا الْيَوْمَ، قَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضُوا
بِأَرْشٍ أَخَذُوهُ". فإن قيل: فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ
فَذَكَرَ أَنَّهَا كَانَتْ جِرَاحَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا الدِّيَةَ.
وَرَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ،
وَكِلاَهُمَا، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُمْ عَفَوْا
وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً، وَلاَ أَرْشًا. وَرَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
خَالِدٍ الأَحْمَرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، كِلاَهُمَا،
عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ أَمَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم بِالْقِصَاصِ فَقَطْ قلنا: نَعَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخَالِفًا لِسَائِرِ ذَلِكَ; لأََنَّ سُلَيْمَانَ،
وَثَابِتًا، وَبِشْرًا، وَخَالِدًا، زَادُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَبِي خَالِدٍ،
وَالأَنْصَارِيِّ: الْعَفْوَ، عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الأَنْصَارِيُّ،
وَلاَ أَبُو خَالِدٍ عَفْوًا، وَلاَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْفُوا، وَزِيَادَةُ
الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَزَادَ سُلَيْمَانُ، وَثَابِتٌ عَلَى الأَنْصَارِيِّ،
وَأَبِي خَالِدٍ، وَبِشْرٍ، ذِكْرَ قَبُولِ الأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلاَءِ
خِلاَفَ ذَلِكَ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَقَالَ ثَابِتٌ: دِيَةٌ،
وَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَرْشٌ؛ وَهَذَا لَيْسَ اخْتِلاَفًا; لأََنَّ كُلَّ دِيَةٍ
أَرْشٌ وَكُلَّ أَرْشٍ دِيَةٌ، إِلاَّ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مُؤَقَّتًا
مَحْدُودًا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ، وَلاَ مَحْدُودٍ،
وَالتَّوْقِيتُ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ بِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ مَا
رُوِّينَاهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَجَوَازُ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا اخْتِلاَفُ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا
وَهُوَ ثَابِتٌ: جِرَاحَةٌ، وَأَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ الَّتِي أَقْسَمَتْ أَنْ
لاَ يُقْتَصَّ مِنْهَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَسْرُ سِنٍّ، وَأَنَّ أَنَسَ بْنَ
النَّضْرِ أَقْسَمَ أَنْ لاَ يُقْتَصَّ مِنْهَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا
حَدِيثَيْنِ فِي قَضِيَّتَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي
قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ; لأََنَّ كَسْرَ السِّنِّ جِرَاحَةٌ; لأََنَّهُ يُدْمِي
وَيُؤَثِّرُ فِي اللِّثَةِ فَهِيَ جِرَاحَةٌ، فَزَادَ سُلَيْمَانُ بَيَانًا إذْ
بَيَّنَ أَنَّهُ كَسْرُ سِنٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجِرَاحَةُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد بْنِ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ
رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: الْقَوَدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا
(8/167)
فَلَمْ
يَرْضَوْا، فَقَالَ: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ: لَكُمْ
كَذَا وَكَذَا، فَرَضُوا ". فَهَذَا الصُّلْحُ عَلَى الشَّجَّةِ بِمَا
يَتَرَاضَى بِهِ الْفَرِيقَانِ. فإن قيل: فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالإِسْنَادِ
الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَفِيه: "فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ
شَجَّهُ قلنا: هَذِهِ بِلاَ شَكٍّ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَخَبَرٌ وَاحِدٌ، وَزَادَ
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد بَيَانَ ذِكْرِ شَجِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدُ بْنُ
رَافِعٍ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ فِي النَّفْسِ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
قَالَ:، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو
هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ
يَفْدِيَ، وَأَمَّا أَنْ يَقْتُلَ . فإن قيل: فَهَذَا خَبَرٌ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْن:
بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوهُ . قلنا: نَعَمْ،
كِلاَهُمَا صَحِيحٌ وَحَقٌّ وَجَائِزٌ أَنْ يُلْزِمَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ
الْقَاتِلَ الدِّيَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يُصَالِحَهُ حِينَئِذٍ الْقَاتِلُ بِمَا
يُرْضِيه بِهِ، فَكِلاَ الْخَبَرَيْنِ صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/168)
من
صالح عن دم أو كسر سن أو جراحه فذلك جائز
...
1274 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ صَالَحَ، عَنْ دَمٍ، أَوْ كَسْرِ سِنٍّ، أَوْ
جِرَاحَةٍ، أَوْ، عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ،
فَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ، أَوْ كُلَّهُ بَطَلَتْ الْمُصَالَحَةُ وَعَادَ عَلَى
حَقِّهِ فِي الْقَوَدِ وَغَيْرِهِ; لأََنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ حَقَّهُ بِشَيْءٍ
لَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ
ذَلِكَ الشَّيْءُ فَلَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ مِنْ سِلْعَةٍ
بِعَيْنِهَا بِسُكْنَى دَارٍ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ،
وَانْهَدَمَتْ الدَّارُ، أَوْ اسْتَحَقَّا بَطَلَ الصُّلْحُ وَعَادَ عَلَى حَقِّهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(تَمَّ كِتَابُ الصُّلْحِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ)
(8/168)
كتاب
المداينات والتفليس
من ثبت للناس عليه حق من مال أو مما يوجب غرم مال ببينة عدل أو باقرار منه صحيح
بيع عليه كل ما يوجد له و أنصف الغرماء ولا يحل أن يسجن أصلا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْمُدَايِنَاتِ وَالتَّفْلِيسِ
1275 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ ثَبَتَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مِنْ مَالٍ أَوْ
مِمَّا يُوجِبُ غُرْمَ مَالٍ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ
صَحِيحٍ: بِيعَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ، وَأُنْصِفَ الْغُرَمَاءَ، وَلاَ
يَحِلُّ أَنْ يُسْجَنَ أَصْلاً،
إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مَا عَلَيْهِ فَيُنْصَفُ النَّاسُ مِنْهُ
بِغَيْرِ بَيْعٍ، كَمَنْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَوُجِدَتْ لَهُ دَرَاهِمُ، أَوْ
عَلَيْهِ طَعَامٌ وَوُجِدَ لَهُ طَعَامٌ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى:
(8/168)
1276
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْ
بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أُلْزِمَ الْغُرْمَ وَسُجِنَ حَتَّى يُثْبِتَ الْعَدَمَ، وَلاَ
يُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ شُهُودٍ لَهُ بِذَلِكَ،
وَلاَ يُمْنَعُ خَصْمُهُ مِنْ لُزُومِهِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ حَيْثُ مَشَى، أَوْ
وَكِيلُهُ عَلَى الْمَشْيِ مَعَهُ، فَإِنْ أَثْبَتَ عَدَمَهُ سُرِّحَ بَعْدَ أَنْ
يُحَلِّفَهُ: مَا لَهُ مَالٌ بَاطِنٌ، وَمُنِعَ خَصْمُهُ مِنْ لَزَوْمه، وَأُوجِرَ
لِخُصُومِهِ، وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ مَالٌ أُنْصِفَ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ
الْحُقُوقُ مِنْ نَفَقَاتٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ ضَمَانٍ أَوْ جِنَايَةٍ،
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي أَنَّهُ عَدِيمٌ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ،
حَتَّى يُثْبِتَ خَصْمُهُ أَنَّ لَهُ مَالاً، لَكِنْ يُؤَاجَرُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَإِنْ صَحَّ أَنَّ لَهُ مَالاً غَيَّبَهُ أُدِّبَ وَضُرِبَ حَتَّى يُحْضِرَهُ
أَوْ يَمُوتَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ} . وَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ
قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ
وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّهُ سَمِعَ
(8/172)
رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ
أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ". فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ، وَمِنْ
الْمُنْكَرِ مَطْلُ الْغَنِيِّ، فَمَنْ صَحَّ غِنَاهُ وَمَنَعَ خَصْمَهُ فَقَدْ
أَتَى مُنْكَرًا وَظُلْمًا، وَكُلُّ ظُلْمٍ مُنْكَرٌ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ
تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ، وَمَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ
يُجْلَدَ أَحَدٌ فِي غَيْرِ حَدٍّ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ; فَوَاجِبٌ
أَنْ يُضْرَبَ عَشَرَةً; فَإِنْ أَنْصَفَ فَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ، وَإِنْ تَمَادَى
عَلَى الْمَطْلِ فَقَدْ أَحْدَثَ مُنْكَرًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِ
فَيُضْرَبُ أَيْضًا عَشَرَةً، وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يُنْصِفَ، وَيَتْرُكَ
الظُّلْمَ، أَوْ يَقْتُلَهُ الْحَقُّ وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ وُجُوهِ الْحُقُوقِ: فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ
الْحَقِّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ بَيْعٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ
مَالاً، وَمَنْ صَحَّ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَالاً فَوَاجِبٌ أَنْ يُنْصَفَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ وَهُوَ فِي
تَلَفِهِ مُدَّعِي وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي . وَمَنْ كَانَ أَصْلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ مِنْ
ضَمَانٍ، أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ نَفَقَةٍ، فَالْيَقِينُ الَّذِي لاَ
شَكَّ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ: هُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ وُلِدَ عُرْيَانَ لاَ شَيْءَ
لَهُ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ صَحَّ لَهُمْ الْفَقْرُ، فَهُمْ عَلَى مَا صَحَّ
مِنْهُمْ حَتَّى يَصِحَّ أَنَّهُمْ كَسَبُوا مَالاً وَهُوَ فِي أَنَّهُ قَدْ
كَسَبَ مَالاً مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ، وَغَيْرِهِمَا. وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ
الْمُتَعَسِّفِينَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَ
الْجَمِيعَ.
قال أبو محمد: لَمْ نُخَالِفْهُ فِي الرِّزْقِ، بَلْ الرِّزْقُ مُتَيَقَّنٌ،
وَأَوَّلُهُ لَبَنُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، فَلَوْلاَ رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى مَا
عَاشَ أَحَدٌ يَوْمًا فَمَا فَوْقَهُ، وَلَيْسَ مِنْ كُلِّ الرِّزْقِ يُنْصَفُ
الْغُرَمَاءُ، وَإِنَّمَا يُنْصَفُونَ مِنْ فُضُولِ الرِّزْقِ وَهِيَ الَّتِي لاَ
يَصِحُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَاهَا الإِنْسَانَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. وَأَمَّا
الْمُؤَاجَرَةُ: فَلِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
لِهَذِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/173)
فيها
إيراد قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والجواب عنه
...
1278 - مَسْأَلَةٌ - فإن قيل: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ}
يَمْنَعُ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ قلنا: بَلْ يُوجِبُ اسْتِئْجَارَهُ; لأََنَّ
الْمَيْسَرَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا بِسَعْيٍ، وَأَمَّا
بِلاَ سَعْيٍ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فَنَحْنُ
نُجْبِرُهُ عَلَى ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَمَرَهُ تَعَالَى
بِابْتِغَائِهِ، فَنَأْمُرُهُ وَنُلْزِمُهُ التَّكَسُّبَ لِيُنْصِفَ غُرَمَاءَهُ
وَيَقُومَ بِعِيَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَلاَ نَدَعُهُ يُضَيِّعُ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ
وَالْحَقَّ اللَّازِمَ لَهُ.
(8/173)
بيان
أن المطلوب بالدين لا يخلوا من أن يوجد له ما يفي بما عليه ويفضل له أو ما يوجد له
يفي بما عليه ولا يفضل له شيء أو لا يفي بما عليه
...
1279 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
يُوجَدُ لَهُ مَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ وَيَفْضُلُ لَهُ، فَهَذَا يُبَاعُ مِنْ
مَالِهِ مَا يَفْضُلُ، عَنْ حَاجَتِهِ فَيُنْصَفُ مِنْهُ غُرَمَاؤُهُ،
وَمَا تَلِفَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَمِنْ مُصِيبَتِهِ لاَ
مِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ; لأََنَّ حُقُوقَهُمْ فِي ذِمَّتِهِ لاَ فِي، شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ يَفِي بِمَا
عَلَيْهِ، وَلاَ يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ لاَ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ: فَهَذَانِ
يَقْضِي بِمَا وُجِدَ لَهُمَا لِلْغُرَمَاءِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم ثُمَّ يُبَاعُ لَهُمْ إنْ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَا تَلِفَ
بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُمْ بِمَالِهِ فَمِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ وَيَسْقُطُ
عَنْهُ مِنْ دَيْنِهِمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ; لأََنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَدْ صَارَ
لَهُمْ إنْ شَاءُوا اقْتَسَمُوهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى، بَيْعِهِ
بِيعَ لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَفَّى بَعْضَ مَالِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ
شَيْءٌ مِنْهُ أَوْلَى بِأَنْ يُبَاعَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ،
فَيُنْظَرُ: أَيُّ مَالِهِ هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى فَيُبَاعُ، وَمَا لاَ غِنًى بِهِ
عَنْهُ فَلاَ يُبَاعُ ; لأََنَّ هَذَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ لاَ غِنًى بِهِ عَنْهُ
أُقْرِعَ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَالِ، فَأَيُّهَا خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ بِيعَ فِيمَا
أُلْزِمَهُ.
(8/174)
1280-
مَسْأَلَةٌ - وَيُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ الَّذِي يُوجَدُ لَهُ بَيْنَ
الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ بِالْقِيمَةِ كَمَا يُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ عَلَى
الْحَاضِرِينَ الطَّالِبِينَ الَّذِينَ حَلَّتْ آجَالُ حُقُوقِهِمْ فَقَطْ،
وَلاَ يَدْخُلُ فِيهِمْ حَاضِرٌ لاَ يَطْلُبُ، وَلاَ غَائِبٌ لَمْ يُوَكِّلْ،
وَلاَ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُ حَقِّهِ طَلَبَ أَوْ لَمْ
يَطْلُبْ ; لأََنَّ مَنْ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُ حَقِّهِ فَلاَ حَقَّ لَهُ بَعْدُ،
وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يُعْطَى مَا لَمْ يَطْلُبْ، وَقَدْ
وَجَبَ فَرْضًا إنْصَافُ الْحَاضِرِ الطَّالِبِ فَلاَ يَحِلُّ مَطْلُهُ بِفَلْسٍ
فَمَا فَوْقَهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْغُرَمَاءِ
الْحَاضِرِينَ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ " فَإِذَا أَخَذُوهُ فَقَدْ
مَلَكُوهُ فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا مَلَكُوهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْمَيِّتُ بِفَلَسْ: فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ مِنْ حَضَرَ أَوْ غَابَ
طَلَبَا أَوْ لَمْ يَطْلُبَا وَلِكُلِّ ذِي دَيْنٍ كَانَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
أَوْ حَالًّا; لأََنَّ الآجَالَ تَحِلُّ كُلُّهَا بِمَوْتِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ،
أَوْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَاتِ الْقَرْضِ
". وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَطْلُبْ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَلاَ مِيرَاثَ
إِلاَّ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، فَوَاجِبٌ إخْرَاجُ الدُّيُونِ إلَى
أَرْبَابِهَا وَالْوَصَايَا إلَى أَصْحَابِهَا، ثُمَّ يُعْطَى الْوَرَثَةُ
حُقُوقَهُمْ فِيمَا أَبْقَى، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/174)
اقرار
المفلس بالدين لازم مقبولي ويدخل مع الغرماء
...
1281 - مَسْأَلَةٌ - وَإِقْرَارُ الْمُفْلِسِ بِالدَّيْنِ لاَزِمٌ مَقْبُولٌ
وَيَدْخُلُ مَعَ الْغُرَمَاءِ;
لأََنَّ الإِقْرَارَ وَاجِبٌ قَبُولُهُ وَلَيْسَ لأََحَدٍ إبْطَالُهُ بِغَيْرِ
نَصِّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ بِمَالِهِ
لِلْغُرَمَاءِ لَزِمَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يَدْخُلْ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي
مَالٍ قَدْ قُضِيَ لَهُمْ بِهِ وَمَلَكُوهُ قَبْلَ
(8/174)
1282
- مَسْأَلَةٌ - وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ
فَيَبْدَأُ بِمَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فِي الْحَيِّ،
وَالْمَيِّتِ،
وَبِالْحَجِّ فِي الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَعُمَّ: قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ
هَذِهِ الْحُقُوقِ بِالْحِصَصِ لاَ يُبَدَّى مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ.
وَكَذَلِكَ دُيُونُ النَّاسِ إنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ بِجَمِيعِهَا أَخَذَ كُلُّ
وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَالِهِ مِمَّا وُجِدَ.لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ
" مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " دَيْنُ اللَّهِ
أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى "، " وَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ"، " كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ
".
(8/175)
1283
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ فَلَّسَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَوَجَدَ إنْسَانٌ
سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهَا بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ،
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا،
فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ رَدَّهُ،
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهَا
لاَ كُلَّهَا فَسَوَاءٌ وَجَدَ أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا
وَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. وَلاَ يَكُونُ مُفْلِسًا مَنْ لَهُ مِنْ أَيْنَ
يُنْصِفُ جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ، إنَّمَا الْمُفْلِسُ مَنْ
لاَ يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَأَمَّا مَنْ وَجَدَ
وَدِيعَتَهُ، أَوْ مَا غُصِبَ مِنْهُ، أَوْ مَا بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، أَوْ
أُخِذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ لَهُ ضَرُورَةً، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي
غَيْرِهِ; لأََنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ قَطُّ، عَنْ هَذَا. وَأَمَّا مَنْ وَجَدَ
سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهَا بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ أَقْرَضَهَا، فَمُخَيَّرٌ
كَمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمَالِكٍ، وَهُشَيْمٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَحَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ
عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ
" اللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، وَلَفْظُ سَائِرِهِمْ نَحْوُهُ لاَ يُخَالِفُهُ فِي
شَيْءٍ مِنْ الْمَعْنَى.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَتَاعِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ سِوَاهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ
". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا
هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ
أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَهُ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
(8/175)
من
غصب آخر مالا أو خانه فيه أو أقرضه فمات ولم يشهد له به ولا بينة له ففرض عليه أن
يأخذه ويجتهد في معرفة ثمنه
...
1284 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ آخَرَ مَالاً، أَوْ خَانَهُ فِيهِ، أَوْ
أَقْرَضَهُ فَمَاتَ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، أَوْلَهُ
بَيِّنَةٌ فَظَفَرَ لِلَّذِي حَقُّهُ قَبْلَهُ بِمَالٍ،
أَوْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَالِهِ عِنْدَهُ، أَوْ مِنْ
غَيْرِ نَوْعِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ
وَيَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ ثَمَنِهِ، فَإِذَا عَرَفَ أَقْصَاهُ بَاعَ مِنْهُ
بِقَدْرِ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ: فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلاً. وَسَوَاءٌ كَانَ مَا ظَفَرَ لَهُ بِهِ
جَارِيَةً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ عَقَارًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَفَّى
بِمَالِهِ قَبْلَهُ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَفِ بَقِيَ حَقُّهُ فِيمَا لَمْ
يَنْتَصِفْ مِنْهُ، وَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ رَدَّهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَنْ
يُحَلِّلَهُ وَيُبْرِيَهُ فَهُوَ مَأْجُورٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ خَاصَمَهُ أَوْ
لَمْ يُخَاصِمْهُ، اسْتَحْلَفَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ فَإِنْ طُولِبَ
بِذَلِكَ وَخَافَ إنْ أَقَرَّ أَنْ يَغْرَمَ فَلْيُنْكِرْ وَلْيَحْلِفْ، وَهُوَ
مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا. وَكَذَلِكَ عِنْدَنَا كُلُّ مَنْ ظَفَرَ لِظَالِمٍ بِمَالٍ
فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَخْذُهُ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِ مِنْهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَقَوْله تَعَالَى {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .
وَقَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ} . وَقَوْله تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . وَقَوْله تَعَالَى
{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ}. وَقَوْله تَعَالَى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا
ظُلِمُوا} . وَمِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هِنْدًا أُمَّ مُعَاوِيَةَ
جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ
رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَإِنَّهُ لاَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَبَنِي، فَهَلْ عَلَيَّ
مِنْ جُنَاحٍ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا
وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَهَذَا إطْلاَقٌ مِنْهُ صلى الله عليه
وسلم لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا وَجَدَ لِلَّذِي لَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ- حَدَّثَنِي
(8/180)
يَزِيدُ
- هُوَ ابْنُ أَبِي حَبِيبٍ - عَنْ أَبِي الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ
[قَالَ]:"قلنا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّكَ تَبْعَثُنَا
فَنَنْزِلَ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا، فَمَا تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنَا عليه
السلام: إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ
فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ "
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ سِيرِينَ. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْك
شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إنْ أَخَذَ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ
مِنْهُ مِثْلَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَخُنْ
مَنْ خَانَك فَإِنْ أَخَذْت مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْك فَلَيْسَ عَلَيْك
بَأْسٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ حَيْثُ وَجَدْت مَتَاعَك فَخُذْهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ
تَعَالَى فَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَمَنْ ظَفَرَ
بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ فِيهِ هُوَ، أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ، فَلَمْ يُزِلْهُ،
عَنْ يَدِ الظَّالِمِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَهُوَ أَحَدُ
الظَّالِمِينَ، لَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَلْ أَعَانَ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ أَمْرُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا أَنْ
يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ " فَمَنْ قَدَرَ عَلَى كَفِّ الظُّلْمِ
وَقَطْعِهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ قَدَرَ
عَلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
وَخَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ
حَقِّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ بِلاَ خِلاَفٍ، وَالدَّلاَئِلُ عَلَى هَذَا
تَكْثُرُ جِدًّا. وَخَالَفَنَا فِي هَذَا قَوْمٌ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ
يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ ظَفَرَ بِعَيْنِ مَالِهِ
فَلْيَأْخُذْهُ وَإِلَّا فَلاَ يَأْخُذْ غَيْرَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ
وَجَدَ مِنْ نَوْعِ مَا أُخِذَ مِنْهُ فَلْيَأْخُذْ وَإِلَّا فَلاَ يَأْخُذْ
غَيْرَ نَوْعِهِ. وَاحْتَجَّتْ هَذِهِ الطَّوَائِفُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: كُنْت أَكْتُبُ لِفُلاَنٍ نَفَقَةَ أَيْتَامٍ
كَانَ وَلِيَّهُمْ فَغَالَطُوهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا إلَيْهِمْ،
فَأَدْرَكَتْ لَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ مِثْلُهَا، قُلْت: اقْبِضْ الأَلْفَ الَّذِي
ذَهَبُوا بِهَا مِنْك ; قَالَ: لاَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَدِّ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ
مَنْ خَانَكَ وَنَحْوُهُ: عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَقَيْسٍ هُوَ
ابْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ
ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ لِي حَقٌّ
عَلَى رَجُلٍ فَجَحَدَنِي فَدَانَ لَهُ عِنْدِي حَقٌّ أَفَأَجْحَدُهُ قَالَ: لاَ،
أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
(8/181)
وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَدُوسٍ
يُقَالُ لَهُ: دَيْسَمٌ قلنا لِبَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ: لَنَا جِيرَانٌ مَا
تَشِذُّ لَنَا قَاصِيَةٌ إِلاَّ ذَهَبُوا بِهَا وَإِنَّهُ يَمْضِي لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِ
أَشْيَاءُ فَنَذْهَبُ بِهَا قَالَ: لاَ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَكُلُّ هَذَا
لاَ شَيْءَ: أَمَّا حَدِيثُ فُلاَنٍ، عَنْ أَبِيهِ نَاهِيَك بِهَذَا السَّنَدِ،
لَيْتَ شِعْرِي مِنْ فُلاَنٍ وَنَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ دِينٍ
أُخِذَ عَنْ فُلاَنٍ الَّذِي لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ وَلاَ مَا اسْمُهُ وَلاَ مَنْ
أَبُوهُ وَلاَ اسْمُهُ. وَالآخَرُ طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَقَيْسِ
بْنِ الرَّبِيعِ وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ مُرْسَلٌ وَفِيهِ الْمُبَارَكُ
بْنُ فَضَالَةَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَحَدِيثُ بَشِيرٍ عَنْ رَجُلٍ يُسَمَّى
دَيْسَمًا مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِيهَا حُجَّةٌ ; لأََنَّ
نَصَّهَا لاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ وَأَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ
وَلَيْسَ انْتِصَافُ الْمَرْءِ مِنْ حَقِّهِ خِيَانَةً بَلْ هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ
وَإِنْكَارُ مُنْكِرٍ وَإِنَّمَا الْخِيَانَةُ أَنَّ تَخُونَ بِالظُّلْمِ
وَالْبَاطِلِ مَنْ لاَ حَقَّ لَك عِنْدَهُ وَلاَ مِنْ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ إلَيْك مِنْ حَقِّك أَوْ مِنْ مِثْلِهِ إنْ عَدَمَ حَقَّك،
وَلَيْسَ رَدُّ الْمَظْلَمَةِ أَدَاءَ أَمَانَةٍ، بَلْ هُوَ عَوْنٌ عَلَى
الْخِيَانَةِ. ثُمَّ لاَ حُجَّةَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ إِلاَّ لِمَنْ مَنَعَ
مِنْ الأَنْتِصَافِ جُمْلَةً، وَأَمَّا مَنْ قَسَّمَ فَأَبَاحَ أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ
نَوْعِ مَالِهِ فَقَطْ فَمُخَالِفٌ لِهَذِهِ الآثَارِ وَلِغَيْرِهَا. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ "كِتَابُ التَّفْلِيسِ" وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/182)
كتاب
الاجارات والاجراء
الإجارة جائزة في كل شيء له منفعة فيؤاجر لينتفع به ولا يستهلك عينه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الإِجَارَاتِ وَالأُُجَرَاءِ
1285 - مَسْأَلَةٌ - الإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مَنْفَعَةٌ
فَيُؤَاجِرُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ،
وَلاَ يَسْتَهْلِكَ عَيْنَهُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُمْ سَمِعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ
يَقُولُ: زَعَمَ ثَابِتٌ، هُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ
وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ سَمَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ مِنْ ثَابِتِ
بْنِ الضَّحَّاكِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الإِجَارَاتِ آثَارٌ، وَبِإِبَاحَتِهَا
يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ عُلَيَّةَ قَالَ:
لاَ تَجُوزُ لأََنَّهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
قال علي: هذا بَاطِلٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ابْنَ أُرَْقِطٍ دَلِيلاً إلَى مَكَّةَ.
(8/182)
1286
- مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ لَيْسَتْ بَيْعًا،
وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ مَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ كَالْحُرِّ، وَالْكَلْبِ،
وَالسِّنَّوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا جَازَتْ إجَارَةُ
الْحُرِّ، وَالْقَائِلُونَ إنَّهَا بَيْعٌ يُجِيزُونَ إجَارَةَ الْحُرِّ
فَتَنَاقَضُوا. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الإِجَارَةَ إنَّمَا هِيَ
الأَنْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الشَّيْءِ الْمُؤَاجَرِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ،
وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا
الْقَوْلِ.
(8/183)
لا
يجوز إجارة ما تلف عينه أصلا
...
1287 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ إجَارَةُ مَا تُتْلَفُ عَيْنُهُ أَصْلاً،
مِثْلَ الشَّمْعِ لِلْوَقِيدِ، وَالطَّعَامِ لِلأَكْلِ، وَالْمَاءِ لِلسَّقْيِ
بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأََنَّ هَذَا بَيْعٌ لاَ إجَارَةٌ، وَالْبَيْعُ هُوَ
تَمَلُّكُ الْعَيْنِ، وَالإِجَارَةُ لاَ تُمْلَكُ بِهَا الْعَيْنُ.
(8/183)
من
الإجارات مالا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط ولا يذكر فيه مدة
...
1288 - مَسْأَلَةٌ - وَمِنْ الإِجَارَاتِ مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ
الْعَمَلِ الَّذِي يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ فَقَطْ،
وَلاَ يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ كَالْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ
إلَى مَكَان مُسَمًّى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ
ذِكْرِ الْمُدَّةِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَمِنْهُ مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الأَمْرَيْنِ مَعًا كَالْخِدْمَةِ وَنَحْوِهَا
فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، لأََنَّ الإِجَارَةَ بِخِلاَفِ
مَا ذَكَرْنَا مَجْهُولَةٌ وَإِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً فَهِيَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ. وَالإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ جَائِزَةٌ،
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ.
(8/183)
1289
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مِنْ سَيِّدِهِ
لِلْخِدْمَةِ مُدَّةً مُسَمَّاةً بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ،
وليستعملهما فِيمَا يُحْسِنَانِهِ وَيُطِيقَانِهِ بِلاَ إضْرَارٍ بِهِمَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي
الله عنها قَالَتْ: "اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو
بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِينِ
[كُفَّار]ِ قُرَيْشٍ وَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ
ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ".
(8/183)
1290
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِ الأُُجْرَةِ، وَلاَ تَعْجِيلِ
شَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ اشْتِرَاطُ تَأْخِيرِهَا إلَى أَجَلٍ، وَلاَ تَأْخِيرِ
شَيْءٍ مِنْهَا كَذَلِكَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا اشْتِرَاطُ تَأْخِيرِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلاَ
تَأْخِيرِ الْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ،
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِنْ
هَذَا اسْتِئْجَارُ دَارٍ مُكْتَرَاةٍ، أَوْ عَبْدٍ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ دَابَّةٍ
مُسْتَأْجَرَةٍ، أَوْ عَمَلٍ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ
الإِجَارَةِ الَّتِي هُوَ مَشْغُولٌ فِيهَا، لأََنَّ فِي الْعَقْدِ اشْتِرَاطَ
تَأْخِيرِ قَبْضَةِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ الْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ
لَهُ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّاسِ إجَارَةَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ انْقِضَاءِ
مُدَّتِهِ بِالْيَوْمَيْنِ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ
وَدَعْوَى بَاطِلٍ بِلاَ بُرْهَانٍ،
(8/183)
موت
الأجير أو موت المستأجر أو عتق العبد المستأجر يبطل عقد الإجارة فيما بقي من المدة
وينفذ العتق
...
1291 - مَسْأَلَةٌ - وَمَوْتُ الأَجِيرِ، أَوْ مَوْتُ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ
هَلاَكُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ
بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الدَّارِ، أَوْ الْعَبْدِ، أَوْ
الدَّابَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ خُرُوجُهُ، عَنْ مِلْكِ مُؤَاجِرِهِ
بِأَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ كُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ عَقْدَ الإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ
مِنْ الْمُدَّةِ خَاصَّةً قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ، وَالْبَيْعُ،
وَالإِخْرَاجُ، عَنِ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ وَالإِصْدَاقِ، وَالصَّدَقَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَإِذَا مَاتَ
الْمُؤَاجِرُ فَقَدْ صَارَ مِلْكُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ لِوَرَثَتِهِ أَوْ
لِلْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنَافِعَ ذَلِكَ
الشَّيْءِ، وَالْمَنَافِعُ إنَّمَا تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلاَ يَحِلُّ
لَهُ الأَنْتِفَاعُ بِمَنَافِعَ حَادِثَةٍ فِي مِلْكِ مَنْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ
مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ، وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ جِهَارًا، وَلاَ
يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَقْدُ مَيِّتٍ قَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ،
عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَوْ أَنَّهُ آجَرَ مَنَافِعَ حَادِثَةً فِي مِلْكِ
غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلاً بِلاَ خِلاَفٍ وَهَذَا هُوَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا مَوْتُ الْمُسْتَأْجِرِ: فَإِنَّمَا كَانَ عَقْدُ صَاحِبِ الشَّيْءِ
مَعَهُ لاَ مَعَ وَرَثَتِهِ فَلاَ حَقَّ لَهُ عِنْدَ الْوَرَثَةِ، وَلاَ عَقْدَ
لَهُ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرِثُ الْوَرَثَةُ مَنَافِعَ لَهُمْ تُخْلَقُ بَعْدُ، وَلاَ
مَلَكَهَا مُوَرِّثُهُمْ قَطُّ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَيْسَ لِمَيِّتٍ شَرْطٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ آجَرَ دَارِهِ عَشْرَ سِنِينَ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ
قَالَ: تُنْتَقَضُ الإِجَارَةِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ،
وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لاَ تُنْتَقَضُ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ،
وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا: لاَ تُنْتَقَضُ الإِجَارَةُ
بِمَوْتِهِمَا، وَلاَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا. وَأَقْصَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أَنْ
قَالُوا: عَقْدُ الإِجَارَةِ قَدْ صَحَّ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْتَقَضَ إِلاَّ
بِبُرْهَانٍ. قلنا: صَدَقْتُمْ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْبُرْهَانِ. وَقَالُوا:
فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي الأَحْبَاسِ قلنا:
(8/184)
رَقَبَةُ
الشَّيْءِ الْمُحْبَسِ لاَ مَالَك لَهَا إِلاَّ اللَّهُ، وَإِنَّمَا لِلْمُحْبَسِ
عَلَيْهِمْ الْمَنَافِعُ فَقَطْ، فَلاَ تُنْتَقَضُ الإِجَارَةُ بِمَوْتِ
أَحَدِهِمْ، وَلاَ بِوِلاَدَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ، لَكِنْ إنْ
مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ اُنْتُقِضَتْ الإِجَارَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ
عَقْدَهُ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ غَيْرُهُ، إذْ النَّصُّ مِنْ
الْقُرْآنِ قَدْ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . فَإِنْ قَالُوا: قَدْ سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم خَيْبَرَ الْيَهُودَ، وَمَلَّكَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، بِلاَ شَكٍّ فَقَدْ
مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ وَمِنْ الْيَهُودِ قَوْمٌ وَالْمُسَاقَاةُ
بَاقِيَةٌ. قلنا: إنَّ هَذَا الْخَبَرَ حَقٌّ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، بَلْ
وَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، بَلْ كَانَ
مُجْمَلاً يُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا، وَيُقِرُّونَهُمْ مَا شَاءُوا، كَمَا
نَذْكُرُهُ فِي "الْمُسَاقَاةِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَتْ
الإِجَارَةُ هَكَذَا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا تَجْدِيدُ عَقْدِهِ صلى
الله عليه وسلم أَوْ عَامِلِهِ النَّاظِرِ عَلَى تِلْكَ الأَمْوَالِ مَعَ وَرَثَةِ
مَنْ مَاتَ مِنْ الْيَهُودِ، وَوَرَثَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ
يَأْتِ أَيْضًا، وَلاَ نُقِلَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْعَقْدِ الأَوَّلِ، عَنْ
تَجْدِيدِ آخَرَ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلاَ لَنَا، بَلْ لاَ شَكَّ فِي
صِحَّةِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَمِنْ
الْبَاطِلِ احْتِجَاجُ قَوْمٍ بِخَبَرٍ لاَ يَقُولُونَ بِهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ
بِهِ، وَهَذَا مَعْكُوسٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي "الْمُسَاقَاةِ
وَالْمُزَارَعَةِ" وَكَلاَمُنَا هَهُنَا فِي الإِجَارَةِ وَهِيَ أَحْكَامٌ
مُخْتَلِفَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا، فَالْمَالِكِيُّونَ
وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَلاَ يُجِيزَانِ
الْمُزَارَعَةَ أَصْلاً، قِيَاسًا عَلَى الإِجَارَةِ، وَلاَ يَرَيَانِ
لِلْمُسَاقَاةِ حُكْمَ الإِجَارَةِ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ لاَ يَقِيسُوا
الإِجَارَةَ عَلَيْهِمَا وَهُمْ أَهْلُ الْقِيَاسِ ثُمَّ يُلْزَمُونَنَا أَنْ
نَقِيسَهَا عَلَيْهِمَا وَنَحْنُ نُبْطِلُ الْقِيَاسَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعِتْقُ، وَالإِصْدَاقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَيَقُولُ
{الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} . وَيَقُولُ {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . وَحَضَّ عَلَى الْعِتْقِ، فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ
يَخُصَّ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، فَإِذَا نَفَذَ
كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، فَإِذَا خَرَجَ، عَنْ
مِلْكِهِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُهُ فِيهِ، إذْ لاَ حُكْمَ لَهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنَافِعُ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِ غَيْرِ
مُؤَاجِرِهِ، وَخِدْمَةُ حُرٍّ لَمْ يُعَاقِدْهُ قَطُّ، لأََنَّهَا حَرَامٌ
عَلَيْهِ، لأََنَّهَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ مَالِكِهَا، وَبِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ الْحُرِّ،
فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا عَقْدٌ لاَزِمٌ حَقٌّ. قلنا: نَعَمْ، هُوَ
مَأْمُورٌ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ فِي مَالِهِ لاَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، بَلْ
هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا:
إخْرَاجُهُ لِلشَّيْءِ الَّذِي آجَرَ مِنْ مِلْكِهِ إبْطَالٌ لِلْوَفَاءِ
بِالْعَقْدِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِالْوَفَاءِ بِهِ. قلنا: وَقَوْلُكُمْ لاَ
يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا أَصْلاً إمَّا أَنْ
تَمْنَعُوهُ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ
(8/185)
مِلْكِهِ
بِالْوُجُوهِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ إخْرَاجَهُ بِهَا عَنْ
مِلْكِهِ بِسَبَبِ عَقْدِ الإِجَارَةِ. وَأَمَّا أَنْ تُبِيحُوا لَهُ إخْرَاجَهُ،
عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ إخْرَاجَهُ
بِهَا، عَنْ مِلْكِهِ لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ
إخْرَاجَهُ، عَنْ مِلْكِهِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ
إخْرَاجَهُ بِهَا، عَنْ مِلْكِهِ كُنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ،
وَحَرَّمْتُمْ مَا أَحَلَّ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ
وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ شَرْطَهُمَا فِي عَقْدِ
الإِجَارَةِ لاَ يَمْنَعُ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إبَاحَةِ
الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالإِصْدَاقِ، وَأَنَّ شَرْطَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي إبَاحَةِ كُلِّ ذَلِكَ أَحَقُّ مِنْ شَرْطِهِمَا فِي عَقْدِ
الإِجَارَةِ وَأَوْثَقُ، وَمُتَقَدِّمٌ لَهُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَقْدُهُمَا
الإِجَارَةَ عَلَى جَوَازِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ عَلَى الْمَنْعِ
مِنْهُ وَمُخَالَفَتِهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ نُجِيزُ لَهُ كُلَّ ذَلِكَ
وَيَبْقَى عَقْدُ الإِجَارَةِ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ. قلنا: خَالَفْتُمْ قَوْلَ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَأَوْجَبْتُمْ
أَنْ تَكْسِبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَنْفُذَ عَقْدُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَخَالَفْتُمْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَأَبَحْتُمْ لِلْمُسْتَأْجَرِ مَالَ
غَيْرِهِ، وَأَبَحْتُمْ لَهُ مَالَ مَنْ لَمْ يَعْقِدْ مَعَهُ قَطُّ فِيهِ عَقْدًا،
وَمَنَعْتُمْ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ وَهَذَا حَرَامٌ، وَأَوْجَبْتُمْ
لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ إجَارَةً عَلَى مَنَافِعَ حَادِثَةٍ فِي مَالٍ
غَيْرِهِ، وَعَنْ خِدْمَةِ حُرٍّ لاَ مِلْكَ لَهُ عَلَيْهِ ; وَهَذَا أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ وَأَكْلُ إجَارَةِ مَالٍ حَرَامٍ عَلَيْهِ عَيْنُهُ وَالتَّصَرُّفُ
فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ
قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيمَنْ
دَفَعَ غُلاَمَهُ إلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ
شَرْطِهِ، قَالَ: يَرُدُّ عَلَى مُعَلِّمِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ فِيمَنْ أَجَّرَ غُلاَمَهُ سَنَةً فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ، قَالَ:
لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. قَالَ حَمَّادٌ: لَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهُ إِلاَّ مِنْ
مَضَرَّةٍ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الْبَيْعُ يَقْطَعُ الإِجَارَةَ. قَالَ أَيُّوبُ
لاَ يَقْطَعُهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَأَلْت ابْنَ شُبْرُمَةَ، عَنِ الْبَيْعِ
أَيَقْطَعُ الإِجَارَةَ قَالَ نَعَمْ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَقَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمَوْتُ وَالْبَيْعُ يَقْطَعَانِ الإِجَارَةَ.
قال أبو محمد: وقال مالك وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ عَلِمَ
الْمُشْتَرِي بِالإِجَارَةِ فَالْبَيْع صَحِيحٌ وَلاَ يَأْخُذُ الشَّيْءَ الَّذِي
اشْتَرَى إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ مُدَّةِ الإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ
(8/186)
نَافِذٌ
وَالْهِبَةُ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ إبْقَاءُ الْخِدْمَةِ، وَتَكُونُ الأُُجْرَةُ
فِي كُلِّ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ، وَالْمُعْتِقِ وَالْوَاهِبِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ
يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إنْفَاذِ الْبَيْعِ وَتَكُونُ
الإِجَارَةُ لِلْبَائِعِ أَوْ رَدُّهُ، لأََنَّهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ
الأَنْتِفَاعِ بِمَا اشْتَرَى وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا. وقال أبو
حنيفة قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْمُسْتَأْجَرِ نَقْضَ الْبَيْعِ.
وَالآخَرُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ وَبَيْنَ أَنْ لاَ
يَرْضَى بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ بَطَلَتْ إجَارَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ
كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا بَيْنَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَالصَّبْرِ حَتَّى
تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الإِجَارَةِ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ
الْقَبْضِ.
قال أبو محمد: هَذَانِ قَوْلاَنِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ، لاَ
يَعْضُدُهُمَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ
أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَلَيْتَ شِعْرِي إذَا جَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ،
أَتَرَوْنَهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا فِي رَدِّ الْمُعْتَقِ أَوْ
إمْضَائِهِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ أَوَ يَتَنَاقَضُونَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَحِلُّ
فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجِرِ، عَنْ مِلْكِ
الْمُؤَاجِرِ بِبَيْعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إصْدَاقٍ
أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَعَلَى مَنْ صَارَ إلَيْهِ الْمِلْكُ:
بَقَاءَ الإِجَارَةِ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَهُوَ بَاطِلٌ.
(8/187)
تنفسخ
الإجارة إذا اضطر المستأجر إلى الرحيل عن البلد أو اضطر المؤاجر إلى ذلك
...
1292 - مَسْأَلَةٌ - وَكَذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الرَّحِيلِ،
عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ اضْطَرَّ الْمُؤَاجِرُ إلَى ذَلِكَ،
فَإِنَّ الإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ إذَا كَانَ فِي بَقَائِهَا ضَرَرٌ عَلَى
أَحَدِهِمَا، كَمَرَضٍ مَانِعٍ أَوْ خَوْفٍ مَانِعٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سُئِلَ الشَّعْبِيُّ،
عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان فَقَضَى حَاجَتَهُ دُونَ ذَلِكَ
الْمَكَانِ. قَالَ: لَهُ مِنْ الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمَكَانِ الَّذِي انْتَهَى
إلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ
فِيمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ. قَالَ
قَتَادَةَ: إذَا حَدَثَ نَازِلَةٌ يُعْذَرُ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْكِرَاءُ.
(8/187)
وكذلك
تنفسخ الاجارة بهلاك الشيء المستأجر
...
1293 - مَسْأَلَةٌ - وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ الشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ فَإِنَّ
الإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ
وَوَافَقَنَا عَلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ
أَبُو ثَوْرٍ: لاَ تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِهَذَا أَيْضًا، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ
إلَى أَجَلِهَا، الأُُجْرَةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لِلْمُؤَاجِرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
(8/187)
1294
- مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ اسْتِئْجَارُ الْعَبِيدِ وَالدُّورِ وَالدَّوَابِّ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، إلَى مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ طَوِيلَةٍ،
إذَا كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُسْتَأْجِرِ
وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ
بَقَاءُ أَحَدِهِمْ إلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَكَانَ مَفْسُوخًا
أَبَدًا.بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ وَاجِبٌ فِيمَا اُسْتُؤْجِرَ
لاَ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُدَّةٍ مَا
وَبَيْنَ مَا أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا; وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَ
ذَلِكَ مُخْطِئٌ بِلاَ شَكٍّ، لأََنَّهُ فَرَّقَ بِلاَ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ،
وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ أَصْلاً، وَلاَ قَوْلِ تَابِعٍ نَعْلَمُهُ،
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ يُعْقَلُ، وَالْمَخَاوِفُ لاَ تُؤْمَنُ
فِي قَصِيرِ الْمُدَدِ كَمَا لاَ تُؤْمَنُ فِي طَوِيلِهَا. وَأَمَّا إنْ عُقِدَتْ
الإِجَارَةُ إلَى مُدَّةٍ يُوقِنُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يُخْتَرَمَ
أَحَدُهُمَا دُونَهَا، أَوْ لاَ بُدَّ مِنْ ذَهَابِ الشَّيْءِ الْمُؤَاجَرِ
دُونَهَا، فَهُوَ شَرْطٌ مُتَيَقَّنُ الْفَسَادِ بِلاَ شَكٍّ، لأََنَّهُ إمَّا
عَقْدٌ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ وَأَمَّا عَقْدٌ فِي
مَعْدُومٍ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَرَى الإِجَارَةَ لاَ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ
أَحَدِهِمَا مِنْ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ، أَوْ لاَ تُنْتَقَضُ
بِهَلاَكِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ أَبِي ثَوْرٍ، أَنْ
يُجِيزَ عَقْدَ الإِجَارَةِ فِي الأَرْضِ وَغَيْرِهَا إلَى أَلْفِ عَامٍ، وَإِلَى
عَشَرَةِ آلاَفِ عَامٍ، وَأَكْثَرَ، وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِالإِجَارَةِ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ
(8/188)
بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ[رضي الله عنه] قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمِثْلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ فَأَنْتُمْ هُمْ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
(8/189)
يجوز
استئجار المرأة ذات اللبن لارضاع الصغير مدة مسماة
...
1295 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ اسْتِئْجَارُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ اللَّبَنِ
لأَِرْضَاعِ الصَّغِيرِ مُدَّةً مُسَمَّاةً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} .
(8/189)
لا
يجوز استئجار شاة أو بقرة أو غير ذلك للحلب أصلا
...
1296 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ نَاقَةٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لاَ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَكْثَرَ لِلْحَلْبِ أَصْلاً;
لأََنَّ الإِجَارَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، لاَ فِي تَمَلُّكِ
الأَعْيَانِ، وَهَذَا تَمَلُّكُ اللَّبَنِ، وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، فَهُوَ
بَيْعٌ لاَ إجَارَةٌ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُرَ قَطُّ، وَلاَ تُعْرَفُ صِفَتُهُ
بَاطِلٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ
إجَارَةَ الشَّاةِ، وَلاَ الشَّاتَيْنِ لِلْحَلْبِ، وَأَجَازَ إجَارَةَ الْقَطِيعِ
مِنْ ذَوَاتِ اللَّبَنِ لِلْحَلْبِ وَأَجَازَ اسْتِئْجَارَ الْبَقَرَةِ
لِلْحَرْثِ، وَاشْتِرَاطَ لَبَنِهَا وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ وَتَنَاقُضٌ ;
لأََنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً. ثُمَّ
لَمْ يَأْتِ بِحَدٍّ بَيْنَ مَا حُرِّمَ وَمَا حُلِّلَ، فَمَزَجَ الْحَرَامَ
بِالْحَلاَلِ بِغَيْرِ بَيَانٍ، وَهَذَا كَمَا تَرَى
وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَلَّلَ وَحَرَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَحِلُّ لَهُمْ إنْ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ
لَمْ يَعْرِفْهُ فَالسُّكُوتُ هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ غَيْرُهُ.
ثُمَّ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الرَّأْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْبَقَرِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ
فَاحِشٌ. وَكَذَلِكَ أَجَازَ كِرَاءً تَكُونُ فِيهَا الشَّجَرَةُ أَوْ النَّخْلَةُ
وَاسْتِثْنَاءَ ثَمَرَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا حِينَ الإِجَارَةِ ثَمَرَةٌ
إذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْكِرَاءِ وَإِلَّا فَلاَ يَجُوزُ،
وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانَ الْكَثِيرُ مِمَّا ذَكَرْنَا حَلاَلاً
فَالْقَلِيلُ مِنْ الْحَلاَلِ حَلاَلٌ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَالْقَلِيلُ مِنْ
الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ أَنْكَرُوا عَلَى الْحَنِيفِيِّينَ إذَا
أَبَاحُوا الْقَلِيلَ مِمَّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّهُ
لاَ يَحِلُّ كِرَاءُ الطَّعَامِ لِيُؤْكَلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ
وَبَيْنَ مَا أَبَاحُوهُ مِنْ كِرَاءِ الدَّارِ بِالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ
تُخْلَقْ فِيهَا لِتُؤْكَلَ، وَبَيْنَ كِرَاءِ الْغَنَمِ لِتَحْلُبَ. فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ. قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ
بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَهُنَا بَاطِلاً لأََنَّ أَصَحَّ
الْقِيَاسِ هَهُنَا: أَنْ يُقَاسَ اسْتِئْجَارُ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ لِلْحَلْبِ
عَلَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ الْوَاحِدَةِ
(8/189)
لا
يجوز إجارة الأرض أصلا لا للحرث فيها ولا للغرس
...
1297 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ إجَارَةُ الأَرْضِ أَصْلاً، لاَ لِلْحَرْثِ
فِيهَا، وَلاَ لَلْغَرْسِ فِيهَا،
وَلاَ لِلْبِنَاءِ فِيهَا، وَلاَ لِشَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ أَصْلاً، لاَ لِمُدَّةٍ
مُسَمَّاةٍ قَصِيرَةٍ، وَلاَ طَوِيلَةٍ، وَلاَ لِغَيْرٍ مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ، لاَ
بِدَنَانِيرَ وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِشَيْءٍ أَصْلاً فَمَتَى وَقَعَ فَسْخٌ
أَبَدًا. وَلاَ يَجُوزُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مُسَمًّى
مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَوْ الْمُغَارَسَةُ كَذَلِكَ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ
فِيهَا بِنَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ جَازَ اسْتِئْجَارُ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَتَكُونُ
الأَرْضُ تَبَعًا لِذَلِكَ الْبِنَاءِ غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي الإِجَارَةِ أَصْلاً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
جَدِّي ثَنِيّ عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ فَسَأَلَهُ. فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: سَمِعْت عَمِّي وَكَانَا
قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ [أَهْلَ الدَّارِ]: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ
"أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ".
قال أبو محمد: أَهْلُ بَدْرٍ كُلُّهُمْ عُدُولٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ
جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ أَوْ مَلَكٌ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَا تَعُدُّونَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا
فِيكُمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خِيَارُنَا قَالَ: كَذَلِكَ
هُمْ عِنْدَنَا ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ الْمَنْعَ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ
جُمْلَةً جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَابْنُ عُمَرَ،
وطَاوُوس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَعِنْدَ ذِكْرِنَا "لِلْمُزَارَعَةِ" إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى نَتَقَصَّى مَا شَغَبَ بِهِ مَنْ أَبَاحَ كِرَاءَ الأَرْضِ وَنَقَضَ
كُلَّ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
(8/190)
لا
يجوز استئجار دار ولا عبد ولا دابة ولا شيء أصلا ليوم غير معين ولا شهر كذلك
...
1298 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ دَارٍ، وَلاَ عَبْدٍ، وَلاَ
دَابَّةٍ، وَلاَ شَيْءٍ أَصْلاً لِيَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ،
وَلاَ لِشَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَغَلاَ لِعَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ; لأََنَّ
الْكِرَاءَ لَمْ يَصِحَّ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ
حَقَّهُ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَعَقْدٌ فَاسِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/190)
1299
- مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا عَمِلَ الأَجِيرُ شَيْئًا مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ
لِعَمَلِهِ اسْتَحَقَّ مِنْ الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ
فَلَهُ طَلَبُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ وَلَهُ تَأْخِيرُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ حَتَّى
يُتِمَّ عَمَلَهُ أَوْ يُتِمَّ
(8/190)
1300
- مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ الأَسْتِئْجَارُ بِكُلِّ مَا يَحِلُّ مِلْكُهُ وَإِنْ
لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ
كَالْكَلْبِ، وَالْهِرِّ، وَالْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا،
وَالسُّنْبُلِ الَّذِي لَمْ يَيْبَسْ فَيَسْتَأْجِرُ الدَّارَ بِكَلْبٍ مُعَيَّنٍ
أَوْ كَلْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، وَبِثَمَرَةٍ قَدْ ظَهَرَتْ وَلَمْ يَبْدُ
صَلاَحُهَا، وَبِمَاءٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مُعَيَّنٍ مُحَرَّزٍ، أَوْ
بِهِرٍّ كَذَلِكَ; لأََنَّ الإِجَارَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا، وَإِنَّمَا نُهِيَ فِي
هَذِهِ الأَشْيَاءِ، عَنِ الْبَيْعِ وَقِيَاسُ الإِجَارَةِ عَلَى الْبَيْعِ
بَاطِلٌ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا، فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ
لأََنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى إجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ،
وَتَحْرِيمِهِمْ لِبَيْعِهِ، وَلأََنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ لِلأَعْيَانِ
بِالنَّقْلِ لَهَا، عَنْ مِلْكٍ آخَرَ، وَالإِجَارَةُ تَمْلِيكُ مَنَافِعَ لَمْ
تَحْدُثْ بَعْدُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(8/191)
الاجارة
الفاسدة إن أدركت فسخت كلها أو ما أدرك منها
...
1301 - مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ إنْ أُدْرِكَتْ فُسِخَتْ، أَوْ
مَا أُدْرِكَ مِنْهَا،
فَإِنْ فَاتَتْ أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهَا قُضِيَ فِيهَا أَوْ فِيمَا فَاتَ
بِأَجْرِ الْمِثْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَمَنْ
اسْتَغَلَّ مَالَ غَيْرٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهِيَ حُرْمَةٌ انْتَهَكَهَا فَعَلَيْهِ
أَنْ يُقَاصَّ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/191)
لا
تجوز الاجارة على الصلاة والأذان
...
1302 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الصَّلاَةِ، وَلاَ عَلَى
الأَذَانِ،
لَكِنْ إمَّا أَنْ يُعْطِيَهُمَا الإِمَامُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
وَجْهِ الصِّلَةِ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُمَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَلَى
الْحُضُورِ مَعَهُمْ عِنْد حُلُولِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ فَقَطْ مُدَّةً
مُسَمَّاةً، فَإِذَا حَضَرَ تَعَيَّنَ الأَذَانُ وَالإِقَامَةُ عَلَى مَنْ يَقُومُ
بِهِمَا. وَكَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى كُلِّ وَاجِبٍ تَعَيَّنَ عَلَى
الْمَرْءِ مِنْ صَوْمٍ، أَوْ صَلاَةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ فَتِيًّا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ،
وَلاَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَصْلاً; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ;
لأََنَّ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِهَا،
وَالْمَعْصِيَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا فَأَخْذُ الأُُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ
لاَ وَجْهَ لَهُ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَكَذَلِكَ تَطَوُّعُ
الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ لاَ يَجُوزُ أَيْضًا اشْتِرَاطُ أَخْذِ مَالٍ عَلَيْهِ ;
لأََنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ أَشْعَثَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى
أَذَانِهِ أَجْرًا.
(8/191)
1303
- مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْخُذَ الأُُجْرَةَ عَلَى فِعْلِ
ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ
مِثْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ التَّطَوُّعَ، أَوْ يُصَلِّي عَنْهُ التَّطَوُّعَ أَوْ
يُؤَذِّنَ عَنْهُ التَّطَوُّعَ أَوْ يَصُومَ عَنْهُ التَّطَوُّعَ لأََنَّ كُلَّ
ذَلِكَ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَلاَ عَلَيْهِمَا فَالْعَامِلُ
يَعْمَلُهُ عَنْ غَيْرِهِ لاَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُطِعْ وَلاَ عَصَى وَأَمَّا
الْمُسْتَأْجِرُ فَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي ذَلِكَ تَطَوُّعًا لِلَّهِ تَعَالَى،
فَلَهُ أَجْرُ مَا اكْتَسَبَ بِمَالِهِ.
(8/192)
1304
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ،
عَنْ عَاجِزٍ، أَوْ مَيِّتٍ.
لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " " وَكِتَابِ الصِّيَامِ
" مِنْ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ وَجَوَازِ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ، عَنْ
غَيْرِهِ فَالأَسْتِئْجَارُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ
نَهْيٌ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ. وَأَمَّا الصَّلاَةُ الْمَنْسِيَّةُ، وَالْمَنُومُ عَنْهَا;
وَالْمَنْذُورَةُ فَهِيَ لاَزِمَةٌ لِلْمَرْءِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَهَذِهِ
تُؤَدَّى، عَنِ الْمَيِّتِ، فَالإِجَارَةُ فِي أَدَائِهَا عَنْهُ جَائِزَةٌ ;
وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ تَرْكَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، إذْ
لَيْسَ قَادِرًا عَلَيْهَا، إذْ قَدْ فَاتَتْ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ
مَا لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِأَدَائِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/192)
لا
تجوز الاجارة على النوح ولا على الكهانة
...
1305- مَسْأَلَةٌ – ولاتجوز الاجارة على النوح ولاعلى الكهانة
لانهما معصيتان منهى عنهما لايحل فعلهما ولا العون عليهما فالاجارة على ذلك. أو
العطاء عليه معصية. وتعاون على الاثم والعدوان.
(8/192)
1306
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الْحِجَامَةِ وَلَكِنْ يُعْطَى
عَلَى سَبِيلِ طِيبِ النَّفْسِ وَلَهُ طَلَبُ ذَلِكَ،
فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا قُدِّرَ عَمَلُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ
وَأُعْطِي مَا يُسَاوِي. وَكَذَلِكَ لاَ تَحِلُّ الإِجَارَةُ عَلَى إنْزَاءِ
الْفَحْلِ أَصْلاً، لاَ نَزْوَةً، وَلاَ نَزَوَاتٍ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كَانَ
الْعَقْدُ إلَى أَنْ تَحْمِلَ الأُُنْثَى كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحَرَامِ
وَالْبَاطِلِ وَأَكْلِ السُّحْتِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْت
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
كَسْبِ الْحَجَّامِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَعَسْبِ الْفَحْلِ ".
وَرُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ مِنْ طُرُقٍ
كَثِيرَةٍ ثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وقال أبو حنيفة
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى
ضِرَابِ الْفَحْلِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ شَوْذَبٍ أَبِي مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ لِي
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: لاَ يَحِلُّ عَسْبُ الْفَحْلِ. وَمِنْ طَرِيقِ
الأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
" أَرْبَعٌ مِنْ السُّحْتِ، ضِرَابُ الْفَحْلِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَمَهْرُ
الْبَغْيِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ ". وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ تُعْطِهِ عَلَى
طِرَاقِ الْفَحْلِ أَجْرًا
(8/192)
1307
- مَسْأَلَةٌ: وَالإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى
تَعْلِيمِ الْعِلْمِ مُشَاهَرَةً وَجُمْلَةً،
وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَعَلَى الرَّقْيِ، وَعَلَى نَسْخِ الْمَصَاحِفِ، وَنَسْخِ
كُتُبِ الْعِلْمِ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي النَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ نَصٌّ، بَلْ
قَدْ جَاءَتْ الإِبَاحَةُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَاءُ [هُوَ صَدُوقٌ] يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
(8/193)
صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إنَّ فِي [الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا] فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا [حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ] فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ . وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ رَجُلٍ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ " أَيْ لِيُعَلِّمَهَا إيَّاهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لاَ تَجُوزُ الأُُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَاحْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُوهُ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، هُوَ ابْنُ وَرْقَاءَ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ: كَانَ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَاسٌ يُقْرِئُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمْ قَوْسًا يَتَسَلَّحُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَتُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ بِهَا فِي عُنُقِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ [الرُّؤَاسِيِّ]، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ قَاضِي الأُُرْدُنِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِصَّةُ الْقَوْسِ وَأَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ زَيْتُونٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَوْسِ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَفِيهِ زِيَادَةٌ: أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ. قَالَ: " أَمَّا طَعَامٌ صُنِعَ لِغَيْرِكَ فَحَضَرْتَهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَأْكُلَهُ وَأَمَّا مَا صُنِعَ لَكَ فَإِنْ أَكَلْتَهُ فَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ بِخِلاَفِكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرٍ أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ غَدَّاهُ رَجُلٌ كَانَ يُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنْ كَانَ شَيْءٌ يُتْحِفُكَ بِهِ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَعَامِهِ وَطَعَامِ أَهْلِهِ فَلاَ بَأْسَ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ هُوَ مَمْطُورٌ الْحَبَشِيُّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِبْلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
(8/194)
صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، وَلاَ تَعْلُوا عَنْهُ، وَلاَ
تَجْفُوا فِيهِ، وَلاَ تَأْكُلُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْبِرُوا بِهِ، وَلاَ
تَسْتَكْثِرُوا بِهِ . وَرُوِّينَاهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ
مِثْلَ هَذَا، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْسٍ أَهْدَاهَا إنْسَانٌ إلَى مَنْ كَانَ
يُقْرِئُهُ أَتُرِيدُ أَنْ تُعَلِّقَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ ". وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ أَعْطَاهُ الأَمِيرُ مَالاً لِقِيَامِهِ
بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ فَأَبَى وَقَالَ: إنَّا لاَ نَأْخُذُ لِلْقُرْآنِ
أَجْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
هُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَتَعْلِيمِ الْغِلْمَانِ بِالأَرْشِ
وَيُعَظِّمُونَ ذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْمُعَلِّمُ وَأَنْ يَأْخُذَ أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ
أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: إنَّ عَمَّارَ بْنَ
يَاسِرٍ أَعْطَى قَوْمًا قَرَءُوا الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فَبَلَغَ ذَلِكَ
عُمَرَ فَكَرِهَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي
وَقَّاصٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَلْحَقْته عَلَى أَلْفَيْنِ. فَقَالَ
عُمَرُ أَوَ يُعْطَى عَلَى كِتَابِ اللَّه ثَمَنًا. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يَزِيدَ، وَشُرَيْحٍ: لاَ تَأْخُذْ لِكِتَابِ اللَّهِ ثَمَنًا. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ
الْقُرَشِيِّ، عَنْ بِلاَلِ بْنِ سَعْدٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ،
أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنٍ مُعَلِّمٍ كِتَابَ اللَّهِ: إنِّي لاََبْغَضُك فِي
اللَّهِ لأََنَّك تَتَغَنَّى فِي أَذَانِك وَتَأْخُذُ لِكِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا.
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ الأُُجْرَةَ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ. وَعَنْ
عَلْقَمَةَ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ سَعْدٍ،
وَعَمَّارٍ الآنَ أَنَّهُمَا أَعْطَيَا عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنِ الْوَضِينِ
بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ ثَلاَثَةُ مُعَلِّمِينَ يُعَلِّمُونَ
الصِّبْيَانَ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرْزُقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
خَمْسَةَ عَشَرَ كُلَّ شَهْرٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ
بِالْمَدِينَةِ مُعَلِّمٌ عِنْدَهُ مِنْ أَبْنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْفِخَامِ
فَكَانُوا يَعْرِفُونَ حَقَّهُ فِي النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ.
قال أبو محمد: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَدْرَكَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ
عَنْهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو قَتَادَةَ فَمَنْ دُونَهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: مَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ
الْمُعَلِّمِ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي قِلاَبَةَ إبَاحَةَ أَجْرِ
الْمُعَلِّمِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَأَجَازَ الْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ الأُُجْرَةَ عَلَى نَسْخِ الْمَصَاحِفِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَلاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي إدْرِيسَ
الْفُلاَنِيِّ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَمُنْقَطِعٌ، لاَ يُعْرَفُ لأََبِي
إدْرِيسَ سَمَاعٌ مَعَ أُبَيٍّ. وَالآخَرُ
(8/195)
أَيْضًا مُنْقَطِعٌ; لأََنَّ عَلِيَّ بْنَ رَبَاحٍ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَحَدُ طُرُقِهِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَغَيْرُهُ: وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ; ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِبْلٍ فَفِيهِ أَبُو رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ كُلُّهَا قَدْ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ; لأََنَّهَا كُلَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ فِيمَا أُعْطِيَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَلاَ مُشَارَطَةٍ، وَهُمْ يُجِيزُونَ هَذَا الْوَجْهَ فَمَوَّهُوا بِإِيرَادِ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا مَنَعُوا وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهَا فَبَطَلَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم قَدْ اخْتَلَفُوا، فَبَقِيَ الأَثَرَانِ الصَّحِيحَانِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّذَانِ أَوْرَدْنَا لاَ مُعَارِضَ لَهُمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/196)
1308-
مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عَلَى التِّجَارَةِ مُدَّةً مُسَمَّاةً فِي
مَالٍ مُسَمًّى
أَوْ هَكَذَا جُمْلَةً كَالْخِدْمَةِ.وَالْوَكَالَةِ. وَعَلَى نَقْلِ جَوَابِ
الْمُخَاصِمِ طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا وَعَلَى جَلْبِ الْبَيِّنَةِ
وَحَمْلِهِمْ إلَى الْحَاكِمِ وَعَلَى تَقَاضِي الْيَمِينِ وَعَلَى طَلَبِ
الْحُقُوقِ وَعَلَى الْمَجِيءِ بِمَنْ وَجَبَ إحْضَارُهُ، لأََنَّ هَذِهِ كُلَّهَا
أَعْمَالٌ مَحْدُودَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْمُؤَاجَرَةِ.
(8/196)
أجرة
الأمير من يقضي بين الناس مشاهرة جائزة
...
1309 - مَسْأَلَةٌ - وَإِجَارَةُ الأَمِيرِ مَنْ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ
مُشَاهَرَةً جَائِزَةٌ
لِمَا ذَكَرْنَا.
(8/196)
لا
تجوز مشارطة على البرء أصلا
...
1310 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ أَصْلاً
لأََنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ بِيَدِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الطَّبِيبُ
مُعَالِجٌ وَمُقَوٍّ لِلطَّبِيعَةِ بِمَا يُقَابِلُ الدَّاءَ، وَلاَ يَعْرِفُ
كَمِّيَّةَ قُوَّةِ الدَّوَاءِ مِنْ كَمِّيَّةِ قُوَّةِ الدَّاءِ، فَالْبُرْءُ لاَ
يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى.
(8/196)
يجوز
أن يستأجر الطبيب لخدمة أيام معلومة
...
1311 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ أَنْ يُسْتَأْجَرَ الطَّبِيبُ لِخِدْمَةِ أَيَّامٍ
مَعْلُومَةٍ،
لأََنَّهُ عَمَلٌ مَحْدُودٌ فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا عِنْدَ الْبُرْءِ بِغَيْرِ
شَرْطٍ فَحَلاَلٌ، لأََمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْذِ مَا أُعْطِي
الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
(8/196)
1312
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَلْبَتَّةَ،
سَوَاءٌ كَانَتْ الأَرْضُ مَعْرُوفَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ; لأََنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ
فِيهَا الصَّفَاةُ الصَّلْدَةُ، وَالأَرْضُ الْمُنْحَلَّةُ الرَّخْوَةُ
وَالصَّلِيبَةُ، وَهَذَا عَمَلٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ يَبْعُدُ الْمَاءُ فِي مَوْضِعٍ
وَيَقْرُبُ فِيمَا هُوَ إلَى جَانِبِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي
اسْتِئْجَارِ مُيَاوَمَةٍ ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ;
لأََنَّهُ عَمَلٌ مَحْدُودٌ مَعْلُومٌ يَتَوَلَّى مِنْهُ حَسَبَ مَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/196)
1313
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِيَاطَةِ
إحْضَارَ الْخُيُوطِ، وَلاَ عَلَى الْوَرَّاقِ الْقِيَامَ بِالْحِبْرِ،
وَلاَ عَلَى الْبَنَّاءِ الْقِيَامَ بِالطِّينِ أَوْ الصَّخْرِ، أَوْ الْجَيَّارِ،
وَهَكَذَا
(8/196)
من
استأجر دارا أو عبدا أو دابة ثم أجره بأكثر مما استأجره به أو بأقل فهو حلال جائز
...
1314 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ عَبْدًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ
شَيْئًا مَا ثُمَّ أَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ أَوْ بِأَقَلَّ
أَوْ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ حَلاَلٌ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ الصَّائِغُ الْمُسْتَأْجَرُ لِعَمَلِ شَيْءٍ فَيَسْتَأْجِرُ هُوَ
غَيْرَهُ لِيَعْمَلَهُ لَهُ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِمِثْلِهِ فَكُلُّ
ذَلِكَ حَلاَلٌ، وَالْفَضْلُ جَائِزٌ لَهُمَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاقَدَةُ
وَقَعَتْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ
يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ غَيْرُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ
الإِجَارَةُ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ مُؤَاجَرَةٌ وَقَدْ أَمَرَ عليه السلام بِالْمُؤَاجَرَةِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/197)
1315
- مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ بِالإِجَارَةِ جَائِزَةٌ:
كَمَنْ أَجَّرَ سُكْنَى دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ بِخِدْمَةِ
عَبْدٍ، أَوْ سُكْنَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ أَوْ بِخِيَاطَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالنَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وقال
أبو حنيفة: لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ دَارٍ بِكِرَاءِ دَارٍ وَيَجُوزُ بِخِدْمَةِ
عَبْدٍ وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ.
(8/197)
بَقِيَّةُ
الْكَلاَمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ
بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَأَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ
مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَضْلُ لِلأَوَّلِ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
كَرِهَهُ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ قَالَ: يُرَدُّ الْفَضْلُ هُوَ رِبًا
وَلَمْ يُجِزْهُ مُجَاهِدٌ وَلاَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلاَ عِكْرِمَةُ،
وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبِيحُهُ. وَكَرِهَهُ مَيْمُونُ بْنُ
مِهْرَانَ وَابْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمنِ
(8/197)
1316
- مَسْأَلَةٌ - وَتَنْقِيَةُ الْمِرْحَاضِ عَلَى الَّذِي مَلاََهُ لاَ عَلَى
صَاحِبِ الدَّارِ،
وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ; لأََنَّ عَلَى مَنْ وَضَعَ
كُنَاسَةً أَوْ زِبْلاً أَوْ مَتَاعًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ
غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَهُ، عَنِ الْمَكَانِ
الَّذِي لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ بَاطِلٌ
مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/198)
على
صاحب الخان احضار مكان فارغ للخلاء لمن ينزل عنده ويرحل
...
1317 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ خَانًا يَبِيتُونَ فِيهِ لَيْلَةً ثُمَّ
يَرْحَلُونَ، فَعَلَى صَاحِبِ الْخَانِ إحْضَارُ مَكَان فَارِغٍ لِلْخَلاَءِ
إنْ شَاءَ، وَإِلَّا يَتَبَرَّزُوا فِي الصُّعُدَاتِ إنْ أَبَى مِنْ ذَلِكَ.
(8/198)
1318
- مَسْأَلَةٌ - وَالأُُجْرَةُ عَلَى كَنْسِ الْكُنُفِ جَائِزَةٌ
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ، لِعُمُومِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ. عَلَى أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
قَالَ لِرَجُلٍ كَنَّاسٍ لِلْعَذِرَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِنْهُ تَزَوَّجَ
وَمِنْهُ كَسَبَ وَمِنْهُ حَجَّ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ خَبِيثٌ، وَمَا
كَسَبْت خَبِيثٌ; وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلْت
فِيهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ
وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: إنِّي كُنْت رَجُلاً كَنَّاسًا أَكْسَحُ هَذِهِ الْحُشُوشَ فَأَصَبْت
مَالاً فَتَزَوَّجْت مِنْهُ، وَوُلِدَ لِي فِيهِ، وَحَجَجْت فِيهِ. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ وَمَالُك خَبِيثٌ وَوَلَدُك خَبِيثٌ، وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَأَيْنَ الْحَنَفِيُّونَ،
وَالْمَالِكِيُّونَ، عَنْ هَذَا إنْ طَرَدُوا أَقْوَالَهُمْ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
(8/198)
يجوز
اعطاء الغزل للنسيج بجزء مسمى منه
...
1319 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ إعْطَاءُ الْغَزْلِ لِلنَّسْجِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى
مِنْهُ
كَرُبُعٍ . أَوْ ثُلُثٍ . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ
يَنْسِجَهُ النَّسَّاجُ مَعًا وَيَكُونَا مَعًا شَرِيكَيْنِ فِيهِ: جَازَ ذَلِكَ
(8/198)
جائز
اكراء السفن بجزء مسمى مما يحمل فيها مشاع أو متميز
...
1320 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ كِرَاءُ السُّفُنِ كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يُحْمَلُ فِيهَا مُشَاعٌ فِي الْجَمِيعِ أَوْ
مُتَمَيِّزٌ.
وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ، وَالْعِجْلُ، وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ السَّفِينَةِ مِنْ
الْكِرَاءِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الطَّرِيقِ عَطِبَ أَوْ سَلِمَ ; لأََنَّهُ
عَمَلٌ مَحْدُودٌ. وقال مالك: لاَ كِرَاءَ لَهُ إِلاَّ إنْ بَلَغَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ وَاسْتِحْلاَلُ تَسْخِيرِ السَّفِينَةِ بِلاَ أُجْرَةٍ،
وَبِلاَ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهَا. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَالدَّابَّةِ
فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا قَوْلٌ لاَ يَعْضُدُهُ قُرْآنٌ وَلاَ سُنَّةٌ
(8/199)
وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ خِدْمَةِ الْمَرْكَبِ جَائِزٌ وَلَهُمْ مِنْ الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلُوا عَطِبَ الْمَرْكَبُ أَوْ سَلِمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/200)
حكم
ما إذا هال البحر وخيف العطب فليخفف الأثقل فالأثقل ولا ضمان فيه على أهل المركب
...
1321- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ هَالَ الْبَحْرُ وَخَافُوا الْعَطَبَ فَلْيُخَفِّفُوا
الأَثْقَلَ فَالأَثْقَلَ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَرْكَبِ
لأََنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ} . فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} .
وقال مالك: يَضْمَنُ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا سِيقَ
لِلأَكْلِ، وَالْقُنْيَةِ، وَلاَ يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَنْ لاَ مَالَ
لَهُ فِي الْمَرْكَبِ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لاَ يَعْضُدُهُ دَلِيلٌ أَصْلاً،
وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَهُ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فَإِنْ كَانَ دُونَ الأَثْقَلِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، فَإِنْ
كَانَ فِي رَمْيِ الأَثْقَلِ كُلْفَةٌ يَطُولُ أَمْرُهَا، وَيُخَافُ غَرَقُ
السَّفِينَةِ فِيهَا، وَيُرْجَى الْخَلاَصُ، بِرَمْيِ الأَخَفِّ رُمِيَ الأَخَفُّ
حِينَئِذٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا مَنْ رَمَى الأَخَفَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
رَمْيِ الأَثْقَلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا رَمَى مِنْ ذَلِكَ لاَ يَضْمَنُهُ مَعَهُ
غَيْرُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَلاَ يُرْمَى حَيَوَانٌ إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ يُوقِنُ مَعَهَا بِالنَّجَاةِ بِرَمْيِهِ، وَلاَ يُلْقَى إنْسَانٌ
أَصْلاً لاَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ كَافِرٌ ; لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ دَفْعُ
ظُلْمٍ، عَنْ نَفْسِهِ بِظُلْمِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْهُ، وَالْمَانِعُ مِنْ إلْقَاءِ
مَالِهِ الْمُثْقِلِ لِلسَّفِينَةِ ظَالِمٌ لِمَنْ فِيهَا، فَدَفْعُ الْهَلاَكِ،
عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَنْعِهِ مِنْ ظُلْمِهِمْ فَرْضٌ.
(8/200)
استئجار
الحمام جائز ويكون البئر والساقية تبعا ولا يجوز عقد اجارة مع الداخل فيه ولكن
يعطى مكارمة
...
1322 - مَسْأَلَةٌ - وَاسْتِئْجَارُ الْحَمَّامِ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْبِئْرُ
وَالسَّاقِيَةُ تَبَعًا وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ إجَارَةٍ مَعَ الدَّاخِلِ فِيهِ،
لَكِنْ يُعْطَى مُكَارَمَةً، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ بِمَا
أُعْطِي أُلْزِمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مَا يُسَاوِي بَقَاؤُهُ فِيهِ فَقَطْ لأََنَّ
مُدَّةَ بَقَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مَجْهُولَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ
الْكِرَاءِ عَلَى مَجْهُولٍ; لأََنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ لِجَهْلِهِمَا،
بِمَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/200)
من
استأجر دار وكان فيها دالية أو شجرة لم يجز دخولها في الكراء أصلا
...
1323 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا دَالِيَةٌ،
أَوْ شَجَرَةٌ، لَمْ يَجُزْ دُخُولُهَا فِي الْكِرَاءِ أَصْلاً
قَلَّ خَطَرُهَا أَمْ كَثُرَ، ظَهَرَ حَمْلُهَا أَوْ لَمْ يَظْهَرْ طَابَ أَوْ
لَمْ يَطِبْ: لأََنَّهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الثَّمَرَةُ، وَقَبْلَ أَنْ تَطِيبَ
لاَ يَحِلُّ فِيهَا عَقْدٌ أَصْلاً إِلاَّ الْمُسَاقَاةُ فَقَطْ وَبَعْدَ ظُهُورِ
الطِّيبِ لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِلاَّ الْبَيْعُ، لاَ الإِجَارَةُ ; لأََنَّ
الإِجَارَةَ لاَ تُمْلَكُ بِهَا الْعَيْنُ، وَلاَ تُسْتَهْلَكُ أَصْلاً،
وَالْبَيْعُ تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ وَالرَّقَبَةُ، فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ
مَجْهُولٍ، وَإِجَارَةٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، فَهُوَ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ;
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
(8/200)
اجارة
المشاريع جائزة فيما ينقسم وما لا ينقسم من الشريك وغيره
...
1324 - مَسْأَلَةٌ - وَإِجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَمَا
لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ، وَمَعَ الشَّرِيكِ
وَدُونَهُ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ،
(8/200)
لا
ضمان على أجير مشترك وغير مشترك ولا على صانع إلا ما ثبت أنه تعدى فيه وأضاعه
...
1325 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَجِيرٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ غَيْرِ
مُشْتَرَكٍ، وَلاَ عَلَى صَانِعٍ أَصْلاً،
وَلاَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَدَّى فِيهِ أَوْ أَضَاعَهُ وَالْقَوْلُ فِي كُلِّ
ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ
قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالتَّعَدِّي، أَوْ الإِضَاعَةِ ضَمِنَ، وَلَهُ فِي
كُلِّ ذَلِكَ الأُُجْرَةُ فِيمَا أَثْبَتَ أَنَّهُ كَانَ عَمِلَهُ، فَإِنْ لَمْ
تَقُمْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَمِلَ
مَا يَدَّعِي أَنَّهُ عَمِلَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَبُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} فَمَالُ الصَّانِعِ وَالأَجِيرِ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ
اعْتَدَى أَوْ أَضَاعَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى، وَالإِضَاعَةُ لِمَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ تَعَدٍّ وَهُوَ مُلْزَمٌ
حِفْظَ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، لِنَهْيِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَحُكْمِهِ عليه السلام
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ ادَّعَى عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا أَنْكَرَ، وَمَنْ
طُلِبَ بِغَرَامَةِ مَالٍ أَوْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ غَرَامَةً فَهُوَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي مَالِ
غَيْرِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَمَا قلنا: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: لاَ يَضْمَنُ الصَّائِغُ، وَلاَ الْقَصَّارُ، أَوْ قَالَ
الْخَيَّاطُ وَأَشْبَاهُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ فِي حَمَّالٍ اُسْتُؤْجِرَ
لِحَمْلِ قُلَّةِ عَسَلٍ فَانْكَسَرَتْ قَالَ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَضْمَنُ
الأَجِيرُ إِلاَّ مِنْ تَضْيِيعٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَجِيرِ الْمُشَاهَرَةِ
(8/201)
ضَمَانٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ
يَضْمَنُ الْقَصَّارُ إِلاَّ مَا جَنَتْ يَدُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُطَرِّفٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: يَضْمَنُ الصَّانِعُ مَا أَعْنَتَ بِيَدِهِ، وَلاَ
يَضْمَنُ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ
بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ
لاَ يَضْمَنُ الْمَلَّاحُ غَرَقًا وَلاَ حَرَقًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا أَفْسَدَ الْقَصَّارُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَكَانَ
لاَ يُضَمِّنُهُ غَرَقًا، وَلاَ حَرَقًا، وَلاَ عَدُوًّا مُكَابِرًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا: وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ لَمْ
يُضَمِّنْ الْقَصَّارَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ
قَالَ: قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ يَضْمَنُ الصَّانِعُ إِلاَّ مَا أَعْنَتَ
بِيَدِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: يَضْمَنُ إذَا ضَيَّعَ.
وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّ حَمَّادَ
بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ كَانَ لاَ يُضَمِّنُ أَحَدًا مِنْ الصُّنَّاعِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ،
وَإِسْحَاقَ، وَالْمُزَنِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الصُّنَّاعُ كُلُّهُمْ ضَامِنُونَ مَا جَنَوْا وَمَا لَمْ يَجْنُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ضَمَّنَ
الصُّنَّاعَ يَعْنِي: مَنْ عَمِلَ بِيَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ يُضَمِّنُ الأَجِيرَ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ، وَالصَّوَّاغَ، وَقَالَ: لاَ
يُصْلِحُ النَّاسَ إِلاَّ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّنَ نَجَّارًا.
وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ تَضْمِينُ الأَجِيرِ وَالْقَصَّارِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ
أَيْضًا تَضْمِينُ الصُّنَّاعِ وَكَذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
بْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ كُلَّ أَجِيرٍ حَتَّى
صَاحِبَ الْفُنْدُقِ الَّذِي يَحْبِسُ لِلنَّاسِ دَوَابَّهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى حَتَّى إنَّهُ يُضَمِّنُ صَاحِبَ السَّفِينَةِ إذَا عَطِبَتْ
الأَمْتِعَةُ الَّتِي تَلِفَتْ فِيهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ كُلُّ مَنْ
أَخَذَ أَجْرًا وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
يَزِيدَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ الأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ
وَهُوَ الْعَامُّ وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الأَعْمَالِ وَلاَ يَضْمَنُ
الْخَاصُّ، وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ لِمُدَّةٍ مَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رُوِيَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ يَضْمَنُ الأَجِيرُ
الْمُشْتَرَكُ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ لاَ يَضْمَنُ الْخَاصُّ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ الصَّانِعُ مَا غَابَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً
أَنَّهُ تَلِفَ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ يَضْمَنُ، وَلاَ يَضْمَنُ
مَا ظَهَرَ أَصْلاً، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ تَعَدَّى
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
(8/202)
قال
أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ
قَبْلَهُ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ وَجْهَ لَهُ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ
احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ.فَقُلْنَا لَهُمْ: فَضَمَّنُوا الْوَدَائِعَ احْتِيَاطًا
لِلنَّاسِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمَّنَهَا أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ. وَأَيْضًا فَمَنْ جَعَلَ الْمُسْتَصْنِعِينَ أَوْلَى
بِالأَحْتِيَاطِ لَهُمْ مِنْ الصُّنَّاعِ وَالْكُلُّ مُسْلِمُونَ، وَلَوْ عَكَسَ
عَاكِسٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَضْلٌ كَمَنْ
قَالَ: بَلْ أَضْمَنُ مَا ظَهَرَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ
الشَّيْءَ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَتَعَدِّيهِ، وَلاَ أَضْمَنُ مَا بَطَنَ
إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ بِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ تَعَدِّيهِ، بَلْ
لَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْوَطُ فِي النَّظَرِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَهَذَا كَمَا تَرَى خَالَفُوا فِيهِ عُمَرَ
وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ
مُخَالِفٌ رضي الله عنهم، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ
آرَاءَهُمْ وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ
مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ: وَجَدْنَا مَا يَدْفَعُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى
بَعْضٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلاَثَةً لاَ رَابِعَ لَهَا:
فَقِسْمٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّافِعُ وَحْدَهُ لاَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَقَدْ
اتَّفَقْنَا أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي بَعْضِهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَوَجَبَ رَدُّ
كُلِّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا. وَقِسْمٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّافِعُ
وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي
بَعْضِهِ كَالْقِرَاضِ، فَوَجَبَ رَدُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ إلَيْهِ وَدَخَلَ
فِي ذَلِكَ الرَّهْنُ وَمَا دُفِعَ إلَى الصُّنَّاعِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يَنْتَفِعُ
بِهِ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَحْدَهُ فَقَدْ اتَّفَقْنَا فِي بَعْضِهِ عَلَى
أَنَّهُ مَضْمُونٌ كَالْقَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ مِثْلَهُ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ قِيَاسٌ فِي الْعَالَمِ لَكَانَ هَذَا وَلَكِنَّهُمْ لاَ
الآثَارَ اتَّبَعُوا وَلاَ الْقِيَاسَ عَرَفُوا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/203)
1326
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِمَضْمُونٍ مُسَمًّى مَحْدُودٍ
فِي الذِّمَّةِ، أَوْ بِعَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ مَعْرُوفَةِ الْحَدِّ
وَالْمِقْدَارِ
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: وقال مالك: يَجُوزُ كِرَاءُ الأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَاحْتَجُّوا
بِخَبَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْت أَجِيرًا لأَبْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ
بَطْنِي، وَعُقْبَةِ رِجْلِي.
قال أبو محمد: قَدْ يَكُونُ هَذَا تَكَارُمًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ لاَزِمٍ وَأَمَّا
الْعُقُودُ الْمَقْضِيُّ بِهَا فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بِمَعْلُومٍ، وَالطَّعَامُ
يَخْتَلِفُ: فَمِنْهُ اللَّيِّنُ، وَمِنْهُ الْخَشِنُ وَمِنْهُ الْمُتَوَسِّطُ
وَيَخْتَلِفُ الأُُدْمُ، وَتَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الأَكْلِ اخْتِلاَفًا
مُتَفَاوِتًا فَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّتْ "الإِجَارَةُ" بِحَمْدِ اللَّهِ
(8/203)
كتاب
الجعل في الآبق وغيره
لا يجوز الحكم بالجعل على أحد
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْجُعْلِ فِي الآبِقِ وَغَيْرِهِ
1327 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْجُعْلِ عَلَى أَحَدٍ،
فَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: إنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الآبِقِ فَلَكَ عَلَيَّ دِينَارٌ،
أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَلَكَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، أَوْ مَا
أَشْبَهَ هَذَا فَجَاءَهُ بِذَلِكَ أَوْ هَتَفَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ: مَنْ
جَاءَنِي بِكَذَا فَلَهُ كَذَا، فَجَاءَهُ بِهِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ،
وَيُسْتَحَبُّ لَوْ وَفَّى بِوَعْدِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ بِآبِقٍ فَلاَ
يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَ بِالْمَجِيءِ بِالإِبَاقِ أَوْ لَمْ
يُعْرَفْ بِذَلك، إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى طَلَبِهِ مُدَّةً مَعْرُوفَةً،
أَوْ لِيَأْتِيَهُ بِهِ مِنْ مَكَان مَعْرُوفٍ، فَيَجِبُ لَهُ مَا اسْتَأْجَرَهُ
بِهِ. وَأَوْجَبَ قَوْمٌ الْجُعْلَ وَأَلْزَمُوهُ الْجَاعِلَ وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وَبِقَوْلِ يُوسُفَ صلى الله
عليه وسلم وَخَدَمَتُهُ عَنْهُ: قَالُوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . وَبِحَدِيثِ الَّذِي رَقَى
عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "الإِجَارَاتِ"
فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ: أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ فِي
دَمِهِ، وَلاَ فِي مَالِهِ، وَلاَ فِي عِرْضِهِ، وَلاَ فِي بَشَرَتِهِ عَقْدًا،
وَلاَ أَنْ يَلْتَزِمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا، إِلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ
بِإِيجَابِهِ بِاسْمِهِ، أَوْ بِإِبَاحَتِهِ بِاسْمِهِ. فَصَحَّ أَنَّ الْعُقُودَ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا إنَّمَا هِيَ الْعُقُودُ
الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا بِأَسْمَائِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهَا فَحَرَامٌ
عَقْدُهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلاَ تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ،
فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى
لَمْ يَلْزَمْهُ عَقْدٌ خَالَفَ فِيهِ أَمْرَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ هُوَ
مَعْصِيَةٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ
أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " فَإِنْ قَالَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ
عَلِمْنَا يَقِينًا عِلْمَ ضَرُورَةٍ إذْ قَدْ عَقَدَ ذَلِكَ الْعَقْدَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لَمْ يُنَفِّذْهُ، وَلاَ فَعَلَهُ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْهُ، إذْ لَوْ شَاءَهُ اللَّهُ لاََنْفَذَهُ
وَأَتَمَّهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَمَّا الْتَزَمَ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْعَقْدِ إنْ
شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْفَذَهُ وَأَتَمَّهُ وَإِلَّا فَلاَ. وَأَيْضًا:
فَإِنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي هَذَا لاَ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْعُقُودِ لاَزِمَةً،
وَلاَ يَأْخُذُونَ بِعُمُومِ الآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، بَلْ يَقُولُونَ
فِيمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَصْبُغَ ثَوْبَهُ أَصْفَرَ، أَوْ أَنْ
يَمْشِيَ إلَى السُّوقِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، فَقَدْ
نَقَضُوا احْتِجَاجَهُمْ بِعُمُومِهَا، وَلَزِمَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْحَدِّ
الْمُفَرِّقِ بَيْنَ
(8/204)
مَا
يَلْزَمُونَهُ مِنْ الْعُقُودِ وَبَيْنَ مَا لاَ يَلْزَمُونَهُ، وَبِالْبُرْهَانِ
عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْحَدِّ، وَذَلِكَ الْفَرْقُ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ
مَرْدُودٌ، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ
بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} .
وَالْعَجَبُ: أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا: يَقُولُونَ: إنْ وَكَّدَ كُلَّ عَقْدٍ
عَقَدَهُ بِيَمِينٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ
الْكَفَّارَةُ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَقَطْ، ثُمَّ يُلْزِمُونَهُ إيَّاهُ إذَا لَمْ
يُؤَكِّدْهُ، فَتَرَاهُمْ كُلَّمَا أَكَّدَ الْعَاقِدُ عَقْدَهُ انْحَلَّ عَنْهُ،
وَإِذَا يُؤَكِّدُهُ لَزِمَهُ، وَهَذَا مَعْكُوسٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُ يُوسُفَ عليه السلام فَلاَ يَلْزَمُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ
شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام لاَ تَلْزَمُنَا، قَالَ
تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ،
فَذَكَرَ عليه السلام مِنْهَاوَأُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ". وَقَالَ
عليه السلام أَيْضًا: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي
فَذَكَرَ عليه السلام مِنْهَا: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ
خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً " رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ
جَابِرٍ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَإِذْ قَدْ صَحَّ
هَذَا فَلَمْ يُبْعَثُوا إلَيْنَا، وَإِذْ لَمْ يُبْعَثُوا إلَيْنَا فَلاَ يَلْزَمُنَا
شَرْعٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا الإِيمَانُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ
اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ لاَزِمٌ لِمَنْ بُعِثُوا إلَيْهِ
فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ
لَهَا; لأََنَّهُمْ لاَ يُلْزِمُونَ مَنْ قَالَ: لِمَنْ جَاءَنِي بِكَذَا حِمْلُ
بَعِيرٍ الْوَفَاءَ بِمَا قَالَ لأََنَّ هَذَا الْحِمْلَ لاَ يُدْرَى مِمَّ هُوَ
أَمِنْ اللُّؤْلُؤِ، أَوْ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ مِنْ رَمَادٍ، أَوْ مِنْ تُرَابٍ،
وَلاَ أَيُّ الْبُعْرَانِ هُوَ وَمِنْ الْبُعْرَانِ الضَّعِيفُ الَّذِي لاَ
يَسْتَقِلُّ بِعِشْرِينَ صَاعًا، وَمِنْهُمْ الْقَوِيُّ وَالصَّحِيحُ الَّذِي
يَسْتَقِلُّ بِثَلاَثِمِائَةِ صَاعٍ، وَلاَ أَشَدَّ مُجَاهِرَةً بِالْبَاطِلِ
مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ عَلَى مَنْ لَمْ
يَلْتَزِمْ قَطُّ ذَلِكَ الأَصْلَ. وَأَيْضًا: فَحَتَّى لَوْ كَانَ فِي
شَرِيعَتِنَا لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْنَا; لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ
إلْزَامُ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ جُعِلَ ذَلِكَ الْجُعْلُ
فَقَطْ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا خَالَفْنَاهُمْ فِيهِ. فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِالآيَتَيْنِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الرَّاقِي فَصَحِيحٌ إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ إبَاحَةُ أَخْذِ
مَا أَعْطَى الْجَاعِلَ عَلَى الرُّقْيَةِ فَقَطْ وَهَكَذَا نَقُولُ وَلَيْسَ
فِيهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْجَاعِلِ بِمَا جَعَلَ إنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ
فَسَقَطَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوفِيقُ.
فإن قيل إنَّهُ وَعْدٌ. قلنا: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي الْوَعْدِ وَالإِخْلاَفِ فِي
آخِرِ "كِتَابِ النُّذُور" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَكَلاَمُنَا هَهُنَا
فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَعْدٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ بِالْوَاجِبِ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَقَطْ، وَلاَ يُلْزِمُ أَحَدًا مَا الْتَزَمَهُ، لَكِنْ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى
(8/205)
عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ سَوَاءٌ
الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْمُلْزِمِينَ الْوَفَاءَ بِالْجُعْلِ يَقُولُونَ:
إنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَجْعُولُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا جُعِلَ لَهُ فِيهِ
ذَلِكَ الْجُعْلُ، وَهُمْ بِزَعْمِهِمْ أَصْحَابُ أُصُولٍ يَرُدُّونَ إلَيْهَا
فُرُوعَهُمْ فَفِي أَيِّ الأُُصُولِ وَجَدُوا عَقْدًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أَوْ
مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا، وَلاَ يَلْزَمُ
الآخَرُ. وقال مالك: مَا جَاءَ بِالآبِقِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِطَلَبِ
الإِبَاقِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِ الْمَوْضِعِ وَبُعْدِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَأْنُهُ، وَلاَ عَمَلُهُ، فَلاَ جُعْلَ لَهُ، لَكِنْ
يُعْطَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ فَقَطْ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَجِبُ الْجُعَلُ فِي
شَيْءٍ إِلاَّ فِي رَدِّ الآبِقِ فَقَطْ الْعَبْدُ وَالأَمَةُ سَوَاءٌ فَمَنْ
رَدَّ آبِقًا، أَوْ آبِقَةً مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ
عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِنْ رَدَّهُمَا مَنْ أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثٍ رُضِخَ لَهُ، وَلاَ يَبْلُغُ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ
جَاءَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَصَاعِدًا، وَهُوَ يُسَاوِي
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَقَلَّ نَقْصٍ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ.
ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ،
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ أَبُو
يُوسُفَ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلَوْ لَمْ يُسَاوِ إِلاَّ دِرْهَمًا
وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ
أَصْلاً; لأََنَّهُ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ،
لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ
مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا نَعْلَمُ
هَذَا الْقَوْلَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ
بَنَّاءً فَمَرَّ عَلَى حَائِطٍ مَائِلٍ فَأَصْلَحَهُ وَبَنَاهُ: أَنَّ لَهُ
أُجْرَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَنَّاءً وَبَنَاهُ فَلاَ أَجْرَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسَجَ غَزْلاً لأَخَرَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ
نَسَّاجًا فَلَهُ الأُُجْرَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسَّاجًا فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ
وَالْبَابُ يَتَّسِعُ هَهُنَا جِدًّا، فأما أَنْ يَتَزَيَّدُوا مِنْ التَّحَكُّمِ
فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَنَاقَضُوا، لاَ بُدَّ
مِنْ أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: فَفِي غَايَةِ
الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ ; لأََنَّهُمْ حَدُّوا حَدًّا لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ
تَابِعٍ، وَلاَ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ يُعْقَلُ. ثُمَّ
فِيهِ مِنْ التَّخَاذُلِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةِ عَقْلٍ، وَهُمْ قَدْ
قَالُوا: مَنْ قَتَلَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا،
أَوْ أَقَلَّ إلَى خَمْسَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ خَمْسَةُ
آلاَفٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا يُسَاوِي عِشْرِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، أَوْ أَقَلَّ إلَى عَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ سَوَّوْا فِي جُعْلِ الآبِقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَأَسْقَطَ
أَبُو حَنِيفَةَ دِرْهَمًا مِنْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يُسَاوِ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا، فَهَلاَّ أَسْقَطَ مِنْ ثَمَنِ الذَّكَرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَمِنْ
ثَمَنِ الأَمَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَمَا فَعَلَ فِي الْقَتْلِ؟ أَوْ هَلَّا
أَسْقَطَ هُنَالِكَ
(8/206)
دِرْهَمًا
كَمَا أَسْقَطَ هُنَا؟ وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ قَصَدُوا إلَى الدِّرْهَمِ؟
وَلَعَلَّهُ بَغْلِيٌّ أَيْضًا كَاَلَّذِي حَدَّ بِهِ النَّجَاسَاتِ، وَهَلَّا
حَدَّ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِرُبُعِ دِرْهَمٍ أَوْ بِفَلْسٍ؟ ثُمَّ إيجَابُ أَبِي
يُوسُفَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فِي جُعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ إِلاَّ دِرْهَمًا
فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَضَلُّ طَرِيقَةً، أَوْ أَبْعَدُ، عَنِ
الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَقَلُّ مُرَاقَبَةً مِمَّنْ يُعَارِضُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي الْمُصَرَّاةِ فِي أَنْ تُرَدَّ وَصَاعِ تَمْرٍ
لِحَمَاقَتِهِمْ وَآرَائِهِمْ الْمُنْتِنَةِ فَقَالُوا: أَرَأَيْت إنْ كَانَ
اشْتَرَاهَا بِنِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ ثُمَّ يُوجِبُ مِثْلَ هَذَا فِي الْجُعْلِ
الَّذِي لَمْ يَصِحَّ فِيهِ سُنَّةٌ قَطُّ. وَهَلَّا إذْ حَمَّقُوا هَهُنَا
قَالُوا فِي الْمُصَرَّاةِ: يَرُدُّهَا وَقِيمَتَهَا مِنْ صَاعِ تَمْرٍ إنْ
كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ إِلاَّ تَمْرَتَيْنِ، أَوْ إِلاَّ نِصْفَ مُدٍّ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ مَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ أَثَرًا
مُرْسَلاً، وَرِوَايَاتٍ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ، بَلْ خَالَفُوا الأَثَرَ الْمُرْسَلَ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفُوا كُلَّ
رِوَايَةٍ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ، عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأعجب شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ
إجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفُوهُ، وَمَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ عِنْدَهُمْ كَفَرَ
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأََصْحَابِ السَّعِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
إجْمَاعًا فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الأُُمَّةِ كُلِّهَا، وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ
اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ أَوْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالاَ جَمِيعًا:
مَا زِلْنَا نَسْمَعُ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي
الْعَبْدِ الآبِقِ يُوجَدُ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ ". وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالاَ جَمِيعًا: جَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الآبِقِ إذَا جِيءَ بِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ
دِينَارًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ قَالَ: " قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الآبِقِ
يُوجَدُ فِي الْحَرَمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ". وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ
الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ، وَلاَ
مُرْسَلَ أَصَحَّ مِنْ هَذَا; لأََنَّ عَمْرًا، وَعَطَاءً، وَابْنَ أَبِي
مُلَيْكَةَ ثِقَاتٌ أَئِمَّةٌ نُجُومٌ، وَكُلُّهُمْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ،
فَعَطَاءٌ أَدْرَكَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَصَحِبَهَا فَمَنْ دُونَهَا،
وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأَسْمَاءَ
بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَمِعَ مِنْهُمْ وَجَالَسَهُمْ.
وَعَمْرٌو أَدْرَكَ جَابِرًا، وَابْنَ عَبَّاسٍ وَصَحِبَهُمَا، لاَ سِيَّمَا مَعَ
قَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا لاَ نُبَالِي أَيَّهُمَا كَانَا أَنَّهُمَا مَا زَالاَ
يَسْمَعَانِ ذَلِكَ. فَهَانَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ مُخَالَفَةُ كُلِّ ذَلِكَ تَقْلِيدًا
لِخَطَأِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَسَهُلَ عِنْدَهُمْ فِي رَدِّ السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ بِتَقْلِيدِ رِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ:
الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ وَسَائِرُ الْمُرْسَلاَتِ الْوَاهِيَةِ
إذَا وَافَقَتْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هَذِهِ
طَرِيقَتُهُ فِي دِينِهِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
(8/207)
عَنْ
أَيُّوبَ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ، كِلاَهُمَا قَالَ:
إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي جُعْلِ الآبِقِ إذَا أُصِيبَ فِي غَيْرِ
مِصْرِهِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أُصِيبَ فِي الْمِصْرِ فَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فِي جُعْلِ الآبِقِ دِينَارٌ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَهَذَا
كُلُّهُ خِلاَفَ قَوْلِ الْمَالِكِيِّينَ وَالْحَنَفِيِّينَ. وَمِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي جُعْلِ الآبِقِ دِينَارٌ، أَوْ اثْنَا
عَشَرَ دِرْهَمًا زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ: إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ
الْمِصْرِ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ قَوْلِ الْمَالِكِيِّينَ وَالْحَنَفِيِّينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أُعْطِيت الْجُعَلَ فِي زَمَنِ
مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ الْحَنَفِيِّينَ
وَالْمَالِكِيِّينَ. ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَضَى بِذَلِكَ، وَلاَ
أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَلاَ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ، وَلاَ يُدْرَى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلاَ
مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهَذَا أَصْلاً وَلَعَلَّهُ أَعْطَاهُ فِي جُعْلٍ شَرْطِيٍّ
وَكَّلَهُ عَلَيْهِ زِيَادٌ ظُلْمًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ
رَبَاحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ:
أَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ بِإِبَاقٍ، أَوْ بِآبِقٍ فَقَالَ: الأَجْرُ
وَالْغَنِيمَةُ قُلْت: هَذَا الأَجْرُ، فَمَا الْغَنِيمَةُ قَالَ: مِنْ كُلِّ
رَأْسٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ آبِقًا
بِعَيْنِ التَّمْرِ فَجَاءَ بِهِ فَجَعَلَ فِيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
سُئِلَ، عَنْ جُعْلِ الآبِقِ فَقَالَ: إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْكُوفَةِ فَأَرْبَعِينَ،
وَإِذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَعَشَرَةً هَذَا كُلُّ مَا رُوِيَ فِيهِ، عَنِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لأََبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ،
وَلَمْ يَحِدَّ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلاَ أَحَدٌ قَبْلَهُ مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ
بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ كُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ.
أَمَّا عَنْ عُمَرَ فَأَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ مُنْقَطِعٌ وَالأُُخْرَى وَاَلَّتِي
عَنْ عَلِيٍّ فَكِلاَهُمَا عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ
وَاَلَّتِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ شَيْخٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ، وَزِيَادٍ: أَنَّ الآبِقَ إنْ
وُجِدَ فِي الْمِصْرِ فَجُعْلُ وَاجِدِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ وُجِدَ
خَارِجَ الْمِصْرِ فَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ
الشَّعْبِيِّ .وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَهَذَا خِلاَفُ
(8/208)
قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ
مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى فِي جُعْلِ الآبِقِ إذْ أُخِذَ عَلَى مَسِيرَةِ
ثَلاَثٍ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ
قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الآبِقِ فِي يَوْمٍ دِينَارًا، وَفِي
يَوْمَيْنِ دِينَارَيْنِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَمَا
زَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: جُعْلُ الآبِقِ قَدْ كَانَ يُجْعَلُ فِيهِ وَهُوَ
الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهَذَا عُمُومٌ، وَخِلاَفُ قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ خِلاَفُ هَذَا،
وَمِثْلُ قَوْلِنَا. وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ وُجِدَ فِي الْمِصْرِ فَلاَ
شَيْءَ، وَإِنْ وُجِدَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: فَهُمْ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ
مِنْهُمْ، وَهُمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ، وَهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ
مُخْتَلِفُونَ، فَلَمْ يَسْتَحِ الْحَنَفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الإِجْمَاعِ مِنْ
الصَّحَابَةِ عَلَى جُعْلِ الآبِقِ، وَلَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ،
وَلاَ جَاءَ إِلاَّ، عَنْ ثَلاَثَةٍ فَقَطْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ خَالَفُوهُمْ
مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إجْمَاعًا إجْمَاعُهُمْ بِيَقِينٍ
عَلَى الْمُسَاقَاةِ فِي خَيْبَرَ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، وَقَدْ اتَّفَقُوا بِلاَ
شَكٍّ، عَلَى ذَلِكَ عَصْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصْرُ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ رضي الله عنهم، وَلاَ بَالَوْا بِمُخَالَفَةِ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ هَذَا
الْعَدَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: صَحَّ عَنْهُمْ الْقِصَاصُ مِنْ
اللَّطْمَةِ، وَمِنْ ضَرْبَةٍ بِالسَّوْطِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ،
وَالْعِمَامَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا كُلِّهِ،
عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فِي الإِبَاقِ قَالَ: الْمُسْلِمُونَ يَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْمُسْلِمُ
يَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ: يَعْنِي فِي الآبِقِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ فِي
الآبِقِ: الْمُسْلِمُ يَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَالأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كُلُّهُمْ يَقُولُ: لاَ جُعْلَ فِي
الآبِقِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، هُوَ ابْنُ
كَدَّامٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ:
أَيُجْتَعَلُ فِي الآبِقِ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: الْحُرُّ قَالَ: لاَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
(8/209)
بْنِ
أَبِي بَكْرٍ قَالَ: إنْ لَمْ يُعْطِهِ جُعْلاً فَلْيُرْسِلْهُ فِي الْمَكَانِ
الَّذِي أَخَذَهُ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَنَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَفَرَضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمِ حِفْظَ
مَالِ أَخِيهِ إذَا وَجَدَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ بِغَيْرِ طِيبِ
نَفْسِهِ فَلاَ شَيْءَ لِمَنْ أَتَى بِآبِقٍ ; لأََنَّهُ فَعَلَ فِعْلاً هُوَ
فَرْضٌ عَلَيْهِ، كَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَوْ أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ لَكَانَ حَسَنًا، وَلَوْ أَنَّ الإِمَامَ
يُرَتِّبُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَطَاهُ لَكَانَ حَسَنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. تَمَّ "كِتَابُ الْجُعْلِ" بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.
(8/210)
كتاب
المزارعة والمغارسة
مدخل
الاكثار من الزرع والغرس حسن وأجر مالم يشغل ذلك عن الجهاد
...
كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُغَارَسَةِ
1329 - مَسْأَلَةٌ - الإِكْثَارُ مِنْ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ حَسَنٌ وَأَجْرٌ، مَا
لَمْ يُشْغِلْ ذَلِكَ، عَنِ الْجِهَادِ
وَسَوَاءٌ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، أَوْ الأَرْضِ الَّتِي
أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، أَوْ أَرْضِ الصُّلْحِ، أَوْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ
الْمَقْسُومَةِ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ الْمَوْقُوفَةِ بِطِيبِ الأَنْفُسِ
لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَائِرٌ
أَوْ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ فَعَمَّ
عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ الزَّرْعَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
وَهَذَا خَطَأٌ، وَتَفْرِيقٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَاحْتَجَّ لِهَذَا بَعْضُ
مُقَلِّدِيهِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْحِمْصِيُّ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ رَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ:
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ
قَوْمٍ إِلاَّ دَخَلَهُ الذُّلُّ ".
قال أبو محمد: لَمْ تَزَلْ الأَنْصَارُ كُلُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ قَسَّمَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضًا مِنْ فُتُوحِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَنْ
أَقْطَعَهُ أَرْضًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَزْرَعُونَ وَيَغْرِسُونَ بِحَضْرَتِهِ
صلى الله عليه وسلموَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ،
وَعُمَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالطَّائِفِ، فَمَا حَضَّ عليه السلام قَطُّ عَلَى
تَرْكِهِ. وهذا الخبر عُمُومٌ كَمَا تَرَى لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَ أَهْلِ
بِلاَدِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ
(8/210)
بِلاَدِ
الْعَرَبِ، وَكَلاَمُهُ عليه السلام لاَ يَتَنَاقَضُ. فَصَحَّ أَنَّ الزَّرْعَ
الْمَذْمُومَ الَّذِي يُدْخِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِهِ الذُّلَّ هُوَ مَا
تُشُوغِلَ بِهِ، عَنِ الْجِهَادِ، وَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ الَّذِي يُؤَجِّرُ
صَاحِبَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنُهُ وَمَذْمُومُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِ
الْعَرَبِ أَوْ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ إذْ السُّنَنُ فِي ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهَا.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ زَرَعُوا
بِالشَّامِ، فَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهِ وَقَدْ
ابْيَضَّ، فَأُحْرِقَ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ تَوَلَّى حَرْقَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
أَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْمُرَادِيِّ:
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمَرَادِيِّ:
لاَ آذَنُ لَك بِالزَّرْعِ إِلاَّ أَنْ تُقِرَّ بِالذُّلِّ، وَأَمْحُو اسْمَك مِنْ
الْعَطَاءِ، وَأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الشَّامِ مَنْ زَرَعَ وَاتَّبَعَ
أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَعَلْت عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ.
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَأَسَدٌ ضَعِيفٌ، وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُحْرِقَ زُرُوعَ الْمُسْلِمِينَ وَيُفْسِدَ
أَمْوَالَهُمْ، وَمِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِهَذَا، وَهُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ.
(8/211)
لا
يجوز اكراء الأرض بشيء أصلا
...
1330 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِشَيْءٍ أَصْلاً لاَ
بِدَنَانِيرَ، وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِعَرْضٍ، وَلاَ بِطَعَامِ مُسَمًّى،
وَلاَ بِشَيْءٍ أَصْلاً.،
وَلاَ يَحِلُّ فِي زَرْعِ الأَرْضِ إِلاَّ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ
يَزْرَعَهَا الْمَرْءُ بِآلَتِهِ وَأَعْوَانِهِ وَبَذْرِهِ وَحَيَوَانِهِ.
وَأَمَّا أَنْ يُبِيحَ لِغَيْرِهِ زَرْعَهَا، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا،
فَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الآلَةِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْبَذْرِ، وَالأَعْوَانِ دُونَ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لِلأَرْضِ كِرَاءً فَحَسَنُ. وَأَمَّا أَنْ يُعْطِيَ
أَرْضَهُ لِمَنْ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَحَيَوَانِهِ وَأَعْوَانِهِ وَآلَتِهِ
بِجُزْءٍ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الأَرْضِ مِمَّا يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا
مُسَمًّى، إمَّا نِصْفٌ، وَأَمَّا ثُلُثٌ، أَوْ رُبُعٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ
أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ أَلْبَتَّةَ
شَيْءٌ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلزَّارِعِ قَلَّ مَا أَصَابَ
أَوْ كَثُرَ فَإِنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ جَائِزَةٌ، فَمَنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّنَا قَدْ رُوِّينَا، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا
فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ،
عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعٍ، عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله
(8/211)
عنهما أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ قَالَ: فَذَهَبَ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَافِعٌ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ وَهُوَ الْحَذَّاءُ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ قَالَ: وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ . فَهَؤُلاَءِ شَيْخَانِ بَدْرِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ كُلُّهُمْ يَرْوِي، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام النَّهْيَ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً، وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلاَّ أَنْ يَزْرَعَهَا صَاحِبُهَا أَوْ يَمْنَحَهَا غَيْرَهُ أَوْ يَمْسِكَ أَرْضَهُ فَقَطْ، فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ الْمُتَيَقَّنِ فَأَخَذَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرًا، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَنَا، ثُمَّ تَرَكْنَا ذَلِكَ حِينَ سَمِعْنَا حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَرِهَ كِرَاءَ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ قَرَأْت عَلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيِّ قُلْت: أُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدٍ أَبِي شُجَاعٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: إنِّي يَتِيمٌ فِي حِجْرِ جَدِّي رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَجَاءَهُ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلاَنَةَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ
(8/212)
فَقَالَ:
دَعْهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ
وَعَنْ عَمِّي رَافِعٍ نَحْوُهُ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ مِنْ الزَّرْعِ إِلاَّ أَرْضٌ تُمَلَّكُ رَقَبَتُهَا، أَوْ أَرْضٌ
يَمْنَحُكَهَا رَجُلٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ إجَارَةَ الأَرْضِ. وبه إلى
وَكِيعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ كِرَاءَ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ كِرَاءَ
الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ كِرَاءُ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا
عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
مُرَّةَ قَالَ: سَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ.
قال أبو محمد: فَأَفْتَى مَنْ اسْتَفْتَاهُ بِالنَّهْيِ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا
خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
حَسَّانَ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ كِرَاءَ الأَرْضِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وبه إلى إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، حَدَّثَنَا دَاوُد
بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ
قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
يَقُولُونَ: لاَ تَصْلُحُ الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ بِالدَّرَاهِمِ، وَلاَ
بِالدَّنَانِيرِ، وَلاَ مُعَامَلَةً إِلاَّ أَنْ يَزْرَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ
يَمْنَحَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الزَّرْعَ. قَالَ
الشَّعْبِيُّ: فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَنِي وَلَقَدْ كُنْت مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ
السَّوَادِ ضَيْعَةً وَهَذَا يَقْتَضِي، وَلاَ بُدَّ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا كَانَا
يَكْرَهَانِ إجَارَةَ الأَرْضِ جُمْلَةً.
فَهَؤُلاَءِ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَسْرُوقٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وطَاوُوس،
وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ، لاَ يَرَى
كِرَاءَ الأَرْضِ أَصْلاً لاَ بِدَنَانِيرَ، وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ. فَصَحَّ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً، ثُمَّ وَجَدْنَا قَدْ
صَحَّ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ
زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، هُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ
(8/213)
ابْنِ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ
نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِصْفُ ثَمَرِهَا . وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى
خَيْبَرَ أَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ عَنْهَا، فَسَأَلُوهُ عليه السلام أَنْ
يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى
ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجَلاَهُمْ عُمَرُ. فَفِي هَذَا أَنَّ
آخِرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ مَاتَ كَانَ إعْطَاءَ
الأَرْضِ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الزَّرْعِ وَمِنْ الثَّمَرِ وَمِنْ
الشَّجَرِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ
رضي الله عنهم مَعَهُمْ، فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ
مِنْهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ
أَوْ يُؤْخَذُ لَهَا أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُتَأَخِّرُ
نَاسِخًا لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا; لأََنَّ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ قَدْ صَحَّ، فَلَوْلاَ أَنَّهُ
قَدْ صَحَّ لَقُلْنَا: لَيْسَ نَسْخًا، لَكِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ
النَّهْيِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَاتَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَمَا قَطَعْنَا بِالنَّسْخِ، لَكِنْ ثَبَتَ
أَنَّهُ آخِرُ عَمَلِهِ عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّهُ نَسْخٌ صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ
لاَ شَكَّ فِيهِ، وَبَقِيَ النَّهْيُ، عَنِ الإِجَارَةِ جُمْلَةً بِحَسَبِهِ، إذْ
لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ، وَلاَ يُخَصِّصُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِالْكَذِبِ
الْبَحْتِ، أَوْ الظَّنِّ السَّاقِطِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي
الدِّينِ.
فإن قيل: إنَّمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ أَنْ
يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَعَنْ أَنْ تُكْرَى بِثُلُثٍ أَوْ
بِرُبُعٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ بِالنِّصْفِ فَأَجِيزُوا إعْطَاءَهَا
بِالنِّصْفِ خَاصَّةً وَامْنَعُوا مِنْ إعْطَائِهَا بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ قلنا:
لاَ يَجُوزُ هَذَا; لأََنَّهُ إذَا أَبَاحَ عليه السلام إعْطَاءَهَا بِالنِّصْفِ
لَهُمْ وَالنِّصْفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَهُ عليه السلام، فَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ،
وَالْمُشَاهَدَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، وَمَا دُونَ
ذَلِكَ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الأَجْزَاءِ مِمَّا دُونَ النِّصْفِ دَاخِلٌ فِي
النِّصْفِ، فَقَدْ أَعْطَاهَا عليه السلام بِالرُّبُعِ وَزِيَادَةٍ وَبِالثُّلُثِ
وَزِيَادَةٍ.فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَمِمَّنْ أَجَازَ إعْطَاءَ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ ثُمَّ
أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ
(8/214)
قَالَ:
عَامَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ
مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ
بْنِ حُصَيْرَةَ حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ صُلَيْعٍ
أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَخَذْت أَرْضًا بِالنِّصْفِ
أَكْرِي أَنْهَارَهَا وَأُصْلِحُهَا وَأَعْمُرُهَا قَالَ عَلِيٌّ: لاَ بَأْسَ
بِهَا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كِرَاءُ الأَنْهَارِ هُوَ حَفْرُهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ أَنَّهُ سَمِعَ
طَاوُوسًا يَقُولُ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَعْطَى الأَرْضَ
عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَنَحْنُ نَعْمَلُهَا إلَى الْيَوْمِ.
قال أبو محمد: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ
عَلَى هَذَا الْعَمَلِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ
ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ، وَهَذَا عَنْهُ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ رُجُوعَهُ، عَنْ إبَاحَةِ كِرَاءِ الأَرْضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ فَقُلْت: أَرْضٌ تَقَبَّلْتهَا
لَيْسَ فِيهَا نَهْرٌ جَارٍ، وَلاَ نَبَاتٌ عَشْرَ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ
دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ كَرَيْت أَنْهَارَهَا، وَعَمَّرْت فِيهَا قُرَاهَا،
وَأَنْفَقْت فِيهَا نَفَقَةً كَثِيرَةً، وَزَرَعْتهَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيَّ رَأْسَ
مَالِي زَرَعْتهَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأُضْعِفُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ
يَصْلُحُ لَك إِلاَّ رَأْسُ مَالِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَأَبُو الأَحْوَصِ، كِلاَهُمَا، عَنْ
كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قُلْت لأَبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ، وَمَاءٌ، لَيْسَ
لَهُ بَذْرٌ، وَلاَ بَقَرٌ، فَأَعْطَانِي أَرْضَهُ بِالنِّصْفِ، فَزَرَعْتهَا بِبَذْرِي
وَبَقَرِي، ثُمَّ قَاسَمْته قَالَ: حَسَنٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إيَادِ بْنِ
لَقِيطٍ كِلاَهُمَا، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ مِثْلُهُ أَيْضًا فَهَذَانِ
إسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ كُلَيْبُ
بْنُ وَائِلٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَلاَ
أَجَازَ مَا أَصَابَ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَسَأَلَهُ،
عَنْ أَخْذِهَا بِالنِّصْفِ مِمَّا يَخْرُجُ فِيهَا، لاَ يَجْعَلُ صَاحِبُهَا
فِيهَا لاَ بَذْرًا، وَلاَ عَمَلاً وَيَكُونُ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ
وَالْبَذْرُ فَأَجَازَهُ وَهَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَأَبِي الأَحْوَصِ وَغَيْرِهِمْ كُلُّهُمْ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ أَنَّهُ شَاهَدَ جَارَيْهِ سَعْدِ
(8/215)
بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُعْطِيَانِ أَرْضَهُمَا عَلَى
الثُّلُثِ.وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ
طَلْحَةَ: أَنَّ خَبَّابَ بْنَ الأَرَتِّ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَابْنَ
مَسْعُودٍ كَانُوا يُعْطُونَ أَرْضَهُمْ الْبَيَاضَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ.
فَهَؤُلاَءِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ، وَخَبَّابٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَمُعَاذٌ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ
أَخْبَرَنِي مَنْ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، عَنِ الأَرْضِ تُعْطَى بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ
بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ نَهْيَهُ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ وَهَذَا نَصُّ
قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يَرَيَانِ
بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ أَرْضَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الثُّلُثَ، أَوْ الرُّبُعَ،
وَالْعُشْرَ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ
طَاوُوس يَكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ يَرَى
بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَأْسًا وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ،
وَابْنَ سِيرِينَ كَانَا لاَ يَرَيَانِ بَأْسًا بِالإِجَارَةِ عَلَى الثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ يَعْنِي فِي الأَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَهْيَ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ
كِرَاءِ الأَرْضِ فَقَوْلُهُ هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ كَتَبَ: أَنْ أَعْطُوا الأَرْضَ عَلَى الرُّبُعِ، وَالثُّلُثِ
وَالْخُمُسِ، إلَى الْعُشْرِ، وَلاَ تَدَعُوا الأَرْضَ خَرَابًا. وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَفْصٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ
ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى، وَخَالِدٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ
بِإِعْطَاءِ الأَرْضِ بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى قَالَ: كَانَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيْلَى أَرْضٌ بِالْفَوَّارَةِ فَكَانَ يَدْفَعُهَا
بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَيُرْسِلُنِي فَأُقَاسِمُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ
بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَّ وَهُمْ
يُعْطُونَ أَرْضَهُمْ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(8/216)
حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا
جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: آلُ أَبِي بَكْرٍ،
وَآلُ عُمَرَ، وَآلُ عَلِيٍّ يَدْفَعُونَ أَرْضَهُمْ بِالثُّلُثِ، أَوْ الرُّبُعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ
بُكَيْرِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ
قَالَ كُنْت أُزَارِعُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَأَحْمِلُهُ إلَى عَلْقَمَةَ،
وَالأَسْوَدِ، فَلَوْ رَأَيَا بِهِ بَأْسًا لَنَهَيَانِي عَنْهُ.
وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، وَمُوسَى
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا، عَنِ اللَّيْثِ،
وَأَجَازَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ إِلاَّ أَنَّهُمَا قَالاَ: إنَّ الْبَذْرَ
يَكُونُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الأَرْضِ وَإِنَّمَا عَلَى الْعَامِلِ الْبَقَرُ،
وَالآلَةُ، وَالْعَمَلُ وَأَجَازَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُبَالِ
مَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ مِنْهُمَا.
قال أبو محمد: فِي اشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ
خَيْبَرَ أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ: بَيَانٌ أَنَّ الْبَذْرَ
وَالنَّفَقَةَ كُلُّهَا عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَرْضِ
بِأَنْ يُقْرِضَ الْعَامِلَ الْبَذْرَ، أَوْ بَعْضَهُ أَوْ مَا يَبْتَاعُ بِهِ
الْبَقَرَ، أَوْ الآلَةَ، أَوْ مَا يَتَّسِعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي
الْعَقْدِ فَهُوَ جَائِزٌ; لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ، وَالْقَرْضُ أَجْرٌ وَبِرٌّ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ عَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الأَرْضِ،
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، وَفِي الْمُزَارَعَةِ فَأَجَازَ كُلُّ مَنْ
ذَكَرْنَا حَاشَا مَالِكًا وَحْدَهُ كِرَاءَ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ،
وَبِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى كَيْلُهُ فِي الذِّمَّةِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ
يَكُونَ مِمَّا تَخْرُجُهُ تِلْكَ الأَرْضُ وَبِالْعُرُوضِ كُلِّهَا. وقال مالك
بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَ الأَرْضِ بِشَيْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا:
كَالْعَسَلِ، وَالْمِلْحِ، وَالْمُرِّيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجَازَ كِرَاءَهَا
بِالْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَإِنْ كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَهَذَا تَقْسِيمٌ لاَ
نَعْرِفُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِ
هَذَا مُتَعَلَّقًا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ
لَهُ وَجْهٌ يَعْنِي اسْتِثْنَاءَهُ الْعَسَلَ، وَالْمِلْحَ، وَإِجَازَتَهُ
الْخَشَبَ، وَالْحَطَبَ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إعْطَاءَ الأَرْضِ
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وقال مالك:
لاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا تُخْرِجُ الأَرْضُ،
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ وَشَجَرٌ، فَيَكُونُ مِقْدَارُ الْبَيَاضِ مِنْ
الأَرْضِ ثُلُثَ مِقْدَارِ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِقْدَارَ
الثُّلُثَيْنِ مِنْ
(8/217)
الْجَمِيعِ،
فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ تُعْطَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ عَلَى مَا
يُعْطَى بِهِ ذَلِكَ السَّوَادُ. وقال الشافعي: لاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ الأَرْضِ
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا تُخْرِجُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي خِلاَلِ الشَّجَرِ لاَ
يُمْكِنُ سَقْيُهَا، وَلاَ عَمَلُهَا إِلاَّ بِعَمَلِ الشَّجَرِ وَحَفْرِهَا
وَسَقْيِهَا، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إعْطَاؤُهَا بِثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ أَوْ نِصْفٍ
عَلَى مَا تُعْطَى بِهِ الشَّجَرُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد: لاَ يَجُوزُ
إعْطَاءُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلاَّ أَنْ تُعْطَى
هِيَ وَالشَّجَرُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: حُجَّةُ جَمِيعِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ نَهْيُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ،
وَالرُّبُعِ
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَسْنَا نُخَارِجُهُمْ الآنَ فِي أَلْفَاظِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ
بَلْ يَقُولُ: نَعَمْ، قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
نَهَى، عَنْ أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ
أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ
وَهَذَا نَهْيٌ، عَنْ إعْطَائِهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، لَكِنْ
فِعْلُهُ عليه السلام فِي خَيْبَرَ هُوَ النَّاسِخُ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ فَخَالَفَ النَّاسِخَ وَأَخَذَ بِالْمَنْسُوخِ. وَأَمَّا
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: فَحَيَّرَهُمْ فِعْلُ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضِ خَيْبَرَ فَأَخْرَجُوهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
عَنْهُمْ وَكُلُّ تِلْكَ الْوُجُوهِ تَحَكُّمٌ. وَيُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ
مَالِكًا: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَحْدِيدُ الْبَيَاضِ بِالثُّلُثِ وَلَمْ يَأْتِ
قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ تَحْدِيدُ ثُلُثٍ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ،
وَمِثْلُ هَذَا فِي الدِّينِ لاَ يَجُوزُ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تُرِيدُونَ
بِالثُّلُثِ أَثُلُثَ الْمِسَاحَةِ أَوْ ثُلُثَ الْغَلَّةِ أَمْ ثُلُثَ الْقِيمَةِ
فَإِلَى أَيِّ وَجْهٍ مَالُوا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قِيلَ لَهُمْ: وَمِنْ أَيْنَ
خَصَّصْتُمْ هَذَا الْوَجْهَ دُونَ غَيْرِهِ وَالْغَلَّةُ قَدْ تَقِلُّ
وَتَكْثُرُ، وَالْقِيمَةُ كَذَلِكَ وَأَمَّا الْمِسَاحَةُ فَقَدْ تَكُونُ
مِسَاحَةً قَلِيلَةَ أَعْظَمَ غَلَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ قِيمَةٍ مِنْ أَضْعَافِهَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ حَائِطًا وَاحِدًا، وَلاَ مَحْشَرًا
وَاحِدًا، وَلاَ قَرْيَةً وَاحِدَةَ، وَلاَ حِصْنًا وَاحِدًا، بَلْ كَانَتْ
حُصُونًا كَثِيرَةً بَاقِيَةً إلَى الْيَوْمِ لَمْ تَتَبَدَّلْ مِنْهَا
الْوَطِيحُ، وَالسَّلاَلِمُ، وَنَاعِمٌ، وَالْقُمُوصُ، وَالْكَتِيبَةُ،
وَالشَّقُّ، وَالنَّطَاةُ، وَغَيْرُهَا وَمَا الظَّنُّ بِبَلَدٍ أَخَذَ فِيهِ
الْقِسْمَةَ مِائَتَا فَارِسٍ وَأَضْعَافُهُمْ مِنْ الرِّجَالِ فَتَمَوَّلُوا
مِنْهَا وَصَارُوا أَصْحَابَ ضِيَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ لِمَالِكٍ تَحْدِيدُ الثُّلُثِ
وَقَدْ كَانَ فِيهَا بَيَاضٌ لاَ سَوَادَ فِيهِ، وَسَوَادٌ لاَ بَيَاضَ فِيهِ،
وَبَيَاضُ سَوَادٍ، فَمَا جَاءَ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ تَخْصِيصُ مَا
خَصَّهُ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الثُّلُثُ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. قلنا: نَعَمْ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الثُّلُثَ قَلِيلاً بِخِلاَفِ الأَثَرِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ
وَلِلشَّافِعِيِّ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(8/218)
صلى
الله عليه وسلم إنَّمَا أَعْطَى أَرْضَ خَيْبَرَ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا;
لأََنَّهَا كَانَتْ تَبَعًا لِلسَّوَادِ؟ وَهَلْ يَعْلَمُ هَذَا أَحَدٌ إِلاَّ
مَنْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ،
وَإِلَّا فَهُوَ غَفْلَةٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَقَطْعٌ بِالظَّنِّ وَأَمَّا بَعْدَ
التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فَمَا هُوَ إِلاَّ الْكَذِبُ الْبَحْتُ عَلَيْهِ صلى الله
عليه وسلم . وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَهُوَ أَنَّهُ عليه السلام أَعْطَى
أَرْضَهَا بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ وَأَعْطَى نَخْلَهَا
وَثِمَارَهَا كَذَلِكَ، فَنَحْنُ نَقُولُ: هَذَا سُنَّةٌ، وَحَقٌّ أَبَدًا، وَلاَ
نَزِيدُ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِظَاهِرِهِمَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ
بِقَوْلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ
قَالَ: الْمُخَابَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ، فَدَلَّ أَنَّهَا بَعْدَ
خَيْبَرَ.
قال أبو محمد: وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ قَبِيحَ مَا أَتَى بِهِ
لاَسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَتَقَنَّعَ حَيَاءً مِنْهُ، أَمَّا
عِلْمُ الْجَاهِلِ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ هَذَا اسْمَهَا قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْمُخَابَرَةَ كَانَتْ تُسَمَّى بِهَذَا
الأَسْمِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ إعْطَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ كَانَ إلَى يَوْمِ
مَوْتِهِ عليه السلام، وَاتَّصَلَ كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام فَكَيْف
يَسُوغُ لِذِي عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنِ
الْمُخَابَرَةِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَرَى عَهْدَهُ عليه السلام أَتَانَا مِنْ
الآخِرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَمَّا هَذَا مِنْ
السُّخْفِ، وَالتَّلَوُّثِ، وَالْعَارِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ،
وَيَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الْجُنُونِ فَصَحَّ يَقِينًا كَالشَّمْسِ أَنَّ
النَّهْيَ، عَنِ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
كَانَ قَبْلَ أَمْرِ خَيْبَرَ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِلْكِرَاءِ بِحَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ
"أَ نَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ
وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا ". وَبِالْخَبَرِ
الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ
رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ
الزُّرَقِيُّ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّمَا كَانَ النَّاسُ
يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى
الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ،
فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ
يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ فأما شَيْءٌ
مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَهَذَانِ خَبَرَانِ صَحِيحَانِ، وَبِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
(8/219)
حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ عَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ: قُلْت لِطَاوُسٍ: لَوْ تُرِكَتْ
الْمُخَابَرَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا فَمَا
يَزْعُمُونَ فَقَالَ لِي طَاوُوس: إنَّ أَعْلَمَهُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ
أَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَلَكِنْ
قَالَ: لاََنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ صَحِيحٌ. وَبِخَبَرٍ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِمِنْهُ، إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلاَنِ قَدْ اقْتَتَلاَ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلاَ تُكْرُوا
الْمَزَارِعَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: أَمَّا حَدِيثُ زَيْدٍ فَلاَ يَصِحُّ،
وَلَكِنَّا نُسَامِحُكُمْ فِيهِ فَنَقُولُ: هَبْكُمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فَإِنَّ
رَافِعًا لاَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوَهْمُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ نَقُولُ: صَدَقَ
زَيْدٌ، وَصَدَقَ رَافِعٌ، وَكِلاَهُمَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالثِّقَةِ، وَإِذْ
حَفِظَ زَيْدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتَ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ رَافِعٌ فَقَدْ سَمِعَ
رَافِعٌ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى مَا لَمْ يَسْمَعْهُ زَيْدٌ، وَلَيْسَ زَيْدٌ
بِأَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ مِنْ رَافِعٍ، وَلاَ رَافِعٌ أَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ
مِنْ زَيْدٍ، بَلْ كِلاَهُمَا صَادِقٌ. وَقَدْ رَوَى النَّهْيَ، عَنِ الْكِرَاءِ
جُمْلَةً لِلأَرْضِ: جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ
عُمَرَ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ زَيْدٍ. ثم نقول لَهُمْ: إنْ
غَلَّبْتُمْ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ، عَنِ الْكِرَاءِ
فَغَلِّبُوهُ عَلَى النَّهْيِ، عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَلاَ فَرْقَ. وَهَكَذَا
الْقَوْلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ; لأََنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَنْهَ عَنْهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو
سَعِيدٍ، وَابْنُ عُمَرَ: نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَكُلٌّ صَادِقٌ، وَكُلٌّ إنَّمَا أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ. وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ
يَسْمَع النَّهْيَ وَهَؤُلاَءِ سَمِعُوهُ، فَمَنْ أَثْبَتَ أَوْلَى مِمَّنْ نَفَى،
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِمَ أَوْلَى مِمَّنْ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ. وَأَمَّا خَبَرُ
حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعٍ، فَاَلَّذِي فِيهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ
كَلاَمِ رَافِعٍ يَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَمَّا شَيْءٌ مَضْمُونٌ فَلاَ. وَقَدْ
اُخْتُلِفَ، عَنْ رَافِعٍ فِي ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ، وَرَوَى عَنْهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ النَّهْيَ، عَنْ كِرَائِهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى فَلِمَ
أَجَزْتُمُوهُ وَرِوَايَةُ حَنْظَلَةَ، عَنْ رَافِعٍ شَدِيدَةُ الأَضْطِرَابِ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالزَّائِدُ عِلْمًا أَوْلَى. وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ
سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَنَافِعٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ،
وَأَبُو النَّجَاشِيِّ وَغَيْرُهُمْ: النَّهْيَ، عَنْ كَرْيِ الأَرْضِ جُمْلَةً،
عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
(8/220)
خِلاَفَ
مَا رَوَى عَنْهُ حَنْظَلَةُ، وَكُلُّهُمْ أَوْثَقُ مِنْ حَنْظَلَةَ فَالزَّائِدُ
أَوْلَى. وَأَمَّا حَدِيثُ أَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ فَنَعَمْ، هُوَ صَحِيحٌ،
وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم وَخَبَرُ الإِبَاحَةِ مُوَافِقٌ
لِمَعْهُودِ الأَصْلِ، وَخَبَرُ النَّهْيِ زَائِدٌ، فَالزَّائِدُ أَوْلَى،
وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَهَى، عَنِ
الْكِرَاءِ فَقَدْ حَرَّمَ مَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ ذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ
يَحِلُّ أَنْ يُتْرَكَ الْيَقِينُ لِلظَّنِّ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الإِبَاحَةَ
الَّتِي قَدْ تَيَقَّنَّا بُطْلاَنَهَا قَدْ عَادَتْ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَعَلَيْهِ
الدَّلِيلُ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْيَقِينِ بِالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ، وَلَيْسَ
إِلاَّ تَغْلِيبُ النَّهْيِ، فَبَطَلَ الْكِرَاءُ جُمْلَةً، وَالْمُخَابَرَةُ
جُمْلَةً، أَوْ تَغْلِيبُ الإِبَاحَةِ، فَيَثْبُتُ الْكِرَاءُ جُمْلَةً،
وَالْمُخَابَرَةُ جُمْلَةً، كَمَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ،
وَغَيْرُهُمَا.
وَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي تَغْلِيبِ النَّهْيِ فِي جِهَةٍ، وَتَغْلِيبُ
الإِبَاحَةِ فِي أُخْرَى بِلاَ بُرْهَانٍ فَتَحَكُّمُ الصِّبْيَانِ، وَقَوْلٌ لاَ
يَحِلُّ فِي الدِّينِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ:
فَإِنَّ مُقَلِّدِيهِ احْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ قلنا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَبِّ قَال: لاَ، قَالَ:
نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ فَقَالَ: لاَ: قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى
الرَّبِيعِ السَّاقِي قَالَ: لاَ، ازْرَعْهَا، أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ .
وَبِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ، قَالَ رَافِعٌ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ نَتَقَبَّلَ الأَرْضَ بِبَعْضِ خَرْجِهَا. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ
بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: إنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُمْ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ
لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلاَ يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ، وَلاَ بِرُبُعٍ، وَلاَ
بِطَعَامٍ مُسَمًّى ". وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِكْرِمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ لَبِيبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْمَزَارِعِ يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ
فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ عَلَى السَّوَاقِي
مِنْ الزَّرْعِ فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصِمُونَ،
فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ وَقَالَ:
أَكْرُوا بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَرْخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ الزُّرَقِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ
يَقُولُ: كُنَّا نَقُولُ لِلَّذِي نُخَابِرُهُ: لَك هَذِهِ الْقِطْعَةُ
(8/221)
وَلَنَا
هَذِهِ الْقِطْعَةُ نَزْرَعُهَا فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ
هَذِهِ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فأما بِوَرِقٍ
فَلَمْ يَنْهَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: إنَّمَا يَزْرَعُ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا
أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُهَا أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا
بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فَسَنَدُهُ لَيْسَ بِالنَّيِّرِ، ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ لاَ حُجَّةً لَهُمْ; لأََنَّ الَّذِي
فِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ
الأَرْضِ جُمْلَةً، وَالْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ زَرِيعَتِهَا مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهَا،
أَوْ مِنْ قِبَلِ مَنْ مَنَحَهَا، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ
مُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعٍ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ رَافِعٍ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهُوَ خِلاَفٌ لِقَوْلِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ
مِنْ كِرَائِهَا بِالْعَسَلِ، وَالْمِلْحِ، وَلَيْسَا مِمَّا يَخْرُجَانِ مِنْهَا،
وَيُجِيزُونَ كِرَاءَهَا بِالْحَطَبِ، وَالْخَشَبِ، وَهُمَا مِنْ بَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، فَقَدْ خَالَفُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَيْسَ
فِيهِ وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا فِيهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ
مِنْ بَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ، وَهُمْ يُجِيزُونَ الْكِرَاءَ بِهِمَا،
وَبِالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنْهَا. فَإِنْ قَالُوا:
إنَّمَا مَنَعَ النَّبِيُّ عليه السلام مِنْ كِرَائِهَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْ
تِلْكَ الأَرْضِ بِعَيْنِهَا قلنا: هَاتُوا دَلِيلَكُمْ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ،
وَإِلَّا فَلَفْظُ الْخَبَرِ عَلَى عُمُومِهِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ جُمْلَةً فِي
هَذَا الْخَبَرِ. ثُمَّ أَيْضًا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا فِيهِ ثُمَّ نَسْتَثْنِي
مِنْهُ مَا صَحَّ نَسْخُهُ بِيَقِينٍ مِنْ إعْطَائِنَا الأَرْضَ بِجُزْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا مُسَمًّى، وَنَمْنَعُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا
لاَ لَهُمْ. وَأَمَّا خَبَرُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: فَعَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ;
لأََنَّ فِيهِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا فَقَطْ. وَهَكَذَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ،
حَدَّثَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
أَنَّ رَجُلاً مِنْ عُمُومَتِهِ قَالَ لَهُمْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ أَوْ نُكْرِيَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ
وَالطَّعَامُ مُسَمًّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ
يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا خَبَرُ حَنْظَلَةَ عَنْ رَافِعٍ: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ
رَافِعٍ يَعْنِي قَوْلَهُ: فأما بِوَرِقٍ فَلَمْ يَنْهَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَافِعٍ
مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَافِعٍ قَبْلُ مِنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه
وسلم عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَبْطَلَ كِرَاءَ أَرْضِ بَنِي أَبِيهِ بِالدَّرَاهِمِ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتِلْكَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى رَافِعٍ،
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُضْطَرَبٍ فِيهَا، وَتِلْكَ مُضْطَرَبٍ فِيهَا
(8/222)
عَلَى
رَافِعٍ. وَثَالِثُهَا أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا عُمُومَ النَّهْيِ، عَنْ رَافِعٍ:
ابْنُ عُمَرَ، وَعُثْمَانُ، وَعِمْرَانُ، وَعِيسَى ابْنَا سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ،
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو النَّجَاشِيِّ، وَكُلُّهُمْ أَوْثَقُ مِنْ
حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَمَّا
خَبَرُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَحَدُ طَرِيقَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الْمَاجِشُونِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالأُُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ لَبِيبَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فَسَقَطَ
التَّعْلِيقُ بِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ رَافِعٍ فَإِنَّ
ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ كَمَا أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ فَوَهَمَ
فِيهِ، لأََنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالْفَضْلِ
بْنِ دُكَيْنٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ
طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَقَالَ:" إنَّمَا يَزْرَعُ ثَلاَثَةٌ:
رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ
يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
" فَكَانَ هَذَا الْكَلاَمُ مَخْزُولاً، عَنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَظَنَّ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلاَمِ
رَسُولٍ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَزَلَهُ وَأَبْقَى السَّنَدَ. وَقَدْ جَاءَ
هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ طَارِقٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي
الأَحْوَصِ مُبَيِّنًا أَنَّهُ مِنْ كَلاَمِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ[وهو ابن ميمون]، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
طَارِقٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ لاَ يَصْلُحُ مِنْ
الزَّرْعِ غَيْرُ ثَلاَثٍ، أَرْضٌ تَمْلِكُ رَقَبَتُهَا، أَوْ مِنْحَةٌ، أَوْ أَرْضٌ
بَيْضَاءُ تَسْتَأْجِرُهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ لأََنَّ فِيهِ النَّهْيَ، عَنْ كِرَاءِ
الأَرْضِ إِلاَّ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَهَا بِكُلِّ عَرْضٍ
فِي الْعَالَمِ حَاشَا الطَّعَامَ، أَوْ مَا أَنْبَتَتْ الأَرْضُ فَقَدْ
خَالَفْتُمُوهَا كُلَّهَا. فَإِنْ ادَّعَوْا هَهُنَا إجْمَاعًا مِنْ الْقَائِلِينَ
بِكِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ التَّجَاسُرُ
وَالْهُجُومُ عَلَى مِثْلِ هَذَا: أَكْذَبُهُمْ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ
تُكْرَى الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ إِلاَّ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَهَذَا إسْنَادٌ
صَحِيحٌ جَيِّدٌ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا
عَدَاهُمَا قلنا: فَقِيسُوا إعْطَاءَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ عَلَى
الْمُضَارَبَةِ،
فَإِنْ قَالُوا:
(8/223)
قَدْ
صَحَّ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ قلنا: فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُؤْخَذَ
لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَنَصَّ عليه السلام عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ
أَنْ يَزْرَعَهَا صَاحِبُهَا أَوْ يَمْنَحَهَا أَوْ يُمْسِكَ أَرْضَهُ فَقَطْ.
فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا
بِشَيْءٍ أَصْلاً، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ كِرَاءُ الأَرْضِ بِذَهَبٍ
أَوْ فِضَّةٍ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلاَّ، عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَصَحَّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ
عُمَرَ عَنْهُ، وَصَحَّ عَنْ رَافِعٍ الْمَنْعُ مِنْهُ أَيْضًا.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ تَغْلِيبُ الإِبَاحَةِ فِي كِرَائِهَا بِكُلِّ
عَرْضٍ وَكُلِّ شَيْءٍ مَضْمُونٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو يُوسُفَ ;
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ،
وَغَيْرُهُمْ. أَوْ تَغْلِيبُ الْمَنْعِ جُمْلَةً، كَمَا فَعَلَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ،
وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
أَوْ أَنْ يُغَلَّبَ النَّهْيُ حَيْثُ لَمْ يُوقَنْ أَنَّهُ نُسِخَ وَيُؤْخَذُ
بِالنَّاسِخِ إذَا تُيُقِّنَ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وطَاوُوس، وَالْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَغَيْرُهُمْ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ
فَوَجَدْنَا مَنْ غَلَّبَ الإِبَاحَةَ قَدْ أَخْطَأَ، لأََنَّ مَعْهُودَ الأَصْلِ
فِي ذَلِكَ هُوَ الإِبَاحَةُ عَلَى مَا رَوَى رَافِعٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ وَقَدْ
كَانَتْ الْمَزَارِعُ بِلاَ شَكٍّ تُكْرَى قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ، هَذَا أَمْرٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ ذُو
عَقْلٍ، ثُمَّ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ،
وَرَافِعٍ، وَظُهَيْرٍ الْبَدْرِيُّ وَآخَرَ مِنْ الْبَدْرِيِّينَ، وَابْنِ عُمَرَ
" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً
" فَبَطَلَتْ الإِبَاحَةُ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ
قَدْ رَجَعَ، وَأَنَّ يَقِينَ النَّسْخِ قَدْ بَطَلَ، فَهُوَ كَاذِبٌ مُكَذِّبٌ،
قَائِلٌ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ
أَنْ يَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى وُجُودِهِ
أَبَدًا، إِلاَّ فِي إعْطَائِهَا بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا،
فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ
بِخَيْبَرَ بَعْدَ النَّهْيِ بِأَعْوَامٍ، وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ إلَى
أَنْ مَاتَ عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ
بِيَقِينٍ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ بَاقٍ بِيَقِينٍ وَقَالَ
تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ
يُنْسَخَ حُكْمٌ قَدْ بَطَلَ وَنُسِخَ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْنَا أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ، وَأَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ، وَإِلَّا
فَكَأَنَّ الدِّينَ غَيْرُ مُبَيَّنٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا.
(8/224)
التبين
في المزارعة بين صاحب الأرض والعامل على ما تعامالا عليه
...
1331 - مَسْأَلَةٌ - وَالتِّبْنُ فِي الْمُزَارَعَةِ بَيْنَ صَاحِبِ الأَرْضِ
وَبَيْنَ الْعَامِلِ عَلَى مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ،
لأََنَّهُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا.
(8/224)
إن
تطوع صاحب الأرض بأن يسلف العامل بذرا أو دراهم أو يعينه بغير شرط جاز ذلك
...
1332 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَرْضِ بِأَنْ يُسَلِّفَ
الْعَامِلَ بَذْرًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ يُعِينَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ;
لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَتَعَاوُنٌ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ
(8/224)
إن
اتفقا تطوعا على شيء يزرع في الأرض فحسن وإن لم يذكر شيئا فحسن
...
1333 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ اتَّفَقَا تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ يُزْرَعُ فِي
الأَرْضِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا فَحَسَنٌ،
لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، وَلاَ نَهَى، عَنْ ذِكْرِهِ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ
يُزْرَعَ فِيهَا شَيْءٌ مَا فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَعَقْدٌ فَاسِدٌ
لأََنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ
يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الأَرْضِ أَنْ لاَ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِأَرْضِهِ
أَوْ شَجَرِهِ إنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَجَرٌ فَهَذَا وَاجِبٌ، وَلاَ بُدَّ،
لأََنَّ خِلاَفَهُ فَسَادٌ وَإِهْلاَكٌ لِلْحَرْثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} . فَإِهْلاَكُ الْحَرْثِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ لاَ يَحِلُّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ، فَهَذَا شَرْطٌ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ.
(8/225)
1334
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ
هَكَذَا مُطْلَقًا،
لأََنَّ هَكَذَا عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا مَضَى
جَمِيعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه
إذْ شَاءَ فِي آخِرِ خِلاَفَتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ مُدَّةٍ فِي ذَلِكَ شَرْطًا
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِعَمَلِهِ عليه السلام،
وَقَدْ قَالَ عليه السلام: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ "; وَقَدْ قَالَ مُخَالِفُونَ بِذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ.
(8/225)
إذا
شاء صاحب الأرض أو العامل عليها ترك العمل فله ذلك وتبطل المعاملة بموت أحدها
...
1335 - مَسْأَلَةٌ - وَأَيُّهُمَا شَاءَ تَرْكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا
ذَكَرْنَا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَتْ الْمُعَامَلَةُ
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} . فَإِنْ أَقَرَّ وَارِثُ صَاحِبِ الأَرْضِ الْعَامِلَ وَرَضِيَ
الْعَامِلُ، فَهُمَا عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ
صَاحِبُ الأَرْضِ وَرَثَةَ الْعَامِلِ بِرِضَاهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا
جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/225)
إذا
أراد صاحب الأرض إخراج العامل بعد أن زرع أو أراد العامل الخروج بعد أن زرع بموت
أحدهما أو في حياتهما فجائز
...
1336 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ الأَرْضِ إخْرَاجَ الْعَامِلِ بَعْدَ
أَنْ زَرَعَ أَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ بَعْدَ أَنْ زَرَعَ بِمَوْتِ
أَحَدِهِمَا، أَوْ فِي حَيَاتِهِمَا فَذَلِكَ جَائِزٌ،
وَعَلَى الْعَامِلِ خِدْمَةُ الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَلاَ بُدَّ، وَعَلَى وَرَثَتِهِ
حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الأَنْتِفَاعِ بِهِ مِنْ كِلَيْهِمَا; لأََنَّهُمَا
عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا الْعَقْدَ الصَّحِيحَ فَهُوَ لاَزِمٌ لأََنَّهُ عَمِلَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَهُوَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، وَعَقْدٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَمَا عَدَاهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِفْسَادٌ لِلْحَرْثِ، وَقَدْ
صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ.
(8/225)
إن
أراد أحدهما ترك العمل وقد حرث وقلب وزبل ولم يزرع ذلك فجائز ويكلف صاحب الأرض
للعامل أجر مثله
...
1337 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْعَمَلِ وَقَدْ حَرَثَ،
وَقَلَبَ، وَزَبَلَ، وَلَمْ يَزْرَعْ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَيُكَلَّفُ صَاحِبُ
الأَرْضِ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ،
وَقِيمَةَ زِبْلِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ زِبْلاً مِثْلَهُ، إنْ أَرَادَ صَاحِبُ
الأَرْضِ إخْرَاجَهُ، لأََنَّهُ لَمْ تَتِمَّ بَيْنَهُمَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي
يَكُونُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مُلْغًى بِتَمَامِهَا، وَقَالَ تَعَالَى
{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَعَمَلُهُ حُرْمَةٌ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ
يَقْتَصَّ بِمِثْلِهَا، وَالزِّبْلُ مَالُهُ فَلاَ يُحْمَلُ إِلاَّ بِطِيبِ
نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/226)
1338
- مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمَرِيدُ لِلْخُرُوجِ فَلَهُ
ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِيمَا عَمِلَ،
وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُ زِبْلِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ، وَإِلَّا فَلاَ شَيْءَ
لَهُ; لأََنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْخُرُوجِ وَلَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ
الأَرْضِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ مَنَعَهُ حَقًّا لَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
إتْمَامِ عَمَلِهِ وَتَمَامِ شَرْطِهِ وَالْخُرُوجِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ ; لأََنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/226)
من
أصاب منهما ما تجب فيه الزكاة فعليه الزكاة ولا يحل اشتراطها من أحدهما على الآخر
...
1339 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ،
وَمَنْ قَصُرَ نُصِيبُهُ، عَنْ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَلاَ يَحِلُّ اشْتِرَاطُ الزَّكَاةِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلِكُلِّ أَحَدٍ حُكْمُهُ. وَاشْتِرَاطُ إسْقَاطِ
الزَّكَاةِ، عَنْ نَفْسِهِ وَوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِهِ شَرْطٌ لِلشَّيْطَانِ
وَمُخَالَفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحِلُّ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَا يُرِيدَانِ
مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ الْمَلْعُونِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَا
يَتَعَاقَدَانِ عَلَى أَنَّ لأََحَدِهِمَا أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ الزَّرْعِ أَوْ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
(8/226)
إذا
وقعت المعاملة فاسدة رد إلى المزارعة مثل تلك الأرض فيما يزرع
...
1340 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً،
رَدَّ إلَى مُزَارِعِهِ مِثْلَ تِلْكَ الأَرْضِ فِيمَا زَرَعَ فِيهَا سَوَاءٌ
كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا تَعَاقَدَ أَوْ أَقَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ فِي الأَرْضِ أَخْذُ أَجْرٍ، وَلاَ حَظٍّ
إِلاَّ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مُسَمًّى بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْهَا، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَقُّ الأَرْضِ فَلاَ تَجُوزُ إبَاحَةُ
الأَرْضِ وَمَا أَخْرَجَتْ لِلْعَامِلِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِ الأَرْضِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} ، وَلاَ يَجُوزُ إبَاحَةُ بَذْرِ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِصَاحِبِ
الأَرْضِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَيُرَدَّانِ إلَى مِثْلِ حَقِّ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . فَالأَرْضُ حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ
مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا، وَبَشَرَتِهِ، فَلَهُ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ
بِمِثْلِ حَقِّ مِثْلِهَا مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُعَامَلَةِ
فِيهَا وَبَذْرُ الزَّارِعِ وَعَمَلُهُ حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ
(8/226)
المغارسة
من دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له لم يجز ذلك إلا بأحد وجهين
...
المغارسة
1341 – مَسْأَلَةٌ - مَنْ دَفَعَ أَرْضًا لَهُ بَيْضَاءَ إلَى إنْسَانٍ
لِيَغْرِسَهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا بِأَنْ تَكُونَ النُّقُولُ أَوْ الأَوْتَادُ أَوْ النَّوَى أَوْ
الْقُضْبَانُ لِصَاحِبِ الأَرْضِ فَقَطْ، فَيَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ لِغَرْسِهَا
وَخِدْمَتِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا مُدَّةً مُسَمَّاةً، وَلاَ بُدَّ بِشَيْءٍ
مُسَمًّى، أَوْ بِقِطْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ مُسَمَّاةً مَحُوزَةً، أَوْ
مَنْسُوبَةَ الْقَدْرِ مُشَاعَةً فِي جَمِيعِهَا، فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ
بِعَمَلِهِ فِي كُلِّ مَا يَمْضِي مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ مَا يُقَابِلُهَا مِمَّا
اُسْتُؤْجِرَ بِهِ، فَهَذِهِ إجَارَةٌ كَسَائِرِ الإِجَارَاتِ. وَأَمَّا بِأَنْ
يَقُومَ الْعَامِلُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَبِغَرْسِهِ وَبِخَدَمِهِ وَلَهُ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ
جُزْءٍ مُسَمًّى كَذَلِكَ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي الأَرْضِ أَصْلاً فَهَذَا جَائِزٌ
حَسَنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ مُطْلَقًا لاَ إلَى مُدَّةٍ أَصْلاً
وَحُكْمُهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ
فِي كُلِّ شَيْءٍ لاَ تُحَشْ مِنْهَا شَيْئًا.
(8/227)
1342
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَفِعَ
فِيمَا غَرَسَ بِشَيْءٍ، وَقَبْلَ أَنْ تُنْمَى لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ
كُلَّ مَا غَرَسَ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الأَرْضِ; لأََنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ،
فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى انْتَفَعَ وَنَمَا مَا غَرَسَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ
مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ; لأََنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِالأَرْضِ فَعَلَيْهِ
حَقُّهَا، وَحَقُّهَا هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي
"الْمُزَارَعَةِ" مِنْ إعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَلَهُمْ نِصْفُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ وَنِصْفُ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، هَكَذَا مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: " أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
لِلْيَهُودِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَشَيْءٍ
". وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بِعَمَلِهِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ
زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعَمَلِ بِأَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ عِمَارَةِ شَجَرٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي تَمْيِيزٍ أَنَّ خَيْبَرَ وَفِيهَا نَحْوُ
أَلْفَيْ عَامِلٍ وَيُصَابُ فِيهَا نَحْوُ ثَمَانِينَ أَلْفَ وَسْقِ تَمْرٍ
وَبَقِيَتْ بِأَيْدِيهِمْ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا: أَرْبَعَةِ
أَعْوَامٍ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ
(8/227)
من
عقد مزارعة أو معاملة في شجر أو مغرسة فزرع العامل وعمل في الشجر وغرس ثم انتقل
ملك الأرض أو الشجر إلى غير المعاقد بميراث أوهبة أو غير ذلك فالزرع ظهر أو لم
يظهر فللزارع
...
1343 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ عَقَدَ مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً فِي شَجَرٍ أَوْ
مُغَارَسَةً، فَزَرَعَ الْعَامِلُ وَعَمِلَ فِي الشَّجَرِ وَغَرَسَ، ثُمَّ
انْتَقَلَ مِلْكُ الأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ إلَى غَيْرِ الْمُعَاقِدِ بِمِيرَاثٍ
أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ بِإِصْدَاقٍ أَوْ بِبَيْعٍ: فأما الزَّرْعُ:
ظَهَرَ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ كُلُّهُ لِلزَّارِعِ وَاَلَّذِي كَانَتْ
الأَرْضُ لَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا،
وَلِلَّذِي انْتَقَلَ مِلْكُ الأَرْضِ إلَيْهِ أَخْذُهُمَا بِقَطْعِهِ أَوْ
قَلْعِهِ فِي أَوَّلِ إمْكَانِ الأَنْتِفَاعِ بِهِ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ
لَمْ يَزْرَعْ إِلاَّ بِحَقٍّ وَالزَّرْعُ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ غَيْرُ الأَرْضِ
الَّتِي انْتَقَلَ مِلْكُهَا إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا الأَوَّلِ. وَأَمَّا
الْمُعَامَلَةُ فِي الشَّجَرِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَهُوَ مَا لَمْ
يَخْرُجْ غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ لأََحَدٍ، فَإِذَا خَرَجَ فَهُوَ لِمَنْ الشَّجَرُ
لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ إبْقَاءَ الْعَامِلِ عَلَى مُعَامَلَتِهِ فَلَهُ ذَلِكَ،
وَإِنْ أَرَادَ تَجْدِيدَ مُعَامَلَةٍ فَلَهُمَا ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ
إخْرَاجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلِلْعَامِلِ عَلَى الَّذِي كَانَ الْمِلْكُ لَهُ
أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ ; لأََنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ. وَأَمَّا
الْغَرْسُ: فَلِلَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ إقْرَارُهُ عَلَى تِلْكَ
الْمُعَامَلَةِ، أَوْ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَجْدِيدِ أُخْرَى، فَإِنْ أَرَادَ
إخْرَاجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلِلْغَارِسِ قَلْعُ حِصَّتِهِ مِمَّا غَرَسَ، كَمَا
لَوْ أَخْرَجَهُ الَّذِي كَانَ عَامِلُهُ أَوَّلاً، عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ بَعْدَ
ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ الَّذِي
(8/228)
كَانَ
الْمِلْكُ لَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا لاَ شَيْءَ فِيهَا لِلَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ
إلَيْهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ "كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ، وَالْمُغَارَسَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/229)
كتاب
المعاملة في الثمار
المعاملة في الثمار سنة وبيانها وكيفية التعامل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ
1344 - مَسْأَلَةٌ - الْمُعَامَلَةُ فِيهَا سُنَّةٌ،
وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَرْءُ أَشْجَارَهُ أَيَّ شَجَرٍ كَانَ مِنْ نَخْلٍ، أَوْ
عِنَبٍ، أَوْ تِينٍ، أَوْ يَاسَمِينٍ، أَوْ مَوْزٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لاَ
تُحَاشِ شَيْئًا مِمَّا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ وَيُطْعَمُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ
لِمَنْ يَحْفِرُهَا وَيُزَبِّلُهَا وَيَسْقِيهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يُسْقَى
بِسَانِيَةٍ، أَوْ نَاعُورَةٍ، أَوْ سَاقِيَّةٍ، وَيُؤَبِّرُ النَّخْلَ،
وَيُزْبِرُ الدَّوَالِيَ، وَيَحْرُثُ مَا احْتَاجَ إلَى حَرْثِهِ وَيَحْفَظُهُ
حَتَّى يَتِمَّ وَيُجْمَعُ، أَوْ يَيْبَسُ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ، أَوْ
يُخْرِجُ دُهْنَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُخْرَجُ دُهْنُهُ، أَوْ حَتَّى يَحِلَّ
بَيْعُهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ كَذَلِكَ، عَلَى سَهْمٍ مُسَمًّى مِنْ ذَلِكَ
الثَّمَرِ، أَوْ مِمَّا تَحْمِلُهُ الأُُصُولُ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ،
أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ، كَمَا قلنا فِي " الْمُزَارَعَةِ "
سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى
ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
لِلنَّاسِ " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّنَا نُخْرِجُهُمْ إذَا شِئْنَا، فَمَنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ
".
قال أبو محمد: وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّنَا رُوِّينَا،
عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَلاَ زُفَرُ. وَأَجَازَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ،
وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَجَازَهُ مَالِكٌ
فِي كُلِّ شَجَرٍ قَائِمِ الأَصْلِ إِلاَّ فِيمَا يُخْلَفُ وَيُجْنَى مَرَّةً
بَعْدَ أُخْرَى كَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَلَمْ يُجِزْ فِيهَا،
وَلاَ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْبُقُولِ إِلاَّ فِي السَّقْيِ خَاصَّةً.
وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، إِلاَّ فِي النَّخْلِ،
وَالْعِنَبِ فَقَطْ وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ،
إِلاَّ فِي النَّخْلِ فَقَطْ.
قال أبو محمد : مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ فِي النَّخْلِ وَحْدَهُ، أَوْ فِي
النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، أَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي سَقْيٍ دُونَ
بَعْلٍ، فَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ وَدَخَلُوا فِي الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
فَلاَ مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ
(8/229)
لأََبِي
حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالُوا: لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ
مَعْلُومَةٍ.
قال أبو محمد : لَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ، وَلاَ إعْطَاءُ الشَّجَرِ بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا: إجَارَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ إنَّمَا هِيَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ
إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلَّا أَبْطَلْتُمْ بِهَذَا
الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ الْمُضَارَبَةَ، وَقُلْتُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ بِأُجْرَةٍ
مَجْهُولَةٍ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْمُضَارَبَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا قلنا:
وَدَفْعُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَدَفْعُ الشَّجَرِ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَعَمَلِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَلاَ تُحَاشِ
مِنْهُمْ أَحَدًا، فَمَا غَابَ مِنْهُمْ، عَنْ خَيْبَرَ إِلاَّ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ
أَوْ ضَعْفٍ أَوْ وِلاَيَةٍ تَشْغَلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ غَابَ
بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَرَفَ أَمْرَ خَيْبَرَ، وَاتَّصَلَ الأَمْرُ
فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ إلَى آخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ فَهَذَا هُوَ الإِجْمَاعُ
الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ، لاَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ
وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي الإِجْمَاعِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي لاَ تُرْوَى
إِلاَّ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَاعْتَرَضُوا فِي أَمْرِ
خَيْبَرَ بِأَنْ قَالُوا: لاَ يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا
عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَمُعَامَلَةُ الْمَرْءِ
لِعَبْدِهِ بِمِثْلِ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَيَكُونُ الَّذِي
أُخِذَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ
مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةً، وَلاَ
زَكَاةً.
قال أبو محمد : وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا فِيهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَهْتِ
وَالتَّوَقُّحِ الْبَارِدِ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ
يَكُونُوا عَبِيدًا، فَكَيْفَ انْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهَذَا، وَهُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحُكْمِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ
أَحْرَارٌ، وَأَنَّهُ إنْ رَأَى الإِمَامُ إرْقَاقَهُمْ فَلاَ بُدَّ فِيهِمْ مِنْ
التَّخْمِيسِ، وَالْبَيْعِ لِقِسْمَةِ أَثْمَانِهِمْ. ثُمَّ كَيْفَ اسْتَجَازُوا
أَنْ يَقُولُوا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ
أَجْلاَهُمْ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ، عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ
يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَجِيزَ عُمَرُ تَفْوِيتَ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ
حَظٌّ لِلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ إنَّ مَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى عُمَرَ لَضَالٌّ
مُضِلٌّ، بَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ
عليه السلام أَرَادَ إجْلاَءَهُمْ فَرَغِبُوا فِي إقْرَارِهِمْ فَأَقَرَّهُمْ
عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ إذَا شَاءَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ عليه السلام لاَ
يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ تَضْيِيعُ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لَهُ عليه السلام خَاصَّةً; لأََنَّهُ عليه
السلام لَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ إِلاَّ خُمُسُ الْخُمُسِ وَسَهْمُهُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: وَالصَّفِيُّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الإِسْلاَمِ: إنَّ جَمِيعَ مَنْ مَلَكَ عَنْوَةً عَبِيدٌ لَهُ عليه السلام.
ثُمَّ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَا زَعَمُوا مِنْ الْبَاطِلِ وَكَانُوا لَهُ
عَبِيدًا لَكَانَ قَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلاَ شَكٍّ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
(8/230)
ابْنُ
الْحَرِثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، هُوَ
ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتْنِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَخِي أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: " مَا تَرَكَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلاَ
عَبْدًا، وَلاَ أَمَةً، وَلاَ شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ،
وَسِلاَحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً ". وَقَدْ قَسَمَ عليه السلام
مَنْ أُخِذَ عَنْوَةً بِخَيْبَرَ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا
عَنْوَةً وَجَمَعَ السَّبْيَ فَجَاءَهُ دِحْيَةُ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً،
فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ "وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد : وَكَانَتْ الأَرْضُ كُلُّهَا عَنْوَةً، وَصَالَحَ أَهْلَ بَعْضِ
الْحُصُونِ عَلَى الأَمَانِ، فَنَزَلُوا ذِمَّةً أَحْرَارًا وَقَدْ صَحَّ مِنْ
حَدِيثِ عُمَرَ قَوْلُهُ كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ.فَصَحَّ أَنَّ الْبَاقِينَ بِهَا أَحْرَارٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ
ذَلِكَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَانَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ، فَكَلاَمُ مَنْ لاَ
يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النِّصْفُ
مَكَانَ الْجِزْيَةِ وَإِنَّمَا كَانَ حُقُوقَ أَرْبَابِ الضِّيَاعِ
الْمَقْسُومَةِ عَلَيْهِمْ الَّذِي عُومِلَ الْيَهُودُ عَلَى كِفَايَتِهِمْ
الْعَمَلَ، وَاَلَّذِينَ خَطَبَهُمْ عُمَرُ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَلْحَقُوا بِأَمْوَالِهِمْ فَلْيَنْظُرُوا فِيهَا إذَا أَرَادَ إجْلاَءَ
الْيَهُودِ عَنْهَا. وَالآثَارُ بِهَذَا مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ كَالْمَالِ
الَّذِي حَصَلَ لِعُمَرَ بِهَا فَجَعَلَهُ صَدَقَةً وَكَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي
سَبَبِ إجْلاَءِ الْيَهُودِ: خَرَجْنَا إلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقْنَا فِي
أَمْوَالِنَا وَكَانَ إعْطَاءُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ الأَرْضِ
وَالْمَاءِ، وَبَعْضِهِنَّ الأَوْسَاقَ، وَأَنَّ بَقَايَا أَبْنَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا إلَى الْيَوْمِ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ، فَظَهَرَ
هَذَيَانُ هَؤُلاَءِ النَّوْكَى. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ
إجْمَاعًا لَكَفَرَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذُفَرُ! فَقُلْنَا: عُذْرًا بِجَهْلِهِمَا
كَمَا يُعْذَرُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَخْطَأَ فِيهِ وَبَدَّلَهُ وَزَادَ
وَنَقَصَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ، وَأَمَّا مَنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ
عَلَيْهِ وَتَمَادَى مُعَانِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ
كَافِرٌ بِلاَ شَكٍّ. وَشَغَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا
صَحَّتْ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا فِي الْعِنَبِ;
لأََنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْ
الثِّمَارِ غَيْرَهُمَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا فَاسِدٌ وَقِيَاسٌ بَارِدٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا
كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ ذَا نَوًى وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ ذِي نَوًى،
أَوْ لَمَّا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ حُلْوًا وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ
حُلْوٍ، وَإِلَّا فَمَا الَّذِي جَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ حُجَّةً فِي
إعْطَائِهَا بِسَهْمٍ مِنْ ثِمَارِهَا وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ
ظَاهِرٌ يُحَاطُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ .
(8/231)
وَقَالَ عَلِيٌّ: وَكَذَلِكَ التِّينُ، وَالْفُسْتُقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِكِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَوْزِ وَالْبَقْلِ فَدَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ " الْمُسَاقَاةِ " يَدُلُّ عَلَى السَّقْيِ .فَقُلْنَا: وَمَنْ سَمَّى هَذَا الْعَمَلَ " مُسَاقَاةً " حَتَّى تَجْعَلُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ حُجَّةً؟ مَا عَلِمْنَاهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَإِنَّمَا نَقُولُهَا مَعَكُمْ مُسَاعَدَةً فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَ بِخَيْبَرَ بِلاَ شَكٍّ بَقْلٌ وَكُلُّ مَا يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ الرُّمَّانِ، وَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَعَامَلَهُمْ عليه السلام عَلَى نِصْفِ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
لا
يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في المزارعة والمغارسة والمعاملة في ثمار الأشجار لا
أجير ولا عبد ولا سانية
...
1345 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ فِي
" الْمُزَارَعَةِ " " وَالْمُغَارَسَةِ " "
وَالْمُعَامَلَةِ فِي ثِمَارِ الشَّجَرِ " لاَ أَجِيرٌ، وَلاَ عَبْدٌ، وَلاَ
سَانِيَةٌ،
وَلاَ قَادُوسٌ، وَلاَ حَبْلٌ، وَلاَ دَلْوٌ، وَلاَ عَمَلٌ، وَلاَ زِبْلٌ، وَلاَ
شَيْءٌ أَصْلاً وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِشَرْطِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَوَجَبَ
الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَصْلِ بِكُلِّ
ذَلِكَ أَوْ بِبَعْضِهِ فَهُوَ حَسَنٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلاَ
تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .
(8/232)
كل
ماثبت في المزارعة يثبت هنا
...
1346 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا قُلْنَاهُ فِي " الْمُزَارَعَةِ "
فَهُوَ كَذَلِكَ هَهُنَا
لاَ تُحَاشِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ تَكْرَارِهَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
1347
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي " الْمُزَارَعَةِ "
وَإِعْطَاءِ الأُُصُولِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مُشَاعٌ فِي
جَمِيعِهَا عَلَى الْعَامِلِ: بِنَاءُ حَائِطٍ، وَلاَ سَدُّ ثُلْمَةٍ،
وَلاَ حَفْرُ بِئْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ عَيْنٍ، وَلاَ
تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ سَانِيَةٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ
نَهْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهُ، وَلاَ عَمَلُ صِهْرِيجٍ، وَلاَ إصْلاَحُهُ، وَلاَ
بِنَاءُ دَارٍ، وَلاَ إصْلاَحُهَا، وَلاَ بِنَاءُ بَيْتٍ، وَلاَ إصْلاَحُهُ، وَلاَ
آلَةٌ سَانِيَةٌ، وَلاَ خَطَّارَةٌ، وَلاَ نَاعُورَةٌ ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ
شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ تَطَوَّعَ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ; لأََنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ
بِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ يَعْتَمِلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ،
وَبِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ: وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الأَرْضِ، وَلاَ مِنْ
عَمَلِ الشَّجَرِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا آلَةُ الْحَرْثِ، وَالْحَفْرِ كُلُّهَا
وَآلَةُ السَّقْيِ كُلُّهَا، وَآلَةُ التَّقْلِيمِ، وَآلَةُ التَّزْبِيلِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالأُُجَرَاءِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ بُدَّ ;
لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ الْعَمَلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ
عَلَيْهِمْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
(8/232)
كتاب
إحياء الموات
مدخل
كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام فهي لمن سبق إليها وأحياها
...
كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَالإِقْطَاعِ. وَالْحِمَى. وَالصَّيْدِ
يَتَوَحَّشُ. وَمَنْ تَرَكَ مَالَهُ بِمَضْيَعَةٍ، أَوْ عَطِبَ مَالُهُ فِي
الْبَحْرِ
1348 - مَسْأَلَةٌ - كُلُّ أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، وَلاَ يُعْرَفُ أَنَّهَا
عُمِّرَتْ فِي الإِسْلاَمِ فَهِيَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهَا وَأَحْيَاهَا
سَوَاءٌ بِإِذْنِ الإِمَامِ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لاَ إذْنَ فِي
ذَلِكَ لِلإِمَامِ، وَلاَ لِلأَمِيرِ وَلَوْ أَنَّهُ بَيْنَ الدُّورِ فِي
الأَمْصَارِ، وَلاَ لأََحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ عَمَّنْ سَبَقَ
إلَيْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَوْ أَنَّ الإِمَامَ
أَقْطَعَ إنْسَانًا شَيْئًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَحْمِيَهُ مِمَّنْ سَبَقَ إلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ إحْيَاؤُهُ لِذَلِكَ مُضِرًّا
بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ ضَرَرًا ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ
لاَ بِإِقْطَاعِ الإِمَامِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ، كَالْمِلْحِ الظَّاهِرِ، وَالْمَاءِ
الظَّاهِرِ، وَالْمَرَاحِ وَرَحْبَةِ السُّوقِ وَالطَّرِيقِ، وَالْمُصَلَّى، وَنَحْوِ
ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا مُلِكَ يَوْمًا مَا بِإِحْيَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ
دَثَرَ وَأُشْغِرَ حَتَّى عَادَ كَأَوَّلِ حَالِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِمَنْ كَانَ
لَهُ، لاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالإِحْيَاءِ أَبَدًا، فَإِنْ جُهِلَ
أَصْحَابُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى الإِمَامِ، وَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَكُونُ
الأَرْضُ لِمَنْ أَحْيَاهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمَامِ لَهُ فِي ذَلِكَ. وقال
مالك: أَمَّا مَا يَتَشَاحُّ النَّاسُ فِيهِ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ الْعُمْرَانِ
فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ لأََحَدٍ إِلاَّ بِقَطِيعَةِ الإِمَامِ، وَأَمَّا حِمَى مَا
كَانَ فِي الصَّحَارِي وَغَيْرِ الْعُمْرَانِ فَهُوَ لِمَنْ أَحْيَاهُ فَإِنْ
تَرَكَهُ يَوْمًا مَا حَتَّى عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَدْ صَارَ أَيْضًا لِمَنْ أَحْيَاهُ
وَسَقَطَ عَنْهُ مِلْكُهُ وَهَكَذَا قَالَ فِي الصَّيْدِ يُتَمَلَّكُ ثُمَّ
يَتَوَحَّشُ فَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أُذُنِهِ شَنْفٌ أَوْ
نَحْوُ ذَلِكَ فَالشَّنْفُ الَّذِي كَانَ لَهُ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لَيْسَ الْمَوَاتُ إِلاَّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ فَهُوَ لَهُ، وَلاَ
مَعْنَى لأَِذْنِ الإِمَامِ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الْمَوَاتِ عِنْدَهُ مَا إذَا
وَقَفَ الْمَرْءُ فِي أَدْنَى الْمِصْرِ إلَيْهِ ثُمَّ صَاحَ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ،
فَمَا سُمِعَ فِيهِ الصَّوْتُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمَامِ. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُهُ: كَقَوْلِنَا. فأما مَنْ ذَهَبَ
مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
وَاقِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي
أُمَيَّةَ قَالَ: نَزَلْنَا دَابِقَ وَعَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ فَقَتَلَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَتِيلاً مِنْ الرُّومِ فَأَرَادَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ سَلَبَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ لَهُ
(8/233)
مُعَاذُ
بْنُ جَبَلٍ: مَهْ يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ وَقَالُوا: لَمَّا
كَانَ الْمَوَاتُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ مَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الأَثَرُ فَمَوْضُوعٌ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
وَاقِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالآثَارِ ثُمَّ
هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُ فَأَبَاحُوا
الصَّيْدَ لِمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الإِمَامِ، فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا
كَذَبُوا لأََنَّ فِي التَّابِعِينَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ وَجَعَلَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَلاَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ هَذَا الأَثَرِ
الْكَاذِبِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ،
وَبِالأَرْضِ لِمَنْ أَحْيَاهَا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِمَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ فَهُوَ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لأََنَّ مَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ أَمْوَالٌ مَمْلُوكَةٌ، أُخِذَتْ بِجِزْيَةٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مِنْ
بَيْتِ مَالٍ كَانَ لَهُ رَبٌّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهَ
مَا لَمْ يُعْرَفْ أَكَانَ لَهُ رَبٌّ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَبٌّ بِمَا يُوقَنُ
أَنَّهُ كَانَ لَهُ رَبٌّ. لَوْ كَانَ الأَمْرُ بِالْقِيَاسِ حَقًّا لَكَانَ
قِيَاسُ الأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهَا رَبٌّ بِالصَّيْدِ
وَالْحَطَبُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ، وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ
الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ لَكَانَ
حُجَّةً لَنَا; لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَضَى بِالْمَوَاتِ
لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَهُوَ عليه السلام الإِمَامُ الَّذِي لاَ إمَامَةَ لِمَنْ لَمْ
يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ
أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} فَهُوَ إمَامُنَا نُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ
وَجَمِيعَ عِبَادِهِ، لاَ إمَامَ لَنَا دُونَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لاَ
يَدْعُونَا مَعَ إمَامٍ غَيْرِهِ فَمَنْ اتَّخَذَ إمَامًا دُونَهُ عليه السلام
يُغَلِّبُ حُكْمَهُ عَلَى حُكْمِهِ عليه السلام فَسَيُرَدُّ وَيُعْلَمُ وَنَحْنُ
إلَى اللَّهِ مِنْهُ بُرَآءُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ; لأََنَّهُ قَسَّمَ تَقْسِيمًا لاَ
نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ جَاءَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سَنَةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ. وأعجب شَيْءٍ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ
الْمَوَاتَ الْقَرِيبَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ مَالِكٌ لِمَنْ أَحْيَاهُ،
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ جَعَلَ الْمَالَ الْمُتَمَلَّكَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
الْقُرْآنِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إذْ يَقُولُ "
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَجَعَلَهَا مِلْكًا
لِمَنْ أَخَذَهَا كَالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الْمَوَاتِ يُعَمَّرُ
ثُمَّ يُتَشَغَّرُ، وَمِثْلُ الصَّيْدِ يَتَوَحَّشُ، وَمَا وَجَبَ سُقُوطُ الْمِلْكِ
بِالتَّوَعُّرِ وَالتَّوَحُّشِ لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ بِرِوَايَةٍ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِرَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ. وَأَيْضًا فَلاَ يَخْلُو
مَا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ أَوْ تَشَاحَّ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَالْمِصْرِ، أَوْ لاَ ضَرَرَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَحَدًا،
وَلاَ أَنْ يَضُرَّ بِهِمْ وَإِنْ
(8/234)
كَانَ
لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَعِيدِ، عَنِ
الْعُمْرَانِ؟ فَصَحَّ أَنْ لاَ مَعْنَى لِلإِمَامِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً،وَكَذَلِكَ
تَقْسِيمُ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ فَفَاسِدٌ أَيْضًا; لأََنَّهُ
قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ، فَهُوَ سَاقِطٌ.
قال أبو محمد : وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى،
حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ
لأََحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ:" مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأََحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ
بِهَا " قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قال أبو محمد : هَذَا الْخَبَرُ هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا، وَهُوَ الْمُبْطِلُ
لِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم إمَّا عُمُومًا وَأَمَّا فِي مَكَان دُونَ مَكَان، وَلِقَوْلِ مَنْ
قَالَ: مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا قَدْ عُمِّرَتْ ثُمَّ أُشْغِرَتْ فَهِيَ لِلَّذِي
عَمَّرَهَا آخِرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلَّ عَطِيَّةٍ أَعْطَاهَا عليه السلام فَلَيْسَ
لأََحَدٍ يَأْتِي بَعْدَهُ لاَ إمَامٍ، وَلاَ غَيْرِهِ أَنْ يَعْتَرِضَ فِيهَا،
وَلاَ أَنْ يُدْخِلَ فِيهَا حُكْمًا وَقَدْ اتَّصَلَ كَمَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ
قَضَى بِذَلِكَ ; وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ
وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ هُوَ
الرَّجُلُ يَعْمُرُ الأَرْضَ الْخَرِبَةَ وَهِيَ لِلنَّاسِ قَدْ عَجَزُوا عَنْهَا
فَتَرَكُوهَا حَتَّى خَرِبَتْ.
قال أبو محمد : فَهَذَا عُرْوَةُ سَمَّى هَذِهِ الصِّفَةَ عِرْقَ ظَالِمٍ،
وَصَدَقَ عُرْوَةُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَبَاحَهُ الْمَالِكِيُّونَ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ،
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ:
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَيُّوبُ،
وَعَبَّادٌ كِلاَهُمَا
(8/235)
عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَحْيَا
أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي مِنْهَا
فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ مَعْنَى لأََخْذِ رَأْيِ الإِمَامِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلاَ مَا
فِيهِ أَجْرٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ
تَعَالَى. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ
الآمِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:" أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ، وَالْعِبَادَ
عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ
جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ". فَصَحَّ أَنْ لَيْسَ لِلإِمَامِ
أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ، عَنْ أَنْ تَحْيَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً غَرَسَ نَخْلاً فِي أَرْضِ
غَيْرِهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الأَرْضِ
بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا. قَالَ
عُرْوَةُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَأَنَا رَأَيْتُ
الرَّجُلَ يَضْرِبُ فِي أُصُولِ النَّخْلِ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَعُرْوَةُ لاَ
يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ صَحَّتْ صُحْبَتُهُ مِمَّنْ لَمْ تَصِحَّ، وَقَدْ اعْتَمَرَ
مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَدْرَكَهُ
فَمَنْ دُونَهُ، لاَ قَوْلَ مَالِكٍ: إنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالشَّجَرِ إنْ
قُلِعَتْ كَانَ لِغَارِسِهَا قِيمَتُهَا مَقْلُوعَةً أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَتُرِكَتْ
لِصَاحِبِ الأَرْضِ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَمَا يَزَالُونَ يَقْضُونَ لِلنَّاسِ
بِأَمْوَالِ النَّاسِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ،
وَالْمُتَعَدِّي وَإِنْ ظَلَمَ فَظُلْمُهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَظْلِمَ فَيُؤْخَذَ
مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه
وسلم أَخْذَهُ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْحِمْصِيُّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ عَلَى
هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا
مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"، وَجَاءَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ فَهَذَا بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ عَلاَنِيَةً لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُبَارَكِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقٍ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِبُنْيَانٍ أَوْ
حَرْثٍ مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَمْوَالِ قَوْمٍ
(8/236)
ابْتَاعُوهَا
أَوْ أَحْيَوْا بَعْضًا وَتَرَكُوا بَعْضًا فَأَجَازَ لِلْقَوْمِ إحْيَاءَهُمْ
وَأَمَّا مَا كَانَ مَكْشُوفًا فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْمَاءَ
أَوْ الْمِلْحَ، أَوْ يُرِيحُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ، فَلأََنَّهُمْ قَدْ
مَلَكُوهُ فَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى
بْنِ قَيْسٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَالٍ هُوَ
الْمَازِنِيُّ قَالَ: " اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَعْدِنَ الْمِلْحِ الَّذِي بِمَأْرِبَ فَأَقْطَعَنِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ قَالَ: فَلاَ إذًا .
قال أبو محمد: فإن قيل: فَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ فَمَا مَعْنَى
إقْطَاعِهِمْ قلنا: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي
لَهُ الْحِمَى وَالإِقْطَاعُ، وَاَلَّذِي لَوْ مَلَّكَ إنْسَانًا رَقَبَةَ حُرٍّ
لَكَانَ لَهُ عَبْدًا وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ عليه السلام فَقَدْ يَفْعَلُونَ
ذَلِكَ قَطْعًا لِلتَّشَاحِّ وَالتَّنَازُعِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ
عليه السلام.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ الْمَرْعَى مُتَمَلَّكًا، بَلْ مَنْ أَحْيَا فِيهِ فَهُوَ
لَهُ، وَيُقَالُ لأََهْلِ الْمَاشِيَةِ: أَعْزِبُوا وَأَبْعِدُوا فِي طَلَبِ
الْمَرْعَى، وَإِنَّمَا التَّمَلُّكُ بِالإِحْيَاءِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ وَالرَّعْيُ لَيْسَ إحْيَاءً، وَلَوْ كَانَ إحْيَاءً لَمَلَكَ
الْمَكَانَ مَنْ رَعَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ فِي اللُّغَةِ وَفِي
الشَّرِيعَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ لِقَوْلِهِمْ فِي الصَّيْدِ
الْمُتَوَحِّشِ بِأَسْخَفِ مُعَارَضَةٍ سُمِعَتْ، وَهُوَ، أَنَّهُ قَالَ:
الصَّيْدُ إذَا تَوَحَّشَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَاءً مِنْ بِئْرٍ
مُتَمَلَّكَةٍ فِي وِعَائِهِ فَانْهَرَقَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ، أَيَكُونُ
شَرِيكًا بِذَلِكَ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ؟.
قال أبو محمد: الْبِئْرُ وَأَخْذُ الْمَاءِ مِنْهَا لاَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ
مُبَاحَةً أَوْ مُتَمَلَّكَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهَا أَضْعَافَ مَا انْهَرَقَ لَهُ إنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ إنْ شَاءَ،
كَمَا يَتْرُكُ النَّاسُ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
وَيُبِيحُونَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، كَالنَّوَى، وَالتِّبْنِ، وَالزِّبْلِ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ كُلِّ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِقْهُ، وَلاَ أَبَاحَ
أَخْذَهُ لأََحَدٍ، لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمَا حَلَّ لأََحَدٍ أَخْذُهُ، فَلاَ
يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِلاَّ بِإِبَاحَتِهِ لَهُ، أَوْ حَيْثُ
أَبَاحَتْهُ الدِّيَانَةُ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ
أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ، فَأَيُّمَا
أَكْثَرُ عِنْدَهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ قَضِيبُ أَرَاكٍ، أَوْ
أُيَّلٌ، أَوْ حِمَارُ وَحْشٍ، يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا مَالاً، أَوْ
أَرْضٌ تُسَاوِي الأَمْوَالَ، وَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ مُتَمَلَّكَةً، فَلاَ
يَخْلُو آخِذُ الْمَاءِ مِنْهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَا أَخَذَ أَوْ
غَيْرَ مُحْتَاجٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مِثْلَ
مَا انْهَرَقَ لَهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَضْعَافَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ
(8/237)
كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَائِهَا لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ فَظَهَرَ هَذَرُ هَذَا الْجَاهِلِ وَتَخْلِيطُهُ.
(8/238)
تفسير
الأحياء
...
1349 - مَسْأَلَةٌ - وَالإِحْيَاءُ
هُوَ قَلْعُ مَا فِيهَا مِنْ عُشْبٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ نَبَاتٍ، بِنِيَّةِ
الإِحْيَاءِ، لاَ بِنِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْبِ وَالأَحْتِطَابِ فَقَطْ، أَوْ جَلْبِ
مَاءٍ إلَيْهَا مِنْ نَهْرٍ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا
لِسَقْيِهَا مِنْهُ، أَوْ حَرْثِهَا، أَوْ غَرْسِهَا، أَوْ تَزْبِيلِهَا، أَوْ مَا
يَقُومُ مَقَامَ التَّزْبِيلِ مِنْ نَقْلِ تُرَابٍ إلَيْهَا، أَوْ رَمَادٍ، أَوْ قَلْعِ
حِجَارَةٍ، أَوْ جَرْدِ تُرَابِ مِلْحٍ، عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى يُمْكِنَ بِذَلِكَ
حَرْثُهَا، أَوْ غَرْسُهَا، أَوْ أَنْ يُخْتَطَّ عَلَيْهَا بِحَظِيرٍ لِلْبِنَاءِ
فَهَذَا كُلُّهُ إحْيَاءٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ مَا
أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي فَوْرِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِئْرِ، أَوْ
الْعَيْنِ، أَوْ النَّهْرِ، أَوْ السَّاقِيَّةِ، قَدْ مَلَكَهُ وَاسْتَحَقَّهُ;
لأََنَّهُ أَحْيَاهُ .وَلاَ خِلاَفَ فِي ضَرُورَةِ الْحِسِّ وَاللُّغَةِ أَنَّ
الأَحْتِطَابَ وَأَخْذَ الْعُشْبِ لِلرَّعْيِ لَيْسَ إحْيَاءً وَمَا تَوَلَّى
الْمَرْءُ مِنْ ذَلِكَ بِأُجَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، فَهُوَ لَهُ، لاَ لَهُمْ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ".
(8/238)
من
خرج في أرضه معدن فهو له ويورث عنه ولا حق للإمام معه فيه ولا لغيره
...
1350 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ خَرَجَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنُ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ،
أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ قَزْدِيرٍ، أَوْ زِئْبَقٍ، أَوْ
مِلْحٍ، أَوْ شَبٍّ، أَوْ زِرْنِيخٍ، أَوْ كُحْلٍ، أَوْ يَاقُوتٍ، أَوْ زُمُرُّدٍ،
أَوْ بَجَادِيٍّ، أَوْ رهوبي، أَوْ بِلَّوْرٍ، أَوْ كَذَّانٍ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ
كَانَ فَهُوَ لَهُ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَهُ بَيْعُهُ، وَلاَ حَقَّ لِلإِمَامِ
مَعَهُ فِيهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك:
تَصِيرُ الأَرْضُ لِلسُّلْطَانِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ ".
وَلِقَوْلِهِ عليه السلام " مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ طَوَّقَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " وَلِقَوْلِهِ عليه السلام:
" إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَلَيْتَ
شِعْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ تَخْرُجُ أَرْضُهُ الَّتِي مَلَكَ بِإِرْثٍ، أَوْ الَّتِي
أَحْيَا، عَنْ يَدِهِ مِنْ أَجْلِ وُجُودِ الْمَعْدِنِ فِيهَا وَمَا عَلِمْنَا
لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقًا لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ، وَلاَ مِنْ
قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَنَسْأَلُهُ، عَنْ مَسْجِدٍ ظَهَرَ فِيهِ
مَعْدِنٌ، أَوْ لَوْ ظَهَرَ مَعْدِنٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي
مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ
أَيَكُونُ لِلإِمَامِ أَخْذُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْذُ مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَقْبَرَةِ فَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
(8/238)
من
ساق ساقية أو حفر بئرا أو عينا فله ماسقي ولا يحفر أحد بحيث يضر بتلك العين أو تلك
البئر
...
1351 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ سَاقَ سَاقِيَةً، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ عَيْنًا
فَلَهُ مَا سَقَى كَمَا قَدَّمْنَا.
وَلاَ يَحْفِرُ أَحَدٌ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِتِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ بِتِلْكَ
الْبِئْرِ، أَوْ بِتِلْكَ السَّاقِيَةِ، أَوْ ذَلِكَ النَّهْرِ، أَوْ بِحَيْثُ
يَجْلِبُ شَيْئًا مِنْ مَائِهَا عَنْهَا فَقَطْ، لاَ حَرِيمَ لِذَلِكَ أَصْلاً
غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ; لأََنَّهُ إذَا مَلَكَ تِلْكَ الأَرْضَ فَقَدْ مَلَكَ مَا
فِيهَا مِنْ الْمَاءِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ
خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَةِ خَمْسُونَ
ذِرَاعًا ". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لأََعْطَانِ
الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: حَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ
ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ:
حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: حَرِيمُ مَا بَيْنَ
الْعَيْنَيْنِ مِائَتَا ذِرَاعٍ وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ. وقال
أبو حنيفة: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ
النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَبْلُهُمَا
أَطْوَلَ، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَلاَ يُعْلَمُ لأََبِي
حَنِيفَةَ سَلَفًا فِي قَوْلٍ فِي بِئْرِ النَّاضِحِ، وَقَدْ خَالَفَ الْمُرْسَلَ
فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ:
هُوَ السُّنَّةُ، وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ فِي أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ
بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: هِيَ السُّنَّةُ فَهَلاَّ احْتَجُّوا هَهُنَا
بِقَوْلِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: هِيَ السُّنَّةُ؟.
(8/239)
حكم
الشرب في نهر غير ممتلك فيشرع السقي للأعلى فالأعلى لا حق للأسفل حتى يستوفي
الأعلى حاجته
...
1352 - مَسْأَلَةٌ - وَأَمَّا الشُّرْبُ مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ
فَالْحُكْمُ أَنَّ السَّقْيَ لِلأَعْلَى فَالأَعْلَى
لاَحِقٌ لِلأَسْفَلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الأَعْلَى حَاجَتَهُ، وَحَقُّ ذَلِكَ
أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَ الأَرْضِ حَتَّى لاَ تَشْرَبَهُ وَيَرْجِعُ لِلْجِدَارِ
أَوْ السِّيَاجِ، ثُمَّ يُطْلِقُهُ، وَلاَ يُمْسِكُهُ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ
الأَعْلَى أَحْدَثَ مِلْكًا أَوْ إحْيَاءً مِنْ الأَسْفَلِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ،
أَوْ أَقْدَمَ مِنْهُ، وَلاَ يُتَمَلَّكُ شِرْبُ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ
أَصْلاً، وَلاَ شِرْبُ سَيْلٍ، وَتَبْطُلُ الدُّوَلُ وَالْقِسْمَةُ فِيهَا وَإِنْ
تَقَدَّمَتْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ حَفَرُوا سَاقِيَةً وَبَنَوْهَا، فَلَهُمْ
أَنْ يَقْتَسِمُوا مَاءَهَا بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ فِيهَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَبُو
الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ أَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: "خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ
الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلزُّبَيْرِ: سَرِّحْ الْمَاءَ
يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى
(8/239)
1353
- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَرَسَ أَشْجَارًا فَلَهُ مَا أَظَلَّتْ أَغْصَانُهَا
عِنْدَ تَمَامِهَا، فَإِنْ انْتَثَرَتْ عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ أَخَذَ بِقَطْعِ مَا
انْتَثَرَ مِنْهَا عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ حَدَّثَهُمْ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم رَجُلاَنِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ فَأَمَرَ عليه السلام
بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرِيدِهَا فَذُرِعَتْ فَقَضَى بِذَلِكَ يَعْنِي بِمَبْلَغِهَا.
وَأَمَّا انْتِثَارُهَا عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
" فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الأَنْتِفَاعُ بِمَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا دَامَتْ
نَفْسُهُ لَهُ طَيِّبَةً بِذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/240)
من
ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت أو أعطب في بحر أو نهر فرمى
البحر متاعه فأخذه إنسان أو غاص عليه إنسان فأخذه فكل ذلك لصاحبه
...
1354 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِفَلاَةٍ ضَائِعَةً فَأَخَذَهَا
إنْسَانٌ فَقَامَ عَلَيْهَا فَصَلَحَتْ، أَوْ عَطِبَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ
فَرَمَى الْبَحْرُ مَتَاعَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ أَوْ غَاصَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ
فَأَخَذَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ الأَوَّلِ،
وَلاَ حَقَّ فِيهِ لِمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
". وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ
يَقُولُ: مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ فَتَرَكَهَا فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا:
فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ: إنْ شِئْت عَدَّدَتْ لَك كَذَا
وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ
الْوَاسِطِيُّ أَنَا مُطَرِّفٌ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ
سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَأَصْلَحَهَا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذَا
قَدْ قَضَى فِيهِ إنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي كَلاٍَ، وَأَمْنٍ، وَمَاءٍ،
فَصَاحِبُهَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي مَخَافَةٍ أَوْ
مَفَازَةٍ فَاَلَّذِي أَخَذَهَا أَحَقُّ بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سُئِلَ
الْحَسَنُ عَمَّنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِأَرْضِ قَفْرٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَقَامَ
عَلَيْهَا حَتَّى صَلَحَتْ قَالَ: هِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا. قَالَ: وَسُئِلَ
الْحَسَنُ، عَنِ السَّفِينَةِ تَغْرَقُ فِي الْبَحْرِ فِيهَا مَتَاعٌ لِقَوْمٍ
شَتَّى فَقَالَ:
(8/240)
1354
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ
إلَى الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ
بِذَلِكَ،
فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِمَا أَنْفَقَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً أَضَلَّ بَعِيرًا لَهُ نِضْوًا فَأَخَذَهُ رَجُلٌ
فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَحَ وَسَمُنَ، فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ
فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ
وَرَدِّ الدَّابَّةِ إلَى صَاحِبِهَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ:
يَأْخُذُ مَالَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ سَمِينًا أَوْ مَهْزُولاً، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ.
الْمَرْفِقُ
(8/241)
المرفق
لكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره أو
في درب غير نافذ
...
1355 - مَسْأَلَةٌ - وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ مَا شَاءَ فِي حَائِطِهِ مِنْ
كُوَّةٍ أَوْ بَابٍ،
أَوْ أَنْ يَهْدِمَهُ إنْ شَاءَ فِي دَارِ جَارِهِ، أَوْ فِي دَرْبٍ غَيْرِ
نَافِذٍ أَوْ نَافِذٍ، وَيُقَالُ لِجَارِهِ: ابْنِ فِي حَقِّك مَا تَسْتُرُ بِهِ
عَلَى نَفْسِك إِلاَّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الأَطِّلاَعِ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُمْنَعُ مِنْ
كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَطَأٌ; لأََنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ. وَلاَ
يَحِلُّ لِلْجَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحَائِطِ جَارِهِ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ
النَّصُّ بِذَلِكَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَهْدِمَ حَائِطَهُ فَلاَ يُكَلَّفُ
بُنْيَانَهُ وَيَقُولُ لِجَارِهِ: اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك إنْ شِئْت، وَبَيْنَ
أَنْ يَهْدِمَ هُوَ حَائِطُ نَفْسِهِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّقْفِ
وَالأَطِّلاَعِ مِنْهُ وَبَيْنَ قَاعِ الدَّارِ وَالأَطِّلاَعِ مِنْهُ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ فَتْحِ كُوَّةٍ لِلضَّوْءِ وَبَيْنَ فَتْحِهَا هَكَذَا وَكِلاَ
الأَمْرَيْنِ، يُمْكِنُ الأَطِّلاَعُ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ يَمْنَعُ الْمَرْءَ
مِنْ أَنْ يَفْتَحَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَائِطِهِ مَا شَاءَ. فَإِنْ احْتَجُّوا
بِالْخَبَرِ " لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ " هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ;
لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا زُهَيْرُ بْنُ
ثَابِتٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ إِلاَّ أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَلاَ ضَرَرَ أَعْظَمَ مِنْ
أَنْ يُمْنَعَ الْمَرْءُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ مُرَاعَاةً
لِنَفْعِ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الضَّرَرُ حَقًّا. وَأَمَّا الأَطِّلاَعُ
فَمَنْعُهُ وَاجِبٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَنَّ امْرَأً
اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِعَصًا فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْكَ جُنَاحٌ " وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِحَصَاةٍ
هُوَ أَصَحُّ.
(8/241)
1356-
مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُرْسِلَ مَاءَ سَقْفِهِ أَوْ دَارِهِ عَلَى
أَرْضِ جَارِهِ أَصْلاً،
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
" فَإِطْلاَقُهُ مَاءَ دَارِهِ عَلَى أَرْضِ جَارِهِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ وَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَالإِذْنُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مَا
دَامَ إذْنًا; لأََنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الرَّقَبَةَ، وَالإِذْنُ فِي شَيْءٍ مَا
الْيَوْمَ غَيْرُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ غَدًا بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ.
(8/242)
1357
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يُدَخِّنَ عَلَى جَارِهِ;
لأََنَّهُ أَذًى، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَذَى الْمُسْلِمِ. وَلِكُلِّ
أَحَدٍ أَنْ يُعَلِّيَ بُنْيَانَهُ مَا شَاءَ وَإِنْ مَنَعَ جَارَهُ الرِّيحَ
وَالشَّمْسَ لأََنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ مَنْعَهُ بِغَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهُ.
وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي حَقِّهِ مَا شَاءَ مِنْ حَمَّامٍ، أَوْ
فُرْنٍ، أَوْ رَحًى، أَوْ كَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِالْمَنْعِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
(8/242)
لا
يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره ويجبر إن لم يأذن له
...
1358 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ أَنْ
يُدْخِلَ خَشَبًا فِي جِدَارِهِ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ
أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ
هَدْمَ حَائِطِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِجَارِهِ: دَعِّمْ
خَشَبَك أَوْ انْزَعْهُ فَإِنِّي أَهْدِمُ حَائِطِي، وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الْخَشَبِ
عَلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي
جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
وَاَللَّهِ لاََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ" فَهَذَا قَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ
خَشَبَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِلْخَبَرِ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ
كُلُّهُ حَقٌّ وَعَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا السَّمْعُ
لَهُ وَالطَّاعَةُ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ مُعَارِضًا لِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَاَلَّذِي قَضَى
بِالشُّفْعَةِ وَإِسْقَاطِ الْمِلْكِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَإِبْطَالِ الشِّرَاءِ
بَعْدَ صِحَّتِهِ وَقَضَى بِالْعَاقِلَةِ، وَأَنْ يَغْرَمُوا مَا لَمْ يَجْنُوا،
وَأَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا هُوَ الَّذِي قَضَى
بِأَنْ يَغْرِزَ الْجَارُ خَشَبَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ، وَنَهَى، عَنْ مَنْعِهِ
مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوا هَذَا الْحُكْمَ حَيْثُ أَبَاحُوا
ثَمَرَ النَّخْلِ، وَكِرَاءِ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: كُلُّ ذَلِكَ لِمَنْ
اشْتَرَاهُ مِنْ الْغَاصِبِ بِالْبَاطِلِ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ،
(8/242)
كل
من ملك ماء في نهر حفره أو ساقية أو عين أوبئر فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا
إليه
...
1359 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ مَاءً فِي نَهْرٍ حَفَرَهُ، أَوْ
سَاقِيَةٍ حَفَرَهَا، أَوْ عَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا، أَوْ بِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا
فَهُوَ أَحَقُّ بِمَاءِ كُلِّ ذَلِكَ مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ،
وَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَنْعُ الْفَضْلِ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ لِمَنْ
يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْهُ، لاَ بِبَيْعٍ، وَلاَ
غَيْرِهِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلاَ "ُ. وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ الْعَطَّارِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ،
عَنْ إيَاسِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
(8/243)
ما
غلب عليه الماء من نهر أو نشع أو سير فاستغار فهو لصاحبه كما كان
...
1360 - مَسْأَلَةٌ - وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ نَهْرٍ، أَوْ نَشْعٍ،
أَوْ سَيْلٍ، فَاسْتَغَارَ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ كَمَا كَانَ،
فَإِنْ انْتَقَلَ عَنْهُ يَوْمًا مَا وَلَوْ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ فَهُوَ لَهُ
وَلِوَرَثَتِهِ، وَمَا رَمَى النَّهْرُ مِنْ أَحَدِ عَدْوَتَيْهِ إلَى أُخْرَى
فَهُوَ بَاقٍ بِحَسْبِهِ كَمَا كَانَ لِمَنْ كَانَ لَهُ. وَقَالَ
الْمَالِكِيُّونَ: بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّ تَبَدُّلَ مَجْرَى
الْمَاءِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكًا، عَنْ مَالِكِهِ، وَلاَ يُحِلُّ مَالاً مُحَرَّمًا
لِمَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ فِي الدِّينِ بِلاَ
بُرْهَانٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام "ٌ.
(8/243)
1361
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَكُونُ الأَرْضُ بِالإِحْيَاءِ إِلاَّ لِمُسْلِمٍ،
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلاَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَوْله تَعَالَى {أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} وَنَحْنُ أُولَئِكَ لاَ الْكُفَّارُ، فَنَحْنُ
الَّذِينَ أَوْرَثَنَا اللَّهُ تَعَالَى الأَرْضَ فَلَهُ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
(8/243)
كتاب
الوكالة
في بيان جواز الوكالة في أشياء مخصوصة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْوَكَالَةِ
1362 - مَسْأَلَةٌ - الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْقِيَامِ عَلَى الأَمْوَالِ،
وَالتَّذْكِيَةِ، وَطَلَبِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَائِهَا، وَأَخْذِ الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ فَمَا دُونِهَا،
وَتَبْلِيغِ الإِنْكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالإِجَارَةِ،
وَالأَسْتِئْجَارِ: كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْحَاضِرِ، وَالْغَائِبِ سَوَاءٌ، وَمِنْ
الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ، وَطَلَبُ الْحَقِّ كُلُّهُ وَاجِبٌ بِغَيْرِ
تَوْكِيلٍ، إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: بِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوُلاَةَ
لأَِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ، وَلأََخْذِ الصَّدَقَاتِ
وَتَفْرِيقِهَا. وَقَدْ كَانَ بِلاَلٌ عَلَى نَفَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَقَدْ كَانَ لَهُ نُظَّارٌ عَلَى أَرْضِهِ بِخَيْبَرَ، وَفَدَكَ;
وَقَدْ رُوِّينَا فِي "كِتَابِ الأَضَاحِيِّ" مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْطَاهُ
غَنَمًا يَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَذَكَرْنَا فِي " الْحَجِّ "
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
" أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ
وَأَنْ أُقَسِّمَ جُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا " وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا [عَمِّي هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ] نَا أَبِي هُوَ إبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ
كَيْسَانَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى
خَيْبَرُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا أَتَيْتَ
وَكِيلِي بِخَيْبَرَ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِنْ ابْتَغَى
مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ ". وَفِي هَذَا الْخَبَرِ
تَصْدِيقُ الرَّسُولِ إذَا عَلِمَ الْوَالِي بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَذَكَرَ حَدِيثَ التَّمْرِ،
وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " بِيعُوا تَمْرَهَا
وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا
حَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَمَاتَ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ وَبَعَثَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَهَذَا خَبَرٌ مَنْقُولٌ نَقْلَ
الْكَافَّةِ. وَأَمَرَ عليه السلام بِأَخْذِ الْقَوَدِ
(8/244)
وَبِالرَّجْمِ، وَالْجَلْدِ، وَبِالْقَطْعِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا إلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَهْلٍ وَابْنَا عَمِّهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" الْكُبْرَ الْكُبْرَ أَوْ قَالَ: لِيَبْدَأْ الأَكْبَرُ فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا ". وقال أبو حنيفة: لاَ أَقْبَلُ تَوْكِيلَ حَاضِرٍ، وَلاَ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ، أَوْ مَنْ ذَكَرْنَا مَرِيضًا، إِلاَّ بِرِضَى الْخَصْمِ وَهَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ وَتَحْدِيدٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: لاَ نَتَكَلَّمُ فِي الْحُقُوقِ إِلاَّ بِتَوْكِيلِ صَاحِبِهَا وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه}ِ. وَقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَوَاجِبٌ بِمَا ذَكَرْنَا إنْكَارُ الظُّلْمِ، وَطَلَبُ الْحَقِّ لِحَاضِرٍ وَغَائِبٍ، مَا لَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ الْحَاضِرَ سَوَاءٌ بِتَوْكِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ. وَطَلَبُ الْحَقِّ قَدْ وَجَبَ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَعَلَّ صَاحِبَهُ لاَ يُرِيدُ طَلَبَهُ، وَيُقَالُ لَهُ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَلَبِهِ، فَلاَ يُسْقِطُ هَذَا الْيَقِينَ مَا يَتَوَقَّعُهُ بِالظَّنِّ.
(8/245)
لا
تجوز وكالة على طلاق ولا عتق ولا تدبير ولا رجعة
...
1363 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ وَكَالَةٌ عَلَى طَلاَقٍ، وَلاَ عَلَى عِتْقٍ،
وَلاَ عَلَى تَدْبِيرٍ، وَلاَ عَلَى رَجْعَةٍ،
وَلاَ عَلَى إسْلاَمٍ، وَلاَ عَلَى تَوْبَةٍ، وَلاَ عَلَى إقْرَارٍ، وَلاَ عَلَى
إنْكَارٍ، وَلاَ عَلَى عَقْدِ الْهِبَةِ، وَلاَ عَلَى الْعَفْوِ، وَلاَ عَلَى
الإِبْرَاءِ، وَلاَ عَلَى عَقْدِ ضَمَانٍ، وَلاَ عَلَى رِدَّةٍ، وَلاَ عَلَى
قَذْفٍ، وَلاَ عَلَى صُلْحٍ، وَلاَ عَلَى إنْكَاحٍ مُطَاقٍ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ
الْمُنْكَحَةِ وَالنَّاكِحِ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلْزَامُ حُكْمٍ لَمْ يَلْزَمْ
قَطُّ، وَحَلُّ عَقْدٍ ثَابِتٍ، وَنَقْلُ مِلْكٍ بِلَفْظٍ. فَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ إِلاَّ حَيْثُ أَوْجَبَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ
نَصَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَالأَصْلُ
أَنْ لاَ يَجُوزَ قَوْلُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلاَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا كَسْبٌ عَلَى غَيْرِهِ
وَحُكْمٌ بِالْبَاطِلِ يُمْضِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/245)
1364
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لِلْوَكِيلِ تَعَدِّي مَا أَمَرَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ
فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذْ فِعْلُهُ
فَإِنْ فَاتَ ضَمِنَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ
(8/245)
1365
- مَسْأَلَةٌ - وَفِعْلُ الْوَكِيلِ نَافِذٌ فِيمَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ
لاَزِمٌ لِلْمُوَكِّلِ مَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ
عَزَلَهُ،
فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ مِنْ حِينَئِذٍ وَيَفْسَخُ
مَا فَعَلَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا فَعَلَ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ مِنْ
حِينِ عَزْلِهِ إلَى حِينِ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِ فَهُوَ نَافِذٌ طَالَتْ
الْمُدَّةُ بَيْنَ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَتْ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي عَزْلِ
الإِمَامِ لِلأَمِيرِ، وَلِلْوَالِي، وَلِلْقَاضِي، وَفِي عَزْلِ هَؤُلاَءِ لِمَنْ
جُعِلَ إلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، وَلاَ فَرْقَ لأََنَّهُ عَزَلَهُ بِغَيْرِ أَنْ
يُعْلِمَهُ بَعْدَ أَنْ وَلَّاهُ وَأَطْلَقَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَعَلَى
الأَبْتِيَاعِ، وَعَلَى التَّذْكِيَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالإِنْكَاحِ لِمُسَمَّاةٍ
وَمُسَمًّى: خَدِيعَةٌ وَغِشٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا " فَعَزْلُهُ لَهُ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ، أَوْ يَكْتُبَ
إلَيْهِ أَوْ يُوصِي إلَيْهِ: إذَا بَلَغَك رَسُولِي فَقَدْ عَزَلْتُك فَهَذَا
صَحِيحٌ; لأََنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ كَمَا يَشَاءُ،
فَإِذَا بَلَغَهُ فَقَدْ صَحَّ عَزْلُهُ، وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ
يُخَاصِمُهُ مِنْ عَزْلِ وَكِيلِهِ وَتَوْلِيَةِ آخَرَ; لأََنَّ التَّوْكِيلَ فِي
ذَلِكَ قَدْ صَحَّ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ مَنْعَهُ مِنْ عَزْلِ
مَنْ شَاءَ وَتَوْلِيَةِ مَنْ شَاءَ.
فإن قيل: إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى الْخَصْمِ قلنا: لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ أَصْلاً، بَلْ الضَّرَرُ كُلُّهُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمَرْءِ
فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَلاَ سُنَّةٍ وَهَذَا
هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
(8/246)
1366
- مَسْأَلَةٌ - وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ بَلَغَ ذَلِكَ إلَى
الْوَكِيلِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِخِلاَفِ مَوْتِ الإِمَامِ،
فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ فَالْوُلاَةُ كُلُّهُمْ نَافِذَةٌ أَحْكَامُهُمْ حَتَّى
يَعْزِلَهُمْ الإِمَامُ الْوَالِي، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَالْمَالُ قَدْ انْتَقَلَ بِمَوْتِ
الْمُوَكِّلِ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي مَالِهِمْ حُكْمُ مَنْ لَمْ
يُوَكِّلُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الإِمَامُ; لأََنَّ الْمُسْلِمِينَ لاَ بُدَّ
(8/246)
كتاب
المضاربة وهي القراض
القراض كان في الجاهلية وأقره الشرع
...
كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ
1367- مَسْأَلَةٌ - الْقِرَاضُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِجَارَةٍ لاَ مَعَاشَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا وَفِيهِمْ
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ السَّفَرَ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ،
وَالْيَتِيمُ، فَكَانُوا وَذَوُو الشُّغْلِ وَالْمَرَضِ يُعْطُونَ الْمَالَ
مُضَارَبَةً لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْ الرِّبْحِ فَأَقَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي الإِسْلاَمِ وَعَمِلَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ عَمَلاً مُتَيَقَّنًا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلَوْ وُجِدَ فِيهِ خِلاَفٌ
مَا الْتَفَتَ إلَيْهِ; لأََنَّهُ نَقْلُ كَافَّةٍ بَعْدَ كَافَّةٍ إلَى زَمَنِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَقَدْ خَرَجَ صلى الله
عليه وسلم فِي قِرَاضٍ بِمَالِ خَدِيجَةَ، رضي الله عنها.
(8/247)
القراض
إنما هو بالدنانير والدراهم فقط
...
1368 - مَسْأَلَةٌ - وَالْقِرَاضُ إنَّمَا هُوَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ،
وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ،
إِلاَّ بِأَنْ يُعْطِيَهُ الْعَرَضَ فَيَأْمُرُهُ بِبَيْعِهِ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ،
وَبِأَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ فَيَعْمَلُ بِهِ قِرَاضًا، لأََنَّ هَذَا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلاَ نَصَّ بِإِيجَابِهِ، وَلاَ
حُكْمَ لأََحَدٍ فِي مَالِهِ إِلاَّ بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ النَّصُّ. وَمِمَّنْ
مَنَعَ مِنْ الْقِرَاضِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ: الشَّافِعِيُّ،
وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ.
(8/247)
1369
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَصْلاً إِلاَّ مَا
جَاءَ بِهِ نَصٌّ، أَوْ إجْمَاعٌ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَبْدًا يَعْمَلُ مَعَهُ، أَوْ أَجِيرًا يَعْمَلُ
مَعَهُ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِفُلاَنٍ; لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ: فَتَنَاقَضُوا هَهُنَا فَقَالُوا فِي الْقِرَاضِ كَمَا قلنا،
وَقَالُوا فِي " الْمُسَاقَاةِ " لاَ تَجُوزُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْمُزَارَعَةِ " فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
أَجَازُوهَا فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ خِلاَفِهِمْ فِي
" الْمُزَارَعَةِ " و " الْمُسَاقَاةِ " السُّنَّةَ
الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/247)
لا
يجوز القراض إلا بأن يسميا السهم الذي يقترضان عليه من الربح
...
1370 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلاَّ بِأَنْ يُسَمِّيَا السَّهْمَ
الَّذِي يَتَقَارَضَانِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ،
كَسُدُسٍ، أَوْ رُبْعٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ نِصْفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ،
وَيُبَيِّنَا مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ; لأََنَّهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ قِرَاضًا، وَلاَ عُرْفًا مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ
عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/248)
1371
- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا،
وَلاَ أَنْ يَلْبَسَ مِنْهُ شَيْئًا،
لاَ فِي سَفَرٍ، وَلاَ فِي حَضَرٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
قَالَ: مَا أَكَلَ الْمُضَارِبُ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَصَحَّ عَنْ
إبْرَاهِيمَ، وَالْحَسَنِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ قَالَ
إبْرَاهِيمُ: وَكِسْوَتُهُ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُنَا هَهُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: أَمَّا فِي الْحَضَرِ فَكَمَا قلنا، وَأَمَّا فِي
السَّفَرِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي مِنْهُ وَيَرْكَبُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ
إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَإِلَّا فَلاَ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَهُ
فِي الْحَضَرِ أَنْ يَتَغَذَّى مِنْهُ بِالأَفْلُسُ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فِي
غَايَةِ الْفَسَادِ; لأََنَّهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا مِقْدَارُ
الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَبَاحُوا هَذَا فِيهِ وَمَا مِقْدَارُ الْقَلِيلِ
الَّذِي مَنَعُوهُ فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ
فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ أَيْضًا يَعُودُ الْمَالُ إلَى
الْجَهَالَةِ فَلاَ يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلاَ مَا يَبْقَى مِنْهُ
وَقَلِيلُ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ، وَكَثِيرُ
الْحَلاَلِ حَلاَلٌ وَلَوْ أَنَّهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. فَإِنْ قَالُوا هُوَ
سَاعٍ فِي مَصْلَحَةِ الْمَالِقلنا: نَعَمْ، فَكَانَ مَاذَا وَإِنَّمَا هُوَ سَاعٍ
لِرِبْحٍ يَرْجُوهُ، فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي حَظِّ نَفْسِهِ.
(8/248)
كل
ربح ربحاه فلهما أن يقتسماه فإن لم يفعلا وتركا الأمر بحسبه ثم خسرا في المال فلا
ربح للعامل
...
1372 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ رِبْحٍ رَبِحَاهُ فَلَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ،
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلاَ وَتَرَكَا الأَمْرَ بِحَسَبِهِ ثُمَّ خَسِرَ فِي الْمَالِ
فَلاَ رِبْحَ لِلْعَامِلِ،
وَأَمَّا إذَا اقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَقَدْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا
صَارَ لَهُ، فَلاَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ ; لأََنَّهُمَا عَلَى هَذَا
تَعَامَلاَ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظٌّ مِنْ
الرِّبْحِ، فَإِذَا اقْتَسَمَاهُ فَهُوَ عَقْدُهُمَا الْمُتَّفَقُ عَلَى
جَوَازِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ فَقَدْ تَطَوَّعَا بِتَرْكِ حَقِّهِمَا
وَذَلِكَ مُبَاحٌ.
(8/248)
1373
– مَسْأَلَةٌ - وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْمَالِ
وَلَوْ تَلِفَ كُلُّهُ،
وَلاَ فِيمَا خَسِرَ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، إِلاَّ أَنْ
يَتَعَدَّى أَوْ يُضَيِّعَ فَيَضْمَنُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ".
(8/248)
1374
- مَسْأَلَةٌ - وَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ
الْعَامِلُ عَلَى بَيْعِ السِّلَعِ مُعَجِّلاً خَسِرَ أَوْ رَبِحَ
لأََنَّهُ لاَ مُدَّةَ فِي الْقِرَاضِ، فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ مُدَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُجْبَرَ الآبِي مِنْهُمَا عَلَى التَّمَادِي فِي عَمَلٍ لاَ يُرِيدُهُ
أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ، وَلاَ يُرِيدُهُ الآخَرُ فِي عَمَلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ وَقَدْ
تَسْمُو قِيمَةُ السِّلَعِ، وَقَدْ تَنْحَطُّ، فَإِيجَابُ التَّأْخِيرِ فِي ذَلِكَ
خَطَأٌ، وَلاَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُبِيحَ مَالَهُ لِغَيْرِهِ لِيُمَوِّلَهُ
بِهِ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَلْزَمَ هَهُنَا إجْبَارَ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى
الصَّبْرِ حَتَّى يَكُونَ لِلسِّلَعِ سُوقٌ لِيُمَوِّلَ بِذَلِكَ الْعَامِلَ مِنْ
مَالِ غَيْرِهِ، وَهُوَ لاَ يَرَى إجْبَارَهُ عَلَى تَدَارُكِ مَنْ يَمُوتُ جُوعًا
مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يُقِيمُ رَمَقَهُ، وَهَذَا عَكْسُ
الْحَقَائِقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/249)
إن
تعدى العامل فربح فإن كان اشترى في ذمته وزن من مال القراض فحكمه حكم الغاصب
...
1375 - مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ تَعَدَّى الْعَامِلُ فَرَبِحَ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى
فِي ذِمَّتِهِ وَوَزَنَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ
وَقَدْ صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ إنْ تَلِفَ أَوْ لِمَا تَلِفَ مِنْهُ
بِالتَّعَدِّي، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُ، لأََنَّ الشِّرَى لَهُ. وَإِنْ كَانَ
اشْتَرَى بِمَالِ الْقِرَاضِ نَفْسِهِ فَالشِّرَى فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ صَاحِبُهُ الْبَائِع مِنْهُ فَالرِّبْحُ لِلْمَسَاكِينِ; لأََنَّهُ مَالٌ
لاَ يُعْرَفُ لَهُ صَاحِبٌ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/249)
1376-
مَسْأَلَةٌ: وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَ الْقِرَاضُ :
أَمَّا فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فَلأََنَّ الْمَالَ قَدْ صَارَ لِلْوَرَثَةِ،
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". أَمَّا فِي مَوْتِ الْعَامِلِ،
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}
وَعَقْدُ الَّذِي لَهُ الْمَالُ إنَّمَا كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ لاَ مَعَ
وَارِثِهِ، إِلاَّ أَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ لَيْسَ
تَعَدِّيًا، وَعَمَلَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَامِلِ إصْلاَحٌ لِلْمَالِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فَلاَ
ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ عَلَى وَارِثِهِ إنْ تَلِفَ الْمَالُ بِغَيْرِ
تَعَدٍّ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْمَالِ، أَوْ لِوَارِثِهِ،
وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ هَهُنَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فَقَطْ،
لقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَحُرْمَةُ عَمَلِهِ يَجِبُ لَهُ أَنْ يُقَاصَّ
بِمِثْلِهَا; لأََنَّهُ مُحْسِنٌ مُعِينٌ عَلَى بِرٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/249)
إن
اشترى العامل من مال القراض جارية فوطئها فهو زان وعليه حد الزنا
...
1377 - مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ جَارِيَةً
فَوَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا;
لأََنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لِصَاحِبِ
الْمَالِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَاشِيَةِ،
(8/249)
كتاب
الاقرار
من أقر لآخر أو لله تعالى بحق في مال أو دم أو بشرة وكان المقر عاقلا بالغا غير
مكره لم يصله بما يفسده وقد لزمه ولا رجوع له بعد ذلك
...
كِتَابُ الإِقْرَارِ
1378 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ أَقَرَّ لأَخَرَ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَقٍّ فِي
مَالٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ بَشَرَةٍ وَكَانَ الْمُقِرُّ عَاقِلاً بَالِغًا غَيْرَ
مُكْرَهٍ وَأَقَرَّ إقْرَارًا تَامًّا، وَلَمْ يَصِلْهُ بِمَا يُفْسِدُهُ: فَقَدْ
لَزِمَهُ،
وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ رَجَعَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِرُجُوعِهِ
وَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَمٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ
مَالٍ. فَإِنْ وَصَلَ الإِقْرَارُ بِمَا يُفْسِدُهُ بَطَلَ كُلُّهُ وَلَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لاَ مِنْ مَالٍ، وَلاَ قَوَدٍ، وَلاَ حَدٍّ: مِثْلَ أَنْ
يَقُولَ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ، أَوْ يَقُولُ: قَذَفْت فُلاَنًا
بِالزِّنَى، أَوْ يَقُولُ زَنَيْت، أَوْ يَقُولُ: قَتَلْت فُلاَنًا، أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ: فَقَدْ لَزِمَهُ، فَإِنْ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ. فَإِنْ
قَالَ: كَانَ لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ وَقَدْ قَضَيْته إيَّاهَا، أَوْ
قَالَ: قَذَفْت فُلاَنًا وَأَنَا فِي غَيْرِ عَقْلِي، أَوْ قَتَلْت فُلاَنًا;
لأََنَّهُ أَرَادَ قَتْلِي وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ، عَنْ نَفْسِي، أَوْ
قَالَ: زَنَيْت وَأَنَا فِي غَيْرِ عَقْلِي، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا
كُلَّهُ يَسْقُطُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ،
وَالذَّكَرُ، وَالأُُنْثَى ذَاتُ الزَّوْجِ، وَالْبِكْرُ ذَاتُ الأَبِ،
وَالْيَتِيمَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ
تَكُنْ بَيِّنَةُ فَإِذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فَلاَ مَعْنَى لِلإِنْكَارِ، وَلاَ
لِلإِقْرَارِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ
خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ
أَنَسٍ: أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ،
فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ فُلاَنٌ فُلاَنٌ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا
فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ [بْنِ مَسْعُودٍ]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ
ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ
أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لاََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ": الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ
رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، اُغْدُ يَا أُنَيْسُ
عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا
فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ
فَقُتِلَ عليه السلام بِالإِقْرَارِ وَرُجِمَ بِهِ، وَرُدَّ بِهِ الْمَالُ مِمَّنْ
كَانَ بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إذَا وَصَلَ بِهِ مَا يُفْسِدُهُ فَلَمْ
يُقِرَّ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ بَعْضَ إقْرَارِهِ، وَلاَ يُلْزَمَ
سَائِرَهُ; لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآن، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
(8/250)
وَقَدْ
تَنَاقَضَ هَهُنَا الْمُخَالِفُونَ فَقَالُوا: إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ
إِلاَّ رُبْعَ دِينَارٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ قَالَ: ابْتَعْت مِنْهُ دَارِهِ
بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَنْكَرَ الآخَرُ الْبَيْعَ وَقَالَ: قَدْ أَقَرَّ لِي
بِمِائَةِ دِينَارٍ وَادَّعَى ابْتِيَاعَ دَارِي، فَإِنَّهُمْ لاَ يَقُصُّونَ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وقال مالك: مَنْ قَالَ:
أَحْسَنَ اللَّهُ جَزَاءَ فُلاَنٍ فَإِنَّهُ أَسْلَفَنِي مِائَتَيْ دِينَارٍ،
وَأَمْهَلَنِي حَتَّى أَدَّيْتهَا كُلَّهَا إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي
لِذَلِكَ الْفُلاَنِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنْ طَلَبَهُ بِهَذَا الإِقْرَارِ. وَلاَ
يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ قَالَ: قَتَلْتُ رَجُلاً مُسْلَمًا الآنَ أَمَامَكُمْ، أَوْ
قَالَ: أَخَذْت مِنْ هَذَا مِائَةَ دِينَارٍ الآنَ بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقُولُوا: إنْ أَقَرَّ، ثُمَّ نَدِمَ، وَلاَ أَخَذُوا
بِبَعْضِ قَوْلٍ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَجُلاً اسْتَضَافَ نَاسًا مِنْ
هُذَيْلٍ فَأَرْسَلُوا جَارِيَةً تَحْتَطِبُ فَأَعْجَبَتْ الضَّيْفَ فَتَبِعَهَا
فَأَرَادَهَا فَامْتَنَعَتْ، فَعَارَكَهَا فَانْفَلَتَتْ فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ
فَفَضَّتْ كَبِدَهُ فَمَاتَ، فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَخْبَرَتْهُمْ، فَأَتَوْا
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ عُمَرُ: قَتِيلُ اللَّهِ لاَ
يُودَى وَاَللَّهِ أَبَدً.ا
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَحُمَيْدٍ،
وَمُطَرِّفٍ، كُلِّهِمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ:
غَزَا رَجُلٌ فَخَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَمَرَّ بِهِ
رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الإِسْلاَمُ مِنِّي ... جَلَوْت بِعُرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ
أَبِيت عَلَى تَرَائِبِهَا وَيُمْسِي ... عَلَى جَرْدَاءَ لاَحِقَةِ الْحِزَامِ
كَأَنَّ مَجَامِعَ الرَّبَلاَتِ مِنْهَا ... قِيَامٌ يَنْهَضُونَ إلَى فِئَامِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فَجَاءَتْ الْيَهُودُ
يَطْلُبُونَ دَمَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِالأَمْرِ، فَأَبْطَلَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ دَمَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أُتِيتُ وَأَنَا بِالْيَمَنِ
بِامْرَأَةٍ فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ: مَا تَسْأَلُ، عَنْ امْرَأَةٍ حُبْلَى
ثَيِّبٍ مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا خَالَلْت خَلِيلاً، وَلاَ
خَادَنْتُ خِدْنًا، مُذْ أَسْلَمْت، وَلَكِنِّي بَيْنَمَا أَنَا نَائِمَةٌ بِفِنَاءِ
بَيْتِي، فَوَاَللَّهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ الرَّجُلُ حِينَ رَكِبَنِي
وَأَلْقَى فِي بَطْنِي مِثْلَ الشِّهَابِ فَقَالَ: فَكَتَبْت فِيهَا إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيَّ: أَنْ وَافِنِي بِهَا وَبِنَاسٍ مِنْ قَوْمِهَا
فَوَافَيْته بِهَا فِي الْمَوْسِمِ، فَسَأَلَ عَنْهَا قَوْمَهَا فَأَثْنَوْا
خَيْرًا، وَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ كَمَا أَخْبَرَتْنِي، فَقَالَ عُمَرُ:
شَابَّةٌ تِهَامِيَّةٌ تَنَوَّمَتْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يُفْعَلُ، فَمَارَّهَا
(8/251)
عُمَرُ
وَكَسَاهَا، وَأَوْصَى بِهَا قَوْمَهَا خَيْرًا هَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ أَبِي
الْحَكَمِ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ رَجُلاً رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً
فَقَتَلَهُ، فَارْتَفَعُوا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانِ فَأَبْطَلَ دَمَهُ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ
رَجُلاً أَتَى امْرَأَةً لَيْلاً فَجَعَلَتْ تَسْتَصْرِخُ فَلَمْ يُصْرِخْهَا
أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: رُوَيْدَك حَتَّى أَسْتَعِدَّ
وَأَتَهَيَّأَ، فَأَخَذَتْ فِهْرًا فَقَامَتْ خَلْفَ الْبَابِ، فَلَمَّا دَخَلَ
ثَلَغَتْ بِهِ رَأْسَهُ فَارْتَفَعُوا إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَأَبْطَلَ
دَمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُقْبَةَ أَنَّ رَجُلاً
ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَاخْتَصَمَا
إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ
دِرْهَمٍ فَقَضَيْته فَقَالَ: أَصْلَحَك اللَّهُ قَدْ أَقَرَّ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى: إنْ شِئْت أَخَذْت بِقَوْلِهِ أَجْمَعَ، وَإِنْ شِئْت
أَبْطَلْته أَجْمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى مِنْ التَّابِعِينَ وَلِيَ
قَضَاءِ الْبَصْرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي
يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ:
كُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَقَوْلُنَا
فِيمَا ذَكَرْنَا هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ، عَنِ الإِقْرَارِ:
فَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى مَا قلنا، إِلاَّ فِي الرُّجُوعِ، عَنِ الإِقْرَارِ
بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، قَالُوا:
إنْ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ
قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا الإِقْرَارَ بِالْحَدِّ عَلَى الإِقْرَارِ
بِالْحُقُوقِ سَوَاءً وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدَّ قَدْ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ،
فَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَهُ بِرُجُوعِهِ فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
; وَاحْتَجُّوا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ مَاعِزٍ. وَالثَّانِي: أَنْ
قَالُوا: إنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا حَدِيثُ مَاعِزٍ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ مَاعِزًا رَجَعَ، عَنِ الإِقْرَارِ أَلْبَتَّةَ،
لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: إنْ رَجَعَ، عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَيْضًا أَلْبَتَّةَ،
فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُمَوِّهَ عَلَى أَهْلِ الْغَفْلَةِ بِخَبَرٍ
لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَزْعُمُ وَإِنَّمَا رُوِيَ، عَنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا،
وَالْغَامِدِيَّةَ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا، أَوْ لَمْ يَرْجِعَا
[بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا] لَمْ يَطْلُبْهُمَا: هَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنِ ابْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهَذَا ظَنٌّ،
وَالظَّنُّ لاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ فَعَلَ فُلاَنٌ
كَذَا لَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا كَذَا: لَيْسَ
بِشَيْءِ، إذْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْفُلاَنُ، وَلاَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ
(8/252)
قَطُّ، وَلاَ فَعَلَهُ عليه السلام قَطُّ، وَقَدْ قَالَ جَابِرٌ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَمْرِ مَاعِزٍ إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ " لِيَسْتَثْبِتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، فأما لِتَرْكِ حَدٍّ فَلاَ: هَذَا نَصُّ كَلاَمِ جَابِرٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَاعِزٌ قَطُّ، عَنْ إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي وَغَرُّونِي مِنْ نَفْسِي، وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ قَاتِلِي هَكَذَا رُوِّينَا كُلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: كُلُّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى نَصِّهِ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ. وَأَمَّا " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " فَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا خَيْرٌ، وَلاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا جَاءَ عَنْهُ عليه السلام أَيْضًا، لاَ مُسْنَدًا، وَلاَ مُرْسَلاً وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ، فَقَطْ وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهُ; لأََنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا أَشَدَّ إقَامَةً لِلْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ مِنْهُمْ. فَالْمَالِكِيُّونَ يَحُدُّونَ فِي الزِّنَى بِالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ بِالْحَبَلِ فَقَطْ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَقَدْ تُسْتَكْرَهُ وَتُوطَأُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لَمْ يَشْتَهِرْ، أَوْ وَهِيَ فِي غَيْرِ عَقْلِهَا، وَيَقْتُلُونَ بِدَعْوَى الْمَرِيضِ: أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ، وَفُلاَنٌ مُنْكِرٌ، وَلاَ بَيِّنَةَ عَلَيْهِ. وَيَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ، وَقَدْ تَكُونُ رَائِحَةَ تُفَّاحٍ، أَوْ كُمَّثْرَى شَتْوِيٍّ. وَيَقْطَعُونَ فِي السَّرِقَةِ مَنْ يَقُولُ: صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بَعَثَنِي فِي هَذَا الشَّيْءِ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ مُقِرٌّ لَهُ بِذَلِكَ. وَيَحُدُّونَ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ إقَامَةُ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقْطَعُونَ مَنْ دَخَلَ مَعَ آخَرَ فِي مَنْزِلِ إنْسَانٍ لِلسَّرِقَةِ فَلَمْ يَتَوَلَّ أَخْذَ شَيْءٍ، وَلاَ إخْرَاجَهُ، وَإِنَّمَا سَرَقَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ فَقَطْ، فَيَقْطَعُونَهُمَا جَمِيعًا فِي كَثِيرٍ لَهُمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ قَائِلٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْوِيَتُنَا بَيْنَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ، وَالأُُنْثَى ذَاتِ الأَبِ الْبِكْرِ، وَغَيْرِ الْبِكْرِ، وَالْيَتِيمَةِ، وَذَاتِ الزَّوْجِ فَلأََنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْحُكْمَ وَاحِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَلاَ قُرْآنَ، وَلاَ سُنَّةَ، وَلاَ قِيَاسَ، وَلاَ إجْمَاعَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَبِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا خِطَابًا قَصَدَ بِهِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
(8/253)
أَنْفُسِكُمْ
أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مَأْمُورٌ
بِالإِقْرَارِ بِالْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ
يُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ مَا لاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إقْرَارُ
الْعَبْدِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لاَ يَلْزَمُ; لأََنَّهُ مَالٌ فَإِنَّمَا هُوَ
مُقِرٌّ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}
قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَالاً فَهُوَ إنْسَانٌ تَلْزَمُهُ أَحْكَامُ
الدِّيَانَةِ، وَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ; لأََنَّهُ كَاسِبٌ عَلَى
نَفْسِهِ بِإِقْرَارِهِ. وَقَدْ وَافَقُونَا: لَوْ أَنَّ أَجِيرًا أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ بِحَدٍّ لَلَزِمَهُ، وَفِي إقْرَارِهِ بِذَلِكَ إبْطَالُ إجَارَتِهِ إنْ
أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ قَتْلاً أَوْ قَطْعًا وَلَيْسَ بِذَلِكَ كَاسِبًا عَلَى
غَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/254)
يلزم
كل ما ذكر في المسألة قبل هذه من حد أو قتل أو مال بإقراره مرة
...
1379 - مَسْأَلَةٌ - وَبِإِقْرَارِهِ مَرَّةً يَلْزَمُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
حَدٍّ، أَوْ قَتْلٍ،
أَوْ مَالٍ وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: لاَ يَلْزَمُ الْحَدُّ فِي الزِّنَى إِلاَّ
بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَلْزَمُ فِي
السَّرِقَةِ إِلاَّ بِإِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، وَأَقَامُوا ذَلِكَ مَقَامَ
الشَّهَادَةِ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِنَا
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَدَّ
مَاعِزًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ .
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ هَذَا وَجَاءَ أَنَّهُ رَدَّهُ أَقَلَّ، وَرُوِيَ
أَكْثَرَ إنَّمَا رَدَّهُ عليه السلام لأََنَّهُ اتَّهَمَ عَقْلَهُ، وَاتَّهَمَهُ
أَنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا الزِّنَى هَكَذَا فِي نَصِّ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ قَالَ:
اسْتَنْكِهُوهُ هَلْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ كَمَا قَالَ عليه السلام وَأَنَّهُ عليه
السلام بَعَثَ إلَى قَوْمِهِ يَسْأَلُهُمْ، عَنْ عَقْلِهِ وَأَنَّهُ عليه السلام
قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي مَا الزِّنَى لَعَلَّكَ غَمَزْتَ أَوْ قَبَّلْتَ فَإِذْ
قَدْ صَحَّ هَذَا كُلُّهُ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ
سَقِيمَةٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: لاَ يُحَدُّ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ هَذَا الشَّرْطُ فِيمَا تُقَامُ بِهِ
حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ،
فَيَلْزَمُهُمْ إذْ أَقَامُوا الإِقْرَارَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ أَنْ يُقِيمُوهُ مَقَامَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَلاَ يَقْضُوا
عَلَى أَحَدٍ أَقَرَّ بِمَالٍ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ
هَذَا، وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودِيَّ الَّذِي
قَتَلَ الْجَارِيَةَ بِإِقْرَارٍ غَيْرِ مُرَدَّدٍ، وَالْقَتْلُ أَعْظَمُ
الْحُدُودِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/254)
إقرارا
المريض في مرض موته وفي مرض إفاق منه لوارث ولغير وارث نافذ من رأس المال كإقرار
صحيح ولا فرق
...
1380 - مَسْأَلَةٌ - وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَفِي مَرَضٍ
أَفَاقَ مِنْهُ لِوَارِثٍ وَلِغَيْرِ وَارِثٍ نَافِذٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ
كَإِقْرَارِ الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ
فَعَمَّ ابْنُ عُمَرَ وَلَمْ يَخُصَّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: إذَا أَقَرَّ
لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ جَازَ يَعْنِي فِي الْمَرَضِ. وبه إلى ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَامِرٍ الأَحْوَلِ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْهُ فَقَالَ: أُحَمِّلُهَا
إيَّاهُ، وَلاَ أَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ.
(8/254)
من
قال هذ الشيء لشيء في يده كان لفلان ووهبه لي أو قال باعه مني صدق ولم يقض عليه
بشيء
...
1381 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: هَذَا الشَّيْءُ لِشَيْءٍ فِي يَدِهِ كَانَ
لِفُلاَنٍ، وَوَهَبَهُ لِي، أَوْ قَالَ: بَاعَهُ مِنِّي: صَدَقَ، وَلَمْ يُقْضَ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ،
وَلأََنَّ الأَمْوَالَ، وَالأَمْلاَكَ بِلاَ شَكٍّ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ يَدٍ إلَى
يَدٍ: هَذَا أَمْرٌ نَعْلَمُهُ يَقِينًا. فَلَوْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَعْضِ
إقْرَارِهِ هُنَا دُونَ سَائِرِهِ لَوَجَبَ إخْرَاجُ جَمِيعِ أَمْلاَك النَّاسِ،
عَنْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ أَكْثَرِهَا; لأََنَّك لاَ تَشُكُّ فِي الدُّورِ،
وَالأَرَضِينَ، وَالثِّيَابِ الْمَجْلُوبَةِ وَالْعَبِيدِ، وَالدَّوَابِّ:
أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلُ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ بِلاَ شَكٍّ، وَإِنْ
أَمْكَنَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَنْ يُنْتِجَهُ فَإِنَّ الأُُمَّ وَأُمَّ الأُُمِّ
بِلاَ شَكٍّ كَانَتْ لِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الزَّرِيعَةُ مِمَّا بِيَدِهِ مِمَّا
يَنْبُتُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً. فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ
فِي شَيْءٍ مِمَّا بِيَدِهِ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ مِمَّا لَمْ يُقِرَّ بِهِ
أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِهِ قَضَى بِهِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ حِينَئِذٍ، وَلَمْ
يُصَدَّقْ عَلَى انْتِقَالِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ
أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَى بِالْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعِي .
(8/256)
من
قال لفلان عندي مائة دينار دين ولي عنده مائة قفيز قمح ولا بينة عليه بشيء ولا له
قوم القمح الذي ادعاه فإن ساوى أقل قضي بالفضل فقط
...
1382 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ قَالَ: لِفُلاَنٍ عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ دَيْنٌ
وَلِي عِنْدَهُ مِائَةُ قَفِيزِ قَمْحٍ،
أَوْ قَالَ: إِلاَّ مِائَةَ قَفِيزِ تَمْرٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ إِلاَّ
جَارِيَةً، وَلاَ بَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلاَ لَهُ قُوِّمَ الْقَمْحُ
الَّذِي ادَّعَاهُ، فَإِنْ سَاوَى الْمِائَةَ الدِّينَارَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا،
أَوْ سَاوَى أَكْثَرَ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَاوَى أَقَلَّ: قُضِيَ
بِالْفَضْلِ فَقَطْ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ قَطُّ إقْرَارًا تَامًّا، بَلْ
وَصَلَهُ بِمَا أَبْطَلَ بِهِ أَوَّلَ كَلاَمِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ قَطُّ
عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَعْضِ كَلاَمِهِ دُونَ
بَعْضٍ لَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ; لأََنَّ
نِصْفَ كَلاَمِهِ إذَا انْفَرَدَ: كُفْرٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُهُ "لاَ
إلَهَ" فَيُقَالُ لَهُ: كَفَرْت، ثُمَّ نَدِمْت وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا
وَلَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَبْطُلَ الأَسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ بِمِثْلِ هَذَا
لأََنَّهُ إبْطَالٌ
(8/256)
كتاب
اللقطة والضالة والآبق
من وجد مالا في قرية أو مدينة أو صحراء في أرض العجم أو العرب مدفونا أو غير مدفون
إلا أن عليه علامة أنه ضرب في مدة الإسلام أو وجد مالا قد سقط فهو لقطة
...
كِتَابُ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ وَالآبِقِ
1383 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ وَجَدَ مَالاً فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ، أَوْ
صَحْرَاءَ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ، أَوْ أَرْضِ الْعَرَبِ الْعَنْوَةِ أَوْ
الصُّلْحِ مَدْفُونًا أَوْ غَيْرَ مَدْفُونٍ إِلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ عَلاَمَةً أَنَّهُ
مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ الإِسْلاَمِ أَوْ وَجَدَ مَالاً قَدْ سَقَطَ أَيَّ مَالٍ
كَانَ: فَهُوَ لُقَطَةٌ،
وَفُرِضَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَأَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ عَدْلاً وَاحِدًا
فَأَكْثَرَ، ثُمَّ يُعَرِّفُهُ، وَلاَ يَأْتِي بِعَلاَمَتِهِ، لَكِنَّ تَعْرِيفَهُ
هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَجَامِعِ الَّذِي يَرْجُو وُجُودَ صَاحِبِهِ فِيهَا
أَوْ لاَ يَرْجُو: مَنْ ضَاعَ لَهُ مَالٌ فَلْيُخْبِرْ بِعَلاَمَتِهِ، فَلاَ
يَزَالُ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ
بَيِّنَةً، أَوْ مَنْ يَصِفُ عِفَاصَهُ وَيُصَدَّقُ فِي صِفَتِهِ، وَيَصِفُ
وِعَاءَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَصِفُ رِبَاطَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْرِفُ
عَدَدَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، أَوْ يَعْرِفُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا. أَمَّا
الْعَدَدُ، وَالْوِعَاءُ، إنْ كَانَ لاَ عِفَاصَ لَهُ، وَلاَ وِكَاءَ، أَوْ
الْعَدَدُ إنْ كَانَ مَنْثُورًا فِي غَيْرِ وِعَاءٍ: دَفَعَهَا إلَيْهِ كَانَتْ
لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَيُجْبَرُ الْوَاجِدُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ،
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ جَاءَ مَنْ يُثْبِتُهُ بِبَيِّنَةٍ
فَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَصْدُقُ فِي صِفَتِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ
بَيِّنَةَ فَهُوَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ مَالٌ مِنْ مَالِ الْوَاجِدِ غَنِيًّا
كَانَ أَوْ فَقِيرًا يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَيُورَثُ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّهُ
مَتَى قَدِمَ مَنْ يُقِيمُ فِيهِ بَيِّنَةً أَوْ يَصِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا
فَيَصْدُقُ ضَمِنَهُ لَهُ إنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ ضَمِنَهُ لَهُ الْوَرَثَةُ إنْ
كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ مَيِّتًا. فَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ شَيْئًا وَاحِدًا
كَدِينَارٍ وَاحِدٍ.
(8/257)
أَوْ
دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، أَوْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَيِّ
شَيْءٍ كَانَ كَذَلِكَ لاَ رِبَاطَ لَهُ، وَلاَ وِعَاءَ، وَلاَ عِفَاصَ: فَهُوَ
لِلَّذِي يَجِدُهُ مِنْ حِينِ يَجِدُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَبَدًا طُولَ حَيَاتِهِ،
فَإِنْ جَاءَ مَنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً قَطُّ: ضَمِنَهُ لَهُ فَقَطْ هُوَ
أَوْ وَرَثَتُهُ بَعْدَهُ وَإِلَّا فَهُوَ لَهُ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِ
مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ بَعْدَهُ، وَلاَ
يُرَدُّ مَا أَنَفَذُوا فِيهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ حَرَسَهَا
اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ فِي رُفْقَةِ قَوْمٍ نَاهِضِينَ إلَى الْعُمْرَةِ أَوْ
الْحَجِّ: عَرَّفَ أَبَدًا، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ تَمَلُّكُهُ، بَلْ يَكُونُ
مَوْقُوفًا فَإِنْ يَئِسَ بِيَقِينٍ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ فَهُوَ فِي
جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، عَنْ
شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ:
خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:"
إنَّ اللَّهَ حَبَسَ، عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا نَبِيَّهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأََحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ
لأََحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ، أَلاَ
وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ
شَجَرُهَا، وَلاَ يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلاَّ مُنْشِدٌ ".
قال أبو محمد : مَكَّةُ هِيَ الْحَرَمُ كُلُّهُ فَقَطْ، وَهِيَ ذَاتُ الْحُرْمَةِ
الْمَذْكُورَةِ، لاَ مَا عَدَا الْحَرَمَ بِلاَ خِلاَفٍ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ ني أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ
التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ لُقَطَةِ
الْحَاجِّ.
قال أبو محمد : الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ
الْمَحَجَّةُ مَحَجَّةً، فَالْقَاصِدُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةِ هُوَ فَاعِلٌ لِلْقَصْدِ الَّذِي هُوَ الْحَجُّ إلَى أَنْ يُتِمَّ
جَمِيعَ أَعْمَالِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:" دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
" فَإِذَا تَمَّتْ فَلَيْسَ حَاجًّا، لَكِنَّهُ كَانَ حَاجًّا، وَقَدْ حَجَّ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَرُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ، هُوَ
ابْنُ أَبِي عَقْرَبٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَصَابَ بَدْرَةً بِالْمَوْسِمِ عَلَى
عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَتَى
بِهَا عُمَرُ عِنْدَ النَّفَرِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَّفْتُهَا فَأَغْنِهَا
عَنِّي قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا
تَأْمُرُنِي قَالَ: أَمْسِكْهَا حَتَّى تُوَافِيَ بِهَا الْمَوْسِمَ قَابِلاً
فَفَعَلَ فَعَرَّفَهَا
(8/258)
فَلَمْ
يَعْرِفْهَا أَحَدٌ، فَأَتَى بِهَا عُمَرُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ وَافَاهُ
بِهَا كَمَا أَمَرَهُ، وَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ وَقَالَ لَهُ:
أَغْنِهَا عَنِّي قَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، وَلَكِنْ إنْ شِئْت
أَخْبَرْتُك بِالْمَخْرَجِ مِنْهَا، أَوْ سَبِيلِهَا: إنْ شِئْت تَصَدَّقْت بِهَا،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرْتَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمَالَ رَدَدْت عَلَيْهِ
الْمَالَ، وَكَانَ الأَجْرُ لَك، وَإِنْ اخْتَارَ الأَجْرَ كَانَ لَك نِيَّتُك
فَهَذَا فِعْلُ عُمَرُ فِي لُقَطَةِ الْمَوْسِمِ. وَفَعَلَ فِي لُقَطَةِ غَيْرِ
الْمَوْسِمِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ
إسْمَاعِيلُ: وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ لَهُ صُحْبَةً أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ فَوَجَدَ
صُرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ مِائَةٌ فَأَخَذَهَا، فَجَاءَ بِهَا إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اُنْشُدْهَا الآنَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، وَإِلَّا
فَهِيَ لَك، قَالَ: فَعَلْت فَلَمْ تُعْرَفْ، فَقَسَّمْتهَا بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ
لِي.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: كُنْت أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَوَطِئْت عَلَى ذَهَبٍ، أَوْ
فِضَّةٍ، فَلَمْ آخُذْهُ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ:
بِئْسَ مَا صَنَعْت، كَانَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَأْخُذَهُ تُعَرِّفَهُ سَنَةً،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ رَدَدْتَهُ إلَيْهِ، وَإِلَّا تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى ذِي
فَاقَةٍ مِمَّنْ لاَ تَعُولُ.وَقَالَ فِي لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَرَمِ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ الأَخْنَسِ الْخُزَاعِيَّ
أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: وَجَدْت لُقَطَةً
أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا قَالَ: لاَ تُؤْجَرُ أَنْتَ، وَلاَ صَاحِبُهَا، قُلْت:
أَفَأَدْفَعُهَا إلَى الأُُمَرَاءِ قَالَ: إذًا يَأْكُلُونَهَا أَكْلاً سَرِيعًا
قُلْت: وَكَيْفَ تَأْمُرُنِي قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
وَإِلَّا فَهِيَ لَك كَمَالِك فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:
بِإِيجَابِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ، وَلاَ بُدَّ، وَيَرَاهَا بَعْدَ الْحَوْلِ قَدْ
صَارَتْ مِنْ مَالِ الْمُلْتَقِطِ، إِلاَّ لُقَطَةَ مَكَّةَ. وَقَوْلُنَا فِي
لُقَطَةِ مَكَّةَ هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَبِي
عُبَيْدٍ، نَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ قَالَ:
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَمَّا مَا عَدَا
لُقَطَةَ الْحَرَمِ، وَالْحَاجِّ، فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي
الْعَلاَءِ هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ مُطَرِّفٍ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ
الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ
أَخَذَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ، أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلاَ يَكْتُمُ،
وَلاَ يَغِيبُ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا
فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ شَاءَ ". وَرُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ:
فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ.
قال أبو محمد : وَزَادَ مُسَدَّدٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَيْسَ شَكًّا، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُحْمَلَ شَيْءٌ
(8/259)
مِمَّا
رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ إِلاَّ بِيَقِينِ
أَنَّهُ شَكٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ الإِسْنَادُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَعِدَّتَهَا وَوِعَاءَهَا،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ
أَبِي النَّضْرِ هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ
لَمْ تُعْتَرَفْ فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ كَمِّلْهَا فَإِنْ
جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ
"أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لَهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اعْرِفْ
عَدَدَهَا، وَوِكَاءَهَا، وَوِعَاءَهَا، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ
وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ "
وَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ الَّذِي لاَ وِكَاءَ لَهُ، وَلاَ عِفَاصَ، وَلاَ
وِعَاءَ فَلأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِتَعْرِيفِ
السَّنَةِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ، وَعِفَاصٌ، وَوِكَاءٌ، أَوْ بَعْضُ هَذِهِ فأما مَا
لاَ عِفَاصَ لَهُ، وَلاَ وِعَاءَ، وَلاَ وِكَاءَ، وَلاَ عَدَدَ: فَهُوَ خَارِجٌ
مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَحُكْمُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: فَحُكْمُهُ
أَنْ يُنْشَدَ ذَلِكَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ عليه السلام لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ
يُغَيِّبُ وَلِقَوْلِهِ عليه السلام هُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ وَاجِدَهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ سُوَيْدُ بْنُ
غَفَلَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَثَالِثٌ مَعَهُمَا فِي سَفَرٍ فَوَجَدَ
أَحَدُهُمْ هُوَ سُوَيْدٌ بِلاَ شَكٍّ سَوْطًا فَأَخَذَهُ، فَقَالَ لَهُ
صَاحِبَاهُ: أَلْقِهِ فَقَالَ: أَسْتَمْتِعُ بِهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ
أَدَّيْته إلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ فَلَقِيَ أُبَيَّ بْنَ
كَعْبٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَصَبْت وَأَخْطَآ فَفِي هَذَا أَنَّ
أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَأَى وُجُوبَ أَخْذِ اللُّقَطَةِ.
قال أبو محمد: فِيمَا ذَكَرْنَا اخْتِلاَفٌ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا:
لاَ تُؤْخَذُ اللُّقَطَةُ أَصْلاً، وَقَالَ آخَرُونَ: مُبَاحٌ أَخْذُهَا
وَتَرْكُهَا مُبَاحٌ، فأما مَنْ نَهَى، عَنْ أَخْذِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
وَكَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْت
مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَرَأَيْت دِينَارًا فَذَهَبْت لأَخُذَهُ
(8/260)
فَضَرَبَ
ابْنُ عُمَرَ يَدِي وَقَالَ: مَا لَك وَلَهُ اُتْرُكْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَابُوسِ
بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَرْفَعْ
اللُّقَطَةَ لَسْت مِنْهَا فِي شَيْءٍ، تَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ أَخْذِهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى سُئِلَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ الْفَاكِهَةِ تُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: لاَ
تُؤْكَلُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّهَا. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أَنَّهُ
كَرِهَ أَخْذَ اللُّقَطَةِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَتَرَكَهُ.
وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: كِلاَ الأَمْرَيْنِ مُبَاحٌ، وَالأَفْضَلُ أَخْذُهَا.
وقال الشافعي مَرَّةً: أَخْذُهَا أَفْضَلُ وَمَرَّةً قَالَ: الْوَرَعُ تَرْكُهَا.
قال أبو محمد : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ كِلاَ الأَمْرَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ
حُجَّةً أَصْلاً، فَإِنْ حَمَلُوا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَخْذِهَا عَلَى
النَّدْبِ قِيلَ لَهُمْ: فَاحْمِلُوا أَمْرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى النَّدْبِ،
وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ قَالُوا: أَمْوَالُ النَّاسِ مُحَرَّمَةٌ قلنا:
وَإِضَاعَتُهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " .فَقُلْنَا لَهُمْ:
نَعَمْ، وَمَا أَمَرْنَاهُ بِاسْتِحْلاَلِهَا أَصْلاً، لَكِنْ أَمَرْنَاهُ
بِالْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا وَتَرْكِ إضَاعَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ
عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لَهُ حَيْثُ جَعَلَهَا لَهُ الَّذِي حَرَّمَ
أَمْوَالَنَا عَلَيْنَا إِلاَّ بِمَا أَبَاحَهَا لَنَا، لاَ يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ
مِنْ أَوَامِرِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا،
وَقَدْ كَفَرَ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى. وَاحْتَجُّوا
أَيْضًا بِحَدِيثِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: " لاَ يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ " وَبِحَدِيثِ
أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيِّ أَوْ الْحَرَمِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " قَالَ: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّار
"ِ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ لاَ يَصِحَّانِ ; لأََنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٍ،
وَأَبَا مُسْلِمٍ الْجَرْمِيَّ أَوْ الْحَرَمِيَّ غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ، لَكِنْ
ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَهَذَا
لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَسَّرَهُ سَائِرُ الآثَارِ وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مُطَرِّفِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَوَالِّ الإِبِلِ فَقَالَ عليه السلام: ضَالَّةُ
الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ، فَأَمَرُوا بِأَخْذِ ضَوَالِّ
الإِبِلِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ ; لأََنَّ
إيوَاءَ الضَّالَّةِ بِخِلاَفِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
حَرْقُ النَّارِ، وَضَلاَلٌ بِلاَ شَكٍّ، وَمَا أَمَرْنَاهُ قَطُّ بِإِيوَائِهَا
مُطْلَقًا، لَكِنْ بِتَعْرِيفِهَا وَضَمَانِهَا فِي الأَبَدِ، وَقَدْ جَاءَ
بِهَذَا حَدِيثٌ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِهِمْ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ
قَالَ: " مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا
".وَمِنْهَا
(8/261)
مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه التَّعْرِيفَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ سَنَةً .وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي مَنْ أَرْضَى، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، "أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ سُئِلَ، عَنِ الضَّالَّةِ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا ." وَهَذَا حَدِيثٌ هَالِكٌ ; لأََنَّ اللَّيْثَ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ وَقَدْ يَرْضَى الْفَاضِلُ مَنْ لاَ يَرْضَى، هَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ أَصْدَقَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَجَابِرٌ مَشْهُورٌ بِالْكَذِبِ. ثُمَّ هُوَ خَطَأٌ ; لِ، أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَإِنَّمَا هُوَ، عَنْ يَزِيدَ لاَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ. وَوَجْهٌ آخَرُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ: وَجَدَ أَبِي فِي مَبْرَكِ بَعِيرٍ مِائَةَ دِينَارٍ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: عَرِّفْهَا عَامًا، فَعَرَّفَهَا عَامًا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا عَارِفًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَرِّفْهَا ثَلاَثَةَ أَعْوَامٍ، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا عَارِفًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هِيَ لَك. وَيُحْتَجُّ لِهَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: الْتَقَطْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَّفْتُهَا حَوْلاً فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا سَنَةً أُخْرَى ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَّفْتُهَا سَنَةً فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا سَنَةً أُخْرَى ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ عليه السلام بِذَلِكَ، فَقَالَ: انْتَفِعْ بِهَا وَاعْرِفْ وِكَاءَهَا وَخِرْقَتَهَا وَاحْصِ عَدَدَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا قَالَ جَرِيرٌ: لَمْ أَحْفَظْ مَا بَعْدَ هَذَا. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الرَّقِّيَّيْنِ كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ ظَاهِرُهُ صِحَّةُ السَّنَدِ، إِلاَّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ أَخْطَأَ فِيهِ بِلاَ شَكٍّ ; لأََنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَارِفًا عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
(8/262)
عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْفَضْلِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ:
عَرِّفْهَا عَامًا قَالَ: فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ تُعْتَرَفْ، فَرَجَعْت فَقَالَ:
عَرِّفْهَا عَامًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَهَذَا شَكٌّ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ. ثُمَّ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْت سُوَيْدٌ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيت
أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَذَكَرَ. الْحَدِيثَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لَهُ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ
يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ
يَعْرِفُهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَلَمْ أَجِدْ مَنْ
يَعْرِفُهَا، وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ: قَالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلٌ وَاحِدٌ
فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِالشَّكِّ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ
تُؤْخَذُ بِالشَّكِّ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ، هُوَ ابْنُ
أَسَدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْت
سُوَيْدٌ بْنَ غَفَلَةَ فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ قَالَ شُعْبَةُ: فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ
عَشْرِ سِنِينَ يَقُولُ: عَرِّفْهَا عَامًا وَاحِدًا.
فَصَحَّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ تَثَبَّتَ وَاسْتَذْكَرَ، فَثَبَتَ عَلَى
عَامٍ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ شَكَّ.فَصَحَّ أَنَّهُ وَهْمٌ ثُمَّ اسْتَذْكَرَ،
فَشَكَّ ثُمَّ اسْتَذْكَرَ فَتَيَقَّنَ، وَثَبَتَ وُجُوبُ تَعْرِيفِ الْعَامِ
وَبَطَلَ تَعْرِيفُ مَا زَادَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قال أبو محمد: وَهَهُنَا أَثَرَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ،
عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِدِينَارٍ وَجَدَهُ فِي السُّوقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عَرِّفْهُ ثَلاَثًا فَفَعَلَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَعْتَرِفُهُ فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَفِي آخِرِهِ
" فَجَعَلَ أَجَلَ الدِّينَارِ وَشَبَهَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " لِهَذَا
الْحَدِيثِ
قال أبو محمد: لاَ نَدْرِي مِنْ كَلاَمِ مَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهَذَا خَبَرُ
سُوءٍ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِوَضْعِ
الْحَدِيثِ وَالْكَذِبِ، عَنْ شَرِيكٍ وَهُوَ مُدَلِّسٌ يُدَلِّسُ الْمُنْكَرَاتِ،
عَنِ الضُّعَفَاءِ إلَى الثِّقَاتِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ جَدَّتِهِ حَكِيمَةَ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ الْتَقَطَ لُقَطَةً
يَسِيرَةً دِرْهَمًا أَوْ حَبْلاً أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ فَلْيُعَرِّفْهُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلْيُعَرِّفْهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ "
وَهَذَا
(8/263)
لاَ
شَيْءَ: إسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ،
وَحَكِيمَةُ، عَنْ أَبِيهَا أَنْكَرُ وَأَنْكَرُ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ
بَعْضٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَالأَوْزَاعِيِّ تَعْرِيفَ اللُّقَطَةِ سَنَةً وَهُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ، عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُهُ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَيْضًا: تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا
عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي
شَيْخٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ الْعَبْدِيِّ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ
أَنْ يُعَرِّفَ قِلاَدَةً الْتَقَطَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ جَاءَ مَنْ
يَعْرِفُهَا وَإِلَّا وَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فَهَذِهِ، عَنْ عُمَرَ رضي
الله عنه خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ مَنْ الْتَقَطَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ: أَنَّ مَا
بَلَغَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ سَنَةً. وَاخْتَلَفَا
فِيمَا كَانَ أَقَلَّ فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُعَرَّفُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ. وقال أبو حنيفة: يُعَرَّفُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْمُلْتَقِطُ
وَهَذِهِ آرَاءٌ فَاسِدَةٌ كَمَا تَرَى، وَمِنْهَا: دَفْعُ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ
عَرَفَ الْعِفَاصَ، وَالْوِكَاءَ، وَالْعَدَدَ، وَالْوِعَاءَ فَقَالَ مَالِكٌ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَمَا قلنا. وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: لاَ
يَدْفَعُهَا إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهَا; لأََنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ
صَاحِبَهَا يَصِفُهَا فَيَعْرِفُ صِفَتَهَا فَيَأْتِي بِهَا. وَاحْتَجُّوا فِي
ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْبَيِّنَةَ عَلَى
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَنَهَى، عَنْ أَنْ يُعْطَى
أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ. وَقَالَ عليه السلام: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ
غَيْرُ ذَلِكَ .
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ حَقٌّ، وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ
بِأَنْ تُعْطَى اللُّقَطَةُ مَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ، وَالْوِكَاءَ، وَالْعَدَدَ،
وَالْوِعَاءَ، وَلَيْسَ كَلاَمُهُ مُتَعَارِضًا، وَلاَ حُكْمُهُ مُتَنَاقِضًا،
وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلاَ تَرْكُ بَعْضِهِ وَأَخْذُ بَعْضٍ،
فَكُلُّهُ حَقٌّ، وَكُلُّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ
مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ قُضِيَ
عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقَدْ جَعَلُوا لِلْمُدَّعِي شَيْئًا غَيْرَ
الشَّاهِدَيْنِ أَوْ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ
الْحُكْمُ بِالإِقْرَارِ قلنا: وَقَدْ صَحَّ دَفْعُ اللُّقَطَةِ بِأَنْ يَصِفَ
الْمُدَّعِي وِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، وَعِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا، وَلاَ فَرْقَ،
وَلَيْسَ كُلُّ الأَحْكَامِ تُوجَدُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ
خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ تُضَمُّ السُّنَنُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَيُؤْخَذُ
بِهَا كُلُّهَا، وَلَوْ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ اعْتَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذِهِ
الأَعْتِرَاضَاتِ فِي قَبُولِهِمْ امْرَأَةً وَاحِدَةً فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ،
وَالْوِلاَدَةِ وَلَوْ عَارَضُوا أَنْفُسَهُمْ
(8/264)
بِهَذَا
فِي حُكْمِهِمْ لِلزَّوْجَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ مَا
أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ لِلرِّجَالِ كَانَ لِلرَّجُلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَا
أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ كَانَ لِلْمَرْأَةِ بِيَمِينِهَا بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ، وَلاَ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ فِي الأُُخْتِ وَالأَخِ يَخْتَلِفَانِ فِي
مَتَاعِ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَلَوْ عَارَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا
الأَعْتِرَاضِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْ ادَّعَى لَقِيطًا هُوَ وَغَيْرُهُ فَأَتَى
بِعَلاَمَاتٍ فِي جَسَدِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَلاَ يَقْضُونَ بِذَلِكَ فِيمَنْ
ادَّعَى مَعَ آخَرَ عَبْدًا فَأَتَى أَحَدُهُمَا بِعَلاَمَاتٍ فِي جَسَدِهِ وَفِي
قَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ تَدَاعَى مَعَ صَاحِبِ الدَّارِ فِي
جُذُوعٍ مَوْضُوعَةٍ فِي الدَّارِ وَأَحَدِ مِصْرَاعَيْنِ فِي الدَّارِ: أَنَّ
تِلْكَ الْجُذُوعَ إنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْجُذُوعَ الَّتِي فِي الْبِنَاءِ
وَالْمِصْرَاعِ الْقَائِمِ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الدَّارِ بِلاَ بَيِّنَةٍ
وَسَائِرُ تِلْكَ التَّخَالِيطِ الَّتِي لاَ تُعْقَلُ، ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ
بِمُعَارَضَةِ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِآرَائِهِمْ
الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَضَى فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي
مَحَلَّةِ أَقْوَامٍ أَعْدَاءٌ لَهُ أَنَّ الْمُدَّعِينَ بِقَتْلِهِ عَلَيْهِ يَحْلِفُونَ
خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يُقْضَى لَهُمْ بِالدِّيَةِ فَأَعْطَاهُمْ
بِدَعْوَاهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِهَذَا قلنا لَهُمْ:
وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِدَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ عَرَفَ عِفَاصَهَا،
وَوِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، وَوِعَاءَهَا، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: قَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ
قلنا: نَعَمْ، وَصَاحِبُهَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ عليه السلام بِدَفْعِهَا إلَيْهِ
إذَا وَصَفَ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قَدْ يَسْمَعُهَا مُتَحَيِّلٌ
فَيُقَالُ لَهُمْ: وَقَدْ تَكْذِبُ الشُّهُودُ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: قَدْ
قَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَإِنْ عَرَفَ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ- غَيْرَ مَحْفُوظَةٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا رَوَاهُ
الثِّقَاتُ مُسْنَدًا: هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلاَ يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ هَذِهِ
الدَّعْوَى فِيمَا شَاءَ مِنْ السُّنَنِ الثَّوَابِتِ. وَقَدْ أَخَذَ
الْحَنَفِيُّونَ بِزِيَادَةٍ جَاءَتْ فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي
الزَّكَاةِ وَهِيَ سَاقِطَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَوْ صَحَّ إسْنَادُهَا مَا
قلنا فِيهِ: غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخَذُوا بِخَبَرِ الأَسْتِسْعَاءِ، وَقَدْ قَالَ
مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ أَبِي دَاوُد: وَلَيْسَ الأَسْتِسْعَاءُ مَحْفُوظًا
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَأَخَذُوا بِالْخَبَرِ مَنْ
مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
يَقُولُونَ: إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ بِاللَّفْظَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَنْ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مِمَّنْ
تَعُولُونَ وَهِيَ بِلاَ شَكٍّ سَاقِطَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَوْ صَحَّتْ مِنْ
طَرِيقِ الإِسْنَادِ مَا اسْتَحْلَلْنَا أَنْ نَقُولَ فِيهَا: غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ.
ثم نقول: أَخْطَأَ أَبُو دَاوُد فِي قَوْلِهِ: هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ بَلْ هِيَ
مَحْفُوظَةٌ; لأََنَّهَا لَوْ لَمْ يَرْوِهَا إِلاَّ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
وَحْدَهُ لَكَفَى، لِثِقَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَكَيْفَ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَسُفْيَانُ أَيْضًا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ قَوْلُ
مَنْ قَالَ:
(8/265)
هِيَ
غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، بَلْ هِيَ مَشْهُورَةٌ مَحْفُوظَةٌ.وَمِنْهَا تَمَلُّكُ
اللُّقَطَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ: رُوِّينَا قَوْلَنَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَغَيْرِهِ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،
عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرٍو،
وَعَاصِمٍ: ابْنَيْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّهُ
الْتَقَطَ عَيْبَةً فَأَتَى بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَمَرَهُ أَنْ
يُعَرِّفَهَا حَوْلاً، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَقَالَ: هِيَ لَك، إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قُلْت: لاَ حَاجَةَ لِي
بِهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَأُلْقِيَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ
عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى تَمْرَةً مَطْرُوحَةً فِي السِّكَّةِ
فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ الْتَقَطَ
حَبَّ رُمَّانٍ فَأَكَلَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً مِنْ
سَقْطِ الْمَتَاعِ: سَوْطًا، أَوْ نَعْلَيْنِ، أَوْ عَصَا، أَوْ يَسِيرًا مِنْ
الْمَتَاعِ، فَلْيَسْتَمْتِعْ بِهِ وَلْيُنْشِدْهُ، فَإِنْ كَانَ وَدَكًا
فَلْيَأْتَدِمْ بِهِ وَلْيُنْشِدْهُ، وَإِنْ كَانَ زَادًا فَلْيَأْكُلْهُ
وَلْيُنْشِدْهُ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلِيَغْرَمْ لَهُ. وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ
أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَإِنْ عُرِّفَتْ خُيِّرَ صَاحِبُهَا
بَيْنَ الأَجْرِ وَالضَّمَانِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا: عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لاَ آمُرُك أَنْ تَأْكُلَهَا وَعَنْ طَاوُوس
أَيْضًا، وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ،
وَسُفْيَانَ وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ،
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ
سَعْدٍ، حَدَّثَنَا سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لاَ
تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ
جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيَرُدَّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ،
فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لأََنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ، وَأَبَاهُ،
مَجْهُولاَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّ قَوْلَ
لاَ تَحِلُّ اللُّقَطَةُ حَقٌّ، وَلاَ تَحِلُّ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، وَأَمْرُهُ
بِالصَّدَقَةِ بِهَا مَضْمُومٌ إلَى أَمْرِهِ عليه السلام بِاسْتِنْفَاقِهَا
وَبِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ، إذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ بَعْضُ
أَمْرِهِ عليه السلام أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ يَحِلُّ
مُخَالَفَةُ شَيْءٍ مِنْ أَوَامِرِهِ عليه السلام لأَخَرَ مِنْهَا، بَلْ كُلُّهَا
حَقٌّ وَاجِبٌ اسْتِعْمَالُهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ وَاجِدَهَا مِنْ
الصَّدَقَةِ بِهَا إنْ أَرَادَ فَيُحْتَجُّ عَلَيْنَا بِهَذَا فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ فَإِنْ
ادَّعُوا إجْمَاعًا عَلَى الصَّدَقَةِ بِهَا كُذِّبُوا، لِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ الأَخْنَسِ
الْخُزَاعِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: وَجَدْت
لُقَطَةً أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا قَالَ: لاَ تُؤْجَرُ أَنْتَ، وَلاَ صَاحِبُهَا
قُلْت: أَفَأَدْفَعُهَا إلَى الأُُمَرَاءِ قَالَ: إذًا يَأْكُلُونَهَا أَكْلاً
سَرِيعًا، قُلْت: فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي؟
(8/266)
قَالَ:
عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك. وَالْعَجَبُ أَنَّ
بَعْضَهُمْ احْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ الْخَطَأِ فِي هَذَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{ولاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
قَالَ عَلِيٌّ: احْتِجَاجُ هَذَا الْجَاهِلِ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي هَذَا
الْمَكَانِ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ دِينِهِ، إذْ جَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِلاً، وَلَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ لَمَا عَارَضَ
حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ
الْمُعَارَضَةَ لِقَوْلِهِمْ الْمَلْعُونِ: أَنَّ الْغَاصِبَ لِدُورِ
الْمُسْلِمِينَ وَضِيَاعِهِمْ يَسْكُنُهَا وَيُكْرِيهَا، فَالْكِرَاءُ لَهُ
حَلاَلٌ، وَاحْتِرَاثُ ضِيَاعِهِمْ لَهُ حَلاَلٌ لاَ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ
شَيْءٌ. وَقَوْلُهُمْ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَدْ مَلَكَهُ
مِلْكًا فَاسِدًا وَأَبَاحُوا لَهُ التَّصَرُّفَ فِيمَا اشْتَرَى بِالْبَاطِلِ
بِالْوَطْءِ، وَالْعِتْقِ، وَسَائِرِ أَقْوَالِهِمْ الْخَبِيثَةِ لَكَانُوا قَدْ
وَافَقُوا. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ أَمْرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا ضَمَّنُوا الْمَسَاكِينَ إنْ وَجَدُوهُمْ، فَعَلَى أَصْلِهِمْ هُوَ
أَيْضًا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهَا
الْوَاجِدُ وَضَمَانُهَا عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْكُلُوهَا الْمَسَاكِينُ
وَضَمَانُهَا عَلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَعَلَيْهِ، وَلَئِنْ كَانَ أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ الآخَرَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ، وَلاَ فَرْقَ، وَلَئِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْلَ مَالٍ بِحَقٍّ،
فَإِنَّ الآخَرَ أَكْلُ مَالٍ بِالْحَقِّ، وَلاَ فَرْقَ، إذْ الضَّمَانُ فِي
الْعَاقِبَةِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ مِنْ ضَالَّةِ
الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ، وَلاَ يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ، وَلَوْ
صَحَّا لَكَانَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُجَّةً ; لأََنَّهُمْ يُبِيحُونَ أَخْذَ
ضَوَالِّ الإِبِلِ الَّتِي فِيهَا وَرَدَ النَّصُّ الْمَذْكُورُ، فَاعْجَبُوا
لِهَذِهِ الْعُقُولِ وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ هَهُنَا بِرِوَايَةٍ خَبِيثَةٍ
رَوَاهَا أَبُو يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِي
الْحَدِيثِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: فَإِنَّكَ
ذُو حَاجَةٍ إلَيْهَا .
قال أبو محمد: هَذَا مُنْقَطِعٌ لأََنَّ سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا، ثُمَّ
الْعَرْزَمِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَبُو يُوسُفَ لاَ يَبْعُدُ عَنْهُ، فَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَرُدُّ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَيَأْخُذُ بِمَا
رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ الْمَغْمُوزُ، عَنِ الْعَرْزَمِيِّ الضَّعِيفِ، عَنْ
سَلَمَةَ، عَنْ أُبَيٍّ وَهُوَ لَمْ يَلْقَ أُبَيًّا قَطُّ، فَفِي مِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْتَبِرْ أُولُو الأَبْصَارِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَهُمْ هَذِهِ
الزِّيَادَةُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ إبَاحَةُ اللُّقَطَةِ لِلْمُحْتَاجِ وَلَسْنَا نُنْكِرُ
هَذَا، بَلْ هُوَ قَوْلُنَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْعُ الْغَنِيِّ مِنْهَا لاَ بِنَصٍّ،
وَلاَ بِدَلِيلٍ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ رَدُّهُمْ كُلُّهُمْ فِي هَذَا
الْمَكَانِ نَفْسِهِ حَدِيثَ عَلِيِّ
(8/267)
بْنِ
أَبِي طَالِبٍ فِي الْتِقَاطِهِ الدِّينَارَ وَإِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لَهُ اسْتِنْفَاقَهُ بِأَنْ قَالُوا هُوَ مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ شَرِيكٌ
وَهُوَ ضَعِيفٌ فَالْمُرْسَلُ الَّذِي يَرْوِيه الضَّعِيفُ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ
بِهِ إذَا خَالَفَ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُرْسَلُ الَّذِي رَوَاهُ
الْعَرْزَمِيُّ وَهُوَ الْغَايَةُ فِي الضَّعْفِ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ إذَا وَافَقَ
رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَللَّهِ لَتَطُولُنَّ نَدَامَةُ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ
فِي دِينِهِ يَوْمَ لاَ يُغْنِي النَّدَمُ عَنْهُ شَيْئًا، وَمَا هَذِهِ طَرِيقُ
مَنْ يَدِينُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لَكِنَّهُ الضَّلاَلُ وَالإِضْلاَلُ نَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. ثُمَّ قَدْ كَذَبُوا، بَلْ قَدْ رُوِيَ حَدِيثُ
عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ شَرِيكٍ، وَأُسْنِدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ التِّنِّيسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ هُوَ مُوسَى بْنُ
يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ،
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَدَ
الْحُسَيْنَ وَالْحَسَنَ يَبْكِيَانِ مِنْ الْجُوعِ، فَخَرَجَ فَوَجَدَ دِينَارًا
بِالسُّوقِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ لَهُ: اذْهَبْ
إلَى فُلاَنٍ الْيَهُودِيِّ فَخُذْ لَنَا دَقِيقًا فَذَهَبَ إلَى الْيَهُودِيِّ
فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي
يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَخُذْ
دِينَارَكَ وَلَكَ الدَّقِيقُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَ بِهِ فَاطِمَةَ،
فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ لَهُ اذْهَبْ إلَى فُلاَنٍ الْجَزَّارِ فَخُذْ لَنَا
بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَذَهَبَ فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمِ لَحْمٍ، فَجَاءَ
بِهِ فَعَجَنَتْ وَنَصَبَتْ وَخَبَزَتْ، وَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَجَاءَهُمْ فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَك، فَإِنْ
رَأَيْتَهُ لَنَا حَلاَلاً أَكَلْنَا وَأَكَلْتَ مَعَنَا مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا
فَقَالَ عليه السلام كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ
مَكَانَهُمْ إذَا غُلاَمٌ يَنْشُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَالإِسْلاَمَ الدِّينَارَ،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدُعِيَ لَهُ [فَسَأَلَهُ] فَقَالَ:
سَقَطَ مِنِّي فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا
عَلِيُّ اذْهَبْ إلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ لَكَ: أَرْسِلْ إلَيَّ بِالدِّينَارِ، وَدِرْهَمُكَ عَلَيَّ،
فَأَرْسَلَ بِهِ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلاَ بَيِّنَةٍ.
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ خَيْرٌ مِنْ خَبَرِهِمْ، وَهُوَ عليه السلام،
وَعَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهم: لاَ تَحِلُّ
لَهُمْ الصَّدَقَةُ أَغْنِيَاءَ كَانُوا أَوْ فُقَرَاءَ. وَقَدْ أَبَاحَ فِي هَذَا
الْخَبَرِ شِرَاءَ الدَّقِيقِ بِالدِّينَارِ، فَإِنَّمَا أَخَذَهُ ابْتِيَاعًا،
ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ الْيَهُودِيُّ الدِّينَارَ، وَكَذَلِكَ رَهَنَ الدِّينَارَ
فِي اللَّحْمِ، وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ يَكْفِي مِنْ كُلِّ هَذَا. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه
(8/268)
قَالَ
مَرَّ:" رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ مَطْرُوحَةٍ فِي
الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ
لاََكَلْتُهَا " فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنِيٌّ لاَ
فَقِيرٌ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إذْ يَقُولُ: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً
فَأَغْنَى} يَسْتَحِلُّ أَكْلَ اللُّقَطَةِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّعَ أَنْ تَكُونَ
مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَلَى تَحْقِيقِ الصِّفَةِ أَنَّهَا
مِنْ الصَّدَقَةِ لأََنَّهَا لُقَطَةٌ وَهَذَا كَلاَمُ إنْسَانٍ عَدِيمِ عَقْلٍ
وَحَيَاءٍ وَدِينٍ ; لأََنَّهُ كَلاَمٌ لاَ يُعْقَلُ، وَخِلاَفٌ لِمَفْهُومِ
لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذِبٌ مُجَاهَرٌ بِهِ، بَارِدٌ
غَثٌّ وأعجب شَيْءٍ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ
يُعْطِيهَا غَنِيًّا غَيْرُهُ، فَكَانَ هُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد : لاَ شَيْءَ أَسْهَلَ مِنْ الْكَذِبِ الْمَفْضُوحِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ
الْقَوْمِ، ثُمَّ كَذِبُهُمْ إنَّمَا هُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ وَعَلَى
الْعُقُولِ، وَالْحَوَاسِّ، لَيْتَ شِعْرِي مَتَى أُجْمِعُ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا،
وَمَنْ أَجْمَعَ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا، أَبْقِيَةِ الْجَنْدَلِ، وَالْكَثْكَثِ
وَأَيْنَ وَجَدُوا هَذَا الإِجْمَاعَ بَلْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَإِذَا أُدْخِلَتْ
اللُّقَطَةُ فِي مِلْكِهِ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي عَرَّفَهَا فِيهِ، فَإِنْ
أَعْطَاهَا غَنِيًّا، أَوْ أَغْنِيَاءَ، أَوْ قَارُونُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا أَوْ
سُلَيْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ فِي عَصْرِهِ لَكَانَ
ذَلِكَ مُبَاحًا لاَ شَيْءَ مِنْ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ. وَقَالُوا: قَدْ شَكَّ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي أَمْرِ الْمُلْتَقِطِ بِأَنْ يَسْتَنْفِقَهَا، أَهُوَ
مِنْ قَوْلِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَقَطَعَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ يَزِيدَ قلنا:
وَقَدْ أَسْنَدَهُ يَحْيَى أَيْضًا وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ فِيهِ; لأََنَّهُ
سَمِعَهُ مَرَّةً مُسْنَدً، وَسَمِعَ يَزِيدَ يَقُولُ: مِنْ فَتَيَاهُ أَيْضًا.
ثُمَّ يَقُولُ: لَكِنَّ رَبِيعَةَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَشُكَّ بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
" فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا ". وَرَوَى
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا
فَشَأْنَكَ بِهَا ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ
يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ. وَرَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ حَدَّثَهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام
أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ . وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ
سَمِعْت رَبِيعَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
وَفِي
(8/269)
آخِرِهِ:
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاصْنَعْ بِهَا مَا
تَصْنَعُ بِمَالِكَ . وَرَوَاهُ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عَمْرَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ قَالَ: " عَرِّفْهَا
سَنَةً فَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ كُلْهَا
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ ". وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ: أَنَّ
أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ
فِي اللُّقَطَةِ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرِّفْ عَدَدَهَا،
وَوِكَاءَهَا، وَوِعَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ ".
وَعَلَى هَذَا دَلَّ حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، لاَ مِثْلَ
تِلْكَ الْمُلَفَّقَاتِ الْمَكْذُوبَةِ مِنْ مُرْسَلٍ وَمَجْهُولٍ، وَمِنْ لاَ
خَيْرَ فِيهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يَزَالُ الْمُخَالِفُونَ يَحْتَجُّونَ بِهَا
إذَا وَافَقْتهمْ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ
رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى مَا وُجِدَ
فِي الطَّرِيقِ الْمِيْتَاءِ، أَوْ فِي الْقَرْيَةِ الْمَسْكُونَةِ قَالَ: عَرِّفْ
سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهِ فَادْفَعْهُ إلَيْهِ وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهِ،
فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إلَيْهِ ، وَمَا كَانَ
فِي الطَّرِيقِ غَيْرَ الْمِيْتَاءِ، وَفِي الْقَرْيَةِ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ:
فَفِيهِ، وَفِي الرِّكَازِ: الْخُمْسُ . وَأَمَّا نَحْنُ فَهَذِهِ صَحِيفَةٌ لاَ
نَأْخُذُ بِهَا، فَهَذَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ.
وَأَمَّا الضَّوَالُّ مِنْ الْحَيَوَانِ فَلَهَا ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: أَمَّا
الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ فَقَطْ كِبَارُهَا وَصِغَارُهَا تُوجَدُ بِحَيْثُ يُخَافُ
عَلَيْهَا الذِّئْبَ، أَوْ مَنْ يَأْخُذُهَا مِنْ النَّاسِ، وَلاَ حَافِظَ لَهَا،
وَلاَ هِيَ بِقُرْبِ مَاءٍ مِنْهَا: فَهِيَ حَلاَلٌ لِمَنْ أَخَذَهَا سَوَاءٌ
جَاءَ صَاحِبُهَا، أَوْ لَمْ يَجِئْ، وَجَدَهَا حَيَّةً، أَوْ مَذْبُوحَةً، أَوْ
مَطْبُوخَةً، أَوْ مَأْكُولَةً لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.وَأَمَّا الإِبِلُ
الْقَوِيَّةُ عَلَى الرَّعْيِ، وَوُرُودِ الْمَاءِ: فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ
أَخْذُهَا، وَإِنَّمَا حُكْمُهَا: أَنْ تُتْرَكَ، وَلاَ بُدَّ، فَمَنْ أَخَذَهَا
ضَمِنَهَا إنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَلِفَتْ وَكَانَ عَاصِيًا
بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لُقَطَةٍ،
أَوْ ضَالَّةٍ، يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا، فَحُكْمُ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ تُرَدَّ
إلَيْهِ، وَلاَ تُعَرَّفُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَا
مِنْ إبِلٍ لاَ قُوَّةَ بِهَا عَلَى وُرُودِ الْمَاءِ وَالرَّعْيِ وَسَائِرُ
الْبَقَرِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالصُّيُودِ كُلِّهَا،
الْمُتَمَلَّكَةِ، وَالأُُبَّاقِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَمَا أَضَلَّ
صَاحِبُهُ مِنْهَا، وَالْغَنَمِ الَّتِي تَكُونُ ضَوَالَّ بِحَيْثُ لاَ يُخَافُ
عَلَيْهَا الذِّئْبَ، وَلاَ إنْسَانٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَفَرَضَ أَخْذَهُ
وَضَمَّهُ وَتَعْرِيفَهُ أَبَدًا، فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا
أَدْخَلَهَا الْحَاكِمُ أَوْ وَاجِدُهَا فِي جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
سَوَاءٌ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا أَهْمَلَهُ صَاحِبُهُ لِضَرُورَةٍ، أَوْ
لِخَوْفٍ، أَوْ لِهُزَالٍ
(8/270)
أَوْ
مِمَّا ضَلَّ، وَلاَ فَرْقَ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً
ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ
رَبُّهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ
قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ عليه السلام حَتَّى احْمَرَّتْ
وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا
وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ
لِلذِّئْبِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ قَالَ: دَعْهَا، فَإِنَّ
مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى
يَجِدَهَا رَبُّهَا فَأَمَرَ عليه السلام بِأَخْذِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ الَّتِي
يَخَافُ عَلَيْهَا الذِّئْبَ أَوْ الْعَادِي وَيَتْرُكُ الإِبِلَ الَّتِي تَرِدُ
الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَخَصَّهَا بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ اللُّقَطَاتِ
وَالضَّوَالِّ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ خِلاَفُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَا عَرَفَ رَبُّهُ فَلَيْسَ ضَالَّةً ; لأََنَّهَا لَمْ
تَضِلَّ جُمْلَةً، بَلْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا الضَّالَّةُ مَا ضَلَّتْ
جُمْلَةً فَلَمْ يَعْرِفْهَا صَاحِبُهَا أَيْنَ هِيَ، وَلاَ عَرَفَ وَاجِدُهَا
لِمَنْ هِيَ، وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ عليه السلام بِنَشْدِهَا. وَبَقِيَ حُكْمُ
الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَمِنْ الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى إحْرَازُ مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ. وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ مَالِ أَحَدٍ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ لاَ تَضُمُّوا الضَّوَالَّ
فَلَقَدْ كَانَتْ الإِبِلُ تَتَنَاتَجُ هَمَلاً وَتَرِدُ الْمِيَاهَ لاَ يَعْرِضُ
لَهَا أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا فَيَأْخُذُهَا، حَتَّى إذَا
كَانَ عُثْمَانُ كَتَبَ: أَنْ ضُمُّوهَا وَعَرِّفُوهَا فَإِنْ جَاءَ مَنْ
يَعْرِفُهَا وَإِلَّا فَبِيعُوهَا وَضَعُوا أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ
جَاءَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا فَادْفَعُوا إلَيْهَم الأَثْمَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
وَرْدَانَ سَأَلْت سَالِمَ بْنَ
(8/271)
عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الشَّاةِ تُوجَدُ بِالأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا
أَحَدٌ، فَقَالَ لِي: عَرِّفْهَا مَنْ دَنَا لَك، فَإِنْ عُرِفَتْ فَادْفَعْهَا
إلَى مَنْ عَرَفَهَا وَإِلَّا فَشَاتُك وَشَاةُ الذِّئْبِ فَكُلْهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ قَالَ: سَأَلْت سَالِمَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَقَالَ: مَعَهَا سِقَاؤُهَا
وَحِذَاؤُهَا دَعْهَا إِلاَّ أَنْ تَعْرِفَ صَاحِبَهَا فَتَدْفَعُهَا إلَيْهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَتِهِ
قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: إنِّي
وَجَدْت شَاةً فَقَالَتْ: اعْلِفِي وَاحْلِبِي وَعَرِّفِي، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهَا
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَتْ: تُرِيدِينَ أَنْ آمُرُك بِذَبْحِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، عَنْ ضَالَّةٍ وَجَدَهَا
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَصْلِحْ إلَيْهَا وَانْشُدْ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ
إنْ شَرِبْت مِنْ لَبَنِهَا قَالَ: مَا أَرَى عَلَيْك فِي ذَلِكَ. وقال أبو حنيفة،
وَأَصْحَابُهُ: تُؤْخَذُ ضَالَّةُ الإِبِلِ كَمَا تُؤْخَذُ غَيْرُهَا. وقال
الشافعي: مَا كَانَ مِنْ الْخَيْلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْبِغَالِ، قَوِيًّا يَرِدُ
الْمَاءَ، وَيَرْعَى لَمْ يُؤْخَذْ قِيَاسًا عَلَى الإِبِلِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا
وَمِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ لاَ يَمْتَنِعُ أُخِذَ. وقال أبو حنيفة،
وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً مِنْ الْغَنَمِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا إنْ
أَكَلَهَا وقال مالك: أَمَّا ضَالَّةُ الْغَنَمِ فَمَا كَانَ بِقُرْبِ الْقُرَى
فَلاَ يَأْكُلُهَا، وَلَكِنْ يَضْمَنُهَا إلَى أَقْرَبِ الْقُرَى، فَيُعَرِّفُهَا
هُنَالِكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْمَهَامِهِ، فَإِنَّهُ
يَأْكُلُهَا أَوْ يَأْخُذُهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَوَجَدَهَا حَيَّةً
فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ وَجَدَهَا مَأْكُولَةً فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَلاَ
يَضْمَنُهَا لَهُ وَاجِدُهَا الَّذِي أَكَلَهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهَا
إنْ وَجَدَهَا مَذْبُوحَةً لَمْ تُؤْكَلْ بَعْدُ. قَالَ: وَأَمَّا الْبَقَرُ
فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهَا السَّبْعَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ، وَإِنْ لَمْ
يُخَفْ عَلَيْهَا السَّبْعَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الإِبِلِ يُتْرَكُ كُلُّ ذَلِكَ،
وَلاَ يُعْتَرَضُ لَهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ. وَأَمَّا الْخَيْلُ، وَالْبِغَالُ،
وَالْحَمِيرُ، فَلْتُعَرَّفْ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ
النَّصَّ، إذْ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ وُجُودِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، وَلَيْسَ فِي
النَّصِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ وُجُودِ الشَّاةِ
صَاحِبُهَا حَيَّةً أَوْ مَأْكُولَةً، فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
أَصْلاً لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدَ، وَلاَ قَوْلٍ
مُتَقَدِّمٍ الْتَزَمَ ; لأََنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يُبِيحَ الشَّاةَ
لِوَاجِدِهَا أَصْلاً، كَمَا لاَ يُبِيحُ سَائِرَ اللُّقَطَاتِ، إِلاَّ إنْ كَانَ
فَقِيرًا بَعْدَ تَعْرِيفِ عَامٍ، وَلاَ نَعْلَمُ فُرُوقَهُ هَذِهِ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ، وَلاَ نَعْلَمُ لِقَوْلِهِ حُجَّةً أَصْلاً. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
فَإِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّهُ جِهَارًا
فَمَنَعَ مِنْ الشَّاةِ جُمْلَةً، وَأَمَرَ بِأَخْذِ ضَالَّةِ الإِبِلِ وَقَدْ
غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا احْمَرَّ لَهُ
وَجْهُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فأما هُوَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ
فَيُعْذَرُ لِجَهْلِهِ بِالآثَارِ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ الْخَاسِرُونَ فَوَاَللَّهِ
(8/272)
مَا لَهُمْ عُذْرٌ، بَلْ هُمْ قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَغْضَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَةً، فَحَصَلُوا فِي جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَمَا أَخْوَفُنَا عَلَيْهِمْ مِنْ تَمَامِ الآيَةِ لأََنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الأَمْوَالَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَوَاجِبٌ حِفْظُهَا، فَلاَ نَأْخُذُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ قلنا لَهُمْ: قَدْ أَخَذْتُمْ بِذَلِكَ الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ نَفْسَهُ فَأَمَرْتُمْ بِإِتْلاَفِهَا بِالصَّدَقَةِ بِهَا بَعْدَ تَعْرِيفِ سَنَةً، فَمَرَّةً صَارَ عِنْدَكُمْ الْخَبَرُ حُجَّةً، وَمَرَّةً صَارَ عِنْدَكُمْ بَاطِلاً، وَهُوَ ذَلِكَ الْخَبَرُ بِعَيْنِهِ فَمَا هَذَا الضَّلاَلُ وَقَدْ رُوِّينَا لَهُمْ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَابْنِ عُمَرَ: إبَاحَةَ شُرْبِ لَبَنِ الضَّالَّةِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَنَقَضَ أَصْلَهُ وَلَمْ يَرَ أَخْذَ الشَّاةِ، وَأَقْحَمَ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَأَلْحَقَ بِالإِبِلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي النَّصِّ، وَجَعَلَ وُرُودَ الْمَاءِ، وَرَعْيَ الشَّجَرِ عِلَّةً قَاسَ عَلَيْهَا، وَلاَ دَلِيلَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَإِنَّ الشَّاةَ لَتَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى مَا أَدْرَكَتْ مِنْ الشَّجَرِ، كَمَا تَفْعَلُ الإِبِلُ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهَا مَا لَمْ تُدْرِكْهُ، كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الإِبِلِ مَا لاَ تُدْرِكُهُ، وَإِنَّ الذِّئْبَ لَيَأْكُلُ الْبَعِيرَ كَمَا يَأْكُلُ الشَّاةَ، وَلاَ مَنَعَةَ عِنْدَ الْبَعِيرِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْبَقَرُ فَقَطْ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَقَالُوا: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلذِّئْبِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلْوَاجِدِ .فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ قَوْلِكُمْ، لأََنَّ الذِّئْبَ لاَ يَمْلِكُ وَالْوَاجِدُ يَمْلِكُ، وَالْوَاجِدُ مُخَاطَبٌ، وَالذِّئْبُ لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَقَدْ أُمِرَ الْوَاجِدُ بِأَخْذِهَا، فَزِيَادَتُكُمْ كَاذِبَةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَيْكُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَظَهَرَ سُقُوطُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا بِتَيَقُّنٍ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَرَهُ حُجَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَأَخَذَ هَذَا مَا تَرَكَ هَذَا، وَتَرَكَ هَذَا مَا أَخَذَ الآخَرُ، وَهَذَا مَا لاَ طَرِيقَ لِلصَّوَابِ إلَيْهِ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَئِنْ كَانَ الْخَبَرُ حُجَّةً فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ لَحُجَّةٌ فِي كُلِّ مَا فِيهِ، إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ مُخَالَفَةٌ لَهُ بِنَاسِخٍ مُتَيَقَّنٍ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ حُجَّةً فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَكُلُّهُ لَيْسَ حُجَّةً، وَالتَّحَكُّمُ فِي أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/273)
كتاب
اللقيط
إن وجد صغير منبوذ ففرض على من بحضرته أن يقوم به ولا بد
...
كِتَابُ اللَّقِيطِ
1384 - مَسْأَلَةٌ - إنْ وُجِدَ صَغِيرٌ مَنْبُوذٌ فَفَرْضٌ عَلَى مَنْ
بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ، وَلاَ بُدَّ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . وَلاَ إثْمَ أَعْظَمَ مِنْ
إثْمِ مَنْ أَضَاعَ نَسَمَةً مَوْلُودَةً عَلَى الإِسْلاَمِ صَغِيرَةً لاَ ذَنْبَ
لَهَا حَتَّى تَمُوتَ جُوعًا وَبَرْدًا
(8/273)
أَوْ تَأْكُلَهُ الْكِلاَبُ هُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ عَمْدًا بِلاَ شَكٍّ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ لاَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ ".
(8/274)
اللقيط
حر لا ولاء عليه لأحد
...
1385 - مَسْأَلَةٌ - وَاللَّقِيطُ حُرٌّ، وَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ
لأََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلاَدُ آدَمَ وَزَوْجِهِ حَوَّاءَ عليهما السلام
وَهُمَا حُرَّانِ وَأَوْلاَدُ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ
فَكُلُّ أَحَدٍ فَهُوَ حُرٌّ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ،
وَلاَ نَصَّ فِيهِمَا يُوجِبُ إرْقَاقَ اللَّقِيطِ، وَإِذْ لاَ رِقَّ عَلَيْهِ
فَلاَ وَلاَءَ لأََحَدٍ عَلَيْهِ ; لأََنَّهُ لاَ وَلاَءَ إِلاَّ بَعْدَ صِحَّةِ
رِقٍّ عَلَى الْمَرْءِ، أَوْ عَلَى أَبٍ لَهُ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ
بِنَسَبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الْوَلاَءُ
لِمَنْ أَعْتَقَ " وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُد. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله
عنه مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سِنِينَ
أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فَأَتَى بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هُوَ حُرٌّ، وَوَلاَؤُهُ لَك، وَنَفَقَتُهُ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ. وَرُوِّينَا أَيْضًا هَذَا، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ جَعَلَ
وَلاَءَ اللَّقِيطِ لِمَنْ الْتَقَطَهُ وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: اللَّقِيطُ
عَبْدٌ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ حَوْطٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: هُمْ مَمْلُوكُونَ يَعْنِي
اللُّقَطَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ
مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: إنَّ عَمْرًا أَعْتَقَ لَقِيطًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زُهَيْرٍ
الْعَنْسِيّ أَنَّ رَجُلاً الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ فَأَعْتَقَهُ.
قال أبو محمد: لاَ يَعْتِقُ إِلاَّ مَمْلُوكٌ. قَالَ عَلِيٌّ: فإن قيل: قَدْ
رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمَ، عَنِ
اللَّقِيطِ فَقَالاَ جَمِيعًا: هُوَ حُرٌّ فَقُلْت: عَمَّنْ؟ فَقَالَ الْحَكَمُ:
عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ. وَرَوَيْتُمْ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَمُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ مُوسَى: رَأَيْت وَلَدَ
زِنًا أَلْحَقَهُ عَلِيٌّ فِي مَائِهِ. وَقَالَ زُهَيْرٌ، عَنْ ذُهْلِ بْنِ
أَوْسٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ مَسِيحٍ قَالَ: وَجَدْت لَقِيطًا فَأَتَيْت بِهِ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَلْحَقَهُ فِي مَائِهِ قلنا: لَيْسَ فِي هَذَا
خِلاَفٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ ; لأََنَّ قَوْلَ عُمَرَ هُوَ حُرٌّ، وَقَوْلَ
الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ هُوَ حُرٌّ، إذَا ضُمَّ إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْتَقَ اللَّقِيطَ، مَعَ مَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ
مِنْ أَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ، وَأَنَّ وَلاَءَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ، اتَّفَقَ كُلُّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا
(8/274)
رضي
الله عنهما هُوَ حُرٌّ أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْهُمَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَطُولُ مِمَّنْ تَرَكَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ لِرِوَايَةِ
شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ
"الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ" وَلَوْ سَمِعْنَا هَذَا مِنْ
عُمَرَ لَمَا كَانَ خِلاَفًا لِلسُّنَّةِ فِي أَنَّ الْبَيْعَيْنِ لاَ بَيْعَ
بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، بَلْ كَانَ
يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ، فَالصَّفْقَةُ التَّفَرُّقُ، وَالْخِيَارُ
التَّخْيِيرُ، ثُمَّ لاَ يَجْعَلُ مَا رَوَى سُنَيْنٌ وَلَهُ صُحْبَةٌ، عَنْ
عُمَرَ حُجَّةً، وَمَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ حُجَّةٌ، عَنْ عُمَرَ،
وَهُوَ وَاَللَّهِ أَجَلُّ وَأَوْضَحُ مِنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَلاَ
يُعْرَفُ لِعُمَرَ، وَعَلِيٍّ هَهُنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،
لاَ سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ أَثَرٌ هُمْ أَبَدًا يَأْخُذُونَ بِمَا دُونَهُ: وَهُوَ
مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْخَوْلاَنِيِّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ
رُؤْبَةَ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الْوَاحِدِ النَّصْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت
وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُولُ: " إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ مَوَارِيثَ، لَقِيطَهَا، وَعَتِيقَهَا،
وَوَلَدَهَا الَّذِي لاَ عَنَتْ عَلَيْهِ ".
قال أبو محمد : عُمَرُ بْنُ رُؤْبَةَ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ النَّصْرِيُّ
مَجْهُولاَنِ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَأَمَّا هُمْ فَلاَ يُبَالُونَ
بِهَذَا، وَلاَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ مِنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، وَقَدْ تَرَكُوا السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ لِرِوَايَتِهِ. فَإِنْ
قَالُوا: وَبِأَيِّ وَجْهٍ يَرِقُّ وَأَصْلُهُ الْحُرِّيَّةُ قلنا: يَا سُبْحَانَ
اللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَوَ لَسْتُمْ
الْقَائِلِينَ: إنَّ رَجُلاً قُرَشِيًّا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا
هُوَ وَامْرَأَتُهُ الْقُرَشِيَّةُ مُرْتَدَّةً، فَوَلَدَتْ هُنَالِكَ أَوْلاَدًا،
فَإِنَّ أَوْلاَدَهُمْ أَرِقَّاءُ مَمْلُوكُونَ يُبَاعُونَ. وَقَالَ
الْحَنَفِيُّونَ: إنَّ تِلْكَ الْقُرَشِيَّةَ تُبَاعُ وَتُتَمَلَّكُ، أَوْ لَيْسَ
الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ إمَّا، عَنْ مَالِكٍ وَأَمَّا عَلَى مَا
عُرِفَ مِنْ أَصْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ لَوْ صَارُوا ذِمَّةً
سُكَّانًا بَيْنَنَا، أَوْ بِأَيْدِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
أَحْرَارٌ وَحَرَائِرُ، أَسَرُوهُمْ وَبَقُوا عَلَى الإِسْلاَمِ فِي حَالِ
أَسْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ لأََهْلِ الذَّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى يَتَبَايَعُونَهُمْ مَتَى شَاءُوا، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْهُ فِي
الْمُسْتَخْرَجَةِ، فَأَيُّمَا أَشْنَعُ وَأَفْظَعُ، هَذَا كُلُّهُ، أَوْ إرْقَاقُ
لَقِيطٍ لاَ يَدْرِي، عَنْ أُمِّهِ أَحُرَّةٌ أَمْ أَمَةٌ حَتَّى لَقَدْ
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرِيُّ التَّدْمِيرِيُّ وَمَا
عَلِمْت فِيهِمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلاَ أُصَدِّقُ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ كِبَارِهِمْ
أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي أَنَّ التَّاجِرَ، أَوْ الرَّسُولَ، إذَا=
كتاب
:8. المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى
: 456هـ)
دَخَلَ
دَارَ الْحَرْبِ فَأَعْطَوْهُ أُسَرَاءَ مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ
وَحَرَائِرِهِمْ عَطِيَّةً، فَهُمْ عَبِيدٌ وَإِمَاءٌ لَهُ يَطَأُ وَيَبِيعُ
كَسَائِرِ مَا يَمْلِكُ، شَاهَ وَجْهُ هَذَا الْمُفْتِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ عَلَى
هَذَا.
قال أبو محمد : وَرُوِّينَا عَنْ إبْرَاهِيمَ قَوْلاً آخَرَ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي اللَّقِيطِ، قَالَ: لَهُ
نِيَّتُهُ إنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا فَهُوَ عَبْدٌ. وَقَوْلُنَا: بِأَنَّهُ لاَ رِقَّ عَلَيْهِ: هُوَ قَوْلُ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ،
وَحَمَّادٍ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَعَهِدِنَا بِهِمْ
يَقُولُونَ فِيمَا خَالَفَ الأُُصُولَ، وَالْقِيَاسَ إذَا وَافَقَ آرَاءَهُمْ:
مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَهَلاَّ قَالُوا هَهُنَا هَذَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/276)
1386
- مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُ ;
لأََنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ، وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ فَكُلُّ مَا كَانَ بِيَدِهِ
فَهُوَ لَهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
(8/276)
كل
من ادعى أن ذلك اللقيط ابنه من المسلمين حرا كان أو عبدا اصدق إن أمكن أن يكون ما
قال حقا وإلا فلا
...
1387 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ اللَّقِيطَ ابْنُهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا: صُدِّقَ،
إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ حَقًّا، فَإِنْ تُيُقِّنَ كَذِبُهُ لَمْ
يُلْتَفَتْ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوِلاَدَاتِ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ بِقَوْلِ
الآبَاءِ وَالأُُمَّهَاتِ، وَهَكَذَا أَنْسَابُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، مَا لَمْ
يُتَيَقَّنْ الْكَذِبُ. وَإِنَّمَا قلنا لِلْمُسْلِمِينَ لِلثَّابِتِ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: " كُلُّ مَوْلُودٍ
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَعَلَى الْمِلَّةِ " وَقَوْلِهِ عليه السلام،
عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ: "
خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ". وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا، عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. فَإِنْ ادَّعَاهُ
كَافِرٌ لَمْ يُصَدَّقْ ; لأََنَّ فِي تَصْدِيقِهِ إخْرَاجَهُ، عَنْ مَا قَدْ
صَحَّ لَهُ مِنْ الإِسْلاَمِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ
النَّصُّ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ كَافِرٍ مِنْ كَافِرَةٍ فَقَطْ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِيمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: لاَ
يُصَدَّقُ الْعَبْدُ ; لأََنَّ فِي تَصْدِيقِهِ إرْقَاقَ الْوَلَدِ وَكَذَبُوا فِي
هَذَا وَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ الْحُرَّةِ حُرٌّ، لاَ سِيَّمَا عَلَى أَصْلِهِمْ فِي
أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَتَسَرَّى وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ قلنا: إنَّ النَّاسَ عَلَى
الْحُرِّيَّةِ، وَلاَ تَحْمِلُ امْرَأَةُ الْعَبْدِ إِلاَّ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ
فَوَلَدُهُ حُرٌّ، حَتَّى يَثْبُتَ انْتِقَالُهُ، عَنْ أَصْلِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/276)
كتاب
الوديعة
فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها وردها إلى صاحبها إذا طلبها منه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْوَدِيعَةِ
1388 - مَسْأَلَةٌ - فَرْضٌ عَلَى مَنْ أَوْدَعْت عِنْدَهُ وَدِيعَةً حِفْظُهَا
وَرَدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا إذَا طَلَبَهَا مِنْهُ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ
إلَى أَهْلِهَا} وَمِنْ الْبِرِّ حِفْظُ مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ،
وَقَدْ صَحَّ
(8/276)
إن
تلفت الوديعة من غير تعد ولا تضييع لها فلا ضمان عليه فيها
...
1389 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ، وَلاَ تَضْيِيعٍ
لَهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا ;
لأََنَّهُ إذَا حَفِظَهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ، وَلاَ ضَيَّعَ فَقَدْ أَحْسَنَ،
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَلِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ فَمَالُ هَذَا الْمُودِعِ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ
أَخْذَهُ مِنْهُ نَصٌّ وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَضْمِينُ
الْوَدِيعَةِ وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنْ لاَ تُضَمَّنَ.
(8/277)
بيان
صفة حفظ الوديعة
...
1390 - مَسْأَلَةٌ - وَصِفَةُ حِفْظِهَا
هُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مِنْ الْحِفْظِ مَا يَفْعَلُ بِمَالِهِ، وَأَنْ لاَ
يُخَالِفَ فِيهَا مَا حَدَّ لَهُ صَاحِبُهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيمَا حَدَّ
لَهُ يَقِينُ هَلاَكِهَا: فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا ; لأََنَّ هَذَا هُوَ صِفَةُ
الْحِفْظِ وَمَا عَدَاهُ هُوَ التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/277)
1391
- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ أَوْ أَضَاعَهَا
فَتَلِفَتْ لَزِمَهُ ضَمَانُهَا،
وَلَوْ تَعَدَّى عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَهُ ضَمَانُ ذَلِكَ الْبَعْضِ
الَّذِي تَعَدَّى فِيهِ فَقَطْ ; لأََنَّهُ فِي الإِضَاعَةِ أَيْضًا مُتَعَدٍّ
لِمَا أُمِرَ بِهِ. وَالتَّعَدِّي هُوَ التَّجَاوُزُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ
بِهَا الْقُرْآنُ، وَبِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَيُضَمَّنُ ضَمَانَ الْغَاصِبِ فِي كُلِّ مَا
ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْغَصْبِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/277)
القول
في هلاك الوديعة و في ردها إلى صاحبها قول الذي أودعت عنده مع يمينه
...
1392 - مَسْأَلَةٌ - وَالْقَوْلُ فِي هَلاَكِ الْوَدِيعَةِ أَوْ فِي رَدِّهَا إلَى
صَاحِبِهَا، أَوْ فِي دَفْعِهَا إلَى مَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِدَفْعِهَا
إلَيْهِ:
قَوْلُ الَّذِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءً دُفِعَتْ إلَيْهِ
بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ; لأََنَّ مَالَهُ مُحَرَّمٌ كَمَا ذَكَرْنَا
فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وُجُوبُ غَرَامَةٍ، وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مِنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَهَهُنَا خِلاَفٌ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا أَنَّ مَالِكًا فَرَّقَ بَيْنَ
الثِّقَةِ وَغَيْرِ الثِّقَةِ، فَرَأَى أَنْ لاَ يَمِينَ عَلَى الثِّقَةِ، وَهَذَا
خَطَأٌ ; لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ أَوْجَبَ الْيَمِينَ
عَلَى مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ثِقَةٍ وَغَيْرِ ثِقَةٍ،
وَالْمَالِكِيُّونَ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي أَنَّ نَصْرَانِيًّا، أَوْ
يَهُودِيًّا، أَوْ فَاسِقًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُعْلِنًا لِلْفِسْقِ يَدَّعِي
دَيْنًا عَلَى صَاحِبٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ:
وَجَبَتْ الْيَمِينُ عَلَى الصَّاحِبِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ دَعْوَى جَحْدِ
الدِّينِ، وَبَيْنَ دَعْوَى جَحْدِ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَضْيِيعِهَا، وَالْمُقْرَضُ
مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُقْرِضَ، وَعَلَى مَا عُومِلَ فِيهِ، كَمَا أَنَّ
الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ، وَلاَ فَرْقَ، وَفَرْقٌ أَيْضًا بَيْنَ الْوَدِيعَةِ
تُدْفَعُ بِبَيِّنَةٍ وَبَيْنَهَا إذَا دُفِعَتْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَرَأَى
إيجَابَ الضَّمَانِ فِيهَا إذَا دُفِعَتْ بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ،
(8/277)
إن
لقي المودع من أودعه في غير الموضع الذي أودعه فيه فليس له مطالبته بالوديعة ونقل
الوديعة بالحمل والرد على المودع
...
1393 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ لَقِيَ الْمُودِعُ مَنْ أَوْدَعَهُ فِي غَيْرِ
الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْدَعَهُ فِيهِ مَا أَوْدَعَهُ، فَلَيْسَ لَهُ
مُطَالَبَتُهُ الْوَدِيعَةِ، وَنَقْلُ الْوَدِيعَةِ بِالْحَمْلِ، وَالرَّدِّ عَلَى
الْمُودِعِ
لاَ عَلَى الْمُودَعِ، وَإِنَّمَا عَلَى الْمُودَعِ أَنْ لاَ يَمْنَعَهَا مِنْ
صَاحِبِهَا فَقَطْ ; لأََنَّ بَشَرَتَهُ وَمَالَهُ مُحَرَّمَانِ، وَهَذَا
بِخِلاَفِ الْغَاصِبِ، وَالْمُتَعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا،
وَأَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَرَدُّهُ عَلَى الْمُتَعَدِّي وَالْغَاصِبِ،
وَأَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَى صَاحِبِهِ حَيْثُ لَقِيَهُ مِنْ بِلاَدِ اللَّهِ
تَعَالَى ; لأََنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَطْلِ فِي
كُلِّ أَوَانٍ وَمَكَانٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/278)
كتاب
الحجر
لا يجوز الحجر على أحد في ماله إلا على من لم يبلغ أو على المجنون في حال جنونه
...
كِتَابُ الْحَجْرِ
1394 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَى أَحَدٍ فِي مَالِهِ إِلاَّ عَلَى
مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ عَلَى مَجْنُونٍ فِي حَالِ جُنُونِهِ:
فَهَذَانِ خَاصَّةً لاَ يَنْفُذُ لَهُمَا أَمْرٌ فِي مَالِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَ
الصَّغِيرُ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ جَازَ
(8/278)
المرض
مرضا يموت منه أو يبرأ منه والحامل منذ تحمل إلى أن تضع أو تموت والموقوف للقتل
بحق في قود أو حد أو بباطل والأسير عند من يقتل الأسرى أو من لا يقتلهم والمشرف
على العطب إلخ كلهم سواء
...
1395 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمَرِيضُ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ أَوْ يَبْرَأُ مِنْهُ،
وَالْحَامِلُ مُذْ تَحْمِلُ إلَى أَنْ تَضَعَ أَوْ تَمُوتَ، وَالْمَوْقُوفُ
لِلْقَتْلِ بِحَقٍّ فِي قَوَدٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ، وَالأَسِيرُ عِنْدَ
مَنْ يَقْتُلُ الأَسْرَى أَوْ مَنْ لاَ يَقْتُلُهُمْ، وَالْمُشْرِفُ عَلَى
الْعَطَبِ، وَالْمُقَاتِلُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، وَسَائِرُ
النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلاَ فَرْقَ فِي صَدَقَاتِهِمْ، وَبُيُوعِهِمْ،
وَعِتْقِهِمْ وَهِبَاتِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلاَءِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: وَأَصْحَابُنَا كَقَوْلِنَا إِلاَّ فِي الْعِتْقِ
خَاصَّةً فَقَطْ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: عِتْقُ الْمَرِيضِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ
مَنْ ذَكَرْنَا لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ مِنْ الثُّلُثِ، سَوَاءً أَفَاقَ مِنْ
مَرَضِهِ، أَوْ مَاتَ مِنْهُ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَيْسَ
لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ فَقَالَ مَسْرُوق: أُجِيزُهُ بِرُمَّتِهِ، شَيْءٌ جَعَلَهُ
اللَّهُ لاَ أَرُدُّهُ وَقَالَ شُرَيْحٌ: أُجِيزَ ثُلُثَهُ وَأَسْتَسْعِيهِ فِي
ثُلُثَيْهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: قَوْلُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْفُتْيَا،
وَقَوْلُ شُرَيْحٍ أَحَبُّ إلَيَّ فِي الْقَضَاءِ وَقَوْلُ النَّخَعِيِّ كَقَوْلِ
(8/297)
شُرَيْحٍ
وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ أَعْتَقَ
عَبْدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَالَ: اعْتِقْ ثُلُثَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى جَارِيَةً فِي
مَرَضِهِ فَأَعْتَقَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَجَاءَ الَّذِينَ بَاعُوهَا بِثَمَنِهَا
فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ مَالاً فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اسْعِي فِي ثَمَنِك.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
سُئِلَ عَلِيٌّ عَمَّنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ
مَالٌ غَيْرَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ: يَعْتِقُ وَيَسْعَى فِي الْقِيمَةِ
وَقَالَ النَّخَعِيُّ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عِنْدَ مَوْتِهِ لاَ مَالَ لَهُ
غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ فَيَقْضِي الدِّينَ،
فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلَهُ ثُلُثُهُ وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ. وَقَالَ
الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ: عِتْقُ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ،
وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، وَمَكْحُولٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَمِنْ مُرِقٍّ مِنْهُ
مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَمِنْ مُعْتَقٍ لِجَمِيعِهِ وَيَسْتَسْعِيهِ فِيمَا
زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. وَأَمَّا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: فِي
الْمَرِيضِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، قَالَ: هُوَ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ مَكَثَ عَشْرَ
سِنِينَ. وَأَمَّا الْحَامِلُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى
مَا صَنَعَتْ الْحَامِلُ فِي حَمْلِهَا مِنْ الثُّلُثِ قَالَ سُفْيَانُ: وَنَحْنُ
لاَ نَأْخُذُ بِهَذَا، بَلْ نَقُولُ: مَا صَنَعَتْ فَهُوَ جَائِزٌ، إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ مَرِيضَةً مِنْ غَيْرِ الْحَمْلِ، أَوْ يَدْنُوَ مَخَاضُهَا يُرِيدُ أَنْ
يَضُرَّ بِهَا الطَّلْقُ وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا صَنَعَتْ الْحَامِلُ فِي حَمْلِهَا
فَهُوَ وَصِيَّةٌ قُلْتُ: أَرَأْيٌ قَالَ: بَلْ سَمِعْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ
قَتَادَةَ: وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ
وَالزُّهْرِيِّ: عَطِيَّةُ الْحَامِلِ كَعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
قَالَ: مَا أَعْطَتْ الْحَامِلُ لِوَارِثٍ، أَوْ لِزَوْجٍ، فَمِنْ رَأْسِ
مَالِهَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً وَقَالَ رَبِيعَةُ: كَذَلِكَ، إِلاَّ
أَنْ تَثْقُلَ، أَوْ يَحْضُرَهَا نِفَاسٌ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَخْبَرْت بِهَذَا
أَيْضًا، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَابْنِ حُجَيْرَةَ
الْخَوْلاَنِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ وَقَالَ النَّخَعِيُّ،
وَمَكْحُولٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ، وَعُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي عَطِيَّةِ الْحَامِلِ كَقَوْلِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ: عَطِيَّةُ الْغَازِي مِنْ الثُّلُثِ وَقَالَ مَكْحُولٌ: بَلْ
مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِلاَّ أَنْ تَقَعَ الْمُسَايَفَةُ وَعَطِيَّةُ رَاكِبِ الْبَحْرِ
كَذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ كَالصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ،
وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ قَدْ وَقَعَ فِيهِ
(8/298)
الطَّاعُونُ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: كَذَلِكَ فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ مَا لَمْ يَهِجْ الْبَحْرُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَبَسَهُ الْحَجَّاجُ:
لَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ، إِلاَّ الثُّلُثُ، فَقَالَ إيَاسٌ إذْ بَلَغَهُ
قَوْلُهُ: مَا فَقِهَ أَحَدٌ إِلاَّ سَاءَ ظَنُّهُ بِالنَّاسِ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: مَا صَنَعَ الْمُسَافِرُ فَمِنْ الثُّلُثِ مِنْ حَيْثُ يَقَعُ
رَحْلُهُ فِي الْغَرْزِ قَالَ النَّخَعِيُّ: بَلْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: مَا صَنَعَ الأَسِيرُ فَمِنْ الثُّلُثِ.
وقال أبو حنيفة: لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ
بَعْضٍ. وَرَأَوْا مُحَابَاتَهُ فِي الْبَيْعِ، وَهِبَاتِهِ، وَصَدَقَاتِهِ،
وَعِتْقِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، إِلاَّ
أَنَّ الْعِتْقَ يَنْفُذُ كُلُّهُ وَيُسْتَسْعَى فِيمَا لاَ يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ
مِنْهُ، فَإِنْ أَفَاقَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ نَفَذَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ
مَالِهِ. وَأَمَّا الْمَحْصُورُ، وَالْوَاقِفُ فِي صَفِّ الْحَرْبِ
فَكَالصَّحِيحِ. وَأَمَّا الَّذِي يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ فِي قِصَاصٍ، أَوْ رَجْمٍ
فَكَالْمَرِيضِ.وَمَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنْ
خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ وَوَرِثَهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثِهِ
عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْهُ، وَاسْتَسْعَى فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ كَسَائِرِ
الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِوَلَدِ أَمَتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَحِقَ بِهِ
وَوَرِثَهُ، وَإِنْ وَطِئَ أَمَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَحَمَلَتْ فَهِيَ أُمُّ
وَلَدٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَيَرِثُهُ وَلَدُهَا. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَشْتَرِي وَلَدَهُ فِي
مَرَضِهِ، وَلاَ يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ فَإِنَّهُمَا قَالاَ: يَرِثُهُ عَلَى كُلِّ
حَالٍ، وَيُسْتَسْعَى فِيمَا يَقَعُ مِنْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ فَيَأْخُذُونَهُ.
وَقَالُوا كُلُّهُمْ: إنَّمَا هَذَا فِي الْمَرَضِ الْمُخِيفِ كَالْحُمَّى
الصَّالِبِ وَالْبِرْسَامِ، وَالْبَطْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ
فِي الْجُذَامِ، وَلاَ حُمَّى الرِّبْعِ، وَلاَ السُّلِّ، وَلاَ مَنْ يَذْهَبُ
وَيَجِيءُ فِي مَرَضِهِ. وقال مالك: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُلِّ مَا
ذَكَرْنَا إِلاَّ فِي الْحَامِلِ فَإِنَّ أَفْعَالَهَا عِنْدَهُ كَالصَّحِيحِ إلَى
أَنْ تُتِمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا أَتَمَّتْهَا فَأَفْعَالُهَا فِي مَالِهَا
كَالْمَرِيضِ. حَتَّى أَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا الَّذِي
طَلَّقَهَا طَلاَقًا بَائِنًا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَإِلَّا
الأَسْتِسْعَاءُ فَلَمْ يَرَهُ، بَلْ أَرَقَّ مَا لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ مِنْهُ،
وَإِلَّا فِيمَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ
فَإِنَّهُ أَعْتَقَ مِنْهُ مَا حَمَلَ الثُّلُثُ وَأَرَقَّ الْبَاقِيَ. وقال
الشافعي، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ
دُونَ بَعْضٍ وقال الشافعي: فِعْلُ الْمَرِيضِ مَرَضًا مُخِيفًا مِنْ الثُّلُثِ،
فَإِنْ أَفَاقَ فَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الَّذِي يُقَدَّمُ
لِلْقَتْلِ فَمَرَّةً قَالَ: هُوَ كَالصَّحِيحِ وَمَرَّةً قَالَ: هُوَ
كَالْمَرِيضِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ
لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقْضِيَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ: فَخَطَأٌ فِي
تَفْرِيقِهِمَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحِيحِ، وَالْمَرِيضِ، وَالْحَقُّ فِي
ذَلِكَ هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ يُعْطَى
كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَهُوَ فِي إنْصَافِهِ بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
مُعْطِي ذَلِكَ الَّذِي أَنْصَفَ حَقَّهُ، وَمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ
مُحْسِنٌ، وَالإِحْسَانُ لاَ يُرَدُّ، فَإِنْ كَانَ
(8/299)
الَّذِي
لَمْ يُنْصِفْهُ حَاضِرًا طَالِبًا حَقَّهُ فَهُوَ عَاصٍ فِي أَنَّهُ لَمْ
يُنْصِفْهُ، وَهُمَا قَضِيَّتَانِ أَصَابَ فِي إحْدَاهُمَا، وَظَلَمَ فِي
الأُُخْرَى وَالْحَقُّ لاَ يُبْطِلُهُ ظُلْمُ فَاعِلِهِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى
وَحَقُّ الْغَرِيمِ إنَّمَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ لاَ فِي عَيْنِ مَالِهِ
مَا دَامَ حَيًّا لَمْ يُفْلِسْ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَفَذَ الَّذِي
أَعْطَى مَا أَعْطَاهُ بِحَقٍّ وَلَزِمَهُ أَنْ يُنْصِفَ مَنْ بَقِيَ إذْ حَقُّهُ
فِي ذِمَّتِهِ لاَ فِي عَيْنِ مَا أَعْطَى الآخَرَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي
الْفَرْقِ بَيْنَ صَحِيحٍ، وَمَرِيضٍ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمَا فِي قَوْلِهِمَا
هَذَا سَلَفًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا فِيمَنْ اشْتَرَى وَلَدَهُ فِي مَرَضِهِ فَلَمْ يَحْمِلْهُ
الثُّلُثُ أَنَّهُ لاَ يَرِثُهُ، فَإِنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ عَتَقَ وَوَرِثَ:
فَقَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا فِيهِ
سَلَفًا مُتَقَدِّمًا ; لأََنَّهُ إنْ كَانَ وَصِيَّةً، فَالْوَصِيَّةُ
لِلْوَارِثِ لاَ تَجُوزُ فَيَنْبَغِي عَلَى أَصْلِهِمْ أَنْ لاَ يَنْفُذَ عِتْقُهُ
أَصْلاً حَمَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا بَعْضُ
الشَّافِعِيِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: الشِّرَاءُ فَاسِدٌ ; لأََنَّهُ
وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ وَصِيَّةً فَمَا بَالُهُ لاَ يَرِثُ
وَقَدْ صَارَ حُرًّا بِمِلْكِ أَبِيهِ لَهُ، ثُمَّ مُنَاقَضَتُهُمْ فِي الْمَرِيضِ
يَطَأُ أَمَتَهُ فَتَحْمِلُ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ حُرَّةً وَيَرِثُهُ
وَلَدُهَا، فَإِنْ قَالُوا: حَمْلُهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ قلنا: لَكِنَّ
وَطْأَهُ لَهَا مِنْ فِعْلِهِ، وَإِقْرَارَهُ بِوَلَدِهَا مِنْ فِعْلِهِ، وَعِتْقَ
الْوَلَدِ فِي كُلِّ حَالٍ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي
الْحَامِلِ فَقَوْلٌ أَيْضًا لاَ نَعْلَمُ لَهُ فِيهِ سَلَفًا، وَاحْتَجَّ لَهُ
بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ
حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}
.
قال أبو محمد : وَهَذَا إيهَامٌ مِنْهُمْ لِلأَحْتِجَاجِ بِمَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ أَصْلاً ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّ الإِثْقَالَ لَمْ
تَكُنْ إِلاَّ بِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: فَظَهَرَ تَمْوِيهُهُمْ بِمَا لَيْسَ
لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ. ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ لَهُمْ بِأَنَّ الإِثْقَالَ
جُمْلَةً يُدْخِلُهَا فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ، وَقَدْ يَحْمِلُ الْحَمَّالُ حِمْلاً
ثَقِيلاً فَلاَ يَكُونُ بِذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ عِنْدَهُمْ. فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ قلنا، وَقَدْ تُسْقِطُ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَالإِسْقَاطُ أَخْوَفُ مِنْ الْوِلاَدَةِ أَوْ مِثْلُهَا فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا
الْقَوْلِ جُمْلَةً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ نَأْخُذُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ فِي قَوْلِ
مَنْ قَالَ: بِأَنَّ أَفْعَالَ الْمَرِيضِ، وَمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ مِنْ
الثُّلُثِ
قال أبو محمد: احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ الْمَشْهُورِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
سِيرِينَ، وَأَبِي لْمُهَلَّبِ، كِلاَهُمَا، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ:
أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاَثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ،
وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً . وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عليه السلام
قَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيدًا. وَبِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ ; وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ
(8/300)
بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ
بَلَغَنِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ
ابْنَةٌ لِي. أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ عليه السلام: لاَ ، قُلْتُ:
فَالشَّطْرُ قَالَ: لاَ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ
كَثِيرٌ، إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ
عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ قَالُوا: فَلَمْ
يَأْذَنْ لَهُ عليه السلام بِالصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَبِخَبَرٍ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
إنَّ اللَّهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَوْتِكُمْ
رَحْمَةً لَكُمْ وَزِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ وَحَسَنَاتِكُمْ وَمِنْ طَرِيقِ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى سَمِعْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
جُعِلَ لَكُمْ ثُلُثُ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ . وَمِنْ طَرِيقِ
مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم فِي خَبَرٍ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: جَعَلْتُ لَكَ طَائِفَةً
مِنْ مَالِكَ عِنْدَ مَوْتِكَ أَرْحَمُكَ بِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ابْتَاعُوا
أَنْفُسَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ إنَّهُ لَيْسَ لأَمْرِئٍ
شَيْءٌ، أَلاَ لاَ أَعْرِفَنَّ امْرَأً بَخِلَ بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى إذَا
حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ يُذَعْذِعُ مَالَهُ هَهُنَا هَهُنَا . وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ طَلْحَةَ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللَّهَ
تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِالثُّلُثِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ
زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ
الْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْمَكِّيِّ: أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ
غُلاَمًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا خَالِدٌ، عَنْ
أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ
أَعْتَقَ غُلاَمًا عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَرَفَعَ
ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَ مِنْهُ الثُّلُثَ
وَاسْتَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ: وَقَالُوا قَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ
قَالَ لِعَائِشَةَ، رضي الله عنها، عِنْدَ مَوْتِهِ "إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ
جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَحُزْتِيهِ
لَكَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ" قَالُوا:
فَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ قَارَبَ الْمَوْتَ
فَمَالُهُ مَالُ الْوَارِثِ. وَقَالُوا: قَدْ جَاءَ مَا أَوْرَدْنَا، عَنْ عَلِيٍّ،
وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله
عنهم فَهُوَ إجْمَاعٌ،
(8/301)
وَقَالُوا:
قِسْنَاهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ: أَمَّا حَدِيثُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ: فَمُرْسَلٌ، وَعَنْ مَجْهُولٍ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ;
لأََنَّهُمَا لاَ يَرَيَانِ الأَسْتِسْعَاءَ. وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي يَحْيَى
الْمَالِكِيِّ: فَهَالِكٌ ; لأََنَّهُ مُرْسَلٌ، وَعَنْ حَجَّاجٍ، وَهُوَ سَاقِطٌ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ وَهُوَ
كَذَّابٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ قَتَادَةَ: فَمُرْسَلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لاَ
نُخَالِفُهُمْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ، وَأَنَّ ذَعْذَعَةَ الْمَالِ هَهُنَا
وَهَهُنَا لاَ تَجُوزُ عِنْدَنَا، لاَ فِي صِحَّةٍ، وَلاَ فِي مَرَضٍ، فَلَيْسَ
ذَلِكَ الْخَبَرُ مُخَالِفًا لِقَوْلِنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قِلاَبَةَ:
فَمُرْسَلٌ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي
بَكْرٍ فَسَنَدُهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلاَ نَدْرِي حَالَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
مَيْمُونٍ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ هُوَ وَجَمِيعُ الآثَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَمْ
يَكُنْ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ أَصْلاً ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا
كُلِّهَا إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَصَدَّقَ عَلَيْنَا عِنْدَ
مَوْتِنَا بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا: فَهَذَا يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ الْوَصِيَّةُ
الَّتِي هِيَ بِلاَ خِلاَفٍ نَافِذَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَعْرُوفٌ فِي
اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ
الْعَرَبَ تَقُولُ: كَانَ أَمْرُ كَذَا عِنْدَ مَوْتِ فُلاَنٍ، وَارْتَدَّتْ
الْعَرَبُ عِنْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوُلِّيَ عُمَرُ
عِنْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ. فَجَمِيعُ هَذِهِ
الأَخْبَارِ خَارِجَةٌ عَلَى هَذَا أَحْسَنَ خُرُوجٍ، وَمُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا
عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَاشَا خَبَرَ الْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى
الْمَكِّيِّ، فَإِنَّهُ لاَ يُخَرَّجُ لاَ عَلَى قَوْلِنَا، وَلاَ عَلَى قَوْلِ
أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِخَبَرٍ يُخَالِفُونَهُ ;
لأََنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ لاَ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ
قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي الدَّيْنِ فَقَطْ، ثُمَّ فِي ثُلُثَيْ
مَا يَبْقَى مِنْ قِيمَتِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُنَا إذَا
أَوْصَى بِعِتْقِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ
قِيمَتِهِ ; فَالْعِتْقُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. فَكُلُّ
طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَدْ خَالَفَتْ ذَلِكَ الْحَدِيثَ. ثُمَّ جَمِيعُهُمْ
مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ هَذِهِ الآثَارِ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ: عِنْدَ
مَوْتِهِ، وَعِنْدَ مَوْتِكُمْ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرٌ لِمَرَضٍ
أَصْلاً، فَالْمَرَضُ شَيْءٌ زَادُوهُ بِآرَائِهِمْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الآثَارِ نَصٌّ مِنْهُ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَمُوتُ الصَّحِيحُ
فَجْأَةً، وَمِنْ مَرَضٍ خَفِيفٍ، فَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى الْمَرَضِ مِنْ أَيْنَ
خَرَجَ وَهَلَّا رَاعُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ مِنْ لَفْظِ عِنْدَ مَوْتِهِ
فَجَعَلُوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ صَحِيحًا فَعَلَهُ أَوْ مَرِيضًا
مِنْ الثُّلُثِ، وَجَعَلُوا مَا فَعَلُوا فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ مِمَّا
تَأَخَّرَ عَنْهُ مَوْتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَظَهَرَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ
الآثَارِ مُخَالِفَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَأَنَّهَا مِنْ النَّوْعِ الَّذِي احْتَجُّوا
بِهِ لأََقْوَالٍ لَهُمْ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِيمَا احْتَجُّوا لَهُ بِهِ،
(8/302)
وَهَذَا
إيهَامٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، وَتَدْلِيسٌ فِي الدِّينِ فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدٍ: فَإِنَّا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيّ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ
عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ،
كُلُّهُمْ، عَنْ سَعْدٍ وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، كُلُّهُمْ قَالَ
فِي هَذَا الْخَبَرِ: أَفَأُوصِي بِمَالِي أَوْ بِثُلُثَيْ مَالِي يَا رَسُولَ
اللَّهِ ثُمَّ بِنِصْفِهِ وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا
لَفْظَ " أَفَأَتَصَدَّقُ "، عَنِ الزُّهْرِيِّ إنَّمَا عَنَوْا بِهِ
الْوَصِيَّةَ بِلاَ شَكٍّ، لاَ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ; لأََنَّهُ
كُلَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ، عَنْ مَقَامٍ وَاحِدٍ، عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فِي حُكْمٍ
وَاحِدٍ ; وَكُلُّ وَصِيَّةٍ صَدَقَةٌ. وَلَيْسَ كُلُّ صَدَقَةٍ وَصِيَّةً.
نَعَمْ: وَرُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَبُو
الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ،
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، كِلاَهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضْتُ مَرَضًا شَدِيدًا فَأُشْفِيتُ مِنْهُ
فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ لِي مَالاً كَثِيرًا وَإِنَّمَا تَرِثُنِي ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ،
أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَأُوصِي بِالشَّطْرِ،
قَالَ: لاَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ أُوصِي قَالَ: الثُّلُثَ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ . فَرَوَى مَالِكٌ ;، وَابْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَفَأَتَصَدَّقُ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرَّةَ: أَفَأَتَصَدَّقُ، وَمَرَّةً:
أَفَأُوصِي وَرَوَى مَعْمَرٌ، وَسَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَفَأُوصِي وَلَيْسَا دُونَ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَاتَّفَقَ سَائِرُ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى لَفْظِ: " أُوصِي "
فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً. وَأَيْضًا: فَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ
نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي
الْمَرَضِ خَاصَّةً دُونَ الصِّحَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ فِي الْمَرَضِ
خَاصَّةً فَقَدْ كَذَبَ وَقَوَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ
يَقُلْ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَعْدًا سَيَبْرَأُ وَتَكُونُ لَهُ آثَارٌ فِي
الإِسْلاَمِ، فَبَطَلَ أَنْ
(8/303)
يَكُونَ
ذَلِكَ حُكْمَ الْمَرَضِ الَّذِي يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْهُ: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:
قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا فَمَا تَرَكَ شَيْئًا
يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَخْبَرَ بِهِ،
حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَ أَصْحَابِي
هَؤُلاَءِ أَنَّهُ لِيَكُونَ مِنِّي الشَّيْءُ فَأَعْرِفُهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا
يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إذَا غَابَ عَنْهُ فَإِذَا رَآهُ عَرَفَهُ.
قال أبو محمد: وَسَعْدٌ قَدْ فَتَحَ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ، وَأَنْزَلَ مَلِكَ
الْفُرْسِ، عَنْ سَرِيرِهِ، وَافْتَتَحَ قُصُورَهُ، وَدُورَهُ، وَمَدَائِنَهُ،
فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً. وَأَمَّا
خَبَرُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ، فَأَوْلَى النَّاسِ
أَنْ لاَ يُحْتَجَّ بِهِ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ لاَ
يَسْتَحْيُونَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ قِمَارٌ، وَإِنَّهُ فِعْلٌ بَاطِلٌ،
وَحُكْمُ جَوْرٍ شَاهَ وَجْهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَبَقِيَ الْكَلاَمُ فِيهِ مَعَ الْمَالِكِيِّينَ
وَالشَّافِعِيِّينَ، وَأَصْحَابِنَا الْقَائِلِينَ بِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ أَصْلاً لِوُجُوهٍ ثَلاَثَةٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ
الْعِتْقُ وَحْدَهُ، فَإِقْحَامُهُمْ مَعَ الْعِتْقِ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْمَرِيضِ
خَطَأٌ وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ
حَقًّا لَكَانَ هَهُنَا بَاطِلاً ; لأََنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ حُكْمِ
الْعِتْقِ وَسَائِرِ الأَحْكَامِ، فَيُوجِبُونَ فِيمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ
مِنْ عَبْدٍ أَنْ يُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ فَيَعْتِقُهُ، وَلاَ يَرَوْنَ
فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ عَبْدِهِ أَوْ أَوْقَفَ نِصْفَ دَارِهِ، أَوْ نِصْفَ
فَرَسِهِ، أَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ثَوْبِهِ أَوْ بِنِصْفِ ضَيْعَتِهِ: أَنْ
يُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِي ذَلِكَ، وَيَنْفُذَ فِعْلُهُ فِي جَمِيعِهِ: فَمِنْ
أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْعِتْقِ هَهُنَا وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُقَاسَ
عَلَيْهِ هُنَالِكَ إنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فَاسِدٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ: مِنْ فِعْلِ الْمَرِيضِ كَلِمَةٌ، وَلاَ دَلاَلَةٌ، وَلاَ إشَارَةٌ
بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ: إنَّمَا فِيهِ " أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ "
فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ: أَنْ يَجْعَلُوا هَذَا الْحُكْمَ فِيمَنْ أَعْتَقَ
عِنْدَ مَوْتِهِ صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا. فَمَاتَ إثْرَ ذَلِكَ، لاَ فِيمَنْ
أَعْتَقَ مَرِيضًا، أَوْ صَحِيحًا، ثُمَّ تَرَاخَى مَوْتُهُ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ
يَعْتِقْ عِنْدَ مَوْتِهِ بِلاَ شَكٍّ وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْخَبَرَ
الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فِيمَا فِيهِ، وَأَقْحَمُوا فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ
وَاحْتَجُّوا بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً، وَهَذِهِ قَبَائِحُ
مُوبِقَةٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ
حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ قَاطِعَةٌ ; لأََنَّ هَذَا الإِنْسَانَ
(8/304)
لَمْ
يُبْقِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا أَصْلاً، هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَرْدُودُ الْفِعْلِ صَحِيحًا كَانَ
أَوْ مَرِيضًا، وَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ فِي مَالِهِ عِتْقُ تَطَوُّعٍ، وَلاَ
صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، وَلاَ هِبَةٌ يَبُتُّ بِهَا إِلاَّ فِيمَا أَبْقَى غِنًى،
كَمَا قَالَ عليه السلام الصَّدَقَةُ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَقَدْ أَبْطَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِتْقَ إنْسَانٍ صَحِيحٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
غَيْرُهُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وقال أحمد: أَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي هُوَ
يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثُمَّ اتَّفَقَ عَاصِمٌ، وَسَعْدٌ،
وَيَعْقُوبُ أَبْنَاءُ إبْرَاهِيمَ، قَالُوا كُلُّهُمْ: ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَرَدَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْتَاعَهُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ
النَّحَّامِ قَالَ الزُّهْرِيُّونَ فِي رِوَايَتِهِمْ: فَرَدَّهُ عليه السلام:
فَهَذَا إسْنَادٌ كَالشَّمْسِ لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ. فَصَحَّ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا رَدَّ عِتْقَ أُولَئِكَ الأَعْبُدِ; لأََنَّ
مُعْتِقَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، وَكَانَ عِتْقُهُ عليه السلام
لِثُلُثِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ أَنَّهُ
عليه السلام قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ إذْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ إذْ تَابَ
اللَّهُ عَلَيْهِ: يُجْزِيك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ
لاَ يَصِحُّ، لَكِنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ
; فَأَمْسَكَ سَهْمَهُ بِخَيْبَرَ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُعْتِقُ لَهُ فِي
أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ غِنًى. وَبُرْهَانُ هَذَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ
فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا أَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ
أَرْبَعَةً وَلَمْ يَذْكُرْ قِيمَةً، وَالثُّلُثُ عِنْدَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا
الْخَبَرِ لاَ يَكُونُ هَكَذَا أَصْلاً، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْقِيمَةِ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنَّنَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ،
وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنِ الثَّقَفِيِّ هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ
أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ رَجُلاً أَوْصَى
عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ
أَثْلاَثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ
أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا .
فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعِتْقَ إنَّمَا كَانَ وَصِيَّةً، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهَا
الصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ سَوَاءٌ، وَلاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِالثُّلُثِ، فَإِنْ
كَانَتْ الرِّوَايَتَانِ حَدِيثًا وَاحِدًا وَهُوَ الأَظْهَرُ الَّذِي لاَ يَكَادُ
يُمْكِنُ، وَلاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْكَلاَمُ، وَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْنِ وَهَذَا مُمْكِنٌ بَعِيدٌ
فَكِلاَهُمَا لَنَا، وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، وَعَلَى
كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ذِكْرٌ لِمَرَضٍ، وَلاَ لِفِعْلٍ فِي
مَرَضٍ أَصْلاً، وَلاَ لأََنَّ الرَّدَّ إنَّمَا كَانَ ; لأََنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ
فِي مَرَضٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَبَطَلَ عَنْهُمْ كُلُّ مَا
مَوَّهُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ الَّتِي هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهَا، وَعَادَتْ
كُلُّهَا لَنَا عَلَيْهِمْ حُجَّةً.
(8/305)
وَأَمَّا
مَا رَوَوْا فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَكَذَلِكَ أَيْضًا،
وَإِنَّمَا هُمْ ثَلاَثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: فأما
أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّمَا تَعَلَّقُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا هُوَ
الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَهَذَا لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهِ أَصْلاً ;
لأََنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ وَهُمْ مَعَنَا أَيْضًا فِي أَنَّهُ إنَّمَا
عَنَى أَنَّهُ مَالُ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ
أَنَّ مَالَ الْمَرِيضِ الَّذِي يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ لِلْوَارِثِ مَا
دَامَ شَيْءٌ مِنْ الرُّوحِ فِي الْمَرِيضِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ أَسْمَاءَ
لَوْ مَاتَتْ إذْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْقَوْلَ لَهَا لَمَا وَرِثَ عَبْدُ
اللَّهِ، وَعُرْوَةُ، وَالْمُنْذِرُ، أَوْلاَدُهَا مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ
حَبَّةَ خَرْدَلٍ، وَلاَ قِيمَتَهَا، فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَالُ
الْمَرِيضِ. قَدْ صَارَ مَالاً لِلْوَارِثِ فِي مَرَضِهِ لَوَرِثَهُ عَنْهُ إنْ
مَاتَ وَرَثَتُهُ فِي حَيَاةِ الْمَرِيضِ، وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَلاَ
أَحْمَقُ، وَلاَ عَاقِلٌ. وَأَيْضًا فَلاَ خِلاَفَ مِنَّا وَمِنْهُمْ فِي أَنَّ
الْوَارِثَ لَوْ وَطِئَ أَمَةَ الْمَرِيضِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَكَانَ زَانِيًا
يُحَدُّ حَيْثُ يُحَدُّ لَوْ وَطِئَهَا وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلاَ فَرْقَ وَأَنَّهُ
لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ شَيْئًا فِي مِثْلِهِ الْقَطْعُ
لَقُطِعَتْ يَدُهُ حَيْثُ تُقْطَعُ يَدُهُ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ وَهُوَ صَحِيحٌ:
فَظَهَرَ تَمْوِيهُهُمْ وَبُرْدُهُمْ وَتَدْلِيسُهُمْ فِي الدِّينِ بِإِيهَامِهِمْ
الْبَاطِلَ مَنْ اغْتَرَّ بِهِمْ، وَأَحْسَنَ الظَّنَّ بِطُرُقِهِمْ. فَإِنْ
أَتَوْنَا فِي صَرْفِ الأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ، عَنْ ظَاهِرِهَا
بِبُرْهَانٍ مِثْلِ هَذَا وَجَبَ الأَنْقِيَادُ لِلْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَأْتُونَا
إِلاَّ بِالْكَذِبِ الْبَحْتِ، وَبِالظَّنِّ الْفَاسِدِ، وَبِالتَّمْوِيهِ
الْمُلْبِسِ، فَعَارُ ذَلِكَ وَنَارُهُ لاَ زِمَانِ لَهُمْ، لاَ لَنَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ
جُمْلَةً.
وَأَمَّا الْخَبَرُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمُرْسَلٌ ; لأََنَّ الْحَسَنَ،
وَالْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، لَمْ يُدْرِكَاهُ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا
كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ
ابْتَاعَهَا فِي مَرَضِهِ، فَأَجَازَ بَيْعَهُ وَأَعْتَقَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ،
فَأَمَرَهَا بِأَنْ تَسْعَى فِي ثَمَنِهَا لِلْغَرِيمِ. وَفِي الأُُخْرَى أَعْتَقَ
عَبْدَهُ فِي مَرَضِهِ لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَتَقَ،
ثُلُثَهُ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ
الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ غَيْرُهُ، فَرَاعَى مَا أَبْقَى لَهُ غِنًى. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ حَجَّاجٍ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَالَ: أَعْتَقَتْ امْرَأَةٌ جَارِيَةً
لَهَا لَيْسَ لَهَا مَالٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:
تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ قَدْ رَأَى السَّعْيَ فِي
قِيمَتِهَا إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ غَيْرُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ فِي مَرَضٍ أَصْلاً، فَعَادَ فِعْلُ ابْنُ مَسْعُودٍ لَوْ صَحَّ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ، وَلاَ فِعْلِهِ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ مَسْعُودٍ
وَلاَحَ خِلاَفُهُمْ لَهُ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ فَمُنْقَطِعَةٌ;
لأََنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا
كَانَ لَهُمْ بِهَا مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً ; لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَلِيٌّ أَنَّهُ
إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ أَلْبَتَّةَ،
(8/306)
وَلاَ
فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ ذِكْرُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَرَضٍ لاَ بِنَصٍّ،
وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَطْ،
وَالأَظْهَرُ أَنَّ عَلِيًّا إنَّمَا أَوْجَبَ الأَسْتِسْعَاءَ فِي ذَلِكَ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَهَذَا هُوَ نَصُّ
الْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُنَا لاَ قَوْلُهُمْ كُلُّهُمْ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ
بِالأَسْتِسْعَاءِ فِي هَذَا إذَا فَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ، عَنِ الدَّيْنِ
شَيْءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ خِلاَفٌ لِهَذَا،
فَلاَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا أَنَّ كُلَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ
أَثَرٍ صَحِيحٍ أَوْ سَقِيمٍ، أَوْ، عَنْ صَاحِبٍ فَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً
مُوَافِقًا لِقَوْلِهِمْ، وَأَنَّ إيرَادَهُمْ لِكُلِّ ذَلِكَ تَمْوِيهٌ،
وَإِيهَامٌ بِالْبَاطِلِ، وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ، وَأَنَّ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ
حُجَّةٌ لَنَا، وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالتَّابِعِينَ، وَدَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ
فَغَيْرُ مُنْكَرٍ مِنْ اسْتِسْهَالِهِمْ الْكَذِبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي صَدْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَصَحِّ
طَرِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ خِلاَفَ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّ عِتْقَ الْمَرِيضِ مِنْ
رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ
بِذَلِكَ ; لأََنَّهُ شَيْءٌ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يُرَدُّ. فَصَحَّ
أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْمَرِيضُ لِلَّهِ تَعَالَى فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ
عَاشَ، فَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ مَسْرُوقٍ، فَظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَى
الإِجْمَاعِ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ، عَنْ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ فَقَطْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ،
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالزُّهْرِيِّ،
وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَمَكْحُولٍ،
وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَكْثَرُ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ عَنْهُمْ ;
لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَمِثْلِهِ. ثُمَّ هُمْ
مُخْتَلِفُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْمُسَافِرَ مِنْ حِينِ يَضَعُ رِجْلَهُ
فِي الْغَرْزِ لاَ يَنْفُذُ لَهُ أَمْرٌ فِي مَالٍ إِلاَّ مِنْ ثُلُثِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي الْحَامِلِ جُمْلَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى
ذَلِكَ فِي الأَسِيرِ جُمْلَةً، وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالْحَنَفِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ: مُخَالِفُونَ لِكُلِّ هَذَا. ثُمَّ قَوْلُهُمْ فِي تَفْسِيرِ
الأَمْرَاضِ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِهِمْ، فَإِنْ كَانَ هَؤُلاَءِ إجْمَاعًا فَقَدْ
أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِخِلاَفِ الإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ
إجْمَاعًا فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِ مَنْ دُونَ الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ
يَكُنْ إجْمَاعًا عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مَسْرُوقٍ،
وَالشَّعْبِيِّ، خِلاَفَ هَذَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ
عُتَيْبَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إذَا أَبْرَأَتْ الْمَرْأَةُ
زَوْجَهَا مِنْ صَدَاقِهَا فِي مَرَضِهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ: لاَ
يَجُوزُ: فَصَحَّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ إنَّمَا عَنَى مَرَضَهَا الَّذِي تَمُوتُ
مِنْهُ، وَلَمْ يُرَاعِ ثُلُثًا، وَلاَ رَآهُ وَصِيَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
الرَّجُلِ يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ قَالَ: إذَا وَضَعَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي
حَقٍّ فَلاَ أَحَدَ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْهُ، وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ
(8/307)
الْوَرَثَةِ
دُونَ بَعْضٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الثُّلُثُ.
قال أبو محمد : لاَ يَخْلُو عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
أَرَادَ الصَّحِيحَ، وَالْمَرِيضَ مَعًا، أَوْ الْمَرِيضَ وَحْدَهُ، أَوْ
الصَّحِيحَ وَحْدَهُ: فَإِنْ أَرَادَ الصَّحِيحَ فَقَطْ فَقَدْ رَدَّ فِعْلَهُ فِي
صَدَقَتِهِ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَرِيضَ: فَقَدْ أَمْضَى
فِعْلَهُ فِي مَالِهِ كُلِّهِ فَهَذَا خِلاَفٌ ظَاهِرٌ وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ رَجُلاً رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ
يَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَطَلَّقَ نِسَاءَهُ طَلْقَةً طَلْقَةً،
وَقَسَّمَ مَالَهُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَهُ: أَجَاءَك الشَّيْطَانُ
فِي مَنَامِك فَأَخْبَرَك: أَنَّك تَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَطَلَّقْتَ
نِسَاءَك وَقَسَّمْتَ مَالَك رُدَّهُ وَلَوْ مِتَّ لَرَجَمْتُ قَبْرَك كَمَا
يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ فَرَدَّ مَالَهُ وَنِسَاءَهُ، وَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
مَا أَرَاك تَلْبَثُ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى تَمُوتَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ
امْرَأَةً رَأَتْ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّهَا تَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ فَشَذَّبَتْ مَالَهَا وَهِيَ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ فَأَمْضَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فِعْلَهَا. فَإِنْ كَانَ
لِلْمُوقِنِ بِالْمَوْتِ حُكْمُ الْمَرِيضِ فِي مَالِهِ فَقَدْ أَمْضَاهُ أَبُو
مُوسَى، فَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ فَقَدْ
رَدَّهُ عُمَرُ، وَلَمْ يُمْضِ مِنْهُ ثُلُثًا، وَلاَ شَيْئًا، وَهَذَا خِلاَفُ
قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَمَنْ أَقْبَحُ مُجَاهِرَةً
مِمَّنْ يَجْعَلُ مِثْلَ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلُ إجْمَاعًا ثُمَّ لاَ يُبَالِي
بِمُخَالِفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
وَأَبِي مُوسَى، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِمْ، وَطَوَائِفَ مِنْ
التَّابِعِينَ فِي الْقِصَاصِ مِنْ اللَّطْمَةِ، وَضَرْبَةِ السَّوْطِ، لاَ
مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا قَدْ
تَقَصَّيْنَا مِنْهُ جُزْءًا صَالِحًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:
قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ
كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لأََنَّ الْوَصِيَّةَ
إنَّمَا تَنْفُذُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ مِنْ الْمَرِيضِ. وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ
بِلاَ خِلاَفٍ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِي الثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، فَإِذَا قِيسَ
فِعْلُ الْمَرِيضِ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ فِعْلُ
الْمَرِيضِ كَفِعْلِ الصَّحِيحِ سَوَاءً سَوَاءً. وَأَيْضًا: لَوْ كَانَ
الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ لاَ شَيْءَ أَشْبَهَ بِشَيْءٍ وَأَوْلَى بِأَنْ يُقَاسَ
عَلَيْهِ مِنْ شَيْئَيْنِ شَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بَيْنَهُمَا: وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الَّذِي يَعْتِقُ
عِنْدَ الْمَوْتِ كَاَلَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ .
قَالَ عَلِيٌّ: وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا
يَشْبَعُ فَهَدِيَّتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ،
(8/308)
فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَالْمُعْتِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِثْلُهُ سَوَاءً سَوَاءً، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا} وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلاً عَلَى جَوَازِ الصَّدَقَةِ لِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مَا لَمْ يَأْتِهِ الْمَوْتُ وَيَجِئْ حُلُولُ أَجَلِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ. وَأَيْضًا: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ أَصْلاً فِي أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ الْمَرِيضُ مِنْ فَاكِهَةٍ، وَلَحْمٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى، وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سَائِلٍ بِالْبَابِ، فَإِنَّهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ مِنْ الثُّلُثِ لَكَانَ هَذَا مِنْ الثُّلُثِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ الثُّلُثُ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي يَمُوتُ مِنْهُ لَمَا وَجَبَ أَنْ يُعَدَّ أَكْلَهُ وَنَفَقَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إِلاَّ مِنْ الثُّلُثِ ; لأََنَّ بَاقِيَ ذَلِكَ لاَ حُكْمَ لَهُ فِيهِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا فَظَهَرَ مِنْ تَخَاذُلِهِمْ وَتَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا بَعْضُهُ يَكْفِي وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/309)
لا
يجوز الحجر على امرأة ذات زوج ولا بكر ذات أب أو غير ذات أب وصدقتهما وهبتهما نافذ
كل ذلك من رأس المال إذا حضرت كالرجال سواء بسواء
...
1396 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الْحَجْرُ أَيْضًا عَلَى امْرَأَةٍ
ذَاتِ زَوْجٍ ;، وَلاَ بِكْرٍ ذَاتِ أَبٍ، وَلاَ غَيْرِ ذَاتِ أَبٍ
وَصَدَقَتُهُمَا، وَهِبَتُهُمَا: نَافِذٌ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إذَا
حَاضَتْ كَالرَّجُلِ سَوَاءً سَوَاءً
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. وقال مالك: لَيْسَ لِذَاتِ
الزَّوْجِ إِلاَّ الثُّلُثُ فَقَطْ تَهَبُهُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ أَحَبَّ زَوْجُهَا
أَمْ كَرِهَ فَإِذَا مَضَتْ لَهَا مُدَّةٌ جَازَ لَهَا فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ
أَيْضًا أَنْ تَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَتْ أَحَبَّ زَوْجُهَا أَمْ كَرِهَ وَهَكَذَا
أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِهَا فِي الأَوَّلِ: فُسِخَ
فَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ رَدَّ الْكُلَّ أَوَّلَهُ، عَنْ آخِرِهِ،
بِخِلاَفِ الْمَرِيضِ إنْ شَاءَ زَوْجُهَا أَنْ يَرُدَّهُ، وَإِنْ أَنْفَذَهُ
نَفَذَ، فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ، عَنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ يُطَلِّقَهَا
نَفَذَ كُلُّهُ قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ صَاحِبُهُ: بَلْ لاَ
يَرُدُّ الزَّوْجُ إِلاَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَقَطْ، وَيَنْفُذُ لَهَا
الثُّلُثُ كَالْمَرِيضِ. قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا. مَالَهَا
كُلَّهُ نَفَذَ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَيْعُهَا وَابْتِيَاعُهَا فَجَائِزٌ أَحَبَّ
زَوْجُهَا أَمْ كَرِهَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ. قَالَ: وَأَمَّا
الْبِكْرُ فَمَحْجُورَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَاتَ أَبٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ ذَاتِ
أَبٍ لاَ يَجُوزُ لَهَا فِعْلٌ فِي مَالِهَا، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَلاَ أَنْ
تَضَعَ، عَنْ زَوْجِهَا مِنْ الصَّدَاقِ وَإِنْ عَنَسَتْ حَتَّى تَدْخُلَ بَيْتَ
زَوْجِهَا، وَيُعْرَفُ مِنْ حَالِهَا فَإِنْ وَهَبَتْ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ
ثُمَّ تَزَوَّجَتْ: كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَتْ إِلاَّ إنْ كَانَ
يَسِيرًا، قَالَ: وَأَمَّا الَّتِي كَانَ لَهَا زَوْجٌ ثُمَّ تَأَيَّمَتْ
فَكَالرَّجُلِ فِي نَفَاذِ حُكْمِهَا فِي مَالِهَا كُلِّهِ.
(8/309)
وَأَمَّا
الْمُتَقَدِّمُونَ: فَرُوِّينَا عَنْهُمْ أَقْوَالاً: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إسْمَاعِيلِ بْنِ خَالِدٍ،
وَزَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، كِلاَهُمَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ
قَالَ: عَهِدَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ أُجِيزَ عَطِيَّةَ
جَارِيَةٍ حَتَّى تَلِدَ وَلَدًا، أَوْ تَحُولَ فِي بَيْتِهَا حَوْلاً. وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ قَالَ: قَالَ شُرَيْحٌ: أَمَرَنِي
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ مُمَلَّكَةٍ عَطِيَّةً
حَتَّى تَحِيلَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلاً أَوْ تَلِدَ وَلَدًا، قَالَ: فَقُلْت
لِلشَّعْبِيِّ: كَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ: بَلْ شَافَهَهُ بِهِ مُشَافَهَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ عُمَرَ إلَى شُرَيْحٍ
بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ جَارِيَةً مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ لَهَا أَخُوهَا وَهِيَ مُمَلَّكَةٌ:
تَصَدَّقِي عَلَيَّ بِمِيرَاثِك مِنْ أَبِيك فَفَعَلَتْ، ثُمَّ طَلَبَتْ
مِيرَاثَهَا فَرَدَّهُ عَلَيْهَا وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي
هِنْدَ، عَنْ خِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لاَ
تُجِيزُوا نَحْلَ امْرَأَةٍ بِكْرٍ حَتَّى تَحِيلَ حَوْلاً فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
أَوْ تَلِدَ وَلَدًا.
قال أبو محمد : وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، وَهِشَامِ بْنِ
حَسَّانَ كُلُّهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ فِي
الْمَرْأَةِ إذَا وَهَبَتْ مِنْ مَالِهَا: فَإِنَّهُ لاَ تَجُوزُ لَهَا هِبَتُهَا
حَتَّى تَلِدَ وَلَدًا، أَوْ تَبْلُغَ، أَنَّى ذَلِكَ وَهُوَ سُنَّةٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ
مُحَمَّدٌ: لاَ تَجُوزُ لأَمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ حَتَّى تَحُولَ حَوْلاً أَوْ تَلِدَ
وَلَدًا، فَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى تَلِدَ وَلَدًا أَوْ تَبْلُغَ، أَنَّى ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ قَالاَ جَمِيعًا: لِلْيَتِيمَةِ
خِنَاقَانِ لاَ يَجُوزُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهَا حَتَّى تَلِدَ وَلَدًا، أَوْ
تَمْضِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ،
وَالشَّعْبِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ اخْتَلَفَ عَنْهُ إذَا عَنَسَتْ قَبْلَ ذَلِكَ
فَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ
قَالَ: قُلْت لِلشَّعْبِيِّ: أَرَأَيْت إنْ عَنَسَتْ أَيَجُوزُ يَعْنِي هِبَتَهَا
قَالَ: نَعَمْ. وَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قُلْت لِلشَّعْبِيِّ: أَرَأَيْت إنْ عَنَسَتْ
قَالَ: لاَ يَجُوزُ، كِلاَهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ،
وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إذَا حَالَتْ فِي
بَيْتِهَا حَوْلاً جَازَ لَهَا مَا صَنَعَتْ، قَالَ الْمُغِيرَةُ، وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ: إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ أَوْ وَلَدَ مِثْلُهَا جَازَتْ هِبَتُهَا
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ. وَقَوْلٌ آخَرُ رُوِيَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لِذَاتِ زَوْجٍ عَطِيَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ
زَوْجِهَا.
(8/310)
وَمِنْ
طَرِيقِ الْعَرْزَمِيِّ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ
بِإِذْنِهِ، وَأَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ كَانَتْ لاَ تَعْتِقُ
وَلَهَا سِتُّونَ سَنَةً إِلاَّ بِإِذْنِ ابْنِ عُمَرَ.
قال أبو محمد : هَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَرَى لَهَا ذَلِكَ
جَائِزًا دُونَ إذْنِهِ، لَكِنَّهُ عَلَى حُسْنِ الصُّحْبَةِ فَقَطْ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: لاَ تَجُوزُ لأَمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ، فَلَمْ يُجِزْ لِذَاتِ الزَّوْجِ عِتْقًا، وَلاَ حُكْمًا فِي صَدَاقِهَا،
وَلاَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا إِلاَّ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ الَّذِي
لاَ بُدَّ لَهَا مِنْهُ فِي صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغَبَرِيُّ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَتْ: كُنْت
أَخْدِمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ، وَأَسُوسُ فَرَسَهُ، كُنْت أَحْتَشُّ
لَهُ، وَأَقُومُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ
الْفَرَسِ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبِيٌّ فَأَعْطَاهَا
خَادِمًا، ثُمَّ ذَكَرَتْ حَدِيثًا وَفِيهِ أَنَّهَا بَاعَتْهَا، قَالَتْ:
فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ وَثَمَّنَهَا فِي حِجْرِي فَقَالَ: هَبِيهَا إلَيَّ قَالَتْ:
أَنَّى، لَكِنْ تَصَدَّقْت بِهَا فَهَذَا الزُّبَيْرُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ
الصِّدِّيقِ، قَدْ أَنْفَذَتْ الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ خَادِمِهَا، وَبَيْعَهَا
بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُ شَيْئًا غَيْرَهَا،
أَوْ كَانَ أَكْثَرَ مَا مَعَهَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ أَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ الصَّبَّاحِ، عَنْ حَجَّاجٍ،
هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ
يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ،
فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فِي أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ قَالَ:
ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتُ، وَلاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكَ فَلَمْ يُنْكِرْ
الزُّبَيْرُ ذَلِكَ . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ امْرَأَةً
رَأَتْ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّهَا تَمُوتُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
فَأَقْبَلَتْ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا فَتَعَلَّمَتْهُ،
وَشَذَّبَتْ مَالَهَا، وَهِيَ صَحِيحَةٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ
دَخَلَتْ عَلَى جَارَاتِهَا فَجَعَلَتْ تَقُولُ: يَا فُلاَنَةُ أَسْتَوْدِعُك
اللَّهَ، وَأَقْرَأُ عَلَيْك السَّلاَمَ فَجَعَلْنَ يَقُلْنَ لَهَا: لاَ
تَمُوتِينَ الْيَوْمَ، لاَ تَمُوتِينَ الْيَوْمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ،
فَسَأَلَ زَوْجُهَا أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ
(8/311)
لَهُ
أَبُو مُوسَى: أَيُّ امْرَأَةٍ كَانَتْ امْرَأَتُك فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا
كَانَ أَحْرَى مِنْهَا أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ الشَّهِيدَ، وَلَكِنَّهَا
فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: هِيَ كَمَا
تَقُولُ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَبُو
مُوسَى.وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ
الْكِنْدِيِّ قَالَ: كَتَبْت إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَسْأَلُهُ، عَنِ
الْمَرْأَةِ تُعْطِي مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَكَتَبَ إمَّا هِيَ
سَفِيهَةٌ أَوْ مُضَارَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا، وَأَمَّا هِيَ غَيْرُ سَفِيهَةٍ،
وَلاَ مُضَارَّةٍ فَيَجُوزُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
امْرَأَةٍ أَعْطَتْ مِنْ مَالِهَا: إنْ كَانَتْ غَيْرَ سَفِيهَةٍ، وَلاَ
مُضَارَّةٍ فَأَجِزْ عَطِيَّتَهَا. وَعَنْ رَبِيعَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُحَالُ
بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ الْقَصْدَ فِي مَالِهَا فِي حِفْظِ
رُوحٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ فِي مَوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ، إذَا لَمْ يَجُزْ
لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ مِنْ مَالِهَا شَيْئًا، كَانَ خَيْرًا لَهَا أَنْ لاَ
تُنْكَحَ، وَأَنَّهَا إذًا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الأَمَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسٍ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: تَجُوزُ عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ قَالَ: إذَا أَعْطَتْ الْمَرْأَةُ الْحَدِيثَةُ السِّنِّ ذَاتُ الزَّوْجِ
قَبْلَ السَّنَةِ عَطِيَّةً، فَلَمْ تَرْجِعْ حَتَّى تَمُوتَ، فَهُوَ جَائِزٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إذَا
أَعْطَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِهَا فِي غَيْرِ سَفَهٍ، وَلاَ ضِرَارٍ جَازَتْ
عَطِيَّتُهَا، وَإِنْ كَرِهَ زَوْجُهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ مُتَعَلِّقًا، لاَ مِنْ
الْقُرْآنِ، وَلاَ مِنْ السُّنَنِ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ
قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ أَحَدَ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ، إِلاَّ
رِوَايَةً، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا
كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ أَيْضًا تَقْسِيمُهُمْ
الْمَذْكُورُ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ
رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ كَانَ مَا ذَكَرْنَا مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ هَهُنَا
عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ رُوِّينَاهَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: جَعَلَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِلْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أَصِلَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَالَ زَوْجُهَا: هِيَ تُضَارُّنِي فَأَجَازَ لَهَا
الثُّلُثَ فِي حَيَاتِهَا. وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فِي سُجُودِهِ: {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَفِي عَشَرَاتٍ مِنْ الْقَضَايَا
وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَهُنَا: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،
وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا مُوسَى
(8/312)
الأَشْعَرِيَّ،
وَالزُّبَيْرَ، وَأَسْمَاءَ، وَجَمِيعَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَشُرَيْحًا، وَالشَّعْبِيَّ، وَالنَّخَعِيَّ، وَعَطَاءً
وطَاوُوسًا، وَمُجَاهِدًا، وَالْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ، وَعُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرَهُمْ. وَالْعَجَبُ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ عُمَرَ رضي الله
عنه فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ، وَفِي مَا يَدَّعُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِّ
فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَمِنْ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ سَنَةً، وَمِنْ
تَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
فِي الأَبَدِ وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ
وَرَجَعَ هُوَ، عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يُقَلِّدُوهُ هَهُنَا. وَهَلَّا
قَالُوا هَهُنَا: مِثْلَ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، كَمَا قَالُوهُ فِي
كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّ عُمَرَ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ أَبْطَلُوا
فِعْلَ الْمَرْأَةِ جُمْلَةً قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، أَوْ تَبْقَى فِي بَيْتِ
زَوْجِهَا سَنَةً، ثُمَّ أَجَازَ بَعْدَ ذَلِكَ جُمْلَةً وَلَمْ يَجْعَلْ
لِلزَّوْجِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَدْخَلاً، وَلاَ حَدَّ ثُلُثًا مِنْ أَقَلَّ،
وَلاَ مِنْ أَكْثَرَ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُ هَذَا
سَوَاءً سَوَاءً ; لأََنَّهُمْ قَلَّدُوا عُمَرَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، وَفِي
تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ سَنَةً، وَفِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ
النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ، فَهَلاَّ قَلَّدُوهُ هَهُنَا
وَقَالُوا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ فِي غَيْرِ
حَقِيقَةٍ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ.
قال أبو محمد: وَمَوَّهَ الْمَالِكِيُّونَ بِأَنْ قَالُوا: صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم : تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا
وَدِينِهَا قَالُوا: فَإِذَا نَكَحَهَا لِمَالِهَا فَلَهُ فِي مَالِهَا
مُتَعَلَّقٌ ; وَقَالُوا: قِسْنَاهَا عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُوصِي.
قال علي: وهذا تَحْرِيفٌ لِلسُّنَّةِ، عَنْ مَوَاضِعِهَا وَأَغَثُّ مَا يَكُونُ
مِنْ الْقِيَاسِ وَأَشَدُّهُ بُطْلاَنًا: أَمَّا الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فَلاَ
مَدْخَلَ فِيهِ لِشَيْءٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إجَازَةِ الثُّلُثِ وَإِبْطَالِ مَا
زَادَ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى مَا رُوِيَ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وطَاوُوس، وَاللَّيْثِ تَعَلُّقًا مُمَوَّهًا
أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ
الْمَرْأَةَ عَلَى الْمَرِيضِ فَهُوَ قِيَاسٌ لِلْبَاطِلِ عَلَى الْبَاطِلِ،
وَاحْتِجَاجٌ لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ فِي الْمَرِيضِ مَا
ذَهَبُوا إلَيْهِ لَكَانُوا قَدْ أَخْطَئُوا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ
الْمَرْأَةَ صَحِيحَةٌ وَإِنَّمَا احْتَاطُوا بِزَعْمِهِمْ عَلَى الْمَرِيضِ لاَ
عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيَاسُ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَرِيضِ بَاطِلٌ عِنْدَ كُلِّ
مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ لأََنَّهُمْ إنَّمَا يَقِيسُونَ الشَّيْءَ عَلَى
مِثْلِهِ لاَ عَلَى ضِدِّهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ عِلَّةَ تَجْمَعُ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ الصَّحِيحَةِ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ، وَلاَ شَبَهَ بَيْنَهُمَا أَصْلاً،
وَالْعِلَّةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إمَّا عَلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ
الْحُكْمَيْنِ، َأَمَّا عَلَى شَبَهٍ بَيْنَهُمَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ
يُمْضُونَ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِي الثُّلُثِ، وَيُبْطِلُونَ مَا زَادَ عَلَى
الثُّلُثِ، وَهَهُنَا يُبْطِلُونَ الثُّلُثَ، وَمَا زَادَ عَلَى
(8/313)
الثُّلُثِ فَقَدْ أَبْطَلُوا قِيَاسَهُمْ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ لِلْمَرْأَةِ ثُلُثًا بَعْدَ ثُلُثٍ، وَلاَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ فَجَمَعُوا فِي هَذَا الْوَجْهِ مُنَاقَضَةَ الْقِيَاسِ، وَإِبْطَالَ أَصْلِهِمْ فِي الْحِيَاطَةِ لِلزَّوْجِ ; لأََنَّهَا لاَ تَزَالُ تُعْطِي ثُلُثًا بَعْدَ ثُلُثٍ حَتَّى تُذْهِبَ الْمَالَ إِلاَّ مَا لاَ قَدْرَ لَهُ وَهَذَا تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهَا عَلَى الْمُوصِي قلنا: الْمُنَفِّذُ غَيْرُ الْمُوصِي وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا أَدْخَلْنَاهُ آنِفًا فِي قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَرِيضِ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ لِلزَّوْجِ طَرِيقًا فِي مَالِهَا إذْ قَدْ تَزَوَّجَ بِالْمَالِ فَسَنَذْكُرُ مَا يَفْسُدُ بِهِ هَذَا الْقَوْلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إثْرَ هَذَا فِي كَلاَمِنَا عَلَى مَنْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا ; لأََنَّ هَذَا الأَحْتِجَاجَ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ، لاَ لِلْمَالِكِيِّينَ، بَلْ هُوَ عَلَيْهِمْ ; لأََنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوجِبًا لِلْمَنْعِ مِنْ قَلِيلِ مَالِهَا وَكَثِيرِهِ. لَكِنْ نَسْأَلُهُمْ، عَنِ الْحُرَّةِ لَهَا زَوْجٌ عَبْدٌ، وَالْكَافِرَةِ لَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ، وَاَلَّتِي تُسْلِمُ تَحْتَ كَافِرٍ، هَلْ لِهَؤُلاَءِ مَنْعُهُنَّ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ، تَنَاقَضُوا، وَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، زَادُوا أُخْلُوقَةً. فَإِنْ قَالُوا: هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهَا مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا، وَكَانَ الثُّلُثُ قَلِيلاً قلنا: هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُمْنَعَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَثِيرِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ كَغَيْرِهَا، وَلاَ فَرْقَ وَثَانِيهَا: أَنْ نَقُولَ لَهُمْ: وَالْمَحْجُورُ السَّفِيهُ بِإِقْرَارِكُمْ إلَى مَا يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ كَمَا تُوجِبُونَ عَلَيْهِ الصَّلاَةَ. وَالصِّيَامَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَسَائِرَ الشَّرَائِعِ فَأَبِيحُوا لَهُ الثُّلُثَ أَيْضًا بِهَذَا الدَّلِيلِ السَّخِيفِ نَفْسِهِ. فَإِنْ قَالُوا: الْمَرْأَةُ لَيْسَتْ سَفِيهَةً. قلنا: فَأَطْلِقُوهَا عَلَى مَالِهَا وَدَعُوا هَذَا التَّخْلِيطَ بِمَا لاَ يُعْقَلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ فَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: إنَّهُ قَلِيلٌ وَحَسْبُكُمْ هَذَا الَّذِي نَسْتَعِيذُ اللَّهَ مِنْ مِثْلِهِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الثُّلُثَ عِنْدَكُمْ مَرَّةً كَثِيرٌ فَتَرُدُّونَهُ كَالْجَوَائِحِ، وَمَرَّةً قَلِيلٌ فَتُنْفِذُونَهُ مِثْلَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَشِبْهَهُ فَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ وَالْقَوْلُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الآرَاءِ وَخَامِسُهَا: أَنَّ حُجَّةَ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا كَحُجَّةِ الْوَلَدِ، أَوْ الْوَالِدِ، أَوْ الأَخِ، بَلْ مِيرَاثُ هَؤُلاَءِ أَكْثَرُ ; لأََنَّ الزَّوْجَ مَعَ الْوَلَدِ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الرُّبْعُ، وَلِلْوَلَدِ ثَلاَثَةُ الأَرْبَاعِ وَالْوَالِدُ وَالْوَلَدُ كَالزَّوْجِ فِي أَنَّهُمْ لاَ يَحْجُبُهُمْ أَحَدٌ، عَنِ الْمِيرَاثِ أَصْلاً، فَامْنَعُوهَا مَعَ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ، مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ بِهَذَا الأَحْتِيَاطِ الْفَاسِدِ، لاَ سِيَّمَا وَحَقُّ الأَبَوَيْنِ فِيمَا أُوجِبَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ ; لأََنَّ الأَبَوَيْنِ إنْ افْتَقَرَا قَضَوْا بِنَفَقَتِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا وَإِسْكَانِهِمَا وَخِدْمَتِهِمَا عَلَيْهَا فِي مَالِهَا أَحَبَّتْ أَمْ كَرِهَتْ، وَلاَ يَقْضُونَ لِلزَّوْجِ فِي مَالِهَا بِشَيْءٍ وَلَوْ مَاتَ جُوعًا وَبَرْدًا فَكَيْفَ احْتَاطُوا لِلأَقَلِّ حَقًّا وَلَمْ يَحْتَاطُوا لِلأَكْثَرِ حَقًّا فَلاَحَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي لاَ نَدْرِي كَيْفَ يَنْشَرِحُ صَدْرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ لِتَقْلِيدِ مَنْ أَخْطَأَ فِيهِ الْخَطَأَ الَّذِي لاَ خَفَاءَ بِهِ، وَخَالَفَ فِيهِ كُلَّ مُتَقَدِّمٍ نَعْلَمُهُ، إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
(8/314)
قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا لَيْسَ أَيْضًا فِي تَقْسِيمِهِمْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَهَا مِنْ أَنْ تُنَفِّذَ فِي مَالِهَا شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ قَالَ: الَّذِي تَسُرُّهُ إذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ . وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نُوحٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ الصَّائِغُ: لَيْسَ هُوَ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ قَالَ: لاَ تَصَدَّقُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ لَهُ الأَجْرُ. وَكَانَ عَلَيْهَا الْوِزْرُ . وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ خَطَبَ فَقَالَ: لاَ تَجُوزُ لأَمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ فِي مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ رَجُلٍ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس قَالَ الرَّجُلُ: عَنْ عِكْرِمَةَ، وَقَالَ ابْنُ طَاوُوس: عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ اتَّفَقَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَحِلُّ لأَمْرَأَةٍ شَيْءٌ فِي مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا هَذَا لَفْظُ طَاوُوس، وَلَفْظُ عِكْرِمَةَ " فِي مَالِهَا شَيْءٌ " مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا أَصْلاً وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ الآيَةِ وَالأَخْبَارِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ فَحُجَّةٌ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ، وَمُبْطِلٌ لِقَوْلِهِمْ فِي إبَاحَةِ الثُّلُثِ وَمَنْعِهِمْ مِمَّا زَادَ. فأما الْخَبَرُ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأََرْبَعٍ فَلَيْسَ فِيهِ التَّغْبِيطُ بِذَلِكَ، وَلاَ الْحَضُّ عَلَيْهِ، وَلاَ إبَاحَتُهُ فَضْلاً، عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ الزَّجْرُ، عَنْ أَنْ تُنْكَحَ لِغَيْرِ الدِّينِ لِقَوْلِهِ عليه السلام فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ فَقَصَرَ أَمْرَهُ عَلَى ذَاتِ الدِّينِ، فَصَارَ مَنْ نَكَحَ لِلْمَالِ غَيْرَ مَحْمُودٍ فِي نِيَّتِهِ تِلْكَ. ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهُ مُبَاحٌ مُسْتَحَبٌّ أَيُّ دَلِيلٍ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مَالِهَا بِكَوْنِهِ أَحَدَ الطَّمَّاعِينَ فِي مَالٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا يَحِلُّ مِنْ مَالِ جَارِهِ وَهُوَ مَا طَابَتْ لَهُ بِهِ نَفْسُهَا وَنَفْسُ جَارِهِ، وَلاَ مَزِيدَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِمَا إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ مُتَيَقَّنًا أَنَّ عَلَى الأَزْوَاجِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ ; وَكِسْوَتَهُنَّ، وَإِسْكَانَهُنَّ، وَصَدُقَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ لَهُنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ الرِّجَالِ كَمَا جَعَلَهُ لِلرِّجَالِ مِنْهُنَّ سَوَاءً سَوَاءً فَصَارَ بِيَقِينٍ مِنْ كُلِّ ذِي مَسْكَةِ عَقْلٍ حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي مَالِ زَوْجِهَا وَاجِبًا لاَزِمًا، حَلاَلاً يَوْمًا بِيَوْمٍ،
(8/315)
وَشَهْرًا
بِشَهْرٍ، وَعَامًا بِعَامٍ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَكَرَّةِ الطَّرَفِ، لاَ
تَخْلُو ذِمَّتُهُ مِنْ حَقٍّ لَهَا فِي مَالِهِ. بِخِلاَفِ مَنْعِهِ مِنْ
مَالِهَا جُمْلَةً، وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا طَابَتْ لَهُ نَفْسُهَا
بِهِ، ثُمَّ تَرْجُو مِنْ مِيرَاثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا يَرْجُو الزَّوْجُ
فِي مِيرَاثِهَا، وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلرَّجُلِ
مَنْعَهَا مِنْ مَالِهَا فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ أَوْجَبُ، وَأَحَقُّ فِي مَنْعِهِ
مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا ; لأََنَّ لَهَا شِرْكًا وَاجِبًا فِي مَالِهِ،
وَلَيْسَ لَهُ فِي مَالِهَا إِلاَّ التَّبُّ وَالزَّجْرُ، فَيَا لَلْعَجَبِ فِي
عَكْسِ الأَحْكَامِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَهَا مَنْعَهُ مِنْ
مَالِهِ خَوْفَ أَنْ يَفْتَقِرَ فَيَبْطُلُ حَقُّهَا اللَّازِمُ فَأُبْعِدَ
وَاَللَّهِ وَأُبْطِلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لَهُ مَنْعَهَا مِنْ مَالٍ
لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلاَ حَظَّ إِلاَّ حَظُّ الْفِيلِ مِنْ الطَّيَرَانِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إطْلاَقِهِمْ لَهُ الْمَنْعَ مِنْ مَالِهَا أَوْ
مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَهُوَ لَوْ مَاتَ جُوعًا، أَوْ جَهْدًا، أَوْ هُزَالاً، أَوْ
بَرْدًا، لَمْ يَقْضُوا لَهُ فِي مَالِهَا بِنَوَاةٍ يَزْدَرِدُهَا، وَلاَ
بِجِلْدٍ يَسْتَتِرُ بِهِ، فَكَيْفَ اسْتَجَازُوا هَذَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِهَذَا الْكَلاَمِ زَوْجًا
مِنْ أَبٍ، وَلاَ مِنْ أَخٍ. ثُمَّ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى الأَزْوَاجِ
دُونَ غَيْرِهِمْ لَمَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ
مَنْعَهَا مِنْ مَالِهَا، وَلاَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ
فِيهِ أَنْ يَقُومُوا بِالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِهِنَّ وَهُمْ لاَ يَجْعَلُونَ
هَذَا لِلزَّوْجِ أَصْلاً بَلْ لَهَا عِنْدَهُمْ أَنْ تُوَكِّلَ فِي النَّظَرِ فِي
مَالِهَا مَنْ شَاءَتْ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ زَوْجِهَا .
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا لاَ يَنْفُذُ عَلَيْهَا بَيْعُ زَوْجِهَا لِشَيْءٍ
مِنْ مَالِهَا لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ لاَ لِنَظَرٍ، وَلاَ لِغَيْرِهِ،
وَلاَ ابْتِيَاعِهِ لَهَا أَصْلاً فَصَارَتْ الآيَةُ مُخَالِفَةً لَهُمْ فِيمَا
يَتَأَوَّلُونَهُ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهِنَّ
وَكِسْوَتِهِنَّ عَلَيْهِمْ، فَذَاتُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجِ، وَغَيْرُ ذَاتِ
الزَّوْجِ إنْ احْتَاجَتْ عَلَى أَهْلِهَا فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ فَصَارَتْ الآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَكَاسِرَةً لِقَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ بُكَيْرٍ رَوَاهُ، عَنِ
اللَّيْثِ وَهُوَ أَوْثَقُ النَّاسِ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ فِيهِ: وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ .
وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَا
عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا ابْنُ
عَجْلاَنَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَيْرِ النِّسَاءِ
قَالَ: الَّتِي تُطِيعُ إذَا أَمَرَ، وَتَسُرُّ إذَا نَظَرَ، وَتَحْفَظُهُ فِي
نَفْسِهَا وَمَالِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ وَمَالِهَا دُونَ مُعَارِضٍ لَمَا كَانَ
لَهُمْ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ مُتَعَلَّقٌ ; لأََنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا
فِيهِ النَّدْبُ فَقَطْ لاَ الإِيجَابُ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ،
وَالْمَنْعُ مِنْ الصَّدَقَةِ،
(8/316)
وَفِعْلِ
الْخَيْرِ لَيْسَ طَاعَةً، بَلْ هُوَ صَدٌّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ: فَهَالِكٌ ; لأََنَّ فِيهِ مُوسَى بْنَ أَعْيَنَ
وَهُوَ مَجْهُولٌ وَلَيْثَ بْنَ أَبِي سُلَيْمٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَمَّا
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: فَصَحِيفَةٌ مُنْقَطِعَةٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَكَانَ مَنْسُوخًا بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا خَبَرُ طَاوُوس، وَعِكْرِمَةَ فَمُرْسَلاَنِ
فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ فَالتَّحْدِيدُ
الْوَارِدُ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَمَنْ اتَّبَعَهُ فِي أَنْ لاَ يَجُوزَ
لَهَا عَطِيَّةٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَلِدَ. أَوْ تَبْقَى فِي بَيْتِ زَوْجِهَا
سَنَةً، فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَإِنَّمَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّجُوعَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى
الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، لاَ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. قَالَ عَلِيٌّ: فَبَطَلَتْ الأَقْوَالُ كُلُّهَا إِلاَّ
قَوْلُنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَمِنْ الْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا: قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} فَبَطَلَ
بِهَذَا مَنْعُهَا مِنْ مَالِهَا طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لِلْمَانِعِ
بِالْمِيرَاثِ أَبًا كَانَ، أَوْ زَوْجًا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى
{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} فَلَمْ يُفَرِّقْ
عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الرِّجَالِ فِي الْحَضِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ
امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، وَلاَ بَيْنَ ذَاتِ أَبٍ بِكْرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَاتِ أَبٍ
ثَيِّبٍ، وَلاَ بَيْنَ ذَاتِ زَوْجٍ. وَلاَ أَرْمَلَةٍ فَكَانَ التَّفْرِيقُ
بَيْنَ ذَلِكَ بَاطِلاً مُتَيَقَّنًا، وَظُلْمًا ظَاهِرًا مِمَّنْ قَامَتْ
الْحُجَّةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقَلَّدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَسْمَاءَ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهَا إذْنَ الزُّبَيْرِ،
وَلاَ ثُلُثًا فَمَا دُونَ فَمَا فَوْقَ، بَلْ قَالَ لَهَا: ارْضَخِي مَا
اسْتَطَعْتِ، وَلاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ سَمِعْت عَطَاءً قَالَ: سَمِعْت
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ
النِّسَاءَ فَأَتَاهُنَّ فَذَكَّرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ
بِالصَّدَقَةِ وَبِلاَلٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي:
الْخَاتَمَ، وَالْخُرْصَ، وَالشَّيْءَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ،
حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَخْرُجَ فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ
الْخُدُورِ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
(8/317)
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا، وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ فَهَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ بِالصَّدَقَةِ عُمُومًا. نَعَمْ، وَجَاءَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، وَفِيهِنَّ الْعَوَاتِقُ الْمُخَدَّرَاتُ ذَوَاتُ الآبَاءِ وَذَوَاتُ الأَزْوَاجِ " فَمَا خَصَّ مِنْهُنَّ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَفِيهِنَّ الْمُقِلَّةُ، وَالْغَنِيَّةُ فَمَا خَصَّ مِقْدَارًا دُونَ مِقْدَارٍ، وَهَذَا آخِرُ فِعْلِهِ عليه السلام، وَبِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَآثَارٌ ثَابِتَةٌ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
(8/318)
للمرأة
حق زائد وهو أن لها أن تتصدق من مال زوجها أحب أم كره وبغير إذنه غير مفسدة شيئا
ولا يجوز للزوج أن يتصدق من مال إمرأته بشيء أصلا إلا بإذنها
...
1397 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمَرْأَةِ حَقٌّ زَائِدٌ، وَهُوَ أَنَّ لَهَا أَنْ
تَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَبِغَيْرِ إذْنِهِ غَيْرَ
مُفْسِدَةٍ، وَهِيَ مَأْجُورَةٌ بِذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ
مِنْ مَالِهَا بِشَيْءٍ أَصْلاً إِلاَّ بِإِذْنِهَا،
قَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَبَطَلَ بِهَذَا
حُكْمُ أَحَدٍ فِي مَالِ غَيْرِهِ. ثُمَّ وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا
خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا
ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الْبَابِ
الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ تَصُمْ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ، وَلاَ. تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،
وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ
لَهُ . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إذَا
أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهُ
أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلَهَا مِثْلُهُ بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ
ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا تَصَدَّقَتْ
الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا أَجْرٌ وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ
ذَلِكَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا .
قال أبو محمد: أَبُو وَائِلٍ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَدْرَكَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا أَيْضًا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْجُهَّالِ فِي هَذِهِ الآثَارِ الْقَوِيَّةِ بِرِوَايَةٍ
تُشْبِهُهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
" لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ
إذْنِهِ " وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ ; لأََنَّهُ لاَ يَصِحُّ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ لِضَعْفِ الْعَرْزَمِيِّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَلاَ يُعَارِضُ قَوْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْيِ مَنْ دُونَهُ إِلاَّ فَاسِقٌ فَإِنْ
قَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ رَوَى هَذَا وَهُوَ تَرَكَهُ قلنا: قَدْ مَضَى
الْجَوَابُ، وَإِنَّمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْنَا الأَنْقِيَادُ لِمَا صَحَّ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ لِلْبَاطِلِ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ
(8/318)
عَمَّنْ
دُونَهُ، نَعَمْ، وَلاَ لِمَا صَحَّ عَمَّنْ دُونَهُ، وَالْحُجَّةُ فِي رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ فِي رَأْيِهِ، وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَمَّا تَنَاقَضُوا فِي
هَذَا الْمَكَانِ بَابًا ضَخْمًا فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ غَيْرِ أَبِي
هُرَيْرَةَ الْقَوْلُ بِهَذَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ امْرَأَتِهِ: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ هَلْ تَتَصَدَّقُ الْمَرْأَةُ مِنْ
بَيْتِ زَوْجِهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نَعَمْ، مَا لَمْ تَقِ مَالَهَا بِمَالِهِ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ " سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: لاَ تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ
زَوْجِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الطَّعَامَ قَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ
أَمْوَالِنَا . وَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ مَا يَحِلُّ مِنْ أَمْوَالِ أَزْوَاجِهِنَّ قَالَ: الرُّطَبُ
تَأْكُلِينَهُ وَتُهْدِينَهُ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ زِيَادٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ: إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ " الرَّطْبُ " بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَفِي الأَوَّلِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ.
قال أبو محمد : فَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ، حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ وَهُوَ
مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، لاَ يُعَارَضُ بِمِثْلِهِ الثَّابِتِ مِنْ
طَرِيقِ أَسْمَاءَ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُمْ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبَّادِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ، وَمَسْرُوقٍ،
وَشَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَالأَعْرَجِ، وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، هَذَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فِي أَعْلاَمٍ مَشَاهِيرَ
بِمِثْلِ هَذَا السُّقُوطِ وَالضَّعْفِ الَّذِي لَوْ انْفَرَدَ، عَنْ مُعَارِضٍ
لَمْ يَحِلَّ الأَخْذُ بِهِ. وَالآخَرَانِ مُرْسَلاَنِ، عَلَى أَنَّ فِيهِمَا
خِلاَفًا لِقَوْلِ الْمُخَالِفِ، لأََنَّ فِيهِ إبَاحَةَ الرُّطَبِ جُمْلَةً،
وَقَدْ تَعْظُمُ قِيمَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَتْ مَرَاسِيلُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا
بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
صَاحِبَتِي تَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِي، وَتُطْعِمُ مِنْ طَعَامِي قَالَ: أَنْتُمَا
شَرِيكَانِ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَهَيْتَهَا، عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لَهَا مَا
نَوَتْ وَلَكَ مَا بَخِلْتَ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً
قَالَتْ لَهُ آخُذُ مِنْ مَالِ زَوْجِي فَأَتَصَدَّقُ بِهِ قَالَ: الْخُبْزُ
وَالتَّمْرُ، قَالَتْ: فَدَرَاهِمُهُ قَالَ: أَتُحِبِّينَ أَنْ يَتَصَدَّقَ
عَلَيْكِ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَلاَ تَأْخُذِي دَرَاهِمَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
أَوْ نَحْوُ هَذَا. قَالَ عَلِيٌّ: يَكْفِي مِنْ هَذَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم " غَيْرَ مُفْسِدَةٍ "
(8/319)
فَهَذَا يَجْمَعُ الْبَيَانَ كُلَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/320)
العبد
في جواز صدقته وهبته وبيعه وشركائه كالحر والأمة كالحرة مالم ينزع سيدها مالها
...
1398 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَبْدُ فِي جَوَازِ صَدَقَتِهِ، وَهِبَتِهِ، وَبَيْعِهِ،
وَشِرَائِهِ كَالْحُرِّ، وَالأَمَةِ كَالْحُرَّةِ مَا لَمْ يَنْتَزِعْ
سَيِّدُهُمَا مَالَهُمَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالصَّدَقَةِ، وَأَمْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَا. وَقَوْله تَعَالَى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ، وَلاَ
أَوْلاَدُكُمْ، عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ
الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ، وَالأَمَةَ
مُخَاطَبَانِ بِالإِسْلاَمِ وَشَرَائِعِهِ، مُلْزَمَانِ بِتَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمَا،
وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، مُوعَدَانِ
بِالْجَنَّةِ، مُتَوَعَّدَانِ بِالنَّارِ كَالأَحْرَارِ، وَلاَ فَرْقَ،
فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا خَطَأٌ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِالْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَفُحْشُ اضْطِرَابِهِمْ هَهُنَا وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ أَبَاحُوا التَّسَرِّي بِإِذْنِ مَوْلاَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ: وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي
أَنَّ الْعَبْدَ إنْ وَطِئَ أَمَةَ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ زَانٍ فَيُقَالُ
لِلْمَالِكِيِّينَ: لاَ تَخْلُو هَذِهِ السُّرِّيَّةُ الَّتِي أَبَحْتُمْ فَرْجَهَا
لِلْعَبْدِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكَ يَمِينِهِ، فَهَذَا قَوْلُنَا، فَقَدْ صَحَّ
مِلْكُهُ لِمَالِهِ، وَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ أَوْ تَكُونَ لَيْسَتْ مِلْكَ
يَمِينِهِ وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكُ يَمِينِ سَيِّدِهِ، فَهُوَ زَانٍ عَادٍ، وَهَذَا
مَا لاَ مَخْرَجَ مِنْهُ، وَإِذَا مَلَكَهَا فَقَدْ مَلَكَ بِلاَ شَكٍّ ثَمَنَهَا
الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ، وَاَلَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَأَمَرَ تَعَالَى
بِإِعْطَاءِ الأَمَةِ صَدَاقَهَا، وَجَعَلَهُ مِلْكًا لَهَا، وَحَقًّا لَهَا، وَاَللَّهُ
تَعَالَى لاَ يَأْمُرُ بِأَنْ يُعْطِيَ أَحَدٌ مَالَ غَيْرِهِ. فَصَحَّ أَنَّهُنَّ
مَالِكَاتٌ كَسَائِرِ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ، وَلاَ فَرْقَ وَأَمَّا
الْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ، فَقَالُوا: لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ أَصْلاً،
وَلَمْ يُبِيحُوا لَهُ التَّسَرِّيَ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيِّينَ تَنَاقَضُوا
أَيْضًا ; لأََنَّهُمْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ نَفَقَةَ زَوْجِهِ وَكِسْوَتَهَا،
فَلَوْلاَ أَنَّهُ يَمْلِكُ لَمَا جَازَ أَنْ يَلْزَمَ غَرَامَةَ نَفَقَةِ
وَكِسْوَةِ مَنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ، وَلاَ مَنْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ
يَمْلِكَ.
(8/320)
وَأَمَّا
الْحَنَفِيُّونَ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهِ نَفَقَةً أَصْلاً، لَكِنْ جَعَلُوهُ
بِزَوَاجِهِ جَانِيًا جِنَايَةً تُوجِبُ أَنْ يُقْضَى بِرَقَبَتِهِ لِزَوْجَتِهِ
فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ إذَا مَلَكَتْهُ فَهَلْ سُمِعَ بِأَبْرَدَ مِنْ هَذِهِ
الْوَسَاوِسِ الْمُضَادَّةِ لأََحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَعْقُولِ
بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مِنْ مِلْكِ الْعَبْدِ بِأَنْ
ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ}.
قال أبو محمد: وَقَالُوا: الْعَبْدُ لاَ يَرِثُ، وَلاَ يُوَرَّثُ. فَصَحَّ أَنَّهُ
لاَ يَمْلِكُ وَقَالُوا: الْعَبْدُ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ
شَيْئًا غَيْرَ هَذَا أَصْلاً كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ: أَمَّا قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ فَلاَ حُجَّةُ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ
اللَّهُ تَعَالَى إنَّ هَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ
مِنْ الْمَمَالِيكِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} فَهَلْ
يَجِبُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ، هَذِهِ صِفَةَ كُلِّ أَبْكَمَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ
الأَبْكَمُ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا هَذَا مَا لاَ يَقُولُونَهُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
وُرُودِ الآيَتَيْنِ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي الأَحْرَارِ، وَفِي
الْعَبِيدِ مَنْ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا الْعِدْل ;، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ،
وَلَيْسَ كُلُّهُمْ كَذَلِكَ وَالثَّانِي هُوَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَ فِيهَا
نَصٌّ، وَلاَ دَلِيلَ، وَلاَ إشَارَةَ عَلَى ذِكْرِ مِلْكٍ، وَلاَ مَالٍ،
وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّمَا فِيهَا نَفْيُ
الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ فَقَطْ، إمَّا بِضَعْفٍ وَأَمَّا بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إذَا أَسْقَطُوا مِلْكَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ
فَأَحْرَى بِهِمْ أَنْ يُسْقِطُوا عَنْهُ بِهَا الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ ;
لأََنَّهُمَا شَيْئَانِ وَفِيهَا أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَوَضَحَ
فَسَادُ تَعَلُّقِهِمْ بِهَا جُمْلَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لاَ يَرِثُ، وَلاَ يُوَرَّثُ، فَنَعَمْ ;
لأََنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
لاَ يَمْلِكُ وَالْعَمَّةُ لاَ تَرِثُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهَا
لاَ تَمْلِكُ وَيَخُصُّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمِيرَاثِ مَنْ شَاءَ كَمَا قَالَ
تَعَالَى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُُنْثَيَيْنِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلاَبِكُمْ} فَدَخَلَ فِي هَذَا بَنُو الْبَنَاتِ وَخَرَجُوا مِنْ الأُُولَى،
لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا لَنَا أَوْلاَدًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْعَبْدُ سِلْعَةٌ، فَنَعَمْ، فَكَانَ مَاذَا إنْ كَانُوا
مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِلْعَةٌ جَعَلُوهُ لاَ يَمْلِكُ لِيُسْقِطُوا عَنْهُ
الصَّلاَةَ، وَالطَّهَارَةَ، وَالصَّوْمَ، وَالْحُدُودَ ; لأََنَّ السِّلَعَ لاَ
يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: يَكْفِي مِنْ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَقَدْ وَعَدَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى بِالْغِنَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى جَائِزَانِ عَلَى
الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالْفَقْرِ إِلاَّ مَنْ
يَمْلِكُ
(8/321)
فَيَعْدَمُ
مَرَّةً وَيَسْتَغْنِي أُخْرَى، وَأَمَّا مَنْ لاَ يَمْلِكُ أَصْلاً فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُوصَفَ بِفَقْرٍ، وَلاَ بِغِنًى، كَالإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالسِّبَاعِ،
وَالْجَمَادَاتِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَالْقُرْآنُ، وَالسُّنَنُ فِي أَكْثَرِ
عُهُودِهِمَا شَاهِدُ كُلِّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ قَوْلِنَا هَهُنَا، إذْ لَمْ يَأْتِ
فَرْقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَوَامِرِ بِالْفَرْقِ فِي الأَمْوَالِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا
لِمَالِهِ لَمْ يُجِبْ عليه السلام دَعْوَتَهُ، وَقَدْ قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ
وَهُوَ مَمْلُوكٌ وَأَكَلَهَا عليه السلام: كَمَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَرَّاسٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ
النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى
بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ
لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ مِنْ فِيهِ
قَالَ: كُنْت مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ وَاجْتَهَدْت فِي الْمَجُوسِيَّةِ ثُمَّ
ذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَأَنَّهُ عَامَلَ رَكْبًا مِنْ كَلْبٍ عَلَى أَنْ
يَحْمِلُوهُ إلَى أَرْضِهِمْ، قَالَ: فَظَلَمُونِي فَبَاعُونِي عَبْدًا مِنْ
رَجُلٍ يَهُودِيٍّ، ثُمَّ بَاعَهُ ذَلِكَ الْيَهُودِيُّ مِنْ يَهُودِيٍّ مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ قُدُومَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَيْتُ جَمَعْتُ مَا كَانَ عِنْدِي ثُمَّ
خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقِبَا
وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ: كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ وَضَعْتُهُ
لِلصَّدَقَةِ، رَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ فَجِئْتُكُمْ بِهِ، فَقَالَ
عليه السلام: كُلُوا، وَأَمْسَكَ هُوَ ثُمَّ تَحَوَّلَ عليه السلام إلَى
الْمَدِينَةِ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ:
رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَكَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أُحِبُّ أَنْ
أُكْرِمَكَ بِهِ هَدِيَّةً فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ أَسْلَمْتُ ثُمَّ
شَغَلَنِي الرِّقُّ حَتَّى فَاتَنِي بَدْرٌ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم كَاتِبْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ: فَقَدْ أَجَازَ عليه السلام
صَدَقَةَ الْعَبْدِ، وَهَدِيَّتَهُ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. نَعَمْ، وَأَجَازَهَا مَعَهُ عليه السلام الْحَاضِرُونَ
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ أَصْلاً. وَاحْتَجَّ
بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ
هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ
فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ; لأََنَّنَا لَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي
أَنَّ عَبِيدَنَا لاَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا، وَلاَ هُمْ شُرَكَاءُ لَنَا
فِيهَا، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُمْ: هَلْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَهُمْ وَكَسْبَهُمْ
أَمْ لاَ .
قال أبو محمد: وَأَمَّا انْتِزَاعُ السَّيِّدِ مَالَ عَبْدِهِ فَمُبَاحٌ، قَدْ
جَاءَتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ فِي الْغُلاَمِ الَّذِي حَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَرَاجِهِ
فَأُخْبِرَ، فَأَمَرَ عليه
(8/322)
السلام بِأَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ. فَصَحَّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَ كَسْبِ عَبْدِهِ، فَإِذَا قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ انْتَزَعْت كَسْبَك فَقَدْ سَقَطَ مِلْكُ الْعَبْدِ عَنْهُ وَصَارَ لِلسَّيِّدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/323)
بيان
أن من لم يبلغ أو بلغ ولا هو يميز ولا يعقل أو ذهب تمييزه بعد أن بلغ مميزا غير
مخاطب ولا ينفذ لهم أمر في شيء من مالهم
...
1399 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، أَوْ بَلَغَ وَهُوَ لاَ
يُمَيِّزُ، وَلاَ يَعْقِلُ أَوْ ذَهَبَ تَمْيِيزُهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ
مُمَيِّزًا: فَهَؤُلاَءِ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ، وَلاَ يَنْفُذُ لَهُمْ أَمْرٌ فِي
شَيْءٍ مِنْ مَالِهِمْ
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : رُفِعَ
الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ، فَذَكَرَ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَالْمَجْنُونَ
حَتَّى يَبْرَأَ . فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ يُفِيقُ تَارَةً وَيَعْقِلُ،
وَيُجَنُّ أُخْرَى: جَازَ فِعْلُهُ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي يُفِيقُ فِيهَا،
وَبَطَلَ فِعْلُهُ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي يُجَنُّ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا
وَلأََنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي سَاعَاتِ عَقْلِهِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فِي سَاعَاتِ
جُنُونِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ مَالُهُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، فَسَوَاءٌ
كَانَ عَلَيْهِ وَصِيٌّ مِنْ أَبٍ أَوْ مِنْ قَاضٍ كُلُّ مَنْ نَظَرَ لَهُ نَظَرًا
حَسَنًا فِي بَيْعٍ أَوْ ابْتِيَاعٍ، أَوْ عَمَلٍ مَا: فَهُوَ نَافِذٌ لاَزِمٌ لاَ
يُرَدُّ، وَإِنْ أَنْفَذَ عَلَيْهِ الْوَصِيُّ مَا لَيْسَ نَظَرًا لَمْ يَجُزْ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}
وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { إنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . وَقَوْله تَعَالَى
{الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} بَعْضٍ وَلِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ
يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ فَهُوَ وَلِيٌّ
لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُ بِالأَحْوَطِ
وَبِالْقِيَامِ لَهُ بِالْقِسْطِ، وَبِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ;
فَكُلُّ بِرٍّ وَتَقْوَى أَنْفَذَهُ الْمُسْلِمُ لِلصَّغِيرِ، وَاَلَّذِي لاَ
يَعْقِلُ فَهُوَ نَافِذٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ
بِإِفْرَادِ الْوَصِيِّ بِذَلِكَ وَرَدَ مَا سِوَاهُ. فإن قيل: فَأَجِيزُوا هَذَا
فِي الصَّغِيرِ الَّذِي لَهُ أَبٌ قلنا: نَعَمْ، هَكَذَا نَقُولُ، وَلَوْ أَنَّ
أَبَاهُ يُسِيءُ لَهُ النَّظَرَ لَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا:
فَأَجِيزُوا هَذَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذَا اللَّيْلِ
نَفْسِهِ قلنا: مَنَعَنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَالْمُخَاطَبُ الْمُكَلَّفُ الْمُتَمَلِّكُ
مَالَهُ لاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يَكْسِبَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَنْ
لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَلاَ مُكَلَّفًا، وَلاَ مُمَلَّكًا مَالَهُ فَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ
غَيْرَهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِصْلاَحِ مَالِهِ، فَمَنْ سَارَعَ إلَى مَا أُمِرَ
بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقُّهُ، وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ الَّذِي يُضَيِّعُ
مَالَهُ، فَكُلُّ مَنْ سَبَقَ إلَى حُسْنِ النَّظَرِ فِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ، إِلاَّ
فِيمَا يُمْنَعُ مِنْهُ إذَا قُدِّمَ وَكَانَ لاَ ضَرَرَ فِي تَرْكِ إنْفَاذِهِ
فَهَذَا لَيْسَ لأََحَدٍ إنْفَاذُهُ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/323)
1400-
مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَيْءٌ مِنْ
مَالِهِ، وَلاَ نَفَقَةُ يَوْمٍ
فَضْلاً، عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَا يَأْكُلُ فِي وَقْتِهِ، وَمَا يَلْبَسُ لِطَرْدِ
الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِنْ لِبَاسِ مِثْلِهِ، وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ
ذَلِكَ.
(8/324)
من
باع ما وجب بيعه لصغير أو لمحجور غير مميز أو لمفلس أو لغائب بحق أو اتباع لهم ما
وجب ابتياعه أو باع في وصية الميت إلخ فهو سواء كما لو ابتاع لهم من غيره
...
1401 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ مَا وَجَبَ بَيْعُهُ لِصَغِيرٍ، أَوْ لِمَحْجُورٍ
غَيْرِ مُمَيِّزٍ، أَوْ لِمُفْلِسٍ، أَوْ لِغَائِبٍ بِحَقٍّ، أَوْ ابْتَاعَ لَهُمْ
مَا وَجَبَ ابْتِيَاعُهُ، أَوْ بَاعَ فِي وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، أَوْ ابْتَاعَ
مِنْ نَفْسِهِ لِلْمَحْجُورِ، أَوْ لِلصَّغِيرِ، أَوْ لِغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ
أَوْ لِلْغَائِبِ، أَوْ بَاعَ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ سَوَاءٌ، كَمَا لَوْ
ابْتَاعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ بَاعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ،
إنْ لَمْ يُحَابِ نَفْسَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا غَيْرَهُ -:
جَازَ، وَإِنْ حَابَى نَفْسَهُ، أَوْ غَيْرَهُ: بَطَلَ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ
بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، فَإِذَا فَعَلَ مَا
أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَإِذْ هُوَ مُحْسِنٌ، فَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ بِالْمَنْعِ مِنْ
ابْتِيَاعٍ مِمَّنْ يَنْظُرُ لَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِي لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ؟
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ -: كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ
بْنِ زُفَرَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى فَرَسٍ، فَقَالَ:
إنَّ عَمِّي أَوْصَى إلَيَّ بِتَرِكَتِهِ وَهَذَا مِنْهَا أَفَأَشْتَرِيه ؟ قَالَ:
لَا، وَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا قُلْنَا: قَدْ رُوِّينَا مَا
حَدَّثَنَاهُ . أَبُو سَعِيدٍ الْجَعْفَرِيُّ قَالَ: نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِي نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ
النَّحْوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ غُلَيْبِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ
عَدِيٍّ نا أَبُو الأَُحْوَصِ نا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ يَرْفَا مَوْلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَنْزَلْت مَالَ اللَّهِ تَعَالَى مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
مَالِ الْيَتِيمِ، إنْ احْتَجْت إلَيْهِ أَخَذْت مِنْهُ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ
قَضَيْت . فَهَذَا عُمَرُ لَا يُنْكِرُ الِاسْتِقْرَاضَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ .
وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَخْذِ مَالِ
الْيَتِيمِ قَرْضًا وَرَدِّ مِثْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ
بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَقِيمَتِهِ وَإِعْطَاءِ مِثْلِهِ نَقْدًا . فَإِنْ قَالُوا:
يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ ؟ قُلْنَا: وَيُتَّهَمُ أَيْضًا أَنَّهُ يُدَلِّسُ أَيْضًا
فِيمَا يَبْتَاعُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَبِيعُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَأْكُلُ
وَيَخُونُ فِي الأَُمْرَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ اسْتَجَازَ عَيْنَ
الْوَصِيَّةِ وَمَنْ فِي وِلَايَتِهِ فِيمَا يَبْتَاعُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ
مَا يَشْتَرِي مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَجِيزَ ذَلِكَ فِيمَا
يَبْتَاعُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَبِيعُ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ - وَمَا جَعَلَ
اللَّهُ قَطُّ بَيْنَ الأَُمْرَيْنِ فَرْقًا يُعْقَلُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَا يَبْتَاعُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ شَيْئًا - وَرُوِيَ هَذَا عَنِ
الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّةً أُخْرَى: إنْ ابْتَاعَ مِنْهُ
بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ جَازَ وَأَمَّا بِالْقِيمَةِ فَأَقَلَّ فَلَا -
وَقَالَ مَالِكٌ يُحْمَلُ إلَى السُّوقِ فَإِنْ بَلَغَ أَكْثَرَ بَطَلَ عَقْدُهُ،
وَإِلَّا فَهُوَ لَهُ لَازِمٌ . وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ هَذَا وَأَجَازُوا
أَنْ يَرْهَنَ عَنْ نَفْسِهِ مَالَ يَتِيمِهِ، وَأَبَاحَ الْمَالِكِيُّونَ أَنْ
يُعْتِقَ عَبْدَ يَتِيمِهِ - وَهَذَا
(8/324)
تَنَاقُضٌ وَعَكْسٌ لِلْحَقَائِقِ . وَقَالَ بِقَوْلِنَا أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَعَلَى، كُلِّ حَالٍ قَدْ خَالَفُوا ابْنَ مَسْعُودٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
(8/325)
استدراك
ما تقدم
...
1402 - مَسْأَلَةٌ: مُسْتَدْرَكَةٌ:
وَلاَ يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ مَنْ إلَى نَظَرِهِ
مُطَارَفَةً، لَكِنْ إنْ احْتَاجَ اسْتَأْجَرَهُ لَهُ الْحَاكِمُ بِأُجْرَةٍ
مِثْلِ عَمَلِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ
كَانَ فَقِيرًا فَلِيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قلنا: قَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:
إنَّ هَذَا الأَكْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، لاَ فِي
مَالِ الْيَتِيمِ وَهُوَ الأَظْهَرُ ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} فَهِيَ حَرَامٌ أَشَدُّ التَّحْرِيمِ
إِلاَّ عَلَى سَبِيلِ الأُُجْرَةِ أَوْ الْبَيْعِ اللَّذَيْنِ أَبَاحَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/325)
كتاب
الاكراه
تقسيم الاكراه إلى قسمين
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الإِكْرَاهِ
1403 - مَسْأَلَةٌ: الإِكْرَاهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
إكْرَاهٌ عَلَى كَلاَمٍ، وَإِكْرَاهٌ عَلَى فِعْلٍ: فَالإِكْرَاهُ عَلَى
الْكَلاَمِ لاَ يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالَهُ الْمُكْرَهُ، كَالْكُفْرِ،
وَالْقَذْفِ، وَالإِقْرَارِ، وَالنِّكَاحِ، وَالإِنْكَاحِ، وَالرَّجْعَةِ،
وَالطَّلاَقِ، وَالْبَيْعِ، وَالأَبْتِيَاعِ، وَالنَّذْرِ، وَالإِيمَانِ،
وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَإِكْرَاهِ الذِّمِّيِّ الْكِتَابِيِّ عَلَى
الإِيمَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ فِي قَوْلِهِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ
إنَّمَا هُوَ حَاكٍ لِلَّفْظِ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى
الْحَاكِي بِلاَ خِلاَفٍ وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَقَدْ تَنَاقَضَ
قَوْلُهُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أُكْرِهَ
عَلَى قَوْلٍ وَلَمْ يَنْوِهِ مُخْتَارًا لَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ.
وَالإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا كُلُّ مَا
تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، كَالأَكْلِ
(8/329)
وَالشُّرْبِ فَهَذَا يُبِيحُهُ الإِكْرَاهُ ; لأََنَّ الإِكْرَاهَ ضَرُورَةٌ، فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ; لأََنَّهُ أَتَى مُبَاحًا لَهُ إتْيَانُهُ. وَالثَّانِي مَا لاَ تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، كَالْقَتْلِ، وَالْجِرَاحِ، وَالضَّرْبِ، وَإِفْسَادِ الْمَالِ، فَهَذَا لاَ يُبِيحُهُ الإِكْرَاهُ، فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْقَوَدُ وَالضَّمَانُ ; لأََنَّهُ أَتَى مُحَرَّمًا عَلَيْهِ إتْيَانُهُ. وَالإِكْرَاهُ: هُوَ كُلُّ مَا سُمِّيَ فِي اللُّغَةِ إكْرَاهًا، وَعُرِفَ بِالْحِسِّ أَنَّهُ إكْرَاهٌ كَالْوَعِيدِ بِالْقَتْلِ مِمَّنْ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ إنْفَاذُ مَا تَوَعَّدَ بِهِ، وَالْوَعِيدُ بِالضَّرْبِ كَذَلِكَ أَوْ الْوَعِيدُ بِالسَّجْنِ كَذَلِكَ، أَوْ الْوَعِيدُ بِإِفْسَادِ الْمَالِ كَذَلِكَ، أَوْ الْوَعِيدُ فِي مُسَلِّمٍ غَيْرَهُ بِقَتْلٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ سَجْنٍ، أَوْ إفْسَادِ مَالٍ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ .
(8/330)
من
أكره على شرب لاخمر أو أكل الخنزير إلخ فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لا حد
ولا ضمان
...
1404 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَكْلِ
الْخِنْزِيرِ، أَوْ الْمَيْتَةِ، أَوْ الدَّمِ، أَوْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ
أَكْلِ مَالِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ: فَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ،
وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ، وَلاَ ضَمَانَ،
لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}. وَقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ} . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ
اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لأَِثْمٍ}. فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ
عَلَى أَكْلِ مَالِ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ;
لأََنَّ هَكَذَا هُوَ حُكْمُ الْمُضْطَرِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ
فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا أَكَلَ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فإن قيل: فَهَلاَّ أَبَحْتُمْ قَتْلَ النَّفْسِ لِلْمُكْرَهِ،
وَالزِّنَى، وَالْجِرَاحَ، وَالضَّرْبَ، وَإِفْسَادَ الْمَالِ بِهَذَا الأَسْتِدْلاَلِ
قلنا: لأََنَّ النَّصَّ لَمْ يُبِحْ لَهُ قَطُّ أَنْ يَدْفَعَ، عَنْ نَفْسِهِ
ظُلْمًا بِظُلْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الظَّالِمِ أَوْ قِتَالُهُ لقوله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ رَأَى
مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلِيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ
الإِيمَانِ ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ شَيْءٌ. فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ
يُبِحْ لَهُ قَطُّ الْعَوْنَ عَلَى الظُّلْمِ لاَ لِضَرُورَةٍ، وَلاَ لِغَيْرِهَا
وَإِنَّمَا فَسَّحَ لَهُ إنْ عَجَزَ فِي أَنْ لاَ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ، وَلاَ
بِلِسَانِهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِقَلْبِهِ، وَلاَ بُدَّ،
وَالصَّبْرُ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، وَأُبِيحَ لَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ: الأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/330)
1405
- مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ أُمْسِكَتْ امْرَأَةٌ حَتَّى زَنَى بِهَا، أَوْ أُمْسِكَ
رَجُلٌ فَأُدْخِلَ إحْلِيلُهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ
عَلَيْهَا، سَوَاءٌ انْتَشَرَ أَوْ لَمْ يَنْتَشِرْ،
أَمْنَى أَوْ لَمْ يُمْنِ، أَنْزَلَتْ هِيَ أَوْ لَمْ تُنْزِلْ ; لأََنَّهُمَا
لَمْ يَفْعَلاَ شَيْئًا أَصْلاً وَالأَنْتِشَارُ وَالإِمْنَاءُ فِعْلُ
الطَّبِيعَةِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْءِ أَحَبَّ أَمْ
كَرِهَ لاَ اخْتِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
(8/331)
من
كان في سبيل معصية كسفر لا يحل أو قتال لا يحل فلم يجد شيئا يأكله إلا الميتة أو
الدم أو خنزير إلخ لم يحل له أكله إلا حتى يتوب
...
1406 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي سَبِيلِ مَعْصِيَةٍ كَسَفَرٍ لاَ يَحِلُّ،
أَوْ قِتَالٍ لاَ يَحِلُّ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَأْكُلُ إِلاَّ الْمَيْتَةَ،
أَوْ الدَّمَ، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ لَحْمَ سَبُعٍ أَوْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ
عَلَيْهِ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ إِلاَّ حَتَّى يَتُوبَ،
فَإِنْ تَابَ فَلِيَأْكُلْ حَلاَلاً، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِنْ أَكَلَ أَكَلَ
حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال مالك: يَأْكُلُ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ بِلاَ كُلْفَةٍ ; لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي حَالٍ يَكُونُ فِيهَا غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لأَِثْمٍ، وَلاَ بَاغِيًا، وَلاَ عَادِيًا، وَأَكْلُهُ ذَلِكَ عَوْنٌ
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَقُوَّةٌ لَهُ عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَفَسَادِ
السَّبِيلِ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا. فَقَالُوا مَعْنَى
قوله تعالى: غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ أَيْ غَيْرَ بَاغٍ فِي الأَكْلِ، وَلاَ
عَادٍ فِيهِ .فَقُلْنَا: هَذَا الْبَاطِلُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِزِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِلاَ بُرْهَانٍ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ، أَصْلاً
لأََنَّهُ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَإِنْ قَالُوا قَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فَهُوَ إنْ لَمْ يَأْكُلْ قَاتِلٌ
نَفْسَهُ .فَقُلْنَا: قَوْلُ اللَّهِ حَقٌّ، وَمَا أَمَرْنَاهُ قَطُّ بِقَتْلِ
نَفْسِهِ بَلْ قلنا لَهُ: افْعَلْ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك مِنْ
التَّوْبَةِ، وَاتْرُكْ مَا حَرَّمَ عَلَيْك مِنْ السَّعْيِ فِي الأَرْضِ
بِالْفَسَادِ، وَالْبَغْيِ، وَكُلْ فِي الْوَقْتِ حَلاَلاً طَيِّبًا، فَإِنْ
أَضَفْتُمْ إلَى خِلاَفِكُمْ الْقُرْآنَ الإِبَاحَةَ لَهُ أَنْ لاَ يَتُوبَ،
وَأَمْرَهُ بِأَنْ يُصِرَّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَمَا أَرَدْنَا
مِنْكُمْ إِلاَّ أَقَلَّ مِنْ هَذَا وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: لاَ يَلْزَمُ
الإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلاَ عَلَى الشِّرَاءِ، وَلاَ عَلَى الإِقْرَارِ،
وَلاَ عَلَى الْهِبَةِ، وَلاَ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ الطَّلاَقِ، أَوْ
الرَّجْعَةِ، أَوْ الْعِتْقِ، أَوْ النَّذْرِ، أَوْ الْيَمِينِ: لَزِمَهُ كُلُّ
ذَلِكَ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهِ، وَصَحَّ ذَلِكَ النِّكَاحُ، وَذَلِكَ الطَّلاَقُ،
وَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَتِلْكَ الرَّجْعَةُ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ النَّذْرُ، وَتِلْكَ
الْيَمِينُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ قُدَامَةَ الْجُمَحِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي: أَنَّ رَجُلاً تَدَلَّى بِحَبْلٍ
لِيَشْتَارَ عَسَلاً فَحَلَفَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لَتَقْطَعَنَّ الْحَبْلَ أَوْ
لَيُطَلِّقَنَّهَا ثَلاَثًا فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَتَى عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ إلَى امْرَأَتِك،
فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ طَلاَقًا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
(8/331)
عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَيْسَ
لِمُسْتَكْرَهٍ طَلاَقٌ. قَالَ الْحَسَنُ: وَأَخَذَ رَجُلاً أَهْلُ امْرَأَتِهِ
فَطَلَّقَهَا إنْ لَمْ يَبْعَثْ بِنَفَقَتِهَا إلَى شَهْرٍ، فَجَاءَ الأَجَلُ
وَلَمْ يَبْعَثْ شَيْئًا، فَخَاصَمُوهُ إلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: اضْطَهَدْتُمُوهُ
حَتَّى جَعَلَهَا طَالِقًا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَلْحَةَ
الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ الْمَدَنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ،
أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمُكْرَهٍ طَلاَقٌ. وَصَحَّ أَيْضًا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ
مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ. وَمِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ
الأَعْرَجِ قَالَ: سَأَلْت كُلَّ فَقِيهٍ بِالْمَدِينَةِ، عَنْ طَلاَقِ
الْمُكْرَهِ فَقَالُوا: لَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَتَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ،
وَابْنَ عُمَرَ، فَرَدَّا عَلَيَّ امْرَأَتِي، وَكَانَ قَدْ أُكْرِهَ عَلَى
طَلاَقِهَا ثَلاَثًا. وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا: عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ،
وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وطَاوُوس، وَشُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ. وَصَحَّ إجَازَةُ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ
أَيْضًا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَلَمْ يَصِحَّ
عَنْهُمَا. وَصَحَّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ. وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى: { فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية .
قال أبو محمد : وَهَذَا تَمْوِيهٌ مِنْهُمْ ; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي
قَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ} وَالْمُكْرَهُ لَمْ يُطَلِّقْ قَطُّ، إنَّمَا قِيلَ لَهُ: قُلْ: هِيَ
طَالِقٌ ثَلاَثًا فَحَكَى قَوْلَ الْمُكْرِهِ لَهُ فَقَطْ. وَالْعَجَبُ مِنْ
تَخْلِيطِهِمْ، وَقِلَّةِ حَيَائِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ فِي
إجَازَةِ طَلاَقِ الْمُكْرَهِ، ثُمَّ لاَ يُجِيزُونَ بَيْعَ الْمُكْرَهِ،
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
فَإِنْ قَالُوا: الْبَيْعُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ، عَنْ تَرَاضٍ قلنا: وَالطَّلاَقُ
لاَ يَكُونُ إِلاَّ، عَنْ رِضًا مِنْ الْمُطَلِّقِ وَنِيَّةٍ لَهُ بِالنُّصُوصِ
الَّتِي قَدَّمْنَا. ثُمَّ قَدْ خَالَفُوا هَذَا الْعُمُومَ وَلَمْ يُجِيزُوا
طَلاَقَ الصَّبِيِّ، وَلاَ طَلاَقَ النَّائِمِ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هَذَانِ
مُطَلِّقَيْنِ قلنا: وَلاَ الْمُكْرَهُ مُطَلِّقًا.
وَأَطْرَفُ شَيْءٍ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا هَهُنَا فَقَالُوا: الْبَيْعُ يُرَدُّ
بِالْغَيْبِ .فَقُلْنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّةٍ، فَأَخْبِرُونَا هَلْ
وَقَعَ بَيْعُ الْمُكْرَهِ صَحِيحًا أَمْ لاَ فَإِنْ قُلْتُمْ: وَقَعَ صَحِيحًا،
فَلاَ سَبِيلَ إلَى رَدِّهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا، أَوْ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ
قُلْتُمْ: لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُهُمْ قلنا: فَقِيَاسُكُمْ مَا لَمْ
يَصِحَّ عَلَى مَا صَحَّ بَاطِلٌ فِي الْقِيَاسِ ; لأََنَّهُ قِيَاسُ الشَّيْءِ
عَلَى ضِدِّهِ، وَعَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ. وَقُلْنَا لَهُمْ أَيْضًا: وَكَذَلِكَ
الطَّلاَقُ مِنْ الْمُكْرَهِ وَقَعَ بَاطِلاً، وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ
فَاسِدَةٍ: مِنْهَا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي الْغَازِي بْنُ جَبَلَةَ الْجُبْلاَنِيُّ،
عَنْ صَفْوَانَ
(8/332)
بْنِ
عِمْرَانَ الطَّائِيِّ أَنَّ رَجُلاً جَعَلَتْ امْرَأَتُهُ سِكِّينًا عَلَى
حَلْقِهِ وَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثًا أَوْ لاََذْبَحَنَّكَ فَنَاشَدَهَا
اللَّهَ تَعَالَى، فَأَبَتْ، فَطَلَّقَهَا ثَلاَثًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لاَ قَيْلُولَةَ فِي الطَّلاَقِ .
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ بَقِيَّةَ،
عَنِ الْغَازِي بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ صَفْوَانَ الطَّائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ ; لأََنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ،
وَبَقِيَّةَ: ضَعِيفَانِ، وَالْغَازِيَ بْنَ جَبَلَةَ مَجْهُولٌ، وَصَفْوَانَ
ضَعِيفٌ، ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ. وَذَكَرُوا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ مُطَيَّنٍ، عَنْ
حُسَيْنِ بْنِ يُوسُفَ التَّمِيمِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
مَرْوَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ الطَّلاَقِ
جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ .
قال أبو محمد: وَهَذَا قِلَّةُ حَيَاءٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ
عَطَاءِ بْنِ عَجْلاَنَ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ هُمْ يَقُولُونَ:
إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَخَالَفَهُ فَذَلِكَ دَلِيلٌ، عَلَى سُقُوطِ
ذَلِكَ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: إنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَ طَلاَقَ الْمُكْرَهِ، فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ
الْفَاسِدِ أَنْ يُسْقِطُوا كُلَّ هَذِهِ الأَخْبَارِ ; لأََنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
رَوَى بَعْضَهَا، وَخَالَفَهُ كَمَا فَعَلُوا فِيمَا كَذَبُوا فِيهِ عَلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ مِنْ تَرْكِهِ مَا رَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله
عنهم مِنْ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ
لاَ يَعْقِلُونَ. وَأَيْضًا: فَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْخَبَرِ ;
لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ طَلاَقَ النَّائِمِ يَتَكَلَّمُ فِي نَوْمِهِ
بِالطَّلاَقِ، وَلاَ طَلاَقَ الصَّبِيِّ، وَلَيْسَا مَعْتُوهَيْنِ، وَلاَ
مَغْلُوبَيْنِ عَلَى عُقُولِهِمَا. وَيَقُولُونَ فِيمَنْ قَالَ لأَمْرَأَتِهِ فِي غَضَبٍ:
أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَرِّيَّةٌ، أَوْ حَرَامٌ، أَوْ أَمْرُك
بِيَدِك وَنَوَى طَلْقَةً وَاحِدَةً فَهِيَ لاَزِمَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلاَثًا
فَهِيَ لاَزِمَةٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ لَزِمَتْ وَاحِدَةٌ وَلَمْ تَلْزَمْ
الأُُخْرَى. فَمَنْ أَرَقُّ دِينًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لَهُ عَلَى مَنْ لاَ يَرَاهُ حُجَّةً أَصْلاً، وَاحْتَجُّوا بِالآثَارِ
الْوَارِدَةِ ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ .
قال أبو محمد: وَهِيَ آثَارٌ وَاهِيَةٌ كُلُّهَا لاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا
(8/333)
حُجَّةٌ
أَصْلاً ; لأََنَّ الْمُكْرَهَ لَيْسَ مُجِدًّا فِي طَلاَقِهِ، وَلاَ هَازِلاً،
فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُكْمٌ فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَيُّ عَجَبٍ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ
الأُُكْذُوبَاتِ الَّتِي هِيَ إمَّا مِنْ رِوَايَةِ كَذَّابٍ، أَوْ مَجْهُولٍ،
أَوْ ضَعِيفٍ، أَوْ مُرْسَلَةٌ، ثُمَّ يَعْتَرِضُ عَلَى مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ
الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم : عُفِيَ لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا
اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ: سَأَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ أَبَاهُ، عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ رَوَاهُ
شَيْخٌ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٌ. قَالَ
مَالِكٌ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم . فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا كَذِبٌ، وَبَاطِلٌ، لَيْسَ يُرْوَى إِلاَّ
الْحَسَنُ، عَنِ النَّبِيِّ فَاعْجَبُوا لِلْعَجَبِ إنَّمَا كَذَّبَ أَحْمَدُ رحمه
الله مَنْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَدَقَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ: فَهَذَا لَمْ يَأْتِ
قَطُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ
الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، إنَّمَا جَاءَ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ بَكْرٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ
بَدَّلَ الأَسَانِيدَ فَقَدْ أَخْطَأَ، أَوْ كَذَبَ إنَّ تَعَمَّدَ ذَلِكَ. ثُمَّ
الْعَجَبُ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ طَرِيقِ
الْحَسَنِ، وَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا بِأَنْتَنَ
مَا يَكُونُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ، أَمَا هَذَا عَجَبٌ ثُمَّ قَالُوا: كَيْفَ
يُرْفَعُ، عَنِ النَّاسِ مَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ
وَهَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ حَمَلَهُمْ
قِلَّةُ الدِّينِ وَعَدَمُ الْحَيَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الأَعْتِرَاضِ الَّذِي
هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَاتِهِ كَمَا هُوَ عَائِدٌ فِي رَفْعِهِمْ الإِكْرَاهَ
فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالإِقْرَارِ، وَالصَّدَقَةِ. ثُمَّ هُوَ كَلاَمٌ
سَخِيفٌ مِنْهُمْ ; لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ عليه السلام قَطُّ: إنَّ الْمُكْرَهَ
لَمْ يَقُلْ مَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَهُ، وَلاَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا
أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِهِ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ عليه السلام أَنَّهُ رُفِعَ عَنْهُ
حُكْمُ كُلِّ ذَلِكَ، كَمَا رُفِعَ، عَنِ الْمُصَلِّي فِعْلُهُ بِالسَّهْوِ فِي
السَّلاَمِ، وَالْكَلاَمِ، وَعَنِ الصَّائِمِ أَكْلُهُ، وَشُرْبُهُ، وَجِمَاعُهُ
سَهْوًا، وَعَنِ الْبَائِعِ مُكْرَهًا بَيْعُهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فِي هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ لِقَوْلِهِمْ
فِي إبْطَالِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَابْتِيَاعِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَهِبَتِهِ،
وَصَدَقَتِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّنَا وَجَدْنَا الْمُكْرَهَةَ عَلَى إرْضَاعِ
الصَّبِيِّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ مِمَّا
يُحَرَّمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ طَائِعَةً.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ فِي الإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالأَبْتِيَاعِ،
وَالصَّدَقَةِ، وَالإِقْرَارِ
(8/334)
ثم
نقول لَهُمْ: إنَّ الرَّضَاعَ لاَ يُرَاعَى فِيهِ نِيَّةٌ، بَلْ رَضَاعُ
الْمَجْنُونَةِ، وَالنَّائِمَةِ، كَرَضَاعِ الْعَاقِلَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم : يُحَرَّمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يُحَرَّمُ مِنْ النَّسَبِ فَلاَ
مَدْخَلَ لِلإِرَادَةِ فِي الرَّضَاعِ، وَلاَ هُوَ عَمَلٌ أُمِرَتْ بِهِ
فَيُرَاعَى فِيهِ نِيَّتُهَا. وَقَالُوا: وَجَدْنَا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى وَطْءِ
امْرَأَةِ ابْنِهِ يُحَرِّمُهَا عَلَى الأَبْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالإِقْرَارِ.
وَجَوَابُنَا نَحْنُ أَنَّهُ إنْ أُخِذَ فَرْجُهُ فَأُدْخِلَ فِي فَرْجِهَا لَمْ
يُحَرِّمْ شَيْئًا; لأََنَّهُ لَمْ يَنْكِحْهَا وَأَمَّا إنْ تُهُدِّدَ، أَوْ
ضُرِبَ حَتَّى جَامَعَهَا بِنَفْسِهِ قَاصِدًا: فَهُوَ زَانٍ مُخْتَارٌ قَاصِدٌ،
وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَتُحَرَّمُ ; لأََنَّهُ لاَ حُكْمَ لِلإِكْرَاهِ هَهُنَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَنَقُولُ لَهُمْ: هَبْكُمْ أَنَّكُمْ وَجَدْتُمْ فِي الطَّلاَقِ،
وَالْعِتْقِ: هَذِهِ الآثَارَ الْمَكْذُوبَةَ، فَأَيُّ شَيْءٍ وَجَدْتُمْ فِي
النِّكَاحِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَلْزَمْتُمُوهُ وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم إبْطَالُهُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ، وَمُجَمِّعٍ، ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامِ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ
ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ
نِكَاحَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي وَهِيَ كَارِهَةٌ فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم نِكَاحَهَا. وَهَذَانِ سَنَدَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لاَ مُعَارِضَ
لَهُمَا.
قال أبو محمد : فَمَنْ حَكَمَ بِإِمْضَاءِ نِكَاحِ مُكْرَهٍ، أَوْ طَلاَقِ
مُكْرَهٍ، أَوْ عِتْقِ مُكْرَهٍ، فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ أَبَدًا، الْوَطْءُ فِي
ذَلِكَ النِّكَاحِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ الطَّلاَقِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ الْعِتْقِ إنْ
تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ وَالْمُعْتَقَةَ: زَانٍ يُجْلَدْ، وَيُرْجَمْ إنْ كَانَ
مُحْصَنًا، وَيُجْلَدْ مِائَةً وَيُغَرَّبْ عَامًا إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ الإِكْرَاهَ عَلَى الرِّدَّةِ تُبِينُ
الزَّوْجَةَ، وَالرِّدَّةُ عِنْدَهُمْ تُبَيِّنُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ
فِي إجَازَتِهِمْ الطَّلاَقَ بِالْكُرْهِ.
(8/335)
1407
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى سُجُودٍ لِصَنَمٍ، أَوْ لِصَلِيبٍ،
فَلْيَسْجُدْ لِلَّهِ تَعَالَى مُبَادِرًا إلَى ذَلِكَ، وَلاَ يُبَالِي فِي أَيِّ
جِهَةٍ كَانَ ذَلِكَ الصَّنَمُ، وَالصَّلِيبُ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}.
(8/335)
لا
فرق بين اكراه السلطان واللصوص أو من ليس كذلك
...
1408 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إكْرَاهِ السُّلْطَانِ، أَوْ اللُّصُوصِ،
أَوْ مَنْ لَيْسَ
كسُلْطَانًا، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا ; لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله
عليه وسلم .
(8/336)
ذهب
الحنفية إلى أن الاكراه بضرب بسوط أو سوطين أو حبس يوم ليس اكراها
...
1409 - مَسْأَلَةٌ: وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الإِكْرَاهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ
سَوْطَيْنِ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ: لَيْسَ إكْرَاهًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ،
وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَالضَّرْبُ كُلُّهُ سَوْطٌ ثُمَّ سَوْطٌ إلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرَ. وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِقَوْلِ الصَّاحِبِ الَّذِي
لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ: وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعْدٍ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: قَالَ لِي الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٌ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا مِنْ ذِي سُلْطَانٍ يُرِيدُ أَنْ يُكَلِّفَنِي كَلاَمًا
يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ إِلاَّ كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ، وَلاَ
يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ.
(8/336)
بيان
من احتج لإلزام النذر واليمين بالكره بحديث حذيفة باطل
...
1410 - مَسْأَلَةٌ: وَاحْتَجُّوا فِي إلْزَامِ النَّذْرِ، وَالْيَمِينِ
بِالْكُرْهِ: بِحَدِيثٍ فَاسِدٍ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ
أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ وَهُوَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِبَدْرٍ فَأَحْلَفُوهُ أَنْ لاَ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا، فَأَتَى النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ،
وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ .
قال أبو محمد: وَهُوَ حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ وَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ
الْمَانِعُونَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ فِي طَرِيقِ بَدْرٍ،
وَحُذَيْفَةُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، إنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ حَلِيفٌ لِلأَنْصَارِ وَنَصُّ الْقُرْآنِ. يُخْبِرُ بِأَنَّهُمْ لَمْ
يَجْتَمِعُوا بِبَدْرٍ، عَنْ وَعْدٍ، وَلاَ عِلْمِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى
قَرُبَ الْعَسْكَرَانِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ إِلاَّ كَثِيبُ رَمْلٍ فَقَطْ
وَمِثْلُهُمْ احْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِنْفَاذِ عَهْدٍ بِمَعْصِيَةٍ. لَيْتَ شِعْرِي لَوْ
عَاهَدُوا إنْسَانًا عَلَى أَنْ لاَ يُصَلِّيَ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ، أَكَانَ
يَلْزَمُهُمْ هَذَا عِنْدَهُمْ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ.
(8/336)
كتاب
البيوع
البيع قسمان
...
كِتَابُ الْبُيُوعِ
1411 - مَسْأَلَةٌ: الْبَيْعُ قِسْمَانِ
إمَّا بَيْعُ سِلْعَةٍ حَاضِرَةٍ مَرْئِيَّةٍ مُقَلَّبَةٍ بِسِلْعَةٍ كَذَلِكَ،
أَوْ بِسِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا غَائِبَةٍ مَعْرُوفَةٍ مَوْصُوفَةٍ، أَوْ
بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِدَرَاهِمَ: كُلُّ ذَلِكَ حَاضِرٌ مَقْبُوضٌ، أَوْ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ. وَالْقِسْمُ
الثَّانِي: بَيْعُ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا غَائِبَةٍ مَعْرُوفَةٍ أَوْ مَوْصُوفَةٍ
بِمِثْلِهَا، أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِدَرَاهِمَ: كُلُّ ذَلِكَ حَاضِرٌ
مَقْبُوضٌ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ لَمْ
يَقْبِضْ. أَمَّا بَيْعُ الْحَاضِرِ الْمَرْئِيِّ الْمُقَلَّبِ بِمِثْلِهِ أَوْ
بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ حَاضِرَةٍ مَقْبُوضَةٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى،
أَوْ حَالَّةٍ فِي الذِّمَّةِ: فَمُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ.
(8/336)
إن
وجد مشتري السلعة الغائبة ما اشترى كما وصف له فالبيع له لازم وإن وجده بخلاف ما
اشترى فلا بيع بينهما إلا بتجديد صفة أخرى
...
1412 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَجَدَ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ الْغَائِبَةِ مَا
اشْتَرَى كَمَا وُصِفَ لَهُ فَالْبَيْعُ لَهُ لاَزِمٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلاَفِ
ذَلِكَ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِتَجْدِيدِ صِفَةٍ أُخْرَى بِرِضَاهُمَا
جَمِيعًا.
برهان ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَى شِرَاءً صَحِيحًا إذَا وَجَدَ الصِّفَةَ كَمَا
اشْتَرَى كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، فَإِنْ وَجَدَ الصِّفَةَ بِخِلاَفِ مَا عُقِدَ
الأَبْتِيَاعُ عَلَيْهِ فَبِيَقِينٍ نَدْرِي أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ تِلْكَ السِّلْعَةَ
الَّتِي وَجَدَ ; لأََنَّهُ اشْتَرَى سِلْعَةً بِصِفَةِ كَذَا، لاَ سِلْعَةً
بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَدَ، فَالَّتِي وَجَدَ غَيْرَ الَّتِي اشْتَرَى بِلاَ
شَكٍّ مِنْ أَحَدٍ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهَا فَلَيْسَتْ لَهُ. فإن قيل:
فَأَلْزِمُوا الْبَائِعَ إحْضَارَ سِلْعَةٍ بِالصِّفَةِ الَّتِي بَاعَ قلنا: لاَ
يَحِلُّ هَذَا ; لأََنَّهُ إنَّمَا بَاعَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً لاَ صِفَةً
مَضْمُونَةً، فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُهُ إحْضَارَ مَا لَمْ يَبِعْ فَصَحَّ أَنَّ
عَقْدَهُ فَاسِدٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ.
(8/342)
1413
- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بِيعَ شَيْءٌ مِنْ الْغَائِبَاتِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَمْ
يَكُنْ مِمَّا عَرَفَهُ الْبَائِعُ لاَ بِرُؤْيَةٍ، وَلاَ بِصِفَةِ مَنْ يُصَدَّقُ
مِمَّنْ رَأَى مَا بَاعَهُ، وَلاَ مِمَّا عَرَّفَهُ لِلْمُشْتَرِي بِرُؤْيَةٍ،
أَوْ بِصِفَةِ مَنْ يُصَدَّقُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا،
لاَ خِيَارَ فِي جَوَازِهِ أَصْلاً. وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الْمَرْءِ مَا وَصَفَهُ
لَهُ الْبَائِعُ صَدَّقَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَرْءِ مَا
وَصَفَهُ لَهُ الْمُشْتَرِي صَدَّقَهُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَإِنْ وَجَدَ
الْمَبِيعَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَالْمَبِيعُ لاَزِمٌ، وَإِنْ وَجَدَ
بِخِلاَفِهَا، فَالْمَبِيعُ بَاطِلٌ، وَلاَ بُدَّ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ
بَيْعَ الْعَيْنِ الْمَجْهُولَةِ غَيْرِ الْمَوْصُوفَةِ، وَجَعَلُوا فِيهَا
خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ
بِمَعْرِفَةِ وَصْفِهِ: هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، أَوْ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمَا.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ لِقَوْلِهِمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ
قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ، قَالُوا: فَفِي هَذَا إبَاحَةُ بَيْعِهِ بَعْدَ
اشْتِدَادِهِ وَهُوَ فِي أَكْمَامِهِ بَعْدُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ، وَلاَ تُدْرَى
صِفَتُهُ.
قال علي: وهذا مِمَّا مَوَّهُوا بِهِ وَأَوْهَمُوا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُمْ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إِلاَّ النَّهْيُ عَنْ
بَيْعِهِ قَبْلَ اشْتِدَادِهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ بَيْعِهِ بَعْدَ
اشْتِدَادِهِ، وَلاَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فَاعْجَبُوا لِجُرْأَةِ هَؤُلاَءِ
الْقَوْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ ; إذْ احْتَجُّوا بِهَذَا
الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَخَالَفُوهُ فِيمَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ،
فَهُمْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الْحَبِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى شَرْطِ الْقَطْعِ،
فَيَا لَضَلاَلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ.
قال أبو محمد: وَعَجَبٌ آخَرُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ
فَأَقْحَمُوا فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ نَصٌّ، وَلاَ أَثَرٌ مِنْ إبَاحَةِ
بَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ أَنْ يَشْتَدَّ، ثُمَّ لَمْ يَقْنَعُوا بِهَذِهِ
الطَّامَّةِ حَتَّى أَوْجَبُوا بِهَذَا
(8/342)
الْخَبَرِ
مَا لَيْسَ فِيهِ لَهُ ذِكْرٌ، وَلاَ إشَارَةٌ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ:
مِنْ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ الَّتِي لاَ تُعْرَفُ صِفَاتُهَا، وَلاَ عَرَفَهَا
الْبَائِعُ، وَلاَ الْمُشْتَرِي، وَلاَ وَصَفَهَا لَهُمَا أَحَدٌ، ثُمَّ لَمْ
يَلْبَثُوا أَنْ نَقَضُوا ذَلِكَ كَكَرَّةِ الطَّرْفِ فَحَرَّمُوا بَيْعَ لَحْمِ
الْكَبْشِ قَبْلَ ذَبْحِهِ، وَالنَّوَى دُونَ التَّمْرِ قَبْلَ أَكْلِهِ، وَبَيْعَ
الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ قَبْلَ عَصْرِهِ، وَبَيْعَ الأَلْبَانِ فِي الضُّرُوعِ
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ كُلُّهُ مَجْهُولٌ لاَ تُدْرَى صِفَتُهُ،
وَهَذَا مُوقٍ وَتَلاَعُبٍ بِالدِّينِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ نُجِيزُ بَيْعَ الْحَبِّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ كَمَا هُوَ
فِي أَكْمَامِهِ بِأَكْمَامِهِ، وَبَيْعَ الْكَبْشِ حَيًّا وَمَذْبُوحًا كُلِّهِ
لَحْمِهِ مَعَ جِلْدِهِ، وَبَيْعَ الشَّاةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ اللَّبَنِ،
وَبَيْعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ ; لأََنَّهُ كُلَّهُ ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ، وَلاَ
يَحِلُّ بَيْعُهُ دُونَ أَكْمَامِهِ ; لأََنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ
صِفَتَهُ، وَلاَ بَيْعُ اللَّحْمِ دُونَ الْجِلْدِ، وَلاَ النَّوَى دُونَ
التَّمْرِ، وَلاَ اللَّبَنِ دُونَ الشَّاةِ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَلاَ يَخْلُو بَيْعُ كُلِّ ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِهِ مِنْ أَنْ
يَكُونَ إخْرَاجُهُ مُشْتَرَطًا عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ
عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا، أَوْ لاَ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ
مُشْتَرَطًا عَلَى الْبَائِعِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي: فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ
مَجْهُولٍ وَإِجَارَةٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ وَهَذَا بَاطِلٌ ; لأََنَّ الْبَيْعَ
لاَ يَحِلُّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، وَالتَّرَاضِي بِضَرُورَةِ
الْحِسِّ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ بِمَعْلُومٍ لاَ بِمَجْهُولٍ،
فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُشْتَرَطًا عَلَيْهِمَا، أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ حَقًّا ; لأََنَّهُ لاَ يَصِلُ إلَى أَخْذِ مَا اشْتَرَاهُ
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْبُرْهَانُ عَلَى بُطْلاَنِ بَيْعِ مَا لَمْ يُعْرَفْ
بِرُؤْيَةٍ، وَلاَ بِصِفَةٍ: صِحَّةُ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ
بَيْعِ الْغَرَرِ وَهَذَا عَيْنُ الْغَرَرِ ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا اشْتَرَى
أَوْ بَاعَ. وَقَوْلُ اللَّهِ; تَعَالَى {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَلاَ يُمْكِنُ أَصْلاً وُقُوعُ التَّرَاضِي عَلَى مَا لاَ
يُدْرَى قَدْرُهُ، وَلاَ صِفَاتُهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقْنَا بَيْنَ صِفَةِ
الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ صَدَّقَ أَحَدُهُمَا
الآخَرَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَأَجَزْنَا الْبَيْعَ بِذَلِكَ وَبَيْنَ صِفَةِ
غَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُجِزْهُ إِلاَّ مِمَّنْ يُصَدِّقُهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ،
فَلأََنَّ صِفَةَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ صِفَةَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ
عَلَيْهَا وَقَعَ الْبَيْعُ، وَبِهَا تَرَاضَيَا، فَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ
كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ صَحِيحًا عَلَى حَقٍّ وَعَلَى مَا
يَصِحُّ بِهِ التَّرَاضِي وَإِلَّا فَلاَ. وَأَمَّا إذَا وَصَفَهُ لَهُمَا غَيْرُهُمَا
مِمَّنْ لاَ يُصَدِّقُهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ فَإِنَّ
(8/343)
الْبَيْعَ هَهُنَا لَمْ يَقَعْ عَلَى صِفَةٍ أَصْلاً، فَوَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَجْهُولٍ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا وَهَذَا حَرَامٌ لاَ يَحِلُّ. فَإِنْ وَصَفَهُ مَنْ صَدَّقَهُ الْمَوْصُوفُ لَهُ، فَالتَّصْدِيقُ يُوجِبُ الْعِلْمَ، فَإِنَّمَا اشْتَرَى مَا عَلِمَ، أَوْ بَاعَ الْبَائِعُ مَا عَلِمَ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالتَّرَاضِي صَحِيحٌ. فَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ كَذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةٍ، وَإِنْ وَجَدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى صِحَّةٍ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ قَدْ اسْتَحَالَ عَمَّا عَرَفَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/344)
جائز
بيع الثوب الواحد المطوي أو في جرابه والثياب الكبيرة كذلك إذا وصف كل ذلك فإن وجد
كل ذلك كما وصف فالبيع لازم واإلا فالبيع باطل
...
1414 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ بَيْعُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الْمَطْوِيِّ، أَوْ فِي
جِرَابِهِ، أَوْ الثِّيَابِ الْكَبِيرَةِ كَذَلِكَ، إذَا وَصَفَ كُلَّ ذَلِكَ،
فَإِنْ وَجَدَ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَ فَالْبَيْعُ لاَزِمٌ، وَإِلَّا
فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
قَالَ عَلِيٌّ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَاحِدِ، وَالْكَثِيرِ، خَطَأٌ، وَلَيْسَ
إِلاَّ حَرَامٌ، فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ، أَوْ حَلاَلٌ، فَقَلِيلُهُ
وَكَثِيرُهُ حَلاَلٌ وَهَذَا بِعَيْنِهِ هَوَّلُوا وَشَنَّعُوا عَلَى
الْحَنَفِيِّينَ فِي إبَاحَتِهِمْ قَلِيلَ الْمُسْكِرِ وَتَحْرِيمِهِمْ كَثِيرَهُ،
وَلاَ يُقْبَلُ مِثْلُ هَذَا إِلاَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَطْ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَمْرُ
الثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَسْهُلُ نَشْرُهُ وَتَقْلِيبُهُ وَطَيُّهُ، وَهَذَا
يَصْعُبُ فِي الْكَثِيرِ .فَقُلْنَا لَهُمْ: وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ هَذِهِ
الشَّرِيعَةَ أَنْ تَكُونَ صُعُوبَةُ الْعَمَلِ تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ،
وَالْبُيُوعَ الْمُحَرَّمَةَ ثم نقول لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي ثَوْبَيْنِ
مُدْرَجَيْنِ فِي جِرَابٍ أَوْ جِرَابَيْنِ فَإِنْ أَبَاحُوا ذَلِكَ،
سَأَلْنَاهُمْ، عَنِ الثَّلاَثَةِ، ثُمَّ، عَنِ الأَرْبَعَةِ، ثُمَّ نَزِيدُهُمْ
هَكَذَا، وَاحِدًا فَوَاحِدًا فَإِنْ حَرَّمُوا سَأَلْنَاهُمْ، عَنِ الدَّلِيلِ
عَلَى تَحْلِيلِ مَا أَحَلُّوا مِنْ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، وَعَنِ
الدَّلِيلِ عَلَى صُعُوبَةِ مَا جَعَلُوهُ لِصُعُوبَتِهِ حَلاَلاً، وَعَلَى
سُهُولَةِ مَا جَعَلُوهُ لِسُهُولَتِهِ حَرَامًا وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَأَيْضًا: فَرُبَّ ثِيَابٍ يَكُونُ نَشْرُهَا وَطَيُّهَا أَسْهَلَ مِنْ نَشْرِ
ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَطَيِّهِ، هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ ضَرُورَةً، كَالْمَرْوِيِّ
الْمَجْلُوبِ مِنْ بَغْدَادَ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى إعَادَةِ طَيِّهِ بَعْدَ
نَشْرِهِ إِلاَّ وَاحِدٌ بَيْنَ أُلُوفٍ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ
كَوُجُوهِ صِحَّةِ التَّرَاضِي بِعِلْمِهَا بِالصِّفَةِ، وَارْتِفَاعِ الْغَرَرِ
فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، عَنِ الْجَهَالَةِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/344)
فرض
على كل متبايعين لما قل أو كثر أن يشهدا على تبايعهما رجلين أو رجلا وامرأتين من
العدول فإن لم يجدا عدولا سقط الإشهاد
...
1415 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُتَبَايِعَيْنِ لِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ
أَنْ يُشْهِدَا عَلَى تَبَايُعِهِمَا رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ
مِنْ الْعُدُولِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدَا عُدُولاً سَقَطَ فَرْضُ الإِشْهَادِ كَمَا
ذَكَرْنَا،
فَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى الإِشْهَادِ فَقَدْ عَصَيَا
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبَيْعُ تَامٌّ. فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَفَرْضٌ عَلَيْهِمَا مَعَ الإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ أَنْ
يَكْتُبَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكْتُبَاهُ، فَقَدْ عَصَيَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
وَالْبَيْعُ تَامٌّ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى كَاتِبٍ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا
فَرْضُ الْكِتَابِ. برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ
كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
(8/344)
1416
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، أَوْ بِلَفْظِ
الشِّرَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، أَوْ بِلَفْظٍ يُعَبَّرُ بِهِ فِي
سَائِرِ اللُّغَاتِ، عَنِ الْبَيْعِ،
فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً غَيْرَ مَقْبُوضَيْنِ لَكِنْ
حَالَّيْنِ، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: جَازَ أَيْضًا بِلَفْظِ الدَّيْنِ أَوْ
الْمُدَايَنَةِ، وَلاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَلاَ
بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَلاَ بِشَيْءٍ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا أَصْلاً.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا}. وَقَوْله تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَوْله
تَعَالَى { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .
فَصَحَّ أَنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا أَحَلَّ فَهُوَ
حَلاَلٌ، فَمَتَى أُخِذَ مَالٌ بِغَيْرِ الأَسْمِ الَّذِي أَبَاحَ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ أَخْذَهُ كَانَ بَاطِلاً بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَصِفَةُ الْبَيْعِ
وَالرِّبَا وَاحِدَةٌ وَالْعَمَلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ
بَيْنَهُمَا الأَسْمُ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هُمَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ:
أَحَدُهُمَا حَلاَلٌ طَيِّبٌ، وَالآخَرُ حَرَامٌ خَبِيثٌ، كَبِيرَةٌ مِنْ
الْكَبَائِرِ، قَالَ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا
عَلَّمْتَنَا. وَقَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. فَصَحَّ أَنَّ
الأَسْمَاءَ كُلَّهَا تَوْقِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ سِيَّمَا أَسْمَاءُ
أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ فِيهَا الإِحْدَاثُ، وَلاَ تُعْلَمُ
إِلاَّ بِالنُّصُوصِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ مِنَّا وَمِنْ
خُصُومِنَا فِي أَنَّ امْرَءًا لَوْ قَالَ لِلآخَرِ:
(8/350)
أَقْرِضْنِي هَذَا الدِّينَارَ وَأَقْضِيك دِينَارًا إلَى شَهْرِ كَذَا، وَلَمْ يَحِدَّ وَقْتًا فَإِنَّهُ حَسَنٌ، وَأَجْرٌ، وَبِرٌّ. وَعِنْدَنَا إنْ قَضَاهُ دِينَارَيْنِ أَوْ نِصْفَ دِينَارٍ فَقَطْ وَرَضِيَ كِلاَهُمَا فَحَسَنٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْنِي هَذَا الدِّينَارَ بِدِينَارٍ إلَى شَهْرٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَجَلاً، فَإِنَّهُ رِبًا، وَإِثْمٌ، وَحَرَامٌ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْعَمَلُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الأَسْمُ فَقَطْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لأَمْرَأَةٍ: أَبِيحِي لِي جِمَاعَك مَتَى شِئْت فَفَعَلَتْ، وَرَضِيَ وَلِيُّهَا، لَكَانَ ذَلِكَ زِنًا إنْ وَقَعَ يُبِيحُ الدَّمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْكِحِينِي نَفْسَك فَفَعَلَتْ، وَرَضِيَ وَلِيُّهَا لَكَانَ حَلاَلاً، وَحَسَنًا، وَبِرًّا، وَهَكَذَا عِنْدَنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا لَفْظُ الشِّرَى، فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا سَمْحًا إذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى .
(8/351)
كل
متبايعيين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما أبدا وإن تقابضا السلعة والثمن مالم
يتفرقا بأبدانهما من المكان الذي تعاقدا فيه البيع ولكل واحد منهما ابطال ذلك
العقد أحب الآخر أم كره
...
1417 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مُتَبَايِعَيْنِ صَرْفًا أَوْ غَيْرَهُ فَلاَ يَصِحُّ
الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَبَدًا وَإِنْ تَقَابَضَا السِّلْعَةَ وَالثَّمَنَ، مَا
لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَاقَدَا فِيهِ
الْبَيْعَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالُ ذَلِكَ الْعَقْدِ أَحَبَّ
الآخَرُ أَمْ كَرِهَ
وَلَوْ بَقِيَا كَذَلِكَ دَهْرَهُمَا إِلاَّ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ
لاَ تُبَالِ أَيُّهُمَا كَانَ الْقَائِلُ بَعْدَ تَمَامِ التَّعَاقُدِ: اخْتَرْ
أَنْ تُمْضِيَ الْبَيْعَ، أَوْ أَنْ تُبْطِلَهُ فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَمْضَيْته
فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا تَفَرَّقَا أَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَيْسَ
لَهُمَا، وَلاَ لأََحَدِهِمَا فَسْخُهُ إِلاَّ بِعَيْبٍ، وَمَتَى مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَالْمَبِيعُ
بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَمَا كَانَ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ
الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ، يَنْفُذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ الَّذِي
هُوَ عَلَى مِلْكِهِ لاَ حُكْمُ الآخَرِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ
يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ
خِيَارٍ . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ الْوَضَّاحِ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ، عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ
الْبَيْعُ، عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ.
(8/351)
قال
أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْخِيَارَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا
لِلآخَرِ: اخْتَرْ، لاَ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى خِيَارِ مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ،ِ،
لأَنَّهُ قَالَ عليه السلام: إنْ كَانَ الْبَيْعُ، عَنْ خِيَارٍ، فَقَدْ وَجَبَ
الْبَيْعُ وَهَذَا خِلاَفُ حُكْمِ الْبَيْعِ الْمَعْقُودِ عَلَى خِيَارِ مُدَّةٍ
عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ
بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونَ خِيَارًا .
وَهَكَذَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لاَ
بَيْعَ بَيْنَهُمَا. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ، عَنْ إسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ
بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَهُ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا
تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ
خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ،
وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ .
قال أبو محمد: هَذَا الْحَدِيثُ يَرْفَعُ كُلَّ إشْكَالٍ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ
إجْمَالٍ، وَيُبْطِلُ التَّأْوِيلاَتِ الْمَكْذُوبَةَ الَّتِي شَغَبَ بِهَا
الْمُخَالِفُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا
الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ نَافِعٌ فِي أَلْوَاحِي قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهَ
بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إذَا تَبَايَعَ
الْمُتَبَايِعَانِ الْبَيْعَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ
بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا، عَنْ خِيَارٍ . قَالَ
نَافِعٌ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا ابْتَاعَ الْبَيْعَ فَأَرَادَ أَنْ يَجِبَ
لَهُ: مَشَى قَلِيلاً ثُمَّ رَجَعَ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى، وَعَبْدُ
الرَّحْمَانِ، كِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ
هُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ
كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ
بِإِسْنَادِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بِإِسْنَادِهِ. وَهَذِهِ أَسَانِيدُ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ
مُنْتَشِرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد
السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
جَمِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
(8/352)
أَبِي
الْوَضِيءِ قَالَ: غَزَوْنَا غَزْوَةً لَنَا فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَبَاعَ
صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا لِغُلاَمٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا
وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنْ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيلُ قَامَ إلَى
فَرَسِهِ لِيُسَرِّجَهُ فَنَدِمَ فَأَتَى الرَّجُلُ لِيَأْخُذَهُ بِالْبَيْعِ
فَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: بَيْنِي وَبَيْنَك أَبُو بَرْزَةَ
صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي
نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالاَ لَهُ: هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: أَتَرْضَيَانِ
أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
. قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: قَالَ جَمِيلُ بْنُ مُرَّةَ: قَالَ أَبُو
بَرْزَةَ: مَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا.
قال أبو محمد: أَبُو الْوَضِيءِ هُوَ عَبَّادُ بْنُ نَسِيبٍ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ
سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا بَرْزَةَ،
فَهَؤُلاَءِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُمْ الأَئِمَّةُ مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِ بْنِ نَبَاتٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ الْقَلَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ الصَّوَّافُ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ
صَالِحِ بْنِ شَيْخِ بْنِ عُمَيْرٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَحَاكَمَا إلَيْهِ فِي
دَارٍ لِلْعَبَّاسِ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ أَرَادَ عُمَرُ أَخْذَهَا
لِيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَأَبَى الْعَبَّاسُ، فَقَالَ لَهُمَا أُبَيٌّ:
لَمَّا أُمِرَ سُلَيْمَانُ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ أَرْضُهُ
لِرَجُلٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ سُلَيْمَانُ فَلَمَّا اشْتَرَاهَا قَالَ لَهُ
الرَّجُلُ: الَّذِي أَخَذْت مِنِّي خَيْرٌ أَمْ الَّذِي أَعْطَيْتنِي قَالَ
سُلَيْمَانُ: بَلْ الَّذِي أَخَذْت مِنْك، قَالَ: فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ الْبَيْعَ،
فَرَدَّهُ، فَزَادَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيزَهُ، فَلَمْ
يَزُلْ يَزِيدُهُ وَيَشْتَرِي مِنْهُ، فَيَسْأَلُهُ فَيُخَيِّرُهُ، فَلاَ يُجِيزُ
الْبَيْعَ، حَتَّى اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِحُكْمِهِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ،
فَاحْتَكَمَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَتَعَاظَمَهُ سُلَيْمَانُ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إلَيْهِ: إنْ كُنْت إنَّمَا تُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِك فَلاَ تُعْطِهِ، وَإِنْ كُنْت
إنَّمَا تُعْطِيه مِنْ رِزْقِنَا فَأُعْطِهِ حَتَّى يَرْضَى بِهَا، فَقَضَى بِهَا
لِلْعَبَّاسِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ اللَّيْثُ، هُوَ
ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: بِعْت مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالاً بِالْوَادِي بِمَالٍ
لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْت عَلَى عَقِبَيَّ حَتَّى خَرَجْت
مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ
الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا. وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ
أَيْضًا: عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: كُنَّا
(8/353)
إذَا
تَبَايَعْنَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقْ
الْمُتَبَايِعَانِ فَتَبَايَعْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَبِعْته مَالاً
لِي بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا بَايَعْته طَفِقْت أَنْكُصُ
عَلَى عَقِبَيَّ الْقَهْقَرَى خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي عُثْمَانُ الْبَيْعَ
قَبْلَ أَنْ أُفَارِقَهُ. فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ يُخْبِرُ بِأَنَّ هَذَا مَذْهَبُ
الصَّحَابَةِ وَعَمَلُهُمْ، وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ; لأََنَّهُ
خَشِيَ أَنْ يُرَادَّهُ الْبَيْعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، فَلَوْ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبَ عُثْمَانَ مَا خَافَ ابْنُ عُمَرَ ذَلِكَ مِنْهُ
وَيُخْبِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ. وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا: عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وطَاوُوس كَمَا
رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
أَبِي عَتَّابٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، أَنَّ رَجُلاً سَاوَمَهُ بِفَرَسٍ لَهُ
فَلَمَّا بَايَعَهُ خَيَّرَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: اخْتَرْ فَخَيَّرَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: سَمِعْت أَبَا
هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: هَذَا الْبَيْعُ، عَنْ تَرَاضٍ: فَهَذَا عُمَرُ،
وَالْعَبَّاسُ، يَسْمَعَانِ أُبَيًّا يَقْضِي بِتَصْوِيبِ رَدِّ الْبَيْعِ بَعْدَ
عَقْدِهِ فَلاَ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَصَحَّ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَائِلُونَ
بِذَلِكَ وَمَعَهُمْ عُثْمَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ، وَابْنُ
عُمَرَ، وَالصَّحَابَةُ جُمْلَةً، رضي الله عنهم، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلَ
سَمِعْت: طَاوُوسًا يَحْلِفُ بِاَللَّهِ: مَا التَّخْيِيرُ إِلاَّ بَعْدَ
الْبَيْعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ سَمِعْت أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ أَنَّهُ
شَهِدَ شُرَيْحًا اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلاَنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا دَارًا مِنْ
الآخَرِ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، فَأَوْجَبَهَا لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي بَيْعِهَا
قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ فَقَالَ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا، فَقَالَ
الْبَائِعُ: قَدْ بِعْتُك وَأَوْجَبْت لَك، فَاخْتَصَمْنَا إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ
شُرَيْحٌ: هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ:
وَشَهِدْت الشَّعْبِيَّ يَقْضِي بِهَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى
بِرْذَوْنًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَقَضَى
الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو الضُّحَى:
أَنَّ شُرَيْحًا أُتِيَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَرَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَرَجَعَ
الشَّعْبِيُّ إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ. وَرُوِّينَا أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ،
عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ شَهِدَ
شُرَيْحًا يَقْضِي بَيْنَ الْمُخْتَصِمَيْنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ
بَيْعًا فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَرْضَهُ، وَقَالَ الآخَرُ: بَلْ قَدْ رَضِيتَهُ
فَقَالَ شُرَيْحٌ: بَيِّنَتُكُمَا أَنَّكُمَا تَصَادَرْتُمَا، عَنْ رِضًا بَعْدَ
الْبَيْعِ أَوْ خِيَارٍ أَوْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ مَا تَصَادَرْتُمَا، عَنْ رِضًا
بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلاَ خِيَارٍ: وَهُوَ قَوْلُ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَابْنِهِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَجَمِيعِ
أَصْحَابِهِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي
عُبَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلِ
الْمَدِينَةِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
(8/354)
ابْنِ
حَنْبَلٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ
بَلَغَهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: لَيْسَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ فَقَالَ
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: هَذَا حَدِيثٌ مَوْطُوءٌ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي مَشْهُورًا.
قال أبو محمد: إِلاَّ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ قَالَ: كُلُّ بَيْعٍ
فَالْمُتَبَايِعَانِ فِيهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا،
إِلاَّ بِيُوعَا ثَلاَثَةً: الْمَغْنَمَ، وَالشُّرَكَاءَ فِي الْمِيرَاثِ
يَتَقَاوَمُونَهُ، وَالشُّرَكَاءَ فِي التِّجَارَةِ يَتَقَاوَمُونَهَا. قَالَ الأَوْزَاعِيُّ:
وَحَدُّ التَّفَرُّقِ أَنْ يَغِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَنْ صَاحِبِهِ
حَتَّى لاَ يَرَاهُ وقال أحمد: كَمَا قلنا، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ
التَّخْيِيرَ، وَلاَ يَعْرِفُ إِلاَّ التَّفَرُّقَ بِالأَبْدَانِ فَقَطْ. وَهَذَا
الشَّعْبِيُّ قَدْ فَسَخَ قَضَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى الْحَقِّ،
فَشَذَّ، عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَمَنْ قَلَّدَهُمَا،
وَقَالاَ: الْبَيْعُ يَتِمُّ بِالْكَلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا
بِأَبْدَانِهِمَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَخَالَفُوا السُّنَنَ
الثَّابِتَةَ، وَالصَّحَابَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ
مُخَالِفٌ أَصْلاً، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ سَلَفًا إِلاَّ
إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا وَجَبَتْ
الصَّفْقَةُ فَلاَ خِيَارَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَرِوَايَةٌ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ،
عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَكَفَى بِهِ سُقُوطًا، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ
شُرَيْحٍ قَالَ: إذَا كَلَّمَ الرَّجُلُ بِالْبَيْعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ،
وَالصَّحِيحُ، عَنْ شُرَيْحٍ هُوَ مُوَافَقَةُ الْحَقِّ: كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ
مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الضُّحَى، وَابْنِ سِيرِينَ عَنْهُ. وَلَعَمْرِي ; إنَّ
قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لَيُخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ عَنَى كُلَّ صَفْقَةٍ غَيْرَ
الْبَيْعِ، لَكِنْ الإِجَارَةَ، وَالنِّكَاحَ، وَالْهِبَاتِ، فَهَذَا مُمْكِنٌ ;
لأََنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ أَصْلاً فَحَصَلُوا بِلاَ سَلَفٍ. وَقَوْلُهُ:
الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا: صَحِيحٌ وَمَا قلنا: إنَّهُ غَيْرُ
جَائِزٍ، وَلاَ قَالَ هُوَ: إنَّهُ لاَزِمٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّهُ جَائِزٌ.
قال أبو محمد : وَمَوَّهُوا بِتَمْوِيهَاتٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ: مِنْهَا
أَنَّهُمْ قَالُوا: مَعْنَى التَّفَرُّقِ أَيْ بِالْكَلاَمِ. فَقُلْنَا: لَوْ
كَانَ كَمَا يَقُولُونَ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا وَمُخَالِفًا لِقَوْلِكُمْ
; لأََنَّ قَوْلَ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ آخُذُهُ بِعَشَرَةٍ، فَيَقُولُ الآخَرُ:
لاَ، وَلَكِنْ بِعِشْرِينَ لاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَنَّهُمَا
مُتَفَرِّقَانِ بِالْكَلاَمِ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةَ عَشَرَ،
وَقَالَ الآخَرُ: نَعَمْ قَدْ بِعْتُكَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَالآنَ اتَّفَقَا
وَلَمْ يَتَفَرَّقَا فَالآنَ وَجَبَ الْخِيَارُ لَهُمَا إذْ لَمْ يَتَفَرَّقَا
بِنَصِّ الْحَدِيثِ فَاذْهَبُوا كَيْفَ شِئْتُمْ مَنْ عَارَضَ الْحَقَّ بَلَحَ
وَافْتَضَحَ.
وَأَيْضًا: فَنَقُولُ لَهُمْ: قَوْلُكُمْ: التَّفَرُّقُ بِالْكَلاَمِ كَذِبٌ،
دَعْوَى بِلاَ برهان، لاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِمَا فِي الدِّينِ. وَأَيْضًا:
فَرِوَايَةُ اللَّيْثِ. عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي أَوْرَدْنَا
رَافِعَةٌ لِكُلِّ شَغَبٍ، وَمُبَيِّنَةٌ أَنَّهُ التَّفَرُّقُ، عَنِ الْمَكَانِ
بِالأَبْدَانِ، وَلاَ بُدَّ. وقال بعضهم: مَعْنَى الْمُتَبَايِعَيْنِ هَهُنَا:
إنَّمَا هُمَا الْمُتَسَاوِمَانِ، كَمَا سُمِّيَ الذَّبِيحُ وَلَمْ يُذْبَحْ
وَقَالَ:
(8/355)
كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : إنَّمَا أَرَادَ تَقَارَبْنَ بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ عليه السلام مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إنَّمَا هُوَ مَا بَيْنَ قَوْلِ أَحَدِهِمَا: قَدْ بِعْتُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ: قَدْ قَبِلْت ذَلِكَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهِ: قَدْ ابْتَعْت سِلْعَتَك هَذِهِ بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ: قَدْ بِعْتُكهَا بِمَا قُلْت. وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّمَا هُوَ مَا بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: بِعْنِي سِلْعَتَك بِدِينَارٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ: قَدْ فَعَلْت، وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: اشْتَرِ مِنِّي سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارٍ، فَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَقُلْ لَهُ الآخَرُ: قَدْ فَعَلْت فَجَوَابُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا وَاضِحٌ مُخْتَصَرٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَذَبَ قَائِلُ هَذَا وَأَفَكَ وَأَثِمَ ; لأََنَّهُ حَرَّفَ كَلاَمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَوَاضِعِهِ بِلاَ برهان أَصْلاً، لَكِنْ مُطَارَفَةً وَمُجَاهَرَةً بِالدَّعْوَى الْبَاطِلِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذِهِ الأَقْوَالُ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِأَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهُ عليه السلام وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: كَمَا سُمِّيَ الذَّبِيحُ وَلَمْ يُذْبَحْ فَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ ذَبِيحًا، وَلاَ صَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَطُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُطْلَقٌ عَامِّيٌّ لاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ مَنْ أَطْلَقَ مُسَامَحَةً، أَوْ لأََنَّهُ حَمَلَ الْخَلِيلُ عليه السلام السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَهَذَا فِعْلٌ يُسَمَّى مِنْ فَاعِلِهِ ذَبْحًا، وَمَا نُبَالِي عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ; لأََنَّهَا لَمْ يَأْتِ بِهَا قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَلاَ يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ أَصْلاً. وَأَمَّا قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فَصَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَبَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْمُقَارَبَةَ، حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا وَلَوْ كَانَ مَا ظَنُّوهُ لَكَانَ الإِمْسَاكُ وَالرَّجْعَةُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي قُرْبِ بُلُوغِ الأَجَلِ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ وَتَأْوِيلُ الآيَةِ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِهَا بِلاَ كَذِبٍ، وَلاَ تَزَيُّدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى بِلاَ شَكٍّ بُلُوغَ الْمُطَلَّقَاتِ أَجَلَ الْعِدَّةِ بِكَوْنِهِنَّ فِيهَا مِنْ دُخُولِهِنَّ إيَّاهَا إلَى إثْرِ الطَّلاَقِ إلَى خُرُوجِهِنَّ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ كُلُّهَا لِلزَّوْجِ فِيهَا الرَّجْعَةُ وَالإِمْسَاكُ بِلاَ خِلاَفٍ، أَوْ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الطَّلاَقِ. وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا أَطْلَقُوا فِيهِ الْبَاطِلَ لَكَانَ لاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهِ ; لأََنَّهُ لَيْسَ إذَا وُجِدَ كَلاَمٌ قَدْ صُرِفَ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ وَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ كَلاَمٍ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِلاَ دَلِيلٍ، وَفِي هَذَا إفْسَادُ التَّفَاهُمِ، وَالْمَعْقُولِ، وَالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، فَكَيْفَ وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام قَالَ: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَاضِحٌ لِهَذَا الْكَذِبِ كُلِّهِ، وَمُبْطِلٌ لِتَخْصِيصِ بَعْضِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْعٍ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ هَذَا الأَسْمُ. وَقَالُوا: هَذَا التَّفْرِيقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ: هُوَ مِثْلُ التَّفْرِيقِ الْمَذْكُورِ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ . فَقُلْنَا: نَعَمْ، بِلاَ شَكٍّ، وَذَلِكَ التَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الآيَةِ تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ
(8/356)
بِالأَبْدَانِ،
وَلاَ بُدَّ، وَالتَّفَرُّقُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ أَيْضًا
تَفَرُّقٌ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي التَّفَرُّقَ بِالأَبْدَانِ، وَلاَ بُدَّ،
وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ التَّفَرُّقَ الْمُرَاعَى فِيمَا يَحْرُمُ بِهِ
الصَّرْفُ أَوْ يَصِحُّ إنَّمَا هُوَ تَفَرُّقُ الأَبْدَانِ، فَهَلاَّ قُلْتُمْ
عَلَى هَذَا هَهُنَا: إنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ
أَيْضًا تَفَرُّقُ الأَبْدَانِ، لَوْلاَ التَّحَكُّمُ الْبَارِدُ حَيْثُ
تَهْوُونَ. وَمَوَّهُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ. فَأَبَاحَ تَعَالَى الأَكْلَ بَعْدَ التَّرَاضِي، قَالُوا:
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ.
قال أبو محمد: الَّذِي أَتَانَا بِهَذِهِ الآيَةِ هُوَ الَّذِي مِنْ عِنْدِهِ
نَدْرِي: مَا هِيَ التِّجَارَةُ الْمُبَاحَةُ لَنَا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا،
وَمَا هُوَ التَّرَاضِي النَّاقِلُ لِلْمِلْكِ مِنْ التَّرَاضِي الَّذِي لاَ
يَنْقُلُ الْمِلْكَ وَلَوْلاَهُ لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ
الَّذِي أَخْبَرَنَا: أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بَيْعًا، وَلاَ هُوَ تِجَارَةً،
وَلاَ هُوَ تَرَاضِيًا، وَلاَ يَنْقُلُ مِلْكًا إِلاَّ حَتَّى يَسْتَضِيفَ إلَيْهِ
التَّفَرُّقَ، عَنْ مَوْضِعِهِمَا، أَوْ التَّخْيِيرَ، فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ،
وَالتِّجَارَةُ، وَالتَّرَاضِي، لاَ مَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ بِآرَائِهِمْ
بِلاَ برهان، لَكِنْ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا حَقٌّ إِلاَّ أَنَّ الَّذِي أَمَرَنَا بِهَذَا
عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ هُوَ تَعَالَى الآمِرُ لِرَسُولِهِ عليه السلام أَنْ
يُخْبِرَنَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ هَذَا التَّعَاقُدُ، وَلاَ يَتِمُّ، وَلاَ
يَكُونُ عَقْدًا إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ، عَنْ مَوْضِعِهِمَا أَوْ بِأَنْ يُخَيِّرَ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، وَإِلَّا فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ
بِذَلِكَ الْعَقْدِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ
أَحَدًا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَقْدٍ عَقَدَهُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ حَرَامٌ
الْوَفَاءُ بِهَا، كَمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ، أَوْ أَنْ
يَشْرَبَ الْخَمْرَ. نَعَمْ، وَأَكْثَرُ الْعُقُودِ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ
عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا، كَمَنْ عَقَدَ أَنْ يَشْتَرِيَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ، أَوْ
أَنْ يُغَنِّيَ، أَوْ أَنْ يَزْفِنَ أَوْ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا. فَصَحَّ يَقِينًا
أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ أَصْلاً، إِلاَّ عَقْدًا أَتَى النَّصُّ
بِالْوَفَاءِ بِهِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ، وَهُمْ يَقُولُونَ يَعْنِي
الْحَنَفِيِّينَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ آخَرَ شَيْئًا غَائِبًا وَتَعَاقَدَا إسْقَاطَ
خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَلْزَمُ. وَالْمَالِكِيُّونَ يَقُولُونَ:
مَنْ ابْتَاعَ ثَمَرَةً وَاشْتَرَطَ أَنْ لاَ يَقُومَ بِجَائِحَةٍ، وَعَقَدَ
ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَلْزَمُهُ، فَأَيْنَ احْتِجَاجُهُمْ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ
عُقُودٌ قَامَتْ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا قلنا:
وَعَقْدُ الْبَيْعِ عَقْدٌ قَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ
الْوَفَاءُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بَعْدَ
التَّخْيِيرِ، بِخِلاَفِ الأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي خَصَّصْتُمْ بِهَا مَا
خَصَّصْتُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} وَإِنَّ الْحَيَاءَ لَقَلِيلٌ
فِي وَجْهِ مَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ لِوُجُوهٍ:
أَوَّلِهَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الآيَةِ فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ
مِنْ وُجُوبِ الإِشْهَادِ فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّونَ الأَحْتِجَاجَ بِأَنَّهُمْ قَدْ
عَصَوْا اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا وَخَالَفُوهَا، وَلَمْ يَرَوْهَا حُجَّةً فِي
وُجُوبِ الإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الآيَةِ نَصٌّ،
وَلاَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلاَنِ التَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ، وَلاَ
ذُكِرَ مِنْهُ أَصْلاً. وَالثَّالِثِ: أَنَّ نَصَّ الآيَةِ إنَّمَا هُوَ إيجَابُ
الإِشْهَادِ إذَا تَبَايَعْنَا، وَاَلَّذِي
(8/357)
جَاءَنَا
بِهَذِهِ الآيَةِ وَلَوْلاَهُ لَمْ نَدْرِ مَا الْمَبِيعُ الْمُبَاحُ مِنْ
الْمُحَرَّمِ أَلْبَتَّةَ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ لاَ بَيْعَ أَصْلاً
إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، عَنْ مَوْضِعِهِمَا أَوْ التَّخْيِيرِ. فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}
إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالإِشْهَادِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، أَوْ التَّخْيِيرِ
الَّذِي لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا أَصْلاً إِلاَّ بَعْدَ أَحَدِهِمَا وَإِنْ
رَغِمَتْ أُنُوفُ الْمُخَالِفِينَ ثُمَّ مَوَّهُوا بِإِيرَادِ أَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ
وَغَيْرِ ثَابِتَةٍ، مِثْلِ قَوْلِهِ عليه السلام: إذَا ابْتَعْت بَيْعًا فَلاَ
تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الآيَةِ سَوَاءٌ
سَوَاءٌ ; لأََنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ أَوْ
التَّخْيِيرِ، وَإِلَّا فَلَمْ يَبْتَعْ الْمُبْتَاعُ أَصْلاً، وَلاَ بَاعَ
الْبَائِعُ أَلْبَتَّةَ. وَمِثْلِ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ
لِلْبَائِعِ. وَمِثْلِ مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِرَتْ فَثَمَرَتُهَا
لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ. وَمِثْلِ النَّهْيِ، عَنْ
بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ. وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ جَاءَ
فِيهَا ذِكْرُ الْبَيْعِ، وَالْقَوْلُ فِيهَا كُلِّهَا كَمَا قلنا آنِفًا: أَنَّ
كُلَّ هَذِهِ الأَحْكَامِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَاَلَّذِي أَمَرَ بِمَا
صَحَّ مِنْهَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ وَحَكَمَ وَقَالَ: إنَّهُ لاَ بَيْعَ بَيْنَ
الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا كَانَا مَعًا وَلَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ خَيَّرَ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبًّا لِمَنْ عَصَاهُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ
الأَخْبَارِ هُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِي نُصُوصِهَا، فَلَمْ يَقْنَعُوا بِذَلِكَ
حَتَّى أَضَافُوا إلَى ذَلِكَ غُرُورَ مَنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي أَنْ
أَوْهَمُوهُمْ مَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلاً. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ
فِي احْتِجَاجِهِمْ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا فِي إبْطَالِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ
مِنْ أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ إِلاَّ بَعْدَ التَّفَرُّقِ
بِالأَبْدَانِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهَا فِي إبَاحَةِ
كُلِّ بَيْعٍ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا مِنْ الرِّبَا، وَالْغَرَرِ، وَالْحَصَاةِ،
وَالْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ عَمَلٌ
وَاحِدٌ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. وَمِنْ عَجَائِبِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ فِي
هَذَا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلاَّ
أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ.
قال أبو محمد: وَلَوْلاَ أَنَّ الْقَوْمَ مُسْتَكْثِرُونَ مِنْ الْبَاطِلِ،
وَالْخَدِيعَةِ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ اغْتَرَّ بِهِمْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِمْ
هَذَا التَّطْوِيلُ بِلاَ مَعْنًى. وَنَعَمْ، الْخَبَرُ صَحِيحٌ وَمَا اشْتَرَى
قَطُّ أَبَاهُ مَنْ لَمْ يُفَارِقْ بَائِعَهُ بِبَدَنِهِ، وَلاَ خَيَّرَهُ بَعْدَ
الْعَقْدِ، وَلاَ مَلَّكَهُ قَطُّ، بَلْ هُوَ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ كَمَا كَانَ
حَتَّى يُخَيِّرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يُفَارِقَهُ بِبَدَنِهِ، فَحِينَئِذٍ
يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلاَ بِنَصِّ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَذَكَرُوا أَيْضًا: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ وَهَذَا خَبَرٌ مَكْذُوبٌ ; لأََنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ كَثِيرُ بْنُ
زَيْدٍ وَهُوَ سَاقِطٌ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، أَوْ مُرْسَلٌ، عَنْ عَطَاءٍ. ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ ; لأََنَّ شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ
لَيْسَتْ كُلَّ شَرْطٍ بِلاَ خِلاَفٍ، بَلْ إنَّمَا هِيَ الشُّرُوطُ الْمَأْمُورُ
بِهَا، أَوْ الْمُبَاحَةُ بِأَسْمَائِهَا فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ.
وَلَوْ كَانَ مَا أَوْهَمُوا بِهِ لَكَانَ شَرْطُ الزِّنَى، وَالْقِيَادَةِ،
وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا: شُرُوطًا لَوَازِمَ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا
الضَّلاَلِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ كِتَابُ
(8/358)
اللَّهِ
أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ فَشَرْطُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ التَّفَرُّقُ
بِالأَبْدَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِلْبَيْعِ أَوْ التَّخْيِيرُ، وَإِلَّا فَلاَ
شَرْطَ هُنَالِكَ يَلْزَمُ أَصْلاً وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ
مَنْ بَاعَ بَيْعًا عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِلاَ خِيَارٍ أَنَّ الْخِيَارَ
سَاقِطٌ.
قال أبو محمد: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى هَذَا الْجُنُونِ لاَ، وَلاَ
كَرَامَةَ بَلْ لَوْ أَنَّ مُتَبَايِعَيْنِ عَقَدَا بَيْعَهُمَا عَلَى إسْقَاطِ
الْخِيَارِ الْوَاجِبِ لَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ
التَّخْيِيرِ لَكَانَ شَرْطًا مَلْعُونًا، وَعَقْدًا فَاسِدًا، وَحُكْمَ ضَلاَلٍ
لأََنَّهُمَا اشْتَرَطَا إبْطَالَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم. وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ،
وَعَقْدُ الطَّلاَقِ، وَعَقْدُ الإِجَارَةِ، وَالْخُلْعُ، وَالْعِتْقُ،
وَالْكِتَابَةُ تَصِحُّ، وَلاَ يُرَاعَى فِيهَا التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ وَجَبَ
مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ
الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لإِجْمَاعِهِمْ مَعَنَا عَلَى
أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرُوا لَهُ أَحْكَامٌ وَأَعْمَالٌ
مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِهَا، لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ،
فَالْبَيْعُ يَنْتَقِلُ فِيهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَثَمَنِهِ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرُوا، وَالنِّكَاحُ فِيهِ
إبَاحَةُ فَرْجٍ كَانَ مُحَرَّمًا بِغَيْرِ مِلْكِ رَقَبَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
فِيهِ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ أَصْلاً، وَلاَ تَأْجِيلٌ. وَهُمْ يُجِيزُونَ الْخِيَارَ
الْمُشْتَرَطَ فِي الْبَيْعِ وَالتَّأْجِيلِ، وَلاَ يَرَوْنَ قِيَاسَ أَحَدِهِمَا
عَلَى الآخَرِ فِي ذَلِكَ جَائِزًا، وَالطَّلاَقُ تَحْرِيمُ فَرْجٍ مُحَلَّلٍ
إمَّا فِي وَقْتِهِ وَأَمَّا إلَى مُدَّةٍ بِغَيْرِ نَقْلِ مِلْكٍ، وَلاَ يَجُوزُ
فِيهِ اشْتِرَاطٌ بَعْدَ إيقَاعِهِ أَصْلاً، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ وَالإِجَارَةُ
إبَاحَةُ مَنَافِعَ بِعِوَضٍ لاَ تُمَلَّكُ بِهِ الرَّقَبَةُ، بِخِلاَفِ
الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ فِي الْحُرِّ بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَهِيَ إلَى أَجَلٍ،
وَلاَ بُدَّ، إمَّا مَعْلُومٍ وَأَمَّا مَجْهُولٍ إنْ كَانَ فِي عَمَلٍ مَحْدُودٍ،
بِخِلاَفِ الْبَيْعِ. وَالْخُلْعُ طَلاَقٌ بِمَالٍ لاَ يَجُوزُ فِيهِ عِنْدَهُمْ
خِيَارٌ مُشْتَرَطٌ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ، وَالْكِتَابَةُ
فَظَهَرَ سُخْفُ قِيَاسِهِمْ هَذَا وَأَنَّهُ هَوَسٌ وَتَخْلِيطٌ. وَكَمْ قِصَّةٍ
لَهُمْ فِي التَّخْيِيرِ فِي الطَّلاَقِ أَوْجَبُوا فِيهِ الْخِيَارَ مَا دَامَا
فِي مَجْلِسِهِمَا وَقَطَعُوهُ بِالتَّفَرُّقِ بِأَبْدَانِهِمَا حَيْثُ لَمْ
يُوجِبْهُ قَطُّ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَلاَ قَوْلُ
صَاحِبٍ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَلاَ قِيَاسٌ شُبِّهَ بِهِ، لَكِنْ بِالآرَاءِ
الْفَاسِدَةِ ثُمَّ أَبْطَلُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى
السَّلاَمَةِ مِمَّا ابْتَلاَهُمْ بِهِ. وقال بعضهم: التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ
فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ
يَكُونَ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُهُ.
قال علي: وهذا كَلاَمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلاَ نُنْكِرُ هَذَا إذَا جَاءَ
بِهِ النَّصُّ فَقَدْ وَجَدْنَا النَّقْد
(8/359)
وَتَرْكَ،
الأَجَلِ يُفْسِدُ السَّلَمَ عِنْدَهُمْ، وَيُصَحِّحُ الْبُيُوعَ الَّتِي يَقَعُ
فِيهَا الرِّبَا حَتَّى لاَ تَصِحَّ إِلاَّ بِهِ. فَكَيْفَ وَالْمَعْنَى فِيمَا
رَامُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ لَمْ
يَمْلِكَا شَيْئًا، وَلاَ تَبَايَعَا أَصْلاً قَبْلَ التَّقَابُضِ، وَكُلُّ
مُتَبَايِعَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ أَصْلاً قَبْلَ التَّفَرُّقِ
أَوْ التَّخْيِيرِ مُتَصَارِفَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُتَصَارِفَيْنِ فَإِنْ تَفَرَّقَ
كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا بِأَبْدَانِهِمْ قَبْلَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْبَيْعُ، فَمَنْ
كَانَ قَدْ عَقَدَ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ تَمَّ لَهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَمَنْ كَانَ
لَمْ يَعْقِدْ عَقْدًا أُبِيحَ لَهُ فَلَيْسَ هَهُنَا شَيْءٌ يَتِمُّ لَهُ
بِالتَّفَرُّقِ. وَقَالُوا أَيْضًا: مُتَعَقِّبِينَ لِكَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم رَادِّينَ عَلَيْهِ: الْمُتَبَايِعَانِ إنَّمَا يَكُونَانِ
مُتَبَايِعَيْنِ مَا دَامَا فِي حَالِ الْعَقْدِ لاَ بَعْدَ ذَلِكَ،
كَالْمُتَضَارَبِينَ وَالْمُتَقَاتَلِينَ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَا
مُتَبَايِعَيْنِ مُتَفَاسِخَيْنِ مَعًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَلاَمُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ، وَلاَ عِلْمَ، وَلاَ دِينَ،
وَلاَ حَيَاءَ ; لأََنَّهُ سَفْسَطَةٌ بَارِدَةٌ، وَنَعَمْ، فَإِنَّ
الْمُتَبَايِعَيْنِ لاَ يَكُونَانِ مُتَبَايِعَيْنِ إِلاَّ فِي حِينِ
تَعَاقُدِهِمَا لَكِنَّ عَقْدَهُمَا بِذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَتِمُّ
إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَمَرَ مَنْ لاَ
يُحَرِّمُ دَمَ أَحَدٍ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهِ، أَوْ بِجِزْيَةٍ يَغْرَمُهَا إنْ
كَانَ كِتَابِيًّا وَهُوَ صَاغِرٌ. وَمِنْ طَرِيفِ نَوَادِرِهِمْ احْتِجَاجُهُمْ
فِي مُعَارَضَةِ هَذَا الْخَبَرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلاَ
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ . قَالُوا:
فَالأَسْتِقَالَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ وَصِحَّةِ
انْتِقَالِ الْمِلْكِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا حَدِيثٌ لاَ يَصِحُّ وَلَسْنَا
مِمَّنْ يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ بِمَا لاَ يَصِحُّ، وَقَدْ أَعَاذَنَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِنَا، إِلاَّ فِي
الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَارَقَةِ خَوْفَ الأَسْتِقَالَةِ فَقَطْ فَلَسْنَا نَقُولُ
بِهِ ; لأََنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِمَا
فِيهِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُفَارَقَةِ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ، وَلَيْسَتْ
الأَسْتِقَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا ظَنَّ هَؤُلاَءِ
الْجُهَّالُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَسْخُ النَّادِمِ مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ رَضِيَ
الآخَرُ أَمْ كَرِهَ لأََنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ اسْتَقَلْت مِنْ عِلَّتِي،
وَاسْتَقَلْت مَا فَاتَ عَنِّي: إذَا اسْتَدْرَكَهُ. وَالْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِنَا هَذَا وَعَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ وَكَذِبِهِ هُوَ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ
بِالأَبْدَانِ لاَ تَمْنَعُ مِنْ الأَسْتِقَالَةِ الَّتِي حَمَلُوا الْخَبَرَ
عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مُمْكِنَةٌ أَبَدًا، وَلَوْ بَعْدَ عَشْرَاتِ أَعْوَامٍ،
فَكَانَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ حَقِيقَةَ، وَلاَ
فَائِدَةَ. فَصَحَّ أَنَّهَا الأَسْتِقَالَةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْهَا
الْمُفَارَقَةُ بِلاَ شَكٍّ، وَهِيَ التَّفَرُّقُ بِالأَبْدَانِ الْمُوجِبُ
لِلْبَيْعِ، الْمَانِعُ مِنْ فَسْخِهِ، وَلاَ بُدَّ، وَلاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا،
وَلاَ يَحْتَمِلُ لَفْظُ الْخَبَرِ مَعْنًى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ. فَصَارَ هَذَا
الْخَبَرُ ثِقْلاً عَلَيْهِمْ عَلَى ثِقْلٍ، لأََنَّهُمْ صَحَّحُوهُ وَخَالَفُوا
مَا فِيهِ، وَأَبَاحُوا لَهُ مُفَارَقَتَهُ خَشِيَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ أَوْ لَمْ
يَخْشَ.
قال علي: هذا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَمُبْدِي
تَخَاذُلَ عِلْمِهِمْ وَقِلَّةَ فَهْمِهِمْ
(8/360)
وَنَحْنُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى نَذْكُرُ مَا هُوَ أَقْوَى شُبْهَةً لَهُمْ،
وَنُبَيِّنُ حَسْمَ التَّعَلُّقِ بِهِ لِمَنْ عَسَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ:
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم فِي سَفَرٍ فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ فَكَانَ يَغْلِبُنِي
فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ ثُمَّ
يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بِعْنِيهِ
فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ
قَالُوا فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَ تَفَرُّقَ فِيهِ وَهِبَةٌ لِمَا ابْتَاعَ عليه
السلام قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِلاَ شَكٍّ.
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا
أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفَرُّقٌ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَعْدَ الْعَقْدِ،
وَلَيْسَ السُّكُوتُ عَنْهُ بِمَانِعٍ مِنْ كَوْنِهِ ; لأََنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ
تَقْتَضِيه، وَلاَ بُدَّ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَمَنٌ أَيْضًا،
فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الْبَيْعَ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ أَصْلاً ;
لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ. فَإِنْ قَالُوا: لاَ بُدَّ مِنْ الثَّمَنِ
بِلاَ شَكٍّ ; لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِهِ قلنا: وَلاَ بُدَّ مِنْ
التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ ; لأََنَّ الْبَيْعَ لاَ يَكُونُ بَيْعًا، وَلاَ
يَصِحُّ أَصْلاً إِلاَّ بِأَحَدِهِمَا، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي
احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي إسْقَاطِ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ
مِنْ التَّخْيِيرِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَبَيْنَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ فِي الْبَيْعِ
بِالْمُحَرَّمَاتِ ; لأََنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ ثَمَنٌ أَصْلاً، وَهَذِهِ
هِبَةٌ لِمَا اُبْتِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلاَفِ رَأْي الْحَنَفِيِّينَ فَهُوَ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الإِشْهَادِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي
هَذَا الْبَيْعِ تَخْيِيرٌ، وَلاَ إشْهَادٌ أَصْلاً وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا
فَمَنْ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا
أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ وَبَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالإِشْهَادِ، وَمَنْ ادَّعَى عِلْمَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَّابٌ أَفِكٌ يَتَبَوَّأُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ لِكَذِبِهِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ
فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ كَانَ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَإِنْ
لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَلاَ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَإِنَّ الإِشْهَادَ لَمْ
يَكُنْ لاَزِمًا وَإِنَّمَا وَجَبَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا حِينَ الأَمْرِ بِهِ لاَ
قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقْطَعُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لاَ يُخَالِفُ أَمْرَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَفْعَلُ مَا نَهَى عَنْهُ
أُمَّتَهُ، هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا، وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا أَوْ
أَجَازَ كَوْنَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، نَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ عليه السلام لَوْ نَسَخَ
مَا أَمَرَنَا بِهِ لَبَيَّنَهُ حَتَّى لاَ يَشُكَّ عَالِمٌ بِسُنَّتِهِ فِي
أَنَّهُ قَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ وَأَثْبَتَ مَا أَثْبَتَ. وَلَوْ جَازَ غَيْرُ
هَذَا وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ لَكَانَ دِينُ الإِسْلاَمِ فَاسِدًا لاَ يَدْرِي
أَحَدٌ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ مِمَّا أَوْجَبَ
(8/361)
رَبُّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، إنَّ هَذَا لَهُوَ الضَّلاَلُ
الْمُبِينُ الَّذِي يُكَذِّبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْ يَقُولُ: {تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ} َ {وَلِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} . وَقَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ، وَالدِّينُ كُلُّهُ رُشْدٌ وَخِلاَفُ كُلِّ شَيْءٍ
مِنْهُ غَيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ كُلَّ ذَلِكَ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى
كَذِبًا، وَالرَّسُولُ عليه السلام لَمْ يُبَيِّنْ، وَلَمْ يُبَلِّغْ وَالدِّينُ
ذَاهِبًا فَاسِدًا وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ مِمَّنْ أَجَازَ كَوْنَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّاوِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ
أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ، وَهُوَ
الَّذِي كَانَ لاَ يَرَى الْبَيْعَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ،
فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِمْ أَعْلَمُ بِمَا رُوِيَ. وَسَقَطَ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ
الْعَالَمِينَ. وقال بعضهم: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الْغَرَرِ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ لاَ يَدْرِيَانِ مَتَى
يَنْقَطِعُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَلاَمٌ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْعَقْدَ
قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ التَّخْيِيرِ: لَيْسَ بَيْعًا أَصْلاً
لاَ بَيْعَ غَرَرٍ، وَلاَ بَيْعَ سَلاَمَةٍ، كَمَا قَالَ عليه السلام: إنَّهُ لاَ
بَيْعَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَا مَعًا فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي بَيْعِ الْغَرَرِ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا: مِنْ
أَنَّ لَهُمَا خِيَارًا لاَ يَدْرِيَانِ مَتَى يَنْقَطِعُ، بَلْ أَيُّهُمَا شَاءَ
قَطْعَهُ قَطَعَهُ فِي الْوَقْتِ، بِأَنْ يُخَيِّرَ صَاحِبَهُ فأما يُمْضِيَهُ
فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَيَنْقَطِعُ الْخِيَارُ، وَأَمَّا يَفْسَخُهُ فَيَبْطُلُ
حُكْمُ الْعَقْدِ وَتَمَادِيهِ، أَوْ بِأَنْ يَقُومَ فَيُفَارِقَ صَاحِبَهُ كَمَا
كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ فَظَهَرَ بِرَدِّ هَذَا الأَعْتِرَاضِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالرَّأْيِ السَّخِيفِ، وَالْعَقْلِ الْهَجِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ غَرَرًا شَيْءٌ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأََنَّهُ لاَ يَأْمُرُ بِمَا نَهَى عَنْهُ مَعًا
حَاشَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَازَهُ هَؤُلاَءِ
بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ اللَّبَنَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِي
ضُرُوعِ الْغَنَمِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ. وَبَيْعِ الْجَزَرِ الْمُغَيَّبِ فِي
الأَرْضِ الَّذِي لَمْ يَرَهُ إنْسِيٌّ، وَلاَ عَرَفَ صِفَتَهُ، وَلاَ أَهُوَ
جَزَرٌ أَمْ هُوَ مَعْفُونٌ مُسَوَّسٌ لاَ خَيْرَ فِيهِ وَبَيْعِ أَحَدِ
ثَوْبَيْنِ لاَ يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ الْمُشْتَرَى. وَالْمَقَاثِي الَّتِي لَمْ
تُخْلَقْ، وَالْغَائِبِ الَّذِي لَمْ يُوصَفْ، وَلاَ عُرِفَ فَهَذَا هُوَ
الْغَرَرُ الْمُحَرَّمُ الْمَفْسُوخُ الْبَاطِلُ حَقًّا. فَإِنْ ذَكَرُوا مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ،
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ الْيَمَامِيِّ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ السُّحَيْمِيِّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا
بِخِيَارٍ .
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا ; لأََنَّهُ عَلَيْهِمْ لَوْ صَحَّ،
وَالتَّفَرُّقُ مِنْ الْبَيْعِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ لاَ
ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا بِتَفَرُّقِ الأَبْدَانِ فَيَتِمُّ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ
وَيَتَفَرَّقَانِ مِنْهُ حِينَئِذٍ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْ
يَتَفَرَّقَا مِنْهُ بِفَسْخِهِ وَإِبْطَالِهِ: لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا
فَكَيْفَ وَأَيُّوبُ بْنُ عُتْبَةَ ضَعِيفٌ لاَ نَرْضَى الأَحْتِجَاجَ
بِرِوَايَتِهِ أَصْلاً وَإِنْ كَانَتْ لَنَا. وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ
تَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ دِينِهِ.
(8/362)
وَضَعْفِ
عَقْلِهِ، فَقَالَ: مَعْنَى مَا لَمْ يَفْتَرِقَا: إنَّمَا أَرَادَ مَا لَمْ
يَتَّفِقَا، كَمَا يُقَالُ لِلْقَوْمِ عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمْ أَيْ عَلَى
مَاذَا اتَّفَقْتُمْ فَأَرَادَ عَلَى مَاذَا افْتَرَقْتُمَا، عَنْ كَلاَمِكُمَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى
كَاذِبَةً بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَنْ لَكُمْ بِصَرْفِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ:
هَذَا هُوَ السَّفْسَطَةُ بِعَيْنِهِ، وَرَدُّ الْكَلاَمِ إلَى ضِدِّهِ أَبَدًا،
وَلاَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا حَقِيقَةً، وَلاَ يَعْجِزُ أَحَدٌ، عَنْ أَنْ يَقُولَ
كَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ. وَهَذِهِ سَبِيلُ
الرَّوَافِضِ، إذْ يَقُولُونَ: إنَّ الْجِبْتَ وَالطَّاغُوتَ إنَّمَا هُمَا
إنْسَانَانِ بِعَيْنِهِمَا، وَأَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً إنَّمَا هِيَ فُلاَنَةُ
بِعَيْنِهَا. وَالثَّالِثِ: أَنْ نَقُولَ لَهُمْ: فَكَيْفَ، وَلَوْ جَازَ هَذَا
التَّأْوِيلُ لَكَانَ مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ
يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبَايَعَا
عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ
يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ مُكَذِّبًا
لِهَذَا التَّأْوِيلِ الْكَاذِبِ الْمُدَّعَى بِلاَ دَلِيلٍ، وَمُبَيِّنًا أَنَّ
التَّفَرُّقَ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الْبَيْعُ لاَ يَكُونُ أَلْبَتَّةَ عَلَى رَغْمِ
أُنُوفِهِمْ، إِلاَّ بَعْدَ التَّبَايُعِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لاَ كَمَا ظَنَّ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّهُ فِي حَالِ التَّبَايُعِ
وَمَعَ آخِرِ كَلاَمِهِمَا.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ طَائِفَةً مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ
يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا وَهَذَا مِمَّا
خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ إبْرَاهِيمَ،
ثُمَّ جَاءَ بَعْضُهُمْ بِعَجَبٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ زَادُوا فِي الْكَذِبِ،
فَأَتَوْا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ:
الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ
أَنَّ عُمَرَ وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: إنَّمَا
الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ، وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ. وَمِنْ
طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْبَيْعُ،
عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ، وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ شَرْطُهُ.
قال أبو محمد: مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا، وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَرَاءَةِ
مِنْ الْحَيَاءِ: الأَحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي مُعَارَضَةِ
السُّنَنِ، وَكُلُّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ: أَوَّلِهَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ
مِنْهَا يَصِحُّ ; لأََنَّهَا مُرْسَلاَتٌ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَاةَ وَهُوَ مَالِكٌ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَمَا أَدْرَاك مَا
شَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ لَيْتَ شِعْرِي أَبِهَذَا يَحْتَجُّونَ إذَا وَقَفُوا
فِي عَرْصَةِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَاذُك اللَّهُمَّ مِنْ التَّلاَعُبِ
بِالدِّينِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلَّقٌ، لأََنَّهُ
لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إبْطَالُ مَا حَكَمَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّهُ لاَ بَيْعَ إِلاَّ بَعْدَ
التَّفَرُّقِ أَوْ التَّخْيِيرِ . وَكَلاَمُ عُمَرَ هَذَا لَوْ سَمِعْنَاهُ مِنْ
عُمَرَ لَمَا كَانَ خِلاَفًا لِقَوْلِنَا ; لأََنَّ الصَّفْقَةَ مَا صَحَّ مِنْ
(8/363)
الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ، وَالْخِيَارَ مَا صَحَّ مِنْ الْبَيْعِ بِالتَّخْيِيرِ، كَمَا قَالَ عليه السلام، وَحَكَمَ أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْبَيِّعَيْنِ إِلاَّ بِأَنْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَكَيْفَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا نَصًّا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: أَقْبَلْت أَقُولُ: مَنْ يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرِنَا ذَهَبَك ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا نُعْطِيك وَرِقَك فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَلًّا وَاَللَّهِ لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَهُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ دِرْهَمَهُ. فَهَذَا عُمَرُ يُبِيحُ لَهُ رَدَّ الذَّهَبِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَتَرْكِ الصَّفْقَةِ. فإن قيل: لَمْ يَكُنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا قلنا: هَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّ هَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ الْتَمَسَ، صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي وَأَخَذَ ذَهَبَهُ فَقَلَّبَهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَنِي خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لاَ تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَهُ. فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الصَّرْفَ قَدْ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فَصَحَّ أَنَّ عُمَرَ وَبِحَضْرَتِهِ طَلْحَةُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ يَرَوْنَ فَسْخَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَا ادَّعَوْهُ مَا كَانَ فِي قَوْلِهِ حُجَّةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ عَلَيْهِ، وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ وَمَعَهُ السُّنَّةُ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ أَوَّلُ ذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا، عَنْ عُمَرَ كَمَا تَرَى " وَالْمُسْلِمُ عِنْدَ شَرْطِهِ " وَهُمْ يُبْطِلُونَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا. وَنَسُوا خِلاَفَهُمْ لِعُمَرَ فِي قَوْلِهِ: الْمَاءُ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. وَأَخْذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الرَّقِيقِ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارًا. وَإِيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي نَاضِّ الْيَتِيمِ. وَتَرْكِهِ فِي الْخَرْصِ فِي النَّخْلِ مَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ وَالْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَزِيدَ مِنْ مِائَةِ قَضِيَّةٍ فَصَارَ هَهُنَا الظَّنُّ الْكَاذِبُ فِي الرِّوَايَةِ الْكَاذِبَةِ، عَنْ عُمَرَ: حُجَّةً فِي رَدِّ السُّنَنِ. فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ نَفْسَهَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بَيْعٌ إِلاَّ، عَنْ صَفْقَةِ وَتَخَايُرٍ هَكَذَا بِوَاوِ الْعَطْفِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، وَمُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، وَمُوجِبٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَرَ الْبَيْعَ إِلاَّ مَا جَمَعَ الْعَقْدَ، وَالتَّخْيِيرُ سِوَى الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَبْلُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، فَظَهَرَ فَسَادُ تَعَلُّقِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ عَنْهُ: مَا أَدْرَكْت
(8/364)
الصَّفْقَةَ
حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِمْ ; لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ
لِهَذَا الْخَبَرِ: فَالْحَنَفِيُّونَ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ مِنْ الْبَائِعِ مَا
لَمْ يَرَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ الْبَائِعُ وَالْمَالِكِيُّونَ
يَقُولُونَ: بَلْ إنْ كَانَ غَائِبًا غِيبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ.
فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِخَبَرٍ هُوَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ، وَيُجَاهِرُ
هَذِهِ الْمُجَاهَرَةَ وَمَا فِي كَلاَمِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا شَيْءٌ يُخَالِفُ مَا
صَحَّ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ
بِالأَبْدَانِ. فَقَوْلُهُ: مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ، إنَّمَا أَرَادَ الْبَيْعَ
التَّامَّ بِلاَ شَكٍّ. وَمِنْ قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إنَّهُ لاَ بَيْعَ يَتِمُّ
أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ بِالتَّخْيِيرِ بَعْدَ
الْعَقْدِ. قَالَ عَلِيٌّ: فَظَهَرَ عَظِيمُ فُحْشِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ،
وَعَظِيمُ تَنَاقُضِهِمْ فِيهَا، وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ
كَالْمُسْنَدِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بَلْ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ
إذَا وَافَقَهُمْ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ طَاوُوس أَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ إِلاَّ
بَعْدَ الْبَيْعِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: الرَّاوِي أَعْلَمُ بِمَا رَوَى. وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا
قَاسِمٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْبَيْعُ، عَنْ تَرَاضٍ وَالتَّخْيِيرُ بَعْدَ
الصَّفْقَةِ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَغْبِنَ مُسْلِمًا . فَهَذَانِ
مُرْسَلاَنِ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ، مُبْطِلاَنِ لِقَوْلِهِمْ الْخَبِيثِ
الْمُعَارِضِ لِلسُّنَنِ، فَأَيْنَ هُمْ عَنْهُ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ
يَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَقُولُوا مَا لاَ يَفْعَلُونَ
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَقْتِهِ قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ بَعْضَ
أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسُّخْفِ قَالَ: هَذَا خَبَرٌ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ شَتَّى
فَهُوَ مُضْطَرِبٌ. قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ كَذَبَ بَلْ أَلْفَاظُهُ كُلُّهَا
ثَابِتَةٌ مَنْقُولَةٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخْتَلِفًا أَصْلاً، لَكِنَّهَا أَلْفَاظٌ يُبَيِّنُ
بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا أُمِرَ عليه السلام بِبَيَانِ وَحَيِّ رَبِّهِ تَعَالَى.
(8/365)
بيان
الرد على من يوجب التخيير في البيع ثلاث مرات وخالف الحديث في ذلك
...
1418 - مَسْأَلَةٌ: فإن قيل: فَهَلاَّ أَوْجَبْتُمْ التَّخْيِيرَ فِي الْبَيْعِ
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
لِمَا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
الْبَيِّعَانِ
(8/365)
بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ مَا هَوِيَ أَوْ يَتَخَايَرَانِ ثَلاَثَ مِرَارٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَنَا حَيَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا قَالَ هَمَّامٌ: وَجَدْت فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيَمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ أَيْضًا قلنا: رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مُرْسَلَةٌ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلاَّ حَدِيثُ الْعَقِيقَةِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ هَمَّامٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهَا، وَلاَ رَوَاهَا، وَلاَ أَسْنَدَهَا، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ، وَلاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: ثَلاَثَ مِرَارٍ. وَقَدْ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدِ الْخَيْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ النَّجِيرَمِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَهَمَّامٌ، كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثِهِ: إنَّهُ سَمِعَ صَالِحًا أَبَا الْخَلِيلِ يُحَدِّث، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا . قَالَ أَبُو دَاوُد: وَحَدِيثُ هَمَّامٍ مِثْلُ هَذَا فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَثَبَتَ هَمَّامٌ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَمْ يَقُلْ إذْ وَجَدَهَا فِي كِتَابِهِ: إنَّهَا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَوَاللَّهِ لَوْ ثَبَتَ هَمَّامٌ عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَتِهِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ لَقُلْنَا بِهَا; لأََنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ زِيَادَةً.
(8/366)
إن
تبايعا في بيت فخرج أحدهما عن البيت أو دخل حنية في البيت فقد تفرقا وتم البيع أو
تبايعا في حنية فخرج أحدهم إلى البيت فقد تفرقا وتم البيع
...
1419 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَبَايَعَا فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا، عَنِ
الْبَيْتِ، أَوْ دَخَلَ حَنِيَّةً فِي الْبَيْتِ: فَقَدْ تَفَرَّقَا وَتَمَّ
الْبَيْعُ، أَوْ تَبَايَعَا فِي حَنِيَّةِ أَحَدِهِمَا إلَى الْبَيْتِ: فَقَدْ
تَفَرَّقَا وَتَمَّ الْبَيْعُ.
فَلَوْ تَبَايَعَا فِي صَحْنِ دَارٍ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا الْبَيْتَ: فَقَدْ
تَفَرَّقَا وَتَمَّ الْبَيْعُ. فَلَوْ تَبَايَعَا فِي دَارٍ، أَوْ خُصٍّ فَخَرَجَ
أَحَدُهُمَا إلَى الطَّرِيقِ، أَوْ تَبَايَعَا فِي طَرِيقٍ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا
دَارًا، أَوْ خُصًّا: فَقَدْ تَفَرَّقَا وَتَمَّ الْبَيْعُ. فَإِنْ تَبَايَعَا فِي
سَفِينَةٍ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا الْبِلِّيجَ، أَوْ الْخِزَانَةَ، أَوْ مَضَى إلَى
الفندقوق، أَوْ صَعِدَ الصَّارِي: فَقَدْ تَفَرَّقَا وَتَمَّ الْبَيْعُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَايَعَا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا
إلَى السَّفِينَةِ: فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ إذْ تَفَرَّقَا فَإِنْ تَبَايَعَا فِي
دُكَّانٍ فَزَالَ أَحَدُهُمَا إلَى دُكَّانٍ آخَرَ، أَوْ خَرَجَ إلَى
(8/366)
الطَّرِيقِ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ وَتَفَرَّقَا. وَلَوْ تَبَايَعَا فِي الطَّرِيقِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا الدُّكَّانَ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ وَتَفَرَّقَا. فَلَوْ تَبَايَعَا فِي سَفَرٍ أَوْ فِي فَضَاءٍ فَإِنَّهُمَا لاَ يَفْتَرِقَانِ إِلاَّ بِأَنْ يَصِيرَ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ يُسَمَّى تَفْرِيقًا فِي اللُّغَةِ، أَوْ بِأَنْ يَغِيبَ، عَنْ بَصَرِهِ فِي الرُّفْقَةِ، أَوْ خَلْفَ رَبْوَةٍ، أَوْ خَلْفَ شَجَرَةٍ، أَوْ فِي حُفْرَةٍ وَإِنَّمَا يُرَاعَى مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ تَفْرِيقًا فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/367)
لو
تنازع المتبايعان في التخيير وتمام البيع فالقول قول مبطل البيع منهما مع يمينه
لأنه مدعى عليه عقد بيع لا يقربه ولا بينة عليه به فليس عليه إلا اليمين
...
1420 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ تَنَازَعَ الْمُتَبَايِعَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا:
تَفَرَّقْنَا وَتَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ قَالَ: خَيَّرْتنِي، أَوْ قَالَ: خَيَّرْتُك
فَاخْتَرْتَ أَوْ اخْتَرْتُ تَمَامَ الْبَيْعِ وَقَالَ الآخَرُ: بَلْ مَا
تَفَرَّقْنَا حَتَّى فَسَخْتُ وَمَا خَيَّرْتنِي، وَلاَ خَيَّرْتُك، أَوْ أَقَرَّ
بِالتَّخْيِيرِ وَقَالَ: فَلَمْ أَخْتَرْ أَنَا، أَوْ قَالَ: أَنْتَ تَمَامُ
الْبَيْعِ: فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ مَعْرُوفَةً لِلْبَائِعِ
بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِعِلْمِ الْحَاكِمِ، وَلاَ نُبَالِي حِينَئِذٍ فِي يَدِ مَنْ
كَانَتْ مِنْهُمَا، وَلاَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْهُمَا أَوْ كَانَتْ
غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ إِلاَّ أَنَّهَا فِي يَدِهِ وَالثَّمَنُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي
فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي كُلِّ هَذَا قَوْلُ مُبْطِلِ الْبَيْعِ مِنْهُمَا كَائِنًا
مَنْ كَانَ مَعَ يَمِينِهِ،
لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ عَقْدُ بَيْعٍ لاَ يُقَرُّ بِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ
عَلَيْهِ بِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَتْ
السِّلْعَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهِيَ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لِلْبَائِعِ وَكَانَ
الثَّمَنُ عِنْدَ الْبَائِعِ بَعْدُ: فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُصَحِّحِ الْبَيْعِ
مِنْهُمَا كَائِنًا مَنْ كَانَ مَعَ يَمِينِهِ ; لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ
نَقْلُ شَيْءٍ، عَنْ يَدِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ
لَهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ. فَلَوْ كَانَتْ السِّلْعَةُ
وَالثَّمَنُ مَعًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ
لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ كَمَا قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَبَايِعَانِ، مِثْلُ
أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: ابْتَعْته بِنَقْدٍ، وَيَقُولَ الآخَرُ: بَلْ
بِنَسِيئَةٍ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: بِكَذَا أَوْ كَذَا، أَوْ قَالَ الآخَرُ:
بَلْ أَكْثَرُ أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: بِعَرَضٍ وَقَالَ الآخَرُ: بِعَرَضٍ آخَرَ،
أَوْ بِعَيْنٍ. أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: بِدَنَانِيرَ، وَقَالَ الآخَرُ
بِدَرَاهِمَ أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بِصِفَةِ كَذَا وَذَكَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ
الْبَيْعُ وَقَالَ الآخَرُ. بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَ فِي قَوْلِ
أَحَدِهِمَا إقْرَارٌ لِلآخَرِ بِزِيَادَةٍ إقْرَارًا صَحِيحًا أُلْزِمَ مَا
أَقَرَّ بِهِ، وَلاَ بُدَّ: فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ بِيَدِ الْبَائِعِ
وَالثَّمَنُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي، فَهُنَا هُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعًى
عَلَيْهِ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهَا مِنْهُ كَمَا يَذْكُرُ،
وَلاَ بِمَا يَذْكُرُ، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا بَاعَهَا مِنِّي
بِمَا يَذْكُرُ، وَلاَ كَمَا يَذْكُرُ، وَيَبْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ
طَلَبِ، الآخَرِ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَا مِنْ الْبَيْعِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى
أَنَّ الْبَيِّعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا تَرَادَّا الْبَيْعَ دُونَ أَيْمَانٍ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ مَعْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ بَاعَ
مِنْ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ بَيْعًا فَاخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ، فَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: بِعِشْرِينَ، وَقَالَ الأَشْعَثُ: بِعَشَرَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك
(8/367)
رَجُلاً
فَقَالَ لَهُ الأَشْعَثُ: أَنْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِك، قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: فَإِنِّي أَقُولُ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ،
أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيْعَ . وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَحْلِفُ الْبَائِعُ فَإِنْ شَاءَ
الْمُشْتَرِي أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ يَمِينًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَفُسِخَ
الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ هَلَكَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ
يَمِينِهِ، هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ بَيِّنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ
بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَالِكٍ وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ فِي الْمُسْتَهْلَكَةِ بِذَلِكَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ حَلَفَا جَمِيعًا، فَإِنْ
حَلَفَا أَوْ نَكَلاَ فُسِخَ الْبَيْعُ وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ
الآخَرُ قُضِيَ بِقَوْلِ الَّذِي حَلَفَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ
مُسْتَهْلَكَةً وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ، إِلاَّ أَنَّهُمَا قَالاَ: يَتَرَادَّانِ ثَمَنَ الْمُسْتَهْلَكَةِ،
وَقَالَ عَطَاءٌ يُرَدُّ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا وَقَالَ زُفَرُ بْنُ
الْهُذَيْلِ فِي السِّلْعَةِ الْقَائِمَةِ: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ،
وَأَمَّا الْمُسْتَهْلَكَةُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ مِنْ
جِنْسٍ وَاحِدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ
تَحَالَفَا وَتَرَادَّا قِيمَةَ الْمَبِيعِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَبُو
ثَوْرٍ: الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَائِمَةً كَانَتْ السِّلْعَةُ أَوْ مُسْتَهْلَكَةً
قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ.
قال أبو محمد: فأما قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَحْمَدَ،
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرنَا فِيهِ وَرُوِّينَاهُ
بِلَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ
الْبَائِعُ، وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ فَاللَّفْظُ الأَوَّلُ رُوِّينَاهُ كَمَا
ذَكَرْنَاهُ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي
عُمَيْسٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَيْسٍ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْقَاضِي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ: وَأَمَّا
اللَّفْظُ الثَّانِي فَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عَوْنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ ;
لأََنَّهَا كُلَّهَا مُرْسَلاَتٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَسْعُودٍ كَانَ لَهُ
إذْ مَاتَ أَبُوهُ رضي الله عنه سِتُّ سِنِينَ فَقَطْ، لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ
كَلِمَةً، وَالرَّاوِي عَنْهُ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنُ
أَبِي لَيْلَى وَهُوَ سَيِّئُ الْحِفْظِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ الأَشْعَثِ ظَالِمٌ مِنْ ظَلَمَةِ الْحَجَّاجِ لاَ حُجَّةَ فِي رِوَايَتِهِ
وَأَيْضًا فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَبُو عُمَيْسٍ شَيْئًا لِتَأَخُّرِ سَنِّهِ،
عَنْ لِقَائِهِ وَأَيْضًا فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ وَهُوَ مَجْهُولُ
ابْنُ مَجْهُولٍ وَأَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ الأَشْعَثِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ: فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ جُمْلَةً. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ لَهُ بِمَا
رُوِّينَا مِنْ
(8/368)
طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي إسْمَاعِيلُ
بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ سِلْعَةً
يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَخَذْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الآخَرُ: بِعْتُهَا
بِكَذَا وَكَذَا، بِأَنْ يُسْتَحْلَفَ الْبَائِعُ، ثُمَّ يَخْتَارَ الْمُبْتَاعُ،
فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ ابْنٍ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَهَذَا لاَ شَيْءَ لأََنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ سُئِلَ أَتَذْكُرُ مِنْ أَبِيك شَيْئًا قَالَ: لاَ وَلَمْ يَكُنْ
لِعَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه مِنْ الْوَلَدِ إِلاَّ أَبُو عُبَيْدَةَ وَهُوَ
أَكْبَرُهُمْ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ تَرَكَهُ ابْنَ سِتِّ سِنِينَ، وَعُتْبَةُ
وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورُ مَجْهُولٌ:
فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا سَائِرُ الأَقْوَالِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ أَصْلاً، لاَ
سِيَّمَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السِّلْعَةِ الْقَائِمَةِ وَالْمُسْتَهْلِكَةِ،
وَمَنْ حَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ: فَإِنَّهُ لاَ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ
أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا إطْلاَقًا سَامَحُوا فِيهِ قِلَّةَ
الْوَرَعِ يَعْنِي الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ فَلاَ يَزَالُونَ
يَقُولُونَ فِي كُتُبِهِمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إذَا
اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ
وَيَتَرَادَّانِ . وَهَذَا لاَ يُوجَدُ أَبَدًا لاَ فِي مُرْسَلٍ، وَلاَ فِي
مُسْنَدٍ، لاَ فِي قَوِيٍّ، وَلاَ فِي ضَعِيفٍ، إِلاَّ أَنْ يُوضَعَ لِلْوَقْتِ.
قال علي: وهذا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ، فَخَالَفُوا الْمُرْسَلَ الْمَذْكُورَ،
وَخَالَفُوا ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ،
رضي الله عنهم، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِقَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ:
لَمَّا كَانَ كِلاَهُمَا مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْيَمِينُ
جَمِيعًا، فَإِنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنًا أَوْ عَقْدًا
لاَ يُقِرُّ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ عَقْدًا
لاَ يُقِرُّ بِهِ الْبَائِعُ.
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ مَكَان كَمَا ذَكَرُوا ; لأََنَّ مَنْ كَانَ
بِيَدِهِ شَيْءٌ لاَ يَعْرِفُ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ: هَذَا لِي
بِعْته مِنْك بِمِثْقَالَيْنِ، وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ: بَلْ ابْتَعْته
مِنْك بِمِثْقَالٍ وَقَدْ أَنْصَفْتُك، فَإِنَّ الَّذِي الشَّيْءُ بِيَدِهِ لَيْسَ
مُدَّعِيًا عَلَى الآخَرِ بِشَيْءٍ أَصْلاً ; لأََنَّ الْحُكْمَ أَنَّ كُلَّ مَا
بِيَدِ الْمَرْءِ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ ادَّعَى فِيهِ مُدَّعٍ: حَلَفَ الَّذِي هُوَ
بِيَدِهِ وَبَرِئَ وَلَمْ يُقِرَّ لَهُ قَطُّ بِمِلْكِهِ إقْرَارًا مُطْلَقًا،
فَلَيْسَ الْبَائِعُ هَهُنَا مُدَّعًى عَلَيْهِ أَصْلاً. وَقَدْ عَظُمَ
تَنَاقُضُهُمْ هَهُنَا، لاَ سِيَّمَا تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ السِّلْعَةِ
الْقَائِمَةِ وَالْمُسْتَهْلِكَةِ فَهُوَ شَيْءٌ لاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ
مَعْقُولٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَيُعَارِضُونَ بِمَا احْتَجَّ لَهُ
أَصْحَابُنَا، وَأَبُو ثَوْرٍ، فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ
الْمُشْتَرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ مَعَ يَمِينِهِ ; لأََنَّهُمَا جَمِيعًا قَدْ
اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، وَعَلَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَى الْمُشْتَرِي،
ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا لاَ يُقِرُّ لَهُ بِهِ
الْمُشْتَرِي، وَهَذَا أَشْبَهُ بِأُصُولِ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ:
مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي الإِقْرَارِ.
(8/369)
قال أبو محمد: وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا صَحِيحًا ; لأََنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَافِقْ الْمُشْتَرِيَ قَطُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فِي مَالِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَبِالْبَيْعِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي فِيهَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِإِقْرَارٍ هُوَ مَكْذُوبٌ لَهُ. فَصَحَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قُلْنَاهُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِيَدِ إنْسَانٍ فَهُوَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بِمِلْكِهِ بَيِّنَةٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ. وَالْعَجَبُ مِنْ إيهَامِ الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ جُمْلَةً كَمَا أَوْرَدْنَا، لاَ سِيَّمَا الشَّافِعِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمُرْسَلِ، ثُمَّ أَخَذُوا هَهُنَا بِمُرْسَلٍ، وَلَيْتَهُمْ صَدَقُوا فِي أَخْذِهِمْ بِهِ، بَلْ خَالَفُوهُ، وَتَنَاقَضُوا كُلُّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي، فَتَاوِيهمْ فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَنَاقُضًا كَثِيرًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وأعجب شَيْءٍ فِي هَذَا تَحْلِيفُ الْمَالِكِيِّينَ لِلْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي: بِأَنْ يَحْلِفَ الْبَائِعُ: بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتُكهَا بِكَذَا وَكَذَا، وَبِأَنْ يَحْلِفَ الْمُشْتَرِي: بِاَللَّهِ لَقَدْ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِكَذَا وَكَذَا، فَيَجْمَعُونَ فِي هَذَا أُعْجُوبَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تَحْلِيفُهُمَا عَلَى مَا يَدَّعِيَانِهِ لاَ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ، وَالأُُخْرَى أَنَّهُمْ يُحَلِّفُونَهُمَا كَذَلِكَ ثُمَّ لاَ يُعْطُونَهُمَا مَا حَلَفَا عَلَيْهِ، فَأَيُّ مَعْنًى لِتَحْلِيفِهِمَا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِ مَا يَدَّعِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ، وَالأُُخْرَى أَنَّهُمْ يُحَلِّفُونَهُمَا كَذَلِكَ ثُمَّ لاَ يُعْطُونَهُمَا مَا حَلَفَا عَلَيْهِ، فَأَيُّ مَعْنًى لِتَحْلِيفِهِمَا بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِ مَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ وَيَبْرَأُ. وَأَمَّا هُمْ وَمَنْ يَرَى رَدَّ الْيَمِينِ: فَإِنَّهُ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي عَلَى مَا ادَّعَى وَيَقْضُونَ لَهُ بِهِ، وَنَقَضُوا هَهُنَا أُصُولَهُمْ أَقْبَحَ نَقْضٍ وَأَفْسَدَهُ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً. وَقَالُوا أَيْضًا: إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا صِحَّةَ الْعَمَلِ، وَالآخَرُ فَسَادَهُ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ، وَلاَ يُدْرَى مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/370)
كل
بيع وقع بشرط خيار للبائع أو للمشتري أولهما جميعا أو لغيرهما خيار ساعة أو يوم أو
ثلاثة أيام أو أكثر فهو باطل تخيرا انفاذه أو لم يتخير
...
1421 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ بَيْعٍ وَقَعَ بِشَرْطِ خِيَارٍ لِلْبَائِعِ، أَوْ
لِلْمُشْتَرِي، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا: خِيَارَ سَاعَةٍ، أَوْ
يَوْمٍ، أَوْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ: فَهُوَ بَاطِلٌ
تَخَيَّرَا إنْفَاذَهُ أَوْ لَمْ يَتَخَيَّرَا فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي
بِإِذْنِ بَائِعِهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ،
فَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، أَوْ بِغَيْرِ
حُكْمِ حَاكِمٍ: ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَحْدَثَ فِيهِ حَدَثًا ضَمِنَهُ ضَمَانَ التَّعَدِّي. وقال أبو
حنيفة: بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَهُمَا مَعًا،
وَلأَِنْسَانٍ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ رَدَّ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ
فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَإِنْ أَمْضَاهُ فَهُوَ مَاضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُجِيزُ
مُدَّةَ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ لَكِنْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
فَأَقَلَّ فَإِنْ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَطَلَ
الْبَيْعُ، فَإِنْ تَبَايَعَا بِخِيَارٍ وَلَمْ يَذْكُرَا مُدَّةً فَهُوَ إلَى
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، فَقَالاَ: الْخِيَارُ
جَائِزٌ إلَى مَا تَعَاقَدَاهُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَمْ قَصُرَتْ وَاتَّفَقُوا فِي
كُلِّ مَا عَدَا ذَلِكَ وَالنَّقْدُ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ
بِتَطَوُّعِ الْمُشْتَرِي لاَ بِشَرْطٍ أَصْلاً فَإِنْ تَشَارَطَا النَّقْدَ
فَسَدَ الْبَيْعُ، فَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ
فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، فَإِنْ تَلِفَ الشَّيْءُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ:
فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِذَلِكَ
الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ
(8/370)
فَعَلَى
الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ لاَ ثَمَنُهُ، وَلِلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ مِنْهُمَا
إنْفَاذُ الرِّضَا بِغَيْرِ مَحْضَرِ الآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ
الْبَيْعَ إِلاَّ بِمَحْضَرِ الآخَرِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ
بِالرِّضَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ عَلَى
الْبَائِعِ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ وَسَاوِسُ، وَأَحْكَامٌ لاَ يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ،
وَأَقْسَامٌ وَأَحْكَامٌ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ
وقال مالك: بَيْعُ الْخِيَارِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ،
إِلاَّ أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ عِنْدَهُ تَخْتَلِفُ: أَمَّا فِي الثَّوْبِ فَلاَ
يَجُوزُ الْخِيَارُ عِنْدَهُ إِلاَّ يَوْمَيْنِ فَأَقَلَّ، فَمَا زَادَ فَلاَ
خِيَرَ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلاَ يَجُوزُ الْخِيَارُ عِنْدَهُ فِيهَا
إِلاَّ جُمُعَةً فَأَقَلَّ، فَمَا زَادَ فَلاَ خِيَرَ فِيهِ: يَنْظُرُ إلَى
خَبَرِهَا، وَهَيْئَتِهَا، وَعَمَلِهَا. وَأَمَّا الدَّابَّةُ فَيَوْمٌ فَأَقَلُّ،
أَوْ سَيْرُ الْبَرِيدِ فَأَقَلُّ. وَأَمَّا الدَّارُ فَالشَّهْرُ فَأَقَلُّ
وَإِنَّمَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ لِيَسْتَشِيرَ وَيَخْتَبِرَ الْبَيْعَ وَأَمَّا
مَا بَعُدَ مِنْ أَجْلِ الْخِيَارِ فَلاَ خِيَرَ فِيهِ ; لأََنَّهُ غَرَرٌ. وَلاَ
يَجُوزُ عِنْدَهُ النَّقْدُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ لاَ بِشَرْطٍ، وَلاَ بِغَيْرِ
شَرْطٍ فَإِنْ تَشَارَطَاهُ فَسَدَ الْبَيْعُ، فَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ
الْخِيَارُ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ. فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ
الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنْ مُصِيبَةِ
الْبَائِعِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ
لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَلِلَّذِي لَهُ
الْخِيَارُ الرَّدُّ وَالرِّضَا بِغَيْرِ مَحْضَرِ الآخَرِ وَبِمَحْضَرِهِ
وَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنْ انْقَضَى
أَمَدُ الْخِيَارِ وَلَمْ يَرُدَّ، وَلاَ رَضِيَ: فَلَهُ الرَّدُّ بَعْدَ ذَلِكَ
بِيَوْمٍ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَزِمَهُ الْبَيْعُ. وَهَذِهِ
أَقْوَالٌ فِي الْفَسَادِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَلاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ، وَتَحْدِيدَاتٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا
مِنْ الْجَارِيَةِ، وَالثَّوْبِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ: قَدْ يُخْتَبَرُ،
وَيُسْتَشَارُ فِيهِ فِي أَقَلَّ مِنْ الْمُدَدِ الَّتِي ذَكَرُوا، وَفِي أَقَلَّ
مِنْ نِصْفِهَا وَقَدْ يَخْفَى مِنْ عُيُوبِ كُلِّ ذَلِكَ أَشْيَاءُ فِي أَضْعَافِ
تِلْكَ الْمُدَدِ، فَكُلُّ ذَلِكَ شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ،
وَلاَ أَوْجَبَتْهُ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ
قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَوْلُهُمْ
إنْ كَانَ الْخِيَارُ لأََجْنَبِيٍّ فَمَاتَ فِي أَمَدِ الْخِيَارِ: أَيَقُومُ
وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ، تَنَاقَضُوا،
وَجَعَلُوا الْخِيَارَ مَرَّةً يُوَرَّثُ، وَمَرَّةً لاَ يُوَرَّثُ وَإِنْ
قَالُوا: نَعَمْ قلنا: فَلَعَلَّهُمْ صِغَارٌ، أَوْ سُفَهَاءُ، أَوْ غُيَّبٌ، أَوْ
لاَ وَارِثَ لَهُ فَيَكُونَ الْخِيَارُ لِلإِمَامِ، أَوْ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ،
إنَّ هَذِهِ لَعَجَائِبُ وقال الشافعي: يَجُوزُ الْخِيَارُ لأََحَدِهِمَا
وَلَهُمَا مَعًا، وَلاَ يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ
فِي التَّبَايُعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لأََجْنَبِيٍّ فَمَرَّةً
أَجَازَهُ، وَمَرَّةً أَبْطَلَ الْبَيْعَ بِهِ، إِلاَّ عَلَى مَعْنَى
الْوَكَالَةِ. وَالنَّقْدُ جَائِزٌ عِنْدَهُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، فَإِنْ مَاتَ
الَّذِي لَهُ الْخِيَارُ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ، فَإِنْ
(8/371)
تَلِفَ
الشَّيْءُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ
لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا مَعًا: فَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ
كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي
ذَكَرَا وَلِلَّذِي لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّ وَأَنْ يَرْضَى
بِغَيْرِ مَحْضَرِ الآخَرِ وَبِمَحْضَرِهِ. وَاحْتَجَّ هُوَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ:
فِي أَنَّ الْخِيَارَ لاَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ بِخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ
وَبِخَبَرِ الَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم الْخِيَارَ ثَلاَثًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ إذَا بَاعَ: لاَ
خِلاَبَةَ . وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ شُرُوسٍ، أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبَانُ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى بَعِيرًا
وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم الْبَيْعَ وَقَالَ: إنَّمَا الْخِيَارُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قَالَ
الْحُذَافِيُّ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَمِعَ
أَبَانًا يَقُولُ: عَنِ الْحَسَنِ اشْتَرَى رَجُلٌ وَجَعَلَ الْخِيَارَ أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْبَيْعُ مَرْدُودٌ
وَإِنَّمَا الْخِيَارُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ .
قال أبو محمد : أَمَّا احْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ: بِحَدِيثِ
مُنْقِذٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ فِيمَا اشْتَرَى فَعَجَبٌ عَجِيبٌ جِدًّا أَنْ يَكُونَا أَوَّلَ
مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُمَا بِفَسَادِ بَيْعِهِ جُمْلَةً إنْ
كَانَ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ وَيُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ أَوْ جَوَازِ بَيْعِهِ
جُمْلَةً، وَلاَ يَرُدُّهُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ إنْ كَانَ لاَ يَسْتَحِقُّ
الْحَجْرَ فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ ذُو وَرَعٍ أَنْ يَعْصِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِيمَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يُقَوِّلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيْعٌ وَقَعَ بِخِيَارٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ
لأََحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا وَفِي هَذَا نُوزِعُوا، فَوَا أَسَفَاهُ عَلَيْهِمْ
وَأَمَّا احْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ: فَطَامَّةٌ مِنْ
طَوَامِّ الدَّهْرِ وَهُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ، وَزَارٍ عَلَيْهِ وَطَاعِنٍ
فِيهِ، مُخَالِفٍ كُلَّ مَا فِيهِ، فَمَرَّةً يَجْعَلُهُ ذُو التَّوَرُّعِ
مِنْهُمْ: مَنْسُوخًا بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ مَا لِلرِّبَا
هَهُنَا مَدْخَلٌ وَمَرَّةً يَجْعَلُونَهُ كَذِبًا، وَيُعَرِّضُونَ بِأَبِي
هُرَيْرَةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَهُمْ أَهْلُ الْكَذِبِ، لاَ الْفَاضِلُ الْبَرُّ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
وَعَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَكُبَّ الطَّاعِنُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
لِوَجْهِهِ وَمَنْخَرَيْهِ. ثُمَّ لاَ يَسْتَحْيُونَ مِنْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ
فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ ; لأََنَّهُمْ إنَّمَا يُرِيدُونَ نَصْرَ
تَصْحِيحِ بَيْعٍ وَقَعَ بِشَرْطِ خِيَارٍ لِلْبَائِعِ، أَوْ لِلْمُشْتَرِي، أَوْ
لَهُمَا مَعًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي خَبَرِ
الْمُصَرَّاةِ أَثَرٌ، وَلاَ نَصٌّ، وَلاَ إشَارَةٌ، وَلاَ مَعْنًى، فَأَيُّ
عَجَبٍ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَمَّا حَدِيثَا: الْحُذَافِيِّ الْمُسْنَدُ،
وَالْمُرْسَلُ: فَهُمَا مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ بْنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَهُوَ
هَالِكٌ مُطَّرَحٌ وَالْمُسْنَدُ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الْكُوفِيِّ وَهُوَ هَالِكٌ أَيْضًا مَتْرُوكٌ وَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَعَنْ رَجُلٍ
لَمْ يُسَمَّ، فَهُمَا فَضِيحَةٌ وَشَهْوَةٌ، لاَ يَأْخُذُ بِهِمَا فِي دِينِهِ
إِلاَّ مَحْرُومُ
(8/372)
التَّوْفِيقِ.
وَلَعَمْرِي لَقَدْ خَالَفَ الْمَالِكِيُّونَ هَهُنَا أُصُولَهُمْ فَإِنَّهُ لاَ
مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ الأَخْذِ بِمِثْلِهَا فِي الدَّنَاءَةِ وَالرَّذَالَةِ
إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ، وَقَالُوا أَيْضًا: قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ
الْخِيَارِ ثَلاَثًا وَاخْتَلَفْنَا فِيمَا زَادَ.
قال أبو محمد وَهَذَا كَذِبٌ مَا وُفِّقُوا قَطُّ عَلَى ذَلِكَ: هَذَا مَالِكٌ لاَ
يُجِيزُ الْخِيَارَ فِي الثَّوْبِ إِلاَّ يَوْمَيْنِ فَأَقَلَّ، وَلاَ فِي
الدَّابَّةِ إِلاَّ الْيَوْمَ فَأَقَلَّ: فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَيُعَارَضُونَ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ:
النَّهْيُ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، فَمَنْ تَلَقَّى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إذَا أَتَى السُّوقَ، هُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ
الْخِيَارُ إلَى دُخُولِ السُّوقِ وَلَعَلَّهُ لاَ يَدْخُلُهُ إِلاَّ بَعْدَ عَامٍ
فَأَكْثَرَ وَسَنَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِهِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، فَظَهَرَ فَسَادُ أَقْوَالِ هَؤُلاَءِ جُمْلَةً وَأَنَّهَا آرَاءٌ
أَحْدَثُوهَا مُتَخَاذِلَةٌ لاَ أَصْلَ لَهَا، وَلاَ سَلَفَ لَهُمْ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ لَهُمَا،
أَوْ لأََحَدِهِمَا، أَوْ لأََجْنَبِيٍّ، وَيَجُوزُ إلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ أَوْ
قَرِيبٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَجُوزُ الْخِيَارُ إلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
فَأَقَلَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي
الْبَيْعِ، وَلَوْ شَرَطَاهُ أَبَدًا فَهُوَ كَذَلِكَ: لاَ أَدْرِي مَا الثَّلاَثُ
إِلاَّ الْمُشْتَرِي إنْ بَاعَ مَا اشْتَرَى بِخِيَارٍ فَقَدْ رَضِيَهُ وَلَزِمَهُ
وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً بِكْرًا فَوَطِئَهَا فَقَدْ رَضِيَهَا وَلَزِمَتْهُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ يُعْجِبُنِي شَرْطُ الْخِيَارِ
الطَّوِيلِ فِي الْبَيْعِ إِلاَّ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي مَا رَضِيَ
الْبَائِعُ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لاَ يَجُوزُ
الْبَيْعُ إذَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا وَقَالَ
سُفْيَانُ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ. وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ، عَنِ
الْمُتَقَدِّمِينَ آثَارًا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا،
هُوَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اشْتَرَى عُمَرُ فَرَسًا
وَاشْتَرَطَ حَبْسَهُ إنْ رَضِيَهُ وَإِلَّا فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا بَعْدُ،
فَحَمَلَ عُمَرُ عَلَيْهِ رَجُلاً فَعَطِبَ الْفَرَسُ، فَجَعَلاَ بَيْنَهُمَا
شُرَيْحًا فَقَالَ شُرَيْحٌ لِعُمَرَ: سَلِّمْ مَا ابْتَعْت أَوْ رُدَّ مَا
أَخَذْت فَقَالَ عُمَرُ: قَضَيْتَ بِمُرِّ الْحَقِّ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اشْتَرَى نَافِعُ بْنُ
عَبْدِ الْحَارِثِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ دَارًا لِلسَّجْنِ
بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ، وَإِنْ لَمْ
يَرْضَ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا عُمَرُ. وبه إلى سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ
يَقُولُ: كُنْت أَبْتَاعُ إنْ رَضِيت حَتَّى ابْتَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ
نَجِيبَةً إنْ رَضِيَهَا فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ لِيَرْضَى ثُمَّ يَدَّعِي:
فَكَأَنَّمَا أَيْقَظَنِي، فَكَانَ يَبْتَاعُ وَيَقُولُ: هَا إنْ أَخَذْت.وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ
بْنُ الْبَرْصَاءِ قَالَ: بَايَعْت ابْنَ عُمَرَ بَيْعًا فَقَالَ لِي: إنْ
جَاءَتْنَا نَفَقَتُنَا إلَى ثَلاَثِ لَيَالٍ فَالْبَيْعُ بَيْعُنَا، وَإِنْ لَمْ
تَأْتِنَا نَفَقَتُنَا إلَى ذَلِكَ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك، وَلَك
سِلْعَتُك
(8/373)
قال
أبو محمد: لاَ نَعْلَمُ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي بَيْعِ الْخِيَارِ
شَيْئًا غَيْرَ هَذَا، وَهُوَ كُلُّهُ خِلاَفٌ لأََقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَهَذِهِ عِنْدَهُمْ بُيُوعٌ فَاسِدَةٌ مَفْسُوخَةٌ،
فَأَيْنَ تَهْوِيلُهُمْ بِالصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ نَعَمْ،
وَإِنْ عُرِفَ لَهُ مُخَالِفٌ. وَأَيْنَ رَدُّهُمْ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ فِي
أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ
يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ وَلَيْسَ فِي هَذَا
لَوْ صَحَّ خِلاَفٌ لِلسُّنَّةِ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِ عُمَرَ
مِنْ الصَّحَابَةِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ، وَإِجَازَةُ رَدِّ
الْبَيْعِ قَبْلَ التَّخْيِيرِ وَالتَّفَرُّقِ. ثُمَّ هَانَ عَلَيْهِمْ هَهُنَا
خِلاَفُ عَمَلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَنَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، وَصَفْوَانَ
بْنِ أُمَيَّةَ وَكُلُّهُمْ صَحَابَةٌ: الْعَمَلَ الْمَشْهُورَ الَّذِي لاَ
يُمْكِنُ أَنْ يَخْفَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَلاَ
يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ، وَلاَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ
مِمَّنْ يُجِيزُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَصْلاً بِأَصَحِّ طَرِيقٍ
وَأَثْبَتِهِ فِي أَشْهَرِ قِصَّةٍ، وَهِيَ ابْتِيَاعُ دَارٍ لِلسَّجْنِ
بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِهَا لِلسَّجْنِ دَارٌ أَصْلاً. ثُمَّ
فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مُطِيعٍ وَهُمَا صَاحِبَانِ يَبْتَاعَانِ كَمَا
تَرَى بِخِيَارٍ إنْ أَخَذَا إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ وَعُمَرُ قَبْلَ
ذَلِكَ، وَصَفْوَانُ، وَنَافِعٌ يَتَبَايَعُونَ عَلَى الرِّضَا إلَى غَيْرِ
مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ، لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِمَّنْ يُجِيزُ
الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارٍ، فَاعْجَبُوا لأََقْوَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ
وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ
عَلَى الرِّضَا قَالَ: الْخِيَارُ لِكِلَيْهِمَا حَتَّى يَفْتَرِقَا، عَنْ رِضًا.
وبه إلى مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ إذَا بِعْت شَيْئًا عَلَى
الرِّضَا فَلاَ تَخْلِطْ الْوَرِقَ بِغَيْرِهَا حَتَّى تَنْظُرَ أَيَأْخُذُ أَمْ
يَرُدُّ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا
يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْبَيْعَ
عَلَى أَنَّهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ فَهَلَكَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ سَمَّى الثَّمَنَ
فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ فَهُوَ أَمِينٌ، وَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مَا نَعْلَمُ فِي هَذَا، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ
مِنْهُ ذِكْرُ مُدَّةٍ أَصْلاً. وَفِي قَوْلِ الْحَسَنِ: جَوَازُ ذَلِكَ بِغَيْرِ
ذِكْرِ ثَمَنٍ. وَفِي قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ: جَوَازُ النَّقْدِ فِيهِ، وَلَمْ
يَخُصَّ بِشَرْطٍ، وَلاَ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَأَمَّا قَوْلُ طَاوُوس فَمُوَافِقٌ
لِقَوْلِنَا ; لأََنَّهُ قَطَعَ بِأَنَّ كُلَّ بَيْعٍ يَكُونُ فِيهِ شَرْطُ
خِيَارٍ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَجِبُ فِيهِ لِلْبَائِعِ وَلِلْمُشْتَرِي حَتَّى
يَتَّفِقَا. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ بَيْعًا أَصْلاً، وَأَنَّهُ
بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا كَانَ وَهَذَا قَوْلُنَا. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ
أَقْوَالَ مَنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفَةٌ لِكُلِّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، عَنْ
صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ، وَأَنَّهُمَا لاَ سَلَفَ لَهُمْ فِيهَا، وَتَفْرِيقُ
سُفْيَانَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ مِنْ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا،
فَلَمْ يُجِيزَاهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ
(8/374)
لِلْمُشْتَرِي
وَحْدَهُ فَأَجَازَهُ سُفْيَانُ، لاَ مَعْنَى لَهُ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ،
وَلاَ قَوْلٌ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ وَلَيْسَ
إِلاَّ جَوَازُ كُلِّ ذَلِكَ أَوْ بُطْلاَنُ كُلِّ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِّينَا
بُطْلاَنَ ذَلِكَ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ:
أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَرِهَتْ أَنْ تُبَاعَ الأَمَةُ بِشَرْطٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً يَتَسَرَّاهَا مِنْ
امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: لاَ أَبِيعُكهَا حَتَّى أَشْتَرِطَ عَلَيْك إنْ
اتَّبَعَتْهَا نَفْسِي فَأَنَا أَوْلَى بِالثَّمَنِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
حَتَّى أَسْأَلَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لاَ تَقْرَبْهَا
وَفِيهَا شَرْطٌ لأََحَدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْت عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا فَقَالَ: أَذْهَبُ بِهِ فَإِنْ رَضِيتُهُ
أَخَذْتُهُ، فَبَاعَهُ الآخِذُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ
فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لاَ يَحِلُّ لَهُ الرِّبْحُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: كُلُّ بَيْعٍ فِيهِ
شَرْطٌ فَلَيْسَ بَيْعًا وَقَالَ طَاوُوس بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ كُلِّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ أَوْضَحُ فِي
إبْطَالِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ عُمَرَ مُخَالِفٌ
لِلسُّنَّةِ فِي أَنْ لاَ بَيْعَ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا
بِمَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ،
وَمِنْ دَعْوَاهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: مَا أَدْرَكْت
الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَمِنْ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا إشَارَةٌ
إلَى خِلاَفِ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُمَا مُوَافَقَةُ
السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ كَانَ مَا رُوِيَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فِي
ذَلِكَ إجْمَاعٌ فَقَدْ خَالَفُوهُ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلإِجْمَاعِ كَمَا
أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَلاَ حُجَّةَ فِي
قَوْلٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ. فَإِنْ احْتَجُّوا فِي إبَاحَةِ
بَيْعِ الْخِيَارِ بِمَا رُوِيَ: الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَهَذَا لاَ
يَصِحُّ لأََنَّهُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مُطَّرَحٌ بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ
يَحِلُّ الأَحْتِجَاجُ بِمَا رَوَى. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ كَذَّابٍ، عَنْ
مَجْهُولٍ، عَنْ مَجْهُولٍ مُرْسَلٍ مَعَ ذَلِكَ وَعَنْ عَطَاءٍ مُرْسَلٌ، وَلَوْ
صَحَّ مَعَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً ; لأََنَّ
شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ هِيَ كُلَّ مَا اشْتَرَطُوهُ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ
لَلَزِمَ شَرْطُ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَهُمْ قَدْ أَبْطَلُوا أَكْثَرَ مِنْ
أَلْفِ شَرْطٍ أَبَاحَهَا غَيْرُهُمْ، وَإِنَّمَا شُرُوطُ الْمُسْلِمِينَ:
الشُّرُوطُ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ بِإِبَاحَتِهَا نَصًّا فَقَطْ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ .
(8/375)
قَالَ
عَلِيٌّ: فَإِنْ احْتَجَّ مَنْ يُجِيزُ بَيْعَ الْخِيَارِ بِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ
مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ
بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ
فِيهِ ; لأََنَّ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ
الْخِيَارَ مَا هُوَ وَأَنَّهُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ: اخْتَرْ. وَبَيَّنَهُ
أَيْضًا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمِثْلِهِ. وَأَوْضَحَهُ
إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ، عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ
الْبَيْعُ، عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ . فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ هَذَا
الْخِيَارَ إنَّمَا هُوَ التَّخْيِيرُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ فَقَطْ.
وَذَكَرُوا أَيْضًا خَبَرَ " الْمُصَرَّاةِ " وَسَنَذْكُرُهُ فِي هَذَا
الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ لِوَاجِدِهَا ثَلاَثًا، فَإِنْ رَضِيَهَا
أَمْسَكَهَا وَإِنْ كَرِهَهَا رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
وَخَبَرَ مُنْقِذٍ إذْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ
يَقُولَ إذَا بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ: لاَ خِلاَبَةَ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ
ثَلاَثًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "كِتَابِ الْحِجْرِ" مِنْ دِيوَانِنَا
هَذَا. وَخَبَرَ تَلَقِّي السِّلَعِ الرُّكْبَانِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ
صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارَ إذَا دَخَلَ السُّوقَ،
وَبِالْخِيَارِ فِي رَدِّ الْبَيْعِ يُوجَدُ فِيهِ الْعَيْبُ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ،
وَاحْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِي إبَاحَةِ بَيْعِ الْخِيَارِ إثْمٌ وَعَارٌ ; لأََنَّ
خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ إنَّمَا فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَحَبَّ الْبَائِعُ
أَمْ كَرِهَ لاَ بِرِضًا مِنْهُ أَصْلاً، وَلاَ بِأَنْ يَشْتَرِطَ فِي حَالِ
عَقْدِ الْبَيْعِ فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ ذُو فَهْمٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَذَا
الْخِيَارِ فِي إبَاحَةِ بَيْعٍ يَتَّفِقُ فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى
الرِّضَا بِشَرْطِ خِيَارٍ لأََحَدِهِمَا أَوْ لِكِلَيْهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا
وَأَمَّا خَبَرُ مُنْقِذٍ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ; لأََنَّهُ إنَّمَا هُوَ خِيَارٌ
يَجِبُ لِمَنْ قَالَ عِنْدَ التَّبَايُعِ: لاَ خِلاَبَةَ، بَائِعًا كَانَ أَوْ
مُشْتَرِيًا سَوَاءٌ رَضِيَ بِذَلِكَ مُعَامَلَةً أَوْ لَمْ يَرْضَ لَمْ
يَشْتَرِطْهُ الَّذِي جَعَلَ لَهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، فَأَيُّ شَبَهٍ بَيْنَ
هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ وَبَيْنَ خِيَارٍ يَتَّفِقَانِ بِرِضَاهُمَا عَلَى
اشْتِرَاطِهِ لأََحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَكُلُّهُمْ لاَ يَقُولُ بِهَذَا
الْخَبَرِ أَصْلاً وَأَمَّا خَبَرُ تَلَقِّي السِّلَعِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا إنَّمَا
هُوَ خِيَارٌ جُعِلَ لِلْبَائِعِ أَحَبَّ الْمُشْتَرِي أَمْ كَرِهَ لَمْ
يَشْتَرِطَاهُ فِي الْعَقْدِ. وَهُوَ أَيْضًا خِيَارٌ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ
مَحْدُودَةٍ وَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ هَذَا أَصْلاً. فَأَيُّ عَجَبٍ يَفُوقُ قَوْلَ
قَوْمٍ يُبْطِلُونَ الأَصْلَ، وَلاَ يُجِيزُونَ الْقَوْلَ بِهِ، وَيُصَحِّحُونَ
الْقِيَاسَ عَلَيْهِ فِي مَا لاَ يُشْبِهُهُ وَيُخَالِفُونَ السُّنَنَ فِيمَا
جَاءَتْ فِيهِ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ أَثَرٌ،
وَلاَ دَلِيلٌ، وَلاَ مَعْنًى فَخَالَفُوا الْحَقَائِقَ جُمْلَةً وَنَحْمَدُ
اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ التَّوْفِيقِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا
جَازَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ فِي أَحَدِهَا الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَفِي
الآخَرِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَفِي الثَّالِثِ الْخِيَارُ لِلْمَرْءِ
بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا، وَكَانَ فِي الشُّفْعَةِ الْخِيَارُ لِغَيْرِ
الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِغَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَيْءٌ
(8/376)
مِنْ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتَ رِضَا الآخَرِ أَوْ رِضَا الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَانَ إذَا اشْتَرَطَاهُ بِتَرَاضِيهِمَا لأََحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ قلنا: هَذَا حُكْمُ الشَّيْطَانِ لاَ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا هُوَ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَتِلْكَ دَعْوَى مِنْكُمْ لاَ برهان عَلَى صِحَّتِهَا، بَلْ الْبُرْهَانُ قَائِمٌ عَلَى بُطْلاَنِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وَمَا تَدْرُونَ أَنْتُمْ، وَلاَ غَيْرُكُمْ مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِدَعْوَاكُمْ هَذِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لاَ يَصِحُّ تَشْبِيهُ الْمُشَبَّهِ إِلاَّ حَتَّى يَصِحَّ الْمُشَبَّهُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُصَحِّحُ حُكْمَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ إِلاَّ الْمُصَرَّاةَ، وَالشُّفْعَةَ فَقَطْ، فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّونَ أَنْ تَحْكُمُوا بِحُكْمٍ لأََنَّهُ يُشْبِهُ حُكْمًا لاَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَلْ سُمِعَ بِأَحْمَقَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَاَلَّذِينَ يُصَحِّحُونَ مِنْكُمْ حُكْمَ الْمُصَرَّاةِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ رَدِّ صَاعِ تَمْرٍ مَعَ الشَّيْءِ الَّذِي يَخْتَارُ الرَّادُّ رَدَّهُ، فَمِنْ أَيْنَ جَازَ عِنْدَكُمْ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ وَحُرِّمَ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ مَا فِيهِ أَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تَحْتَارُ فِيهِ أَوْهَامُ الْعُقَلاَءِ وَكَذَلِكَ الشُّفْعَةُ إنَّمَا هِيَ لِشَرِيكٍ عِنْدَكُمْ، أَوْ لِلْجَارِ فِيمَا بِيعَ مِنْ مُشَاعٍ فِي الْعَقَارِ خَاصَّةً، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ بِكُمْ يَا هَؤُلاَءِ أَنْ تُحَرِّمُوا الْقِيَاسَ عَلَى ذَلِكَ مَا بِيعَ أَيْضًا مِنْ الْمُشَاعِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ لِلشَّرِيكِ أَيْضًا. وَلَوْ صَحَّ قِيَاسٌ فِي الدَّهْرِ كَانَ هَذَا أَوْضَحَ قِيَاسٍ وَأَصَحَّهُ لِتُسَاوِيهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالشَّبَهِ عِنْدَ كُلِّ نَاظِرٍ ثُمَّ تَقِيسُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يُشْبِهُهُ أَصْلاً مِنْ اشْتِرَاطِ اخْتِيَارٍ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا أَوْ لأََجْنَبِيٍّ، وَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ الْحُكْمِ جُمْلَةً، فَذَلِكَ لِلشَّرِيكِ وَهَذَا لِغَيْرِ الشَّرِيكِ، وَذَلِكَ فِي الْمُشَاعِ وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُشَاعِ، وَذَلِكَ مُشْتَرَطٌ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْتَرَطٍ، وَذَلِكَ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ وَهَذَا إلَى مُدَّةٍ، فَمَا هَذَا التَّخْلِيطُ، وَالْخَبْطُ وَأَمَّا الْخِيَارُ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي خِيَارِ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ، مِنْ أَنَّهُ لاَ شَبَهَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِمَا قلنا آنِفًا، فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ جُمْلَةً بِالأَخْبَارِ، وَبِالْقِيَاسِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَيُّ قَوْلٍ أَفْسَدَ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُبْطِلُ الْخِيَارَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَبَايِعَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَيَخْتَارَ إمْضَاءً أَوْ رَدًّا. وَالْخِيَارُ الْوَاجِبُ لِمَنْ قَالَ عِنْدَ الْبَيْعِ: لاَ خِلاَبَةَ. وَالْخِيَارُ لِمَنْ بَاعَ سِلْعَتَهُ مِمَّنْ تَلَقَّاهَا إذَا دَخَلَ السُّوقَ. وَالْخِيَارُ الْوَاجِبُ لِمَنْ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً. وَالْخِيَارُ الْوَاجِبُ لِمَنْ بَاعَ شِرْكًا مِنْ مَالٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ ثُمَّ أَوْجَبَ خِيَارًا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ،
(8/377)
وَلاَ
رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلاَنِ كُلِّ بَيْعٍ
يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا أَوْ
لِغَيْرِهِمَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا بَالُ أَقْوَامٍ
يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ اشْتَرَطَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ
وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ .
وَكَانَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ الْمَذْكُورِ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلَوْ كَانَ فِيهَا لَكَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَبَ
بُطْلاَنُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ يَقِينًا، وَإِذْ هُوَ بَاطِلٌ فَكُلُّ عَقْدٍ
لَمْ يُصَحَّحْ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لَمْ يَصِحَّ فَلاَ صِحَّةَ لَهُ بِلاَ
شَكٍّ، فَوَجَبَ بُطْلاَنُ الْبَيْعِ الَّذِي عُقِدَ عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ كَمَا
ذَكَرْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ} .
قال أبو محمد : وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَفْتَخِرُونَ بِاتِّبَاعِ الْمُرْسَلِ
وَأَنَّهُ كَالْمُسْنَدِ: وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: لاَ يَتَفَرَّقُ بَيِّعَانِ إِلاَّ، عَنْ تَرَاضٍ وَهَذَا مِنْ
أَحْسَنِ الْمُرَاسِلِ، فَأَيْنَ هُمْ عَنْهُ وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَقَاءٍ،
عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ بَيْعِ الْخِيَارِ هَلْ
زَالَ مِلْكُ بَائِعِهِ عَنْهُ وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ أَمْ لاَ، إذَا
اُشْتُرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا فَإِنْ قَالُوا: لاَ، فَهُوَ
قَوْلُنَا وَصَحَّ أَنَّهُ لاَ بَيْعَ هُنَالِكَ أَصْلاً ; لأََنَّ الْبَيْعَ
نَقْلُ مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِيقَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ قَالُوا:
نَعَمْ، قلنا: فَالْخِيَارُ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ فِي شَيْءٍ قَدْ
صَحَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ وَأَقْوَالُهُمْ تَدُلُّ عَلَى خِلاَفِ هَذَا. فَإِنْ
قَالُوا قَدْ بَاعَ الْبَائِعُ وَلَمْ يَشْتَرِ الْمُشْتَرِي بَعْدُ قلنا: هَذَا
تَخْلِيطٌ وَبَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ ; لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ بَيْعٌ إِلاَّ
وَهُنَالِكَ بَائِعٌ وَمُبْتَاعٌ وَانْتِقَالُ مِلْكٍ. وَهَكَذَا إنْ كَانَ
الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَقَطْ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعٌ عَلَى
الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَنْعَقِدْ ذَلِكَ الْبَيْعُ عَلَى الْبَائِعِ. فَإِنْ كَانَ
الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لأََجْنَبِيٍّ: فَهَذَا بَيْعٌ لَمْ يَنْعَقِدْ لاَ عَلَى
الْبَائِعِ، وَلاَ عَلَى الْمُبْتَاعِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ
قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِالْخِيَارِ لاَ
يَجُوزُ، فَهَلاَّ قَاسُوا عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعَ وَسَائِرِ مَا أَجَازُوا فِيهِ
الْخِيَارَ، كَمَا فَعَلُوا فِي مُعَارَضَةِ السُّنَّةِ بِهَذَا الْقِيَاسِ
نَفْسِهِ فِي إبْطَالِهِمْ الْخِيَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ،
فَلاَ نُصُوصَ الْتَزَمُوا، وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدُوا، وَالدَّلاَئِلُ عَلَى
إبْطَالِ بَيْعِ الْخِيَارِ تَكْثُرُ، وَمُنَاقَضَاتُهُمْ فِيهِ جَمَّةٌ،
وَإِنَّمَا أَقْوَالُهُمْ فِيهِ دَعَاوَى بِلاَ برهان مُخْتَلِفَةٌ مُتَدَافِعَةٌ
كَمَا ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/378)
كل
بيع صح وتم فهلك المبيع أثر تمام البيع فمصيبته من المبتاع ولا رجوع له على البائع
وكذلك كل ما عرض فيه من بيع سواء في كل ذلك كان المبيع غائبا أو حاضرا
...
1421 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ بَيْعٍ صَحَّ وَتَمَّ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ إثْرَ
تَمَامِ الْبَيْعِ فَمُصِيبَتُهُ مِنْ الْمُبْتَاعِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى
الْبَائِعِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عُرِضَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نَقْصٍ سَوَاءٌ فِي كُلِّ
ذَلِكَ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، أَوْ كَانَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً
فَجُنَّ أَوْ بَرِصَ أَوْ جُذِمَ إثْرَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ،
أَوْ كَانَ ثَمَرًا قَدْ حَلَّ بَيْعُهُ، فَأُجِيحَ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ أَوْ
أَقَلُّهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَاعِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى
الْبَائِعِ بِشَيْءٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَصْحَابِهِمَا.
وقال أبو حنيفة عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ مَا بَاعَ، فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ
يُسَلِّمَهُ فَمُصِيبَتُهُ مِنْ الْبَائِعِ وقال مالك بِقَوْلِنَا، إِلاَّ فِي
الرَّقِيقِ وَالثِّمَارِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا أَصَابَ الرَّقِيقَ فِي
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ بَيْعِ الرَّأْسِ مِنْ إبَاقٍ، أَوْ عَيْبٍ، أَوْ
مَوْتٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَمِنْ مُصِيبَةِ الْبَائِعِ، فَإِذَا انْقَضَتْ بَرِئَ
الْبَائِعُ، إِلاَّ مِنْ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ: فَإِنَّ هَذِهِ
الأَدْوَاءَ الثَّلاَثَةَ إنْ أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهَا الرَّأْسَ الْمَبِيعَ قَبْلَ
انْقِضَاءِ عَامٍ مِنْ حِينِ ابْتِيَاعِهِ كَانَ لَهُ الرَّدُّ بِذَلِكَ. قَالَ:
وَلاَ يَقْضِي بِذَلِكَ إِلاَّ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهَا
بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ فِيهَا وَأَمَّا الْبِلاَدُ الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَةُ
أَهْلِهَا بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ فِيهَا: فَلاَ حُكْمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ:
وَمَنْ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ بَطَلَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُهْدَةِ، وَأَسْقَطَهَا
جُمْلَةً فِيمَا بَاعَهُ السُّلْطَانُ لِغَرِيمٍ، أَوْ مِنْ مَالِ يَتِيمٍ
وَأَجَازَ النَّقْدَ فِي عُهْدَةِ السَّنَةِ، وَلَمْ يُجِزْهُ فِي عُهْدَةِ
الثَّلاَثِ. وَأَمَّا الثِّمَارُ فَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً كَانَتْ بَعْدَ أَنْ يَحِلَّ
بَيْعُهَا وَالْمَقَاثِي، فَإِذَا أُجِيحَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا
رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ أُجِيحَ مَا دُونَ الثُّلُثِ بِمَا
قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَهُوَ مِنْ مُصِيبَةِ الْمُشْتَرِي، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى
الْبَائِعِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ بَقْلاً فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَلَّتْ أَوْ
كَثُرَتْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْبَائِعِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي
الْمَوْزِ، فَمَرَّةً قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الثِّمَارِ فِي مُرَاعَاةِ
الثُّلُثِ، وَمَرَّةً قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَقْلِ فِي الرُّجُوعِ
بِقَلِيلِ الْجَائِحَةِ وَكَثِيرِهَا. وَمَرَّةً قَالَ: لاَ يَرْجِعُ بِجَائِحَةٍ
أَصَابَتْهُ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا إيجَابُ التَّسْلِيمِ فَمَا نَعْلَمُ فِيهِ لِلْحَنَفِيِّينَ
حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ
ضَعِيفَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ،
وَإِنَّمَا عَلَى الْبَائِعِ أَنْ لاَ يَحُولَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ
قَبْضِ مَا بَاعَ مِنْهُ فَقَطْ، فَإِنْ فَعَلَ صَارَ عَاصِيًا وَضَمِنَ ضَمَانَ
الْغَصْبِ فَقَطْ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُلْزِمَ أَحَدٌ حُكْمًا لَمْ يَأْتِ بِهِ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، قَالَ تَعَالَى {شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي
الرَّقِيقِ: فَإِنَّ مُقَلِّدِيهِ يَحْتَجُّونَ لَهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ،
هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ
سَعِيدِ
(8/379)
بْنِ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثٌ .
وَقَالُوا: إنَّمَا قَضَى بِعُهْدَةِ الثَّلاَثِ لأََجْلِ حُمَّى الرِّبْعِ ;
لأََنَّهَا لاَ تَظْهَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَذَكَرُوا مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْم أَنَّهُ سَمِعَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، وَهِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامٍ يَذْكُرَانِ فِي خُطْبَتِهِمَا
عُهْدَةَ الرَّقِيقِ فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ مِنْ حِينِ يَشْتَرِي الْعَبْدَ
أَوْ الْوَلِيدَةَ وَعُهْدَةَ السَّنَةِ، وَيَأْمُرَانِ بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي عَبْدٍ اُشْتُرِيَ فَمَاتَ فِي
الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ فَجَعَلَهُ عُمَرُ مِنْ الَّذِي بَاعَهُ. قَالَ ابْنُ
وَهْبٍ: وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: الْقُضَاةُ مُنْذُ
أَدْرَكْنَا يَقْضُونَ فِي الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ: سَنَةً. قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ: وَسَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: الْعِدَّةُ مِنْ
كُلِّ دَاءٍ عُضَالٍ نَحْوَ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ: سَنَةٌ. قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ سَمْعَانَ، قَالَ: سَمِعْت رِجَالاً مِنْ عُلَمَائِنَا
مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ يَقُولُونَ: لَمْ تَزُلْ الْوُلاَةُ
بِالْمَدِينَةِ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ يَقْضُونَ فِي الرَّقِيقِ بِعُهْدَةِ
السَّنَةِ مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ إنْ ظَهَرَ بِالْمَمْلُوكِ
شَيْءٌ فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ فَهُوَ رَدٌّ إلَى
الْبَائِعِ، وَيَقْضُونَ فِي عُهْدَةِ الرَّقِيقِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ فَإِنْ حَدَثَ
فِي الرَّأْسِ فِي تِلْكَ الثَّلاَثِ حَدَثٌ مِنْ مَوْتٍ أَوْ سَقَمٍ فَهُوَ مِنْ
الأَوَّلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُهْدَةُ الثَّلاَثِ مِنْ الرُّبْعِ، وَلاَ
يَسْتَبِينُ الرُّبْعُ إِلاَّ فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ. هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا
بِهِ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَا،
وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ: أَمَّا الْحَدِيثَانِ فَسَاقِطَانِ
; لأََنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ شَيْئًا قَطُّ،
وَلاَ سَمِعَ مِنْ سَمُرَةَ إِلاَّ حَدِيثَ الْعَقَبَةِ فَصَارَا مُنْقَطِعَيْنِ،
وَلاَ حُجَّةَ فِي مُنْقَطِعٍ. وَقَدْ رُوِّينَاهُمَا بِغَيْرِ اللَّفْظِ، لَكِنْ
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ
عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : عُهْدَةُ الرَّقِيقِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ
وَثَلاَثَةٌ .
وَمِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ،
حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
قَالَ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ أَرْبَعُ لَيَالٍ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ زِيَادٍ الأَعْلَمِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: لاَ عُهْدَةَ إِلاَّ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ .
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا نَقَضُوا فِيهِ أُصُولَهُمْ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ
يَقُولُونَ: الْمُنْقَطِعُ، وَالْمُتَّصِلُ: سَوَاءٌ، وَقَدْ تَرَكُوا هَهُنَا
هَذِهِ الأَخْبَارَ، وَمَا عَابُوهَا إِلاَّ بِالأَنْقِطَاعِ فَقَطْ.
وَالْمَالِكِيُّونَ تَرَكُوا هَهُنَا الأَخْذَ بِالزِّيَادَةِ، فَهَلاَّ جَعَلُوا
الْعُهْدَةَ أَرْبَعَ لَيَالٍ بِالآثَارِ الَّتِي
(8/380)
أَوْرَدْنَا
فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ وَأَنَّهُمْ لاَ يَثْبُتُونَ عَلَى أَصْلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَى
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا مَا نُزِّلَ إلَيْنَا وَمَا
أَلْزَمَنَا إيَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ،
وَقَوْلُ الْقَائِلِ عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثٌ كَلاَمٌ لاَ يُفْهَمُ، وَلاَ
تَدْرِي الْعُهْدَةَ مَا هِيَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا فَهِمَ قَطُّ أَحَدٌ
مِنْ قَوْلِ قَائِلٍ عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ أَنَّ مَعْنَاهُ مَا
أَصَابَ الرَّقِيقَ الْمَبِيعَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَمِنْ مُصِيبَةِ
الْبَائِعِ، وَلاَ يَعْقِلُ أَحَدٌ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، وَلَوْ
قَالَهُ لَبَيَّنَ عَلَيْنَا مَا أَرَادَ بِهِ. وَلاَ يَفْرَحُ الْحَنَفِيُّونَ
بِهَذَا الأَعْتِرَاضِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسُوغُ وَيَصِحُّ عَلَى أُصُولِنَا لاَ
عَلَى أُصُولِهِمْ ; لأََنَّ الْحَنَفِيِّينَ إذْ رَزَقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
عُقُولاً كَهَّنُوا بِهَا مَا مَعْنَى الْكَذِبِ الْمُضَافِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ الْبُتَيْرَاءِ حَتَّى فَهِمُوا أَنَّ
الْبُتَيْرَاءَ: هِيَ أَنْ يُوتِرَ الْمَرْءُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لاَ بِثَلاَثٍ،
عَلَى أَنَّ هَذَا لاَ يَفْهَمُهُ إنْسِيٌّ، وَلاَ جِنِّيٌّ مِنْ لَفْظَةِ
الْبُتَيْرَاءِ وَلَمْ يُبَالُوا بِالتَّزَيُّدِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ،
عَنْ نَفْسِهِ، فَمَا الْمَانِعُ لَهُمْ مِنْ أَنْ يُكَهِّنُوا أَيْضًا هَهُنَا
مَعْنَى الْعُهْدَةِ فَمَا بَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَرْقٌ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ
نَأْخُذُ بِبَيَانِ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إِلاَّ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَقَطْ، فَهُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ الْوَاقِفِ غَدًا بَيْنَ
يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى لاَ بِمَا سِوَاهُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ
الْحُكْمُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ،
فَقَاسُوا عَلَيْهِ الشُّفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ بِآرَائِهِمْ. وَجَاءَ النَّصُّ
بِتَحْدِيدِ الْمَنْعِ مِنْ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ
فَقَاسُوا عَلَيْهِ الصَّدَاقَ وَلَمْ يَقِيسُوا عَلَيْهِ الْغَصْبَ وَهُوَ
أَشْبَهُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ النِّكَاحِ عِنْدَ كُلِّ ذِي مَسْكَةِ عَقْلٍ. وَقَدْ
جَاءَ النَّصُّ بِالرِّبَا فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَقَاسُوا عَلَيْهَا:
الْكَمُّونَ، وَاللَّوْزَ، فَهَلاَّ قَاسُوا هَهُنَا عَلَى خَبَرِ الْعُهْدَةِ فِي
الرَّقِيقِ سَائِرَ الْحَيَوَانِ وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَلْتَزِمُونَ، وَلاَ
الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ.
وَمِنْ طَرَائِفِهِمْ هَهُنَا أَنَّهُمْ قَاسُوا مَنْ أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ
عَبْدًا أَوْ ثَمَرَةً بَعْدَ أَنْ بَدَا صَلاَحُهَا فَمَاتَ الْعَبْدُ أَوْ
أَبَقَ أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَأُجِيحَتْ
الثَّمَرَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَلِلْمَرْأَةِ الْقِيَامُ بِالْجَائِحَةِ،
وَلاَ قِيَامَ لَهَا فِي الْعَبْدِ بِعُهْدَةِ الثَّلاَثِ فَكَانَ " هَذَا
طَرِيفًا جِدًّا. وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ تَعَلَّقُوا فِيهِ بِخَبَرٍ وَعَمَلٍ،
وَلاَ فَرْقَ وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ عُهْدَةَ الثَّلاَثِ إنَّمَا جُعِلَتْ
مِنْ أَجْلِ حُمَّى الرِّبْعِ، فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِلَّةُ
مُخْرَجَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مُضَافَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَضَافُوهَا إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا بَحْتًا مُوجِبًا لِلنَّارِ،
وَإِنْ كَانُوا أَخْرَجُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ قلنا لَهُمْ: فَلِمَ
(8/381)
تَعَدَّيْتُمْ
بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ إلَى الإِبَاقِ، وَالْمَوْتِ، وَسَائِرِ الْعُيُوبِ الَّتِي
يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ بِلاَ شَكٍّ، كَذَهَابِ الْعَيْنِ مِنْ رَمْيَةٍ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ قِيَاسٍ
لأَفْتِرَاقِ الْعِلَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنْ كُنْتُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لِهَذِهِ
الْعِلَّةِ فَنَرَاكُمْ قَدْ اطَّرَحْتُمْ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ
وَاقْتَصَرْتُمْ عَلَى عِلَّةٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ.
وَأَمَّا الآثَارُ الَّتِي شَغَبُوا بِهَا فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِشَيْءٍ
مِنْهَا ; لأََنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَأَيْضًا فَإِنَّ هِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ مِمَّنْ لاَ نَعْلَمُهُ تَجِبُ
الْحُجَّةُ بِرِوَايَتِهِ فَكَيْفَ بِخُطْبَتِهِ وَأَمَّا خُطْبَةُ أَبَانَ بْنِ
عُثْمَانَ بِذَلِكَ فَعَهْدُنَا بِهِمْ قَدْ خَالَفُوا أَبَانًا فِي قَوْلِهِ:
إنَّ أَلْبَتَّةَ فِي الطَّلاَقِ وَاحِدَةٌ، وَفِي إبْطَالِهِ طَلاَقُ
السَّكْرَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: فَمَرَّةً يَكُونُ حُكْمُ أَبَانَ حُجَّةً،
وَمَرَّةً لاَ يَكُونُ حُجَّةً وَهَذَا تَخْلِيطٌ شَدِيدٌ وَعَمَلٌ لاَ يَحِلُّ.
وَأَمَّا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ سَاقِطَةٌ
; لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَ
رِوَايَتَهُ فَمَالِكٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَهُمْ قَدْ اطَّرَحُوا حُكْمَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الثَّابِتَ عَنْهُ، وَالسُّنَّةُ مَعَهُ فِي
أَمْرِهِ النَّاسَ عَلاَنِيَةً بِالسُّجُودِ فِي {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ كَثِيرٌ جِدًّا، فَالآنَ صَارَ حُجَّةً
وَهُنَالِكَ لَيْسَ حُجَّةً، مَا أَقْبَحَ هَذَا الْعَمَلَ فِي الدِّيَانَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، فَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَمْعَانَ،
وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُ
الزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: فَصَحِيحٌ عَنْهُمَا، وَلاَ حُجَّةَ
فِي الدِّينِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَوْلُ سَعِيدٍ مُخَالِفٌ لَهُمْ ; لأََنَّهُ رَأَى عُهْدَةَ السَّنَةِ مِنْ
كُلِّ دَاءٍ عُضَالٍ، وَلَمْ يَخُصَّ الْجُنُونَ، وَالْجُذَامَ، وَالْبَرَصَ
فَقَطْ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ ذِي حِسٍّ أَنَّ الأَكَلَةَ، وَالْحِرْبَةَ،
وَالأَدَرَةَ: مِنْ الأَدْوَاءِ الْعُضَالِ، فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ،
وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي عُهْدَةِ السَّنَةِ مِنْ الأَدْوَاءِ الْمَذْكُورَةِ
أَثَرًا أَصْلاً، وَلاَ قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسًا. وقال بعضهم: هَذِهِ
الأَدْوَاءُ لاَ تَظْهَرُ بِبَيَانٍ إِلاَّ بَعْدَ عَامٍ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ، وَقَوْلٌ بِلاَ برهان، وَمَا كَانَ
هَكَذَا فَحُكْمُهُ الإِطْرَاحُ، وَلاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهِ، وَمَا عُلِمَ هَذَا
قَطُّ، لاَ فِي طِبٍّ، وَلاَ فِي لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَلاَ فِي شَرِيعَةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَكَرُوا أَيْضًا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ
بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
إنْ رَأَى عَيْبًا فِي ثَلاَثِ لَيَالٍ رَدَّ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ رَأَى
عَيْبًا بَعْدَ ثَلاَثٍ لَمْ يَرُدَّ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى فِيمَنْ
ابْتَاعَ غُلاَمًا فَوَجَدَهُ مَجْنُونًا قَالَ: إنْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ
فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الْبَائِعَ لَقَدْ بَاعَهُ وَمَا بِهِ جُنُونٌ، وَإِنْ
كَانَ بَعْدَ السَّنَةِ فَيَمِينُهُ بِاَللَّهِ عَلَى عِلْمِهِ. وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ; وَابْنَ
(8/382)
الزُّبَيْرِ
سُئِلاَ، عَنِ الْعُهْدَةِ فَقَالاَ: لاَ نَجِدُ أَمْثَلَ مِنْ حَدِيثِ حِبَّانَ
بْنِ مُنْقِذٍ إذْ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم الْخِيَارَ ثَلاَثًا إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ.
وَخَبَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَجَّلَ الْجَارِيَةَ بِهَا
الْجُذَامُ، وَالدَّاءُ: سَنَةً.
قَالَ عَلِيٌّ: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةً لَهُمْ فِيهِ: أَمَّا خَبَرُ عُمَرَ،
وَابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلاَ بَيَانَ فِيهِ بِأَنَّهُمَا يَقُولاَنِ بِقَوْلِهِمْ
أَصْلاً، بَلْ فِيهِ أَنَّهُ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ لأََنَّهُمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى
حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ. وَالْمَالِكِيُّونَ مُخَالِفُونَ لِذَلِكَ
الْخَبَرِ، فَقَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ: حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَلاَ
وِفَاقَ فِيهِ لِقَوْلِهِمْ أَصْلاً لأََنَّهُ إنَّمَا فِيهِ الْخِيَارُ بَيْنَ
الرَّدِّ وَالأَخْذِ فَقَطْ، دُونَ ذِكْرِ وُجُودِ عَيْبٍ، وَلاَ فِيهِ تَخْصِيصٌ
لِلرَّقِيقِ دُونَ سَائِرِ ذَلِكَ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ.
وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي: مَا أُمِرَ مُنْقِذٌ أَنْ
يَقُولَهُ. وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيٍّ: فَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى
مُوَافَقَةِ قَوْلِهِمْ، وَلاَ ذِكْرُ رَدٍّ أَصْلاً، وَإِنَّمَا يُمَوِّهُونَ
بِالْخَبَرِ يَكُونُ فِيهِ لَفْظٌ كَبَعْضِ أَلْفَاظِ قَوْلِهِمْ، فَيَظُنُّ مَنْ
لاَ يُمْعِنُ النَّظَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِمْ، وَلَيْسَ
هُوَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الأَكْثَرِ، أَوْ لاَ
مُوَافِقٌ، وَلاَ مُخَالِفٌ كَذَلِكَ أَيْضًا.
قال أبو محمد: وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ الزُّهْرِيَّ، عَنْ
عُهْدَةِ الثَّلاَثِ وَالسَّنَةِ فَقَالَ: مَا عَلِمْت فِيهِ أَمْرًا سَالِفًا.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَأَلْت عَطَاءً، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِيمَا
مَضَى عُهْدَةٌ فِي الأَرْضِ، قُلْت: فَمَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ قَالَ: لاَ شَيْءَ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا ، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ
تَكُونَ جَارِيَةٌ مِلْكُهَا لِزَيْدٍ وَفَرْجُهَا لَهُ حَلاَلٌ وَيَكُونَ
ضَمَانُهَا عَلَى خَالِدٍ، حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ: مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْتَاعِ،
وَلاَ يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ وَهَذَا يُبْطِلُ
عُهْدَةَ الثَّلاَثِ، وَالسَّنَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: ثم نقول لَهُمْ: أَخْبِرُونَا، عَنِ الْحُكْمِ بِعُهْدَةِ
الثَّلاَثِ، وَالسَّنَةِ: أَسُنَّةٌ هُوَ وَحَقٌّ أَمْ لَيْسَ سُنَّةً، وَلاَ
حَقًّا، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنْ قَالُوا: هُوَ سُنَّةٌ وَحَقٌّ قلنا:
فَمِنْ أَيْنَ اسْتَحْلَلْتُمْ أَنْ لاَ تَحْكُمُوا بِهَا فِي الْبِلاَدِ الَّتِي
اصْطَلَحَ أَهْلُهَا عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِهَا فِيهَا وَمَتَى رَأَيْتُمْ
سُنَّةً يُفْسَحُ لِلنَّاسِ فِي تَرْكِهَا وَمُخَالَفَتِهَا حَاشَ لِلَّهِ مِنْ
هَذَا. وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَتْ سُنَّةً، وَلاَ حَقًّا
قلنا: بِأَيِّ وَجْهٍ اسْتَحْلَلْتُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِهَا أَمْوَالَ النَّاسِ
الْمُحَرَّمَةِ فَتُعْطُوهَا غَيْرَهُمْ بِالْكُرْهِ مِنْهُمْ وَلَعَلَّ
الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فَقِيرٌ
(8/383)
هَالِكٌ،
وَالْمَحْكُومَ لَهُ غَنِيٌّ أَشِرٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ فَفَسَخْتُمْ
الْبُيُوعَ الصَّحِيحَةَ بِمَا لَيْسَ سُنَّةً، وَلاَ حَقًّا، إذْ أَبَحْتُمْ
تَرْكَ الْحُكْمِ بِالسُّنَّةِ وَالْحَقِّ، وَلاَ مُخَلِّصَ لَكُمْ مِنْ
أَحَدِهِمَا، وَهَذَا كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْجَوَائِحِ: فَإِنَّهُ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الثِّمَارِ،
وَالْمَقَاثِي، وَبَيْنَ الْبُقُولِ، وَالْمَوْزِ، وَلاَ يُعَضِّدُ قَوْلَهُ فِي
ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ أَصْلاً، وَلاَ قَوْلُ
أَحَدٍ مِمَّنْ سَلَفَ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَلَهُمْ فِي
تَخْصِيصِ الثُّلُثِ آثَارٌ سَاقِطَةٌ نَذْكُرُهَا أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَنُبَيِّنُ وَهْيَهَا وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي سُفْيَانَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ،
وَقَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَخْبَرَنِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا
يُلْزِمُونَ الْمُشْتَرِيَ الْجَائِحَةَ قَالَ اللَّيْثُ: وَبَلَغَنِي، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَضَى بِالْجَائِحَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي.
قال أبو محمد : وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَأَبُو عُبَيْدٍ،
وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَوَّلِ قَوْلِهِ إلَى حَطِّ الْجَائِحَةِ فِي الثِّمَارِ،
عَنِ الْمُشْتَرِي قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ مُتَعَلَّقٌ
بِأَثَرٍ صَحِيحٍ، نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ وَجْهَهُ
وَحُكْمَهُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ
أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ
الأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ .
قال علي: وهذانِ أَثَرَانِ صَحِيحَانِ. وَقَالُوا أَيْضًا عَلَى بَائِعِ
الثَّمَرَةِ إسْلاَمُهَا إلَى الْمُشْتَرِي طَيِّبَةً كُلَّهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ،
سَقَطَ، عَنِ الْمُشْتَرِي بِمِقْدَارِ مَا لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ كَمَا
يَلْزَمُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ
مُقَدَّمًا مَوْلَى أُمِّ الْحَكَمِ بِنْتِ عَبْدِ الْحَكَمِ حَدَّثَهُ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. وبه إلى ابْنِ
وَهْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ:
الْجَوَائِحُ كُلُّ ظَاهِرٍ مُفْسَدٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ
حَرِيقٍ أَوْ جَرَادٍ.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَأْتِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِمَا وَإِلَّا
(8/384)
فَلاَ
يَحِلُّ خِلاَفُ مَا فِيهِمَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِمَا
لِقَوْلِ مَالِكٍ، بَلْ هُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا
تَخْصِيصُ ثُلُثٍ مِنْ غَيْرِهِ. فَنَظَرْنَا هَلْ جَاءَ فِي هَذَا الْحُكْمِ
غَيْرُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ،
عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : تَ صَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ
ذَلِكَ فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ،
وَلَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ لأََجْلِ الْجَائِحَةِ شَيْئًا
فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مَعَ خَبَرَيْ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
فَوَجَدْنَا خَبَرَيْنِ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَأَنَسٍ، قَدْ وَرَدَا بِبَيَانٍ
تَتَأَلَّفُ بِهِ هَذِهِ الأَخْبَارُ كُلُّهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ
وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى تُزْهِيَ
قَالُوا: وَمَا تُزْهِي قَالَ: تَحْمَرُّ، أَرَأَيْتَ إذَا مَنَعَ اللَّهُ
الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ السِّنِينَ. فَصَحَّ
بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْجَوَائِحَ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِوَضْعِهَا هِيَ الَّتِي تُصِيبُ مَا بِيعَ مِنْ الثَّمَرِ
سِنِينَ، وَقَبْلَ أَنْ يُزْهِيَ، وَأَنَّ الْجَائِحَةَ الَّتِي لَمْ يُسْقِطْهَا
وَأَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ مُصِيبَتَهَا، وَأَخْرَجَهُ، عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ
بِهَا: هِيَ الَّتِي تُصِيبُ الثَّمَرَ الْمَبِيعَ بَعْدَ ظُهُورِ الطَّيِّبِ فِيهِ
وَجَوَازِ بَيْعِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيك تَمْرًا
فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمْ
يَخُصَّ عليه السلام شَجَرًا فِي وَرِقِهِ مِنْ ثَمَرٍ مَوْضُوعِ الأَرْضِ وَهُمْ
يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِآرَائِهِمْ، فَقَدْ صَحَّ خِلاَفُهُمْ لِهَذَا الْخَبَرِ
وَتَخْصِيصُهُمْ لَهُ، وَبَطَلَ احْتِجَاجُهُمْ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ وَالأَخْذُ
فِيهِ. وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ثَمَرٍ، وَلاَ فِي
غَيْرِهِ، وَلاَ فِي أَيِّ جَائِحَةٍ هُوَ فَصَحَّ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ
أَيْضًا، وَبَطَلَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَصَارَ قَوْلُهُمْ،
وَقَوْلُنَا فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ سَوَاءً فِي تَخْصِيصِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
خَصُّوهُمَا بِلاَ دَلِيلٍ
قال أبو محمد: وَالْخَسَارَةُ لأَنْحِطَاطِ السِّعْرِ جَائِحَةٌ بِلاَ شَكٍّ،
وَهُمْ لاَ يَضَعُونَ عَنْهُ شَيْئًا لِذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ عَلَى
الْبَائِعِ أَنْ يُسَلِّمَهَا طَيِّبَةً إلَى الْمُشْتَرِي فَبَاطِلٌ مَا عَلَيْهِ
ذَلِكَ، إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَا بَاعَ بَيْعًا
(8/385)
فَقَطْ،
إذْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ وَهَذَا مِمَّا
خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ الْقِيَاسَ، وَالأُُصُولَ، إذَا جَعَلُوا مَالاً
رِبْحُهُ وَمِلْكُهُ لِزَيْدٍ، وَخَسَارَتُهُ عَلَى عَمْرٍو: الَّذِي لاَ
يَمْلِكُهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا الآثَارُ الْوَاهِيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُقَلِّدُو
مَالِكٍ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ
الأَنْدَلُسِيِّ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إذَا أُصِيبَ ثُلُثُ الثَّمَرِ فَقَدْ
وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ الْوَضِيعَةُ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، عَنِ السَّبِيعِيِّ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ
بِوَضْعِ الْجَائِحَةِ إذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الثَّمَرِ فَصَاعِدًا . قَالَ عَبْدُ
الْمَلِكِ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ خَالِدِ بْنِ إيَاسٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : خَمْسٌ مِنْ الْجَوَائِحِ: الرِّيحُ،
وَالْبَرَدُ، وَالْحَرِيقُ، وَالْجَرَادُ، وَالسَّيْلُ.
قال أبو محمد : هَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ: عَبْدُ الْمَلِكِ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ.
وَالأَوَّلُ مُرْسَلٌ مَعَ ذَلِكَ. وَالسَّبِيعِيُّ مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ
مَنْ هُوَ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ
فَسَقَطَ كُلُّ ذَلِكَ، وَخَالِدُ بْنُ إيَاسٍ سَاقِطٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا
كَانَ فِيهِ أَمْرٌ بِإِسْقَاطِ الْجَوَائِحِ أَصْلاً، لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ
بِدَلِيلٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَاتِ
الْكَذَّابِينَ وَمُرْسَلاَتِهِمْ: كَمُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَلَبِيِّ،
وَجَابِرٍ الْجُعْفِيِّ ; وَغَيْرِهِمَا: فَلاَ عُذْرَ لَهُمْ فِي أَنْ لاَ
يَأْخُذُوا بِهَذِهِ الْمَرَاسِيلِ وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ. وَذَكَرَ
الْمَالِكِيُّونَ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
أُوَيْسٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِوَضْعِ
الْجَائِحَةِ إذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ الثَّمَرِ فَصَاعِدًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
حَبِيبٍ أَيْضًا حَدَّثَنِي الْحُذَافِيُّ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ
إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:
بَاعَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَيْنًا
لَهُ فَأَصَابَهُ الْجَرَادُ فَأَذْهَبَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، فَاخْتَصَمَا إلَى
عُثْمَانَ فَقَضَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بِرَدِّ الثَّمَنِ إلَى سَعْدٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يَرَوْنَ الْجَائِحَةَ مَوْضُوعَةً، عَنِ
الْمُشْتَرِي إذَا بَلَغَتْ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، ثُمَّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ
مُطْرَحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَى أَنْ لاَ يُحْتَجَّ بِرِوَايَتِهِ، وَأَبُوهُ
مَجْهُولٌ، وَالْوَاقِدِيُّ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ حَدِيثُ
عُثْمَانَ لَكَانَ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ عَوْفٍ لَمْ يَرَ رَدَّ
الْجَائِحَةِ وَإِنْ أَتَتْ عَلَى الثَّمَرِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرَ وَإِذَا وَقَعَ
الْخِلاَفُ فَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ دُونَ
(8/386)
بَعْضٍ،
وَالثَّابِتُ فِي هَذَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِهِ مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ مُحَمَّدٌ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ،
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم : لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، فَقِيلَ لأَبْنِ
عُمَرَ: مَا صَلاَحُهُ قَالَ: تَذْهَبُ عَاهَتُهُ.
قال أبو محمد: تَأَمَّلُوا هَذَا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى نَهْيَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ، بُدُوِّ صَلاَحِهِ وَفَسَّرَ
ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّ بُدُوَّ صَلاَحِ الثَّمَرِ: هُوَ ذَهَابُ عَاهَتِهِ. فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ الْعَاهَةَ وَهِيَ الْجَائِحَةُ لاَ تَكُونُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ
إِلاَّ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِ الثَّمَرِ، وَأَنَّهُ لاَ عَاهَةَ، وَلاَ جَائِحَةَ
بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِ الثَّمَرِ، وَهَذَا هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ يَصِحُّ غَيْرُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَمِنْ تَنَاقُضِ الْمَالِكِيِّينَ فِي هَذَا
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ بَاعَ ثَمَرًا قَدْ طَابَ أَكْلُهُ وَحَضَرَ
جِدَادُهُ فَأُجِيحَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ: لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِذَلِكَ شَيْءٌ
مِنْ الثَّمَنِ. وَهَذَا خِلاَفُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ
جُمْلَةً. فَإِنْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ . قلنا: نَعَمْ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَكِنْ
مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْجَوَائِحِ يُوضَعُ دُونَ الْقَلِيلِ
حَتَّى تَحُدُّوا ذَلِكَ بِالثُّلُثِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ فِي غَنِيٍّ لَهُ
مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ ابْتَاعَ ثَمَرًا بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ فَأُجِيحَ فِي
ثُلُثِ الثَّمَرَةِ ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِيَ بِدِينَارٍ أَنَّهُ تُوضَعُ عَنْهُ
الْجَائِحَةُ. وَتَقُولُونَ فِي مِسْكِينٍ ابْتَاعَ ثَمَرَةً بِدِينَارٍ فَذَهَبَ
رُبْعُهَا ثُمَّ رَخُصَ الثَّمَرُ فَبَاعَ الْبَاقِيَ بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ لاَ
يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ إنَّمَا هُمَا بِإِضَافَةٍ
كَمَا تَرَى لاَ عَلَى الإِطْلاَقِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ تَنَاقَضُوا
أَسْمَجَ تَنَاقُضٍ وَأَغَثَّهُ وَأَبْعَدَهُ، عَنِ الصَّوَابِ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ
الزَّوْجِ أَنْ تَحْكُمَ فِي الصَّدَقَةِ بِالثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا فَأَقَلَّ
بِغَيْرِ رِضَا زَوْجِهَا، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ
الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَجَعَلُوا الثُّلُثَ هَهُنَا قَلِيلاً
كَمَا هُوَ دُونَ الثُّلُثِ وَجَعَلُوهُ فِي الْجَائِحَةِ كَثِيرًا بِخِلاَفِ مَا
دُونَهُ. ثُمَّ قَالُوا: إنَّ اشْتَرَطَ الْمُحْبَسِ مِمَّا حَبَسَ الثُّلُثَ
فَمَا زَادَ بَطَلَ الْحَبْسُ، فَإِنْ اشْتَرَطَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ جَازَ
وَصَحَّ الْحَبْسُ فَجَعَلُوا الثُّلُثَ هَهُنَا كَثِيرًا بِخِلاَفِ مَا دُونَهُ.
ثُمَّ قَالُوا: مَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ أَوْ مُصْحَفًا كَذَلِكَ
يَكُونُ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ الْفِضَّةِ ثُلُثَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ فَأَقَلَّ
فَهَذَا قَلِيلٌ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْفِضَّةِ وَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِمَا
مِنْ الْفِضَّةِ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَا بِفِضَّةٍ
أَصْلاً فَجَعَلُوا الثُّلُثَ هَهُنَا قَلِيلاً فِي حُكْمِ مَا دُونَهُ.
وَأَبَاحُوا أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْمَرْءُ مِنْ ثَمَرِ شَجَرِهِ وَمِنْ زَرْعِ
أَرْضِهِ إذَا بَاعَهَا مَكِيلَةً تَبْلُغُ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ وَمَنَعُوا مِنْ
اسْتِثْنَاءِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَجَعَلُوا الثُّلُثَ هَهُنَا قَلِيلاً
فِي حُكْمِ مَا دُونَهُ.
(8/387)
ثُمَّ
مَنَعُوا مَنْ بَاعَ شَاةً وَاسْتَثْنَى مِنْ لَحْمِهَا لِنَفْسِهِ أَرْطَالاً
أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا مِقْدَارَ ثُلُثِهَا فَصَاعِدًا، وَأَبَاحُوا لَهُ أَنْ
يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا أَرْطَالاً أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَجَعَلُوا الثُّلُثَ
هَهُنَا كَثِيرًا بِخِلاَفِ مَا دُونَهُ. ثُمَّ أَبَاحُوا لِمَنْ اشْتَرَى دَارًا
فِيهَا شَجَرٌ فِيهَا ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ أَنْ يُدْخِلَ الثَّمَرَ فِي
كِرَاءِ الدَّارِ إنْ كَانَ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ مِنْهُ وَمِنْ كِرَاءِ
الدَّارِ وَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ: فَجَعَلُوا
الثُّلُثَ هَهُنَا قَلِيلاً فِي حُكْمِ مَا دُونَهُ. ثُمَّ جَعَلُوا الْعُشْرَ
قَلِيلاً وَمَا زَادَ عَلَيْهِ كَثِيرًا فَقَالُوا فِيمَنْ أَمَرَ آخَرَ بِأَنْ
يَشْتَرِيَ لَهُ خَادِمًا بِثَلاَثِينَ دِينَارًا فَاشْتَرَاهَا لَهُ بِثَلاَثَةٍ
وَثَلاَثِينَ دِينَارًا: أَنَّهَا تَلْزَمُ الآمِرَ ; لأََنَّ هَذَا قَلِيلٌ،
قَالُوا: فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَهُ بِأَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْ الآمِرَ ; لأََنَّهُ كَثِيرٌ
وَهَذَا يُشْبِهُ اللَّعِبَ، فَيَا لَلنَّاسِ أَبِهَذِهِ الآرَاءِ تُشَرَّعُ
الشَّرَائِعُ وَتُحَرَّمُ وَتُحَلَّلُ، وَتُبَاعُ الأَمْوَالُ الْمُحَرَّمَةُ
وَتُعَارَضُ السُّنَنُ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ: لاَ جَائِحَةَ فِيمَا أُصِيبَ دُونَ ثُلُثِ رَأْسِ
الْمَالِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي
مَنْ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ قَالَ: قُلْت مَا الْجَائِحَةُ قَالَ: النِّصْفُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذَا الزُّهْرِيُّ لاَ يَرَى الْجَائِحَةَ إِلاَّ النِّصْفَ.
وَهَذَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَقِيهُ الْمَدِينَةِ لاَ يَرَى الْجَائِحَةَ إِلاَّ
فِي الثُّمْنِ، لاَ فِي عَيْنِ الثَّمَرَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ خِلاَفُ قَوْلِ مَالِكٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/388)
بيع
العبد الآبق عرف مكانه أو لم يعرف جائز وكذلك بيع الجمل الشارد عرف مكانه أو لم
يعرف وكذلك الشارد من كل الحيوان ومن الطير المتفلت وغيره إذا صح الملك عليه قبل
ذلك وأما مالم يملك بعد فليس لأحد بيعه
...
1423 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْعَبْدِ الآبِقِ عُرِفَ مَكَانُهُ أَوْ لَمْ
يُعْرَفْ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْجَمَلِ الشَّارِدِ عُرِفَ مَكَانُهُ أَوْ
لَمْ يُعْرَفْ. وَكَذَلِكَ الشَّارِدُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ
الطَّيْرِ الْمُتَفَلِّتِ وَغَيْرِهِ، إذَا صَحَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ قَبْلَ
ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ. وَأَمَّا كُلُّ مَا لَمْ يَمْلِكْ
أَحَدٌ بَعْدُ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ، فَمَنْ بَاعَهُ
فَإِنَّمَا بَاعَ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ صَحَّ مِلْكُ
مَالِكِهِ لَهُ، وَكُلُّ مَا مَلَكَهُ الْمَرْءُ فَحُكْمُهُ فِيهِ نَافِذٌ
بِالنَّصِّ: إنْ شَاءَ وَهَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ،
وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ مِلْكٌ وَمَوْرُوثٌ
عَنْهُ، فَمَا الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَقَدْ أَبْطَلْنَا قَبْلُ
قَوْلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّيْدِ يَتَوَحَّشُ، وَبَيْنَ الإِبِلِ،
وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ، وَالْخَيْلِ يَتَوَحَّشُ وَكَذَلِكَ لاَ فَرْقَ بَيْنَ
الصَّيْدِ مِنْ السَّمَكِ، وَمِنْ الطَّيْرِ، وَمِنْ النَّحْلِ، وَمِنْ ذَوَاتِ
الأَرْبَعِ كُلُّ مَا مُلِكَ مِنْ ذَلِكَ: فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ
بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ. فَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَ الْمِلْكِ عَنْهُ بِتَوَحُّشِهِ،
أَوْ بِرُجُوعِهِ إلَى النَّهْرِ أَوْ الْبَحْرِ: فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ،
وَأَحَلَّ حَرَامًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ
مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ
مِنْ تَوَرُّعٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ يُعْقَلُ فإن قال قائل: فَإِنَّهُ لاَ
يَعْرِفُهُ أَبَدًا صَاحِبُهُ، وَلاَ غَيْرُ صَاحِبِهِ
(8/388)
قلنا:
فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ عِنْدَكُمْ سُقُوطُ مِلْكِ الْمُسْلِمِ، عَنْ
مَالِهِ بِجَهْلِهِ بِعَيْنِهِ وَبِأَنَّهُ لاَ يُمَيِّزُهُ، وَمَا الْفَرْقُ
بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ يَأْبَقُ فَلاَ تُمَيِّزُهُ صُورَتُهُ أَبَدًا،
وَالْبَعِيرُ كَذَلِكَ، وَالْفَرَسُ كَذَلِكَ أَفَتَرَوْنَ الْمِلْكَ يَسْقُطُ،
عَنْ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لاَ يُمَيِّزُهُ أَحَدٌ أَبَدًا، لاَ
صَاحِبُهُ، وَلاَ غَيْرُهُ وَلَئِنْ كَانَ النَّاسُ لاَ يَعْرِفُونَهُ، وَلاَ
يُمَيِّزُونَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْرِفُهُ وَيُمَيِّزُهُ لاَ يَضِلُّ
رَبِّي، وَلاَ يَنْسَى بَلْ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ عَارِفٌ بِهِ، وَبِتَقَلُّبِهِ
وَمَثْوَاهُ، كَاتِبٌ لِصَاحِبِهِ أَجْرَ مَا نِيلَ مِنْهُ، وَمَا يَتَنَاسَلُ
مِنْهُ فِي الأَبَدِ. مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الأَرْضِ تَخْتَلِطُ
فَلاَ تُحَازُ، وَلاَ تُمَيَّزُ أَتَرَوْنَ الْمِلْكَ يَسْقُطُ عَنْهَا بِذَلِكَ
حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ الْحَقُّ الْيَقِينُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاقٍ
عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. وَنَحْنُ وَإِنْ حَكَمْنَا فِيمَا
يُئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ فِي
جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ
لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِذَلِكَ
حَقُّ صَاحِبِهِ، وَلَوْ جَاءَ يَوْمًا وَثَبَتَ أَنَّهُ حَقُّهُ لَصَرَفْنَاهُ
إلَيْهِ، وَهُوَ لُقَطَةٌ مِنْ اللُّقَطَاتِ يَمْلِكُهُ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِنَصِّ
حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ إنْ جَاءَ.
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ ذَلِكَ وَقَالُوا: إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ
بَيْعِهِ لِمَغِيبِهِ
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ أَبْطَلْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ
وَأَتَيْنَا بِالْبُرْهَانِ عَلَى وُجُوبِ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ، وَمَنَعَ قَوْمٌ
مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ: وَهَذَا لاَ
شَيْءَ ; لأََنَّ التَّسْلِيمَ لاَ يَلْزَمُ، وَلاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ دَلِيلٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ لاَ يَحُولَ
الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ فَيَكُونَ
إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاصِيًا ظَالِمًا، وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا
بِأَنَّهُ غَرَرٌ ; وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الْغَرَرِ
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا غَرَرًا لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ قَدْ صَحَّ مِلْكُ
بَائِعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومُ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، فَعَلَى ذَلِكَ
يُبَاعُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ فَذَلِكَ،
وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَقَدْ اسْتَعَاضَ الأَجْرَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَرَبِحَتْ صَفْقَتُهُ. وَلَوْ كَانَ هَذَا غَرَرًا
لَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاضِرِهِ وَغَائِبِهِ غَرَرًا لاَ يَحِلُّ،
وَلاَ يَجُوزُ ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مُشْتَرِيه أَيَعِيشُ سَاعَةً بَعْدَ
ابْتِيَاعِهِ أَمْ يَمُوتُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَسْلَمُ أَمْ يَسْقَمُ سَقَمًا
قَلِيلاً يُحِيلُهُ أَوْ سَقَمًا كَثِيرًا يُفْسِدُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَلَيْسَ
مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ غَرَرًا لأََنَّ الأَقْدَارَ تَجْرِي بِمَا
لاَ يُعْلَمُ، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلأََنَّهُ غَيْبٌ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ
اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}
. وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا عُقِدَ عَلَى جَهْلٍ بِمِقْدَارِهِ وَصِفَاتِهِ حِينَ
الْعَقْدِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَعَلَّهُ مَيِّتٌ حِينَ الْعَقْدِ، أَوْ قَدْ
تَغَيَّرَتْ صِفَاتُهُ قلنا: هُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّتِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ
حَتَّى يُوقَنَ مَوْتُهُ، وَعَلَى مَا تُيُقِّنَ مِنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَصِحَّ
(8/389)
تَغْيِيرُهُ،
فَإِنْ صَحَّ مَوْتُهُ رُدَّتْ الصَّفْقَةُ، وَإِنْ صَحَّ تَغَيُّرُهُ فَكَذَلِكَ
أَيْضًا. وَلَئِنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فَامْنَعُوا مِنْ
بَيْعِ كُلِّ غَائِبٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَوْ أَنَّهُ خَلْفَ الْجِدَارِ إذْ
لَعَلَّهُ قَدْ مَاتَ لِلْوَقْتِ حِينَ عَقَدَ الصَّفْقَةَ أَوْ تَغَيَّرَ
بِكَسْرٍ، أَوْ وَجَعٍ، أَوْ عَوَرٍ. نَعَمْ، وَامْنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْبَيْضِ،
وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَكُلِّ ذِي قِشْرٍ، إذْ لَعَلَّهُ فَاسِدٌ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَزْتُمُوهُ مِنْ
بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ: مِنْ الْجَزَرِ،
وَالْبَقْلِ، وَالْفُجْلِ، وَلَعَلَّهَا مُسْتَاسَةٌ أَوْ مَعْفُونَةٌ، وَمَا
أَجَازَهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ مِنْ بُطُونِ
الْمَقَاثِي الَّتِي لَعَلَّهَا لاَ تُخْلَقُ أَبَدًا وَمِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ
شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، وَلَعَلَّهَا تَمُوتُ، أَوْ تُحَارَدُ، فَلاَ يَدُرُّ
لَهَا شَخْبٌ. وَمِنْ بَيْعِ لَحْمِ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ بَعْدُ،
فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا صِفَتُهُ فَهَذَا
وَأَشْبَاهُهُ هُوَ بَيْعُ الْغَرَرِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ أَجَزْتُمُوهُ، لاَ مَا
صَحَّ مِلْكُهُ، وَعُرِفَتْ صِفَاتُهُ. وقال بعضهم: إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ
بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ. فَقُلْنَا: تِلْكَ آثَارٌ مَكْذُوبَةٌ لاَ يَحِلُّ
الأَحْتِجَاجُ بِهَا، وَلَوْ صَحَّتْ لَكُنَّا أَبْدَرَ إلَى الأَخْذِ بِهَا
مِنْكُمْ. وَهِيَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ الْعَلاَءِ، عَنْ جَهْضَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ
الْعَبْدِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ
وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ أَنْ تُبَاعَ الْمَغَانِمُ قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ، وَعَنْ بَيْعِ
الصَّدَقَاتِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ . وَمِنْ طَرِيق أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَهْضَمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ
مَا فِي ضُرُوعِهَا إِلاَّ بِكَيْلٍ، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الآبِقِ، وَعَنْ
شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى
تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ .
قال أبو محمد: جَهْضَمٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ
الْعَبْدِيُّ: مَجْهُولُونَ، وَشَهْرٌ مَتْرُوكٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّحُوهُ فَهُوَ
دَمَارٌ عَلَيْهِمْ ; لأََنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ، وَكُلُّهُمْ يَعْنِي
الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا يُجِيزُونَ بَيْعَ الأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ
الأُُمَّهَاتِ مَعَ الأُُمَّهَاتِ. وَالْمَالِكِيُّونَ يُجِيزُونَ بَيْعَ
اللَّبَنِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَاَلَّذِي فِي الضُّرُوعِ بِغَيْرِ
كَيْلٍ لَكِنْ شَهْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَيُجِيزُونَ شِرَاءَ الْمَغَانِمِ
قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ بَلْ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ وَالأَوْلَى
وَالْحَنَفِيُّونَ يُجِيزُونَ أَخْذَ الْقِيمَةِ، عَنِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ
وَهَذَا هُوَ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ، وَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ
حَقًّا ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا بَاعَ، وَلاَ أَيَّهَا بَاعَ، وَلاَ قِيمَةَ
مَاذَا أَخَذَ: فَهُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَقًّا، وَالْغَرَرُ حَقًّا،
وَالْحَرَامُ حَقًّا.
وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِيهِ
النَّهْي، عَنْ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ
(8/390)
لَوْ
صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَهْيًا،
عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَادَ وَهَكَذَا نَقُولُ، كَمَا حَمَلُوا خَبَرَهُمْ
فِي النَّهْيِ، عَنْ بَيْعِ الآبِقِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ إبَاقِهِ: لاَ،
وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ
بِخَبَرِهِمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ، وَحَرَّمُوا بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ
بَيْعِ الْجَمَلِ الشَّارِدِ فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا الْجَمَلَ الشَّارِدَ عَلَى
الْعَبْدِ الآبِقِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثم نقول لِلْحَنَفِيِّينَ:
هَلَّا قِسْتُمْ الْجَمَلَ الشَّارِدَ فِي إيجَابِ الْجُعْلِ فِيهِ عَلَى
الْجُعْلِ فِي الْعَبْدِ الآبِقِ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَأْتِ الأَثَرُ فِي
الآبِقِ
قلنا: وَلاَ جَاءَ هَذَا الأَثَرُ السَّاقِطُ أَيْضًا إِلاَّ فِي الآبِقِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَرُوِّينَا، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا
لَمْ يُجِيزَا بَيْعَ الْعَبْدِ الآبِقِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: وَلاَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى بَعِيرًا وَهُوَ
شَارِدٌ. قَالَ عَلِيٌّ: مَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، ، وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالثِّقَةِ، وَهُمْ
يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ مِثْلِ هَذَا إذَا وَافَقَهُمْ وَيَجْعَلُونَهُ إجْمَاعًا،
وَعَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: إذَا رَوَى
الصَّاحِبُ خَبَرًا وَخَالَفَهُ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي
تَرْكِ الْخَبَرِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ
عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَقَدْ صَحَّ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ: إبَاحَةُ بَيْعِ الْجَمَلِ الشَّارِدِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ
غَرَرًا مَا خَالَفَ مَا رَوَى، هَذَا لاَزِمٌ لَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ، وَإِلَّا
فَالتَّنَاقُضُ حَاصِلٌ، وَهَذَا أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
شُرَيْحٍ: أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ: إنَّ لِي عَبْدًا آبِقًا، وَإِنَّ
رَجُلاً يُسَاوِمنِي بِهِ، أَفَأَبِيعُهُ مِنْهُ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّك إذَا
رَأَيْته فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ إنْ شِئْت أَجَزْتَ الْبَيْعَ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ
تُجِزْهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ: إذَا أَعْلَمَهُ مِنْهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ
جَازَ بَيْعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ فَإِنَّ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ
رَجُلاً أَبَقَ غُلاَمُهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِعْنِي غُلاَمَك فَبَاعَهُ
مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَى شُرَيْحٍ: فَقَالَ شُرَيْحٌ: إنْ كَانَ أَعْلَمَهُ
مِثْلَ مَا عَلِمَ فَهُوَ جَائِزٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، قَالَ: أَبَقَ غُلاَمٌ لِرَجُلٍ
فَعَلِمَ مَكَانَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَخَاصَمَهُ إلَى شُرَيْحٍ
بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَسَمِعْت شُرَيْحًا يَقُولُ لَهُ: أَكُنْت
أَعْلَمْتَهُ مَكَانَهُ ثُمَّ اشْتَرَيْتَهُ فَرَدَّ الْبَيْعَ ; لأََنَّهُ لَمْ
يَكُنْ أَعْلَمَهُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا صَحِيحٌ ; لأََنَّ كِتْمَانَهُ مَكَانَهُ وَهُوَ
يَعْلَمُهُ، أَيُّهُمَا عَلِمَهُ فَكَتَمَهُ غِشٌّ وَخَدِيعَةٌ، وَالْغِشُّ،
وَالْخَدِيعَةُ يُرَدُّ مِنْهُمَا الْبَيْعُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ:
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِشِرَاءِ الْعَبْدِ الآبِقِ
إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ كَانَ
(8/391)
لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ الْغَائِبَةَ إذَا كَانَ قَدْ رَآهَا، وَيَقُولُ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَهِيَ لِي، وَلَمْ يَخُصَّ غَيْرَ شَارِدَةٍ مِنْ شَارِدَةٍ وَالشَّارِدَةُ غَائِبَةٌ. وَمِمَّنْ أَجَازَ بَيْعَ الْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْعَبْدِ الآبِقِ: عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد، وَأَصْحَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/392)
بيع
السمك في نافجته مع النافجة والنوى في التمر مع التمر وما في داخل البيض وما شابه
هذا جائز كل ذلك
...
1424 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمِسْكِ فِي نَافِجَتِهِ مَعَ النَّافِجَةِ،
وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ، وَمَا فِي دَاخِلِ الْبَيْضِ مَعَ
الْبَيْضِ، وَالْجَزَرِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالصَّنَوْبَرِ،
وَالْبَلُّوطِ، وَالْقَسْطَلِ، وَكُلِّ ذِي قِشْرٍ مَعَ قِشْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ
قَشِرَانِ أَوْ وَاحِدٌ وَالْعَسَلِ مَعَ الشَّمْعِ فِي شَمْعِهِ، وَالشَّاةِ
الْمَذْبُوحَةِ فِي جِلْدِهَا مَعَ جِلْدِهَا: جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ مِمَّا يَكُونُ مَا فِي
دَاخِلِهِ بَعْضًا لَهُ. وَكَذَلِكَ الزَّيْتُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الزَّيْتِ،
وَالسِّمْسِمُ بِمَا فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ، وَالإِنَاثُ بِمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ
اللَّبَنِ، وَالْبُرُّ، وَالْعَلَسُ فِي أَكْمَامِهِ مَعَ الأَكْمَامِ، وَفِي
سُنْبُلِهِ مَعَ السُّنْبُلِ: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ. وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ
شَيْءٍ مَغِيبٍ فِي غَيْرِهِ مِمَّا غَيَّبَهُ النَّاسُ إذَا كَانَ مِمَّا لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ لاَ مَعَ وِعَائِهِ، وَلاَ دُونَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ
رُئِيَ: جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الصِّفَةِ، كَالْعَسَلِ، وَالسَّمْنِ فِي ظَرْفِهِ،
وَاللَّبَنِ كَذَلِكَ، وَالْبُرِّ فِي وِعَائِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ
الْجَزَرِ، وَالْبَصَلِ، وَالْكُرَّاثِ، وَالسَّلْجَمِ، وَالْفُجْلِ، قَبْلَ أَنْ
يُقْلَعَ. وقال الشافعي: مَا لَهُ قَشِرَانِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى
يُزَالَ الْقِشْرُ الأَعْلَى.
قال أبو محمد: كُلُّ جِسْمٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَهُ طُولٌ، وَعَرْضٌ،
وَعُمْقٌ، قَالَ تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا
فَكَذَلِكَ بَيْعُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ جَائِزٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا وَصَحَّتْ
السُّنَنُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ،
وَالزَّبِيبِ، وَفِيهَا النَّوَى، وَأَنَّ النَّوَى دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْبَيْضِ كَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ
مِنْهُ مَا فِي دَاخِلِهِ، وَدَخَلَ الْقِشْرُ فِي الْبَيْعِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ
أَحَدٍ. وَكَذَلِكَ الزَّيْتُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الزَّيْتِ، وَالسِّمْسِمُ بِمَا
فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ، وَالشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ كَمَا هِيَ فَلَيْتَ شِعْرِي:
مَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، الْمِسْكُ فِي
نَافِجَتِهِ مَعَ النَّافِجَةِ، وَالْعَسَلُ فِي شَمْعِهِ مَعَ الشَّمْعِ، وَلاَ
سَبِيلَ إلَى فَرْقٍ لاَ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ فِي سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ مَعْقُولٍ،
وَلاَ رَأْيٍ يَصِحُّ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَيْعٌ قَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَمْ يَخُصَّ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا،
فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْهُ فَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْلِيلِهِ. فَإِنْ قَالُوا:
هُوَ غَرَرٌ قلنا: أَوْ لَيْسَ عَلَى قَوْلِكُمْ هَذَا سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا
غَرَرًا أَيْضًا وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَيْسَ
شَيْءٌ مِنْهُ غَرَرًا ; لأََنَّهُ جِسْمٌ وَاحِدٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
كَمَا هُوَ وَكُلُّ مَا فِي دَاخِلِهِ بَعْضٌ لِجُمْلَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ ; لأََنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي مُغَيَّبِ
الْمَعْرِفَةِ
(8/392)
بِصِفَةِ مَا فِي الْقِشْرِ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي قِشْرٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي قَشِرَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ قَدْ أَجَازَ بَيْعَ الْبَيْضِ فِي غُلاَفَيْنِ بِالْعَيَانِ، إحْدَاهُمَا: الْقِشْرُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْقَيْضُ، وَالثَّانِي: الْغِرْقِئُ، وَلاَ غَرَضَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ فِيمَا فِيهِمَا، لاَ فِيهِمَا مَعَ أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. فإن قيل: إنَّ مَا قَدَرْنَا عَلَى إزَالَتِهِ مِنْ الْغَرَرِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُزِيلَهُ قلنا: وَإِنَّكُمْ لَقَادِرُونَ عَلَى إزَالَةِ الْقِشْرِ الثَّانِي فَأَزِيلُوهُ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّهُ غَرَرٌ. فَإِنْ قَالُوا: لاَ ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى اللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْبَلُّوطِ قلنا: لاَ، مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْبَلُّوطِ، وَلاَ عَلَى الْقَسْطَلِ، وَلاَ عَلَى اللَّوْزِ فِي الأَكْثَرِ. وَأَيْضًا: فَلاَ ضَرَرَ عَلَى التَّمْرِ فِي إزَالَةِ نَوَاهُ. وَأَيْضًا: فَمَا عَلِمْنَا حَرَامًا يُحِلُّهُ خَوْفُ ضَرَرٍ عَلَى فَاكِهَةٍ لَوْ خِيفَ عَلَيْهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَءًا لَهُ رُطَبٌ لاَ يَيْبَسُ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَشْتَرِيه مِنْهُ إِلاَّ بِتَمْرٍ يَابِسٍ لَمَا حَلَّ لَهُ بَيْعُهُ خَوْفَ الضَّرَرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَءًا خَافَ عَدُوًّا ظَالِمًا عَلَى ثَمَرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَدَا صَلاَحُهَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهَا خَوْفَ الضَّرَرِ عَلَيْهَا
(8/393)
بيان
جواز بيع الحامل بحملها إذا كانت حاملا من غير سيدها
...
1425 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ هَذَا بَيْعُ الْحَامِلِ بِحَمْلِهَا إذَا كَانَتْ
حَامِلاً مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا،
لأََنَّ الْحَمْلَ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ
وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ وَدَمِهَا، فَهُوَ بَعْضُ أَعْضَائِهَا وَحَشْوَتِهَا، مَا
لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ
مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ
خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَبَيْعُهَا بِحَمْلِهَا كَمَا
هِيَ جَائِزٌ، وَهِيَ وَحَمْلُهَا لِلْمُشْتَرِي. فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ،
فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ
غَيْرُهَا ; لأََنَّهَا أُنْثَى، وَقَدْ يَكُونُ الْجَنِينُ ذَكَرًا وَهِيَ
فَرْدَةٌ وَقَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهَا اثْنَانِ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ كَافِرَةً
وَمَا فِي بَطْنِهَا مُؤْمِنًا، وَقَدْ يَمُوتُ أَحَدُهُمَا وَيَعِيشُ الآخَرُ،
وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مَعِيبًا وَالآخَرُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا
أَسْوَدَ وَالآخَرُ أَبْيَضَ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا قَتْلٌ لَمْ تُقْتَلْ هِيَ
حَتَّى تَلِدَ. فَصَحَّ أَنَّهُ غَيْرُهَا، فَلاَ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي بَيْعِهَا
وَهَكَذَا فِي إنَاثِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ حَاشَ اخْتِلاَفَ الدِّينِ فَقَطْ،
أَوْ الْقَتْلَ فَقَطْ. فَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ حَتَّى
الآنَ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا وَوَلَدُهُ مِنْهَا، وَلَمْ
يُزَايِلْهَا بَعْدُ، فَحُكْمُهُ فِي الْبَيْعِ كَمَا كَانَ حَتَّى يُزَايِلَهَا
وَلَيْسَ كَوْنُهُ غَيْرَهَا، وَكَوْنُ اسْمِهِ غَيْرَ اسْمِهَا، وَصِفَاتُهُ
غَيْرَ صِفَاتِهَا: بِمُخْرِجٍ لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنْ الْحُكْمِ إِلاَّ
بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا النَّوَى هُوَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ التَّمْرِ،
وَإِنَّمَا يُقَالُ: نَوَى التَّمْرِ، وَصِفَاتُهُ غَيْرُ صِفَاتِ التَّمْرِ،
وَاسْمُهُ غَيْرُ اسْمِ التَّمْرِ وَكَذَلِكَ قِشْرُ الْبَيْضِ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ بَيْضُ ذَاتِ الْبَيْضِ قَبْلَ أَنْ تَبِيضَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ
بَيْعُهُ كَمَا هُوَ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا هُوَ
وَمَا زَالَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِعِلْمِهِ
يَبِيعُونَ التَّمْرَ، وَيَتَوَاهَبُونَهُ. وَيَبِيعُونَ الْبَيْضَ
وَيَتَهَادَوْنَهُ مِنْ بَيْضِ الدَّجَاجِ، وَالضِّبَابِ، وَالنَّعَامِ.
وَيَتَبَايَعُونَ
(8/393)
الْعَسَلَ
وَيَتَهَادَوْنَهُ، كَمَا يَشْتَرُونَهُ فِي شَمْعِهِ. وَيَتَبَايَعُونَ إنَاثَ
الضَّأْنِ، وَالْبَقَرِ، وَالْخَيْلِ، وَالْمَعْزِ، وَالإِبِلِ، وَالإِمَاءِ
وَالظِّبَاءِ حَوَامِلَ وَغَيْرَ حَوَامِلَ وَيَغْنَمُونَ كُلَّ ذَلِكَ
وَيَقْتَسِمُونَهُنَّ، وَيَتَوَارَثُونَهُنَّ وَيَقْتَسِمُونَهُنَّ كَمَا هُنَّ،
فَمَا جَاءَ قَطُّ نَصٌّ بِأَنَّ لِلأَوْلاَدِ حُكْمًا آخَرَ قَبْلَ الْوَضْعِ،
فَبَيْعُ الْحَامِلِ بِحَمْلِهَا جَائِزٌ كَمَا هُوَ مَا لَمْ تَضَعْهُ.
قال علي: وهذا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا وَبِهِ نَقُولُ ; لأََنَّهُ كُلُّهُ
بَابٌ وَاحِدٌ، وَعَمَلٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/394)
1424
- مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا تَوَلَّى الْمَرْءُ وَضْعَهُ فِي الشَّيْءِ
كَالْبَذْرِ يُزْرَعُ، وَالنَّوَى يُغْرَسُ،
فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ أَوْدَعَهُ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لَهُ، بَلْ
هَذَا وَوَضْعُهُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْكِيسِ، وَالْبُرَّ فِي
الْوِعَاءِ، وَالسَّمْنَ فِي الإِنَاءِ سَوَاءٌ، وَلاَ يَدْخُلُ حُكْمُ
أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ. وَمَنْ بَاعَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْهُ
بَيْعُ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا مَعَهُ، وَمُضَافًا إلَيْهِ.
فَمَنْ بَاعَ أَرْضًا فِيهِ بَذْرٌ مَزْرُوعٌ وَنَوًى مَغْرُوسٌ ظَهَرَا أَوْ لَمْ
يَظْهَرَا فَكُلُّ ذَلِكَ لِلْبَائِعِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِمَا
ذَكَرْنَا. وقال مالك: أَمَّا مَا يَظْهَرُ نَبَاتُهُ فَلاَ يَدْخُلُ فِي
الْبَيْعِ مِنْ الزَّرْعِ خَاصَّةً، وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ فِي
الْبَيْعِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ ; لأََنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ
لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ
مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَلاَ مِنْ احْتِيَاطٍ،
وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ الْقُرْآنُ يُبْطِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَوَجَدْنَا الْبَذْرَ، وَالنَّوَى:
مَالاً لِلْبَائِعِ بِلاَ شَكٍّ، فَلاَ يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ إِلاَّ
بِالرِّضَا الَّذِي مَلَّكَهُ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/394)
لا
يحل بيع شيء من المغيبات المذكورة كلها دون ما عليها أصلا لا يحل بيع النوى قبل
إخراجه وإظهاره دون ما عليه ولا بيع المسك دون النافجة
...
1425 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ
الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا دُونَ مَا عَلَيْهَا أَصْلاً:
لاَ يَحِلُّ بَيْعُ النَّوَى أَيُّ نَوًى كَانَ قَبْلَ إخْرَاجِهِ وَإِظْهَارِهِ
دُونَ مَا عَلَيْهِ. وَلاَ بَيْعُ الْمِسْكِ دُونَ النَّافِجَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ
مِنْ النَّافِجَةِ. وَلاَ بَيْعُ الْبَيْضِ دُونَ الْقِشْرِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ
عَنْهُ. وَلاَ بَيْعُ حَبِّ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ،
وَالصَّنَوْبَرِ، وَالْبَلُّوطِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْجِلَّوْزِ، وَكُلِّ ذِي
قِشْرَةٍ دُونَ قِشْرِهِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرِهِ. وَلاَ بَيْعُ الْعَسَلِ
دُونَ شَمْعِهِ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ شَمْعِهِ. وَلاَ لَحْمِ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ
دُونَ جِلْدِهَا قَبْلَ سَلْخِهَا. وَلاَ بَيْعُ زَيْتٍ دُونَ الزَّيْتُونِ قَبْلَ
عَصْرِهِ. وَلاَ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الأَدْهَانِ دُونَ مَا هُوَ فِيهِ قَبْلَ
إخْرَاجِهِ مِنْهَا. وَلاَ بَيْعُ حَبِّ الْبُرِّ دُونَ أَكْمَامِهِ قَبْلَ
إخْرَاجِهِ مِنْهَا. وَلاَ بَيْعُ سَمْنٍ مِنْ لَبَنٍ قَبْلَ إخْرَاجِهِ، وَلاَ
بَيْعُ لَبَنٍ قَبْلَ حَلْبِهِ أَصْلاً. وَلاَ بَيْعُ الْجَزَرِ، وَالْبَصَلِ،
وَالْكُرَّاثِ، وَالْفُجْلِ قَبْلُ قَلْعِهِ لاَ مَعَ الأَرْضِ، وَلاَ دُونَهَا
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَيْعُ غَرَرٍ، لاَ يُدْرَى مِقْدَارُهُ، وَلاَ صِفَتُهُ،
وَلاَ رَآهُ أَحَدٌ فَيَصِفُهُ. وَهُوَ أَيْضًا أَكْلُ مَالٍ
(8/394)
بيان
أن بيع الظاهر دون المغيب فيها حلال إلا أن يمنع من شيء منه نص فجائز بيع الثمرة
واستثناء نواها وبيع جلد النافجة دون المسك الذي فيها
...
1428 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الظَّاهِرِ دُونَ الْمَغِيبِ فِيهَا
فَحَلاَلٌ، إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَصٌّ، فَجَائِزٌ بَيْعُ
الثَّمَرَةِ وَاسْتِثْنَاءُ نَوَاهَا، وَبَيْعُ جِلْدِ النَّافِجَةِ دُونَ
الْمِسْكِ الَّذِي فِيهَا،
وَالْجِرَابِ، وَالظُّرُوفِ كُلِّهَا دُونَ مَا فِيهَا، وَقِشْرِ الْبَيْضِ،
وَاللَّوْزِ، وَالْجَوْزِ، وَالْجِلَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبَلُّوطِ،
وَالْقَسْطَلِ، وَكُلِّ قِشْرٍ لاَ تُحَاشِي شَيْئًا دُونَ مَا تَحْتَهَا،
وَبَيْعُ الشَّمْعِ دُونَ الْعَسَلِ الَّذِي فِيهِ، وَبَيْعُ التِّبْنِ دُونَ
الْحَبِّ الَّذِي فِيهِ، وَجِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ أَوْ الْمَنْحُورِ
دُونَ لَحْمِهِ، أَوْ دُونَ عُضْوٍ مُسَمًّى مِنْهَا، وَبَيْعُ الأَرْضِ دُونَ مَا
فِيهَا مِنْ بَذْرٍ، أَوْ خَضْرَاوَاتٍ مُغَيَّبَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ، وَدُونَ
الزَّرْعِ الَّذِي فِيهَا، وَدُونَ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهَا، وَالْحَيَوَانِ
اللَّبُونِ دُونَ لَبَنِهِ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي ضُرُوعِهِ، وَلاَ يَحِلُّ
اسْتِثْنَاءُ لَبَنٍ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدُ، وَلاَ اجْتَمَعَ فِي ضُرُوعِهِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَامِلِ دُونَ حَمْلِهَا سَوَاءٌ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَوْ
لَمْ يُنْفَخْ. وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ حَيَوَانٍ حَيٍّ وَاسْتِثْنَاءُ عُضْوٍ
مِنْهُ أَصْلاً. وَيَجُوزُ بَيْعُ عُصَارَةِ الزَّيْتُونِ، وَالسِّمْسِمِ، دُونَ
الدُّهْنِ قَبْلَ عَصْرِهِ. وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِ حَيَوَانٍ حَيٍّ دُونَ
لَحْمِهِ، وَلاَ دُونَ عُضْوٍ مُسَمًّى مِنْهُ أَصْلاً.، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ
مَخِيضِ لَبَنٍ قَبْلَ أَنْ يُمْخَضَ، وَلاَ الْمَيْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ.
برهان كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
. وَقَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَكُلُّ
بَيْعٍ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمُهُ بِاسْمِهِ
مُفَصَّلاً فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا
ذَكَرْنَا فَمَالٌ لِلْبَائِعِ وَمِلْكٌ لَهُ يَبِيعُ مِنْهُ مَا شَاءَ فَهُوَ
مِنْ مَالِهِ وَيُمْسِكُ مِنْهُ مَا شَاءَ فَهُوَ
(8/398)
مِنْ
مَالِهِ، فَمَا ظَهَرَ مِنْ مَالِهِ وَرُئِيَ، أَوْ وَصَفَهُ مَنْ رَآهُ:
فَبَيْعُهُ جَائِزٌ وَيُمْسِكُ مَا لَمْ يَرَهُ هُوَ، وَلاَ غَيْرُهُ، لأََنَّهُ
لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَجْهُولِ كَمَا قَدَّمْنَا أَوْ لأََنَّهُ لاَ يُرِيدُ
بَيْعَهُ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا حَاضِرًا أَوْ مَوْصُوفًا
غَائِبًا. وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَحِلُّ اسْتِثْنَاءُ لَبَنٍ لَمْ يَحْدُثْ
بَعْدُ، فَلأََنَّهُ إنَّمَا يَحْدُثُ إذَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَالِ
غَيْرِهِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ شَيْئًا إِلاَّ
أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِيمَا بَاعَ فَقَطْ ; لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ بَيْعِ
حَيَوَانٍ إِلاَّ عُضْوًا مُسَمًّى مِنْهُ. وَأَجَزْنَا بَيْعَ الْحَامِلِ دُونَ
حَمْلِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي
آدَمَ، أَوْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ
فَاسْتِثْنَاءُ الْعُضْوِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُ: أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ;
لأََنَّهُ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ إِلاَّ بِذَبْحِهِ، فَفِي هَذَا الْبَيْعِ
اشْتِرَاطُ ذَبْحِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ عَلَى بَائِعِ الْعُضْوِ مِنْهُ، أَوْ
عَلَى بَائِعِهِ إِلاَّ عُضْوًا مِنْهُ، وَهَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ مِنْ بَنِي
آدَمَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ جُمْلَةً، وَهَذَا مِمَّا
يُوَافِقُنَا عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ كُلُّهُمْ مِنْ خُصُومِنَا. وَأَمَّا
الْحَمْلُ، وَالصُّوفُ، وَالْوَبَرُ، وَالشَّعْرُ، وَقَرْنُ الإِبِلِ، وَكُلُّ مَا
يُزَايِلُ الْحَيَوَانَ بِغَيْرِ مُثْلَةٍ، وَلاَ تَعْذِيبٍ، فَكَمَا قَدَّمْنَا
أَنَّهُ مَالٌ لِبَائِعِهِ يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ وَيُمْسِكُ مَا شَاءَ
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةُ مَالٍ، أَوْ مُثْلَةٌ بِحَيَوَانٍ أَوْ
إضْرَارٌ بِهِ فَلاَ يَحِلُّ لِصِحَّةِ النَّهْيِ، عَنِ الْمُثْلَةِ، وَعَنْ
تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْعُنَا مِنْ بَيْعِ الْمَخِيضِ دُونَ السَّمْنِ قَبْلَ الْمَخْضِ،
وَمِنْ بَيْعِ الْمَيْشِ دُونَ الْجُبْنِ قَبْلَ عَصْرِهِ، فَلأََنَّهُ لاَ يُرَى،
وَلاَ يَتَمَيَّزُ، وَلاَ يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، فَقَدْ يَخْرُجُ الْمَخْضُ
وَالْعَصِيرُ قَلِيلاً، وَقَدْ يَخْرُجُ كَثِيرًا وَهَذَا بِخِلاَفِ بَيْعِ
عُصَارَةِ الزَّيْتُونِ، وَالسِّمْسِمِ، دُونَ الدُّهْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ ;
لأََنَّ الزَّيْتُونَ، وَالسِّمْسِمَ، وَاللَّوْزَ، وَالْجَوْزَ كُلُّ ذَلِكَ
مَرْئِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا الْخَافِي فَهُوَ الدُّهْنُ فَقَطْ، وَيَحِلُّ
بَيْعُهُ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ ; لأََنَّهُ إبْقَاءٌ لَهُ
فِي مِلْكِ مَالِكِهِ وَهَذَا مُبَاحٌ حَسَنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذَا آثَارٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ
إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ . وَقَدْ أَبَاحَهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ
الْعَوَّامِ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ
شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِبَيْعِ الْغَرَرِ إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا
فِيهِ سَوَاءً. وَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ عُلَيَّةَ هُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
(8/399)
قَالَ:
لاَ أَعْلَمُ بِبَيْعِ الْغَرَرِ بَأْسًا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
قَالَ: مِنْ الْغَرَرِ مَا يَجُوزُ وَمِنْهُ مَا لاَ يَجُوزُ، فأما مَا يَجُوزُ
فَشِرَاءُ السِّلْعَةِ الْمَرِيضَةِ، وَأَمَّا مَا لاَ يَجُوزُ فَشِرَاءُ
السَّمَكِ فِي الْمَاءِ. وَقَدْ رُوِّينَا إجَازَةَ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ
قَبْلَ أَنْ يُتَصَيَّدَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَبِهِ يَقُولُ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَاَلَّذِي ذَكَرَ إبْرَاهِيمُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ غَرَرًا، أَمَّا الْمَرِيضَةُ
فَكُلُّ النَّاسِ يَمْرَضُ وَيَمُوتُ، وَقَدْ يَمُوتُ الصَّحِيحُ فَجْأَةً،
وَيَبْرَأُ الْمَرِيضُ الْمُدْنَفُ، فَلاَ غَرَرَ هَهُنَا أَصْلاً. وَأَمَّا
السَّمَكُ فِي الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ قَدْ مُلِكَ قَبْلُ فَلَيْسَ بَيْعُهُ
غَرَرًا بَلْ هُوَ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَافَقَنَا الْحَاضِرُونَ مِنْ
خُصُومِنَا عَلَى أَنَّ بِرْكَةً فِي دَارٍ لأَِنْسَانٍ صَغِيرَةً صَادَ
صَاحِبُهَا سَمَكَةً وَرَمَاهَا فِيهَا حَيَّةً، فَإِنَّ بَيْعَهَا فِيهَا
جَائِزٌ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُمْلَكْ مِنْ السَّمَكِ بَعْدُ فَلَمْ يَجُزْ
بَيْعُهُ ; لأََنَّهُ غَرَرٌ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ السَّمَكَةُ مَقْدُورًا
عَلَيْهَا بِالضَّمَانِ مَا حَلَّ بَيْعُهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَ لأََنَّهُ بَيْعُ
مَا لَيْسَ لَهُ وَهَذَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ بَاعَ أَمَةً
وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا قَالَ: لَهُ ثُنْيَاهُ وَقَدْ صَحَّ هَذَا
أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعِتْقِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
قَالَ: مَنْ بَاعَ حُبْلَى، أَوْ أَعْتَقَهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَلَهُ
ثُنْيَاهُ فِيمَا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ
فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: سَوَاءٌ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ، أَوْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ ثُنْيَاهُ
لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مَالُهُ يَسْتَثْنِيه إنْ شَاءَ فَلاَ
يَبِيعُهُ، أَوْ يَدْخُلُ فِي صَفْقَةِ أُمِّهِ ; لأََنَّهُ بَعْضُهَا مَا لَمْ
يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ،
وَلَكِنْ مَنْ اسْتَثْنَى حَمْلَ الْحَامِلِ الَّذِي بَاعَ كَمَا ذَكَرْنَا فَمَا
وَلَدَتْ إنْ كَانَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ غَيْرَ سَاعَةٍ،
فَهُوَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يُوقِنَ أَنَّ حَمْلَهَا بِهِ كَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ
فَلاَ شَيْءَ لَهُ ; لأََنَّهُ حَدَثَ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَيُنْظَرُ فِي سَائِرِ
الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ، فَمَا وَلَدَتْ لأََقْصَى مَا يَلِدُ لَهُ ذَلِكَ
الْحَيَوَانُ فَهُوَ لِلَّذِي اسْتَثْنَاهُ، وَمَا وَلَدَتْ لأََكْثَرَ فَلَيْسَ
لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ ثُنْيَا الْحَمْلِ فِي الْبَيْعِ، وَلاَ يُجِيزُهُ فِي
الْعِتْقِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الْبَيْعِ
وَالْعِتْقِ، وَهُوَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَوْلُ صَاحِبٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ
تَقْلِيدَهُمْ.
وَرُوِّينَا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أُبَيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
أَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ أَمَةً لَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا. وَبِهِ
يَقُولُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ
(8/400)
الْقَطَّانُ،
عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ
أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَقَالَ: لَهُ ثُنْيَاهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ
سُفْيَانَ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ،
وَابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ جَابِرٌ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ مَنْصُورٌ: عَنْ
إبْرَاهِيمُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ اتَّفَقَ الشَّعْبِيُّ،
وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، قَالُوا كُلُّهُمْ: إذَا أَعْتَقَهَا
وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا: فَلَهُ ثُنْيَاهُ. وبه إلى ابْنِ أَبِي شَيْبٍ،
حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ:
سَأَلْتُ الْحَكَمَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي مَنْ
أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَقَالاَ جَمِيعًا: ذَلِكَ
لَهُ. حَدَّثَنَا حُمَامٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ثَوْرٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: مَنْ كَاتَبَ أَمَتَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي
بَطْنِهَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ فِي الْعِتْقِ، وَالْبَيْعِ. وَبِهِ يَقُولُ أَيْضًا إِسْحَاقُ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ. فَهَؤُلاَءِ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ،
وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، بَعْضُهُمْ فِي الْبَيْعِ، وَبَعْضُهُمْ فِي
الْعِتْقِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الأَمْرَيْنِ مَعًا وَمَا نَعْلَمُ الآنَ مُخَالِفًا
لَهُمْ إِلاَّ الزُّهْرِيَّ ; وَقَالَ بِقَوْلِنَا هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ كَمَا
ذَكَرْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ،
وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ هُمْ،
عَنْ حُجَّتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ
الْجِلْدِ، وَالسَّوَاقِطِ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ، حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ
بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ
مُهَاجِرَيْنِ، إلَى الْمَدِينَةِ اشْتَرَيَا مِنْ رَاعِي غَنَمٍ شَاةً وَشَرَطَا
لَهُ إهَابَهَا .
قال أبو محمد: هَذَا بَاطِلٌ عَبْدُ الْمَلِكِ هَالِكٌ، وَعُمَارَةُ ضَعِيفٌ ثُمَّ
هُوَ مُرْسَلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَنْسُوخًا، لأََنَّهُ كَمَا تَرَى
قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَبَيْعُ لَحْمِ شَاةٍ حَيَّةٍ غَرَرٌ ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَهَزِيلٌ أَمْ
سَمِينٌ. أَوْ ذُو عَاهَةٍ أَمْ سَالِمٌ، ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا
جَازَ لأََجْلِ السَّفَرِ، فَإِنَّ هَذَا ظَنٌّ لاَ يَصِحُّ. فَإِنْ قَالُوا:
كَانَ فِي سَفَرٍ قلنا: وَكَانَ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لاَ تُجِيزُوهُ فِي
غَيْرِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَجُلاً
بَاعَ بَقَرَةً وَاشْتَرَطَ رَأْسَهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَمْسَكَهَا فَقَضَى
لَهُ زَيْدٌ بِشَرْوَى رَأْسِهَا، قَالَ سُفْيَانُ: نَحْنُ نَقُولُ: الْبَيْعُ
فَاسِدٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا
أُبَيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ نُسَيْرِ
(8/401)
بْنِ
ذُعْلُوقٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ الأَشْجَعِيِّ أَنَّ رَجُلاً بَاعَ
بُخْتِيَّةً وَاشْتَرَطَ ثُنْيَاهَا فَبَرِئَتْ فَرَغِبَ فِيهَا فَاخْتَصَمَا إلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: اذْهَبَا إلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
اذْهَبْ بِهَا إلَى السُّوقِ فَإِذَا بَلَغَتْ أَفْضَلَ ثَمَنِهَا، فَأَعْطُوهُ
حِسَابَ ثُنْيَاهَا مِنْ ثَمَنِهَا. وَرَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ نُسَيْرِ بْنِ ذُعْلُوقٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ
أَنَّ رَجُلاً بَاعَ بَعِيرًا مَرِيضًا وَاسْتَثْنَى جِلْدَهُ فَبَرَأَ الْبَعِيرُ
فَقَالَ عَلِيٌّ: يُقَوِّمُ الْبَعِيرَ فِي السُّوقِ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ
شِرَاؤُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ حَدَّثَنِي
أَصْبَغُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ اشْتَرَى رَجُلٌ
رَأْسَ جَمَلٍ وَنَقَدَ ثَمَنَهُ وَاشْتَرَى آخَرُ بَقِيَّتَهُ وَنَقَدَ ثَمَنَهُ
لِيَنْحَرَاهُ فَعَاشَ الْجَمَلُ وَصَلُحَ فَقَالَ مُشْتَرِي الْجَمَلِ
لِمُشْتَرِي الرَّأْسِ: إنَّمَا لَك ثَمَنُ الرَّأْسِ فَاخْتَصَمَا إلَى شُرَيْحٍ،
فَقَالَ شُرَيْحٌ: هُوَ شَرِيكُك فِيهِ بِحِصَّةِ مَا نَقَدَ وَبِحُكْمِ شُرَيْحٌ
هَذَا يَأْخُذُ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ. وَلَمْ يُجِزْ
مَالِكٌ اسْتِثْنَاءَ الْجِلْدِ وَالرَّأْسِ إِلاَّ فِي السَّفَرِ، لاَ فِي
الْحَضَرِ، فَخَالَفَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا وَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَلاَ الشَّافِعِيُّ أَصْلاً. وَأَجَازَ الأَوْزَاعِيُّ اسْتِثْنَاءَ الْيَدِ أَوْ
الرَّأْسِ أَوْ الْجِلْدِ عِنْدَ الذَّبْحِ خَاصَّةً، وَكَرِهَهُ إنْ تَأَخَّرَ
الذَّبْحُ وَالْحَنَفِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ
الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ وَخَالَفُوا هَهُنَا: زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ
مُخَالِفٌ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ رَأَوْا فِيمَنْ بَاعَ
بَعِيرًا وَاسْتَثْنَى جِلْدَهُ، فَاسْتَحْيَاهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ: أَنَّ لَهُ
شَرْوَى جِلْدِهِ أَوْ قِيمَتَهُ هَذَا فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، وَهَذَا خِلاَفُ
حُكْمِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ ; لأََنَّهُمْ حَكَمُوا بِذَلِكَ مُطْلَقًا،
لَمْ يَخُصُّوا سَفَرًا مِنْ حَضَرٍ ; وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا، عَنْ بَعْضِ
السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قُلْتُ لأَِبْرَاهِيمَ: أَبِيعُ الشَّاةَ
وَأَسْتَثْنِي بَعْضَهَا قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ قُلْ: أَبِيعُك نِصْفَهَا قَالَ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَبِي الْجَارُودِ سَأَلْت
جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ عَمَّنْ بَاعَ بَيْعًا وَاسْتَثْنَى بَعْضَهُ قَالَ: لاَ
يَصِحُّ ذَلِكَ.
(8/402)
من
باع ممن ذكر سابقا الظاهر دون المغيب أو باع مغيبا يجوز بيعه بصفة كالصوف في
الفراش والعسل في الظرف فإن كان المكان للبائع فعليه تمكين المشتري من أخذ ما
اشترى
...
1429 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا الظَّاهِرَ دُونَ
الْمُغَيَّبِ، أَوْ بَاعَ مُغَيَّبًا: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِصِفَةٍ، كَالصُّوفِ فِي
الْفِرَاشِ، وَالْعَسَلِ فِي الظَّرْفِ، وَالثَّوْبِ فِي الْجِرَابِ، فَإِنَّهُ
إنْ كَانَ الْمَكَانُ لِلْبَائِعِ فَعَلَيْهِ تَمْكِينُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَخْذِ
مَا اشْتَرَى، وَلاَ بُدَّ،
وَإِلَّا كَانَ غَاصِبًا مَانِعَ حَقٍّ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي إزَالَةُ مَالِهِ،
عَنْ مَكَانِ غَيْرِهِ، وَإِلَّا كَانَ غَاصِبًا لِلْمَكَانِ مَانِعَ حَقٍّ ;
فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْبَائِعِ نَزْعُ مَالِهِ، عَنْ
مَكَانِ غَيْرِهِ، وَإِلَّا كَانَ ظَالِمًا مَانِعَ حَقٍّ، فَإِنْ كَانَ
الْمَكَانُ لَهُمَا جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَعْجِيلَ انْتِفَاعِهِ
بِمَتَاعِهِ فَعَلَيْهِ أَخْذَهُ، وَلاَ يُجْبَرُ الآخَرُ
(8/402)
عَلَى مَا لاَ يُرِيدُ تَعْجِيلَهُ مِنْ أَخْذِ مَتَاعِهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ لِغَيْرِهِمَا فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنْ يَنْزِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ مِنْ مَكَانِ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ ظَالِمٌ مَانِعُ حَقٍّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إذْ قَالَ سَلْمَانُ لأََبِي الدَّرْدَاءِ أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَصَدَّقَهُ عليه السلام، وَصَوَّبَ قَوْلَهُ. فَمَنْ بَاعَ تَمْرًا دُونَ نَوَاهَا، فَأَخْذُ التَّمْرَةِ وَتَخْلِيصُهَا مِنْ النَّوَى عَلَى الْمُشْتَرِي لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَخْذِ مَتَاعِهِ وَنَقْلِهِ وَتَرْكِ النَّوَى مَكَانَهُ إنْ كَانَ الْمَكَانُ لِلْبَائِعِ فَإِنْ أَبَى أُجْبِرَ، وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مَنْ يُزِيلُ التَّمْرَ، عَنِ النَّوَى، وَلاَ يُكَلَّفُ الْبَائِعُ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ ; لأََنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ فَتْحُ ثَمَرَةِ غَيْرِهِ، وَلاَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ فِيهِ عَمَلاً. فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ ثَمَرَتِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَتْرُكُ غَيْرَهُ يُؤَثِّرُ لَهُ فِيهَا أَثَرًا لاَ يُرِيدُهُ، فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْبَائِعِ إخْرَاجُ نَوَاهُ وَنَقْلُهُ عَلَى أَلْطَفِ مَا يُمْكِنُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ مِقْدَارَ تَعَدِّيه فِي إفْسَادِ الثَّمَرَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ لَهُمَا فَكَمَا قلنا: أَيُّهُمَا أَرَادَ تَعْجِيلَ أَخْذِ مَتَاعِهِ فَلَهُ أَخْذُهُ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الَّذِي لَهُ النَّوَى كَانَ لَهُ إخْرَاجُ نَوَاهُ بِأَلْطَفِ مَا يُمْكِنُ، إذْ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ; لأََنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا لَهُ، فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ. فَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ لِغَيْرِهِمَا أُجْبِرَا جَمِيعًا عَلَى الْعَمَلِ مَعًا فِي تَخْلِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَهُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَافِجَةِ الْمِسْكِ، وَالظُّرُوفِ دُونَ مَا فِيهَا، وَالْقُشُورِ دُونَ مَا فِيهَا، وَالشَّمْعِ دُونَ الْعَسَلِ، وَالتِّبْنِ دُونَ الْحَبِّ، وَجِلْدِ الْحَيَوَانِ الْمَذْبُوحِ أَوْ الْمَنْحُورِ، وَلَحْمَةِ الزَّيْتُونِ، وَالسِّمْسِمِ، وَكُلِّ ذِي دُهْنٍ. وَأَمَّا مَنْ بَاعَ الأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ، أَوْ دُونَ الزَّرْعِ، أَوْ دُونَ الشَّجَرِ، أَوْ دُونَ الْبِنَاءِ، فَالْحَصَادُ عَلَى الَّذِي لَهُ الزَّرْعُ، وَالْقَلْعُ عَلَى الَّذِي لَهُ الشَّجَرُ، وَالْبِنَاءُ وَالْقَطْعُ أَيْضًا عَلَيْهِ ; لأََنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ إزَالَةُ مَالِهِ، عَنْ أَرْضِ غَيْرِهِ. وَمَنْ بَاعَ الْحَيَوَانَ دُونَ اللَّبَنِ، أَوْ دُونَ الْحَمْلِ، فَالْحَلْبُ عَلَى الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ، وَلاَ بُدَّ وَأُجْرَةُ الْقَابِلَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا ; لأََنَّ وَاجِبًا عَلَيْهِ إزَالَةُ لَبَنِهِ، عَنْ ضَرْعِ حَيَوَانِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْحَيَوَانِ إِلاَّ إمْكَانُهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ، لاَ خِدْمَتُهُ فِي حَلْبِ لَبَنِهِ. وَكَذَلِكَ عَلَى الَّذِي لَهُ مِلْكِ الْوَلَدِ: الْعَمَلُ فِي الْعَوْنِ فِي أَخْذِ مَمْلُوكِهِ، أَوْ مَمْلُوكَتِهِ فِي بَطْنِ أَمَةِ غَيْرِهِ بِمَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ بَاعَ سَارِيَةَ خَشَبٍ، أَوْ حَجَرٍ فِي بِنَاءٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قَلْعُ ذَلِكَ بِأَلْطَفِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّدْعِيمِ لِمَا حَوْلَ السَّارِيَةِ مِنْ الْبِنَاءِ، وَهَدْمُ مَا حَوَالَيْهَا مِمَّا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ هَدْمِهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ; لأََنَّ لَهُ أَخْذَ مَتَاعِهِ كَمَا يَقْدِرُ. وَمَنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِشَيْءٍ، وَيَعْمَلُ فِي شَيْءٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ ; لأََنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ: مُحْسِنٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ لِمَا ذَكَرْنَا.
(8/403)
من
باع صوفا أو وبرا أو شعرا على حيوان فالجز على الذي له الصوف والشعر والوبر
...
1430 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ صُوفًا، أَوْ وَبَرًّا، أَوْ شَعْرًا عَلَى
الْحَيَوَانِ فَالْجَزُّ عَلَى الَّذِي لَهُ الصُّوفُ، وَالشَّعْرُ، وَالْوَبَرُ ;
لأََنَّ عَلَيْهِ إزَالَةَ مَالِهِ، عَنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَمَكَانِ الشَّعْرِ،
وَالْوَبَرِ، وَالصُّوفِ وَهُوَ جِلْدُ الْحَيَوَانِ فَعَلَى الَّذِي لَهُ كُلُّ
ذَلِكَ إزَالَةُ مَالِهِ، عَنْ مَكَانِ غَيْرِهِ، وَعَلَى الَّذِي لَهُ الْمَكَانُ
أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى خَابِيَةً فِي
بَيْتٍ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا، وَلَهُ أَنْ يَهْدِمَ مِنْ بَابِ الْبَيْتِ مَا
لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ هَدْمِهِ لأَِخْرَاجِ الْخَابِيَةِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ
فِي ذَلِكَ، إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى عَمَلِ مَا كُلِّفَ إِلاَّ بِذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/404)
1431
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ تُرَابِ الصَّاغَةِ أَصْلاً
بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لأََنَّهُ إنَّمَا يَقْصِدُ الْمُشْتَرِي مَا فِيهِ مِنْ
قَطْعِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُعْرَفُ فَهُوَ غَرَرٌ،
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
(8/404)
كل
ما نخله الغبارون من التراب أو استخرجه غسالوا الطين من الطين فهو لقطة
...
1432 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا نَخَلَهُ الْغَبَّارُونَ مِنْ التُّرَابِ، أَوْ
اسْتَخْرَجَهُ غَسَّالُوا الطِّينِ مِنْ الطِّينِ، أَوْ اُسْتُخْرِجَ مِنْ تُرَابِ
الصَّاغَةِ، فَهُوَ لُقَطَةٌ
مَا أَمْكَنَ أَنْ يُعَرَّفَ، كَالْفَصِّ، أَوْ الدِّينَارِ، أَوْ الدِّرْهَمِ،
فَمَا زَادَ فَتَعْرِيفُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اللُّقَطَةِ ثُمَّ هُوَ
لِلْمُلْتَقِطِ مَضْمُونًا لِصَاحِبِهِ إنْ جَاءَ وَمَا كَانَ مِنْهُ لاَ يُمْكِنُ
أَنْ يُعْرَفَ صَاحِبُهُ أَبَدًا مِنْ قِطْعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَهُوَ
حَلاَلٌ لِوَاجِدِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي "كِتَابِ اللُّقَطَةِ"
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/404)
بيان
تراب المعادن
...
1433 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا تُرَابُ الْمَعَادِنِ:
فَمَا كَانَ مِنْهُ مَعْدِنَ ذَهَبٍ فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ أَلْبَتَّةَ بِوَجْهٍ
مِنْ الْوُجُوهِ، لأََنَّ الذَّهَبَ فِيهِ مَخْلُوقٌ فِي خِلاَلِهِ مَجْهُولُ
الْمِقْدَارِ. فَلَوْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي فِيهِ مَرْئِيًّا كُلُّهُ مُحَاطًا
بِهِ: جَازَ بَيْعُهُ بِمَا يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ الذَّهَبِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا كَانَ مِنْهُ تُرَابَ مَعْدِنِ
فِضَّةٍ: جَازَ بَيْعُهُ بِدَرَاهِمَ وَبِذَهَبٍ نَقْدًا، وَإِلَى أَجَلٍ وَإِلَى
غَيْرِ أَجَلٍ، وَبِالْعَرْضِ نَقْدًا، وَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ
تُرَابُ سَائِرِ الْمَعَادِنِ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفِضَّةِ
أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ تُرَابٌ مَحْضٌ، لاَ يَصِيرُ فِضَّةً إِلاَّ
بِمُعَانَاةٍ وَطَبْخٍ، فَيَسْتَحِيلُ بَعْضُهُ فِضَّةً كَمَا يَسْتَحِيلُ
الْمَاءُ مِلْحًا، وَالْبَيْضُ فَرَارِيجَ، وَالنَّوَى شَجَرًا، وَلاَ فَرْقَ.
(8/404)
1434-
مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْقَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُسَنْبِلَ: جَائِزٌ وَلِلْبَائِعِ
أَنْ يَتَطَوَّعَ لِلْمُشْتَرِي بِتَرْكِهِ
مَا شَاءَ إلَى أَنْ يَرْعَاهُ، أَوْ إلَى أَنْ يَحْصُدَهُ، أَوْ إلَى أَنْ
يَيْبَسَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ حَتَّى زَادَ فِيهِ أَوْلاَدًا
مِنْ أَصْلِهِ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً إذَا اشْتَرَاهُ فَاخْتَصَمَا فِيهَا:
فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ: قُضِيَ بِهَا، وَلَمْ
يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَى، وَكَانَتْ الزِّيَادَةُ
مِنْ الأَوْلاَدِ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ: حَلَفَا،
وَقُسِّمَتْ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَتَدَاعَيَانِهَا بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا
السُّنْبُلُ، وَالْخَرُّوبُ،
(8/404)
يجوز
بيع القصيل على القطع
...
1435 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا بَيْعُ الْقَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُسَنْبِلَ عَلَى
الْقَطْعِ فَجَائِزٌ ;
لأََنَّ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُزِيلَ مَالَهُ، عَنْ أَرْضِ غَيْرِهِ،
وَأَنْ لاَ يَشْغَلَهَا بِهِ، فَهَذَا شَرْطٌ وَاجِبٌ، مُفْتَرَضٌ، فَإِنْ
تَطَوَّعَ لَهُ رَبُّ الأَرْضِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ: فَحَسَنٌ ;
لأََنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ إبَاحَةُ أَرْضِهِ لِمَنْ شَاءَ، وَلِمَا شَاءَ، مِمَّا
لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، فَإِنْ زَادَ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَتَطَوَّعَ لَهُ
بِالزِّيَادَةِ ; لأََنَّهُ مَالُهُ يَهَبُهُ لِمَنْ شَاءَ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ
قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ، وَالْهِبَةُ فِعْلُ خَيْرٍ وَفَضْلٍ، قَالَ اللَّه
تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ} . فَإِنْ أَبَى فَالْبَيِّنَةُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَهُمَا
مُتَدَاعِيَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَهِيَ بِأَيْدِيهِمَا مَعًا فَكُلُّ وَاحِدٍ
يَقُولُ: هِيَ لِي، فَيَحْلِفَانِ، لأََنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعًى
عَلَيْهِ، ثُمَّ يَبْقَى لِكُلِّ أَحَدٍ مَا بِيَدِهِ لِبَرَاءَتِهِ مِنْ دَعْوَى
خَصْمِهِ بِيَمِينِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَنَعَ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، مِنْ بَيْعِ الْقَصِيلِ حَتَّى يَصِيرَ
حَبًّا يَابِسًا، وَلَمْ يَأْتِ بِهَذَا نَصٌّ أَصْلاً ثُمَّ تَنَاقَضُوا،
فَأَجَازُوا بَيْعَهُ عَلَى الْقَطْعِ. وَكُلُّ هَذَا بِلاَ برهان أَصْلاً لاَ
مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ
رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى مَا مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ
عَلَى مَا أَبَاحُوا مِنْهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي
لَيْلَى: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْقَصِيلِ لاَ عَلَى الْقَطْعِ، وَلاَ عَلَى
التَّرْكِ وَقَوْلُ هَؤُلاَءِ أَطْرُدُ وَأَصَحُّ فِي السُّنْبُلِ قَبْلَ أَنْ
يَشْتَدَّ. وَاخْتَلَفُوا إنْ تُرِكَ الزَّرْعُ فَزَادَ فَقَالَ مَالِكٌ:
يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ جُمْلَةً. وقال أبو حنيفة: لِلْمُشْتَرِي الْمِقْدَارُ
الَّذِي اشْتَرَى وَيَتَصَدَّقُ بِالزِّيَادَةِ وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ
فَقَالَ: لِلْمُشْتَرِي الْمِقْدَارُ الَّذِي اشْتَرَى، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ
فَلِلْبَائِعِ. وقال الشافعي: الْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَعَ لَهُ
الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ مَعًا أَوْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ مَا اشْتَرَى.
قال أبو محمد : أَمَّا فَسْخُ مَالِكٍ لِلْبَيْعِ فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّتِهِ أَصْلاً، وَلأََيِّ مَعْنًى يَفْسَخُ بَيْعًا وَقَعَ عَلَى صِحَّةٍ
بِإِقْرَارِهِ هَذَا مَا لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِقُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ. وَأَمَّا
أَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ فَخَطَأٌ ; لأََنَّ الزِّيَادَةَ إذْ جَعَلَهَا
لِلْمُشْتَرِي فَلأََيِّ شَيْءٍ يَأْمُرُهُ بِالصَّدَقَةِ بِهَا دُونَ أَنْ
يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْقَدْرِ الَّذِي اشْتَرَى وَكِلاَهُمَا لَهُ
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ:
فَصَحِيحٌ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهَا وَبِمِقْدَارِ مَا اشْتَرَى. وَأَمَّا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَظَاهِرُ الْخَطَأِ ; لأََنَّهُ إذْ جَعَلَ الزِّيَادَةَ
لِلْبَائِعِ ; فَلأََيِّ مَعْنًى أَجْبَرَهُ عَلَى هِبَتِهَا لِلْمُشْتَرِي أَوْ
فَسَخَ الْبَيْعَ وَلأََيِّ دَلِيلٍ مَنَعَهُ مِنْ طَلَبِ حَقِّهِ وَالْخِصَامِ
فِيهِ وَالْبَقَاءِ عَلَيْهِ فَهَذِهِ آرَاءُ الْقَوْمِ كَمَا تَرَى فِي
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ: إنَّ
الزِّيَادَةَ لِلْمُشْتَرِي فَخَطَأٌ ; لأََنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا اشْتَرَى
قَدْرًا
(8/406)
مَعْلُومًا فَلَهُ مَا حَدَثَ فِي الْعَيْنِ الَّذِي اشْتَرَى، وَلِلْبَائِعِ مَا زَادَ فِيمَا اسْتَبْقَى لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَبِعْهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالزِّيَادَةُ فِي طُولِ السَّاقِ لِلْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا لأََنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ زَرْعُ مَا اشْتَرَى فَقَطْ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الزِّيَادَةُ مِنْ الأَصْلِ. وَأَمَّا السُّنْبُلُ، وَالْحَبُّ، وَالنَّوْرُ، وَالْوَرَقُ، وَالتِّبْنُ، وَالْخَرُّوبُ فَلِلْمُشْتَرِي لأََنَّهُ فِي عَيْنِ مَالِهِ حَدَثَ وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّعِيرِ لِلْعَلَفِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ إذَا كَانَ يَحْصُدُهُ مِنْ مَكَانِهِ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ طَعَامًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
(8/407)
1436
- مَسْأَلَةٌ: وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الْمَقَاثِي وَإِنْ كَانَ
صَغِيرًا جِدًّا
لأََنَّهُ يُؤْكَلُ، وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ مِنْ
الْمَقَاثِي، وَالْيَاسَمِينِ، وَالنَّوْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ جِزَّةً ثَانِيَةً
مِنْ الْقَصِيلِ ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ وَلَعَلَّهُ لاَ
يُخْلَقُ وَإِنْ خُلِقَ فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَا
كَمِّيَّتُهُ، وَلاَ مَا صِفَاتُهُ: فَهُوَ حَرَامٌ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبَيْعُ
غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَجَازَ مَالِكٌ كُلَّ ذَلِكَ وَمَا
نَعْلَمُ لَهُ فِي تَخْصِيصِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ سَلَفًا، وَلاَ أَحَدٌ قَالَهُ
غَيْرُهُ قَبْلَهُ، وَلاَ حُجَّةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِاسْتِئْجَارِ
الظِّئْرِ وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ مَوْضِعِهِ
وَأَيْنَ الأَسْتِئْجَارُ مِنْ الْبَيْعِ، ثُمَّ أَيْنَ اللَّبَنُ الْمُرْتَضَعُ
مِنْ الْقِثَّاءِ، وَالْيَاسَمِينِ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ بَيْعَ لَبَنِ شَاةٍ
قَبْلَ حَلْبِهِ، وَلاَ يَقِيسُونَهُ عَلَى الظِّئْرِ ثُمَّ يَقِيسُونَ عَلَيْهِ
بَيْعَ الْقِثَّاءِ، وَالنَّوْرِ، وَالْيَاسَمِينَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا يُونُسُ بْنُ
عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الرِّطَابِ جِزَّتَيْنِ
جِزَّتَيْنِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا شَرِيكٌ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، قَالاَ جَمِيعًا:
لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الرِّطَابِ جِزَّةً جِزَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ
بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ
أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ بَيْعِ الرَّطْبَةِ جِزَّتَيْنِ فَقَالَ: لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ
جِزَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْقَضْبِ، وَالْحِنَّاءِ، إِلاَّ
جِزَّةً وَكَرِهَ بَيْعَ الْخِيَارِ وَالْخِرْبِزِ إِلاَّ جَنِيَّةً. وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ،
وَالْقَاسِمِ أَنَّهُمَا كَرِهَا بَيْعَ الرِّطَابِ إِلاَّ جِزَّةً وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَغَيْرِهِمْ.
(8/407)
لو
باع المقثاة بأصولها والموز بأصوله وتطوع له بإبقاء ذلك في أرضه
...
1437 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ بَاعَهُ الْمَقْثَأَةَ بِأُصُولِهَا، وَالْمَوْزَ
بِأُصُولِهِ، وَتَطَوَّعَ لَهُ إبْقَاءَ كُلِّ ذَلِكَ
فِي أَرْضِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ ذَلِكَ فَإِذَا مَلَكَ مَا ابْتَاعَ كَانَ
لَهُ كُلُّ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ ; لأََنَّهُ تَوَلَّدَ فِي مَالِهِ، وَلَهُ
أَخْذُهُ بِقَلْعِ كُلِّ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ لأََنَّهُ أُمْلَكُ بِمَالِهِ. وَلاَ
يَحِلُّ لَهُ اشْتِرَاطُ إبْقَاءِ ذَلِكَ
(8/407)
بيع
الأمة وبيان أنها حامل من غير سيدها لكن من زوج أو زنا أو اكراه بيع صحيح
...
1438 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الأَمَةِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ غَيْرِ
سَيِّدِهَا، لَكِنْ مِنْ زَوْجٍ، أَوْ زِنًى، أَوْ إكْرَاهٍ: بَيْعٌ صَحِيحٌ،
سَوَاءٌ كَانَتْ رَائِعَةً أَوْ وَخْشًا كَانَ الْبَيْعُ فِي أَوَّلِ الْحَمْلِ
أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ. وقال مالك: يَجُوزُ فِي الْوَخْشِ، وَلاَ
يَجُوزُ فِي الرَّائِعَةِ وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ صْلاً، وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَيْهِ أَصْلاً، وَقَالَ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ} وَمَا خَصَّ حَامِلاً مِنْ حَائِلٍ، وَلاَ رَائِعَةً مِنْ وَخْشٍ،
وَلاَ امْرَأَةً مِنْ سَائِرِ إنَاثِ الْحَيَوَانِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
(8/408)
بيع
السيف دون الغمد جائز وبيع الغمد دون النصل جائز إلخ
...
1439 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ السَّيْفِ دُونَ غِمْدِهِ جَائِزٌ. وَبَيْعُ
الْغِمْدِ دُونَ النَّصْلِ جَائِزٌ.
وَبَيْعُ الْحِلْيَةِ دُونَهُمَا جَائِزٌ وَبَيْعُ نِصْفِهَا مُشَاعٌ، أَوْ
ثُلُثِهَا، أَوْ عُشْرِهَا، أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُ دَلِيلاً أَصْلاً
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَكَذَلِكَ بَيْعُ قِطَعٍ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ
مِنْ خَشَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَحْدُودَةٍ: جَائِزٌ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ.
(8/408)
بيع
حلقة الخاتم دون الفص جائز وخلع الفص حينئذ على البائع وبيع الفص دون الحلقة جائز
...
1440 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ حَلْقَةِ الْخَاتَمِ دُونَ الْفَصِّ جَائِزٌ،
وَقَلْعُ الْفَصِّ حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَبَيْعُ الْفَصِّ دُونَ
الْحَلْقَةِ جَائِزٌ، وَقَلْعُ الْفَصِّ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُشْتَرِي;
لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ وَالْفَصُّ فِي الْحَلْقَةِ فَهِيَ مَكَانٌ لِلْفَصِّ،
فَفُرِضَ عَلَى الَّذِي لَهُ الْفَصُّ إخْرَاجُ الْفَصِّ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْغَلَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ عَلَى
صَاحِبِ الْحَلْقَةِ إِلاَّ إمْكَانُهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ، وَأَنْ لاَ يَحُولَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ. وَلِمُتَوَلِّي إخْرَاجِ الْفَصِّ تَوْسِيعُ
الْحَلْقَةِ بِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي اسْتِخْرَاجِ مَتَاعِهِ، وَلاَ ضَمَانَ
عَلَيْهِ، لأََنَّهُ فَعَلَ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ، فَإِنْ تَعَدَّى
ضَمِنَ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْجِذْعِ يُبَاعُ دُونَ الْحَائِطِ، أَوْ
الْحَائِطِ يُبَاعُ دُونَهُ وَالشَّجَرَةِ دُونَ الأَرْضِ، أَوْ الأَرْضِ دُونَ
الشَّجَرَةِ، وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/408)
1441
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا فَقَالَ الْمُشْتَرِي: لاَ أَدْفَعُ الثَّمَنَ
حَتَّى أَقْبِضَ مَا ابْتَعْت وَقَالَ الْبَائِعُ: لاَ أَدْفَعُ حَتَّى أَقْبِضَ:
أُجْبِرَا مَعًا عَلَى دَفْعِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَعًا;
لأََنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالإِنْصَافِ وَالأَنْتِصَافِ مِنْ الآخَرِ
وَبِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ لِلآخَرِ، وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يُعْطِيَ الآخَرَ حَقَّهُ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ أَحَدُهُمَا
بِالتَّقَدُّمِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ جَوْرٌ،
(8/408)
إن
أبى المشتري من أن يدفع الثمن مع قبضه لما اشترى وقال لا أدفع الثمن إلا بعد أن
أقبض ما اشتريت فللبائع أن يحبس ما باع حتى ينتصف وينصف معا
...
1442- مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ مِنْ
قَبْضِهِ لِمَا اشْتَرَى وَقَالَ: لاَ أَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ
أَقْبِضَ مَا اشْتَرَيْتُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ مَا بَاعَ حَتَّى
يَنْتَصِفَ وَيُنْصِفَ مَعًا،
فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ مُصِيبَةِ
الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ دَفْعُ الثَّمَنِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا
هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ ; لأََنَّهُ احْتَبَسَ بِحَقٍّ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ مَا حَبَسَ وَفَاءً
بِالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، لأََنَّهُ
مُتَعَدٍّ بِاحْتِبَاسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا تَعَدَّى عَلَيْهِ فِيهِ الآخَرُ هَذَا
إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَسِمَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ
قِسْمَتُهُ إِلاَّ بِفَسَادِهِ، أَوْ حَطِّ ثَمَنِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ
أَصْلاً. فَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: لاَ أَدْفَعُ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ،
وَدَعَاهُ الْمُشْتَرِي إلَى أَنْ يَقْبِضَ وَيَدْفَعَ مَعًا فَأَبَى، فَهُوَ
هَهُنَا ضَامِنٌ ; لأََنَّهُ مُتَعَدٍّ بِاحْتِبَاسِهِ مَا حَبَسَ، وَقَدْ دُعِيَ
إلَى الإِنْصَافِ فَأَبَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/409)
من
قال حين يبع لا خلا به فله الخيار ثلاث ليال بما في خلالهن من الأيام إن شاء رد
بعيب أو بغير عيب أو بخديعة
...
1443 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ حِينَ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ: لاَ خِلاَبَةَ
فَلَهُ الْخِيَارُ ثَلاَثَ لَيَالٍ بِمَا فِي خِلاَلِهِنَّ مِنْ الأَيَّامِ، إنْ
شَاءَ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوْ بِغَيْرِ عَيْبٍ، أَوْ بِخَدِيعَةٍ
أَوْ بِغَيْرِ خَدِيعَةٍ، وَبِغَبْنٍ أَوْ بِغَيْرِ غَبْنٍ، وَإِنْ شَاءَ
أَمْسَكَ: فَإِذَا انْقَضَتْ اللَّيَالِي الثَّلاَثُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ
الْبَيْعُ، وَلاَ رَدَّ لَهُ، إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ إنْ وُجِدَ وَاللَّيَالِي
الثَّلاَثُ مُسْتَأْنَفَةٌ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، فَإِنْ بَايَعَ قَبْلَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَلَوْ مِنْ حِينِ طُلُوعِهَا: فَإِنَّهُ
يَسْتَأْنِفُ الثَّلاَثَ مُبْتَدِئَةً وَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا فِي يَوْمِهِ
ذَلِكَ. وَإِنْ بَايَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَهُ الْخِيَارُ مِنْ
حِينَئِذٍ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ: حدثنا
حمام، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ
التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ فِي رَأْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
مَأْمُومَةً فَخَبَلَتْ لِسَانَهُ، فَكَانَ إذَا بَايَعَ خُدِعَ فِي الْبَيْعِ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بَايِعْ وَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ
ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ .، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ أَنَا أَبُو قَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ أَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ
فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَخَبَلَتْ لِسَانَهُ فَكَانَ
يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بِعْ،
وَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا مِنْ بَيْعِكَ . قَالَ
ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْته يَقُولُ إذَا بَايَعَ: لاَ خِلاَبَةَ لاَ خِلاَبَةَ.
(8/409)
إن
لم يقدر على أن يقول لا خلا به قالها كما يستطيع
...
1444 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَقُولَ " لاَ خِلاَبَةَ
" قَالَهَا كَمَا يَقْدِرُ لأَفَةٍ بِلِسَانِهِ أَوْ لِعُجْمَةٍ،
فَإِنْ عَجَزَ جُمْلَةً قَالَ بِلُغَتِهِ مَا يُوَافِقُ مَعْنَى "لاَ
خِلاَبَةَ" وَلَهُ الْخِيَارُ الْمَذْكُورُ، أَحَبَّ الْبَائِعُ أَمْ كَرِهَ.
برهان ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُنْقِذًا أَنْ
يَقُولَهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَقُولُ إِلاَّ: لاَ خِذَابَةَ وَقَالَ
تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
(8/410)
إذا
رضي في الثلاث وأسقط خياره لزمه البيع
...
1445 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ رَضِيَ فِي الثَّلاَثِ وَأَسْقَطَ خِيَارَهُ لَزِمَهُ
الْبَيْعُ،
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهُ الْخِيَارُ
ثَلاَثًا، فَلَوْ كَانَ لاَ يَلْزَمُهُ الرِّضَا إنْ رَضِيَ فِي الثَّلاَثِ
لَكَانَ إنَّمَا جَعَلَ لَهُ عليه السلام الْخِيَارَ فِي الرَّدِّ فَقَطْ لاَ فِي
الرِّضَا وَهَذَا بَاطِلٌ ; لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَلَ
لَهُ الْخِيَارَ فَكَانَ عُمُومًا لِكُلِّ مَا يَخْتَارُ مِنْ رِضًا أَوْ رَدٍّ.
وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لاَ يَنْقَطِعُ بِإِسْقَاطِهِ إيَّاهُ وَإِقْرَارِهِ
بِالرِّضَا لَوَجَبَ أَيْضًا ضَرُورَةَ أَنْ لاَ يَنْقَطِعَ خِيَارُهُ وَإِنْ
رَدَّ الْبَيْعَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الثَّلاَثُ وَهَذَا مُحَالٌ: فَظَاهِرُ
اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ مُدَّةَ الثَّلاَثِ إنْ شَاءَ رَدَّ
فَيَبْطُلَ الْبَيْعُ، وَلاَ رِضَا لَهُ بَعْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ
فَيَصِحَّ الْبَيْعُ، وَلاَ رَدَّ لَهُ بَعْدَ الرِّضَا: لاَ يَحْتَمِلُ أَمْرُهُ
عليه السلام غَيْرَ هَذَا أَصْلاً فَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالرِّضَا، وَلاَ
بِالرَّدِّ: لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَبَقِيَ عَلَى خِيَارِهِ
إلَى انْقِضَاءِ الثَّلاَثِ إنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَإِنْ
انْقَضَتْ الثَّلاَثُ وَلَمْ يَرُدَّ فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ ; لأََنَّهُ
بَيْعٌ صَحِيحٌ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّهِ ثَلاَثًا، لاَ أَكْثَرَ فَإِنْ
لَمْ يُبْطِلْهُ فَلاَ إبْطَالَ لَهُ بَعْدَ الثَّلاَثِ، إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ
كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَبَقِيَ الْبَيْعُ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/410)
فإن
غير لفظ لا خلابه بأن قال لا خديعة أو لا غش إلخ لم يكن له الخيار المجعول لمن قال
لا خلابه
...
1446 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ قَالَ لَفْظًا غَيْرَ " لاَ خِلاَبَةَ "
لَكِنْ أَنْ يَقُولَ: لاَ خَدِيعَةَ، أَوْ لاَ غِشَّ، أَوْ لاَ كَيْدَ، أَوْ لاَ
غَبْنَ، أَوْ لاَ مَكْرَ، أَوْ لاَ عَيْبَ، أَوْ لاَ ضَرَرَ، أَوْ عَلَى
السَّلاَمَةِ، أَوْ لاَ دَاءَ، وَلاَ غَائِلَةَ، أَوْ لاَ خُبْثَ، أَوْ نَحْوَ
هَذَا: لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ الْمَجْعُولُ لِمَنْ قَالَ: لاَ خِلاَبَةَ،
لَكِنْ إنْ وَجَدَ شَيْئًا مِمَّا بَايَعَ عَلَى أَنْ لاَ يَعْقِدَ بَيْعُهُ
عَلَيْهِ: بَطَلَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَزِمَهُ الْبَيْعُ.
برهان ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرَ فِي
الدِّيَانَةِ بِأَمْرٍ، وَنَصَّ فِيهِ بِلَفْظٍ مَا: لَمْ يَجُزْ تَعَدِّي ذَلِكَ
اللَّفْظِ إلَى غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَا
دَامَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ، إِلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّ
لَهُ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ عليه السلام قَدْ حَدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَلاَ يَحِلُّ
تَعَدِّيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} .
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
وَلَوْ جَازَ غَيْرُ هَذَا لَجَازَ الأَذَانُ بِأَنْ يَقُولَ: الْعَزِيزُ أَجَلْ،
أَنْتَ لَنَا رَبٌّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ، أَنْتَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ مَبْعُوثٌ مِنْ الرَّحْمَانِ، هَلُمُّوا إلَى نَحْوِ الظُّهْرِ،
هَلُمُّوا نَحْوَ الْبَقَاءِ،
(8/410)
كل
شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو
بعد تمام البيع بالأبدان أو بالتأخير أو في أحد الوقتين ولم يذكراه حين العقد
فالبيع صحيح
...
1447 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ شَرْطٍ وَقَعَ فِي بَيْعٍ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ
أَحَدِهِمَا، بِرِضَا الآخَرِ فَإِنَّهُمَا إنْ عَقَدَاهُ قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ
أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ، أَوْ
بِالتَّخْيِيرِ، أَوْ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ يَعْنِي قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ
بَعْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرَاهُ فِي حِينِ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ
تَامٌّ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لاَ يَلْزَمُ.
فَإِنْ ذَكَرَا ذَلِكَ الشَّرْطَ فِي حَالِ عَقْدِ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ
مَفْسُوخٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ أَيَّ شَرْطٍ كَانَ لاَ تُحَاشِ شَيْئًا إِلاَّ
سَبْعَةَ شُرُوطٍ فَقَطْ، فَإِنَّهَا لاَزِمَةٌ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، إنْ
اُشْتُرِطَتْ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ: اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيمَا تَبَايَعَاهُ
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَاشْتِرَاطُ تَأْخِيرِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ دَنَانِيرَ
أَوْ دَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. وَاشْتِرَاطُ أَدَاءِ الثَّمَنِ إلَى
الْمَيْسَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا أَجَلاً. وَاشْتِرَاطُ صِفَاتِ الْمَبِيعِ
الَّتِي يَتَرَاضَيَانِهَا مَعًا وَيَتَبَايَعَانِ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى أَنَّهُ
بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وَاشْتِرَاطُ أَنْ لاَ خِلاَبَةَ. وَبَيْعُ الْعَبْدِ، أَوْ
الأَمَةِ، فَيَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي مَالَهُمَا أَوْ بَعْضَهُ مُسَمًّى
مُعَيَّنًا، أَوْ جُزْءًا مَنْسُوبًا مُشَاعًا فِي جَمِيعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ
مَالُهُمَا مَجْهُولاً كُلُّهُ، أَوْ مَعْلُومًا كُلُّهُ، أَوْ مَعْلُومًا
بَعْضُهُ، مَجْهُولاً بَعْضُهُ. أَوْ بَيْعُ أُصُولِ نَخْلٍ فِيهَا ثَمَرَةٌ قَدْ
أُبِرَتْ قَبْلَ الطِّيبِ أَوْ بَعْدَهُ، فَيَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ
لِنَفْسِهِ أَوْ جُزْءًا مُعَيَّنًا مِنْهَا أَوْ مُسَمًّى مُشَاعًا فِي
جَمِيعِهَا. فَهَذِهِ، وَلاَ مَزِيدَ، وَسَائِرُهَا بَاطِلٌ كَمَا قَدَّمْنَا:
كَمَنْ بَاعَ مَمْلُوكًا بِشَرْطِ الْعِتْقِ، أَوْ أَمَةً بِشَرْطِ الإِيلاَدِ،
أَوْ دَابَّةً وَاشْتَرَطَ رُكُوبَهَا مُدَّةً مُسَمَّاةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ
أَوْ إلَى مَكَان مُسَمًّى قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ. أَوْ دَارًا وَاشْتَرَطَ
سُكْنَاهَا سَاعَةً فَمَا فَوْقَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ
كُلِّهَا.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيُّ أَنَا أَبُو أُسَامَةَ
هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ أَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ حَدِيثًا قَالَتْ فِيهِ
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ
أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ
مِائَةَ شَرْطٍ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ،
وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ
سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إنَّ
عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَامَ فَقَالَ: مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ
(8/412)
شُرُوطًا
لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ
وَأَوْثَقُ. فَهَذَا الأَثَرُ كَالشَّمْسِ صِحَّةً وَبَيَانًا يَرْفَعُ
الإِشْكَالَ كُلَّهُ. فَلَمَّا كَانَتْ الشُّرُوطُ كُلُّهَا بَاطِلَةً غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا كَانَ كُلُّ عَقْدٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ: عُقِدَ عَلَى شَرْطٍ
بَاطِلٍ بَاطِلاً، وَلاَ بُدَّ; لأََنَّهُ عُقِدَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ
إِلاَّ بِصِحَّةِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْطُ لاَ صِحَّةَ لَهُ، فَلاَ صِحَّةَ لِمَا
عُقِدَ بِأَنْ لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا تَصْحِيحُنَا الشُّرُوطَ السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا،
فَإِنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَى صِحَّتِهَا، وَكُلُّ مَا نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَيْهِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ تَعَالَى
وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
وَقَالَ تَعَالَى {مِنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . فأما
اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى
وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الثَّمَنِ
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ "أَنْ لاَ
خِلاَبَةَ" فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا الْمَكَانِ
بِنَحْوِ أَرْبَعِ مَسَائِلَ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الصِّفَاتِ الَّتِي
يَتَبَايَعَانِ عَلَيْهَا مِنْ السَّلاَمَةِ، أَوْ مِنْ أَنْ لاَ خَدِيعَةَ،
وَمِنْ صِنَاعَةِ الْعَبْدِ، أَوْ الأَمَةِ، أَوْ سَائِرِ صِفَاتِ الْمَبِيعِ،
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَنَصَّ
تَعَالَى عَلَى التَّرَاضِي مِنْهُمَا وَالتَّرَاضِي لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى
صِفَاتِ الْمَبِيعِ، وَصِفَاتِ الثَّمَنِ ضَرُورَةً. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ
الثَّمَنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ
أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلَى
يَهُودِيٍّ قَدِمَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ: ابْعَثْ إلَيَّ بِثَوْبَيْنِ إلَى
الْمَيْسَرَةِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ، أَوْ
الأَمَةِ وَاشْتِرَاطُهُ، وَاشْتِرَاطُ ثَمَرِ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ: فَلِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ
لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ
أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ .
قال أبو محمد: وَلَوْ وَجَدْنَا خَبَرًا يَصِحُّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ
بَاقِيًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ لَقُلْنَا بِهِ وَلَمْ نُخَالِفْهُ، وَسَنَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ إذْ قَدْ ذَكَرْنَا
غَيْرَهُمَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُلُّ بَيْعٍ فِيهِ
شَرْطٌ فَلَيْسَ بَيْعًا.
(8/413)
قَالَ
عَلِيٌّ: فَإِنْ احْتَجَّ مُعَارِضٌ لَنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} وَقَوْله تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ}
. وَبِمَا رُوِيَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ . قلنا: وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ أَمَّا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ:
لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلاَ عَلَى
ظَاهِرِهِ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِأَنْ نَجْتَنِبَ نَوَاهِيَ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَعَاصِيَهُ، فَمَنْ عَقَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ
بِهَا، فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ مُحَرَّمٌ، فَكُلُّ
مُحَرَّمٍ فَلاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ. وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} فَلاَ يُعْلَمُ مَا هُوَ عَهْدُ اللَّهِ
إِلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ فِيهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ عَهْدٍ نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ عَهْدَ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ هُوَ عَهْدُ الشَّيْطَان
فَلاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَلَى أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ،
وَالْبَاطِلُ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ. وَأَمَّا الأَثَرُ فِي ذَلِكَ:
فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلاَلٍ أَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ حَدَّثَنِي الْحِزَامِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ . وَمِنْ طَرِيق ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ
عَطَاءٍ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ: الْمُسْلِمُ عِنْد شَرْطِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ جَابِرٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
بْنِ غَنْمٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ "إنَّ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ،
عِنْدَ الشُّرُوطِ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ ".
قال أبو محمد : كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ هُوَ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ هَالِكٌ مَتْرُوكٌ بِاتِّفَاقٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ
مَجْهُولٌ وَالآخَرُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ هَالِكٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ هُوَ الْوَاقِدِيُّ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ
مُحَمَّدٍ مَجْهُولٌ لاَ يُعْرَفُ وَمُرْسَلٌ أَيْضًا، وَالثَّالِثُ مُرْسَلٌ
أَيْضًا، وَاَلَّذِي مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ
هَالِكٌ وَخَالِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مَجْهُولٌ وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
وَالآخَرُ فِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلاَ أَعْرِفُهُ. وَخَبَرُ
عَلِيٍّ مُرْسَلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا لَكَانَ حُجَّةً لَنَا
وَغَيْرَ مُخَالِفٍ لِقَوْلِنَا، لأََنَّ شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ الشُّرُوطُ
الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ، لاَ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا، وَأَمَّا
الَّتِي نُهُوا عَنْهَا فَلَيْسَتْ
(8/414)
شُرُوطَ
الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ
كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ
مِائَةَ شَرْطٍ، أَوْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِمَنْ
اشْتَرَطَهُ: فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَبَاطِلٌ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْلِمِينَ. فَصَحَّ قَوْلُنَا
بِيَقِينٍ. ثُمَّ إنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ،
أَشَدُّ النَّاسِ اضْطِرَابًا وَتَنَاقُضًا فِي ذَلِكَ ; لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ
شُرُوطًا وَيَمْنَعُونَ شُرُوطًا كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا بَاطِلٌ لَيْسَتْ
فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُجِيزُونَ شُرُوطًا وَيَمْنَعُونَ شُرُوطًا
كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا حَقٌّ ; لأََنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ يَمْنَعُونَ اشْتِرَاطَ الْمُبْتَاعِ مَالَ
الْعَبْدِ، وَثَمَرَةَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ، وَلاَ يُجِيزُونَ لَهُ ذَلِكَ
أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِالشِّرَاءِ عَلَى حُكْمِ الْبُيُوعِ. وَالْمَالِكِيُّونَ،
وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ: لاَ يُجِيزُونَ الْبَيْعَ إلَى
الْمَيْسَرَةِ، وَلاَ شَرْطَ قَوْلِ: لاَ خِلاَبَةَ، عِنْدَ الْبَيْعِ،
وَكِلاَهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لأََمْرِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بِهِمَا، وَيَنْسَوْنَ هَهُنَا " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ ". وَكُلُّهُمْ يُجِيزُ بَيْعَ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ
صَلاَحُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، بَلْ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْبَيْعِ جُمْلَةً، وَمِثْلُ
هَذَا كَثِيرٌ.
قال أبو محمد : وَلاَ يَخْلُو كُلُّ شَرْطٍ اُشْتُرِطَ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ
مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ لاَ رَابِعَ لَهَا إمَّا إبَاحَةُ مَالٍ لَمْ
يَجِبْ فِي الْعَقْدِ، وَأَمَّا إيجَابُ عَمَلٍ، وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ عَمَلٍ،
وَالْعَمَلُ يَكُونُ بِالْبَشَرَةِ، أَوْ بِالْمَالِ فَقَطْ وَكُلُّ ذَلِكَ
حَرَامٌ بِالنَّصِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ
الْعَمَلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ} . فَصَحَّ بُطْلاَنُ كُلِّ شَرْطٍ جُمْلَةً إِلاَّ شَرْطًا جَاءَ النَّصُّ
مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ بِإِبَاحَتِهِ وَهَهُنَا أَخْبَارٌ نَذْكُرُهَا،
وَنُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِئَلَّا يَعْتَرِضَ بِهَا جَاهِلٌ
أَوْ مُشَغِّبٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْعُذْرِيُّ الْقَاضِي
بِسَرَقُسْطَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ الْمُطَّوِّعِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُلْدِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ
زَاذَانَ الضَّرِيرُ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الذُّهْلِيُّ أَنَا
عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ قَدِمْت مَكَّةَ فَوَجَدْت
بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَابْنَ شُبْرُمَةَ، فَسَأَلْتُ
أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ بَاعَ بَيْعًا وَاشْتَرَطَ شَرْطًا فَقَالَ: الْبَيْعُ
بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ثُمَّ سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، عَنْ ذَلِكَ
فَقَالَ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ثُمَّ سَأَلْتُ ابْنَ شُبْرُمَةَ،
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ فَرَجَعْت إلَى أَبِي
حَنِيفَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالاَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي مَا قَالاَ
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَهَى، عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ الْبَيْعُ بَاطِلٌ
وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فَأَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالاَ
فَقَالَ: لاَ أَدْرِي مَا قَالاَ حَدَّثَنَا
(8/415)
هِشَامُ
بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اشْتَرِي بَرِيرَةَ وَاشْتَرِطِي لَهُمْ
الْوَلاَءَ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فَأَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ
فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالاَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي مَا قَالاَ أَنَا مِسْعَرُ بْنُ
كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
بَاعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَلاً وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى
الْمَدِينَةِ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ. وَهَهُنَا خَبَرٌ رَابِعٌ:
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَا
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِيهِ حَتَّى
ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم : لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ،
وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ . وَبِهِ يَأْخُذُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
فَيُبْطِلُ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطَانِ، وَيُجِيزُهُ إذَا كَانَ فِيهِ
شَرْطٌ وَاحِدٌ وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ إلَى الأَخْذِ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ
كُلِّهَا فَقَالَ: إنْ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ بَعْضَ مِلْكِهِ كَسُكْنَى الدَّارِ
مُدَّةً مُسَمَّاةً، أَوْ دَهْرَهُ كُلَّهُ أَوْ خِدْمَةَ الْعَبْدِ كَذَلِكَ،
أَوْ رُكُوبَ الدَّابَّةِ كَذَلِكَ، أَوْ لِبَاسَ الثَّوْبِ كَذَلِكَ: جَازَ
الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ ; لأََنَّ الأَصْلَ لَهُ، وَالْمَنَافِعَ لَهُ، فَبَاعَ مَا
شَاءَ وَأَمْسَكَ مَا شَاءَ، وَكُلُّ بَيْعٍ اُشْتُرِطَ فِيهِ مَا يَحْدُثُ فِي
مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، كَالْوَلاَءِ
وَنَحْوِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ اُشْتُرِطَ فِيهِ عَمَلٌ أَوْ مَالٌ عَلَى الْبَائِعِ
أَوْ عَمَلُ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ وَالشَّرْطُ بَاطِلاَنِ مَعًا.
قال أبو محمد: هَذَا خَطَأٌ مِنْ أَبِي ثَوْرٍ، لأََنَّ مَنَافِعَ مَا بَاعَ
الْبَائِعُ مِنْ دَارٍ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ دَابَّةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هِيَ لَهُ مَا دَامَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، فَإِذَا
خَرَجَ، عَنْ مِلْكِهِ فَمِنْ الْبَاطِلِ وَالْمُحَالِ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَمْ
يَخْلُقْهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ، مِنْ مَنَافِعِ مَا بَاعَ، فَإِذَا
أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي
مِلْكِ غَيْرِهِ، فَهِيَ مِلْكٌ لِمَنْ حَدَثَتْ عِنْدَهُ فِي مِلْكِهِ فَبَطَلَ
تَوْجِيهُ أَبِي ثَوْرٍ، وَكَذَلِكَ بَاقِي تَقْسِيمِهِ ; لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ
برهان.
وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ: فَخَطَأٌ أَيْضًا: لأََنَّ تَحْرِيمَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم الشَّرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ لَيْسَ مُبِيحًا لِشَرْطٍ وَاحِدٍ،
وَلاَ مُحَرِّمًا لَهُ، لَكِنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، فَوَجَبَ
طَلَبُ حُكْمِهِ فِي غَيْرِهِ، فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم : كُلِّ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَبَطَلَ الشَّرْطُ
الْوَاحِدُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُعْقَدْ إِلاَّ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَبَقِيَ حَدِيثُ بَرِيرَةَ، وَجَابِرٍ فِي الْجَمَلِ، فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. إنَّنَا رُوِّينَا مَا حَدَّثَنَاهُ
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبَاتٍ، حَدَّثَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ مُفَرِّجٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ، أَخْبَرَنَا
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بْنِ بَادِيٍّ الْعَلَّافُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
بُكَيْرٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ
أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ
(8/416)
عِدَّةً
وَاحِدَةً، وَيَكُونَ لِي وَلاَؤُكِ فَعَلْتُ فَعَرَضَتْهَا عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم ذَلِكَ، فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ
الْوَلاَءَ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلْتُ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ
اللَّهِ أَوْثَقُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ ".وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا أَبِي قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فَقَالَتْ: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ وَهِيَ
مُكَاتَبَةٌ وَقَالَتْ: اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لاَ
تَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لاَ حَاجَةَ لِي
بِذَلِكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِيهَا
وَأَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ
فَأَعْتَقَتْهَا، وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا الْوَلاَءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ .
قال أبو محمد: فَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ دُونَ
تَزَيُّدٍ، وَلاَ ظَنٍّ كَاذِبٍ، مُضَافٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلاَ تَحْرِيفِ اللَّفْظِ، وَهُوَ إنْ اشْتَرَطَ الْوَلاَءَ عَلَى الْمُشْتَرِي
فِي الْمَبِيعِ لِلْعِتْقِ كَانَ لاَ يَضُرُّ الْبَيْعَ شَيْئًا، وَكَانَ
الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ جَائِزًا حَسَنًا مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ
الْوَلاَءُ مَعَ ذَلِكَ لِلْمُعْتِقِ، وَكَانَ اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ الْوَلاَءَ
لِنَفْسِهِ مُبَاحًا غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ، إذْ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ
كَمَا ذَكَرْنَا فَحِينَئِذٍ حَرَّمَ أَنْ يُشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطُ أَوْ
غَيْرُهُ جُمْلَةً، إِلاَّ شَرْطًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ قَبْلَ
ذَلِكَ أَصْلاً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ
إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ}
برهان ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ، وَهُوَ عليه السلام لاَ
يُبِيحُ الْبَاطِلَ، وَلاَ يَغُرُّ أَحَدًا، وَلاَ يَخْدَعُهُ فإن قيل: فَهَلاَّ
أَجَزْتُمْ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قلنا: لَيْسَ فِيهِ
اشْتِرَاطُهُمْ عِتْقَهَا أَصْلاً وَلَوْ كَانَ لَقُلْنَا بِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُ
أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا وَلاَءَهَا إنْ أُعْتِقَتْ يَوْمًا مَا، أَوْ إنْ
أَعْتَقَتْهَا، إذْ إنَّمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا وَلاَءَهَا
لأََنْفُسِهِمْ فَقَطْ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُزَادَ فِي الأَخْبَارِ شَيْءٌ، لاَ
لَفْظًا، وَلاَ مَعْنًى، فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَاذِبًا، إِلاَّ أَنَّنَا
نَقْطَعُ وَنَبُتُّ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ لَوْ كَانَ جَائِزًا
لَنَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ، فَإِذْ لَمْ
يَفْعَلْ فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ
(8/417)
بِشَرْطِ
الصَّدَقَةِ، أَوْ بِشَرْطِ الْهِبَةِ ; أَوْ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ وَكُلُّ
ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: فَإِنَّنَا رُوِّينَاه مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَنَا زَكَرِيَّا سَمِعْتُ عَامِرًا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ:
حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ
قَدْ أَعْيَا فَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ، فَدَعَا لَهُ،
فَسَارَ سَيْرًا لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ
قُلْتُ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ
حُمْلاَنَهُ إلَى أَهْلِي فَلَمَّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ وَنَقَدَنِي
ثَمَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأَرْسَلَ عَلَى إثْرِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَخُذَ
جَمَلَك، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ أَنَا أَبِي أَنَا زَكَرِيَّا، هُوَ ابْنُ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لَهُ: بِعْنِيهِ فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلاَنَهُ
إلَى أَهْلِي فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ،
ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي إثْرِي، فَقَالَ: أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ لأَخُذَ
جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ
بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ الْجَمَلُ بِعْنِيهِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ
هُوَ لَكَ قَالَ: لاَ، بَلْ بِعْنِيهِ قُلْتُ : لاَ، بَلْ هُوَ لَكَ قَالَ لاَ،
بَلْ بِعْنِيهِ، قَدْ أَخَذْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ، ارْكَبْهُ، فَإِذَا قَدِمْتَ
الْمَدِينَةَ فَأْتِنَا بِهِ فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ بِهِ،
فَقَالَ لِبِلاَلٍ يَا بِلاَلُ زِنْ لَهُ أُوقِيَّةً وَزِدْهُ قِيرَاطًا . هَكَذَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ جَابِرٍ.
قال أبو محمد: رُوِيَ هَذَا أَنَّ رُكُوبَ جَابِرٍ الْجَمَلَ كَانَ تَطَوُّعًا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى الشَّعْبِيِّ،
وَأَبِي الزُّبَيْرِ فَرُوِيَ عَنْهُمَا، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ كَانَ شَرْطًا
مِنْ جَابِرٍ وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم. فَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ شَرْطًا، ثم نقول
لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ . وَصَحَّ عَنْهُ
عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ: أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ لأَخُذَ جَمَلَكَ مَا كُنْتُ
لأَخُذَ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ، فَهُوَ مَالُكَ كَمَا أَوْرَدْنَا
آنِفًا. صَحَّ يَقِينًا أَنَّهُمَا أَخْذَانِ: أَحَدُهُمَا فَعَلَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالآخَرُ لَمْ يَفْعَلْهُ، بَلْ انْتَفَى عَنْهُ،
وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ ذَلِكَ أَخْذًا وَاحِدًا فَقَدْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي كَلاَمِهِ، وَهَذَا كُفْرٌ مَحْضٌ، فَإِذْ لاَ بُدَّ مِنْ
أَنَّهُمَا أَخْذَانِ ; لأََنَّ الأَخْذَ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عليه السلام، عَنْ
نَفْسِهِ هُوَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ الأَخْذِ الَّذِي انْتَفَى عَنْهُ أَلْبَتَّةَ،
فَلاَ سَبِيلَ إلَى غَيْرِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَهُوَ
إنَّهُ عليه السلام أَخَذَهُ وَابْتَاعَهُ، ثُمَّ تَخَيَّرَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ
تَرَكَ أَخْذِهِ.
(8/418)
وَصَحَّ
أَنَّ فِي حَالِ الْمُمَاكَسَةِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ عليه السلام;
لأََنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُمَاكِسْهُ لِيَأْخُذَ جَمَلَهُ.
فَصَحَّ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ فِيهِ قَطُّ، فَإِنَّمَا اشْتَرَطَ جَابِرٌ
رُكُوبَ جَمَلِ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى لَفْظِ الأَخْبَارِ، إذَا
جُمِعَتْ أَلْفَاظُهَا. فَإِذْ قَدْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ وَلَمْ
يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَصْلاً: أَنَّ الْبَيْعَ
تَمَّ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْخَبَرِ:
حُجَّةٌ فِي جَوَازِ بَيْعِ الدَّابَّةِ وَاسْتِثْنَاءِ رُكُوبِهَا أَصْلاً
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فأما الْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ: فَلاَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ هَذَا
الشَّرْطِ أَصْلاً، فَإِنَّمَا الْكَلاَمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَالِكِيِّينَ
فِيهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ تَحْدِيدُ يَوْمٍ، وَلاَ مَسَافَةٍ
قَلِيلَةٍ مِنْ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ، فَمِنْ أَيْنَ
خَرَجَ لَهُمْ تَحْدِيدُ مِقْدَارٍ دُونَ مِقْدَارٍ وَيَلْزَمُهُمْ إذْ لَمْ
يُجِيزُوا بَيْعَ الدَّابَّةِ عَلَى شَرْطِ رُكُوبِهَا شَهْرًا، وَلاَ عَشَرَةَ
أَيَّامٍ وَأَبْطَلُوا هَذَا الشَّرْطَ، وَأَجَازُوا بَيْعَهَا، وَاشْتِرَاطَ
رُكُوبِهَا مَسَافَةً يَسِيرَةً: أَنْ يَحُدُّوا الْمِقْدَارَ الَّذِي يُحَرَّمُ
بِهِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي حَلَّلُوهُ، هَذَا فَرْضٌ
عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَقَدْ تَرَكُوا مَنْ اتَّبَعَهُمْ فِي سُخْنَةِ عَيْنِهِ،
وَفِي مَا لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَأْتِي حَرَامًا أَوْ يَمْنَعُ حَلاَلاً،
وَهَذَا ضَلاَلٌ مُبِينٌ، فَإِنْ حَدُّوا فِي ذَلِكَ مِقْدَارًا مَا، سُئِلُوا،
عَنِ الْبُرْهَانِ فِي ذَلِكَ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلاَحَ فَسَادُ هَذَا
الْقَوْلِ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ
يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مَا لاَ يُفَصِّلُهُ لَنَا مِنْ أَوَّلِهِ
لأَخِرِهِ لِنَجْتَنِبَهُ وَنَأْتِيَ مَا سِوَاهُ، إذَا كَانَ تَعَالَى
يُكَلِّفُنَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا، مِنْ أَنْ نَعْلَمَ الْغَيْبَ وَقَدْ
أَمَّنَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ فِي بَعْضِ
أَلْفَاظِ الْخَبَرِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِينَ دَنَوَا مِنْ الْمَدِينَةِ قلنا:
الدُّنُوُّ يَخْتَلِفُ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالإِضَافَةِ، فَمَنْ أَتَى مِنْ
تَبُوكَ فَكَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سِتِّ مَرَاحِلَ أَوْ خَمْسٍ فَقَدْ
دَنَا مِنْهَا، وَيَكُونُ الدُّنُوُّ أَيْضًا عَلَى رُبْعِ مِيلٍ وَأَقَلَّ أَوْ
أَكْثَرَ فَالسُّؤَالُ بَاقٍ عَلَيْكُمْ بِحَسَبِهِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذِهِ
اللَّفْظَةَ إنَّمَا هِيَ فِي رِوَايَةِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَهُوَ
إنَّمَا رَوَى: أَنَّ رُكُوبَ جَابِرٍ كَانَ تَطَوُّعًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَشَرْطًا. وَفِي رِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
جَابِرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَسِيرِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم إلَى غَزَاةٍ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّرْطِ إِلاَّ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ،
فَإِذْ لَمْ يَقِيسُوا عَلَى تِلْكَ الْمَسَافَةِ سَائِرَ الْمَسَافَاتِ فَلاَ
تَقِيسُوا عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ سَائِرَ الطُّرُقِ، وَلاَ تَقِيسُوا عَلَى
اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي رُكُوبِ جَمَلٍ سَائِرَ الدَّوَابِّ، وَإِلَّا فَأَنْتُمْ
مُتَنَاقِضُونَ مُتَحَكِّمُونَ بِالْبَاطِلِ. وَإِذْ قِسْتُمْ عَلَى تِلْكَ
الطَّرِيقِ سَائِرَ الطُّرُقِ، وَعَلَى الْجَمَلِ سَائِرَ الدَّوَابِّ فَقِيسُوا
عَلَى تِلْكَ الْمَسَافَةِ سَائِرَ الْمَسَافَاتِ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي صَلاَتِهِ
عليه السلام رَاكِبًا مُتَوَجِّهًا إلَى خَيْبَرَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ:
فَقِسْتُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَسَافَةِ سَائِرَ الْمَسَافَاتِ: فَلاَحَ أَنَّهُمْ
لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/419)
وَقَدْ
جَاءَتْ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، آثَارٌ فِي الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ
خَالَفُوهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ. قَالَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَدِدْنَا لَوْ أَنَّ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ عَوْفٍ، قَدْ تَبَايَعَا حَتَّى
نَنْظُرَ أَيَّهُمَا أَعْظَمُ جِدًّا فِي التِّجَارَةِ، فَاشْتَرَى عَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ عُثْمَانَ فَرَسًا بِأَرْضٍ أُخْرَى بِأَرْبَعِينَ
أَلْفًا أَوْ نَحْوِهَا إنْ أَدْرَكَتْهَا الصَّفْقَةُ وَهِيَ سَالِمَةٌ، ثُمَّ
أَجَازَ قَلِيلاً، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَزِيدُك سِتَّةَ آلاَفٍ إنْ وَجَدَهَا
رَسُولِي سَالِمَةً قَالَ نَعَمْ، فَوَجَدَهَا رَسُولُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ قَدْ
هَلَكَتْ، وَخَرَجَ مِنْهَا بِالشَّرْطِ الآخَرِ. قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: فَإِنْ
لَمْ يَشْتَرِطْ قَالَ: فَهِيَ مِنْ الْبَائِعِ. فَهَذَا عَمَلُ عُثْمَانَ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، ، وَعِلْمِهِمْ
لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ سَعِيدٌ،
وَصَوَّبَهُ الزُّهْرِيُّ. فَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ: كُلَّ هَذَا، وَقَالُوا: لَعَلَّ الرَّسُولَ يُخْطِئُ أَوْ
يُبْطِئُ أَوْ يَعْرِضُهُ عَارِضٌ، فَلاَ يَدْرِي مَتَى يَصِلُ، وَهُمْ
يُشَنِّعُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ الأَسَدِيُّ، عَنْ عَوْنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ تَمِيمًا
الدَّارِيَّ بَاعَ دَارِهِ وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا حَيَاتَهُ وَقَالَ: إنَّمَا
مَثَلِي مَثَلُ أُمِّ مُوسَى رُدَّ عَلَيْهَا وَلَدُهَا، وَأُعْطِيَتْ أَجْرَ
رَضَاعِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ: بَاعَ صُهَيْبٌ
دَاره مِنْ عُثْمَانَ وَاشْتَرَطَ سُكْنَاهَا وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو ثَوْرٍ،
فَخَالَفُوهُ، وَلاَ مُخَالِفَ لِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يُجِيزُ
الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ ابْتِيَاعَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ
الْحَارِثِ دَارًا بِمَكَّةَ لِلسِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ عَلَى
إنْ رَضِيَ عُمَرُ فَالْبَيْعُ تَامٌّ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلِصَفْوَانَ
أَرْبَعُمِائَةٍ: فَخَالَفُوهُمْ كُلُّهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ عَلَى أَنْ يُوَفُّوهُ
إيَّاهَا بِالرَّبَذَةِ وَلَيْسَ فِيهِ وَقْتٌ ذِكْرِ الإِيفَاءِ: فَخَالَفُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: أَصَابَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مَغْنَمًا
فَقَسَّمَ بَعْضَهُ وَكَتَبَ إلَى عُمَرَ يُشَاوِرُهُ فَتَبَايَعَ النَّاسُ إلَى
قُدُومِ الرَّاكِبِ وَهَذَا عَمَلُ عَمَّارٍ وَالنَّاسُ بِحَضْرَتِهِ:
فَخَالَفُوهُ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ ; وَحَكَمَ
عَلِيٌّ بِشَرْطِ الْخَلاَصِ، وَلِلْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ،
وَالشَّافِعِيِّينَ: تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ فِيمَا أَجَازُوهُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي
الْبَيْعِ وَمَا مَنَعُوا مِنْهُ فِيهَا، قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ وَنَذْكُرُ فِي
مَكَان آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لِذِكْرِهِ
; لأََنَّ الأَمْرَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/420)
1448
- مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَنْ بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ
يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ
عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَالثَّمَنُ
مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ إنْ قَبَضَهُ:
وَلاَ يُصَحِّحُهُ طُولُ الأَزْمَانِ، وَلاَ تَغَيُّرُ الأَسْوَاقِ، وَلاَ فَسَادُ
السِّلْعَةِ، وَلاَ ذَهَابُهَا، وَلاَ مَوْتُ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَصْلاً. وقال
أبو حنيفة فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَمَا قلنا، وَقَالَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ: مَنْ بَاعَ
بَيْعًا فَاسِدًا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا فَاسِدًا،
وَأَجَازَ عِتْقَهُ فِيهِ. وقال مالك فِي بَعْضِ ذَلِكَ: كَمَا قلنا، وَقَالَ فِي
بَعْضِ ذَلِكَ: إنَّ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بُيُوعًا تُفْسَخُ إِلاَّ أَنْ
يَطُولَ الأَمْرُ، أَوْ تَتَغَيَّرَ الأَسْوَاقُ: فَتَصِحُّ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ قَوْلاَنِ لاَ خَفَاءَ بِفَسَادِهِمَا عَلَى مَنْ نَصَحَ
نَفْسَهُ، أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا فَاسِدًا
فَكَلاَمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَمَا عَلِمَ أَحَدٌ قَطُّ فِي دِينِ اللَّهِ
تَعَالَى مِلْكًا فَاسِدًا، إنَّمَا هُوَ مِلْكٌ فَهُوَ صَحِيحٌ، أَوْ لاَ مِلْكٌ
فَلَيْسَ صَحِيحًا، وَمَا عَدَا هَذَا فَلاَ يُعْقَلُ. وَإِذْ أَقَرُّوا أَنَّ
الْمِلْكَ فَاسِدٌ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}
فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِإِنْفَاذِ مَا لاَ يُحِبُّهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}
. فَمَنْ أَجَازَ شَيْئًا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصْلِحُهُ
فَقَدْ عَارَضَ اللَّهَ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَقَدْ
احْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ.
قال أبو محمد: هَذَا احْتِجَاجُ فَاسِدِ الدِّينِ، وَنَبْرَأُ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى مِمَّنْ نَسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
أَنْفَذَ الْبَاطِلَ، وَأَجَازَ الْفَاسِدَ وَاَللَّهِ مَا تَقِرُّ عَلَى هَذَا
نَفْسُ مُسْلِمٍ. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ.
قال أبو محمد: لَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يُسَلِّطَ غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ
بِمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فَلْيُجِيزُوا عَلَى هَذَا أَنْ
يُسَلِّطَهُ عَلَى وَطْءِ أُمِّ وَلَدِهِ وَأَمَتِهِ، وَهَذِهِ مَلاَعِبُ
وَضَلاَلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: فَأَوَّلُ مَا يُقَالُ
لِمَنْ قَلَّدَهُ: حُدُّوا لَنَا الْمُدَّةَ الَّتِي إذَا مَضَتْ صَحَّ الْبَيْعُ
الْفَاسِدُ عِنْدَكُمْ بِمُضِيِّهَا، وَإِلَّا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ وَأَضْلَلْتُمْ.
وَحُدُّوا لَنَا تَغَيُّرَ الأَسْوَاقِ الَّذِي أَبَحْتُمْ بِهِ الْمُحَرَّمَاتِ،
فَإِنَّ زِيَادَةَ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَحَبَّةٍ، وَنُقْصَانَ ذَلِكَ تَغَيُّرُ سُوقٍ
بِلاَ شَكٍّ. فَإِنْ أَجَازُوا صِحَّةَ الْفَاسِدِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فَقَدْ
صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ فَاسِدٍ ; لأََنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَقَلُّبِ الْقِيَمِ
بِمِثْلِ هَذَا أَوْ شَبَهِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ الدَّلِيلَ
عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ
مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ يُعْرَفُ قَبْلَهُ،
وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، بَلْ هُوَ إبَاحَةُ أَكْلِ الْمَالِ
بِالْبَاطِلِ. فَإِنْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ
تَرَكَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ
(8/421)
كَانَ
لِمَا سِوَاهُ أَتْرَكُ، وَاسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ أَوْ كَلاَمًا هَذَا
مَعْنَاهُ قلنا: أَنْتُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْخَبَرِ ; لأََنَّكُمْ إنْ
قُلْتُمْ: إنَّكُمْ إنَّمَا حَكَمْتُمْ بِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فِيمَا اشْتَبَهَ
عَلَيْكُمْ تَحْرِيمُهُ مِنْ تَحْلِيلِهِ قَالَ إمَّا كَذَبْتُمْ، وَأَمَّا
صَدَقْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ كَذَبْتُمْ: فَالْكَذِبُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ
وَجُرْحَةٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ صَدَقْتُمْ فَمَا أَخَذْتُمْ بِمَا فِي الْحَدِيثِ
الَّذِي احْتَجَجْتُمْ بِهِ: مِنْ اجْتِنَابِ الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ فِيمَا
اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ، بَلْ جَسَرْتُمْ أَشْنَعَ الْجَسْرِ، فَنَقَلْتُمْ
الأَمْلاَكَ الْمُحَرَّمَةَ، وَأَبَحْتُمْ الأَمْوَالَ الْمَحْظُورَةَ فِيمَا
أَقْرَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ تَحْرِيمُهُ مِنْ
تَحْلِيلِهِ، فَخَالَفْتُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرَ جُمْلَةً. وَإِنْ قُلْتُمْ:
حَكَمْنَا بِذَلِكَ حَيْثُ ظَنَنَّا أَنَّهُ حَرَامٌ وَلَمْ نَقْطَعْ بِذَلِكَ
قلنا: قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا
عَلَيْكُمْ، قَالَ تَعَالَى {إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ
لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}. وَذَمَّ قَوْمًا حَكَمُوا فِيمَا ظَنُّوهُ
وَلَمْ يَسْتَيْقِنُوهُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "
إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَالْفَرْضُ
عَلَى مَنْ ظَنَّ وَلَمْ يَسْتَيْقِنْ أَنْ يُمْسِكَ: فَلاَ يَحْكُمُ، وَلاَ
يَتَسَرَّعُ فِيمَا لاَ يَقِينَ عِنْدَهُ فِيهِ، فَإِذَا تَيَقَّنَ حَكَمَ
حِينَئِذٍ.
وَقَالَ أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إلَيْهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى
الأَشْعَرِيَّ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لِقَاضٍ أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُ الْحَقُّ كَمَا يَتَبَيَّنُ اللَّيْلُ مِنْ النَّهَارِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو مُوسَى.
قَالَ عَلِيٌّ: الْمُفْتِي قَاضٍ; لأََنَّهُ قَدْ قَضَى بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَ،
وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ، أَوْ إبَاحَةِ مَا أَبَاحَ، فَمَنْ أَيْقَنَ تَحْرِيمَ
شَيْءٍ بِنَصٍّ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
ثَابِتٍ فَلْيُحَرِّمْهُ وَلْيُبْطِلْهُ أَبَدًا. وَمَنْ أَيْقَنَ بِإِبَاحَتِهِ
بِنَصٍّ كَمَا ذَكَرْنَا فَلْيَبُحْهُ وَلْيَنْفُذْهُ أَبَدًا. وَمَنْ أَيْقَنَ
بِوُجُوبِ شَيْءٍ بِنَصٍّ كَمَا ذَكَرْنَا فَلْيُوجِبْهُ وَلْيُنْفِذْهُ أَبَدًا،
وَلَيْسَ فِي الدِّينِ قِسْمٌ رَابِعٌ أَصْلاً، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ
حُكْمُهُ مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ وَلْيَقُلْ كَمَا
قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ: لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا وَمَا عَدَا
هَذَا فَضَلاَلُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} .
(8/422)
1449
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَهُمَا مَالٌ فَمَالُهُمَا
لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَيَكُونَ لَهُ، وَلاَ حِصَّةَ
لَهُ مِنْ الثَّمَنِ كَثُرَ أَوْ قَلَّ، وَلاَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ أَصْلاً.
فَإِنْ كَانَ فِي مَالِ الْعَبْدِ أَوْ الأَمَةِ: ذَهَبٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ،
وَقَدْ ابْتَاعَ الأَمَةَ أَوْ الْعَبْدَ بِذَهَبٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الذَّهَبِ
أَوْ مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ: نَقْدًا أَوْ حَالًّا فِي الذِّمَّةِ، أَوْ إلَى
أَجَلٍ: جَازَ كُلُّ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ، وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فِي الْعَبْدِ أَوْ الأَمَة: رَدَّهُ أَوْ رَدَّهَا
وَالْمَالُ لَهُ لاَ يَرُدُّهُ مَعَهُ. فَإِنْ
(8/422)
وَجَدَ بِالْمَالِ عَيْبًا: لاَ يَرُدُّ الْعَبْدَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَلاَ الأَمَةَ. فَإِنْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدِهِ أَوْ نِصْفَ أَمَتِهِ أَوْ جُزْءًا مُسَمًّى مُشَاعًا فِيهِمَا مِنْهُمَا: جَازَ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ هُنَا اشْتِرَاطُ الْمَالِ أَصْلاً. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، وَلاَ فَرْقَ. فَلَوْ بَاعَ اثْنَانِ عَبْدًا بَيْنَهُمَا: جَازَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطُ الْمَالِ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الأَشْتِرَاطِ كَمَا قَدَّمْنَا وَالأَشْتِرَاطُ غَيْرُ الْبَيْعِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مَعْلُومًا مِنْ مَجْهُولٍ، وَلاَ مِقْدَارًا مِنْ مِقْدَارٍ، وَلاَ مَالاً مِنْ مَالٍ: فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ مَلَكَ الْمَالَ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ فِي صَفْقَةِ الرَّدِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِعَيْبٍ فِيهِ، وَلاَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ. وَمَنْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشَاعٍ أَوْ نِصْفَ عَبْدِهِ فَلَمْ يَشْتَرِ الْمُشْتَرِي عَبْدًا وَإِنَّمَا جَعَلَ عليه السلام اشْتِرَاطَ الْمَالِ لِمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَلَهُ اشْتِرَاطُ الْمَالِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وقال مالك كَقَوْلِنَا فِي اشْتِرَاطِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْمَجْهُولِ، وَالْكَثِيرِ، وَالْقَلِيلِ. وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِحُكْمِ الْبُيُوعِ وَهَذَا خِلاَفٌ لِلْحَدِيثِ مُجَرَّدٌ، فَرَدُّوا مَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الشُّرُوطِ، وَأَجَازُوا مَا أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ أَنَا أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: بَاعَ رَجُلٌ غُلاَمَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَالَهُ، فَوُجِدَ لِلْغُلاَمِ مَالٌ فَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ لِلْبَائِعِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا يُونُسُ، وَمُغِيرَةُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ يُونُسُ: عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: عَنِ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ: الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/423)
1450.
- مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمُبْتَاعِ أَنْ يَشْتَرِطَ شَيْئًا مُسَمًّى بِعَيْنِهِ مِنْ
مَالِ الْعَبْدِ أَوْ الأَمَةِ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ ثُلُثًا أَوْ رُبْعًا،
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ: مَالِكٌ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَقَالاَ: لاَ يَجُوزُ أَنْ
يَشْتَرِطَ إِلاَّ الْجَمِيعَ أَوْ يَدَعَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَقُلْ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ كُلَّهُ الْمُبْتَاعُ
وَبَعْضُ الْمَالِ مَالٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي نَصِّ مُقْتَضَى لَفْظِهِ عليه السلام
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/424)
بيان
أن لفظة العبد في اللغة العربية تقع على جنس العبيد والإماء
...
1451 - مَسْأَلَةٌ: فإن قيل: إنَّمَا جَاءَ النَّصُّ فِي الْعَبْدِ فَمِنْ أَيْنَ
قُلْتُمْ بِذَلِكَ فِي الأَمَةِ
قلنا: لَفْظَةُ "الْعَبْدِ" تَقَعُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى
جِنْسِ الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ لأََنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ عَبْدٌ وَعِبْدَةٌ، وَ
"الْعَبْدُ" اسْمُ جِنْسٍ كَمَا تَقُولُ: الإِنْسَانُ وَالْفَرَسُ
وَالْحِمَارُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ
بِأَنْ يُعْكَسَ عَلَيْهِ هَذَا الأَعْتِرَاضُ، وَيُلْزَمَ هَذَا السُّؤَالَ مَنْ
فَرَّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ، وَالأَمَةِ فِي الْحُكْمِ فَرَأَى الزِّنَى فِي
الأَمَةِ عَيْبًا يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ، وَلَمْ يَرَهُ فِي الْعَبْدِ الذَّكَرِ
عَيْبًا يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ
لِلرَّجُلِ أَنْ يُجْبِرَ أَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ، وَلاَ يُجْبِرُ الْعَبْدَ
الذَّكَرَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ، فَإِنْ كَانَتْ الأَمَةُ فِي
اسْتِثْنَاءِ مَالِهَا فِي الْبَيْعِ إنَّمَا وَجَبَ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ،
فَلْيَقِيسُوهَا عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الإِكْرَاهِ فِي
النِّكَاحِ، وَإِلَّا فَقَدْ تُحَكَّمُوا.
(8/424)
1452-
مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ
أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ،
وَالتَّأْبِيرُ فِي النَّخْلِ: هُوَ أَنْ يُشَقَّقَ الطَّلْعُ، وَيُذَرَّ فِيهِ
دَقِيقُ الْفُحَّالِ وَأَمَّا قَبْلَ الإِبَارِ فَالطَّلْعُ لِلْمُبْتَاعِ، وَلاَ
يَجُوزُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ إِلاَّ الأَشْتِرَاطُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْبَيْعُ
فَلاَ حَتَّى يَصِيرَ زَهْوًا، فَإِذَا أَزْهَى جَازَ فِيهِ الأَشْتِرَاطُ مَعَ
الأُُصُولِ، وَجَازَ فِيهَا الْبَيْعُ مَعَ الأُُصُولِ وَدُونَ الأُُصُولِ،
وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ فِي النَّخْلِ الْمَأْبُورِ وَحْدِهِ كَمَا جَاءَ
النَّصُّ، وَلَوْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةُ النَّخْلِ بِغَيْرِ إبَارٍ لَمْ يَحِلَّ
اشْتِرَاطُهَا أَصْلاً ; لأََنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم. وَأَمَّا سَائِرُ الثِّمَارِ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ الأُُصُولَ وَفِيهَا
ثَمَرَةٌ قَدْ ظَهَرَتْ أَوْ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، فَالثَّمَرَةُ ضَرُورَةً،
وَلاَ بُدَّ لِلْبَائِعِ، لاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا إِلاَّ مَعَ الأُُصُولِ، وَلاَ
دُونَهَا، وَلاَ اشْتِرَاطُهَا أَصْلاً. وَلاَ يَجُوزُ لِمُشْتَرِي الأُُصُولِ
أَنْ يُلْزِمَ الْبَائِعَ قَلْعَ الثَّمَرَةِ أَصْلاً، إِلاَّ حَتَّى يَبْدُوَ
صَلاَحُهَا، فَإِذَا بَدَا صَلاَحُهَا فَلَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَخْذَ مَا يُمْكِنُ
النَّفْعُ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا مِنْ الْوُجُوهِ، وَلاَ يُلْزِمُهُ أَخْذَ مَا لاَ
يُمْكِنُ الأَنْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ
النَّخْلِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلأََنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ إِلاَّ فِيهَا فَقَطْ،
مَعَ وُجُودِ الإِبَارِ وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ وَالتَّعْلِيلُ بِظُهُورِ الثَّمَرَةِ
بَاطِلٌ ; لأََنَّهُ دَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ دَلِيلٍ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ
يَجُوزُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ إِلاَّ الأَشْتِرَاطُ فَقَطْ مَا لَمْ تُزْهِ،
فَلِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الثَّمَرَةِ حَتَّى تُزْهِيَ وَتَحْمَرَّ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ أَنْ
تُزْهِيَ أَصْلاً، وَأَبَاحَ عليه السلام اشْتِرَاطَهَا، فَيَجُوزُ مَا أَجَازَهُ
عليه السلام وَيَحْرُمُ مَا نَهَى عَنْهُ: وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ
إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
وَقَاسَ الشَّافِعِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ: سَائِرَ الثِّمَارِ عَلَى
النَّخْلِ، وَأَجَازُوا هُمْ، وَالْحَنَفِيُّونَ: بَيْعَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ
بُدُوِّ صَلاَحِهَا، وَقَبْلَ أَنْ تُزْهِيَ عَلَى الْقَطْعِ أَوْ مَعَ الأُُصُولِ
وَهَذَا خِلاَفُ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِبَاحَةُ مَا
حَرَّمَ، وَمَا عَجَزَ عليه السلام قَطُّ، عَنْ أَنْ يَقُولَ إِلاَّ عَلَى
الْقَطْعِ، أَوْ مَعَ الأُُصُولِ، وَمَا قَالَهُ
(8/424)
يجوز
الاشتراط في بيع النخل بعد ظهور الطيب في ثمره إن بيعت الأصول
...
1453 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ الطِّيبِ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا الأَشْتِرَاطُ إنْ بِيعَتْ الأُُصُولُ، وَيَجُوزُ فِيهَا
الْبَيْعُ مَعَ الأُُصُولِ وَدُونَهَا
أَمَّا الأَشْتِرَاطُ فَلِوُقُوعِ الصِّفَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ عليه
السلام: قَدْ أُبِّرَتْ فَهَذِهِ ثَمَرَةٌ قَدْ أُبِرَتْ وَأَمَّا جَوَازُ
بَيْعِهَا مَعَ الأُُصُولِ وَدُونَهَا لأَِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بَيْعَهَا إذَا أَزْهَتْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/426)
من
باع أصول نخل وفيها ثمرة قد أبرت فللمشتري أن يشترط جميعها إن شاء أونصفها أو جزء
منها مسمى مشاعا فإن وجد بالنخل عيب ردها ولم يلزمه رد الثمرة
...
1454 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ أُصُولَ نَخْلٍ وَفِيهَا ثَمَرَةٌ قَدْ أُبِرَتْ
فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِطَ جَمِيعَهُمَا إنْ شَاءَ أَوْ نِصْفَهَا أَوْ
ثُلُثَهَا أَوْ جُزْءًا كَذَلِكَ مُسَمًّى مُشَاعًا فِي جَمِيعِهَا، أَوْ شَيْئًا
مِنْهَا مُعَيَّنًا. فَإِنْ وَجَدَ بِالنَّخْلِ عَيْبًا رَدَّهَا وَلَمْ
يَلْزَمْهُ رَدُّ الثَّمَرَةِ ;
لأََنَّ بَعْضَ الثَّمَرَةِ ثَمَرَةٌ، وَقَوْلُهُ عليه السلام: وَفِيهَا ثَمَرَةٌ
قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ
يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ مِنْهَا يُسَمَّى ثَمَرَةً لِلنَّخْلِ
وَالأَشْتِرَاطُ غَيْرُ الْبَيْعِ، فَلاَ يَرُدُّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ أَجْلِ
رَدِّهِ لِمَا اشْتَرَى، إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.
فَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ النَّخْلِ بَعْدَ ظُهُورِ الطِّيبِ، أَوْ ثَمَرَ
أَشْجَارِ غَيْرِ النَّخْلِ، ثُمَّ وَجَدَ ظُهُورَ الطِّيبِ، أَوْ ثَمَرَ
أَشْجَارِ غَيْرِ النَّخْلِ، ثُمَّ وَجَدَ بِالأُُصُولِ عَيْبًا فَرَدَّهَا، أَوْ
وَجَدَ بِالثَّمَرَةِ عَيْبًا فَرَدَّهَا. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ مَعَ
الأُُصُولِ صَفْقَةً وَاحِدَةً رَدَّ الْجَمِيعَ، وَلاَ بُدَّ، أَوْ أَمْسَكَ
الْجَمِيعَ، وَلاَ بُدَّ ; لأََنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ. فَلَوْ كَانَ اشْتَرَى
الثَّمَرَةَ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى لَمْ يَرُدَّهَا إنْ رَدَّ الأُُصُولَ بِعَيْبٍ،
وَلاَ يَرُدُّ الأُُصُولَ إِلاَّ إنْ رَدَّ الثَّمَرَةَ بِعَيْبٍ. فَلَوْ اشْتَرَى
الأُُصُولَ مِنْ النَّخْلِ وَاشْتَرَطَ الثَّمَرَةَ أَوْ بَعْضَهَا فَوَجَدَ
الْبَيْعَ فَاسِدًا فَوَجَبَ رَدُّهُ رَدَّ الثَّمَرَةَ، وَلاَ بُدَّ، وَضَمِنَهَا
إنْ كَانَ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لَمْ يُبَحْ الأَشْتِرَاطَ إِلاَّ لِلْمُبْتَاعِ، وَلاَ يَكُونُ مُبْتَاعًا إِلاَّ
مَنْ قَدْ صَحَّ بَيْعُهُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فَلَيْسَ هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اشْتِرَاطَ الثَّمَرِ، فَإِذْ
لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ مَا اشْتَرَطَهُ بِخِلاَفِ أَمْرِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَعَدٍّ، قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
(8/426)
1455
- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ نَخْلَةً أَوْ نَخْلَتَيْنِ وَفِيهَا ثَمَرٌ قَدْ
أُبِرَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُبْتَاعِ اشْتِرَاطُ ثَمَرَتِهَا أَصْلاً، وَلاَ يَجُوزُ
ذَلِكَ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا.
وَمَنْ بَاعَ حِصَّةً لَهُ مُشَاعَةً فِي نَخْلٍ، فَإِنْ كَانَ يَقَعُ لَهُ فِي
حِصَّتِهِ مِنْهَا لَوْ قُسِّمَتْ: ثَلاَثُ نَخَلاَتٍ فَصَاعِدًا، جَازَ
لِلْمُبْتَاعِ اشْتِرَاطُ الثَّمَرَةِ، وَإِلَّا فَلاَ وَالثَّمَرَةُ فِي كُلِّ
مَا قلنا لِلْبَائِعِ، وَلاَ بُدَّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
: مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ
يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَلَمْ يَحْكُمْ عليه السلام بِذَلِكَ إِلاَّ فِي
نَخْلٍ. وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ "نَخْلٍ" ثَلاَثٌ
فَصَاعِدًا ; لأََنَّ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ الْوَاقِعَ عَلَى اثْنَيْنِ مَعْرُوفٌ
فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَخَاطَبَنَا بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَوَّلُ لَفْظِ الْجَمْعِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى
الثَّلاَثِ فَصَاعِدًا. فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا} . قلنا:
(8/426)
لا
يحل بيعة سلعة على أن يوفيه الثمن في مكان مسمى ولا على أن يوفيه السلعة كذلك
...
1456 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ سِلْعَةٍ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ
الثَّمَنَ فِي مَكَان مُسَمًّى، وَلاَ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ السِّلْعَةَ فِي
مَكَان مُسَمًّى;
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ،
لَكِنْ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ بِإِيفَائِهِ الثَّمَنَ حَيْثُ هُمَا، أَوْ حَيْثُ
وَجَدَهُ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ مِنْ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى، إنْ كَانَ الثَّمَنُ
حَالًّا لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَيْسَ عَلَى الْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ لاَ
يَحُولَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا بَاعَ مِنْهُ فَقَطْ. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/427)
1457
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ جَارِيَةٍ بِشَرْطِ أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْ
عَدْلٍ حَتَّى تَحِيضَ رَائِعَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ رَائِعَةٍ وَالْبَيْعُ
بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ،
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ذَلِكَ فَبَيْعُهُ تَامٌّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَأَوْجَبَهُ مَالِكٌ فِي الرَّائِعَةِ،
وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي غَيْرِ الرَّائِعَةِ: وَهَذَا أَوَّلُ التَّنَاقُضِ،
وَفَسَادُ الْقَوْلِ، لأََنَّ غَيْرَ الرَّائِعَةِ تُوطَأُ كَمَا تُوطَأُ
الرَّائِعَةُ، وَتَحْمِلُ كَمَا تَحْمِلُ الرَّائِعَةُ. ثُمَّ أَعْظَمُ
التَّنَاقُضِ قَوْلُهُمْ: إنَّ الْحَيْضَ لاَ يَكُونُ بَرَاءَةً مِنْ الْحَمْلِ،
وَإِنَّ الْحَامِلَ قَدْ تَحِيضُ. فَقُلْنَا لَهُمْ: يَا هَؤُلاَءِ فَلأََيِّ
مَعْنًى أَوْجَبْتُمْ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ جَارِيَتِهِ، وَأَوْجَبْتُمْ هَذَا
الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ تَوَرُّعٌ،
وَلاَ رَأْيٌ يُعْقَلُ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّهَا إذَا حَاضَتْ أُسْلِمَتْ
إلَيْهِ، وَحَلَّ لَهُ التَّلَذُّذُ مِنْهَا فِيمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ، وَحَلَّ
لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الطُّهْرِ، وَمُمْكِنٌ عِنْدَكُمْ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً
مِنْ الْبَائِعِ حِينَئِذٍ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَا أَبَحْتُمْ لَهُ الآنَ،
وَبَيْنَ مَا مَنَعْتُمُوهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ، وَخَوْفُ الْحَمْلِ:
وَفَسَادُ الْمَبِيعِ مَوْجُودٌ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ فَأَيُّ عَجَبٍ
أَعْجَبُ مِنْ هَذَا. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّهُ إنْ
ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَبَعْدَ إبَاحَتِكُمْ لَهُ وَطْأَهَا،
فَوَلَدَتْهُ لأََقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: فَإِنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ،
وَهِيَ مَرْدُودَةٌ إلَى الْبَائِعِ وَوَلَدُهَا بِهِ لاَحِقٌ، إنْ كَانَ قَدْ
أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَلَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءً فَأَيُّ مَنْفَعَةٍ
لِلْمُوَاضَعَةِ، أَوْ أَيُّ مَعْنًى لَهَا فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا اتَّبَعْنَا
النَّصَّ الْوَارِدَ: لاَ تُوطَأُ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ قلنا: كَلًّا، بَلْ خَالَفْتُمْ
هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ; لأََنَّكُمْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الرَّائِعَةِ وَغَيْرِ
الرَّائِعَةِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَلاَ قَالَهُ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ
(8/427)
لا
يحل بيع عبد أو أمة على أن يعطيها البائع كسوة قلت أو كثرت ولا بيع دابة على أن يعطيها
البائع كافها أو رسنها أو بردعتها والبيع بهذا الشرط مفسوخ
...
1458 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ عَلَى أَنْ
يُعْطِيَهُمَا الْبَائِعُ كِسْوَةً قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَلاَ بَيْعُ دَابَّةٍ
عَلَى أَنْ يُعْطِيَهَا الْبَائِعُ إكَافَهَا، أَوْ رَسَنَهَا، أَوْ
بَرْدَعَتَهَا، وَالْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ
لاَ يَحِلُّ فَمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ قَسْرًا فَهُوَ ظُلْمٌ لَحِقَهُ
وَالْبَيْعُ جَائِزٌ. برهان ذَلِكَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَقَالَ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أَخْذَ الْمَرْءِ مَالَ غَيْرِهِ
مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بِالتِّجَارَةِ: بَاطِلاً، وَحَرَّمَهُ، إذْ نَهَى عَنْهُ،
وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام أَيْضًا. وَالْكِسْوَةُ مَالُ الْبَائِعِ
وَلَمْ يَبِعْهَا بِرِضًا مِنْهُ، فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُهَا مِنْهُ أَصْلاً وَهَذَا
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ.
وقال مالك يُجْبَرُ عَلَى كِسْوَةِ مِثْلِهَا لِلشِّتَاءِ إنْ بِيعَتْ فِي
الشِّتَاءِ، وَعَلَى كِسْوَةِ مِثْلِهَا فِي الصَّيْفِ إنْ بِيعَتْ فِي الصَّيْفِ
كِسْوَةً تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِي مِثْلِهَا فَكَانَتْ هَذِهِ شَرِيعَةٌ لَمْ
يَأْتِ بِهَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ،
وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ نَعْنِي بِهَذَا
التَّقْسِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كُلُّ حُلِيٍّ وَكِسْوَةٍ عَلَى
الأَمَةِ عُرِضَتْ فِيهَا لِلْبَيْعِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَيْعِ وَهُمْ لاَ
يَقُولُونَ بِهَذَا. فَإِنْ قَالُوا: كِسْوَتُهَا مِنْ مَالِهَا قلنا:
تَنَاقَضْتُمْ هَهُنَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ
مَالِهَا فَقَدْ أَجَزْتُمْ اشْتِرَاطَ بَعْضِ مَالِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ
عِنْدَكُمْ، وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ لَكُمْ: كَيْفَ هِيَ مِنْ مَالِهَا
وَأَنْتُمْ تُجْبِرُونَ الْبَائِعَ عَلَى إحْضَارِهَا أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ مِنْ
حَيْثُ شَاءَ ثُمَّ هَبْكُمْ أَنَّ الْكِسْوَةَ مِنْ مَالِ
(8/428)
الأَمَةِ، أَتَرَوْنَ الْبَرْذعَةَ وَالرَّسَنَ مِنْ مَالِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ إذْ قُلْتُمْ: لاَ يُبَاعُ إِلاَّ وَمَعَهُ بَرْذعَةٌ وَرَسَنٌ ثُمَّ مِنْ أَيْنَ لَمْ تَقُولُوا بِهَذَا فِي السَّرْجِ، وَاللِّجَامِ وَهَذِهِ أَعَاجِيبُ وَشُنَعٌ لاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ خَرَجَتْ وَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ نَفَقَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ تَصْحَبُهَا إيَّاهَا كَمَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ كِسْوَةَ عَامٍ أَوْ نِصْفَ عَامٍ وَمَا نَدْرِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، بَلْ النَّفَقَةُ أَوْكَدُ ; لأََنَّهَا لاَ تَعِيشُ دُونَهَا. فَإِنْ قَالُوا: مُشْتَرِيهَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا قلنا: وَمُشْتَرِيهَا يَكْسُوهَا أَيْضًا، كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْسُوَ زَوْجَتَهُ، وَلاَ يُلْزِمُ أَبَاهَا، وَلاَ أَخَاهَا الَّذِي يُزَوِّجُهَا كِسْوَتَهَا مُذْ تَتَزَوَّجُ. فَإِنْ قَالُوا: أَيَبِيعُهَا عُرْيَانَةً قلنا: أَيَبِيعُهَا جَائِعَةً، وَلاَ فَرْقَ وقال بعضهم: الْكِسْوَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا. فَقُلْنَا: هَذَا كَذِبٌ وَحُمْقٌ مَعًا، وَمَا عَلِمْنَا لِلإِنْسَانِ أَرْكَانًا تَكُونُ الْكِسْوَةُ بَعْضَهَا. فَإِنْ ادَّعَوْا عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِقلنا: كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا، وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يَكْتُمُهَا عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، رضي الله عنهم، حَتَّى لاَ يَدْرِيَهَا أَحَدٌ إِلاَّ مَالِكٌ وَمَنْ قَلَّدَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/429)
1459
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ سِلْعَةٍ لأَخَرَ بِثَمَنٍ يَحُدُّهُ لَهُ صَاحِبُهَا
فَمَا اسْتَزَادَ عَلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ فَلِمُتَوَلِّي الْبَيْعِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا
أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثَّوْبَ فَيَقُولُ: بِعْهُ بِكَذَا فَمَا
ازْدَدْت فَلَكَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ.
وَأَجَازَهُ شُرَيْحٌ، وَالْحَكَمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَطَاءٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا
أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثَّوْبَ أَوْ الشَّيْءَ فَيَقُولُ لَهُ: مَا
ازْدَدْتَ عَلَى كَذَا أَوْ كَذَا فَهُوَ لَك. وبه إلى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كِلاَهُمَا، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ
ذَلِكَ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ، وطَاوُوس.
قال أبو محمد: هَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ
فَإِنْ بَاعَهُ الْمَأْمُورُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ
لأََنَّهَا وَكَالَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ إِلاَّ بِتَوَلِّي
صَاحِبِهِ، أَوْ بِوَكَالَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِلَّا فَهُوَ عَمَلٌ فَاسِدٌ. فَلَوْ
قَالَ لَهُ: بِعْهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ أَخَذْت أَكْثَرَ فَهُوَ لَك فَلَيْسَ
شَرْطًا وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَهِيَ عِدَّةٌ لاَ تَلْزَمُ، وَلاَ يُقْضَى بِهَا;
لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالٌ أُخِذَ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَالرِّضَا لاَ يَكُونُ
إِلاَّ بِمَعْلُومٍ، وَقَدْ يَبِيعُهُ بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ تَطِيبُ بِهَا
نَفْسُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ إذَا عَلِمَ مِقْدَارَهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/429)
1460
مَسْأَلَةُ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةٍ
مُجْتَمِعَةٍ، لاَ بِعَدَدٍ، وَلاَ بِوَزْنٍ، وَلاَ بِكَيْلٍ
كَمَنْ بَاعَ رِطْلاً، أَوْ قَفِيزًا، أَوْ صَاعًا، أَوْ مُدِّيًّا أَوْ
أُوقِيَّةً مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ التَّمْرِ، أَوْ الْبُرِّ، أَوْ
اللَّحْمِ، أَوْ الدَّقِيقِ، أَوْ كُلِّ مَكِيلٍ فِي الْعَالَمِ، أَوْ مَوْزُونٍ
كَذَلِكَ. وَكَمَنْ بَاعَ ثَلاَثَةً مِنْ هَذِهِ الْبَيْضِ أَوْ أَرْبَعَةً، أَوْ
أَيَّ عَدَدٍ كَانَ، أَوْ مِنْ كُلِّ مَا يُعَدُّ، أَوْ كَمَنْ بَاعَ ذِرَاعًا
أَوْ ذِرَاعَيْنِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُذْرَعُ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ
أَبْعَاضُ كُلِّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَسْتَوِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ أَوَّلاً
الْمُسَاوَمَةُ، فَإِذَا تَرَاضَيَا: كَالَ أَوْ وَزَنَ، أَوْ ذَرَعَ، أَوْ عَدَّ.
فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ تَعَاقَدَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ عَلَى تِلْكَ الْعَيْنِ
الْمَكِيلَةِ أَوْ الْمَوْزُونَةِ، أَوْ الْمَذْرُوعَةِ، أَوْ الْمَعْدُودَةِ،
ثُمَّ بَقِيَ التَّخْيِيرُ مِنْ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ فَيُمْضِي، أَوْ يَرُدُّ،
أَوْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا بِزَوَالِ أَحَدِهِمَا، عَنِ الآخَرِ كَمَا
قَدَّمْنَا قَبْلُ. فَلَوْ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ قَبْلَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ، أَوْ الْعَدِّ، أَوْ الذَّرْعِ: لَمْ يَكُنْ بَيْعًا
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيُّونَ فِيمَا اسْتَوَتْ أَبْعَاضُهُ:
كَالدَّقِيقِ وَاللَّحْمِ، وَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ
يُجِيزُوهُ فِيمَا اخْتَلَفَتْ أَبْعَاضُهُ: كَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ،
وَالْبَيْضِ، وَالْجَوَارِي، وَالْحِيتَانِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ
وَالْجَوْهَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ ثَوْبٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْ ثَوْبَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلاَثَةٍ يَخْتَارُهُ الْمُشْتَرِي،
وَلَمْ يُجِزْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَثْوَابٍ وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيَك بِهِ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذَ الْمَرْءِ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا وَسَمَّاهُ بَاطِلاً. وَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ
أَنَّ التَّرَاضِيَ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ فِي مَعْلُومٍ مُتَمَيِّزٍ،
وَكَيْفَ إنْ قَالَ الْبَائِعُ: أُعْطِيك مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَالَ
الْمُشْتَرِي: بَلْ مِنْ هَذِهِ الأُُخْرَى كَيْفَ الْعَمَلُ وَمَنْ جَعَلَ
أَحَدَهُمَا بِالإِجْبَارِ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الآخَرِ،
وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ.
وبرهان آخَرُ وَهُوَ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الْغَرَرِ، وَلاَ غَرَرَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ لاَ يَدْرِي الْبَائِعُ أَيَّ شَيْءٍ
هُوَ الَّذِي بَاعَ، وَلاَ يَدْرِي الْمُشْتَرِي أَيَّ شَيْءٍ اشْتَرَى، وَهَذَا
حَرَامٌ بِلاَ شَكٍّ. وبرهان ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ
مَعَنَا فِيمَنْ عَقَدَ مَعَ آخَرَ بَيْعًا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، أَوْ هَذِهِ
الأُُخْرَى، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ أَمَّا هَذِهِ الْجِهَاتُ، أَوْ هَذِهِ
الأُُخْرَى: فَإِنَّهُ بَيْعٌ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ لاَ يَحِلُّ، وَهَذَا نَفْسُهُ
هُوَ الَّذِي أَجَازُوا هَهُنَا، لاَ نَقُولُ: إنَّهُ تَشْبِيهٌ، بَلْ نَقُولُ:
هُوَ نَفْسُهُ، وَلاَ بُدَّ. وبرهان رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ لاَ يَجُوزُ حَالًّا، وَالسَّلَمُ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ
يُعْقَدُ عَلَى ذَرْعٍ مَا، أَوْ عَدَدٍ مَا، أَوْ كَيْلٍ مَا، أَوْ وَزْنٍ مَا،
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّينَ فِي بَعْضِ صُبْرَةٍ
بِعَيْنِهَا، وَهَذَا هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي مَنَعُوا مِنْهُ وَقَوْلُنَا هَهُنَا:
هُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَمَا نَعْلَمُ لِلْمُخَالِفِينَ
حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ
(8/430)
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ نَذْكُرُهُ الآنَ، مِنْ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ تَوَرُّعٍ أَصْلاً. وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: إجَازَةُ الْحَنَفِيِّينَ هَذَا الْبَيْعَ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ بَيْعِ ذِرَاعٍ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، مَحْدُودِ هَذِهِ الْجِهَةِ، إمَّا فِي ذِرَاعٍ، وَأَمَّا فِي عَرْضِ الثَّوْبِ، أَوْ فِي طُولِهِ: فَأَجَازُوا الْمَجْهُولَ، وَالْمُنْكَرَ، وَمَنَعُوا الْمَعْرُوفَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/431)
1461
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَرْءِ جُمْلَةً مَجْمُوعَةً إِلاَّ
كَيْلاً مُسَمًّى مِنْهَا، أَوْ إِلاَّ وَزْنًا مُسَمًّى مِنْهَا، أَوْ إِلاَّ
عَدَدًا مُسَمًّى مِنْهَا، أَيَّ شَيْءٍ كَانَ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةَ
إِلاَّ ذَرْعًا مُسَمًّى مِنْهَا. وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الثَّمَرَةِ
بَعْدَ طِيبِهَا وَاسْتِثْنَاءُ مَكِيلَةٍ مُسَمَّاةٍ مِنْهَا، أَوْ وَزْنٍ
مُسَمًّى مِنْهَا، أَوْ عَدَدٍ مُسَمًّى مِنْهَا أَصْلاً، قَلَّ ذَلِكَ أَوْ
كَثُرَ. وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ نَخْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، أَوْ ثَمَرَتِهَا، عَلَى
أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهَا نَخْلَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا، لَكِنْ يَخْتَارُهَا
الْمُشْتَرِي هَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ فِيمَا قَبَضَ
مِنْهُ كُلِّهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ وَإِنَّمَا الْحَلاَلُ فِي ذَلِكَ أَنْ
يَسْتَثْنِيَ مِنْ الْجُمْلَةِ إنْ شَاءَ أَيَّ جُمْلَةٍ كَانَتْ: حَيَوَانًا،
أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ مِنْ الثَّمَرَةِ: نِصْفَ كُلِّ ذَلِكَ مُشَاعًا، أَوْ
ثُلُثَيْ كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ ; جُزْءًا مُسَمًّى
مَنْسُوبًا مُشَاعًا فِي الْجَمِيعِ. أَوْ يَبِيعُ جُزْءًا كَذَلِكَ مِنْ
الْجُمْلَةِ مُشَاعًا، أَوْ يَسْتَثْنِي مِنْهَا عَيْنًا مُعَيَّنَةً مَحُوزَةً
كَثُرَتْ أَوْ قَلَّتْ فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ خِلاَفَ مِنْ أَحَدٍ فِي
جَوَازِهِ، إِلاَّ فِي مَكَان وَاحِدٍ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَجَازَ مَالِكٌ بَيْعَ مِائَةِ نَخْلَةٍ يُسْتَثْنَى مِنْهَا عَشْرُ نَخَلاَتٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَكَذَلِكَ مِنْ الْغَنَمِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ
وَأَجَازَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ وَاسْتِثْنَاءَ مَكِيلَةٍ مِنْهَا تَكُونُ الثُّلُثَ
فَأَقَلَّ، فَإِنْ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ. وقال مالك:
إنْ ابْتَاعَ ثَمَرَ أَرْبَعِ نَخَلاَتٍ مِنْ حَائِطٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَكِنْ
يَخْتَارُهَا الْمُبْتَاعُ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ ابْتَاعَهَا كَذَلِكَ بِأُصُولِهَا
جَازَ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَمَرٌ كَالْعُرُوضِ. وَأَجَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ
يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهُ ثَمَرَ أَرْبَعِ نَخَلاَتٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهَا، لَكِنْ يَخْتَارُهَا الْبَائِعُ: أَجَازَ هَذَا بَعْدَ أَنْ
تَوَقَّفَ فِيهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَنَمِ وَكَرِهَهُ
ابْنُ الْقَاسِمِ فِي النَّخْلِ قَالَ: فَإِنْ وَقَعَ أَجَزْته لِقَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: فِي هَذِهِ الأَقْوَالِ عِبْرَةٌ لِمَنْ اعْتَبَرَ مِنْ
التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي فِي اخْتِيَارِ الثَّمَرِ، وَمِنْ
الْفَرْقِ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي لِثَمَرِ أَرْبَعِ نَخَلاَتٍ فَمَنَعَ
مِنْهُ، وَبَيْنَ اخْتِيَارِ الْبَائِعِ لَهُ فَأَجَازَهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَا
قَوْلُهُ فِي سِتِّ نَخَلاَتٍ أَوْ سَبْعٍ، وَنَزِيدُهُ هَكَذَا وَاحِدَةً
وَاحِدَةً، فأما يَتَمَادَى عَلَى الإِبَاحَةِ، وَأَمَّا يَمْنَعُ، فَيُكَلَّفُوا
الْبُرْهَانَ عَلَى مَا حَرَّمُوا وَمَا حَلَّلُوا،
(8/431)
أَوْ
يَتَحَيَّرُوا فَلاَ يَدْرُوا مَا يُحَلِّلُونَ وَمَا يُحَرِّمُونَ، وَلاَ بُدَّ
مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ضَرُورَةً. ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَازُوا
فِي الأَرْبَعِ نَخَلاَتٍ، فَنَقُولُ: أَتُجِيزُونَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْحَائِطِ إِلاَّ خَمْسُ نَخَلاَتٍ فَإِنْ أَجَازُوا، سَأَلْنَاهُمْ مِنْ أَيْنَ
خَصُّوا الأَرْبَعَ نَخَلاَتٍ بِالإِجَازَةِ دُونَ مَا هُوَ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ
فَإِنْ مَنَعُوا زِدْنَاهُمْ فِي عَدَدِ نَخْلِ الْحَائِطِ نَخْلَةً نَخْلَةً
وَهَذِهِ تَخَالِيطُ لاَ نَظِيرَ لَهَا وَهَذَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُمْ فِي عَمَلِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَمَلاً ظَاهِرًا مَا احْتَاجَ إلَى
أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَإِنَّ فِي إجَازَةِ ابْنِ
الْقَاسِمِ الْعَمَلَ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ إنْ وَقَعَ مِنْ أَجْلِ إجَازَةِ
مَالِكٍ لَهُ لَعَجَبًا. وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا
فِي تَيْسِيرِنَا لِطَاعَةِ كَلاَمِهِ، وَكَلاَمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
وَتَنْفِيرِنَا، عَنْ تَقْلِيدِ مَا دُونَ ذَلِكَ حَمْدًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ
أَهْلُهُ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ، فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ
هَذَا كُلِّهِ.
قال أبو محمد: وَتَنَاقَضُوا هَهُنَا أَقْبَحَ تَنَاقُضٍ; لأََنَّهُ لاَ فَرْقَ
بَيْنَ مَا حَرَّمُوا هَهُنَا مِنْ بَيْعِ جُمْلَةٍ وَاسْتِثْنَاءِ مِقْدَارٍ
مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَبَيْنَ مَا أَجَازُوا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي
قَبْلَ هَذِهِ مِنْ بَيْعِ بَعْضِ جُمْلَةٍ بِكَيْلٍ أَوْ بِوَزْنٍ، أَوْ بِعَدَدٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ ذَلِكَ نَفْسُهُ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى
السَّلاَمَةِ، وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ بَيْعُ بَعْضِ جُمْلَةٍ وَإِمْسَاكُ
بَعْضِهَا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ. وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ مِمَّا ذَكَرْنَا،
فَإِنَّ الْمَالِكِيِّينَ مَنَعُوا مِنْ بَيْعِ جُمْلَةٍ إِلاَّ ثُلُثَيْهَا،
وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ الأَسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي الأَقَلِّ.
قال علي: وهذا بَاطِلٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ مَا قَالُوهُ: لاَ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ
رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ، وَلاَ لُغَةٌ أَصْلاً. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ
الأَكْثَرِ أَوْ الأَقَلِّ، إنَّمَا هُوَ مَنْعُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ فَقَطْ دُونَ
سَائِرِهَا، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ هَذَا، وَهُوَ الَّذِي مَنَعُوا مِنْهُ
نَفْسُهُ بِعَيْنِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ سَأَلْت أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُوسَى، عَنِ
الرَّجُلِ يَبِيعُ بَيْعًا وَيَسْتَثْنِي نِصْفَهُ فَكَرِهَهُ الْحَجَّاجُ
هَالِكٌ. وَمِنْ طَرِيق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ
قَالَ: إذَا اسْتَثْنَى الْبَائِعُ نِصْفًا وَنَقَدَ الْمُشْتَرِيَ نِصْفًا،
فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ، كِلاَهُمَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ
كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ وَيَسْتَثْنِيَ نِصْفَهَا.
قال أبو محمد: برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا هَهُنَا هِيَ الْبَرَاهِينُ الَّتِي
أَوْرَدْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَهَهُنَا
برهان زَائِدٌ: وَهُوَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا
زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ أَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ
حُسَيْنٍ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ
(8/432)
جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ
الثُّنْيَا حَتَّى تُعْلَمَ . فَصَحَّ أَنَّ الأَسْتِثْنَاءَ لاَ يَحِلُّ إِلاَّ
مَعْلُومًا مِنْ مَعْلُومٍ. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ
بْنِ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُعَاوَمَةِ،
وَالْمُخَابَرَةِ. قَالَ أَحَدُهُمَا: بَيْعُ السِّنِينَ، وَهِيَ الْمُعَاوَمَةُ،
وَهِيَ الثُّنْيَا قلنا: هَذَا تَفْسِيرُ لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُ مِنْ
كَلاَمِ أَبِي الزُّبَيْرِ وَرَأْيِهِ، أَوْ كَلاَمِ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ
وَرَأْيِهِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي كَلاَمِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم. وَالثُّنْيَا: لَفْظَةٌ مَعْرُوفَةٌ عَرَبِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى
{كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لِيَصْرِمُنَّهَا
مُصْبِحِينَ، وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} وَإِنَّمَا الثُّنْيَا اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ
مِنْ شَيْءٍ فَقَطْ. وَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ: أَنْ يَكُونَ
لِلثُّنْيَا مَعْنًى غَيْرُ هَذَا فَيَنْهَانَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُهَا عَلَيْنَا; حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَهُوَ
الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا دِينَنَا.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَتْ فِي الثُّنْيَا آثَارٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَابْنُ أَبِي
زَائِدَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، قَالَ: مَا كُنَّا نَرَى بِالثُّنْيَا بَأْسًا لَوْلاَ أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَرِهَهَا، وَكَانَ عِنْدنَا مَرْضِيَّا قَالَ ابْنِ عُلَيَّةَ: لَوْلاَ
ابْنُ عَوْنٍ: فَتَحَدَّثْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لاَ أَبِيعُ
هَذِهِ النَّخْلَةَ، وَلاَ هَذِهِ النَّخْلَةَ.
قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعَ ابْنُ عَوْنٍ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ الْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ النَّخْلَ وَيَسْتَثْنِيَ
مِنْهُ كَيْلاً مَعْلُومًا قَالَ سُفْيَانُ: وَلَكِنْ يَسْتَثْنِي هَذِهِ
النَّخْلَةَ، وَهَذِهِ النَّخْلَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ
أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنِ الثُّنْيَا فَكَرِهَهَا
إِلاَّ أَنْ يَسْتَثْنِيَ نَخَلاَتٍ مَعْلُومَاتٍ، قَالَ عَمْرٌو: وَنَهَانِي
سَعِيدٌ أَنْ أَبْرَأَ مِنْ الصَّدَقَةِ إذَا بَايَعْت. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَبِيعُ
ثَمَرَةَ أَرْضِي وَاسْتَثْنِي قَالَ: لاَ تَسْتَثْنِ إِلاَّ شَجَرًا مَعْلُومًا،
وَلاَ تَبْرَأَنَّ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ أَيُّوبُ فَذَكَرْته لِمُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا
أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قُلْت لأَِبْرَاهِيمَ: أَبِيعُ الشَّاةَ
وَاسْتَثْنِي بَعْضَهَا قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ قُلْ: أَبِيعُك نِصْفَهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ
السِّلْعَةِ وَيَسْتَثْنِي نِصْفَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا
عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ فِيمَنْ بَاعَ ثَمَرَةَ أَرْضِهِ
فَاسْتَثْنَى كُرًّا قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَعْلَمَ
(8/433)
نَخْلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ
يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى
بَأْسًا أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَتَهُ وَيَسْتَثْنِيَ نِصْفَهَا، ثُلُثَهَا، رُبْعَهَا.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيُّونَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنِ عَدِيٍّ سَمِعْت ابْنَ
عُمَرَ وَهُوَ يَبِيعُ ثَمَرَةً لَهُ فَقَالَ: أَبِيعُكُمُوهَا بِأَرْبَعَةِ
آلاَفٍ وَطَعَامِ الْفِتْيَانِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ
مُجَمِّعٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى
بَأْسًا أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَتَهُ وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا مَكِيلَةً مَعْلُومَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ جَدَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو بَاعَ ثَمَرَ
حَائِطٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الأَفْرَاقُ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ
وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ تَمْرًا وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
غَيْرَ هَذَا. فَالرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهَا ;
لأََنَّ طَعَامَ الْفِتْيَانِ إنْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الثَّمَرَةِ فَهُوَ مَجْهُولٌ،
لاَ يُدْرَى مَا يَكُونُ نَوْعُهُ، وَلاَ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ
مُضَافًا عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا.
وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ يُجِيزُونَ شَيْئًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ
خَالَفُوهُ، وَالصَّحِيحُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنَا كَمَا أَوْرَدْنَا
آنِفًا. وَأَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَلَمْ يَخُصَّ ثُلُثًا مِنْ أَقَلَّ، وَلاَ
أَكْثَرَ. وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ يُجِيزُونَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ
خَالَفُوهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَإِنَّمَا
اسْتَثْنَى مِنْ ثَمَرٍ بَاعَهُ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ تَمْرًا بِثَمَانِمِائَةِ
دِرْهَمٍ، وَهُمْ الْخُمُسُ، فَإِنَّمَا اسْتَثْنَى خُمُسَ مَا بَاعَ، وَهَذَا
جَائِزٌ حَسَنٌ فَلاَحَ أَنَّهُ لاَ سَلَفَ لَهُمْ أَصْلاً فِيمَا قَالُوهُ
ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِّينَا الْمَنْعَ مِنْ الأَسْتِثْنَاءِ جُمْلَةً كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَبِي
الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ عَمَّنْ بَاعَ شَيْئًا
وَاسْتَثْنَى بَعْضًا قَالَ: لاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ عَنَى مَجْهُولاً فَصَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ عَنَى جُمْلَةَ
الأَسْتِثْنَاءِ فَخَطَأٌ ; لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ
الثُّنْيَا إذَا عُلِمَتْ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَهُ عليه السلام.
(8/434)
1462
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنَّ يَبِيعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ
إذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ لَهُ فِي بَيْعِهِ،
فَإِنْ وَقَعَ فُسِخَ أَبَدًا سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ حَاضِرًا يَرَى
ذَلِكَ أَوْ غَائِبًا، وَلاَ يَكُونُ سُكُوتُهُ رِضًا بِالْبَيْعِ طَالَتْ
الْمُدَّةُ أَمْ قَصُرَتْ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةَ عَامٍ أَوْ أَكْثَرَ، بَلْ
يَأْخُذُ مَالَهُ أَبَدًا هُوَ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَهُ. وَلاَ يَجُوزُ لِصَاحِبِ
الْمَالِ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ الْبَيْعَ أَصْلاً إِلاَّ أَنْ يَتَرَاضَى هُوَ
وَالْمُشْتَرِي عَلَى ابْتِدَاءِ عَقْدِ بَيْعٍ فِيهِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ
قَبَضَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ. وَكَذَلِكَ لاَ يُلْزِمُ أَحَدًا شِرَاءَ غَيْرِهِ
لَهُ لاَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَى لَهُ دُونَ أَمْرِهِ
فَالشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ يَكُونُ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ أَرَادَ
كَوْنَهُ لَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ بِابْتِدَاءِ عَقْدِ شِرَاءٍ مَعَ الَّذِي
اشْتَرَاهُ، إِلاَّ الْغَائِبَ الَّذِي
(8/434)
يُوقِنُ
بِفَسَادِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَسَادًا يَتْلَفُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُشَاوِرَ،
فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لَهُ الْحَاكِمُ أَوْ غَيْرُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَشْتَرِي
لأََهْلِهِ مَا لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَيَجُوزُ ذَلِكَ أَوْ مَا بِيعَ عَلَيْهِ
بِحَقٍّ وَاجِبٍ لِيَنْتَصِفَ غَرِيمٌ مِنْهُ، أَوْ فِي نَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ، فَهَذَا لاَزِمٌ لَهُ حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا، رَضِيَ أَمْ
سَخِطَ.
برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . فَلَيْسَ لأََحَدٍ
أَنْ يُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَالِهِ، وَلاَ مِنْ بَشَرَتِهِ،
وَلاَ مِنْ دَمِهِ إِلاَّ بِالْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ بِهِ نَصُّ الْقُرْآنِ،
أَوْ السُّنَّةِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ
وَالسُّكُوتُ لَيْسَ رِضًا إِلاَّ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَطْ. أَحَدُهُمَا: رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ الَّذِي لاَ يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي لاَ يُقِرُّ عَلَى
بَاطِلٍ، وَاَلَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ
جَائِزٌ، وَاَلَّذِي لاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ، وَلاَ
وَاجِبَ إِلاَّ مَا أَمَرَنَا بِهِ، وَلاَ نَهَانَا عَنْهُ فَقَدْ خَرَجَ، عَنْ
أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَوْ حَرَامًا، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا، وَلاَ
بُدَّ، فَدَخَلَ سُكُوتُهُ الَّذِي لَيْسَ أَمْرًا، وَلاَ نَهْيًا فِي هَذَا
الْقِسْمِ ضَرُورَةً. وَالثَّانِي: الْبِكْرُ فِي نِكَاحِهَا لِلنَّصِّ الْوَارِدِ
فِي ذَلِكَ فَقَطْ وَأَمَّا كُلُّ مَنْ عَدَا مَا ذَكَرْنَا فَلاَ يَكُونُ
سُكُوتُهُ رِضًا حَتَّى يُقِرَّ بِلِسَانِهِ بِأَنَّهُ رَاضٍ بِهِ مُنَفِّذٌ.
وَيُسْأَلُ مَنْ قَالَ: إنَّ سُكُوتَ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ رِضًا: مَا الدَّلِيلُ
عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكُمْ: إنَّ الرِّضَا يَكُونُ بِالسُّكُوتِ، وَإِنَّ
الإِنْكَارَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْكَلاَمِ وَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ ذَلِكَ
فَإِنْ ادَّعَوْا نَصًّا، كَذَبُوا، وَإِنْ ادَّعَوْا عِلْمَ ضَرُورَةٍ، كَابَرُوا
; لأََنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ
الضَّرُورَةَ الَّتِي يَدَّعُونَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ دَعْوَاهُمْ عَلَى
غَيْرِهِمْ عِلْمَ الضَّرُورَةِ هَهُنَا وَبَيْنَ دَعْوَى غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ
عِلْمَ الضَّرُورَةِ فِي بُطْلاَنِ ذَلِكَ، وَفِي أَنَّ الإِنْكَارَ يَكُونُ
بِالسُّكُوتِ، وَأَنَّ الرِّضَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْكَلاَمِ فَبَطَلَتْ
الدَّعْوَتَانِ لِتَعَارُضِهِمَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّ السَّاكِتَ مُمْكِنٌ
أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا، وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ رَاضٍ، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، وَالرِّضَا يَكُونُ بِالسُّكُوتِ وَبِالْكَلاَمِ،
وَالإِنْكَارُ يَكُونُ بِالسُّكُوتِ وَبِالْكَلاَمِ. فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَإِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ فَقَطْ، وَلاَ تَحِلُّ الأَمْوَالُ الْمُحَرَّمَةُ
بِالظَّنِّ. قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ
الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى نِكَاحِ الْبِكْرِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ،
ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَهُنَا فِي غَايَةِ الْبَاطِلِ; لأََنَّ مَنْ
عَدَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ تَقِيَّةً أَوْ تَدْبِيرًا فِي
أَمْرِهِ وَتَرْوِيَةً، أَوْ لأََنَّهُ يَرَى أَنَّ سُكُوتَهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِهِ
شَيْءٌ ; وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ،
(8/435)
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَتَّقِي فِي اللَّهِ تَعَالَى أَحَدًا، وَلاَ يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ السُّكُوتُ عَلَى الْبَاطِلِ فَلاَ يُنْكِرُهُ ; لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مُبَيِّنٍ وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ وَالأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ، وَتَفْصِيلِ الْحَرَامِ، فَسُكُوتُهُ خَارِجٌ، عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، وَطُولُ الْمَدَدِ لاَ يُعِيدُ الْبَاطِلَ حَقًّا أَبَدًا، وَلاَ الْحَقَّ بَاطِلاً وَيَلْزَمُ الْمُخَالِفَ لِهَذَا أَنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ: يَا كَافِرُ فَسَكَتَ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْكُفْرِ، وَمَنْ قِيلَ لَهُ: إنَّك طَلَّقْت امْرَأَتَك فَسَكَتَ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلاَقُ، وَأَنَّ مَنْ قُتِلَ وَلَدُهُ وَهُوَ يَرَى فَسَكَتَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ طَلَبُهُ وَلَزِمَهُ الرِّضَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: مَنْ بَاعَ مَالَ آخَرَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ إجَازَةُ ذَلِكَ أَوْ رَدُّهُ وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي الَّذِي اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ فَأَبَى، فَعَمَدْتُ إلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي حَقِّي فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي قُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ فَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ فَرَّجَ عَنْهُمْ الصَّخْرَةَ الْمُطْبِقَةَ عَلَى فَمِ الْغَارِ. فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمُبْطِلٌ لِقَوْلِهِمْ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَنْ قَبْلَنَا، وَلاَ تَلْزَمُنَا شَرَائِعُهُمْ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الإِجَارَةَ كَانَتْ بِفَرَقِ ذُرَةٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ بِفَرَقِ ذُرَةٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبِعْ لَهُ شَيْئًا، بَلْ بَاعَ مَالَهُ ثُمَّ تَطَوَّعَ بِمَا أَعْطَاهُ وَهَذَا حَسَنٌ، وَهُوَ قَوْلُنَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فَرَقًا بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الإِسْلاَمِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَرَضِيَ وَأَبْرَأَهُ مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ، وَكِلاَهُمَا مُتَبَرِّعٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حَسَنٌ جِدًّا. وَأَمَّا كَوْنُهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَأَبَى مِنْ أَخْذِهِ وَتَرَكَهُ وَمَضَى فَعَلَى أَصْلِهِمْ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ، إذْ سَكَتَ، عَنْ أَخْذِهِ، فَلاَ طَلَبَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا: بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً قَالَ: فَاشْتَرَيْتُ لَهُ شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِدِينَارٍ وَشَاةٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ أَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ أَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ فَذَكَرَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً بِدِينَارٍ فَاشْتَرَاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ
(8/436)
فَاشْتَرَى
شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْبَرَكَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ . هَذَا كُلُّ مَا
مَوَّهُوا بِهِ، وَكُلُّهُ لاَ شَيْءَ. أَمَّا حَدِيثُ حَكِيمٍ: فَعَنْ رَجُلٍ
لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ مِنْ النَّاسِ، وَالْحُجَّةُ فِي دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَقُومُ بِمِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ فَأَحَدُ
طَرِيقَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَخِي حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ
ضَعِيفٌ، وَفِيهِ أَيْضًا أَبُو لَبِيدٍ وَهُوَ لُمَازَةُ بْنُ زَبَّارٍ وَلَيْسَ
بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ، وَالطَّرِيقُ الأُُخْرَى مُعْتَلَّةٌ وَإِنْ كَانَ
ظَاهِرُهَا الصِّحَّةَ، وَهِيَ أَنَّ شَبِيبَ بْنَ غَرْقَدَةَ لَمْ يَسْمَعْهُ
مِنْ عُرْوَةَ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ،
أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ
غَرْقَدَةَ حَدَّثَنِي الْحَيُّ، عَنْ عُرْوَةَ يَعْنِي ابْنَ الْجَعْدِ
الْبَارِقِيَّ قَالَ: أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا
لِيَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً أَوْ شَاةً فَاشْتَرَى اثْنَتَيْنِ فَبَاعَ
إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ
فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا فَبَطَلَ الأَحْتِجَاجُ بِهِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ حَدِيثُ
حَكِيمٍ، وَعُرْوَةَ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ إذْ
أَمَرَهُ عليه السلام أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً فَاشْتَرَى لَهُ شَاتَيْنِ،
صَارَ الشِّرَاءُ لِعُرْوَةِ بِلاَ شَكٍّ ; لأََنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى كَمَا
أَرَادَ لاَ كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَزْنُ دِينَارِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إمَّا مُسْتَقْرَضًا لَهُ لِيَرُدَّهُ، وَأَمَّا
مُتَعَدِّيًا فَصَارَ الدِّينَارُ فِي ذِمَّتِهِ بِلاَ شَكٍّ، ثُمَّ بَاعَ شَاةَ
نَفْسِهِ بِدِينَارٍ فَصَرَفَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
لَزِمَهُ وَأَهْدَى إلَيْهِ الشَّاةَ، فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ،
وَلَيْسَ فِيهِ أَصْلاً لاَ بِنَصِّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الشِّرَاءَ
جَوَّزَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْتَزَمَهُ، فَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ
بِمَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَكِيمٍ فَإِنَّهُ تَعَدَّى فِي
بَيْعِ الشَّاةِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، فَابْتَاعَهَا بِدِينَارٍ كَمَا أَمَرَ
وَفَضَلَ دِينَارٌ، فَأَمَرَهُ عليه السلام بِالصَّدَقَةِ إذْ لَمْ يُعْرَفْ
صَاحِبُهُ.
قال أبو محمد : ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَنَقُولُ:
أَخْبِرُونَا هَلْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَى وَمَلَكَ صَاحِبُ الشَّيْءِ
الْمَبِيعِ الثَّمَنَ بِذَلِكَ الْعَقْدِ أَمْ لاَ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا
فَإِنْ قَالُوا: لاَ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُنَا، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ
لاَ يَصِحَّ عَقْدٌ حِينَ عَقْدِهِ ثُمَّ يَصِحُّ فِي غَيْرِ حِينِ عَقْدِهِ،
إِلاَّ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، فَنَسْمَعُ
وَنُطِيعُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَمَّا مَنْ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فَلاَ
يُقْبَلُ مِنْهُ مِثْلُ هَذَا أَصْلاً إذْ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى
قَبُولَهُ مِنْهُ. وَإِنْ قَالُوا: قَدْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَى،
وَمَلَكَ الَّذِي لَهُ الشَّيْءُ الْمَبِيعُ الثَّمَنَ قلنا: فَمِنْ أَيْنَ
جَعَلْتُمْ لَهُ إبْطَالَ عَقْدٍ قَدْ صَحَّ بِغَيْرِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَهَذَا لاَ يَحِلُّ ; لأََنَّهُ تَحَكُّمٌ فِي دِينِ
اللَّهِ تَعَالَى.
(8/437)
وقولنا
في هذا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رُوِّينَا عَنْهُ: أَنَّ مَنْ بِيعَتْ
دَارُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَرْضَى أَوْ يَأْمُرَ
أَوْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِ دَارِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ
أَصْحَابِنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّهُ اخْتَلَفَ عَنْهُ
فِيمَنْ بِيعَ مَالُهُ فَعَلِمَ بِذَلِكَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلاَ
بُدَّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، وَلَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ رِضًا أَصْلاً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَهُ لاَ يَكُونُ إقْرَارًا
إِلاَّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: مَنْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ
وَيَشْتَرِي كَمَا يَفْعَلُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسْكُتُ،
فَإِنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ بِذَلِكَ مَأْذُونًا لَهُ. وَالشُّفْعَةُ: يَعْلَمُهَا
الشَّفِيعُ فَيَسْكُتُ، وَلاَ يَشْهَدُ عَلَى أَنَّهُ طَالِبٌ لَهَا، فَسُكُوتُهُ
إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ فِي الطَّلَبِ. وَالإِنْسَانُ يُبَاعُ وَهُوَ حَاضِرٌ عَالِمٌ
بِذَلِكَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: قُمْ مَعَ مَوْلاَك فَيَقُومُ، فَهَذَا إقْرَارٌ
مِنْهُ بِالرِّقِّ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ. وَالْبَائِعُ لِلشَّيْءِ
بِثَمَنٍ حَالٍّ فَيَقْبِضُهُ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ سَاكِتٌ، فَهَذَا إذْنٌ
مِنْهُ فِي الْقَبْضِ وَالْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ.
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: بَاطِلٌ، وَتَخْلِيطٌ، وَدَعْوَى
بِلاَ دَلِيلٍ، وَلاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ،
وَلاَ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ يُفَرِّقُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَإِنَّ الْقَوْلَ لاَ يَحِلُّ
بِهِ. وَأَمَّا مَالِكٌ: فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ رَأَى مَالَهُ يُبَاعُ فَسَكَتَ
فَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ أَمَةً كَانَتْ الْمَبِيعَةُ أَوْ عَبْدًا أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ وَمَنْ غُصِبَ مَالُهُ فَمَاتَ الْغَاصِبُ فَرَأَى مَالَهُ يُقَسَّمُ فَسَكَتَ،
فَإِنَّ حَقَّهُ قَدْ بَطَلَ. وَمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فَسَكَتَ،
فَقَدْ لَزِمَهُ مَا اُدُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَرَ السُّكُوتَ، عَنْ
طَلَبِ الدَّيْنِ وَإِنْ رَآهُ يُقْسِمُ مُسْقِطًا لَحَقِّهِ فِي الطَّلَبِ، وَلاَ
رَأَى السُّكُوتَ، عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ رِضًا بِإِسْقَاطِهَا إِلاَّ حَتَّى
تَمْضِيَ لَهُ سَنَةٌ، فَسُكُوتُهُ بَعْدَ السَّنَةِ رِضًا بِإِسْقَاطِهَا
عِنْدَهُ. وَلَمْ يَرَ سُكُوتَ مَنْ تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ بِحَضْرَتِهِ
طَلاَقًا، وَلاَ أَنَّهَا بَانَتْ عَنْهُ بِذَلِكَ وَهَذِهِ مُنَاقَضَاتٌ لاَ
دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا، لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ
تَقَدَّمَهُ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ
رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ. وأعجب ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ سُكُوتَ الْبِكْرِ الْعَانِسِ
رِضًا بِالنِّكَاحِ إِلاَّ حِينَ تَنْطِقُ بِالرِّضَا وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ
جِهَارًا. وَرَأَى عَلَى مَنْ رَأَى دَارِهِ تُبْنَى وَتُهْدَمُ وَيَتَصَرَّفُ
فِيهَا أَجْنَبِيٌّ فَسَكَتَ عَشْرَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ،
عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ وَإِنْ سَكَتَ، عَنْ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ
أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ، عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي سُكُوتِهِ
سَبْعَ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ، أَوْ تِسْعَ سِنِينَ، فَرُوِيَ عَنْهُ
أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَطْعٌ لِحَقِّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ
قَطْعًا لِحَقِّهِ وَلَمْ يَرَ سُكُوتَ، الْمَرْءِ، عَنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ
أَقَارِبِهِ قَطْعًا لِحَقِّهِ إِلاَّ بَعْدَ سَبْعِينَ سَنَةً وَهَذِهِ أَقْوَالٌ
كَمَا تَرَى نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا، فَفِيهَا إبَاحَةُ الأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ
جُزَافًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/438)
لا
يجوز بيع شيء لا يدري بائعه ما هو وإن دراه المشتري ولا ما لا يدري المشتري ماهو
...
1463 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ لاَ يَدْرِي بَائِعُهُ مَا هُوَ
وَإِنْ دَرَاهُ الْمُشْتَرِي، وَلاَ مَا لاَ يَدْرِي الْمُشْتَرِي مَا هُوَ وَإِنْ
دَرَاهُ الْبَائِعُ، وَلاَ مَا جَهِلاَهُ جَمِيعًا.
وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَا
هُوَ، وَيَرَيَاهُ جَمِيعًا، أَوْ يُوصَفُ لَهُمَا، عَنْ صِفَةِ مَنْ رَآهُ وَعِلْمِهِ
كَمَنْ اشْتَرَى زُبْرَةً يَظُنُّهَا قَزْدِيرًا فَوَجَدَهَا فِضَّةً، أَوْ فَصًّا
لاَ يَدْرِي أَزُجَاجٌ هُوَ أَمْ يَاقُوتٌ فَوَجَدَهُ يَاقُوتًا أَمْ زُمُرُّدًا
أَوْ زُجَاجًا وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ أَعْلَى مِمَّا
ظَنَّ أَوْ أَدْنَى، أَوْ الَّذِي ظَنَّ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا،
لاَ يَجُوزُ لَهُمَا تَصْحِيحُهُ بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِهِ إِلاَّ بِابْتِدَاءِ
عَقْدِ رِضَاهُمَا مَعًا، وَإِلَّا فَلاَ وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ
ضَمَانَ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وَلاَ
يُمْكِنُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، وَضَرُورَةِ الْحِسِّ رِضًا بِمَا لاَ يَعْرِفُ،
وَلاَ يَكُونُ الرِّضَا إِلاَّ بِمَعْلُومِ الْمَاهِيَّةِ، وَلاَ شَكَّ فِي
أَنَّهُ إنْ قَالَ: رَضِيت أَنَّهُ قَدْ لاَ يَرْضَى إذَا عَلِمَ مَا هُوَ وَإِنْ
كَانَ دَيِّنًا جِدًّا وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ
تَرَاضٍ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيْضًا: فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ ; لأََنَّهُ
لاَ يَدْرِي مَا ابْتَاعَ، وَلاَ مَا بَاعَ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الْغَرَرِ وَهَذَا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ مَالِكٍ إجَازَةَ
هَذَا الْبَيْعِ وَهُوَ قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ أَصْلاً. وَمِنْ
عَجَائِبِ الدُّنْيَا إجَازَتُهُ هَذَا الْبَيْعَ الْفَاسِدَ، وَمَنْعَهُ مِنْ
بَيْعِ صُبْرَةٍ مَرْئِيَّةٍ مُحَاطٍ بِهَا عَلِمَ الْبَائِعُ مَكِيلَتَهَا وَلَمْ
يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي مَكِيلَتَهَا وَهَذَا عَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/439)
لا
يحل بيع شيء بأكثر مما يساوي ولا بأقل إذا اشترط البائع أو المشتري السلامة إلا
بمعرفة البائع والمشتري معا بمقدار الغبن في ذلك ورضيا به
...
1464 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي،
وَلاَ بِأَقَلَّ مِمَّا يُسَاوِيَ إذَا اشْتَرَطَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي
السَّلاَمَةَ إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا بِمِقْدَارِ
الْغَبْنِ فِي ذَلِكَ وَرِضَاهُمَا بِهِ،
فَإِنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا السَّلاَمَةَ وَوَقَعَ الْبَيْعُ كَمَا ذَكَرنَا،
وَلَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ الْغَبْنِ، أَوْ عَلِمَهُ، غَيْرُ الْمَغْبُونِ مِنْهُمَا
وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمَغْبُونُ: فَهُوَ بَيْعٌ بَاطِلٌ، مَرْدُودٌ، مَفْسُوخٌ،
أَبَدًا، مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَلَيْسَ لَهُمَا
إجَازَتُهُ إِلاَّ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ. فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا السَّلاَمَةَ،
وَلاَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ وُجِدَ غَبْنٌ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ
بِهِ، فَلِلْمَغْبُونِ إنْفَاذُ الْبَيْعِ أَوْ رَدُّهُ، فَإِنْ فَاتَ الشَّيْءُ
الْمَبِيعُ رَجَعَ الْمَغْبُونُ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْغَبْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
ثَوْرٍ، وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ رِضَاهُمَا
بِالْغَبْنِ أَصْلاً. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ. وَالشَّافِعِيُّ: لاَ رُجُوعَ
لِلْبَائِعِ، وَلاَ لِلْمُشْتَرِي بِالْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ كَثُرَ أَوْ قَلَّ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَصَّارِ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْبَيْعَ إذَا كَانَ فِيهِ
الْغَبْنُ مِقْدَارَ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ولاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
(8/439)
تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. وَلاَ يَكُونُ التَّرَاضِي أَلْبَتَّةَ إِلاَّ عَلَى مَعْلُومِ الْقَدْرِ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَبْنِ، وَلاَ بِقَدْرِهِ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ فَصَحَّ أَنَّ الْبَيْعَ بِذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَقَوْله تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} فَحَرَّمَ عَزَّ وَجَلَّ الْخَدِيعَةَ. وَلاَ يَمْتَرِي أَحَدٌ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمَرْءِ بِأَكْثَرَ مَا يُسَاوِي مَا بَاعَ مِمَّنْ لاَ يَدْرِي ذَلِكَ: خَدِيعَةٌ لِلْمُشْتَرِي، وَأَنَّ بَيْعَ الْمَرْءِ بِأَقَلَّ مِمَّا يُسَاوِي مَا بَاعَ، وَهُوَ لاَ يَدْرِي ذَلِكَ: خَدِيعَةٌ لِلْبَائِعِ، وَالْخَدِيعَةُ حَرَامٌ لاَ تَصِحُّ. وَمَا رُوِّينَا، عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلِ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ كَيْفَ تَبِيعُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ" . وَقَالَ عليه السلام: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ قلنا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِلأَئِمَّةِ، وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ" . وَنَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ فِي الْبَيْعِ: برهان صَحِيحٌ عَلَى قَوْلِنَا هَهُنَا ; لأََنَّهُ نَهَى بِذَلِكَ، عَنِ الْغُرُورِ وَالْخَدِيعَةِ فِي الْبَيْعِ جُمْلَةً، بِلاَ شَكٍّ يَدْرِي النَّاسُ كُلُّهُمْ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ آخَرَ فِيمَا يَبِيعُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُسَاوِي بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُشْتَرِي، وَلاَ رِضَاهُ، وَمَنْ أَعْطَاهُ آخَرُ فِيمَا يَشْتَرِي مِنْهُ أَقَلَّ مِمَّا يُسَاوِي بِغَيْرِ عِلْمِ الْبَائِعِ، وَلاَ رِضَاهُ فَقَدْ غَشَّهُ وَلَمْ يَنْصَحْهُ، وَمَنْ غَشَّ وَلَمْ يَنْصَحْ فَقَدْ أَتَى حَرَامًا. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. فَصَحَّ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِنَصِّ أَمْرِهِ عليه السلام، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ، وَهِشَامٌ، هُوَ ابْنُ حَسَّانٍ كُلُّهُمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِجَوَارٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ بَاعَ جَارِيَةً مِنْ ابْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ غُبِنْت بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: إنَّهُ غُبِنَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ فأما أَنْ تُعْطِيَهَا إيَّاهُ وَأَمَّا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ بَيْعَهُ فَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: بَلْ نُعْطِيهَا إيَّاهُ فَهَذَا ابْنُ جَعْفَرٍ، وَابْنُ عُمَرَ: قَدْ رَأَيَا رَدَّ الْبَيْعِ مِنْ الْغَبْنِ فِي الْقِيمَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ سَاوَمَ رَجُلاً بِفَرَسٍ فَسَامَهُ، فَسَامَهُ الرَّجُلُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ إنْ رَأَيْت ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ: فَرَسُك خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَك سِتُّمِائَةٍ حَتَّى بَلَغَ ثَمَانَمِائَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: إنْ رَأَيْت ذَلِكَ فَقَالَ جَرِيرٌ: فَرَسُك خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَك سِتُّمِائَةٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةٍ حَتَّى بَلَغَ ثَمَانَمِائَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: إنْ رَأَيْت ذَلِكَ فَقَالَ جَرِيرٌ: فَرَسُك خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ أَزِيدُك فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ:
(8/440)
خُذْهَا
فَقِيلَ لَهُ: مَا مَنَعَك أَنْ تَأْخُذَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَالَ جَرِيرٌ:
لأََنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ لاَ نَغُشَّ
أَحَدًا ; أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ لِي غِشٌّ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
قَبْلُ فِي "بَابِ مَا لاَ يَتِمُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِهِ مِنْ
التَّفَرُّقِ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَا بِشْرُ بْنُ
عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ، عَنْ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ تَحَاكَمَا إلَيْهِ فِي دَارٍ كَانَتْ لِلْعَبَّاسِ إلَى جَانِبِ
الْمَسْجِدِ أَرَادَ عُمَرُ أَخْذَهَا لِيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَبَى
الْعَبَّاسُ، فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ لَهُمَا: لَمَّا أَمَرَ سُلَيْمَانُ
بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ أَرْضُهُ لِرَجُلٍ فَاشْتَرَاهَا
سُلَيْمَانُ مِنْهُ، فَلَمَّا اشْتَرَاهَا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: الَّذِي أَخَذْت
مِنِّي خَيْرٌ أَمْ الَّذِي أَعْطَيْتنِي قَالَ سُلَيْمَانُ: بَلْ الَّذِي أَخَذْت
مِنْك قَالَ: فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ الْبَيْعَ فَرَدَّهُ، فَزَادَهُ، ثُمَّ
سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيزَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا
أُبَيٌّ يُورِدُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ بِهِ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسِ، رضي الله عنهم، فَيُصَوِّبَانِ قَوْلَهُ فَهَؤُلاَءِ
عُمَرُ، وَابْنُهُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأُبَيٌّ،
وَجَرِيرٍ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، يَرَوْنَ
رَدَّ الْبَيْعِ مِنْ الْخَدِيعَةِ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ، عَنْ قِيمَةِ
الْمَبِيعِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّهُ رَدَّ الْبَيْعَ مِنْ الْغَلَطِ،
وَلَمْ يَرُدَّهُ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ: الْبَيْعُ خُدْعَةٌ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَقْوَالِ الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا
فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ الْبَيْعَ مِنْ الْعَيْبِ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ يُوجَدُ
فِيهِ ; لأََنَّهُ عِنْدَهُمْ غِشٌّ، ثُمَّ يُجِيزُونَ الْبَيْعَ وَقَدْ غَشَّ
فِيهِ بِأَعْظَمِ الْغِشِّ، وَأَخَذَ فِيهِ مِنْهُ، أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، هَذَا
عَجَبٌ جِدًّا وَتَنَاقُضٌ سَمْجٍ. وَعَجَبٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ
الْبَيْعَ مِنْ الْعَيْبِ يُوجَدُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي
بِقِيمَتِهِ مُعَيَّنًا، وَلاَ يَرُدُّونَ الْبَيْعَ إذَا غُبِنَ الْبَائِعُ فِيهِ
الْغَبْنَ الْعَظِيمَ، فَلاَ نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذِهِ
الْعِنَايَةُ بِالْمُشْتَرِي وَهَذَا الْحَنَقُ عَلَى الْبَائِعِ، إنَّ هَذَا
لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ وَعَجَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ نَعْنِي
الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ يَحْجُرُونَ عَلَى الَّذِي يَخْدَعُ فِي
الْبُيُوعِ حَتَّى يَمْنَعُوهُ مِنْ الْعِتْقِ، وَالصَّدَقَةِ، وَمِنْ الْبَيْعِ
الصَّحِيحِ الَّذِي لاَ غَبْنَ فِيهِ وَيَرُدُّونَ كُلَّ ذَلِكَ، وَهُمْ يُنَفِّذُونَ
مَعَ ذَلِكَ تِلْكَ الْبُيُوعَ الَّتِي غُبِنَ فِيهَا، وَلاَ يَرُدُّونَهَا،
فَلَئِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوعُ الَّتِي خُدِعَ فِيهَا حَقًّا وَجَائِزَةً
فَلأََيِّ مَعْنًى حَجَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهَا وَهِيَ حَقٌّ وَصَحِيحَةٌ
وَلَئِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوعُ الَّتِي خُدِعَ فِيهَا بَاطِلاً وَغَيْرَ
جَائِزَةٍ فَلأََيِّ مَعْنًى يُجِيزُونَهَا، إنَّ هَذِهِ لِطَوَامُّ فَاحِشَةٍ،
وَتَخْلِيطٌ سَمْجٌ، وَخِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ ذُكِرَ لَهُ مُنْقِذٌ، وَأَنَّهُ يُخْدَعُ فِي
الْبُيُوعِ فَلَمْ يَحْجُرْ
(8/441)
عَلَيْهِ، لَكِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: " لاَ خِلاَبَةَ " عِنْدَ الْبَيْعِ، وَجَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ ثَلاَثًا فِي إنْفَاذِ الْبَيْعِ أَوْ رَدِّهِ، فَأَبْطَلَ عليه السلام: الْخِلاَبَةَ وَأَنْفَذَ بُيُوعَهُ الصِّحَاحَ وَاَلَّتِي يَخْتَارُ إنْفَاذَهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَهَذَا عَكْسُ كُلِّ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
(8/442)
1465
- مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ غَبَنَ فِي بَيْعٍ اُشْتُرِطَ فِيهِ السَّلاَمَةُ فَهُوَ
بَيْعٌ مَفْسُوخٌ ;
لأََنَّ بَيْعَ الْغِشِّ بِيَقِينٍ هُوَ غَيْرُ بَيْعِ السَّلاَمَةِ الَّذِي لاَ
غِشَّ فِيهِ، هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ
فَالْبَيْعُ الْمُنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي عَقَدَ
عَلَيْهِ مُشْتَرِطُ السَّلاَمَةِ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُلْزَمَ غَيْرَ مَا عَقَدَ
عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ
بَيْعَهُ الَّذِي تَرَاضَى بِهِ، لأََنَّ مَالَ الآخَرِ حَرَامٌ عَلَيْهِ إِلاَّ
مَا تَرَاضَى مَعَهُ، وَكَذَلِكَ مَالُهُ عَلَى الآخَرِ أَيْضًا. وَأَمَّا إذَا
عَلِمَ بِقَدْرِ الْغَبْنِ كِلاَهُمَا، وَتَرَاضَيَا جَمِيعًا بِهِ، فَهُوَ عَقْدٌ
صَحِيحٌ، وَتِجَارَةٌ، عَنْ تَرَاضٍ، وَبَيْعٌ لاَ دَاخِلَةَ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا
لَمْ يَعْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِقَدْرِ الْغَبْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطَا
السَّلاَمَةَ، وَلاَ أَحَدُهُمَا فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا عَرَفَ فِي رَدٍّ أَوْ
إمْسَاكٍ; لأََنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ سَالِمًا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَهُوَ بَيْعٌ
صَحِيحٌ. ثُمَّ وَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ الْخِيَارَ
لِمَنْ قَالَ: " لاَ خِلاَبَةَ ثَلاَثًا " إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ
شَاءَ رَدَّ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَحِلَّ مَا تَزَيَّدَ فِيهِ الْخَادِعُ عَلَى
الْمَخْدُوعِ إِلاَّ بِعِلْمِ الْمَخْدُوعِ وَطِيبِ نَفْسِهِ، فَإِنْ رَضِيَ
بِتَرْكِ حَقِّهِ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ مَا
ابْتَاعَ بِغَيْرِ رِضَى الْبَائِعِ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَقَدْ صَحَّ
الإِجْمَاعُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّدَّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ:
هَلْ لَهُ الإِمْسَاكُ أَمْ لاَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ. فَصَحَّ أَنَّهُ إذَا رَضِيَ مَا
ابْتَاعَ فَذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْقِيمَةُ قِيمَتَانِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَقَدْ كَانَ التُّجَّارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَبِيعُونَ مَا يَشْتَرُونَ طَلَبَ الرِّبْحِ، هَذَا أَمْرٌ
مُتَيَقَّنٌ، فَقِيمَةٌ يَبْتَاعُ بِهَا التُّجَّارُ السِّلَعَ لاَ
يَتَجَاوَزُونَهَا إِلاَّ لِعِلَّةٍ، وَقِيمَةٌ يَبِيعُ بِهَا التُّجَّارُ
السِّلَعَ لاَ يَحُطُّونَ عَنْهَا، وَلاَ يَتَجَاوَزُونَهَا إِلاَّ لِعِلَّةٍ ;
فَهَاتَانِ الْقِيمَتَانِ تُرَاعَيَانِ لِكُلِّ قِيمَةٍ فِي حَالِهَا.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا فِي إبْطَالِهِمْ الْبَيْعَ بِأَكْثَرَ
مِمَّا يُسَاوِي وَإِنْ عَلِمَا جَمِيعًا بِذَلِكَ وَتَرَاضَيَا بِهِ بِأَنْ
قَالُوا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ،
قَالُوا: وَالْمُشْتَرِي الشَّيْءَ، بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْبَائِعُ لَهُ
بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ كِلاَهُمَا مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ. قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ
إخْرَاجُ الْمَالِ، عَنِ الْمِلْكِ إِلاَّ بِعِوَضِ أَجْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ أَفْضَلُ عِوَضٍ، وَأَمَّا بِعِوَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا كَعَمَلٍ
فِي الإِجَارَةِ، أَوْ عَرَضٍ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ مِلْكِ بُضْعٍ فِي
(8/442)
النِّكَاحِ،
أَوْ انْحِلاَلِ مِلْكِهِ فِي الْخُلْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ
النُّصُوصُ. قَالُوا: وَمَنْ بَاعَ ثَمَرَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، أَوْ يَاقُوتَةً
بِفَلْسٍ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالسَّرَفُ، وَبَسْطُ الْيَدِ كُلَّ
الْبَسْطِ، وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ
غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
قال أبو محمد: فَنَقُولُ لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّ الَّذِي
قُلْتُمْ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لاَ يَعْلَمُ بِقَدْرِهِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ بِقَدْرِ
الْغَبْنِ وَطَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ فَهُوَ بِرٌّ بِرَّ بِهِ مُعَامَلَةً بِطِيبِ
نَفْسِهِ، فَهُوَ مَأْجُورٌ; لأََنَّهُ فَعَلَ خَيْرًا، وَأَحْسَنَ إلَى إنْسَانٍ،
وَتَرَكَ لَهُ مَالاً، أَوْ أَعْطَاهُ مَالاً، وَلَيْسَ التَّبْذِيرُ،
وَالسَّرَفُ، وَإِضَاعَةُ الْمَالِ، وَأَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ مَا حَرَّمَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي: "كِتَابِ الْحَجْرِ"
مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَأَمَّا التِّجَارَةُ، عَنْ تَرَاضٍ فَمَا حَرَّمَهَا
اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ، بَلْ أَبَاحَهَا.
قال أبو محمد: وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالزِّيَادَةِ فِي
الشِّرَاءِ مَا أَبْقَى غِنًى ; لأََنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَقَالَ صلى الله
عليه وسلم : الصَّدَقَةُ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى . وَأَمَّا مَا لَمْ يُبْقِ غِنًى
فَمَرْدُودٌ لاَ يَحِلُّ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ
عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ .
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو كَامِلٍ هُوَ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ
أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ أَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَتَخَلَّفَ نَاضِحِي ; فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَمَا
زَالَ يَزِيدُنِي وَيَقُولُ: وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ .
قال أبو محمد : فَلاَ يَخْلُو أَوَّلُ عَطَاءٍ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِي الْجَمَلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ قِيمَةَ الْجَمَلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ
قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَ قِيمَتَهُ فَقَدْ زَادَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا جَوَازُ الْبَيْعِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ،
عَنْ رِضَاهُمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ أَعْطَاهُ أَوَّلاً أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ
أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا وَهُوَ عليه السلام لاَ يَسُومُ بِمَا لاَ
يَحِلُّ، وَلاَ يَخْدَعُ، وَلاَ يَغُرُّ، وَلاَ يَغُشُّ فَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام: لاَ يَسُمْ أَحَدُكُمْ
عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فِيهِ إبَاحَةُ الْمُسَاوِمَةِ، وَهِيَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ
يَدْرِي اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدُهُمَا
ثَمَنًا يُعْطِيهِ الآخَرُ أَقَلَّ فَلَوْ كَانَ إعْطَاءُ أَقَلِّ مِنْ الْقِيمَةِ
أَوْ طَلَبُ أَكْثَرِ مِنْهَا طَلَبًا بَاطِلاً لَمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا عَرَفَاهُ
وَعَرَفَا مِقْدَارَهُ وَتَرَاضَيَا مَعًا بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ خَدِيعَةً، وَلاَ
غِشًّا. وَكَذَلِكَ مَا جَعَلَ عليه السلام لِمُنْقِذٍ مِنْ الْخِيَارِ فِي رَدِّ
الْبَيْعِ أَوْ إمْضَائِهِ وَكَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فِيهِ إجَازَةُ
الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْخَدِيعَةِ إذَا رَضِيَهَا الْمَخْدُوعُ وَعَرَفَهَا.
وَكَذَلِكَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ
(8/443)
ابْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ،
عَنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ فَقَالَ: إذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ
فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا،
وَلَوْ بِضَفِيرٍ أَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ فَأَبَاحَ عليه السلام بَيْعَهَا
بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ إذَا رَضِيَ بَائِعُهَا بِذَلِكَ. وَقَدْ أَجَازَ
أَصْحَابُنَا الَّذِي أَنْكَرُوا هَهُنَا فِي حَسَّ مَسَّ إذْ أَجَازُوا بَيْعَ
عَبْدٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَاشْتِرَاطَ مَالٍ وَهُوَ أَنَّهُ عَشَرَةُ آلاَفِ
دِينَارٍ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ أَصْلاً، وَكَيْفَ يُنْكِرُونَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَدْ أَبَاحَهُ جُمْلَةً وَهَذَا أَخْذُ مَالٍ بِغَيْرِ صَدَقَةٍ،
وَلاَ عِوَضٍ.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ مُتَعَلَّقٌ لِمَنْ
أَجَازَ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ الْخَدِيعَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَالْغِشُّ
الْمُحَرَّمُ مِنْ الْغَبْنِ الَّذِي لاَ يَدْرِيهِ الْمَغْبُونُ. لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا فِيهَا جَوَازُ ذَلِكَ
إذَا عَلِمَهُ الرَّاضِي بِهِ فِي بَيْعِهِ فَقَطْ، وَلاَ يَجُوزُ الرِّضَا
بِمَجْهُولٍ أَصْلاً ; لأََنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْجِبِلَّةِ، مُحَالٌ فِي
الْخِلْقَةِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمَرْءُ: رَضِيت رَضِيت، فِيمَا لاَ يَعْلَمُ
قَدْرَهُ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَهُ أَصْلاً، هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ
فِي كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجَّ الْمَذْكُورُونَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا بَعَثَ مَنْ يَبْتَاعُ لَهُ سِلْعَةً: ارْثِمْ
أَنْفَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ
الأُُوَيْسِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ
قَالَ: وَدِدْت أَنِّي لاَ أَبِيعُ شَيْئًا، وَلاَ أَبْتَاعُهُ إِلاَّ بَطَحْت
بِصَاحِبِهِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: الْبَيْعُ
خُدْعَةٌ
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَابْنُ حَبِيبٍ مَتْرُوكٌ، ثُمَّ هُوَ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ بَلاَغٌ كَاذِبٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا فَهِمَ مِنْهُ أَحَدٌ
إبَاحَةَ غَبْنٍ، وَلاَ خَدِيعَةٍ، إنَّمَا مَعْنَى ارْثِمْ أَنْفَهُ خُذْ
أَفْضَلَ مَا عِنْدَهُ وَهَذَا مُبَاحٌ إذَا تَرَاضَيَا بِذَلِكَ، وَأَعْطَاهُ
إيَّاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ لاَ شَيْءَ وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَسُجُودِهِ فِي {إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَإِبَاحَتِهِ
بَيْعَ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُصَادَ، وَعَشَرَاتٍ مِنْ
الْقَضَايَا، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ مَا صَحَّ عَنْهُ لَيْسَ حُجَّةً
وَمَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حُجَّةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاَلَّذِي جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ هُوَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ
الْجُعْفِيِّ، وَقَدْ خَالَفَهُ الْقَاسِمُ، وَغَيْرُهُ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(8/444)
1466
- مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، وَلَا إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ
كَالْحَصَادِ، وَالْجِدَادِ، وَالْعَطَاءِ، وَالزَّرِيعَةِ، وَالْعَصِيرِ، وَمَا
أَشْبَهَ هَذَا
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
(8/444)
وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا يَتَقَدَّمُ بِالأَُيَّامِ
وَيَتَأَخَّرُ فَالْحَصَادُ، وَالْجِدَادُ، يَتَأَخَّرَانِ أَيَّامًا إنْ كَانَ
الْمَطَرُ مُتَوَاتِرًا، وَيَتَقَدَّمَانِ بِحَرِّ الْهَوَاءِ وَعَدَمِ الْمَطَرِ،
وَكَذَلِكَ الْعَصِيرُ، وَأَمَّا الزَّرِيعَةُ فَتَتَأَخَّرُ شَهْرَيْنِ
وَأَكْثَرَ لِعَدَمِ الْمَطَرِ وَأَمَّا الْعَطَاءُ فَقَدْ يَنْقَطِعُ جُمْلَةً.
وَأَيْضًا: فَكُلُّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ،
وَإِنَّمَا يَجُوزُ الأَُجَلُ إلَى مَا لَا يَتَأَخَّرُ سَاعَةً وَلَا
يَتَقَدَّمُ، كَالشُّهُورِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ ; أَوْ كَطُلُوعِ
الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا، أَوْ طُلُوعِ الْقَمَرِ أَوْ غُرُوبِهِ، أَوْ طُلُوعِ
كَوْكَبٍ مُسَمًّى أَوْ غُرُوبِهِ، فَكُلُّ هَذَا مَحْدُودُ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ
يَعْرِفُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَُهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } حَاشَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَبِيعِ إلَى
الْمَيْسَرَةِ فَهُوَ حَقٌّ لِلنَّصِّ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ
تَعَالَى فِي كُلِّ مَنْ لَا يَجِدُ أَدَاءَ دَيْنِهِ . وَلَا يَجُوزُ الأَُجَلُ
إلَى صَوْمِ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودِ أَوْ فِطْرِهِمْ، وَلَا إلَى عِيدٍ مِنْ
أَعْيَادِهِمْ; لِأَنَّهَا مِنْ زِينَتِهِمْ وَلَعَلَّهُمْ سَيَبْدُو لَهُمْ
فِيهِمَا، فَهَذَا مُمْكِنٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الأَُجَلُ إلَّا
بِالأَُهِلَّةِ فَقَطْ وَذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ، وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ
اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَُرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فَعَمَّ تَعَالَى كُلَّ أَجَلٍ
مُسَمًّى وَلَمْ يَخُصَّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ زَائِدَةً عَلَى تَيْنِكَ
الآيَتَيْنِ، وَالزِّيَادَةُ لَا يَحِلُّ تَرْكُهَا، وَلَيْسَ فِي تَيْنِكَ
الآيَتَيْنِ مَنْعٌ مِنْ عَقْدِ الآجَالِ إلَى غَيْرِ الأَُهِلَّةِ وَلَا
إبَاحَةٌ، فَوَاجِبٌ طَلَبُ حُكْمِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ وُجِدَ مَا
يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ قِيلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا. وَأَبَاحَ مَالِكٌ الْبَيْعَ
إلَى الْعَطَاءِ فِيمَا خَلَا، قَالَ: وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ
الآنَ مَعْرُوفًا، وَكَانَ مَعْرُوفًا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ إلَى
الْحَصَادِ، وَالْجِدَادِ، وَالْعَصِيرِ . قَالَ: وَيُنْظَرُ إلَى عِظَمِ ذَلِكَ
وَكَثْرَتِهِ، لَا إلَى أَوَّلِهِ وَلَا إلَى آخِرِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَا نَعْلَمُ فِي الْجَهَالَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا
التَّحْدِيدِ وَلَا غَرَرَ أَعْظَمَ مِنْهُ. قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ تَبَايَعَ
النَّاسُ بِحَضْرَةِ عَمَّارٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إلَى
قُدُومِ الرَّاكِبِ فَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ ذَلِكَ، وَهُمْ
يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا، إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ، وَنَسَوْا فِي
هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجَهُمْ بِالأَُثَرِ الْوَارِدِ، " الْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ . وَمِنْ غَرَائِبِ احْتِجَاجِهِمْ أَنَّ كِلْتَا
الطَّائِفَتَيْنِ ذَكَرَتْ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
وَهْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ أُمِّ
يُونُسَ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَهَا أُمُّ مَحَبَّةَ
أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إنِّي بِعْت زَيْدَ
بْنَ أَرْقَمَ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاحْتَاجَ إلَى
الثَّمَنِ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ قَبْلَ مَحِلِّ الأَُجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا أَشَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت
(8/445)
أَبْلِغِي
زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إنْ لَمْ يَتُبْ فَقَالَتْ: أَرَأَيْت إنْ تَرَكْت وَأَخَذْت السِّتَّمِائَةِ؟
قَالَتْ: نَعَمْ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ} . فَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ: بِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ
الْمَذْكُورِ تَقْلِيدًا لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وَلَمْ
يُقَلِّدُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فِي جَوَازِهِ، وَقَالُوا: مِثْلُ هَذَا
الْقَوْلِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّ فِعْلَ زَيْدٍ لَا
يَكُونُ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ
مَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّوْقِيفَ فَلَيْسَتْ هِيَ أَوْلَى بِالْقَوْلِ مِنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَالْتَزَمَ الْحَنَفِيُّونَ هَذَا الِاحْتِجَاجَ فِي
الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ، وَلَمْ يَرْضَهُ الْمَالِكِيُّونَ فِيهِ؟ فَقُلْنَا
لَهُمْ: يَا هَؤُلَاءِ أَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ الْكَاذِبِ فِي
كُلِّ مَا تَرَكْتُمْ فِيهِ التَّوْقِيفَ الصَّرِيحَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ
بَيِّعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ يُخَيِّرَ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ
صَلَاحُهُ فَأَبَحْتُمُوهُ عَلَى الْقَطْعِ. وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ
فَأَبَحْتُمُوهُ وَسَائِرَ التَّوْقِيفَاتِ الثَّابِتَةِ ؟ فَهَانَ عَلَيْكُمْ
تَرْكُهَا لِآرَائِكُمْ الْمُجَرَّدَةِ، وَتَأْوِيلَاتِكُمْ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ
الْتَزَمْتُمْ الْقَوْلَ بِظَنٍّ كَاذِبٍ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ أَنَّ
هَهُنَا تَوْقِيفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَتْهُ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ تُبَلِّغْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ، عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَكْشُوفُ وَقَبِيحُ الْوَصْفِ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
رضي الله عنها. فَإِنْ قَالُوا: تَرَكْنَا دَلِيلَ النُّصُوصِ لِتَأْوِيلٍ
تَأَوَّلْنَاهُ وَاجْتِهَادٍ رَأَيْنَاهُ. فَقُلْنَا: وَمَنْ أَبَاحَ لَكُمْ
ذَلِكَ وَحَظَرَهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقُلَامَةُ ظُفُرِهِ وَاَللَّهِ
قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَهُ - خَيْرٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَكُلِّ مَنْ
اتَّبَعَهُمَا ؟ وَهُوَ الَّذِي صَدَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ،
وَحَتَّى لَوْ كَانَ هَهُنَا نَصٌّ ثَابِتٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَمَنْ أَحَقُّ
بِالتَّأْوِيلِ مِنْهُ فِي أَنْ يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ لَوْ أَخْطَأَ مُجْتَهِدًا
فِي خِلَافِ الْقُرْآنِ ؟ كَمَا تَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ لَا يَتَيَمَّمَ
الْجُنُبُ وَلَا يُصَلِّيَ وَلَوْ لَمْ يَجِدَ الْمَاءَ شَهْرًا. وَكَمَا
تَأَوَّلَ عُمَرُ إذْ خَطَبَ فَمَنَعَ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ عَلَى خَمْسِمِائَةِ
دِرْهَمٍ، وَإِذْ أَعْلَنَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَمُتْ وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَكُونَ آخِرَنَا . وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله
عنها إنَّمَا قَالَتْ هَذَا الْقَوْلَ إنْ كَانَتْ قَالَتْهُ أَيْضًا فَلَمْ
يَرْوِ ذَلِكَ عَنْهَا مَنْ يَقُومُ بِنَقْلِهِ حُجَّةٌ . وَإِنَّ الْعَجَبَ
لَيَطُولُ مِمَّنْ رَدَّ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الْمُهَاجِرَةِ
الْمُبَايَعَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُلْزِمُ النَّاسَ
الْحُجَّةَ بِرِوَايَةِ أُمِّ يُونُسَ، وَأُمِّ مُحِبَّةَ، فَلَا أَكْثَرَ مِنْ
أُمِّ يُونُسَ، وَأُمِّ مُحِبَّةَ، لِرَأْيٍ رَأَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
خَالَفَهَا فِيهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَطَاءٍ، وَجَعْفَرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَشْتَرِي إلَى
الْعَطَاءِ، وَقَالَ جَعْفَرٌ عَنْ أَبِيهِ: إنَّ دِهْقَانًا بَعَثَ إلَى عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثَوْبَ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٍ بِالذَّهَبِ فَابْتَاعَهُ مِنْهُ
عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ إلَى الْعَطَاءِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، قَالَ
حَجَّاجٌ: وَكَانَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَبَايَعْنَ إلَى الْعَطَاءِ .
وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ: لَا
بَأْسَ بِالْبَيْعِ إلَى
(8/446)
الْعَطَاءِ وَعَنْ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ: اشْتَرَى مِنِّي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ طَعَامًا إلَى عَطَائِهِ. قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَذَا عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَنَاهِيك بِهِ ضَعْفًا، وَعَنْ جَابِرٍ وَهُوَ دُونَ حَجَّاجٍ بِدَرَجٍ، وَلَا أَدْرِي نُوحَ بْنَ أَبِي هِلَالٍ مَنْ هُوَ؟ وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِرِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي أَنَّ الْعُمْرَةَ تَطَوُّعٌ أَنْ يَحْتَجُّوا هَهُنَا بِرِوَايَتِهِ، وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُهُمْ إذْ قَلَّدُوا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا خَالَفَهَا فِيهِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنْ يُقَلِّدُوهَا هَهُنَا وَمَعَهَا صَوَاحِبُهَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلِيٌّ، وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَأَيْضًا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلَاعِبُونَ. قَالَ عَلِيٌّ: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُسْلِمُ إلَى عَصِيرٍ، وَلَا إلَى الْعَطَاءِ، وَلَا إلَى الأَُنْدَرِ يَعْنِي الْبَيْدَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَتِيقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَا تَبِعْ إلَى الْحَصَادِ، وَلَا إلَى الْجِدَادِ، وَلَا إلَى الدِّرَاسِ وَلَكِنْ سَمِّ شَهْرًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ الشِّرَاءَ إلَى الْعَطَاءِ، وَالْحَصَادِ، وَلَكِنْ يُسَمِّي شَهْرًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ كَرِهَ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ وَهُوَ قَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ.
(8/447)
لا
يحل لأحد أن يسوم على سوم آخر ولا أن يبيع على بيعه المسلم والذمي في ذلك سواء فإن
فعل فالبيع مفسوخ
...
1467 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَسُومَ عَلَى سَوْمِ آخَرَ،
وَلاَ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ الْمُسْلِمُ، وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ فَإِنْ
فَعَلَ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ،
فَإِنْ وَقَفَ سِلْعَتَهُ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ، أَوْ قَصَدَ الشِّرَاءَ مِمَّنْ
بَاعَهُ لاَ مِنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ مُحْتَاطًا لِنَفْسِهِ جَازَتْ
الْمُزَايَدَةُ حِينَئِذٍ هَذَا إذَا لَمْ يَبْتَدِ بِسَوْمٍ آخَرَ فَقَطْ، فَإِنْ
بَدَأَ بِمُسَاوِمَةِ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْمُشْتَرِي عَلَى
أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى
الْقِيمَةِ وَأَكْثَرَ حِينَئِذٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ الْبَائِعُ أَكْثَرَ
مِنْ الْقِيمَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَى الْقِيمَةِ أَصْلاً فَلِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ
أَنْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ بِقِيمَتِهَا وَبِأَقَلَّ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَأَبِي
الزِّنَادِ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَقَالَ نَافِعٌ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ
عُمَرَ، كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:
لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: " لاَيزيد
(8/447)
أَحَدُكُمْ
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ". قال علي: هذا خَبَرٌ مَعْنَاهُ الأَمْرُ ; لأََنَّهُ
لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ لَكَانَ كَذِبًا لِوُجُودِ خِلاَفِهِ، وَالْكَذِبُ
مَقْطُوعٌ بِبُعْدِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يُجِيزُهُ
عَلَيْهِ إِلاَّ كَافِرٌ حَلاَلٌ دَمُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ هُوَ السَّمَّانُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَسُمْ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ
الْمُسْلِمِ . قال علي: هذا بَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ
عُمَرَ ; لأََنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْبَيْعِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْمُ ضَرُورَةٌ ;
لأََنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بَعْدَ سَوْمٍ، وَلاَ
يَكُونُ السَّوْمُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ لِلْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ سَوْمًا،
فَإِذَا حَرُمَ الْبَيْعُ حَرُمَ السَّوْمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَرُمَ السَّوْمُ
حَرُمَ الْبَيْعُ ضَرُورَةً. وَلاَ يَجُوزُ السَّوْمُ بِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ
كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالسَّوْمِ فِيهِ، وَفِي الرِّبَا وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وقال مالك: إنَّمَا هَذَا إذَا رَكَنَا وَتَقَارَبَا وَهَذَا
تَفْسِيرٌ لاَ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ، فأما مَنْ أَوْقَفَ سِلْعَتَهُ
طَلَبَ الزِّيَادَةِ فِيهِ أَوْ طَلَبَ بَيْعٍ يَسْتَرْخِصُهُ فَلَيْسَ مُسَاوِمًا
لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ هَذَا النَّهْيُ، وَأَمَّا مَنْ رَأَى
الْمُسَاوِمَ أَوْ الْمُبَايِعَ لاَ يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَى الْقِيمَةِ، لَكِنْ
يُرِيدُ غَبْنَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَذَا فَرْضٌ عَلَيْهِ نَصِيحَةُ
الْمُسْلِمِ، فَقَدْ خَرَجَ، عَنْ هَذَا النَّهْيِ أَيْضًا بِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الدِّينُ النَّصِيحَةُ . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، عَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامٍ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ شَهِدْت عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ بَاعَ إبِلاً مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ فِيمَنْ يَزِيدُ. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخِطْمِيِّ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ بَاعَ الْمَغَانِمَ فِيمَنْ يَزِيدُ وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الأَخْضَرِ
بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ حِلْسًا
وَقَدَحًا فِيمَنْ يَزِيدُ .
(8/448)
لا
يحل النجش في البيع وتفسيره
...
1468 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ النَّجْشُ
وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الْبَيْعَ فَيَنْتَدِبُ إنْسَانًا لِلزِّيَادَةِ فِي
الْبَيْعِ، وَهُوَ لاَ يُرِيدُ الشِّرَاءَ لَكِنْ لِيَغْتَرَّ غَيْرُهُ فَيَزِيدُ
بِزِيَادَتِهِ فَهَذَا بَيْعٌ إذَا وَقَعَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْقِيمَةِ
فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، وَإِنَّمَا الْعَاصِي وَالْمَنْهِيُّ هُوَ
النَّاجِشُ، وَكَذَلِكَ رِضَا الْبَائِعِ إنْ رَضِيَ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ غَيْرُ
النَّجْشِ وَغَيْرُ الرِّضَا بِالنَّجْشِ، وَإِذْ هُوَ غَيْرُهُمَا فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُفْسَخَ بَيْعٌ صَحَّ بِفَسَادِ شَيْءٍ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ
قَطُّ، عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَنْجُشُ فِيهِ النَّاجِشُ، بَلْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
نَهَى، عَنِ النَّجْشِ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ مُهَاجِرٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ عُبَيْدَ بْنَ مُسْلِمٍ يَبِيعُ السَّبْيَ فَلَمَّا فَرَغَ أَتَى
عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: إنَّ الْبَيْعَ كَانَ كَاسِدًا لَوْلاَ أَنِّي كُنْت أَزِيدُ
عَلَيْهِمْ وَأُنَفِّقُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كُنْت تَزِيدُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ
تُرِيدُ أَنْ
(8/448)
تَشْتَرِيَ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا نَجْشٌ، وَالنَّجْشُ لاَ يَحِلُّ، ابْعَثْ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَنَّ الْبَيْعَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ النَّجْشَ لاَ يَحِلُّ.
(8/449)
لا
يحل لأحد تلق الجلب سواء خرج ذلك أو كان ساكنا على طريق الجلاب وسواء بعد موضع
تلقيه أم قرب
...
1469 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ تَلَقِّي الْجَلَبِ: سَوَاءٌ خَرَجَ
لِذَلِكَ أَوْ كَانَ سَاكِنًا عَلَى طَرِيقِ الْجَلَّابِ، وَسَوَاءٌ بَعُدَ
مَوْضِعُ تَلَقِّيهِ أَمْ قَرُبَ
وَلَوْ أَنَّهُ عَلَى السُّوقِ عَلَى ذِرَاعٍ فَصَاعِدًا، لاَ لأَُضْحِيَّةٍ،
وَلاَ لِقُوتٍ، وَلاَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، أَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ أَوْ لَمْ
يَضُرَّ. فَمَنْ تَلَقَّى جَلَبًا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ فَاشْتَرَاهُ فَإِنَّ
الْجَالِبَ بِالْخِيَارِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ مَتَى مَا دَخَلَهُ وَلَوْ بَعْدَ
أَعْوَامٍ فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ، أَوْ رَدِّهِ، فَإِنْ رَدَّهُ حُكِمَ فِيهِ
بِالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِرَدِّ الْعَيْبِ لاَ فِي الْمَأْخُوذِ بِغَيْرِ
حَقٍّ، وَلاَ يَكُونُ رِضَا الْجَالِبِ إِلاَّ بِأَنْ يَلْفِظَ بِالرِّضَا، لاَ
بِأَنْ يَسْكُتَ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي
فَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ بَاقٍ، فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ
أَوْ يُمْضِيَ فَالْبَيْعُ تَامٌّ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ
هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ أَنَا أُبَيٌّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ
الأَسْوَاقَ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ التَّيْمِيِّ هُوَ سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى، عَنْ تَلَقِّي الْبُيُوعِ . وَرُوِّينَا نَحْوَهُ
مُسْنَدًا صَحِيحًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ أَيْضًا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: أَنَا هِشَامُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ، هُوَ
ابْنُ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تَلَقُّوا الْجَلَبَ فَمَنْ
تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبِي
تَوْبَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ فَإِنْ تَلَقَّاهُ
مُتَلَقٍّ فَاشْتَرَاهُ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ إذَا وَرَدَتْ
السُّوقَ .
قال أبو محمد: هَذَا نَقْلُ تَوَاتُرٍ، رَوَاهُ خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ،
وَرَوَاهُ عَنْهُمْ النَّاسُ وَبِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَهَى، عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ
فَمَنْ تَلَقَّى جَلَبًا فَاشْتَرَى مِنْهُ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إذَا وَقَعَ
السُّوقَ وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم، مُخَالِفٌ، لاَ سِيَّمَا هَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي
(8/449)
كَأَنَّهَا
الشَّمْسُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو هِلاَلٍ
أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُتَلَقَّى
الْجَلَبُ خَارِجَ الْبَلَدِ فَإِذَا تُلُقِّيَ الْجَلَبُ خَارِجًا مِنْ الْبَلَدِ
فَرَبُّ الْجَلَبِ بِالْخِيَارِ إذَا قَدِمَ إنْ شَاءَ بَاعَ وَإِنْ شَاءَ
أَمْسَكَ، وَهَذَا أَيْضًا نَصُّ قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ، عَنْ لَيْثٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ تَلَقُّوا الْبُيُوعَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ
إيَاسِ بْنِ دَغْفَلٍ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
لاَ تَلَقُّوا الرُّكْبَانَ. وَمِمَّنْ نَهَى، عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ
الْجَالِبِينَ جُمْلَةً: اللَّيْثُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابُهُمْ.
وقال الشافعي، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: بِإِيجَابِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا
قَدِمَ السُّوقَ وَنَهَى عَنْهُ الأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ
حَاجَةٌ. وَأَبَاحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ جُمْلَةً، إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ إنْ
أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ دُونَ أَنْ يَحْظُرَهُ، وَأَجَازَهُ بِكُلِّ
حَالٍ وَهَذَا خِلاَفٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَخِلاَفُ صَاحِبَيْنِ
لاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ
هَذَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَمَا نَعْلَمُ لأََبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا
الْقَوْلِ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ. وقال مالك: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلتِّجَارَةِ
خَاصَّةً، وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَوَاحِي الْمِصْرِ فَقَطْ، وَلاَ
بَأْسَ بِالتَّلَقِّي لأَبْتِيَاعِ الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ وَالأُُضْحِيَّةِ.
وَهَذِهِ تَقَاسِيمُ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ
نَعْلَمُهَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ أَصْلاً.
قال أبو محمد: وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخِيَارِ
لِلْبَائِعِ بَيَانٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنَّ لِلْبَائِعِ خِيَارًا فِي
رَدِّهِ أَوْ إمْضَائِهِ، وَالْخِيَارُ لاَ يَكُونُ أَلْبَتَّةَ، وَلاَ يَجُوزُ
إِلاَّ لِمَنْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ، وَمَنْ جَعَلَهُ
يُورَثُ فَقَدْ تَعَدَّى مَا حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ
الْخِيَارُ مَالاً يُورَثُ، وَلَوْ وُرِثَ لَكَانَ لأََهْلِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ
نُصِيبُهُمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تَلَقِّي السِّلَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
مَنْ تَلَقَّاهَا بِحَيْثُ لاَ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ إلَيْهِ، فَإِنْ تَلَقَّاهَا
بِحَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فَصَاعِدًا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ ; لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ برهان.
وَقَالَ اللَّيْثُ: يُنْزَعُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ
مَاتَ نُزِعَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَبِيعَتْ فِي السُّوقِ وَدُفِعَ ثَمَنُهَا إلَى
الْبَائِعِ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ بِمَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَتَلَقَّى
الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ . وَمِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَنَا أَبُو ضَمْرَةَ هُوَ
أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ أَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ
يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ
(8/450)
يُبَاعُ
الطَّعَامُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَيْمَنَ أَنَا هِشَامٌ أَنَا أَبُو صَالِحٍ
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الرُّكْبَانِ فَنَهَاهُمْ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي
ابْتَاعُوهُ فِيهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ إلَى سُوقِ الطَّعَامِ .
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِسِتَّةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا
أَنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا هُمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى
خَبَرًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَالَفَهُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى
تَفْسِيرٍ مَا فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فَسَّرَ، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي رَدِّ
الْخَبَرِ، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي هَذَا الْخَبَرِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ
الْفُتْيَا بِتَرْكِ التَّلَقِّي كَمَا وَرَدَ آنِفًا، وَالأَخْذُ بِمَا رُوِيَ
مِنْ النَّهْيِ، عَنِ التَّلَقِّي. وَثَانِيهَا أَنَّ هَذَيْنِ خَبَرَانِ هُمْ
أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَنَا فِيهِمَا، فَلاَ كَرَاهَةَ عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ
الطَّعَامِ حَيْثُ ابْتَاعَهُ، وَلاَ أَسْوَأَ طَرِيقَةً مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِحُجَّةٍ
هُوَ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لَهَا، وَمُخَالِفٍ لِمُوجِبِهَا. وَالثَّالِثُ أَنَّهُمَا
مُوَافِقَانِ لِقَوْلِنَا ; لأََنَّ مَعْنَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ هُوَ نَهْيٌ
لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَبْتَاعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ
بِهِ السُّوقَ، وَمَشْهُورٌ غَيْرُ مَنْكُورٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ "بِعْت
بِمَعْنَى ابْتَعْت" وَيُخَرَّجُ خَبَرُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَلَى هَذَا
أَيْضًا، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى الْبَائِعِينَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي
مَكَانِهِمْ الَّذِي ابْتَاعَهُ الْمُشْتَرُونَ مِنْهُمْ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ
لاَ دَاخِلَةَ فِيهِ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمَا نَصٌّ
عَلَى جَوَازِ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِمَا لَكَانَ النَّهْيُ نَاسِخًا،
وَلاَ بُدَّ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ; لأََنَّ التَّلَقِّي كَانَ مُبَاحًا بِلاَ
شَكٍّ قَبْلَ النَّهْيِ، فَكَانَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ مُوَافِقَيْنِ لِلْحَالِ
الْمُتَقَدِّمَةِ بِلاَ شَكٍّ، وَبِالْيَقِينِ يَدْرِي كُلُّ ذِي فَهْمٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ نَهَى، عَنِ التَّلَقِّي فَقَدْ بَطَلَتْ
الإِبَاحَةُ بِلاَ شَكٍّ، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَنُسِخَ
لَوْ صَحَّ فِيهِمَا إبَاحَةُ التَّلَقِّي، فَكَيْفَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيهِمَا
وَهَذَا برهان قَاطِعٌ لاَ مَحِيدَ عَنْهُ، وَمَنْ ادَّعَى عَوْدَ حُكْمٍ قَدْ
نُسِخَ فَقَدْ كَذَبَ، وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَادَّعَى عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ كَمَا أُمِرَ، وَأَنَّ
الدِّينَ مُخْتَلِطٌ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ حَرَامَهُ مِنْ حَلاَلِهِ مِنْ وَاجِبِهِ،
وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا. وَخَامِسُهَا أَنْ يُضَمَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ إلَى
أَخْبَارِ النَّهْيِ، فَيَكُونُ الْبَائِعُونَ تَخَيَّرُوا إمْضَاءَ الْبَيْعِ
فَأَمَرَ الْمُبْتَاعُونَ بِنَقْلِهِ حِينَئِذٍ إلَى السُّوقِ، فَتَتَّفِقُ
الأَخْبَارُ كُلُّهَا، وَلاَ تُحْمَلُ عَلَى التَّضَادِّ. وَسَادِسُهَا أَنَّنَا
رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ بِبَيَانٍ صَحِيحٍ رَافِعٍ لِلإِشْكَالِ مِنْ طَرِيقِ
مَنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ مِنْ جُوَيْرِيَةَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَهُ نَافِعٌ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى
السُّوقِ وَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ فَنَهَاهُمْ
(8/451)
النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا أُبَيٌّ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيُّ بْنُ
مُسْهِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ
مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ
نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَيْعَ
كَانَ فِي السُّوقِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي أَعْلاَهُ، وَفِي الْجُزَافِ خَاصَّةً
فَنُهِيَ الْمُشْتَرُونَ، عَنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ أَيْضًا بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ
طَرِيفٍ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً، عَنْ هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ،
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ: فَمَنْ اشْتَرَاهُ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
أَيْضًا.
قال أبو محمد : وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا بِهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْخَبِيثَةِ فِي
الإِيهَامِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ وَهُمْ لاَ يَأْتُونَ
بِشَيْءٍ لأََنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ بَاطِلٌ، وَلَوْ جَاءَ
بِهَذَا اللَّفْظِ لَكَانَ مُجْمَلاً تُفَسِّرُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْخِيَارَ
إنَّمَا هُوَ لِلْبَائِعِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ سِيرِينَ
فِي فُتْيَاهُمَا. ثُمَّ هَبْكَ لَوْ صَحَّ خِيَارٌ آخَرُ لِلْمُشْتَرِي فَأَيُّ
مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي هَذَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، فَلَوْ كَانَ هَهُنَا
حَيَاءٌ، أَوْ وَرَعٌ لَرَدَعَ، عَنِ التَّمْوِيهِ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا هُوَ
كُلُّهُ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّمَا أَمَرَ عليه السلام بِهَذَا
حِيَاطَةً لِلْجُلَّابِ دُونَ أَهْلِ الْحَضَرِ قَالَ عَلِيٌّ: وقال بعضهم: بَلْ
حِيَاطَةً عَلَى أَهْلِ الْحَضَرِ دُونَ الْجُلَّابِ.
قال أبو محمد: وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، وَمَا حِيَاطَةُ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم لأََهْلِ الْحَضَرِ إِلاَّ كَحِيَاطَتِهِ لِلْجُلَّابِ سَوَاءٌ
سَوَاءٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} . فَهُوَ عليه السلام ذُو رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا
وَصَفَهُ رَبُّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ
الْحَضَرِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْجَالِبِينَ، وَكُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ
فَكُلُّهُمْ فِي رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا الشَّرَائِعُ
يُوحِيهَا إلَيْهِ بَاعِثُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤَدِّيهَا كَمَا أُمِرَ، لاَ
يُبَدِّلُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلاَ يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى، وَلاَ
عِلَّةَ لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ إِلاَّ مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} {وَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ، {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}، وَمَا عَدَا هَذَا
فَبَاطِلٌ وَإِفْكٌ مُفْتَرًى. فإن قال قائل: فَمَا يَقُولُونَ: فِي خَبَرِ ابْنِ
عُمَرَ الْمَذْكُورِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَأَنْتُمْ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقَوْلِ
بِالسُّنَنِ قلنا: نَعَمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا، وَسَنَذْكُرُ الْحُكْمَ
الَّذِي فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ نَقْلِ الطَّعَامِ، عَنْ مَوْضِعِ ابْتِيَاعِهِ
وَأَنَّهُ فِي الْجُزَافِ خَاصَّةً بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَبَرٍ
آخَرَ. وَأَمَّا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي
(8/452)
ذَكَرْنَا هَهُنَا فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ بُدَّ إمَّا أَمْرٌ لِلْبَائِعِينَ وَهُمْ الرُّكْبَانُ الْجَالِبُونَ لَهُ، بِأَنْ نُهُوا، عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ هُنَالِكَ، وَنُهِيَ الْمُشْتَرُونَ، عَنِ التَّلَقِّي وَأَمَّا أَنَّهُ مَفْسُوخٌ بِالنَّهْيِ، عَنِ التَّلَقِّي أَوْ فِي الْجُزَافِ خَاصَّةً، كَمَا فِي خَبَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ، لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الأُُمُورِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/453)
لا
يجوز أن يتولى البيع ساكن مصر أو قرية أو مجشر لخصاص لا في البدو ولا في شيء يجلبه
الخصاص إلى الأسواق
...
1470 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ سَاكِنُ مِصْرٍ، أَوْ
قَرْيَةٍ، أَوْ مِجْشَرٍ لِخَصَّاصٍ لاَ فِي الْبَدْوِ، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِمَّا
يَجْلِبُهُ الْخَصَّاصُ إلَى الأَسْوَاقِ، وَالْمُدُنِ، وَالْقُرَى، أَصْلاً،
وَلاَ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا لاَ فِي حَضَرٍ، وَلاَ فِي بَدْوٍ،
فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ أَبَدًا، وَحُكِمَ فِيهِ بِحُكْمِ
الْغَصْبِ، وَلاَ خِيَارَ لأََحَدٍ فِي إمْضَائِهِ، وَلَكِنْ يَدَعُهُ يَبِيعُ
لِنَفْسِهِ، أَوْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعُ لَهُ خَصَّاصٌ مِثْلُهُ،
وَيَشْتَرِي لَهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَلْزَمُ السَّاكِنَ فِي الْمَدِينَةِ ; أَوْ
الْقَرْيَةِ، أَوْ الْمِجْشَرِ: أَنْ يَنْصَحَ لِلْخَصَّاصِ فِي شِرَائِهِ
وَبَيْعِهِ، وَيَدُلَّهُ عَلَى السُّوقِ، وَيُعَرِّفَهُ بِالأَسْعَارِ،
وَيُعِينَهُ عَلَى رَفْعِ سِلْعَتِهِ إنْ لَمْ يُرِدْ بَيْعَهَا وَعَلَى رَفْعِ
مَا يَشْتَرِي. وَجَائِزٌ لِلْخَصَّاصِ أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ
لِسَاكِنِ الْمِصْرِ، وَالْقَرْيَةِ، وَالْمِجْشَرِ وَجَائِزٌ لِسَاكِنِ
الْمِصْرِ، وَالْقَرْيَةِ، وَالْمِجْشَرِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِمَنْ هُوَ
سَاكِنٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ
أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ
لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ أَوْ أَبَاهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتَلَقَّى
الرُّكْبَانُ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ . قَالَ طَاوُوس: فَقُلْت لأَبْنِ
عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَا
حَجَّاجٌ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو
الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ
يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَنَا شَبَابَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْخَيَّاطُ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
حَاضِرٍ لِبَادٍ. فَهَذَا نَقْلُ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالطُّرُقِ
الثَّابِتَةِ، فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ، وَبِهِ تَأْخُذُ الصَّحَابَةُ، رضي الله
عنهم، كَمَا رُوِّينَا آنِفًا ابْنُ عَبَّاسٍ مُفَسِّرًا مُبَيِّنًا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ،
(8/453)
عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ: كَانَ
الْمُهَاجِرُونَ يَكْرَهُونَ بَيْعَ حَاضِرٍ لِبَادٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَإِنِّي
لاََفْعَلُهُ. قال أبو محمد: الأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ
الشَّعْبِيِّ، "وَإِنِّي لاََفْعَلُهُ" أَيْ إنِّي أَكْرَهُهُ كَمَا
كَرِهُوهُ: وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْخَيَّاطِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَنْهَى
أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْخَيَّاطِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: نُهِيَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَسُمِعَ عُمَرُ يَقُولُ: لاَ
يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: دُلُّوهُمْ عَلَى السُّوقِ، دُلُّوهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ،
وَأَخْبِرُوهُمْ بِالسِّعْرِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد سَمِعْت حَفْصَ بْنَ
عُمَرَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو هِلاَلٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَهِيَ
كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لاَ يَبِيعُ لَهُ شَيْئًا، وَلاَ يَبْتَاعُ لَهُ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ
لِبَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَالِمٍ الْمَالِكِيِّ: أَنَّ
أَعْرَابِيًّا حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدِمَ بِجَلُوبَةٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ
لَهُ طَلْحَةُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ
لِبَادٍ، وَلَكِنْ اذْهَبْ إلَى السُّوقِ فَانْظُرْ مَنْ بَايَعَكَ فَشَاوِرْنِي
حَتَّى آمُرَكَ أَوْ أَنْهَاكَ.
فَهَؤُلاَءِ الْمُهَاجِرُونَ جُمْلَةٌ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَنَسٌ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَطَلْحَةُ، لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. وَرُوِّينَا، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ خِلاَفَهُ. رُوِّينَا، عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَشْتَرِي مِنْ الأَعْرَابِيِّ
لِلأَعْرَابِيِّ، قِيلَ لَهُ: فَيُشْتَرَى مِنْهُ لِلْمُهَاجِرِ قَالَ لاَ. وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَبُو حُرَّةَ سَمِعْت الْحَسَنَ
يَقُولُ: اشْتَرِ لِلْبَدْوِيِّ، وَلاَ تَبِعْ لَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ إيَاسِ بْنِ دَغْفَلٍ:
قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ
لِبَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، لأََنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ
مَنْ غُرَّتهمْ، فأما الْيَوْمَ فَلاَ بَأْسَ وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ يَصْلُحُ
الْيَوْمَ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: قَوْمٌ
مِنْ الأَعْرَابِ يَقْدَمُونَ عَلَيْنَا أَفَنَشْتَرِي لَهُمْ قَالَ: لاَ بَأْسَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُصِيبُوا
(8/454)
مِنْ
الأَعْرَابِ رُخْصَةً وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَمَالِكٍ،
وَاللَّيْثِ. قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: لاَ يَبِيعُ لَهُ، وَلَكِنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ،
وَلَيْسَتْ الإِشَارَةُ بَيْعًا إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إنْ وَقَعَ
الْبَيْعُ لَمْ يُفْسَخْ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَمَالِكٌ: لاَ يُشِيرُ عَلَيْهِ.
وقال مالك: لاَ يَبِيعُ الْحَاضِرُ أَيْضًا لأََهْلِ الْقُرَى، وَلاَ بَأْسَ
بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي إنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ لَهُ
فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: لاَ يَبِعْ مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ، وَلاَ مِصْرِيٌّ
لِمَدَنِيٍّ، وَلَكِنْ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ
وَيُخْبِرُهُ بِالسِّعْرِ. وقال أبو حنيفة: يَبِيعُ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي، لاَ
بَأْسَ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد : أَمَّا فَسْخُنَا لِلْبَيْعِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ مُحَرَّمٌ مِنْ
إنْسَانٍ مَنْهِيٍّ، عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . وَنَاقَضَ
الشَّافِعِيُّ هَهُنَا، إذْ لَمْ يُبْطِلْ هَذَا الْبَيْعَ، وَأَبْطَلَ سَائِرَ
الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِلاَ دَلِيلٍ مُفَرِّقٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ:
إنَّ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ لِيُصَابَ غُرَّةٌ مِنْ الْبَدْرِيِّ، وَأَنَّهُ
نَظَرَ لِلْحَاضِرَةِ، فَبَاطِلٌ وَحَاشَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْ هَذَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَبُّهُ تَعَالَى {بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَأَهْلُ الْبَدْوِ مُؤْمِنُونَ كَأَهْلِ الْحَضَرِ، فَنَظَرُهُ
وَحِيَاطَتُهُ عليه السلام لِلْجَمِيعِ سَوَاءٌ، وَيَبْطُلُ هَذَا التَّأْوِيلُ
الْفَاسِدُ مِنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ نَظَرًا لأََهْلِ
الْحَضَرِ لَجَازَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَبِيعَ لِلْبَادِي مِنْ الْبَادِي، وَأَنْ
يَشْتَرِيَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ لاَ يَجُوزُ: فَصَحَّ أَنَّ
هَذِهِ عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّهُ لاَ عِلَّةَ لِذَلِكَ أَصْلاً إِلاَّ
الأَنْقِيَادُ لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ مِنْ جِهَاتٍ: أَمَّا تَفْرِيقُهُ بَيْنَ
الْبَيْعِ لِلْبَادِي فَمَنَعَ مِنْهُ، وَبَيْنَ الشِّرَاءِ لَهُ فَأَبَاحَهُ:
فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ ; لأََنَّ لَفْظَهُ "لاَ يَبِعْ" يَقْتَضِي أَنْ لاَ
يَشْتَرِيَ لَهُ أَيْضًا، كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي
اللُّغَةِ وَفِي الدِّينِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بِعْت بِمَعْنَى اشْتَرَيْت،
قَوْلاً مُطْلَقًا، وَإِذَا اشْتَرَى لَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ بَاعَ مِنْ ذَلِكَ
الْغَيْرِ لَهُ يَقِينًا بِلاَ تَكَلُّفٍ ضَرُورَةً، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى
{فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} . فَحَرَّمُوا الشِّرَاءَ كَمَا
حَرَّمُوا الْبَيْعَ وَأَحَلُّوا هَهُنَا الشِّرَاءَ لَهُ وَحَرَّمُوا الْبَيْعَ
لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ "لاَ يَبِعْ لأََهْلِ الْقُرَى" فَخَطَأٌ
; لأََنَّ اسْمَ الْبَادِي لاَ يَقَعُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى سَاكِنٍ فِي
الْمُدُنِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى أَهْلِ الأَخْبِيَةِ،
وَالْخُصُوصِ، الْمُنْتَجِعِينَ مَوَاقِعَ الْقَطْرِ لِلرَّعْيِ فَقَطْ. وَأَمَّا
تَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ
الْمُدُنِ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْقُرَى، فَخَطَأٌ ثَالِثٌ بِلاَ دَلِيلٍ
أَصْلاً. وَأَمَّا قَوْلُهُ لاَ يَبِعْ مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ، وَلاَ مِصْرِيٌّ
لِمَدَنِيٍّ فَخَطَأٌ رَابِعٌ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلاَ نَعْلَمُ
أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ. وَإِنَّمَا تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمَدَنِيِّ،
وَالْمِصْرِيِّ، فَرَأَى أَنْ يُشِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ،
وَلاَ يَبِيعَ لَهُ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يُشِيرَ
(8/455)
حَاضِرٌ
عَلَى أَعْرَابِيٍّ، وَلاَ يَبِيعَ لَهُ: فَخَطَأٌ خَامِسٌ بِلاَ دَلِيلٍ فَهَذِهِ
وُجُوهٌ خَمْسَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ
شَيْءٍ مِنْهَا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ
أَحَدٍ قَبْلَهُ لاَ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لاَ يُشِيرُ
الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي
بَعْضِ هَذِهِ الأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً، وَلاَ فِي هَذَا
اللَّفْظِ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ الْمَيْلِ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ، لاَ نَصَّ،
وَلاَ أَثَرَ، وَلاَ شُبْهَةَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ; لأََنَّهُ عليه السلام
لَمْ يَقُلْ: دَعُوا الْحَاضِرِينَ يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَادِيَةِ، إنَّمَا قَالَ: دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ
بَعْضٍ وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْ النَّاسِ كَمَا أَهْلُ الْحَضَرِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ،
وَلاَ فَرْقَ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْبَادِي
مِنْ الْحَاضِرِ، وَلِلْبَادِي مِنْ الْبَادِي، وَلِلْحَاضِرِ مِنْ الْبَادِي،
وَلِلْحَاضِرِ مِنْ الْحَاضِرِ: دُخُولاً مُسْتَوِيًا، لاَ مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ مِنْهُ: فَبَطَلَ ذَلِكَ الظَّنُّ الْكَاذِبُ،
وَلاَ يَحِلُّ مِنْ بَيْعِ الْبَادِي وَالْحَاضِرِ إِلاَّ مَا يَحِلُّ مِنْ بَيْعِ
الْحَاضِرِ لِلْحَاضِرِ، وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا نَهَى، عَنْ أَنْ
يَبِيعَ لَهُ، قِسْنَا عَلَى ذَلِكَ أَنْ لاَ يُشِيرَ عَلَيْهِ قلنا: الْقِيَاسُ
كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; لأََنَّكُمْ
تَرَكْتُمْ أَنْ تَمْنَعُوا مِنْ الشِّرَاءِ لَهُ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ لَهُ،
وَهُوَ بَيْعٌ مِثْلُهُ، وَقِسْتُمْ الإِشَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ وَلَيْسَتْ
مِنْهُ فِي وِرْدٍ، وَلاَ صَدَرٍ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ
شَاوَرَ آخَرَ بَعْدَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ فِي بَيْعٍ فَأَشَارَ عَلَيْهِ لَمْ
يُحْرَجْ، وَلاَ أَتَى مَكْرُوهًا، وَلَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لَعَصَى اللَّهَ
تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَبِيعَ فَأَشَارَ فِي أَمْرِ بَيْعٍ لَمْ
يَحْنَثْ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الدِّينُ
النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِلأَئِمَّةِ وَلِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ وَالْبَادِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالنُّصْحِيَّةُ لَهُ فَرْضٌ
وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ لاَ يُشَارَ عَلَيْهِ لَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ
كَمَا نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ
ذَكَرْنَا النَّصِيحَةَ لِلْبَادِي آنِفًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَإِذَا اسْتَنْصَحَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ . وَأَمَّا أَبُو
حَنِيفَةَ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَطْوِيلٍ لَكِنْ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي نَهْيِهِ، عَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِنَقْلِ
التَّوَاتُرِ. وَخَالَفَ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
دُونَ أَنْ يُعْرَفَ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِأَقَلَّ
مِنْ هَذَا.
(8/456)
فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَرُدُّ هَذِهِ الآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ الْمُتَظَاهِرَةَ الصِّحَاحَ مِنْ السُّنَنِ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ يُقَلِّدُ آثَارًا وَاهِيَةً مَكْذُوبَةً فِي جُعْلِ الآبِقِ فَلاَ يُعَلِّلُهَا، وَلاَ يَتَأَوَّلُ فِيهَا هَذَا وَهُمْ يُطْلِقُونَ فِي أُصُولِهِمْ أَنَّ الأَثَرَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ النَّظَرِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
(8/457)
إن
كان في حائط أنواع من الثمار فظهر صلاح شيء منها في صنف دون سائر أصنافه جاز بيع
كل ما ظهر من أصناف ثمار ذلك الحائط
...
1471 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ كَانَ فِي حَائِطٍ أَنْوَاعٌ مِنْ الثِّمَارِ مِنْ
الْكُمَّثْرَى، وَالتُّفَّاحِ، وَالْخَوْخِ، وَسَائِرِ الثِّمَارِ، فَظَهَرَ
صَلاَحُ شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ صِنْفٍ دُونَ سَائِرِ أَصْنَافِهِ: جَازَ بَيْعُ
كُلِّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَصْنَافِ ثِمَارِ ذَلِكَ الْحَائِطِ،
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطِبْ بَعْدُ إذَا بِيعَ كُلُّ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً،
فَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهُ صَفْقَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ فِيهِ
شَيْءٌ مِنْ الصَّلاَحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَدَا صَلاَحُ ذَلِكَ الصِّنْفِ بَعْدُ
حَاشَا ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ فَقَطْ: فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ
مِنْهُ لاَ وَحْدَهُ، وَلاَ مَعَ غَيْرِهِ إِلاَّ حَتَّى يَزْهَى ثَمَرُ
النَّخْلِ، وَيَبْدَأَ سَوَادُ الْعِنَبِ أَوْ طِيبُهُ.
برهان ذَلِكَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ
حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلاَ يَخْلُو هَذَا الصَّلاَحُ الَّذِي بِهِ يَحِلُّ
بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عليه السلام أَرَادَ بِهِ
ابْتِدَاءَ ظُهُورِ الطِّيبِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ تَنَاهِي الطِّيبِ فِي
جَمِيعِهِ أَوَّلِهِ، عَنْ آخِرِهِ، أَوْ فِي أَكْثَرِهِ، أَوْ فِي أَقَلِّهِ،
أَوْ فِي جُزْءٍ مُسَمًّى مِنْهُ: كَنِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ، أَوْ
عُشْرٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لاَ بُدَّ ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
فَمِنْ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُرِيدَ عليه
السلام أَكْثَرَهُ، أَوْ أَقَلَّهُ، أَوْ جُزْءًا مُسَمًّى مِنْهُ ثُمَّ لاَ
يَنُصُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يُبَيِّنُهُ، وَقَدْ افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَيْهِ الْبَيَانَ، فَلاَ سَبِيلَ إلَى أَنْ يُكَلِّفَنَا شَرْعًا لاَ نَدْرِي
مَا هُوَ ; لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ عليه السلام مُخَالِفًا لأََمْرِ رَبِّهِ
تَعَالَى لَهُ بِالْبَيَانِ، وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ. وَأَيْضًا
فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ تَكْلِيفًا لَنَا مَا لاَ نُطِيقُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ
مَا لَمْ نُعَرَّفْ بِهِ وَقَدْ أَمَّنَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا. فَبَطَلَتْ
هَذِهِ الْوُجُوهُ بِيَقِينٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ وَجْهَانِ
فَقَطْ إمَّا ظُهُورُ الصَّلاَحِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ، وَأَمَّا
عُمُومُ الصَّلاَحِ لِجَمِيعِهِ: فَنَظَرْنَا فِي لَفْظِهِ عليه السلام
فَوَجَدْنَاهُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ . فَصَحَّ أَنَّهُ ظُهُورُ الصَّلاَحِ:
وَبِصَلاَحِ حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ قَدْ
بَدَا صَلاَحُ هَذَا الثَّمَرِ، فَهَذَا مُقْتَضَى لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم. وَلَوْ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ صَلاَحَ جَمِيعِهِ لَقَالَ:
حَتَّى يَصْلُحَ جَمِيعُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ جَمِيعَ الثِّمَارِ يَبْدُو صَلاَحُ
بَعْضِهِ ثُمَّ يَتَتَابَعُ صَلاَحُ شَيْءٍ شَيْءٍ مِنْهُ، فَلاَ يَصِحُّ آخِرُهُ
إِلاَّ وَلَوْ تَرَكَ أَوَّلَهُ لَفَسَدَ وَضَاعَ بِلاَ شَكٍّ، وَقَدْ نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ . وَأَيْضًا فَلاَ
نَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَدِيمًا، وَلاَ حَدِيثًا، وَلاَ زَالَ النَّاسُ
يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ كُلَّ عَامٍ عَمَلاً عَامًّا فَاشِيًّا ظَاهِرًا
بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ كَذَلِكَ كُلُّ عَامٍ فِي
جَمِيعِ أَقْطَارِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ: إنَّهُ
(8/457)
لاَ
يَحِلُّ بَيْعُ الثَّمَرِ إِلاَّ حَتَّى يَتِمَّ صَلاَحُ جَمِيعِهِ حَتَّى لاَ
يَبْقَى مِنْهُ، وَلاَ حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ.
قال أبو محمد: فَإِذْ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا فَبَيْعُ ثِمَارِ الْحَائِطِ
الْجَامِعِ لأََصْنَافِ الشَّجَرِ صَفْقَةً وَاحِدَةً بَعْدَ ظُهُورِ الطِّيبِ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ: جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ; لأََنَّهُ بَيْعُ
ثِمَارٍ قَدْ بَدَا صَلاَحُهَا، وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: إنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
هُوَ اللَّازِمُ لَمَا أَغْفَلَ عليه السلام بَيَانَهُ. وَأَمَّا إذَا بِيعَ
الثَّمَرُ صَفْقَتَيْنِ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يَبْدُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ
الصَّلاَحِ بَعْدُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ صِنْفٍ قَدْ بَدَا الصَّلاَحُ فِي غَيْرِهِ
أَوْ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ ; لأََنَّهُ بَيْعُ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا وَهَذَا
حَرَامٌ، وَإِنَّمَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الضَّمِيرَ وَهُوَ
الْهَاءُ الَّذِي فِي "صَلاَحِهِ" إلَى الثَّمَرِ الْمَبِيعِ
الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ بِلاَ شَكٍّ فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ يَقِينًا. وَأَمَّا
النَّخْلُ، وَالْعِنَبُ، فَقَدْ خَصَّهُمَا نَصٌّ آخَرُ، وَهُوَ نَهْيُهُ عليه
السلام، عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهَى أَوْ تَحْمَرَّ، وَعَنْ
بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ أَوْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ بِدُخُولِهِ فِي
سَائِرِ الثِّمَارِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَسْوَدُّ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ
شَيْءٍ مِنْ ثِمَارِ النَّخْلِ، وَالْعِنَبِ ; إِلاَّ حَتَّى يَصِيرَ الْمَبِيعُ
مِنْهُمَا فِي حَالِ الإِزْهَاءِ أَوْ ظُهُورِ الطِّيبِ فِيهِ نَفْسِهِ
بِالسَّوَادِ، أَوْ بِغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/458)
1472
- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ فِرَاخِ الْحَمَامِ فِي الْبُرْجِ مُدَّةً
مُسَمَّاةً كَسَنَةٍ، أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ;
لأََنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ، وَبَيْعُ غَرَرٍ لاَ يُدْرَى كَمْ يَكُونُ،
وَلاَ أَيُّ صِفَةٍ يَكُونُ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا
الْوَاجِبُ فِي الْحَلاَلِ فِي ذَلِكَ بَيْعُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ
يَقِفَ الْبَائِعُ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْمُشْتَرِي أَوْ وَكِيلُهُ عَلَيْهَا،
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَدَدَهَا أَوْ يَرَهَا أَحَدُ مَنْ
ذَكَرْنَا فَيَقَعُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى صِفَةِ الَّذِي رَآهَا مِنْهُمَا.
فَإِنْ تَدَاعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي فِرَاخٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: كَانَتْ
مَوْجُودَةً حِينَ الْبَيْعِ فَدَخَلَتْ فِيهِ، وَقَالَ الآخَرُ: لَمْ تَكُنْ
مَوْجُودَةً حِينَئِذٍ، وَلاَ بَيِّنَةَ: حَلَفَا مَعًا، وَقُضِيَ بِهَا
بَيْنَهُمَا، لأََنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا، هِيَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي
بِحَقِّ الشِّرَاءِ لِلْفِرَاخِ الَّتِي فِي الْبُرْجِ، وَهِيَ بِيَدِ صَاحِبِ
الأَصْلِ بِحَقِّ مِلْكِهِ لِلأَصْلِ مِنْ الأُُمَّهَاتِ وَالْمَكَانِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، إِلاَّ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ كُلَّ
الْفِرَاخِ وَعَرَّفَ ذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ هُنَالِكَ
فَهُوَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ مَعَ يَمِينِهِ ; لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِيمَا
بِيَدِهِ.
(8/458)
يجوز
بيع الصغار من الحيوان حين تولد ويجبر كلاهما على تركها مع الأمهات إلى أن يعيش
دونها عيشا لا ضرر فيه
...
1473 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ بَيْعُ الصِّغَارِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ حِينَ
تُولَدُ، وَيُجْبَرُ كِلاَهُمَا عَلَى تَرْكِهَا مَعَ الأُُمَّهَاتِ إلَى أَنْ
يَعِيشَ دُونَهَا عَيْشًا لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَيْهَا،
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضِ الْمَحْضُونَةِ، وَيُجْبَرُ كِلاَهُمَا عَلَى
تَرْكِهَا إلَى أَنْ تَخْرُجَ وَتَسْتَغْنِيَ، عَنِ الأُُمَّهَاتِ. برهان ذَلِكَ:
قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَأَمَّا تَرْكُ
كُلِّ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ، عَنِ
(8/458)
لا
يحل بيع شيء من ثمر النخل من البلح والبسر والزهر إلخ بعضه ببعض أو من صنف أخر منه
ولا بالثمر متماثلا ولا متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة فلا في رؤوس الجبال النخل ولا
موضوعا في الأرض
...
1473-مَسْأَلَةٌ-وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ، مِنْ:
الْبَلَحِ، وَالْبُسْرِ، وَالزَّهْوِ، وَالْمُكْثِ، وَالْحُلْقَانِ، وَالْمَعْوِ،
وَالْمَعْدِ، والثغد، وَالرُّطَبِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مِنْ صِنْفِهِ، أَوْ مِنْ
صِنْفٍ آخَرَ مِنْهُ، وَلاَ بِالثَّمَرِ، وَلاَ مُتَمَاثِلاً، وَلاَ مُتَفَاضِلاً،
وَلاَ نَقْدًا، وَلاَ نَسِيئَةً، وَلاَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، وَلاَ مَوْضُوعًا
فِي الأَرْضِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الزَّهْوِ، وَالرُّطَبِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَحِلُّ بَيْعُهُ، حَاشَا
مَا ذَكَرْنَا نَقْدًا وَبِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً،
حَاشَا الْعَرَايَا فِي الرُّطَبِ وَحْدَهُ. وَمَعْنَاهَا أَنْ يَأْتِيَ الرُّطَبُ
وَيَكُونُ قَوْمٌ يُرِيدُونَ ابْتِيَاعَ الرُّطَبِ لِلأَكْلِ فَأُبِيحَ لَهُمْ
أَنْ يَبْتَاعُوا رُطَبًا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ
خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، يَدْفَعُ التَّمْرَ إلَى صَاحِبِ الرُّطَبِ، وَلاَ بُدَّ،
وَلاَ يَحِلُّ بِتَأْخِيرٍ، وَلاَ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا، وَلاَ
بِأَقَلَّ مِنْ خَرْصِهَا تَمْرًا، وَلاَ بِأَكْثَرَ، فَإِنْ وَقَعَ مَا قلنا أَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ فَسْخٌ أَبَدًا، وَضَمِنَ ضَمَانَ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ:
وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالاَ جَمِيعًا: أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَا
الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ " نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثمْرِ بِالتَّمْرِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ
أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى، عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ:
ذَلِكَ الرِّبَا ". وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " النَّهْيُ
عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ " وَالثَّمَرُ يَقْتَضِي الأَصْنَافَ
الَّتِي ذَكَرْنَا. وَصَحَّ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ. وَلَمْ يُجِزْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَفِيزَ رُطَبٍ بِقَفِيزٍ مِنْ
جَافٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ
الْخَارِجُ مِنْ أَقْوَالِ سُفْيَانَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَأَجَازَ أَبُو
حَنِيفَةَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً بِمِثْلِهِ نَقْدًا وَلَمْ يُجِزْ
مُتَفَاضِلاً، وَلاَ نَسِيئَةً وَقَالَ: إنَّمَا يَحْرُمُ بَيْعُ الثَّمَرِ
الَّذِي فِي رُءُوسِ النَّخْلِ خَاصَّةً بِالتَّمْرِ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ لاَ
فِي الْعَرَايَا، وَلاَ فِي غَيْرِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُوهُ بِمَا صَحَّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ
مِنْ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ مُسَمًّى بِكَيْلٍ، إنْ زَادَ فَلِي وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ
". وَمِثْلُهُ مُسْنَدًا
(8/459)
أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ فَسَّرَ لَهُمْ الْمُزَابَنَةَ: أَنَّهَا بَيْعُ
الرُّطَبِ فِي النَّخْلِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً.
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ؛ لأََنَّنَا
لَمْ نُنَازِعْهُمْ فِي تَحْرِيمِ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ
كَيْلاً، نَعَمْ، وَغَيْرَ كَيْلٍ، وَلاَ نَازَعْنَاهُمْ فِي أَنَّ هَذَا
مُزَابَنَةٌ فَاحْتِجَاجُهُمْ بِهَا تَمْوِيهٌ وَإِيهَامٌ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ، وَلاَ غَيْرِهَا أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنْ
بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ إِلاَّ هَذِهِ الصِّفَةُ فَقَطْ، وَلاَ فِي شَيْءٍ
مِنْ هَذَا: أَنَّ مَا عَدَا هَذَا فَحَلاَلٌ لَكِنْ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ
الأَخْبَارِ فَهُوَ بَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ
وَبَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعٍ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ. وَتِلْكَ الأَخْبَارُ جَمَعَتْ مَا فِي هَذِهِ وَزَادَتْ عَلَيْهَا،
فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْحُكْمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا
لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ. كَمَا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى
{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ} لَيْسَ حُجَّةً فِي إبَاحَةِ الظُّلْمِ فِي غَيْرِهَا وَهَكَذَا
جَمِيعُ الشَّرَائِعِ أَوَّلِهَا، عَنْ آخِرٍ، لَيْسَتْ كُلُّ شَرِيعَةٍ
مَذْكُورَةً فِي كُلِّ حَدِيثٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّنَا نَقُولُ لَهُمْ: مِنْ أَيْنَ
قُلْتُمْ: إنَّ الْمُرَادَ فِي تِلْكَ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عَنْ
بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ إنَّمَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ
الأُُخَرِ مِنْ النَّهْيِ، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ
بِالتَّمْرِ، وَمَا بُرْهَانُكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَلْ زِدْتُمُونَا عَلَى
الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ الْكَاذِبَةِ شَيْئًا؟ وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ تَرْكُ
عُمُومِ تِلْكَ الأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي هَذِهِ
بَعْضُ مَا فِي تِلْكَ؟ فَإِنَّهُمْ لاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ أَصْلاً لاَ
قَوِيٌّ، وَلاَ ضَعِيفٌ فَحَصَلُوا عَلَى الدَّعْوَى فَقَطْ، فَإِنْ ادَّعَوْا
إجْمَاعًا عَلَى مَا فِي هَذِهِ كَذَبُوا. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ،
عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الثَّمَرُ بِالتَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ
النَّخْلِ مُكَايَلَةً إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ ثِقَةٌ
وَسَائِرُ مَنْ فِيهِ أَئِمَّةٌ أَعْلاَمٌ. وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ
الْمُزَابَنَةَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ
الْمُزَابَنَةَ، وَالْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ
الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً ". وَحدثنا حمام أَنَا عَبَّاسُ بْنُ
أَصْبَغَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ أَنَا
بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، هُوَ
ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي
نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُزَابَنَةُ: اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ
وَاشْتِرَاءُ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً ". فَمَنْ جَعَلَ تَفْسِيرَ
ابْنِ عُمَرَ بَاطِلاً وَتَفْسِيرَ جَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ صَحِيحًا. بَلْ
كِلاَهُمَا حَقٌّ وَكُلُّ ذَلِكَ مُزَابَنَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا،
(8/460)
وَمَا
عَدَا هَذَا فَضَلاَلٌ وَتَحَكُّمٌ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ إبَاحَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ قَلَّدَهُ دِينَهُ مَا
قَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ
بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَبَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَتَحْرِيمِهِ مَا
لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-
وَلاَ جَاءَ قَطُّ عَنْهُ نَهْيٌ مِنْ بَيْعِ الْجَوْزِ عَلَى رُءُوسِ أَشْجَارِهِ
بِالْجَوْزِ الْمَجْمُوعِ، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَمَا رَأَيْنَا قَطُّ سُنَّةً
مُضَاعَةً إِلاَّ وَإِلَى جَنْبِهَا بِدْعَةٌ مُذَاعَةٌ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنْ قَالُوا: لاَ يَخْلُو الرُّطَبُ،
وَالتَّمْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ، فَإِنْ كَانَا
جِنْسًا وَاحِدًا فَالتَّمَاثُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، لأَِبَاحَةِ
رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- التَّمْرَ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ،
وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَذَلِكَ فِيهِمَا أَجْوَزُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم-: " إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ
شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ".
قال أبو محمد: فَنَقُولُ لَهُمْ: الَّذِي أَبَاحَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ
مُتَمَاثِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَرَنَا إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ أَنْ
نَبِيعَ كَيْفَ شِئْنَا إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، هُوَ الَّذِي نَهَانَا، عَنْ
بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ جُمْلَةً، وَعَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ،
وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ الرِّبَا، وَلَيْسَتْ طَاعَتُهُ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ
وَاجِبَةً وَفِي بَعْضِهِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، هَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ، بَلْ
طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجِبَةٌ. لَكِنْ يَا هَؤُلاَءِ أَيْنَ
كُنْتُمْ، عَنْ هَذَا الأَسْتِدْلاَلِ الْفَاسِدِ الَّذِي صَحَّحْتُمُوهُ
وَعَارَضْتُمْ بِهِ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عليه السلام إذْ
حَرَّمْتُمْ بِرَأْيِكُمْ الْفَاسِدِ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ أَوْ
بِالسَّوِيقِ جُمْلَةً، فَلِمَ تُجِيزُوهُ لاَ مُتَفَاضِلاً، وَلاَ مُتَمَاثِلاً،
وَلاَ نَقْدًا، وَلاَ نَسِيئَةً، وَلاَ كَيْلاً، وَلاَ وَزْنًا وَهَلَّا قُلْتُمْ
لأََنْفُسِكُمْ: لاَ يَخْلُو الدَّقِيقُ وَالْحِنْطَةُ، وَالسَّوِيقُ، مِنْ أَنْ
تَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةَ أَجْنَاسٍ، فَإِنْ
كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا فَالتَّمَاثُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ،
لأَِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ
مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَإِنْ كَانَتْ جِنْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً فَذَلِكَ فِيهَا
أَجْوَزُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إذَا
اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ
" فَهَذَا الْمَكَانُ أَوْلَى بِالأَعْتِرَاضِ، وَبِالرَّدِّ،
وَبِالإِطْرَاحِ، لاَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحُكْمُهُ.
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: التَّفَاضُلُ فِي الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مَوْجُودٌ
فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا فِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَلاَ يُوجَدُ إِلاَّ بَعْدَ
الْوَقْتِ .فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا لَوْ كَانَ مَا قُلْتُمْ حَقًّا وَمِنْ
أَيْنَ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّفَاضُلِ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَكَيْفَ
وَاَلَّذِي قُلْتُمْ بَاطِلٌ لأََنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالْكَيْلِ مَوْجُودَةٌ فِي
الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ،
وَفِي الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ فِي الْوَقْتِ، فَلاَ تَفَاضُلَ فِيهِمَا أَصْلاً،
وَإِنَّمَا كَانَ التَّفَاضُلُ مَوْجُودًا فِي الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فِيمَا
خَلاَ وَبَطَلَ الآنَ، وَلاَ يُقْطَعُ أَيْضًا بِهَذَا، فَبَطَلَ فَرْقُكُمْ
الْفَاسِدُ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
التَّمْرَ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَدْرِي أَنَّ
الرُّطَبَ لَيْسَ مِثْلاً لِلتَّمْرِ فِي صِفَاتِهِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنْ
قَالُوا: بَيْعُ التَّمْرِ الْحَدِيثِ بِالتَّمْرِ الْقَدِيمِ جَائِزٌ، وَهُوَ
يَنْقُصُ
(8/461)
عَنْهُ
فِيمَا بَعْدُ .فَقُلْنَا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا؟ وَمَتَى جَعَلْنَا لَكُمْ
عِلَّةَ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، إنَّمَا هِيَ نُقْصَانُهُ
إذَا يَبِسَ؟ حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا؛ لأََنَّ الأَثَرَ الَّذِي مِنْ
طَرِيقِ سَعْدٍ، الَّذِي فِيهِ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ لاَ يَصِحُّ،
لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَلَوْ
صَحَّ لاََذْعَنَّا لَهُ وَلَقُلْنَا بِهِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مِنْكُمْ بَاطِلٌ
وَتَخَرُّصٌ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ،
وَإِنَّمَا هُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عليه السلام فَقَطْ:
{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَنَقُولُ لِمَنْ ادَّعَى التَّعْلِيلَ،
وَأَنَّهُ هُوَ الْحِكْمَةُ، وَمَا عَدَاهُ عَبَثٌ: أَخْبِرُونَا مَا عِلَّةُ
تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْخَامِسَةِ فِي
النِّكَاحِ، وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ؟ فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ شَيْءٍ
أَصْلاً، فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ تُعَلَّلَ بَعْضُ الشَّرَائِعِ بِالدَّعَاوَى
الْكَاذِبَةِ، وَلاَ تُعَلَّلَ سَائِرُهَا وَمَا نَعْلَمُ لأََبِي حَنِيفَةَ
سَلَفًا قَبْلَهُ فِي إبَاحَةِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِمَّنْ يَحْرُمُ الرِّبَا
فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ وقال مالك: بَيْعُ الرُّطَبِ جَائِزٌ، وَهَذَا خَطَأٌ
لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ
بِالتَّمْرِ. وقال الشافعي كَقَوْلِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْعَرَايَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
كَانَتْ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ
وَالنَّخْلَتَيْنِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ حُكْمِ الْعَرَايَا وَرُوِّينَا، عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، أَنَّهُ قَالَ: الْعَرَايَا نَخَلاَتٌ مَعْلُومَاتٌ
يَأْتِيهَا فَيَشْتَرِيهَا. وَرُوِّينَا، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَيَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا النَّخْلَةُ
وَالنَّخْلَتَانِ وَالنَّخَلاَتُ تُجْعَلُ لِلْقَوْلِ فَيَبِيعُونَ ثَمَرَهَا
بِخَرْصِهَا تَمْرًا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِثْلَ هَذَا، إِلاَّ
أَنَّهُمْ خَصُّوا بِذَلِكَ الْمَسَاكِينَ يُجْعَلُ لَهُمْ ثَمَرُ النَّخْلِ
فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمْ الْقِيَامُ عَلَيْهَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا
بِمَا شَاءُوا مِنْ التَّمْرِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ الْعَرِيَّةَ الرَّجُلُ يُعْرِي النَّخْلَةَ، أَوْ
يَسْتَثْنِي مِنْ مَالِهِ النَّخْلَةَ أَوْ النَّخْلَتَيْنِ يَأْكُلُهَا
فَيَبِيعُهُمَا بِمِثْلِ خَرْصِهِمَا تَمْرًا. وقال أبو حنيفة: الْعَرِيَّةُ أَنْ
يَهَبَ الرَّجُلُ رَجُلاً آخَرَ ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ ثُمَّ
يَبْدُوَ لَهُ فَيُعْطِيَهُ مَكَانَ ثَمَرِ مَا أَعْطَاهُ تَمْرًا يَابِسًا
فَيَخْرُجَ بِذَلِكَ، عَنْ إخْلاَفِ الْوَعْدِ. وقال مالك: الْعَرِيَّةُ أَنْ
يَهَبَ الرَّجُلُ لأَخَرَ ثَمَرَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ أَوْ نَخَلاَتٍ مِنْ
مَالِهِ وَيَكُونُ الْوَاهِبُ سَاكِنًا بِأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ
فَيَشُقُّ عَلَيْهِ دُخُولُ الْمُعْرِي فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ، فَلَهُ أَنْ
يَبْتَاعَ مِنْهُ ذَلِكَ الثَّمَرِ بِخَرْصِهِ تَمْرًا إلَى الْجِدَادِ، وَلاَ
يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلاَّ نَسِيئَةً، وَلاَ بُدَّ، وَأَمَّا يَدًا بِيَدٍ فَلاَ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعَرِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ
أَوَانُ الرُّطَبِ، وَهُنَاكَ قَوْمٌ فُقَرَاءُ لاَ مَالَ لَهُمْ، وَيُرِيدُونَ
ابْتِيَاعَ رُطَبٍ يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ، وَلَهُمْ فُضُولُ تَمْرٍ مِنْ
أَقْوَاتِهِمْ، فَأُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يُشْتَرَوْا الرُّطَبَ بِخَرْصِهَا مِنْ
التَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ نَقْدًا
(8/462)
وَلاَ
بُدَّ. وَأَمَّا قَوْلُنَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: الْعَرِيَّةُ أَنْ
يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخَلاَتِ لِطَعَامِ أَهْلِهِ رُطَبًا بِخَرْصِهَا
تَمْرًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَلاَ بَيَانَ
فِيهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَسُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ،
وَأَحْمَدَ، فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ لَهُ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- رَخَّصَ، لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا
مِنْ التَّمْرِ .
قَالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا
فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الرُّطَبِ هُوَ الَّذِي يَبِيعُهُ بِخَرْصِهِ تَمْرًا
وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ، وَجَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ نَبِيعَ الرُّطَبَ كَذَلِكَ
الَّذِي هُوَ لَهُ وَالنَّخْلُ مَعًا، وَجَائِزٌ أَنْ نَبِيعَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ
مِنْ مَالِك الرُّطَبِ وَحْدَهُ بِهِبَةٍ أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِمِيرَاثٍ أَوْ
بِإِجَازَةٍ أَوْ بِإِصْدَاقٍ فَهَذَا الْخَبَرُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ صِفَةُ الْبَائِعِ فَقَطْ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْ
هُوَ الْمُشْتَرِي. وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ
فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ لَهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ
كَثِيرٍ حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ: أَنَّ رَافِعَ
بْنَ خَدِيجٍ، وَسَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَاهُ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى، عَنِ الْمُزَابَنَةِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ
إِلاَّ أَصْحَابَ الْعَرَايَا فَإِنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ
قَوْلِهِمْ لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِإِشَارَةٍ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ:
أَنَّ أَصْحَابَ الْعَرَايَا أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ فَقَطْ،
وَهَكَذَا نَقُولُ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ
فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ حُجَّةٌ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ فَوَجَدْنَاهُ دَعْوَى بِلاَ برهان، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ
حَدِيثًا لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مُنْشَأَهُ، وَلاَ مَبْدَأَهُ، وَلاَ طَرِيقَهُ،
ذَكَرَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ إسْنَادٍ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حُجَّةٌ،
وَحَصَلَ قَوْلُهُ دَعْوَى بِلاَ برهان نَعْنِي تَخْصِيصَهُ أَنَّ الَّذِينَ
أُبِيحَ لَهُمْ ابْتِيَاعُ الرُّطَبِ بِخَرْصِهِ تَمْرًا إنَّمَا هُمْ مَنْ لاَ
شَيْءَ لَهُمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ الرُّطَبَ لِيَأْكُلُوهُ فَقَطْ. ثُمَّ نَظَرْنَا
فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ: إنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ ثَمَرُ نَخْلٍ تُجْعَلُ
لأَخَرِينَ وَقَوْلَهُ: إنَّ الَّذِينَ جَعَلُوهُ يَسْكُنُونَ بِأَهْلِيهِمْ فِي
الْحَائِطِ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ النَّخْلُ وَقَوْلَهُ: إنَّ أَصْحَابَ النَّخْلِ
يُنَادُونَ بِدُخُولِ الَّذِينَ جَعَلَ لَهُمْ تِلْكَ النَّخْلَ أَقْوَالاً
ثَلاَثَةً لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، لاَ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ فِي سُنَّةٍ،
وَلاَ فِي رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ فِي قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ
قِيَاسٍ، وَلاَ لُغَةٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ. ثُمَّ الشُّنْعَةُ وَالأُُعْجُوبَةُ
(8/463)
الْعَظِيمَةُ
قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ نَسِيئَةً إلَى الْجِدَادِ، وَلاَ
يَجُوزُ نَقْدًا أَصْلاً وَهَذَا هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ جِهَارًا، ثُمَّ إلَى
أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلاَ نَعْلَمُ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ حَرَامٌ
مَكْشُوفٌ لاَ يَحِلُّ أَصْلاً، وَإِنَّمَا حَلَّ هَهُنَا الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ
بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ فَقَطْ، وَوَجَدْنَا النَّسِيئَةَ فِيمَا فِيهِ
الرِّبَا حَرَامًا بِكُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا حَلَّ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ
هَهُنَا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ بُدَّ؛ لأََنَّهُ لاَ بَيْعَ
إِلاَّ إمَّا نَقْدًا وَأَمَّا نَسِيئَةً، فَالنَّسِيئَةُ حَرَامٌ: لأََنَّهُ
رِبًا فِي كُلِّ مَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا بِلاَ خِلاَفٍ وَلأََنَّهُ شَرْطٌ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي اشْتِرَاطَ تَأْخِيرِهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ النَّقْدُ فَلَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَجَدْنَاهُ
أَبْعَدَ الأَقْوَالِ؛ لأََنَّهُ خَالَفَ جَمِيعَ الآثَارِ كُلِّهَا جِهَارًا، وَأَتَى
بِدَعْوَى لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُ.
وَالْخَبَرُ فِي اسْتِثْنَاءِ جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لأََهْلِ
الْعَرَايَا خَاصَّةً مَنْقُولٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ: رَوَاهُ رَافِعٌ، وَسَهْلٌ،
وَجَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدٌ، وَابْنُ عُمَرَ فِي آخَرِينَ سِوَاهُمْ
كُلُّ مَنْ سَمَّيْنَا هُوَ عَنْهُمْ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ فَخَالَفُوا ذَلِكَ
بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ.
وَالْبُرْهَانُ لِصِحَّةِ قَوْلِنَا: هُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ
كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَالِكٍ: أَنَّ دَاوُد بْنَ الْحُصَيْنِ حَدَّثَهُ، عَنْ
أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ " يَشُكُّ دَاوُد.
قال أبو محمد: فَالْيَقِينُ وَاقِعٌ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِلاَ شَكٍّ،
فَهُوَ مَخْصُوصٌ فِيمَا حَرُمَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُبَاحَ مُتَيَقَّنُ الْحَرَامِ بِشَكٍّ، وَلَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- أَبَاحَ ذَلِكَ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَحَفِظَهُ اللَّهُ
تَعَالَى حَتَّى يُبَلَّغَ إلَيْنَا مُبَيَّنًا، وَتَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ،
فَلَمْ يَفْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَأَيْقَنَّا أَنَّهُ لَمْ يُبِحْهُ
نَبِيُّهُ عليه السلام قَطُّ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، لَكِنْ فِيمَا دُونَهَا
بِيَقِينٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَلاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فِي صَفْقَةٍ
وَاحِدَةٍ، وَلاَ فِي صَفَقَاتِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَصْلاً، لاَ الْبَائِعُ، وَلاَ
الْمُشْتَرِي؛ لأََنَّهُ يُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى هُوَ
النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
يُحَدِّثُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ
بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ
دَارِهِمْ=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق