7. إحياء علوم الدين
المؤلف : محمد بن محمد الغزالي أبو حامد
منع
من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبوا فما ظنك
بأمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وبعد فالعجب كل العجب لك يا مفتون تتمرغ في تخاليط
الشبهات والسحت وتتكالب على أوساخ الناس وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة
وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه
الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه
وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة
ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله فكسبوا
حلالا وأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا وقدموا فضلا ولم يمنعوا منها حقا ولم يبخلوا بها
لكنهم جادوا لله بأكثرها وجاد بعضهم بجميعها وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم
كثيرا فبالله أكذلك أنت والله إنك لبعيد الشبه بالقوم
وبعد فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين ومن خوف الفقر آمنين وبالله في
أرزاقهم واثقين وبمقادير الله مسرورين وفي البلاء راضين وفي الرخاء شاكرين وفي
الضراء صابرين وفي السراء حامدين وكانوا لله متواضعين وعن حب العلو والتكاثر ورعين
لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغة منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها
وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعيمها وزهرتها
فبالله أكذلك أنت
ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته من
الله وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا مرحبا بشعار الصالحين
وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيبا حزينا وإذا لم يكن عندهم
شيء أصبح فرحا مسرورا فقيل له إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم
شيء فرحوا وأنت لست كذلك قال إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي
برسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي
بآل محمد أسوة
وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا ما لنا وللدنيا
وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا
وقالوا الآن تعاهدنا ربنا
فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا
فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم
وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضدا لأحوالهم وذلك أنك تطغى عند الغنى وتبطر عند
الرخاء وتمرح عند السراء وتغفل عن شكر ذي النعماء وتقنط عند الضراء وتسخط عند
البلاء ولا ترضى بالقضاء 2
نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم
وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز و جل وقلة اليقين
بضمانه وكفى به إثما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها
ولقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم
فربت عليهم أجسامهم // حديث شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الحديث تقدم ذكره في
أوائل كتاب ذم البخل عند الحديث الرابع منه من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار
مسيرة سنة
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة
بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة نعم وعساك أن تجمع المال للتكاثر والعلو
والفخر والزينة في الدنيا وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي
الله وهو عليه غضبان وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو
نعم
وعساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله فأنت تكره لقاء الله
والله للقائك أكره وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا وقد بلغنا
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة
شهر
وقيل سنة
وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله
نعم ولعلك تخرج من دينك أحيانا لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك
سرورا بها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من أحب الدنيا وسر بها
ذهب خوف الآخرة من قلبه // حديث من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه لم
أجده إلا بلاغا للحارث بن أسد المحاسبي كما ذكره المصنف عنه
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا وتحاسب
بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى
وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك وعساك ترى مصيبتك في معاصيك
أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب
وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا وعساك ترضى
المخلوقين مساخطا لله تعالى كيما تكرم وتعظم
ويحك فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك وعساك
تخفي من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله
أهون عليك من الفضيحة عند الناس فكأن العبيد أعلى عندك قدرا من الله تعالى الله عن
جهلك فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك أف لك متلوثا بالأقذار وتحتج
بمال الأبرار هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار والله لقد بلغني أنهم كانوا
فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم إن الذي لا بأس به عندكم كان من الموبقات
عندهم وكانوا للزلة الصغيرة أشد استعظاما منكم لكبائر المعاصي فليت أطيب مالك
وأحله مثل شبهات أمولهم وليتك أشفقت من سيئاتك كما أشفقوا على حسناتهم أن لا تقبل
ليت صومك على مثال إفطارهم وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم وليت جميع
حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم
وقد بلغني عن بعض الصحابة أنه قال غنيمة الصديقين ما فاتهم من الدنيا ونهمتهم ما
زوى عنهم منها فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة فسبحان
الله كم بين الفريقين من التفاوت فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق
أمثالكم في السفالة أو يعفو الله الكريم بفضله
وبعد فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر
أمرك ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم أو تحسب أنك محتاط في طلب
الحلال كما احتاطوا لقد بلغني أن بعض الصحابة قال كنا ندع سبعين بابا من الحلال
مخافة أن نقع في باب من الحرام أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط لا ورب الكعبة
ما أحسبك كذلك ويحك كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك
بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام وقد بلغنا أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم قال من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام // حديث من اجترأ
على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام متفق عليه من حديث النعمان بن بشير نحوه وقد
تقدم في كتاب الحلال والحرام أول الحديث
أيها المغرور أما علمت أن خوفك من اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله
من اكتساب الشبهات وبذلها في سبيل الله وسبيل البر بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال
لأن تدع درهما واحدا مخافة أن لا يكون حلالا خير لك من أن تتصدق بألف دينار من
شبهة لا تدري
أيحل
لك أم لا فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من
الحلال للبذل في سبيل الله ويحك إن كنت كما زعمت بالغا في الورع فلا تتعرض للحساب
فإن خيار الصحابة خافوا المسألة وبلغنا أن بعض الصحابة قال ما سرني أن أكتسب كل
يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة
قالوا ولم ذاك رحمك الله قال لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين
اكتسبت وفي أي شيء أنفقت فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم
تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره وأنت بغاية الأمن
والحلال في دهرك مفقود
تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من الحلال ويحك أين الحلال فتجمعه
وبعد فلو كان الحلال موجودا لديك أما تخاف أن يتغير عند الغنى قلبك وقد بلغنا أن
بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك
أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك لئن ظننت ذلك لقد
أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا
تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم أنه قال من نوقش الحساب عذب // حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه من حديث
عائشة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام وأنفقه في
حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حرام
فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حرام وأنفقه في حلال فيقال
اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حلال فيقال له قف
لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها وفرطت في شيء من
ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئا
فرضت علي فيقال لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول لا
يا رب لم أختل ولم أباه في شيء فيقال لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في
حلال ولم أضيع شيئا مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن
أعطيه قال فيجئ أولئك فيخاصمونه فيقولون يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا
وأمرته أن يعطينا فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئا من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال
قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل //
حديث يؤتى بالرجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا
به إلى النار الحديث بطوله لم أقف له على أصل
ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال
وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال
أمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها ويحك لأجل هذه
المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر
من كسب المال فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع
والتقى ولم تجمع المال إلا من حلال بزعمك للتعفف والبذل في سبيل الله ولم تنفق
شيئا من الحلال إلا بحق ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في
شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنت كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة
وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في
زمرة
المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب فإما سلامة وإما عطب
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم
الجنة بخمسمائة عام // حديث يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنة بخمسمائة
عام أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ فقراء مكان صعاليك ولهما
وللنسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة يدخل الفقراء الجنة الحديث ولمسلم من حديث
عبد الله بن عمر إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفا
وقال عليه السلام يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون
والآخرون جثاة على ركبهم فيقول قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا
صنعتم فيما أعطيتكم // حديث يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيتمتعون
ويأكلون الحديث لم أر له أصلا
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال
ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد صلى الله عليه و سلم
وحزبه
يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام وكونوا وجلين من
التخلف والانقطاع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجل المتقين
لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء
وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكلم فعاد
في البكاء فلما أكثر البكاء قيل له أكل هذا من أجل هذه الشربة قال نعم بينا أنا
ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وما معه أحد في البيت غيري فجعل يدفع
عن نفسه وهو يقول إليك عني فقلت له فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحدا فمن تخاطب
فقال هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي
يا محمد خذني فقلت
إليك عني فقالت
إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث إن بعض الصحابة عطش فاستسقى بشربة ماء وعسل
الحديث في دفع النبي صلى الله عليه و سلم الدنيا عن نفسه وقوله إليك عني الحديث
أخرجه البزار والحاكم من حديث زيد بن أرقم وقال كنا عند أبي بكر فدعا بشراب فأتي
بماء وعسل الحديث قال الحاكم صحيح الإسناد قلت بل ضعيف وقد تقدم قبل هذا الكتاب
يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شربة
من حلال ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى
الانقطاع أف لك ما أعظم جهلك ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله صلى الله
عليه و سلم محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت
عن السباق فليطولن عليك اللحاق ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ولئن لم
تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن
عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال
المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين
فتدبر ويحك ما سمعت وبعد
فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قانع بالقليل زاهد في الحلال بذول لمالك مؤثر على
نفسك لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئا لغدك مبغض للتكاثر والغنى راض بالفقر والبلاء
فرح بالقلة والمسكنة مسرور بالذل والضعة كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير
عن الرشد قلبك قد حاسبت نفسك في الله وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن
توقف في المسألة ولن يحاسب مثلك من المتقين
وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن
النظر أما علمت أن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر
والاعتبار
أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلى
لقدرك عند الله أضعافا
بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال لو أن رجلا في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله
لكان
الذاكر
أفضل
وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به
وبلغنا أن بغض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما
طلب الدنيا حلالا فأصابها فوصل بها رحمه وقدم لنفسه
وأما الآخر
فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها فأيهما أفضل قال
بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها
ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ولك في العاجل إن تركت الأشتغال
بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك
فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر نعم وشغلك
بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة
والفضل في الآجل
وبعد
فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك
الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا
ويحك تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء
المصطفى سابقا إلى جنة المأوى
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سادات المؤمنين في الجنة من إذا
تغدى لم يجد عشاء وإذا استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم
يقدر على أن يكتسب ما يغنيه يمسي مع ذلك ويصبح راضيا عن ربه فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا // حديث
سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء الحديث عزاه صاحب مسند الفردوس
للطبراني من رواية أبي حازم عن أبي هريرة مختصرا بلفظ سادة الفقراء في الجنة
الحديث ولم أره في معاجم الطبراني
ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر
والفضل تجمعه لا ولكنك خوفا من الفقر تجمعه وللنعيم والزينة والتكاثر والفخر
والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ثم تزعم أنك لأعمال البر تجمع
المال ويحك راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور
ويحك إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة
ومجانبة الفضول نعم وكن عند جمع المال مزريا على نفسك معترفا بإساءتك وجلا من
الحساب فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال
إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجودا وكانوا مع ذلك من أورع الناس
وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقودا وكيف لنا من الحلال مبلغ
القوت وستر العورة
فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه
وبعد فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم وأين لنا مثل
ضمائرهم وحسن نياتهم دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها وعن قريب يكون
الورود فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت
لكم إن قبلتم والقابلون لهذا قليل
وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين
هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه
ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد
ويشهد له أيضا ما روي عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع
الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال يا
رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون
مثل نبي الله تعالى أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة
لسارت قال والذي بعثك بالحق نبيا لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق
حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم ارزق ثعلبة مالا
فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت
عليه
المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة
ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو
الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة
وسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه فقال ما فعل ثعلبة بن حاطب فقيل يا رسول
الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال يا ويح ثعلبة يا ويح
ثعلبة يا ويح ثعلبة قال وأنزل الله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى
الله عليه و سلم رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم عن الصدقة وكتب لهما كتابا بأخذ
الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين وقال مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان رجل
من بني سليم وخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزيه ما هذه إلا أخت
الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلى فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى
خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم أستقبلهما بها فلما رأوها قالوا لا يجب عليك ذلك
وما نريد نأخذ هذا منك قال بلى خذوها فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة
فسألاه الصدقة فقال أروني كتابكما فنظر فيه فقال هذه أخت الجزية انطلقا حتى أرى
رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه و سلم فلما رآهما قال يا ويح ثعلبة قبل
أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله
تعالى في ثعلبة ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم
يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعند رسول الله صلى الله عليه
و سلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتى ثعلبة فقال لا أم لك
يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم
فسأله أن يقبل منه صدقته فقال إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو التراب
على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا عملك أمرتك فلم تطعني فلما أبى
أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله فلما قبض رسول صلى الله عليه و سلم جاء بها إلى
أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافة عثمان // حديث أبي أمامة أن
ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة قليل تؤدي
شكره خير من كثير لا تطيقه الحديث بطوله أخرجه الطبراني بسند ضعيف
فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث ولأجل بركة الفقر وشؤم الغنى آثر
رسول الله صلى الله عليه و سلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روى عن عمران بن حصين
رضي الله عنه أنه قال كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا
منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت نعم
بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطمة فقرع الباب
وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي قالت ومن معك يا
رسول الله فقال عمران بن حصين فقالت والذي بعثك بالحق نبيا ما علي إلا عباءة فقال
اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي فألقى
إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدي بها على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال السلام
عليك يابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بي أني لست أقدر
على طعام آكله فقد أجهدني الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لا تجزعي
يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاثة وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي
لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا
ثم
ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة فقالت فأين
آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران فقال آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء
عالمها وخديجة سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى
فيها ولا صخب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيدا في الدنيا سيدا في
الآخرة // حديث عمران بن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه و سلم منزلة
وجاء فقال فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث بطوله
وفيه لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة لم أجده من حديث عمران ولأحمد
والطبراني من حديث معقل بن يسار وضأت النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال هل
لك في فاطمة تعودها الحديث وفيه أما ترضين أن زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما
وأعظمهم حلما وإسناده صحيح
فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه و
سلم كيف آثرت الفقر وتركت المال
ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في
أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق
والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال لهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله
إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ولا فراغ مع شغل المال
وقد روي عن جرير عن ليث قال صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال أكون معك
وأصحابك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا
رغيفين وبقي رغيف ثالث فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد
الرغيف فقال للرجل من أخذ الرغيف فقال لا أدري قال فانطق ومعه صاحبه فرأى ظبية
ومعها خشفان لها قال فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم
قال للخشف قم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ
الرغيف فقال لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء
فلما جاوزا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري فانتهيا
إلى مفازة فجلسا فأخذ عيسى عليه السلام يجمع ترابا وكثيبا ثم قال كن ذهبا بإذن
الله تعالى فصار ذهبا فقسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ
الرغيف فقال أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى
إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال هو بيننا
أثلاثا فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاما نأكله قال فبعثوا أحدهم فقال
الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أضع في هذا الطعام سما فأقتلهما وآخذ
المال وحدي قال ففعل وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ولكن إذا رجع
قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي
ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى فمر بهم عيسى عليه السلام على تلك
الحالة فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها
وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من
دنياهم قد احتفروا قبورا فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا
البقل كما ترعى البهائم وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ذو القرنين
إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين فقال مالي إليه حاجة فإن كان له حاجة فليأتني
فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبلت فها
أنا قد جئت فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين مالي أراكم على
حالة لم أر أحدا من الأمم عليها قال وما ذاك قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم
الذهب والفضة فاستمتعتم بهما قالوا إنما كرهناهما
لأن
أحدا لم يعط منهما شيئا إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه
فقال ما بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها
قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل
قال وأراكم لا طعام لكن إلا البقل من الأرض أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام
فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبورا لها ورأينا
في نبات الأرض بلاغا وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وإيما ما جاوز الحنك من
الطعام لم نجد له طعما كائنا ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي
القرنين فتناول جمجمة فقال ياذا القرنين أتدري من هذا قال لا ومن هو قال ملك من
ملوك الأرض أعطاه الله سلطانا على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه
ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في
آخرته
ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال ياذا القرنين هل تدري من هذا قال لا أدري ومن هو
قال هذا ملك ملكه الله بعده قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم
والتجبر فتواضع وخشع لله عز و جل وأمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى
الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال
وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر ياذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين هل
لك في صحبتي فاتخذك أخا ووزيرا وشريكا فيما آتاني الله من هذا المال قال ما أصلح
أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعا قال ذو القرنين ولم قال من أجل أن الناس كلهم
لك عدو ولي صديق قال ولم قال يعادونك لما في يديك من الملك والمال والدنيا ولا أجد
أحدا يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء قال فانصرف عنه ذو
القرنين متعجبا منه ومتعظا به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من
قبل وبالله التوفيق
تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه ويليه
كتاب ذم الجاه والرياء
كتاب ذم الجاه والرياء وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله علام الغيوب المطلع على سرائر القلوب المتجاوز عن كبائر الذنوب العالم
بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب البصير بسرائر النيات وخفافا الطويات الذي لا
يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفى وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا فإنه المنفرد
بالملكوت فهو أغنى الأغنياء عن الشرك
والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك وسلم تسليما
كثيرا
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء
والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة
الظلماء // حديث إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية أخرجه ابن ماجه
والحاكم من حديث شداد بن أوس وقالا الشرك بدل الرياء وفسراه بالرياء قال الحاكم
صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه وهو عند ابن المبارك في الزهد ومن طريقه عند البيهقي في
الشعب بلفظ المصنف
ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة
العلماء
فضلا عن عامة العباد والأتقياء وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها
وإنما يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم
مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات وحملوها بالقهر
على أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح
فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم فوجدت مخلصا من مشقة
المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم فسارعت إلى
إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق وفرحت بحمد الناس ولم
تقنع بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله
مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه
بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه وحرصوا على
اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه في
البيع والمعاملات وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له
متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات
وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة
على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات فهو يظن أن حياته بالله
وبعبادته المرضية وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول
النافذة القوية ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله والنفس قد أبطنت
هذه الشهوة تزيينا للعباد وتصنعا للخلق وفرحا بما نالت من المنزلة والوقار وأحبطت
بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال وقد أثبتت اسمه في جريدة المنافقين وهو يظن أنه
عند الله من المقربين
وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون
ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة
وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشياطين وجب شرح القول في
سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه ويتضح الغرض منه في ترتيب
الكتاب على شطرين الشطر الأول في حب الجاه والشهرة وفيه بيان ذم الشهرة وبيان
فضيلة الخمول وبيان ذم الجاه وبيان معنى الجاه وحقيقته وبيان السبب في كونه محبوبا
أشد من حب المال وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي وبيان ما يحمد من حب
الجاه وما يذم وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم
وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح وبيان علاج كراهة الذم وبيان اختلاف
أحوال الناس في المدح والذم
فهي اثنا عشر فصلا منها تنشأ معاني الرياء فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب
بلطفه ومنه وكرمه
بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت
اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم بل المحمود
الخمول إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه
قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حسب امرئ من الشر أن يشير
الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله // حديث أنس حسب امرئ من
الشر إلا من عصمه أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه أخرجه البيهقي في
الشعب بسند ضعيف
وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بحسب المرء من الشر إلا
من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه
بالأصابع
في دينه ودنياه
إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم // حديث جابر بحسب امرئ
من الشر الحديث مثله وزاد في آخره إن الله لا ينظر إلى صوركم الحديث هو غير معروف
من حديث جابر معروف من حديث أبي هريرة رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب
بسند ضعيف مقتصرين على أوله ورواه مسلم مقتصرا على الزيادة التي في آخره وروى
الطبراني والبيهقي في الشعب أوله من حديث عمران بن حصين بلفظ كفى بالمرء إثما
ورواه ابن يونس في تاريخ الغرباء من حديث ابن عمر بلفظ هلاك بالرجل وفسر دينه
بالبدعة ودنياه بالفسق وإسنادهما ضعيف
ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلا ولا بأس به إذ روى هذا الحديث فقيل له يا
أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع فقال إنه لم يعن هذا وإنما عنى
به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه تبذل ولا تشتهر ولا
ترفع شخصك لتذكر وتعلم واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار
وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله ما صدق الله من أحب الشهرة
وقال أيوب السختياني والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه
وعن خالد بن معدان
أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة
وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام
ورأى طلحة قوما معه نحوا من عشرة فقال ذباب طمع وفراش نار
وقال سليم بن حنظلة بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة
فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن
الحسن قال خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني
فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان وقال الحسن إن خفق
النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى
وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال هل لكم من حاجة وإلا فما عسى أن يبقى هذا من
قلب المؤمن
وروي أن رجلا صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال أوصني فقال إن استطعت أن تعرف
ولا تعرف وتمشي ولا يمشى إليك وتسأل ولا تسئل فافعل
وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني
لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز و جل
وقال معمر عاتبت أيوب على طول قميصه فقال
إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره
وقال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال إياكم وهذا الحمار
الناهق يشير به إلى طلب الشهرة
وقال الثوري كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار
تمتد إليهما جميعا
وقال رجل لبشر بن الحارث
أوصني فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك
وكان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع
وقال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح
وقال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس
رحمة الله عليه وعليهم أجمعين
بيان فضيلة الخمول
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على
الله لأبره // حديث رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم
البراء بن مالك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على
الله لأبره وللحاكم رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله
لأبره وقال صحيح الإسناد ولأبي نعيم في الحلية من حديث أنس ضعيف رب ذي طمرين لا
يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وهو عند الحاكم نحوه بهذه
الزيادة وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه
منهم البراء بن مالك وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه و سلم رب ذي طمرين لا
يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم
يعطه من الدنيا شيئا // حديث ابن مسعود رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله
لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاء الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا أخرجه
ابن أبي الدنيا ومن طريقه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم ألا
أدلكم
على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر
جواظ // حديث ألا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف الحديث متفق عليه من حديث
حارثة بن وهب
وقال أبو هريرة قال صلى الله عليه و سلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا
يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا
وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على
الناس لوسعهم وقال صلى الله عليه و سلم إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا
لم يعطه إياه ولو سأله درهما لم يعطه إياه ولو سأله فلسا لم يعطه إياه ولو سأل
الله الجنة لأعطاه إياها ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه إلا
لهوانها عليه رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره // حديث إن من أمتي
من لو أتى أحدكم فسأله دينارا لم يعطه إياه الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من
حديث ثوبان بإسناد صحيح دون قوله ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه
إلا لهوانها عليه
وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن
اليسير من الرياء وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن
حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة // حديث معاذ بن جبل
إن اليسير من الرياء شرك وأن الله يحب الأتقياء الأخفياء الحديث أخرجه الطبراني
والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه فيه عيسى بن عبد الرحمن وهو
الزرقي متروك
وقال محمد بن سويد قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد
النبي صلى الله عليه و سلم هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى
ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة فلم
يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من
مخافة الغرق فقال يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم وسكن وتبع الرجل
صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيتك في حاجة
فقال ما هي قال تخصني بدعوة قال سبحان الله أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة ثم قال
ما الذي بلغك ما رأيت قال أطعت الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني
وقال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد
القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض
وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى إن أغبط
أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان
غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك قال ثم نقر رسول الله صلى
الله عليه و سلم بيده فقال عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه // حديث أبي أمامة إن
أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الخاذ الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسنادين
ضعيفين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما
أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفارون بدينهم يجتمعون يوم
القيامة إلى المسيح عليه السلام
وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده ألم أنعم
عليك ألم أسترك ألم أخمل ذكرك وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع
خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك
وقال الثوري وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء
وقال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني يوما في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد
قرى الشام وكان بي البطن فجرني المؤذن برجليA حتى أخرجني من
المسجد
وقال الفضيل إن قدرت على أن لا تعرف فافعل
وما
عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا
كنت محمودا عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول
وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب وحب الجاه هو
منشأ كل فساد
فإن قلت فأي شهوة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف
فاتهم فضيلة الخمول فاعلم أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه
من غير تكلف من العبد فليس بمذموم
نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من
الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم
وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك
بيان ذم الجاه ومعناه
وقال الله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
جمع بين إرادة الفساد والعلو وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعا
فقال عز و جل ومن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها
لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما
كانوا يعملون وهذا أيضا متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة
الدنيا وأكثر زينة من زينتها
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما
ينبت الماء البقل // حديث المال والجاه ينبتان النفاق الحديث تقدم في أول هذا
الباب ولم أجده
وقال صلى الله عليه و سلم ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأسرع إفسادا من حب
الشرف والمال في دين الرجل المسلم // حديث ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم
الحديث تقدم أيضا هناك
وقال صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله وجهه إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب
الثناء // حديث إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء لم أره بهذا اللفظ وقد
تقدم في العلم من حديث أنس ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع الحديث ولأبي منصور
الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس بسند ضعيف حب الثناء من الناس يعمي ويصم
نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه
بيان معنى الجاه وحقيقته
اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا
ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها
وطاعتها
وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى
الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك
قلوب الناس أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه
وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع
من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب
فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك
الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالا في نفسه بل يكفى أن يكون كمالا عنده
وفي اعتقاده وقد يعتقد ما ليس كمالا كمالا ويذعن قلبه للموصوف به انقيادا ضروريا
بحسب اعتقاده فإن انقياد القلب حال للقلب
وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب
ملك الأرقاء والعبيد
فطالب
الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي
يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهرا والعبد متأب بطبعه ولو خلى
ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ويبغي أن تكون له الأحرار
عبيدا بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك
الرق بكثير
فإذا معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال
فيه فيقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على
القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه
فهذا هو معنى الجاه وحقيقتة وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت
عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته
بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم
والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد
فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب
على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو
جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالا فإن هذه الأوصاف كلها
تعظم محله في القلوب فتكون سببا لقيام الجاه والله تعالى أعلم
بيان سبب كون الجاه محبوبا بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد
المجاهدة
اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوبا هو بعينه
يقتضي كون الجاه محبوبا بل يقتضي أن يكون أحب من المال كما يقتضي أن يكون يكون
الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا
غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس وإنما هي والحصباء
بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء
الشهوات فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد
قدرة يتوصل الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على
استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض فالاشتراك في السبب اقتضى
الاشتراك في المحبة وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال
ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه
الأول أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه فالعالم أو الزاهد
الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب القلوب
مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة
كمال إذا وجد كنزا ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم
يتيسر له فإذا الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمن ملك الجاه فقد ملك المال ومن ملك
المال لم يملك الجاه بكل حال فلذلك صار الجاه أحب
الثاني هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة
ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا
ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ولا
تتناولها أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا
يستغني عن المراقبة والحفظ وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها والجاه في
أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها
نعم إنما تغضب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف
الكمال وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله
الثالث
أن ملك القلوب يسرى وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا
أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها
فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضا له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت
وانتشار الذكر
لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال
يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئا فهو
مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبدا في النماء بنفسه ولا
مرد لموقعه والمال واقف ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء
استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال
وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح
فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعا فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال
والجاه
نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم كالمحتاج إلى الملبس
والمسكن والمطعم أو كالمبتلى بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن
نفسه إلا بمال أو جاه فحبه للمال والجاه معلوم إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا
به فهو محبوب وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار
الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات حتى لو كان للعبد واديان من ذهب
لابتغى لهما ثالثا وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد
التي يعلم قطعا أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبروه بمال أو ليعينوه
على غرض من أغراضه ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في
الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة
فنقول نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب
وله سببان
أحدهما جلي تدركه الكافة
والآخر خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء
فضلا عن الأغنياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا
يكاد يقف عليها إلا الغواصون
فأما السبب الأول فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان
مكفيا في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف
فيحتاج إلى غيره فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا
الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته
على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات
إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال حتى إن أصيب
بطائفة من ماله استغنى بالآخر وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال فلذلك
لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال // حديث منهومان لا يشبعان
الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف والبزار والطبراني في الأوسط
من حديث ابن عباس بسند لين وقد تقدم
ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده
فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه
ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكنا ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلا
إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا
الخوف
وأما
السبب الثاني وهو الأقوى لأن الروح أمر رباني به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أو معنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم
المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث
أنه صلى الله عليه و سلم لم يظهر سر الروح أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود وقد
تقدم
ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلا إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات
سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى
صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة
يطول شرحها وتفصيلها فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ومعنى
الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال
فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوبا بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود
فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها فلو كان معها
شمس أخرى لكان ذلك نقصا في حقها إذ لم تكن منفددة بكمال معنى الشمسية والمنفرد
بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا
قوام له بذاته بل هو قائم به فلم يكن موجودا معه لأن المعية توجب المساواة في
الرتبة والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له في رتبته
وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصانا في الشمس بل هو من جملة
كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها
فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ولا يكون
متبعا فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال
وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ولذلك قال بعض مشايخ
الصوفية ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكنه
ليس يجد له مجالا وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس
والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى قل
الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال
فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال وكل موجود
فهو محب لذاته ولكمال ذاته ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من
ذاته
وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل
الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه فصار
الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع لأنه نوع كمال
وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به إلا أن الاستيلاء على
الشيء بالقدرة على التأثير فيه وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخرا لك تردده كيف
تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه
إلا أن الموجودات منقسمة إلى مالا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته
وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت
السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار
وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات
والحيوان ومن جملتها قلوب الناس فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد
الحيوانات
فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا
يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات أحب الإنسان أن يستولي على السموات
بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء إذ المعلوم المحاط به
كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه فلذلك أحب أن يعرف
الله
تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب وجميع عجائب السموات وجميع عجائب البحار
والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها والاستيلاء نوع كمال
وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها كمن يعجز عن
وضع الشطرنج فأنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في
الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور
عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفية فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه
وأما القسم الثاني وهو الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها فإنه يحب بالطبع أن
يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان أجساد وأرواح
أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فيجب أن يكون قادرا عليها يفعل فيها
ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع فإن ذلك قدرة والقدرة كمال والكمال من
صفات الربوبية والربوبية محبوبة بالطبع فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها
في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص
الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار وإن لم يملك
قلوبهم فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوبا لها ويقوم القهر منزلته فيها
فإن الحشمة القهرية أيضا لذيذة لما فيها من القدرة
القسم الثاني نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض فهو يحب أن يكون له
استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال
الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية والقلوب إنما تتسخر الحب ولا تحب إلا باعتقاد
الكمال فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها
محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان وهو الذي لا يبليه الموت
فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى
لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب
كانت له قدرة واستيلاء عليها والقدرة والاستيلاء كمال وهو من أوصاف الربوبية
فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة والمال والجاه من أسباب القدرة ولا
نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن
والنقصان لا يزول
ولذلك قال صلى الله عليه و سلم منهومان لا يشبعان فإذن مطلوب القلوب الكمال
والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور فسرور كل إنسان ولذته بقدر
ما يدركه من الكمال فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوبا وهو أمر وراء
كونه محبوبا لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات
بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض بل ربما يفوت عليه
جملة من الأغراض والشهوات ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات
لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية
فكان محبوبا بالطبع إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن
شاء الله تعالى
بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له
قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال
الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة
أوجه
أحدها من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط
بجميع
المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى
الثاني من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما
فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان
علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى
الله تعالى
الثالث من حيث بقاء العلم أبد الأباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى
باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير
والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى
والمعلوم قسمان متغيرات وأزليات
أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن
يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلا فيكون نقصانا
لا كمالا فكلما اعتقدت اعتقادا موافقا وتصور أن ينقلب المعتقد فيه كما اعتقدته كنت
بصدد أن ينقلب كمالك نقصا ويعود علمك جهلا
ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلا بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد
البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك
وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه
علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ولا
يبقى كمالا في القلب
القسم الثاني هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة
المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبديه إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا ولا الجائز
محالا ولا المحال واجبا
فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في
أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب
الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله
تعالى ويبقى كمالا للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس
مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير
ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام
ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم
يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في
بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذن لا سعادة
إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلا
كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله
تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على
معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات
والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول
الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى قد أفلح من زكاها وقال عز و
جل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق
معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه
جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي
فعل الله تعالى
ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا
حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه
لاستيفاء أقسام الكمال
وأما
القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما
القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة
بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع
المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة
فلا
نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة
أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها
إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه
للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله
للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي
تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل
فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى
وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما
طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى
ومن ملائكته وهو العلم والحرية أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى وأما
الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبها
بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب
عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة
ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر
بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه ومنزلته عند الله أعظم
وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة وإنما لم نورده في أقسام الكلام لأن حقيقته
ترجع إلى عدم ونقصان فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها
والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال
فإذن الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالا ككمال
العلم وكمال الحرية وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية وكمال
القدرة للعبد طريق إلىاكتساب كمال العلم وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال
القدرة الباقية بعد موته إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان
تنقطع بالموت ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالا فيه ووسيله إلى
القرب من الله تعالى
فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال
القدرة بالجاه والمال وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن
كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا لا انقطاع له وهؤلاء هم الذين اشتروا
الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم
يفهموا قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند
ربك ثوابا وخير أملا فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقي كمالا في
النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية وقال
تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيما
تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا وكل ما لا يقطعه
الموت فهو الباقيات الصالحات
فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له وأن من قصر الوقت
على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل وإليه أشار أبو الطيب بقوله
ومن
ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته
بلطفك
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم
مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض
من أعراض الحياة الدنيا وينقطع بالموت كالمال والدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق في
الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم
والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق والإنسان كما لا
يستغني عن طعام يتناوله له فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام
فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده وسلطان يحرسه
ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى
الخدمة ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته
ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده
وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه
ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال فلا فرق بينهما
إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له بل
ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته
ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا على التحقيق ليس
محبا لبيت الماء فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل
إليه
وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة
الشهوة كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما
أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته
لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها فهذا هو الحب دون الأول
وكذلك الجاه والمال
وقد يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن
غير مذموم وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف
صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية
وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه
بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام وإليه يرجع
معنى الرياء المحظور كما سيأتي
فإن قلت طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به
أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص فأقول يطلب
ذلك على ثلاثة أوجه وجهان مباحان ووجه محظور
أما الوجه المحظور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك
عنها مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك
فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة
أما أحد المباحين فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه و
سلم فيما أخبر عنه الرب تعالى اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإنه طلب
المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما وكان
محتاجا
إليه وكان صادقا فيه
والثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته
به فهذا أيضا مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر وإظهار
القبيح
وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به كالذي يخفي عن
السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقي إليه أنه ورع فإن قوله إني ورع تلبيس وعدم إقراره
بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب
ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده فإن ذلك رياء وهو
ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله فكيف يكون
مخلصا فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية وذلك يجري مجرى اكتساب المال
الحرام من غير فرق وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا
يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال
بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها
للذم ونفرتها منه
اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب
السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب وكل محبوب
فإدراكه لذيذ
فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها
فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جليا ظاهرا أو يكون مشكوكا فيه فإن كان
جليا ظاهرا محسوسا كانت اللذة به أقل ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل
القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته فإذا
استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك
فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن
الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقا إلى
زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه
إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينه وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته وإنما
تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في
القول إلا عن تحقيق ذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة
الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيرا بذلك
الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه
والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر
الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح
السبب الثاني أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد
فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم
اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر ويضعف
مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة
على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضا يكره الذم ويتألم
به القلب وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم
السبب الثالث أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لا سيما إذا
كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم
كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى
قوله
كان المدح ألذ والذم أشد على النفس
السبب الرابع أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان
بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضا لذيذة لما فيها من
القهر والقدرة وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ولكن
كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح
وقوته فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق
فتنقص اللذة بها
أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في
قوله كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم
من نفسه ضد ذلك فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على
قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم
خلوه عن هذه الصفة بطلب اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى لذة الاستيلاء
والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق
اللعب بطلب اللذات كلها فلم يكن فيه أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف
الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا
يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض
والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى
بيان علاج حب الجاه
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد
إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته
عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات
والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول
الله صلى الله عليه و سلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال صلى
الله عليه و سلم إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر
للباطن بالقول أو الفعل وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم
وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق
فحب الجاه إذا من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإن طبع جبل عليه القلب
كما جبل على حب المال وعلاجه مركب من علم وعمل
أما العلم فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص
الناس وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت فليس هو من الباقيات
الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة
لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع
المتواضعين له
فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن
فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما
يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل
عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فكأنك
بآخر من كتب عليه الموت قد مات فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائنا
وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن
وكأنك
بالآخرة لم تزل فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا
أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا
وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة التي لا يمتد نورها إلى مشاهدة
العواقب ولذلك قال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال عز و جل
كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه
بالعلم بالآفات العاجلة وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في
الدنيا فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من
أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيرا من القدر في غليانها وهي مترددة بين
الإقبال والإعراض فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه
لا ثبات له والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء
كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلا عما
يفوت في الآخرة فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة
وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا فهذا هو العلاج من حيث
العلم
وأما من حيث العمل فإسقاط الجاه على قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط
من أعين الخلق وتفارقه لذه القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من
الخالق
وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين
الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب
المسلمين وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك بل له أن
يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد
فلما علم بقربه منه استدعى طعاما وبقلا وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة فلما نظر إليه
الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد الحمد لله الذي صرفك عني
ومنهم من شرب شرابا حلالا في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط
من أعين الناس
وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا
يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة
التقصير كما فعل بعضهم فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماما ولبس ثياب
غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا إنه
طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول
فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ
له في القلوب بسبب عزلته فإنه ربما يظن أنه ليس محبا لذلك الجاه وهو مغرور وإنما
سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه
إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك
الغبار عن قلوبهم وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به
وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة
ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم ولا
يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس فإذا أحرز قوته من
كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأسا أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال فلا
يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه
في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة
فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته
في القلوب عنده وزن ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع
ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم
الجاه
ومدح الخمول والذل مثل قولهم المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة
وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله
عنهم أجمعين
بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم
اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا بخوف مذمة الناس وحب مدحهم فصار حركاتهم كلها
موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفا من الذم وذلك من المهلكات فيجب
معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم
أما السبب الأول فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك
وتقول لنفسك هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا فإن كنت متصفا بها فهي
إما صفة تستحق بها المدح كالعلم والورع وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه
والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض
الذي يصير على القرب هشيما تذروه الرياح وهذا من قلة العقل بل العاقل يقول كما قال
المتنبي
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح
بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها
وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن
الخاتمة غير معلومة وهذا إنما يقتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمة
غير معلومة وهذا إنما يقتضى الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمةباق ففي
الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا بل الدنيا دار أحزان وغموم لا
دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل
الله عليك بالعلم والتقوى لا بمدح المادح فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال
موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح والمدح لا
يزيدك فضلا وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون
ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما
أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من
الأقذار والأنتان ثم يفرح بذلك فكذلك إذا أثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به
والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك كان ذلك من غاية الجهل
فإذا المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله عليك وإن كذب فينبغي أن
يغمك ذلك ولا تفرح به
وأما السبب الثاني وهو دلالة المدح على تسخير قلب المادح وكونه سببا لتسخير قلب
آخر فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب وقد سبق وجه معالجته وذلك بقطع
الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله وبأن تعلم أن طلبك المنزلة في قلوب الناس
وفرحك به يسقط منزلتك عند الله فكيف تفرح به
وأما السبب الثالث وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح فهو أيضا يرجع إلى قدرة
عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به
كما نقل ذلك عن السلف لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة كما ذكرناه في كتاب آفات
اللسان قال بعض السلف من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه
وقال بعضهم إذا قيل لك نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك بئس الرجل أنت
فأنت والله بئس الرجل
وروي في بعض الأخبار فإن صح فهو قاصم للظهور
أن
رجلا أثنى على رجل خيرا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لو كان صاحبك
حاضرا فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار // حديث أن رجلا أثنى على رجل خيرا
فقال لو كان صاحبك حاضرا فرضي الذي قلت ومات على ذلك دخل النار لم أجد له أصلا
وقال صلى الله عليه و سلم مرة للمادح ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم
القيامة // حديث ويحك قطعت ظهره الحديث قاله للمادح تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم
التراب // حديث ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب تقدم
دون قوله ألا لا تمادحوا
فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل
على القلب من السرور العظيم به حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلا عن شيء فقال
أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم فغضب وقال إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض
الصحابة لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله فغضب وقال إني لأحسبك عراقيا
وقال بعضهم لما مدح اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته
وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق فكان اشتغال
قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق لأن الممدوح هو المقرب عند
الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا
الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره وإن كان من
أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد
الخلق
ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط
من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه
والله الموفق للصواب برحمته
بيان علاج كراهة الذم
قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح فعلاجه أيضا يفهم منه
والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال
إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة وإما أن يكون صادقا ولكن قصده
الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذبا
فإن كان صادقا وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه بل ينبغي أن
تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه فينبغي أن تفرح
به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها فأما اغتمامك بسببه
وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله
إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا به وأذكرك عيبك إن كنت غافلا عنه أو قبحه في عينك
لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته
وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها
بسبب ما سمعته من المذمة
فمهما قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري ولو دخلت عليه كذلك
لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسه بالعذرة فقال قائل أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك
فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة وجميع مساوي الأخلاق مهلكة في الآخرة
والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه
وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه
بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به
الحالة
الثالثة أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا
تشتغل بذمه بل تتفكر في ثلاثة أمور
أحدها أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه وما ستره الله من
عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء
عنه
والثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من
ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك
فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت
تزعم أنك تحب القرب من الله
وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه
بافترائه وتعرض لعقابه الأليم فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به
الشيطان وتقول اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم
ارحمه كما قال صلى الله عليه و سلم اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون // حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قاله لما ضربه قومه أخرجه
البيهقي في دلائل النبوة وقد تقدم والحديث في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قاله
حكاية عن نبي من الأنبياء حين ضربه قومه
لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد
ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال علمت أني مأجور
بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي
ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر
ذلك في قلبه وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه وما دام الطمع
قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة
في قلبه مصروفة ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه
ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جدا
بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم
اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح
الحالة الأولى أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه
أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب
الحالة الثانية أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافأته ويفرح
باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه
بالإضافة إلى ما قبله كمال
الحالة الثالثة وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة
ولا تسره استثقالا
وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغرورا إن لم يمتحن نفسه بعلاماته
وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالا للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده
في المادح وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده
في قضاء حاجة الذام وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح
وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام وأن لا يكون غمه
بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام وأن لا تكون زلة
المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام
فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما
أبعد ذلك وما أشده على القلوب وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم
وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون
أنفسهم
بهذه العلامات وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام والشيطان يحسن له
ذلك ويقول الذام قد عصى الله بمذمتك والمادح قد أطاع الله بمدحك فكيف تسوي بينهما
وإنما استثقالك للذام من الدين المحض
وهنا محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر
مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم ويعلم أن المادح الذي
مدح لا يخلو عن مذمة غيره
ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه والمذمة من حيث إنها
معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره
فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من
الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعدا من الله ومن لم يطلع على مكايد
الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة
وفيهم قال الله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
الحالة الرابعة وهي الصدق في العبادة أن يكره المدح ويمقت المادح إذا يعلم أنه
فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه
ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته فقد قال صلى الله عليه و سلم رأس التواضع أن
تكره أن تذكر بالبر والتقوى // حديث رأس التواضع أن يكره أن يذكر بالبر والتقوى لم
أجد له أصلا
وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه
و سلم قال ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من فقيل يا رسول الله إلا
من فقال إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحب المذمة // حديث ويل للصائم
وويل للقائم وويل لصاحب الصوف الحديث لم أجده هكذا وذكر صاحب الفردوس من حديث أنس
ويل لمن لبس الصوف فخالف فعله قوله ولم يخرجه ولد في مسنده
وهذا شديد جدا وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية وهو أن يضمر الفرح والكراهة
على الذام والمادح ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما الحالة الثالثة وهي التسوية
بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها
ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن
تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء
حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة
القلب ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ
قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما
بعده من المرتبتين وكل واحدة من هذه الرتب أيضا فيها درجات
أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت
فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ولا يبالي بمقارفة المحظورات
لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين
ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات ولا يباشر المحظورات وهذا
على شرف جرف هار فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن
يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد فهو قريب من الهالكين جدا
ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا
لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى
الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه
بالتفكر في آفات المدح فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه
ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغنم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير وإن كان
قد بقي عليه بقية من الإخلاص
ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن
لا
ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر
الغضب وهو صادق فيه لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق لأنه يريد
أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال
في حق الذام وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح ولا يكون الفرح وإظهاره
إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة
وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو والإنسان يفرح ممن يذم عدوه وهذا شخص عدوه
نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على
عيوبها فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في
أعين الناس حتى لا يبتلى بفتنة الناس وإذا سيقت إليه حسنات لم ينصب فيها فعساه
يكون خيرا لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه
الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه
لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها ولا يقطع شيئا منها إلا
بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل الشطر الثاني من الكتاب في طلب الجاه والمنزلة
بالعبادات
وهو الرياء وفيه
بيان ذم الرياء
وبيان حقيقة الرياء وما يرائي وبيان درجات الرياء وبيان الرياء الخفي وبيان ما
يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط وبيان دواء الرياء وعلاجه وبيان الرخصة في إظهار
الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب وبيان ترك الطاعات خوفا من الرياء والآفات
وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق وبيان ما يجب على المريد أن
يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها
وهي عشرة فصول وبالله التوفيق بيان ذم الرياء
اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار
والآثار
أما الآيات فقوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون
وقوله عز و جل والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور قال مجاهد
هم أهل الرياء
وقال تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فمدح المخلصين ينفي
كل إرادة سوى وجه الله والرياء ضده وقال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا
صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا // حديث نزول قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه
الآية فيمن يطلب الآخرة بعباداته وأعماله
أخرجه الحاكم من حديث طاوس قال رجل إني أقف الموقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى
موطني فلم يرد عليه حتى نزلت هذه الآية
هكذا في نسختي من المستدرك ولعله سقط منه ابن عباس أو أبو هريرة وللبزار من حديث
معاذ بسند ضعيف من صام رياء فقد أشرك الحديث وفيه أنه صلى الله عليه و سلم تلا هذه
الآية
نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه و سلم حين سأله رجل فقال يا رسول الله فيم
النجاة فقال أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس وقال أبو هريرة في حديث
الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله كما أوردناه في
كتاب الإخلاص وإن الله عز و جل يقول لكل واحد منهم كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد
كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ فأخبر صلى الله
عليه و سلم
أنهم
لم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم // حديث أبي هريرة في الثلاثة المقتول
في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتابه فإن الله تعالى يقول لكل واحد منهم
كذبت
رواه مسلم وسيأتي في كتاب الإخلاص
وقال ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه و سلم من راءى راءى الله به
ومن سمع سمع الله به // حديث ابن عمر من راءى راءى الله تعالى به ومن سمع سمع الله
به متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله وأما حديث ابن عمر فرواه الطبراني في
الكبير والبيهقي في الشعب من رواية شيخ يكنى أبا يزيد عنه بلفظ من سمع الناس سمع
الله به سامع خلقه وحقره وصغره وفي الزهد لابن المبارك ومسند أحمد بن منيع إنه من
حديث عبد الله بن عمرو
وفي حديث آخر طويل إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في
سجين // حديث إن الله يقول للملائكة إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين أخرجه
ابن المبارك في الزهد ومن طريقه ابن أبي الدنيا في الإخلاص وأبو الشيخ في كتاب
العظمة من رواية حمزة بن حبيب مرسلا ورواه ابن الجوزي في الموضوعات
وقال صلى الله عليه و سلم إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك
الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله عز و جل يوم القيامة إذا جازى العباد
بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء
// حديث إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الحديث أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب
من حديث محمود بن لبيد وله رواية ورجاله ثقات ورواه الطبراني من رواية محمود بن
لبيد عن رافع بن خديج
وقال صلى الله عليه و سلم استعيذوا بالله عز و جل من جب الحزن قيل وما هو يا رسول
الله قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين // حديث استعيذوا بالله من جب الحزن قيل
وما هو قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من
حديث أبي هريرة وضعفه ابن عدي
وقال صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له
كله وأنا منه بريء وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك // حديث يقول الله
من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله الحديث أخرجه مالك واللفظ له من حديث أبي
هريرة دون قوله وأنا منه بريء ومسلم مع تقديم وتأخير دونها أيضا وهي عند ابن ماجه
بسند صحيح
وقال عيسى المسيح صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته
ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلى
فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صلى الله عليه و
سلم لا يقبل الله عز و جل عملا فيه مثقال ذرة من رياء // حديث لا يقبل الله عملا
فيه مقدار ذرة من رياء لم أجده هكذا
وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي ما يبكيك قال حديث سمعته من صاحب هذا القبر
يعني النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن أدنى الرياء شرك // حديث معاذ إن أدنى
الرياء شرك أخرجه الطبراني هكذا والحاكم بلفظ إن اليسير من الرياء شرك وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية // حديث أخوف
ما أخاف عليكم الرياء الحديث تقدم في أول هذا الكتاب
وهي أيضا ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال صلى الله عليه و سلم إن في ظل العرش
يوم لا ظل إلا ظله رجلا تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله // حديث إن في ظل العرش
يوم لا ظل إلا ظله رجلا تصدق بيمينه فكاد أن يخفيها عن شماله متفق عليه من حديث
أبي هريرة بنحوه في حديث سبعة يظلهم الله في ظله
ولذلك ورد أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفا // حديث تفضيل عمل السر على
عمل الجهر بسبعين ضعفه البيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء إن الرجل ليعمل العمل
فيكتب له عمل صالح معمول به في السر يضعف أجره سبعين ضعفا قال البيهقي هذا من
أفراد بقية عن شيوخه المجهولين وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص من حديث عائشة
بسند ضعيف يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين
درجة
وقال صلى الله عليه و سلم إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا
مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له // حديث إن المرائي ينادى
يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك الحديث أخرجه ابن أبي
الدنيا من رواية جبلة اليحصبي من صحابي لم يسم وزاد يا كافر يا خاسر ولم يقل يا
مرائي // وإسناده ضعيف //
وقال شداد بن أوس رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله
قال
إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرا
ولكنهم يراءون بأعمالهم // حديث شداد بن أوس إني تخوفت على أمتي الشرك الحديث
أخرجه ابن ماجه والحاكم نحوه وقد تقدم قريبا //
وقال صلى الله عليه و سلم لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها
أوتادا للأرض فقالت الملائكة ما خلق ربنا خلقا هو أشد من الجبال فخلق الله الحديد
فقطع الجبال ثم خلق النار فأذابت الحديد ثم أمر الله الماء بإطفاء النار وأمر
الريح فكدرت الماء فاختلفت الملائكة فقالت نسأل الله تعالى قالوا يا رب ما أشد ما
خلقت من خلقك قال الله تعالى لم أخلق خلقا هو أشد علي من قلب ابن آدم حين يتصدق
بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقا خلقه // حديث لما خلق الله الأرض
مادت بأهلها الحديث وفيه لم أخلق خلقا هو أشد من ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن
شماله أخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلاف وقال غريب //
وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل حدثني حديثا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم
قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قال لي يا معاذ قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا
رسول الله قال إني محدثك حديثا إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك
عند الله يوم القيامة يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات
والأرض ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها قد جللها عظما
فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتى إذا صعدت
به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه
أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري قال ثم
تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى
السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا بهذا العمل وجه صاحبه إنه
أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان
يفتخر به على الناس في مجالسهم قال وتصعد الحفظة يعلم يبتهج نورا من صدقة وصيام
وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها
فقوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني
إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم قال وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر
كما يزهر الكوكب الدري له دوي من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء
الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به
ظهره وبطنه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا
عمل عملا أدخل العجب في عمله قال وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به السماء
الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا
بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من
يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة يحسدهم ويقع فيهم أمرني
ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري قال وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة
وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا
واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنسانا قط من عباد الله أصابه بلاء
أو ضر أضر به بل كان يشمت به أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى
غيري قال وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة
واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به
إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل
وجه
صاحبه اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه
ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى إنه أراد رفعة عند الفقهاء وذكرا عند العلماء
وصيتا في المدائن أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكن لله
خالصا فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي قال وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة
وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى
يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز و جل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح
المخلص لله قال فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه
لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي فتقول الملائكة كلهم عليه لعنتك
ولعنتنا وتقول السموات كلها عليه لعنة الله ولغتنا وتلعنه السموات السبع والأرض
ومن فيهن قال معاذ قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال اقتد بي وإن كان
في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل
ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل
الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك ولا تناج
رجلا وعندك آخر ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا ولا تمزق الناس فتمزقك
كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى والناشطات نشطا أتدري من هن يا
معاذ قلت ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال كلاب في النار تنشط اللحم والعظم
قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها قال يا معاذ
إنه ليسير على من يسره الله عليه // حديث معاذ الطويل إن الله تعالى خلق سبعة
أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها
الحديث بطوله في صعود الحفظة بعمل العبد ورد الملائكة له من كل سماء ورد الله تعالى
له بعد ذلك عزاء المصنف إلى رواية عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل عن معاذ وهو
كما قال رواه في الزهد وفي إسناده كما ذكر من لم يسم ورواه ابن الجوزي في
الموضوعات
قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث
وأما الآثار فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا يطأطئ رقبته فقال يا
صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو
أمامة الباهلي رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال أنت أنت لو كان هذا في بيتك
وقال علي كرم الله وجهه للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في
الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليAه
وينقص إذا ذم
وقال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى
ومحمدة الناس قال لا شيء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شيء لك ثم قال في
الثالثة إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث وسأل رجل سعيد بن المسيب
فقال إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر فقال له أتحب أن تمقت قال لا قال
فإذا عملت لله عملا فأخلصه
وقال الضحاك
لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم فإن الله تعالى لا
شريك له
وضرب عمر رجلا بالدرة ثم قال له اقتص مني فقال لا بل أدعها لله ولك
فقال له عمر ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك أو تدعها لله وحده فقال
ودعتها لله وحده فقال فنعم إذن
وقال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت
أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق
فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال إن المرائي ينادي يوم القيامة بأربعة
أسماء يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك
عندنا
وقال الفضيل بن عياض كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون
بما
لا يعملون
وقال عكرمة إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء
فيها
وقال الحسن رضي الله عنه المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن
يقول الناس هو رجل صالح وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء فلا بد لقلوب
المؤمنين أن تعرفه
وقال قتادة إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي
وقال مالك بن دينار الفراء ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك وأن محمد
بن واسع من قراء الرحمن
وقال الفضل من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي
وقال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن
السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين
وقال أبو سليمان التوقي عن العمل أشد من العمل
وقال ابن المبارك إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان فقيل له وكيف ذاك قال يحب
أن لا يذكر أنه مجاور بمكة
وقال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أراد أن يشتهر
بيان حقيقة الرياء وما يراءى به
اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية والسمعة مشتقة من السماع وإنما الرياء أصله طلب
المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب
بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات
واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد
الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله فالمرائي هو العابد والمراءى هو الناس المطلوب
رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم والمراءى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها
والرياء هو قصده إظهار ذلك والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين
به العبد للناس وهو البدن والزي والقول والعمل والأتباع والأشياء الخارجة
وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال
ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات
القسم الأول الرياء في الدين بالبدن وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة
الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة وليدل بالنحول على قلة الأكل
وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث
الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر
وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم
فلذلك تدعوه النفس إلى إظهارها لنيل تلك الراحة
ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب
على الصوم وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته
وعن هذا قال المسيح عليه السلام إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه
وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء ولذلك قال
ابن مسعود أصبحوا صياما مدهنين
فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن
فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه
ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها
الثاني الرياء بالهيئة والزي أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق
الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس
الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقا كل
ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله
الصالحين
ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع
الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن
ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى
تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة
ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم
والمراءون بالزي على طبقات فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزهد
فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها
أنه غير مكترث بالدنيا ولو كلف أن يلبس ثوبا وسطا نظيفا مما كان السلف يلبسه لكان
عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك
الطريقة ورغب في الدنيا
وطبقة أخرى يطلبون القبول عند أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء
والتجار ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة
أزدرتهم أعين الملوك والأغنياء فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا فلذلك
يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة
فيلبسونها ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون
القبول عند الفريقين وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم كالذبح خوفا
من السقوط من أعين الملوك والأغنياء ولو كلفوا لبس الديبقى والكتان الدقيق الأبيض
والمقصب المعلم وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم لعظم ذلك عليهم خوفا من أن يقول
أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا
وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو إلى ما
فوقه وإن كان مباحا خيفة من المذمة
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع
والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة
النفيسة وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو
برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة
الثالث الرياء بالقول ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار
والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهارا لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية
بأحوال السلف الصالحين وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بمشهد الخلق وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة
الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل بذلك على
الخوف والحزن وادعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل
في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح
لإظهار الفضل فيه والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين
والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات
وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب
الرابع الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع
وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك
بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء
كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى إن المرائي قد يسرع في المشي
إلى حاجته فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفا من
أن
ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه
ولم يحضره ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له بل هو لاطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد
فيه أنه من العباد والصلحاء ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في
الخلوة مشيته بمرأى من الناس فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه
الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه فإنه
صار في خلوته أيضا مرائيا فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا
لخوف من الله وحياء منه
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ
بأطراف الذيل وإرادة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة
الخامس المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يستزير عالما من
العلماء ليقال إن فلانا قد زار فلانا أو عابدا من العباد ليقال إن أهل الدين
يتبركون بزيارته ويترددون إليه أو ملكا من الملوك أو عاملا من عمال السلطان ليقال
إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين
وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخا كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه
ومباهاته ومراءاته تشرشح منه عند مخاصمته فيقول لغيره من لقيت من الشيوخ وأنا قد
لقيت فلانا وفلانا ودرت البلاد وخدمت الشيوخ وما يجري مجراه فهذه مجامع ما يرائي
به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد
ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة وكم من
عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب
الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم
الله ببراءة ساحته بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم مع أنه
قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه فإنه
نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر
الناس جهال ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان
بالثناء والحمد
ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه
ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له
بذلك جاه عند العامة ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من
الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون
بالأسباب التي ذكرناها
فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء
فإن قلت فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل فأقول فيه تفصيل فإن الرياء
هو طلب الجاه وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات
فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب
المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج
إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضا محمود وهو
الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال إني حفيظ عليم وكما أن المال فيه سم ناقع
ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهى ويطفى وينسى ذكر الله والدار
الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال وكما أنا نقول
تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضا تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته
كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز
نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ولا يقدر
محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها وأما سعة
الجاه
من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع
من جاه ورسول الله صلى الله عليه و سلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء
الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم فعلى هذا
نقول تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام
لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل ما تجمل للناس وتزين لهم
والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
أراد أن يخرج يوما إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت أو
تفعل ذلك يا رسول الله قال نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا
خرج إليهم // حديث عائشة أراد أن يخرج على أصحابه وكان ينظر في جب الماء ويسوي
عمامته وشعره الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل وقد تقدم في الطهارة
نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم عبادة لأنه كان مأمورا بدعوة الخلق
وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه فكان
يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم فإن أعين عوام الخلق تمتد
إلى الظواهر دون السرائر فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن لو قصد
قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذرا من ذمهم ولومهم واسترواحا إلى توقيرهم
واحترامهم كان قد قصد أمرا مباحا إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة
الأنس بالإخوان
ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم
فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة وقد تكون طاعة وقد تكون مذمومة
وذلك بحسب الغرض المطلوب بها
ولذلك نقول الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة
ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله
أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان
إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر وهذا يبطل عبادته لأن
الأعمال بالنيات وهذا ليس بقصد العبادة لا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول صار
كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات
والمعنى فيه أمران
أحدهما يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه
من أهل الدين وليس كذلك والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضا حتى لو قضى دين جماعة
وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك
القلوب بالخداع والمكر
والثاني يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ
بالله
ولذلك قال قتادة إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي
ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه
لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم
يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبدا من عبيده فأي استحقار يزيد على أن
يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضرا ولا نفعا وهل ذلك إلا
لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقريب إليه من
الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته وأي استهزاء يزيد على رفع العبد
فوق المولى فهذا من كبائر المهلكات ولهذا
سماه
رسول الله صلى الله عليه و سلم الشرك الأصغر // حديث سمى الرياء الشرك الأصغر
أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد وقد تقدم ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد
عن رافع بن خديج فجعله في مسند رافع وتقدم قريبا وللحاكم وصحح إسناده من حديث شداد
بن أوس كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرياء الشرك الأصغر
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله
تعالى ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في
الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى
الله فقد قصد غير الله ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا إلا أن
الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد
ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود
وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريبا من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم
عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله فعن هذا كان شركا خفيا لا شركا جليا وذلك
غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره
ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه
عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم
في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن العباد كلهم عاجزون عن
أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا فكيف في
يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا بل تقول الأنبياء فيه
نفسي نفسي فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه
الكاذب في الدنيا من الناس فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله
من حيث النقل والقياس جميعا هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد
جميعا في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص
وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب
وعبادة بن الصامت إنه لا أجر له فيه أصلا
بيان درجات الرياء
اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت
الدرجات فيه وأركانه ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء
الركن الأول نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجردا دون إرادة عبادة الله
تعالى والثواب وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون
إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعا
الأولى وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلى بين أظهر الناس ولو
انفرد لكان لا يصلي بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس فهذا جرد قصده إلى الرياء
فهو الممقوت عند الله تعالى
وكذلك من يخرج الصدقة خوفا من مذمة الناس وهو ولا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما
أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء
الثانية أن يكون له قصد الثواب أيضا ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لكان
لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله
على العمل فهذا قريب مما قبله
وما
فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم
الثالثة أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد منهما
خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة أو كان كل واحد
منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم
رأسا برأس لا له ولا عليه أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر
الأخبار تدل على أنه لا يسلم وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص
الرابعة أن يكون إطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة
ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط
أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد
الثواب وأما قوله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك
فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح
الركن الثاني المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى
الرياء بأوصافها
القسم الأول وهو الأغلظ الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات
الأولى الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار وهو الذي
يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام وهو الذي
ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز و جل إذا جاءك المنافقون قالوا
نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون أي في
دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا
ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية
وقال تعالى وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ وقال
تعالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك والآيات فيهم كثيرة
وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض وذلك
مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطنا فيجحد الجنة والنار
والدار الآخرة ميلا إلى قول الملحدة أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلا إلى
أهل الإباحة أو يعتقد كفرا أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين والمرائين
المخلدين في النار وليس وراء هذا الرياء رياء وحال هؤلاء أشد حالا من الكفار
المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر
الثانية الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضا عظيم عند الله
ولكنه دون الأول بكثير
ومثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفا من ذمه والله يعلم
منه أنه لو كان في يده لما أخرجها أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك
الصلاة في الخلوة وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة من الخلق ليفطر وكذلك يحضر
الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة
ولكن خوفا من الناس أو يغزو أو يحج كذلك
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ولو كلف أن يعبد غير
الله أو يسجد لغيره لم يفعل ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند إطلاع الناس
فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق وخوفه من مذمة الناس أعظم
من خوفه من عقاب الله ورغبته في محمدتهم أشد مرغبته في ثواب الله وهذا غاية الجهل
وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد
الثالثة
أن لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا
يعصي ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما
يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة
المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم
الاثنين والخميس
فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى منه
أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض
فهذا أيضا عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق
وهذا أيضا قد فعل ذلك واتقى ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من
عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقابا على ترك النافلة لو تركها
وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه
فهذا هو الرياء بأصول العبادات
القسم الثاني الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضا على ثلاثة درجات
الأولى أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود
ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود
بين السجدتين وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز و جل أي
أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن
جلس بين يدي إنسان متربعا أو متكئا فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه
تقديما للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة
في الملأ دون الخلوة
وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع
عليه غيره أخرجها من الجيد خوفا من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث
لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم خوفا من المذمة فهذا أيضا من الرياء المحظور
لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات
فإن قال المرائي إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف
الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن
هذه المعصية فيقال له هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإن ضررك من
نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين
لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه
فضلا وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به
إذا كان الملك وحده وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع خوفا من مذمة غلمانه وذلك محال
بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر
نعم للمرائي فيه حالتان
إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعا
والثانية أن يقول ليس يحضرني في الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت
صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستقيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم
ولا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب وتحصل المذمة
فهذا فيه أدنى نظر
والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على
عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما
سبق
الدرجة الثانية أن يرائي بفعل مالا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة
والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين
والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال
والزيادة
في القراءة على السور المعتادة وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت
وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة
وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه
الثالثة أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضا كحضوره الجماعة قبل القوم
وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه
وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم
بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض
والكل مذموم
الركن الثالث المرائي لأجله فإن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال
أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة وله أيضا ثلاث درجات
الأولى وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعبادته
ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة
فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة
الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها أو
تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها أو يتوصل بها إلى
استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي
وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير
وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور وقد يحظرون مجالس العلم
والتذكيروحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء
والصبيان أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام
وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته
واتخذوها آلة ومتجرا وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو
مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى
لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال
نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن
نفسه بالخشوع وإظهار التقوى
الثانية أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو
شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في
نكاحه النساء فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي
يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته
فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإنه
المطلوب بهذا مباح في نفسه
الثالثة أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفا من أن ينظر
إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي
مستعجلا فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو
والسهو لا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن ينظر
إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول ما
أعظم غفلة الآدمي عن نفسه والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه
ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة
يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن
ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان
لا
يفعل شيئا من ذلك وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب
خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أو
يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأني صائم ولكن يقول لي عذر وهو
جمع بين خبيثين فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء وأنه يحترز من أن
يذكر عبادته للناس فيكون مرائيا فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى
شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط
العطش ويمنع من الصوم أو يقول أفطرت تطييبا لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلا
بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل
أن يقول إن فلانا محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح
علي اليوم ولم أجد بدا من تطييب قلبه
ومثل أن يقول إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوما مرضت فلا تدعني
أصوم فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق
الرياء في الباطن
أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم
الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبسا وإن كان له
رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره وقد يخطر له أن في
إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور وسيأتي شرح ذلك
وشروطه
فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد
المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل
فيه فحول العلماء فضلا عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم
بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلي وخفي فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب
وهو أجلاه وأخفى منه قليلا هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل
الذي يريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف
تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان
وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضا ولكنه مع ذلك مستبطن
في القلب ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أن يعرف إلا بالعلامات وأجلى
علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل
يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح
ذلك عن قلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور ولولا
التفات القلب إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكنا في
القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا
استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتا وغذاء للعرق
الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضيا خفيا أن يتكلف سببا
يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضا وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا
يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضا وتصريحا ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض
الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا
رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه
وأن
ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن
قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام
مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما
كان يستبعد تقصير الناس في حقه ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق
بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب
النمل // حديث في الرياء شوائب أخفى من دبيب النمل أخرجه أحمد والطبراني من حديث
أبي موسى الأشعري اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ورواه ابن حبان في
الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وضعفه هو والدارقطني
وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال إن الله عز و جل يقول للقراء يوم القيامة
ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج
وفي الحديث لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم وقال عبد الله بن المبارك
روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلا من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا
الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من
الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم
لمكان دينه وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه وإن اشترى شيئا أحب أن يرخص
عليه لمكان دينه فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ
بالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظللك فقال للغلام ائتي بطعام فأتاه
ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلا عنيفا فقال الملك أين صاحبكم
فقالوا هذا قال كيف أنت قال كالناس وفي حديث آخر بخير فقال الملك ما عند هذا من
خير فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام فلم يزل المخلصون
خائفين من الرياء الخفي يجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون
على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم
الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق إذ علموا أن الله لا
يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا
ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزي والد عن ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل
واحد
نفسي نفسي فضلا عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون
مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف
والبهرج والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجي
إلى الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له
من التقوى
فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على
عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طعمه عن البهائم لم يبال
حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا فلو كان
مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم وعلم أن
العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه
البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس كل شوب محبطا
للأجر مفسدا للعمل بل فيه تفضيل
فإن قلت فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه
محمود وبعضه مذموم فنقول
أولا كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم
فأما المحمود فأربعة أقسام
الأول أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه
الخلق
علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره
إليه وإلطافه به فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر
الطاعة ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا
بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك
فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به
الثاني أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في
الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا
إلا ستره عليه في الآخرة // حديث ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره
عليه في الآخرة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى
المستقبل
الثالث أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون
له أجر العلانية بما أظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا ومن اقتدى به في طاعة فله
مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون
سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة
الرابع أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع
وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذا من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو
يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله
وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه
وأما المذموم وهو الخامس فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه
ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه
والله تعالى أعلم
بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط
فنقول فيه إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو
إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد
بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالما عن
الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره
والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ولم يكن منه إلا ما
دخل من السرور والارتياح على قلبه
نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار
فتحدث به فهذا مخوف
وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقول
قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها
وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجل قال له صمت الدهر يا رسول
الله
فقال له ما صمت ولا أفطرت // حديث قال لرجل قال صمت الدهر قال ما صمت ولا أفطرت
أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة قال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر قال لا صام
ولا أفطر وللطبراني من حديث أسماء بنت يزيد في أثناء حديث فيه فقال رجل إني صائم
قال بعض القوم إنه لا يفطر إنه يصوم كل يوم قال النبي صلى الله عليه و سلم لا صام
ولا أفطر من صام الأبد ولم أجده بلفظ الخطاب
فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر
وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن ابن مسعود
استدلالا على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه
التحدث به إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلا لثواب العمل بل الأقيس أن يقال
إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها
بخلاف
ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط
العمل
وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا وكان قد عقد على الإخلاص ولكن
ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما
أن يكون رياء باعثا على العمل فإن كان باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره
ومثاله أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر
إليه أو يذكر شيئا نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ولولا الناس لقطع الصلاة
فاستتمها خوفا من مذمة الناس فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال
صلى الله عليه و سلم العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله // حديث العمل كالوعاء
إذا طاب آخره طالب أوله أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ إذا طاب
أسفله طاب أعلاه وقد تقدم
أي النظر إلى خاتمته
وروي أنه من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله // حديث من راءى بعمله ساعة
حبط عمله الذي كان قبله لم أجده بهذا اللفظ وللشيخين من حديث جندب من سمع سمع الله
به ومن راءى راءى الله به ورواه مسلم من حديث ابن عباس
وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من
ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة
وأما إذا كان وراد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الإتمام لأجل الثواب كما لو حضر
جماعة في أثناء الصلاة ففرح بحضورهم وعقد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم
وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثا على
الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة
مغمورا فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه
لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها ويغمرها
ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظرا إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن
ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه
ولقد ذهب الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال
إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس يعني سرورا هو كحب المنزلة والجاه قال قد
اختلف الناس في هذا فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد
المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته ثم قال ولا أقطع عليه
بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس والأغلب
على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله
تعالى إنهما حالتان فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية
وقد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله أسر العمل لا
أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية // حديث
أن رجلا قال أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني فقال لك أجران
الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية ذكوان عن ابن مسعود ورواه الترمذي
وابن حبان من رواية ذكوان عن أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه
أعجبه قال له أجر السر والعلانية قال الترمذي غريب وقال إنه روي عن أبي صالح وهو
ذكر أنه مرسل
ثم تكلم على الخبر والأثر فقال أما الحسن فإنه أراد بقوله لا يضره أي لا يدع العمل
ولا تضره الخطرة وهو يريد الله ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره
وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه
أحدها أنه يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ
الثاني أنه أراد أن يسر به للاقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا
سرورا بسبب حب المحمدة والمنزلة بدليل أنه جعل له به أجرا ولا ذاهب من الأمة إلى
أن للسرور بالمحمدة أجرا وغايته أن يعفى عنه فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران
والثالث أنه قال أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم
يوقفه على أبي صالح ومنهم من يرفعه فالحكم
بالعمومات
الواردة في الرياء أولى
هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلا إلى الإحباط
والأقيس عندنا أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادرا عن باعث
الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته
وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام
وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق وأما
ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب
منه أما إذا كان ضعيفا بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال
ولا ينبغي أن يفسد الصلاة ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه
الله والخالص ما لا يشوبه شيء فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله
فيه
وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاما أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه فهذا حكم
الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ
القسم الثالث الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء فإن استمر
عليه سلم فلا خلاف في أنه يقضي ولا يعتد بصلاته وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر
ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه
قالت فرقة لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف
وقالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة
لأن التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقدا
وقالت فرقة لا يلزم إعادة شيء بل يستغفر الله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص
والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله
وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل فقالوا إن
الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافرا ولكن اقترن
به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم
فتصح صلاته
ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جدا خصوصا من قال يلزمه إعادة الركوع
والسجود دون الافتتاح لأن الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة
فتفسد الصلاة
وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صح نظرا إلى الآخر فهو أيضا ضعيف لأن الرياء
يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح فالذي يستقيم على
قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب
وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل
ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجسا أيضا كان يصلي لأجل الناس
فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين وههنا لا باعث ولا
إجابة
فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة
أيضا فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم
أو في عقد صلاة وحج فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث
الثواب فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فله ثواب بقدر
قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر
وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إما أن تكون فرضا أو
نفلا فإن كانت نفلا فحكمها أيضا حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع من وجه إذ اجتمع
في قلبه الباعثان ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى
التراويح
وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة ولولا اجتماع الناس خلفه
وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جدا بل يظن
بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضا بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء
به وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل
واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لأن الإيجاب
لم ينتهض باعثا في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن
باعث الرياء لأدى الفرائض ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعا لأجل الرياء
فهذا محل النظر وهو محتمل جدا فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم
يؤد الواجب الخالص ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد
فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان
عاصيا بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه
وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة أما إذا كان الرياء في المبادرة
مثلا دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة ولو خلا
لأخر إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع
بصحة صلاته وسقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره
بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية هذا في رياء يكون باعثا على
العمل وحاملا عليه وأما مجرد السرور بإطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث
يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة
فهذا ما نراه لائقا بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها
في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي
الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على
إفساد العبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز و
جل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم
بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر
المهلكات وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل
المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد
كلهم إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم
فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه
وإنما يشعر بكونه مهلكا بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا
يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات
فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ولكنها تشق أولا وتخف آخرا وفي علاجه
مقامان
أحدهما قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه
والثاني دفع ما يخطر منه في الحال
المقام الأول في قلع عروقه واستئصال أصوله وأصله حب المنزلة والجاه
وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة والفرار من ألم الذم والطمع فيما في
أيدي الناس
ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبو موسى أن أعرابيا سأل
النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل // حديث أبي موسى أن
أعرابيا قال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية الحديث متفق عليه
حمية ومعناه أنه يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب وقال والرجل يقاتل ليرى
مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر
في
القلوب والرجل يقاتل للذكر وهذا هو الحمد باللسان فقال صلى الله عليه و سلم من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال ابن مسعود إذا التقى الصفان
نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم فلان يقاتل للذكر وفلان يقاتل للملك
والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا
وقال عمر رضي الله عنه يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا
وقال صلى الله عليه و سلم من غزا لا يبغي إلا عقالا فله ما نوى // حديث من غزا لا
يبغي إلا عقالا فله ما نوى أخرجه النسائي وقد تقدم
فهذا إشارة إلى الطمع
وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم
يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل وهو ليس يطمع في الحمد وقد
سبقه غيره وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفا من الذم وهو لا يطمع في
الحمد وقد هجم غيره على صف القتال
ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات
معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد
وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ولذلك
قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل ويفتي بغير علم ويدعي
العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذرا من الذم
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء وعلاجه ما ذكرناه في الشطر
الأول من الكتاب على الجملة
ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه
لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ إما في الحال وإما في المآل فإن علم إنه لذيذ في
الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن
إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من
المضرة
ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من
التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت
الشديد والخزي الظاهر
حيث ينادى على رؤوس الخلائق يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت
بطاعة الله عرض الدنيا وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحببت إلى العباد
بالتبغض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقربت إليهم بالبعد من الله وتحمدت
إليهم بالتذمم عند الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من
الله فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في
الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأعمال مع أن العمل الواحد ربما
كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به
ويهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في
معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة
عند الله في زمرة النبيين والصديقين وقد حط عنهم بسبب الرياء رد إلى صف النعال من
مراتب الأولياء هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق
فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضي به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط
بعضهم ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضا عليه ثم أي غرض له في
مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمدهم رزقا ولا أجلا ولا ينفعه يوم
فقره وفاقته وهو يوم القيامة وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى
هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ومن طمع
في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة
فكيف يترك ما عند الله برجاء
كاذب
ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منثه ومذلته وأما ذمهم
فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتبه عليه الله ولا يعجل أجله ولا يؤخر
رزقه ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ولا يبغضه إلى الله إن كان
محمودا عند الله ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله فالعباد كلهم عجزة لا
يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا
فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن
العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من
قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم
أنه مراء وممقوت عند الله ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم
له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم
كما قال شاعر بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه و
سلم كذبت ذاك الله الذي لا إله إلا هو // حديث قال شاعر من بني تميم إن مدحي زين
وإن ذمي شين فقال كذبت ذاك الله أخرجه أحمد من حديث الأقرع بن حابس وهو قائل ذلك
دون قوله كذبت ورجاله ثقات إلا أني لا أعرف لأبي سلمة بن عبد الرحمن سماعا من
الأقرع ورواه الترمذي من حديث البراء وحسنه بلفظ فقال رجل إن حمدي
إذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه فأي خير لك في مدح الناس
وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في
زمرة المقربين فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله
استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه
وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق وانعطف من إخلاصه
أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه
بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة وسقط محل الخلق من قلبه
وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص
فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء
وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما
تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا
تنازعنه النفس إلى طلب علم غير الله به
وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال أظهرت ما كان سبيلك أن
تخفيه لا تجالسنا بعد هذا
فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء
للرياء مثل الإخفاء وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه
ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد
والتسديد و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن
الله الهداية ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين
وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
المقام الثاني في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضا فإن
من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين
المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات بل
يعارضه بخطرات الرياء ولا تنقطع عنه نزعاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية
فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء
وخواطر الرياء ثلاثة قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج
فالأول العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة
من
النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه
فالأول معرفة
والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة
والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد
وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة
اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال مالك وللخلق علموا أو لم يعلموا
والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما
رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في
أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء
فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله
وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع
لا محالة أقواهما وأغلبهما
فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور
المعرفة والكراهة والإباء
وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره
المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطويا عليها وإنما سبب ذلك امتلاء القلب
بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب
عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال
عن شهوة الحمد أو خوف الذم وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ويعزم على التحلم
عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ
قلبه غيظا يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب
وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب
وإليه أشار جابر بقوله بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة على أن لا
نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين // حديث جابر بايعنا رسول الله صلى
الله عليه و سلم تحت الشجرة على أن لا نفر الحديث أخرجه مسلم مختصرا دون ذكر يوم
حنين فرواه مسلم من حديث العباس
حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا
وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا وأكثر الشهوات التي
تهجم فجأة هكذا تكون إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان
ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة
وقد يتذكر الإنسان فيعلم أن الخاطر الذي خطر له هو خاطر الرياء الذي يعرضه لسخط
الله ولكن يستمر عليه لشدة شهوته فيغلب هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال
فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة فكم من عالم يحضره كلام لا
يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه
أوكد إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموما عند الله ولا تنفعه معرفته
إذا خلت المعرفة عن الكراهة
وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة
بالإضافة إلى قوة الشهوة وهذا أيضا لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف
عن الفعل
فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث وهي المعرفة والكراهة والإباء
فالإباء ثمرة الكراهة والكراهة ثمرة المعرفة وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور
العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند
الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة وبعض ذلك ينتج بعضا
ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب لأن
حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين
التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب وألسنة وأنوار العلوم
فإن
قلت فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير
خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير
محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق
وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات
ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب
وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في آداء ما
كلف به
ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شكوا إليه
وقالوا تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في
مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال صلى الله عليه و سلم أو قد وجدتموه
قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان // حديث شكوى الصحابة ما يعرض في قلوبهم وقوله ذلك
صريح الإيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود مختصرا سئل النبي صلى الله عليه و سلم
عن الوسوسة فقال ذلك محض الإيمان والنسائي في اليوم الليلة وابن حبان في صحيحه
ورواه النسائي فيه من حديث عائشة
ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة
فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيما فهو دون
الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر
الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس أنه قال
الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة // حديث ابن عباس الحمد لله الذي رد
كيد الشيطان إلى الوسوسة أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بلفظ كيده
وقال أبو حازم ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان
من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه
فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة
والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من
الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار
العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل
إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى
يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن
سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصانا في منزلته عند الله
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب
الأولى أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال
معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن
الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق
نقصان في السلوك
الثانية أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل
بمجادلته
الثالثة أن لا يشتغل بتكذيبه أيضا لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد
ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحبا للكراهة غير
مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة
الرابعة أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء فيكون قد عزم
على أنه مهما نزع الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء
الصدقة والعبادة غيظا للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه
حتى لا يرجع
يروي عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلانا يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل
ومن أمره قال الشيطان اللهم اغفر له
أي لأغيظنه بأن
أطع
الله فيه
ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته
وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث
عند ذلك خيرا فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضا إذا رآك الشيطان مترددا طمع فيك وإذا
رآك مداوما ملك وقلاك
وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالا أحسن فيه فقال مثالهم كأربعة
قصدوا مجلسا من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلا وهداية ورشدا فحسدهم على ذلك
ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس
ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك
مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره
فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتغل بالقتال
واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه
ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان
فخال منه رجاؤه بالكلية
فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك
إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة
من أن يزداد فائدة باستعجاله
فإن قلت فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه
انتظارا لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال
بالعبادة والغفلة عنه قلنا اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه فذهبت فرقة من أهل
البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله
واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في
الدعوة إلى الخمر والزنا فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير
فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر
وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه
ونقص توكله فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان
ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف
يستحي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر
وقالت فرقة من أهل العلم لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن
الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان
يكاد يكون غرورا إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته
فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله
تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك
قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه و
سلم إنه ليغان على قلبي // ي حديث إنه ليغان على قلبي تقدم
مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير // حديث إن شيطانه أسلم فلا يأمر إلا
بخير تقدم أيضا
فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه و سلم وسائر
الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه
آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما إن هذا عدو لك
ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ
فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلى عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا
لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف
يجوز لغيره أن يأمن في دار
والدنيا
وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام
فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله
تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال عز و جل إنه
يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف
يدع الأمن منه وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله فإن من
الحب له امتثال أمره وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو
يراك ولا تراه أولى
ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك
أن يظفر بك
فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي
إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله
الإعراض عما حذر الله
وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس والسلاح
وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يقدح
في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا في كتاب
التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد
القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد
أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما
قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من
الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم
إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر
منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا
وقال قوم إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك
مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته
والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب
وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى
وقال العلماء المحققون غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر
الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل
ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن
نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى
وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان
ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر
الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله
الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من
الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر
الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد
معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له
وعند
التنبه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل
الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على
أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر
مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي
يقوى على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا
فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة
الشيطان وترصده وألزموها الحذر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر
العدو واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو
فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي
فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر
الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جاريا إليها من جانب آخر فيطول تعبه
ولا تجف البئر من الماء القذر والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سدا وملأها
بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة
تعب
بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات
اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي الإظهار فائدة
والإقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء قال الحسن قد علم المسلمون
أن السر أحرز العملين ولكن في الإظهار أيضا فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر
والعلانية فقال إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم
والإظهار قسمان أحدهما في نفس العمل والآخر التحدث بما عمل
القسم الأول إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن
الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه
و سلم من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه // حديث من سن سنة حسنة
فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وفي أوله قصة مسلم من حديث جرير بن عبد الله
البيهقي
وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ولكن
الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب
نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضا لهم على الحركة فذلك
أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست
من الإعلان بل هو تحريض مجرد وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه
جيرانه وأهله فيقتدى به
فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار
الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء وأما ما يمكن إسراره كالصدقة
والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل
لأن الإيذاء حرام
فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم السر أفضل من العلانية
وإن كان في العلانية قدوة وقال قوم السر أفضل من علانية لا قدوة فيها أما العلانية
للقدوة فأفضل من السر
ويدل على ذلك أن الله عز و جل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب
النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين
ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم فله أجرها وأجر من عمل بها وقد روي في الحديث
إن
عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفا ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله
على عمل السر سبعين ضعفا // حديث إن عمل السر يضاعف على عمل العلانية بسبعين ضعفا
ويضاعف عمل العلانية إذا استن به على عمل السر سبعين ضعفا أخرجه البيهقي في الشعب
من حديث أبي الدرداء مقتصرا على الشطر الأول بنحوه وقال هذا من أفراد بقية عن
شيوخه المجهولين وقد تقدم قبل هذا بنحو ورقتين وله من حديث ابن عمر عمل السر أفضل من
عمل العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء وقال تفرد به بقية عن عبد الملك بن
مهران وله من حديث عائشة يفضل أو يضاعف الذكرالخفي الذي لا يسمعه الحفظة على الذي
تسمعه بسبعين ضعفا وقال تفرد به معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف
وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه
واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة وإنما يخاف من ظهور الرياء ومهما
حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به فلا خلاف في أن السر أفضل منه
ولكن على من يظهر العمل وظيفتان
إحداهما أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدى به أو يظن ذلك ظنا ورب رجل يقتدي به أهله دون
جيرانه وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق وربما يقتدي به أهل محلته وإنما
العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة
فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا
به فليس له الإظهار من غير فائدة وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل
القدوة على من هو في محل الاقتداء به
والثانية أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر
الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدى به وهذا حال كل من يظهر أعماله
إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم
فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال
الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى
تشبثوا به فهلكوا وهلك والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء
مثله لا بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون
بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن
لذلك غامض ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد
آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان فإن مال قلبه إلى أن يكون هو
المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به
ورغبتهم في الخير فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع
إسراره فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم فليحذر
العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب وقلما
تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا والسلامة في
الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا فالحذر من الإظهار أولى
بنا وبجميع الضعفاء
القسم الثاني أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في
هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة
وللنفس لذة في إظهار الدعاوي عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد
العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون والحكم فيه أن من قوي قلبه
وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو
الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت
عن جميع الآفات لأنه ترغيب في الخير والترغيب في الخير خير وقد نقل مثل ذلك عن
جماعة من السلف الأقوياء
قال سعد بن معاذ
ما
صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي
قائلة وما هو مقول لها وما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول قولا قط إلا علمت
أنه حق
وقال عمر رضي الله عنه ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي
وقال ابن مسعود ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها
وقال عثمان رضي الله عنه ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم // حديث عثمان قوله ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري
بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي في
معجمه بإسناد ضعيف من رواية أنس عنه في أثناء حديث وإن عثمان قال يا رسول الله
فذكره بلفظ منذ بايعتك قال هو ذاك يا عثمان
وقال شداد بن أوس
ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه وكان قد قال لغلامه ائتنا
بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء
وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنبا منذ أسلمت
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون
قضى لي بغيره وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله
فهذا كله إظهار لأحوال شريفة وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها وفيها
غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به
فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب
إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء بل إظهار المرائي للعبادة
إذا لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي
فكم من مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله وقد روي أنه كان يجتاز
الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت فصنف
بعضهم كتابا في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه فكانوا يقولون ليت
ذلك الكتاب لم يصنف فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه
وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم // حديث إن الله ليؤيد
هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم هما حديثان فالأول متفق عليه من حديث
أبي هريرة وقد تقدم في العلم والثاني رواه النسائي من حديث أنس بسند صحيح وتقدم
أيضا
كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدى به منهم والله تعالى أعلم
بيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم
له
اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل
عليك بعمل العلانية قال يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية قال
ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه
وقال أبو مسلم الخولاني ما عملت عملا أبالي أن يطلع الناس عليه إلا إتياني أهلي
والبول والغائط إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد
ولا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا
سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني والله مطلع على جميع ذلك فإرادة
العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر
ذلك ليرى الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي
وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه ويصح اغتمامه باطلاع
الناس عليه في ثمانية أوجه
الأول أن يفرح بستر الله عليه وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره
في القيامة إذ ورد في الخبر أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنبا ستره الله عليه في
الآخرة // حديث إن من ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة تقدم قبل هذا بورقة
وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان
الثاني
أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب سترها كما قال صلى الله عليه و
سلم من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله // حديث من ارتكب من هذه
القاذورات شيئا فليستتر بستر الله أخرجه الحاكم في المستدرك وقد تقدم
فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله
وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور
الذنب من غيره أيضا ويغتم بسببه
الثالث أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله
تعالى فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة وبهذه العلة أيضا ينبغي
أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر
وهذا أيضا من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان
الرابع أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه فإن الذم
مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان
به عاص وإنما يعصي إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذرا من ذمهم
وليس يجب على الإنسان أن لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به
نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادحه لعلمه أن
الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون وذلك قليل جدا وأكثر الطباع تتألم
بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل
البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في
الدين فكيف لا يغتم به نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع كأنه يحب
أن يحمد بالورع ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله فيكون قد طلب بطاعة الله ثوابا
من غيره فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد
وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذرا من ذلك ويتصور
أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم
وإنما مراده أن يتركه الناس حمدا وذما فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم
الذم إذ الحمد بطلب اللذة وعدم اللذة لا يؤلم وأما الذم فإنه مؤلم فحب الحمد على
الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه
إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية
النقصان في الدين بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر
الخامس أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان
وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضا فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع
من جهة الطبع
السادس أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم فإن الذم مؤلم
من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره وقد يخاف شر من يطلع على
ذنبه بسبب من الأسباب فله أن يستر ذلك حذرا منه
السابع مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر وهو خلق كريم يحدث في
أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف
محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الحياء خير كله // حديث الحياء خير
كله أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وقالA الحياء شعبة من الإيمان // حديث الحياء شعبة من الإيمان متفق عليه
من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم الحياء لا يأتي إلا بخير // حديث الحياء لا يأتي إلا
بخير متفق عليه من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم إن الله يحب الحيى الحليم // حديث إن الله يحب الحيى
الحليم أخرجه الطبراني من حديث فاطمة وللبزار من حديث أبي هريرة إن الله يحب الغني
الحليم المتعفف وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه
فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه
للناس
جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء فهو أشد حالا ممن يستتر ويستحيي إلا
أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباها عظيما قل من يتفطن له ويدعي كل مراء
أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس وذلك كذب بل الحياء خلق
ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص ويتصور أن يخلص معه
ويتصور أن يرائي معه
وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضا ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحي من رده
وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحيي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب
فله عند ذلك أحوال أحدها أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء
وهذا فعل من لا حياء له
فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض
فإن أعطى فيتصور له ثلاثة أحوال
أحدها
أن يمزج الرياء بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد فيهيج خاطر الرياء ويقول
ينبغي أن تعطي حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء أو ينبغي أن تعطي حتى لا
يذمك ولا ينسبك إلى البخل
فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء
الثاني أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء فيهيج داعي
الإخلاص ويقول له إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور
على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى فتسخو النفس بالإعطاء لذلك فهذا مخلص هيج
الحياء إخلاصه
الثالث أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته لأنه لو
طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء
ولولا الحياء لرده ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأراذل لكان يرده وإن
كثر الحمد والثواب فيه فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل
ومقارفة الذنوب
والمرائي يستحي من المباحات أيضا حتى إنه يرى مستعجلا في المشي فيعود إلى الهدوء
أو ضاحكا فيرجع إلى الانقباض ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء
وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من
وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير
محمود
وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي
الشيبة المسلم وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر
بالمعروف فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه
فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب
الثامن أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدى به وهذا العلة الواحدة
فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به
وبهذه العلة ينبغي أيضا أن يخفي العاصي أيضا معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون
منه
ففي ستر الذنوب هذه الأعذار الثمانية وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر
الواحد ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائيا كما إذا قصد
ذلك بإظهار الطاعة
فإن قلت فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل
للنبي صلى الله عليه و سلم
دلني
على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم
هذا الحطام يحبوك // حديث قال رجل دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال
ازهد في الدنيا يحبك الله الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد بلفظ وازهد
فيما في أيدي الناس وقد تقدم
فنقول حبك لحب الناس لك قد يكون مباحا وقد يكون محمودا وقد يكون مذموما
فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك فإنه تعالى إذا أحب عبدا حببه في قلوب
عباده
والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغزوك وصلاتك على طاعة بعينها فإن ذلك طلب
عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله
والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمودة سوى الطاعات المحمودة المعينة فحبك ذلك كحبك
المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما
بيان ترك الطاعات خوفا من الرياء ودخول الآفات
اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفا من أن يكون مرائيا به وذلك غلط وموافقة
للشيطان بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره وهو أن الطاعات
تنقسم إلى
ما لا لذة في عينه كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهدات إنما تصير
لذيذة من حيث إنها توصل إلى حمد الناس وحمد الناس لذيذ وذلك عند اطلاع الناس عليه
وإلى ما هو لذيذ وهو أكثر مالا يقتصر على البدن بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء
والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق وغير
ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة
القسم الأول الطاعات اللازمة للبدن التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها كالصوم
والصلاة والحج فخطرات الرياء فيها ثلاث
إحداها ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين
فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيه فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب
المنزلة فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها ألا تستحيين
من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء
وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل
الثانية أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها فلا ينبغي أن
يترك العمل لأنه وجد باعثا دينيا فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء
وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن
القبول
الثالثة أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا
يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهرا حتى يتمم العمل لأن
الشيطان يدعوك أولا إلى ترك العمل فإذا لم تجب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء فإذا لم
تجب ودفعت بقي يقول لك هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في
عمل لا إخلاص حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه
ومثال من يترك العلم لخوفه أن يكون مرائيا كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال
خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل يقول أخاف إن اشتغلت به لم
تخلص خلاصا صافيا نقيا
فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى له
ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفا على الناس أن يقولوا إنه مراء فيعصون الله به
فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولا أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم
ذلك ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب
العبادة
وترك العمل خوفا من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من
ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص وأي فرق بين أن يترك العمل
خوفا من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفا من أن يقال إنه غافل مقصر بل
ترك العمل أشد من ذلك
فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان
بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له الآن يقول الناس إنك تركت العمل
ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة
فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سربا تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة
الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة
منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في
الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ
العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك
الخيرات
فما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك
الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على
قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في
العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل
فإن قال لك الشيطان أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء
وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفا
ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في
العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب
فإن قلت فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة
روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال لا
يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة
وقال إبراهيم التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم
وقال الحسن إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان
أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة
وقد ورد في ذلك آثار كثيرة قلنا هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى
وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء
وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه
وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل
والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في
الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف
فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء
وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك
القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في
القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك
وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم
إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات
هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء
وأما قول التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام
كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور
فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو
واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن
العبد
مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة
الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا
يدركون هذه الدقائق وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة وزجرا من طلبها
القسم الثاني ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار وأعظمها الخلافة ثم
القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال
أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال
النبي صلى الله عليه و سلم ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما
// حديث ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما الحديث أخرجه
الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وقد تقدم
فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة وقال صلى الله عليه و سلم أول من يدخل
الجنة ثلاثة الإمام المقسط // حديث أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط الحديث
أخرجه مسلم من حديث عياض بن حماد أهل الجنة ثلاث ذو سلطان مقسط الحديث ولم أر فيه
ذكر الأولية
أحدهم
وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام
العادل // حديث أبي هريرة ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل تقدم
أحدهم
وقال صلى الله عليه و سلم أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل // حديث أبي
سعيد الخدري أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل أخرجه الأصبهاني في
الترغيب والترهيب من رواية عطية العوفي وهو ضعيف عنه وفيه أيضا إسحاق بن إبراهيم
الديباجي ضعيف أيضا رواه أبو سعيد الخدري
فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها
ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب
النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا فإذا صارت الولاية
محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في
جاهه وولايته وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا وعند ذلك
يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه
ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول من يأخذها بما فيها وكيف لا وقد قال
النبي صلى الله عليه و سلم ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى
عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره // حديث ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة يده
مغلولة إلى عنقه لا يفكها إلا عدله أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت ورواه أحمد
والبزار من رواية رجل لم يسم عن سعد بن عبادة وفيهما يزيد بن أبي زياد متكلم فيه
ورواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة ورواه البزار
والطبراني من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث بريدة والطبراني في
الأوسط من حديث ابن عباس وثوبان وله من حديث أبي الدرداء ما من والي ثلاثة إلا لقي
الله مغلولة يمينه الحديث وقد عزى المصنف هذا الحديث لرواية معقل بن يسار والمعروف
من حديث معقل بن يسار ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يرح رائحة
الجنة متفق عليه
رواه معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال يا أمير المؤمنين أشر علي قال اجلس واكتم
علي
وروى الحسن أن رجلا ولاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال للنبي خر لي قال اجلس //
حديث الحسن أن رجلا ولاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال للنبي خر لي قال اجلس
أخرجه الطبراني موصولا من حديث عصمة هو ابن مالك وفيه الفضل بن المختار وأحاديثه
منكرة يحدث بالأباطيل قاله أبو حاتم ورواه أيضا من حديث ابن عمر بلفظ الزم بيتك
وفيه الغراب بن أبي الغراب ضعفه ابن معين وابن عدي وقال أبو حاتم صدوق
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه و سلم يا عبد الرحمن
لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة
وكلت إليها // حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة الحديث متفق عليه
وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر
على
اثنين ثم ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت
قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه و سلم فقال بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل
فيها فعليه بهلة الله يعني لعنة الله
ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا
وليس كذلك بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد
الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله
الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم وهم الذين سقط الخلق عن
أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا
الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم
أرواحهم فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم
عليه الخوض في الولايات ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير
الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ
نفاذ الأمر فتكره العزل فيداهن خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل
يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون لا يجب لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو
في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس والصحيح أن عليه
الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير فلو وعدت بالخير جزما لكان يخاف
عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد
والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع فالعزل مؤلم وهو كما قيل
العزل طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال
الحق وتهوى به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان
فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية
ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر ولذلك
قال صلى الله عليه و سلم إنا لا نولي أمرنا من سألنا // حديث إنا لا نولي أمرنا من
سألنا متفق عليه من حديث أبي موسى
فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعا عن الولاية ثم تقلده
لها ليس بمتناقض
وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما فإن كل ذي ولاية
أمير أي له أمر نافذ والإمارة محبوبة بالطبع والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق
والعقاب فيه أيضا عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم القضاة
ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة // حديث القضاة ثلاثة الحديث أخرجه أصحاب
السنن من حديث بريدة وتقدم في العلم وإسناده صحيح
وقال صلى الله عليه و سلم من استقضى فقد ذبح بغير سكين // حديث من استقضى فقد ذبح
بغير سكين أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بلفظ من جعل قاضيا وفي رواية من
ولى القضاء وإسناده صحيح
فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه
وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم
ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض
الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم
يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف
العزل عذرا مرخصا له في الإهمال أصلا بل إذا عزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح
بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان
فكيف يرتقب عليه ثوابا وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية وكل ما يتسع
بسببه الجاه ويعظم به
القدر
فآفته أيضا عظيمة مثل آفة الولايات وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما
وجدوا إليه سبيلا وكانوا يقولون حدثنا باب من أبواب الدنيا ومن قال حدثنا فقد قال
أوسعوا لي
ودفن بشر كذا وكذا قمطرا من الحديث وقال يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ولو
اشتهيت أن لا أحدث لحدثت
والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه
لذة لا توازيها لذة فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند
العوام وإن كان باطلا ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقا ويصير مصروف
الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثا
وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن
يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولا ثم
يقول إذا أنعم الله بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها
إخواني المسلمون
فهذا أيضا مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات فمن لا باعث له إلا طلب
الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه
إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه
فإن قلت مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وعم الجهل كافة الخلق
فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها // حديث
النهي عن طلب الإمارة هو حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة وقد تقدم قبله
بثلاثة أحاديث
حتى قال إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها
بحقها // حديث إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من
أخذها بحقها أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة دون قوله إلا من أخذها بحقها وزاد في
آخره فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ودون قوله حسرة وهي في صحيح ابن حبان
وقال نعمت المرضعة وبئست الفاطمة // حديث نعمت المرضعة وبئست الفاطمة أخرجه
البخاري من حديث أبي هريرة وهو بقية الحديث الذي قبله ورواه ابن حبان بلفظ فبئست
المرضعة وبئست الفاطمة
ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعا وثار القتال بين
الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك وضرب عمر رضي
الله عنه أبي بن كعب رأى قوما يتبعونه وهو في ذلك يقول أبي سيد المسلمين وكان يقرأ
عليه القرآن فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر
كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة
الصبح فمنعه فقال أتمنعني من نصح الناس فقال أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى
فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق
والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى وفي كل
واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما فأما قول القائل نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس
العلم فهو غلط إذ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل
القضاء // حديث النهي عن القضاء أخرجه مسلم من حديث أبي ذر لا تؤمرن على اثنين ولا
تلين مال يتيم
بل الرياسةوحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس بل
لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة
لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها
وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن
الله لا يضيعهم وانظر لنفسك ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون
بالوعظ مثلا فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون
ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعا للناس من
حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما
يريد
الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك
فإن قال لست أقدر على نفسي فنقول اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس
كلهم إذ لا قائم به غيره ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع
أحب عندنا من سلامة دينه وحده فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم // حديث
إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم أخرجه النسائي وقد تقدم قريبا
ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته
فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والألفاظ المسجعة
المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدين وتخويف المسلمين بل فيه الترجية
والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت فيجب إخلاء البلاد منهم فإنهم نواب الدجال
وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب
القبول ولا يقصد غيره وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء
ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله
ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون
ما تأمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون
بالهوى وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا
كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من
أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من
الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم
الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم
فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي ناس أخس منكم لو تعلمون ويلكم حتى متى
تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محلة المتجبرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها
لكم مهلا مهلا ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش
مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة يا
عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم
فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم يدفعكم
العلم من خلفكم ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم
يجزيكم بسوء أعمالكم
وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال هؤلاء علماء السوء شياطين
الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا
الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون
فإن قلت فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها //
حديث لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها متفق عليه من حديث
سهل بن سعد بلفظ خير لك من حمر النعم وقد تقدم في العلم
وقال صلى الله عليه و سلم أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من
اتبعه // حديث أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه أخرجه
ابن ماجه من حديث أنس بزيادة في أوله ولمسلم من حديث أبي هريرة من دعا إلى هدى كان
له من الأجر مثل أجور من تبعه الحديث
إلى غير ذلك من فضائل العلم فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة
الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد
نفسك فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من
عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي
للوعظ والتدريس ورواية الحديث ولا نقول له أيضا اتركه ما دام يجد
في
نفسه باعثا دينيا ممزوجا بباعث الرياء أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار
أنفع له وأسلم
وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها أما إذا خطر له وساوس
الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العبادات
ضعيفة وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم
وبالجملة فالمراتب ثلاث
الأولى الولايات والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفا من الآفة
الثانية الصوم الصلاة والحج والغزو وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر
عنهم الترك لخوف الآفة
وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة
الثالثة وهي متوسطة بين الرتبتين وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية
والتدريس والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة فالصلاة ينبغي أن
لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء
رأسا دون الأقوياء ومناصب العلم بينهما ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة
أشبه وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم
وهنا رتبة رابعة وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين فإن في الإنفاق وإظهار
السخاء استجلابا للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس والآفات فيها
أيضا كثيرة
ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال
القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا وأن من الزهد تركها قربة إلى
الله تعالى
وقال أبو الدرداء ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين دينارا
أتصدق بها أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله
وقد اختلف العلماء فقال قوم إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل
من أن يشتغل بالعبادات والنوافل وقال قوم الجلوس في دوام ذكر الله أفضل والأخذ
والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام يا طالب الدنيا ليبر بها تركك
لها أبر وقال
أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل
وهذا فيمن سلم من الآفات فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال
بالذكر لا خلاف في أنه أفضل
وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات والأحب أن يعمل ويدفع
الآفات فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه وليزن ما فيه من الخير بما فيه من
الشر وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع
وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه لأن النفس لا تشير إلا
بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه وإن كان لا يبعد ذلك أيضا في بعض الأحوال وهذه
أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر
فيه لدينه ويدع ما يريبه إلى مالا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك
المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل
ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلا عن الصدقات أفضل من إمساكه وإنما
الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر وذلك لما
في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال
فإن
قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق مخلص في وعظه غير مريد رياء الناس
فاعلم أن لذلك علامات
إحداها أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظا أو أغزر منه علما والناس له أشد قبولا فرح
به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل علمه
والأخرى أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه فينظر إلى
الخلق بعين واحدة
والأخرى أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق
ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال كنت جالسا إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من
بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل
يلتفت في المسجد فلم يرى حلقة أحفل من خلقه الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبا منها
ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسن متوجها إليه تجافى له عن ناحية
مجلسه قال سعيد وتجافيت له أيضا عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة
ومجلس للحجاج فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في
كل يوم فما قطع الحسن كلامه قال سعيد فقلت في نفسي لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل
يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن هيبة
الحجاج أن ينقص من كلامه فتكلم الحسن كلاما واحدا نحوا مما كان يتكلم به في كل يوم
حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به رفع الحجاج يده
فضرب بها على منكب الحسن ثم قال صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها
فاتخذوها حلقا وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن مجالس الذكر
رياض الجنة // حديث أن مجالس الذكر رياض الجنة تقدم في الأذكار والدعوات
ولولا ما حملناه من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها قال ثم
افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من
أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج فقال عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل
شيخ كبير وأني أغزو فأكلف فرسا وبغلا وأكلف فسطاطا وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء
وأن لي سبع بنات من العيال فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه والحسن مكب فلما
فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولا
ومال الله دولا وقتلوا الناس على الدينار والدرهم فإذا غزا عدو الله غزا في
الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا أغزى أخاه أغزاه طاويا راجلا فما فتر
الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهل الشام كان جالسا إلى الحسن
فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا أجب
الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع
إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرا فاه يضحك إنما كان يتبسم فأقبل حتى قعد في
مجلسه فعظم الأمانة وقال إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا
في الدينار والدرهم إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم
ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار إني أتيت هذا الرجل فقال أقصر عليك من لسانك
وقولك إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه أغزاه كذا لا أبالك تحرض
علينا الناس أما إنا على ذلك لانتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك قال فدفعه الله
عني
وركب الحسن حمارا يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوما يتبعونه فوقف
فقال هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد
فبهذه
العلامات
وأمثالها تتبين سريرة الباطن
ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد
اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون
اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين
بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح
اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد أو يقوم بعضهم فيصلون
الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة فإذا رآهم انبعث نشاطه
للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل
أصلا وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم
لما انبعث هذا النشاط فهذا ربما يظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة وليس كذلك
على الإطلاق بل له تفصيل لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل
وصيام النهار ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو
تستهويه الغفلة فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة أو تندفع العوائق
والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب
عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير أو تمكنه من التمتع بزوجته أو
المحادثة مع أهله وأقاربه أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه فإذا
وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتد رغبته عن الخير وحصلت له أسباب
باعثة على الخير كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا فإنه ينظر
إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء أو
ربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم وفي منزله ربما
يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام والنفس لا تسمح بالتهجد
دائما وتسمح بالتهجد وقتا قليلا فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق
وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها فإذا
أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم فإن الشهوات الحاضرة
عوائق ودوافع تغلب باعث الدين فإذا سلم منها قوي الباعث
فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم
والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول لا تعمل فإنك تكون مرائيا إذا كنت لا
تعمل في بيتك ولا تزد على صلاتك المعتادة وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم
وخوفا من ذمهم ونسبتهم إياه إلى الكسل لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل
فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته وعند ذلك قد يقول
الشيطان صل فإنك مخلص ولست تصلي لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة
العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم
وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن
يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة
الله وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق
وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء
حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه فإن سخت
نفسه فليصل فإن باعثه الحق وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن
باعثه الرياء
وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم ويمكن
أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم
على الله تعالى وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد فمهما
علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا
ينبغي
أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية
ويشتغل بالعبادة
وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفا من الله تعالى لا من الرياء
ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وقد لا
يحضره البكاء فيتباكى تارة رياء وتارة مع الصدق إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين
يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفا وذلك محمود
وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف
على نفسه القساوة فيتباكى أم لا فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم
فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي
قال لقمان عليه السلام لابنه لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر
وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال تارة تكون
من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه
فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على
أنه كثير الحزن ليعرف بذلك فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء وإن اقترنت بداعية
الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه وإن قبل ذلك وركن إليه بقلبه
حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به وقد يكون أصل الأنين عن الحزن ولكن
يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد
الرياء فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه ولكن يسبقه خاطر الرياء
فيقبله فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر
بعد أن استرسلت لخشية الله ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء
وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من
غير زوال عقل وحالة شديدة فيزعق ويتواجد تكلفا ليرى أنه سقط لكونه مغشيا عليه وقد
كان ابتداء السقطة عن صدق وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعا فتجزع نفسه أن يقال
حالته غير ثابتة وإنما هي كبرق خاطف فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله وكذلك
قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعا فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان
لدام ضعفه فيستديم إظهار الضعف والأنين فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام
ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي
فهذه كلها مكايد الشيطان ونزعات النفس
فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره
لمقتوه وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتا كما روي عن ذي النون رحمه الله
أنه قام وزعق فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ الذي يراك حين تقوم
فجلس الشيخ
وكل ذلك من أعمال المنافقين
وقد جاء في الخبر تعوذوا بالله من خشوع النفاق // حديث تعوذوا بالله من خشوع
النفاق أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي بكر الصديق وفيه الحارث بن عبيد
الأيادي ضعفه أحمد وابن معين
وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة
بالله من عذابه وغضبه فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون
للمراءاة
فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة وهي مع تقاربها متشابهة فراقب
قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن
يكون قد خفي عليكشيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل وكن على وجل من عبادتك أهي
مقبولة أم لا لخوفك على الإخلاص فيها واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد
الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جدا
فإذا
خطر لك فتفكر في إطلاع الله عليك ومقته لك
وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال يا أيوب أما علمت
أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزي بسريرته
وقول بعضهم أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت
وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة
العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي محافظا على رياء الناس من نفسي مضيعا
لما أنت مطلع عليه مني أبدي للناس أحس أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي تقربا إلى الناس
بحسناتي وفرارا منهم إليك بسيآتي فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك أعذني من ذلك يا رب
العالمين
وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا
علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات
الرياء
فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر إن للرياء سبعين بابا // حديث الرياء
سبعون بابا هكذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا وكأنه تصحف عليه أو على من نقله من
كلامه أنه الرياء بالمثناة وإنما هو الربا بالموحدة والمرسوم كتابته بالواو
والحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح
الرجل أمه وفي إسناد أبو معشر واسمه نجيح مختلف فيه وروى ابن ماجه أيضا من حديث
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الربا ثلاث وسبعون بابا وإسناده صحيح
هكذا ذكر ابن ماجه الحديثين في أبوب التجارات وقد روى البزار حديث ابن مسعود بلفظ
الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك وهذه الزيادة قد يستدل بها على أنه الرياء
بالمثناة لاقترائه مع الشرك والله أعلم
وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض حتى إن بعضه مثل دبيب النمل وبعضه أخفى من دبيب
النمل وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة وليته أدرك
بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن
خدعها نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه
بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه قبل العمل وبعده وفيه
اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع
طاعاته ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله فأما من خاف
غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه
كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت وليراقب نفسه عند
الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصا
على الإفشاء وتقول مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه
الخلق منك لسجدوا لك فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس
محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه
ويتذكر في مقابلة عظم عمله عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب
الله ومقته على من طلب بطاعته ثوابا من عباده ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه
وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم
عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول
إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلطون فليس ذلك من شأنهم فيترك المجاهدة
في الإخلاص لأن المخلط إلى ذلك أحوج من المتقي لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت
فرائضه كاملة تامة والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران
بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخذوا بالفرائض وهلك به فالمخلط إلى الإخلاص أحوج
وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يحاسب العبد يوم
القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن
لم يكن له تطوع أخذ
بطرفيه
فألقي في النار // حديث تميم الداري في إكمال فريضة الصلاة بالتطوع أخرجه أبو داود
وابن ماجه وتقدم في الصلاة
فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض
وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل وأما المتقي فجهده في زيادة
الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة
فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله ثم يلزم قلبه ذلك
بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من
عمله خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه فيكون شاكا في قبوله
ورده مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها
ويكون هذا الشك والخوف في دام عمله وبعده إلا في ابتداء العقل بل ينبغي أن يكون
متيقنا في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله فإذا شرع ومضت
لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من
رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص
وشك في أنه هل أفسده برياء فيكون رجاء القبول أغلب وبذلك تعظم لذته في المناجاة
والطاعات
فالإخلاص يقين والرياء شك
وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه
والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء
الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ورجاء الثواب على عمل المتعلم
بعلمه فقط دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه فإن ذلك يحبط الأجر
فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر
باستتباعه أو ترددا منه في حاجة فقد أخذ أجره بلا ثواب له غيره
نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره ولكن
خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا
يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه
ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلا
ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثا
خيفة أن يحبط أجره
وقال شقيق البلخي أهديت لسفيان الثوري ثوبا فرده علي فقلت له يا أبا عبد الله لست
أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف
أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره
وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين وكان أبوه صديقا لسفيان وكان سفيان يأتيه
كثيرا فقال له يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء فقال يرحم الله أباك كان وكان
وأثنى عليه فقال يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه
تستعين بها على عيالك قال فقبل سفيان ذلك قال فلما خرج قال لولده يا مبارك ألحقه
فرده علي فرجع فقال أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه
وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك
قال ولده فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت ويلك أي شيء قلبك هذا حجارة عد
أنه ليس لك عيال أما ترحمني أما ترحم إخوتك أما ترحم عيالنا فأكثرت عليه فقال لي
يا مبارك تأكلها أنت هنيئا مرئيا وأسأل عنها أنا
فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط ويجب
على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم
وعند الخلق 2
وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته فيتعلم منه وهو خطأ لأن
إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال والعلم ربما يفيد وربما
لا
يفيد فيكف يخسر في الحال عملا نقدا على توهم علم وذلك غير جائز بل ينبغي أن يتعلم
لله ويعبد الله ويخدم المعلم لله لا ليكون له في قلبه منزلة إن كان يريد أن يكون
تعلمه طاعة فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره
وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث إن رضا
الله عنه في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند
الوالدين فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب
الوالدين أيضا
وأما الزاهد المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه ولا
يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى
تتيسر عليه العبادات في خلوته به وإنما سكوته لمعرفة الله باعتزاله واستعظامهم
لمحله وهو لا يدري أنه المخفف للعمل عليه
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في
صومعته فقلت يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك قال منذ سبعين سنة قلت
فما طعامك قال يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت أحببت أن أعلم قال في كل ليلة حمصة
قلت فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال ترى الدير الذي بحذائك قلت
نعم قال إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني
فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة فأنا احتمل جهد سنة لعز ساعة
فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال حسبك أو أزيدك قلت
بلى قال أنزل عن الصومعة فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي ادخل الدير
فقد رأوا ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا يا حنيفي ما
الذي أدلى إليك الشيخ قلت من قوته قالوا فما تصنع به ونحن أحق به ثم قالوا ساوم
قلت عشرون دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إلى الشيخ فقال يا حنيفي ما الذي
صنعت قلت بعته منهم قال بكم قلت بعشرين دينارا قال أخطأت لو ساومتهم بعشرين ألف
دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده يا حنيفي أقبل على
ربك ودع الذهاب والجيئة
والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثا في الخلوة وقد لا يشعر
العبد به فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده
والبهائم بمثابة واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعا إلا
كراهة ضعيفة أن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه فإنه لو كان في عبادة
واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعا ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه فإن
دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر
إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه إلا أن يزيد
عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه فذلك لا بأس به ولكن فيه
غرور إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها
في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما
حصل بأن يعدوا كثيرا أو يضحك كثيرا أو يأكل كثيرا فتسمح نفسه بذلك فإذا لم تسمح
وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر
في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده
لكان يعمله فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا
كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق
ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند
إقبال الغني زيادة هزة
في
نفسه لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرما له بذلك
الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا
فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويحبب إلى القلب المسكنة والنظر إلى
الأغنياء بخلافه فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير وقد حكي
أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء
الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه
نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة
ولكن يكون بحث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام
وتوقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعا في غناه
ورياء له ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني
أكثر مما تظهره للفقير وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية
له مالي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة فقالت الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت فإن
اللسان ينطق عند الغني بما لا ينطق به عند الفقير وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا
يحضره عند الفقير
ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى
الله من قلبك وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات
منغصة في أيام متقاربة وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات
وساعدته اللذات ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في
الشهوات وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء
وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات
وصبر على مفارقتها فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم
نقصانا لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام
عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما
اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه
ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة
المكروهات
فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا
وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف وترك
المؤانسة بالخلق خوفا من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذابه
فخف ذلك كله عليه عند شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم
في رضوان الله أبد الآباد ثم علم أن الله كريم رحيم لمن يزل لعباده المريدين
لمرضاته عونا وبهم رءوفا وعليهم عطوفا ولو شاء لأغنانهم عن التعب ولكن أراد أن
يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلا ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله
عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر وحبب إليه الطاعة ورزقه
فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى
سياسته وتقويته وأمده بمعونته فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب
وهو الذي يقول من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ويقول تعالى لقد طال شوق الأبرار
إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقا فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه
فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته تم
كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده
كتاب
ذم الكبر والعجب وهو الكتاب التاسع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر العلي الذي لا يضعه عن مجده
واضع الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع فهو
القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع الغني الذي ليس له شريك ولا منازع القادر الذي
بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه وقهر العرش المجيد استواؤه واستعلاؤه واستيلاؤه
وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه فاعترف
بالعجر عن وصف كنه جلاله ملائكته وأنبياؤه وكسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاؤه وقصر
أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه ومن نازعه فيهما قصمه
بداء الموت فأعجزه دواؤه جل جلاله وتقدست أسماؤه والصلاة على محمد الذي أنزل عليه
النور المنتشر ضياؤه حتى أشرقت بنوره أكناف العالم وأرجاؤه وعلى آله وأصحابه الذين
هم أحباء الله وأولياؤه وخيرته وأصفياؤه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى الكبرياء ردائي
والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته // حديث قال الله تعالى الكبرياء ردائي
والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته أخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر العظمة
وقال صحيح على شرط مسلم وتقدم في العلم وسيأتي بعد حديثين بلفظ آخر
وقال صلى الله عليه و سلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه //
حديث ثلاث مهلكات الحديث أخرجه البزار والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث أنس
بسند ضعيف وتقدم فيه أيضا
فالكبر والعجب داءان مهلكان والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان وهما عند الله ممقوتات
بغيضان
وإذا كان القصد في هذا الربع من كتاب إحياء علوم الدين شرح المهلكات وجب إيضاح
الكبر والعجب فإنهما من قبائح المرديات
ونحن نستقضي بيانهما من الكتاب في شطرين شطر في الكبر وشطر في العجب
الشطر الأول من الكتاب في الكبر وفيه
بيان ذم الكبر
وبيان ذم الاختيال وبيان فضيلة التواضع وبيان حقيقة التكبر وآفته وبيان من يتكبر
عليه ودرجات التكبر وبيان ما به التكبر وبيان البواعث على التكبر وبيان أخلاق
المتواضعين وما فيه يظهر الكبر وبيان علاج الكبر
وبيان امتحان النفس في خلق الكبر وبيان المحمود من خلق التواضع والمذموم منه بيان
ذم الكبر
قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تعالى سأصرف عن آياتي
الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وقال عز و جل كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر
جبار وقال تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد وقال تعالى إنه لا يحب المستكبرين
وقال تعالى لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقال تعالى إن الذين يستكبرون
عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وذم الكبر في القرآن كثير وقد
قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من
كبر ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان // حديث لا يدخل
الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال
حبة من خردل من إيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى
الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي //
حديث أبي هريرة يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا
منهما ألقيته في جهنم أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه واللفظ له وقال أبو داود
قذفته في النار وقال مسلم عذبته وقال رداؤه وإزاره بالغيبة وزاد مع أبي هريرة أبا
سعيد أيضا
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على
الصفا فتواقفا فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد
الرحمن فقال هذا يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه //
حديث عبد الله بن عمرو من كان في قلبه مثقال حبة من كبر كبه الله في النار على
وجهه أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه بإسناد صحيح
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في
الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب // حديث لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب
في الجبارين الحديث أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن الأكوع دون قوله من
العذاب
وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوما للطير والإنس والجن والبهائم اخرجوا
فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع زجل الملائكة
بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست أقدامه البحر فسمع صوتا لو كان في قلب صاحبكم
مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته
وقال صلى الله عليه و سلم يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان
ينطق يقول وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين //
حديث يخرج من النار عنق له أذنان الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن
صحيح غريب
وقال صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة بخيل ولا جبار ولا سيء الملكة // حديث لا
يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيء الملكة تقدم في أسباب الكسب والمعاش والمعروف
خائن مكان جبار
وقال صلى الله عليه و سلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين
والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم فقال الله
للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك
من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها // حديث تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت
بالمتكبرين والمتجبرين الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد
عبد تجبر واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد غفل وسها ونسي المقابر والبلى
بئس العبد عبد عتا وبغى ونسي المبدأ والمنتهى // حديث بئس العبد عبد تجبر واعتدى
الحديث أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت عميس بزيادة فيه مع تقديم وتأخير وقال
غريب وليس إسناد بالقوي ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه البيهقي في الشعب من
حديث نعيم بن عمار وضعفه
وعن ثابت أنه قال بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده
الموت // حديث ثابت بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده
الموت أخرجه البيهقي في الشعب هكذا مرسلا بلفظ تجبر
وقال عبد الله بن عمرو إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن نوحا عليه السلام
لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما
عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله
فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في
الكفة الأخرى كانت أرجح منهما ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت
لا إله إلا الله عليها لقصمتها وآمركما بسبحان الله
وبحمده
فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء // حديث عبد الله بن عمرو إن نوحا لما حضرته
الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك
والكبر الحديث أخرجه أحمد والبخاري في كتاب الأدب والحاكم بزيادة في نقله قال صحيح
الإسناد
قال المسيح عليه السلام طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جبارا
وقال صلى الله عليه و سلم أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وأهل الجنة
الضعفاء المقلون // حديث أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وهي الزيادة
عندهما من حديث حارثة بن وهب الخزاعي ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وقال صلى الله عليه و سلم إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا
وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قالوا يا رسول الله
قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون المتكبرون // حديث إن أحبكم إلينا
وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا الحديث أخرجه أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني
بلفظ إلى ومني وفيه انقطاع ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة وقد تقدم في رياضة النفس
أول الحديث
وقال صلى الله عليه و سلم يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطؤهم الناس
ذرا في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الغار ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له
بولس يعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار // حديث يحشر
المتكبرون يوم القيامة ذرا في صور الرجال الحديث أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وقال غريب
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه و سلم يحشر الجبارون والمتكبرون يوم
القيامة في صور الذر تطؤهم الناس نهواهم على الله تعالى // حديث أبي هريرة يحشر
الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر الحديث أخرجه البزار هكذا مختصرا دون
قوله الجبارون وإسناده حسن
وعن محمد بن واسع قال دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن
أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن في جهنم واديا يقال له هبهب حق على
الله أن يسكنه كل جبار فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه // حديث أبي موسى إن في
جنهم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار أخرجه أبو يعلى والطبراني
والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت فيه أزهر بن سنان ضعفه ابن معين وابن حبان وأورد له
في الضعفاء هذا الحديث
وقال صلى الله عليه و سلم إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم //
حديث إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم أخرجه البيهقي في الشعب من
حديث أنس وقال توابيت مكان قصرا وقال فيقفل مكان يطبق وفيه أبان بن أبي عياش وهو
ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء // حديث اللهم إني
أعوذ بك من نفخة الكبرياء لم أره بهذا اللفظ وروى أبو داود وابن ماجه من حديث جبير
بن مطعم عن النبي صلى الله عليه و سلم في أثناء الحديث أعوذ بالله من الشيطان من
نفخة ونفثه وهمزه قال نفثه الشعر ونفحه الكبر وهمزه الموتة ولأصحاب السنن من حديث
أبي سعيد الخدري نحو تكلم فيه أبو داود وقال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب
وقال من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة الكبر والدين والغلول // حديث
من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاثة دخل الجنة الكبر والدين والغلول أخرجه الترمذي
والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان وذكر المصنف لهذا الحديث هنا موافق للمشهور في
الرواية أنه الكبر بالموحدة والراء لكن ذكر ابن الجوزي في جامع المسانيد عن
الدارقطني قال إنما هو الكنز بالنون والزاي وكذلك أيضا ذكر ابن مردويه الحديث في
تفسير والذين يكنزون الذهب والفضة
الآثار قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يحقرن أحد أحدا من المسلمين فإن صغير
المسلمين عند الله كبير وقال وهب لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام
على كل متكبر
وكان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه
فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه فقال عجبا لابن
آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين
وقال الحسن العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار
السموات
وقد قيل في وفي أنفسكم أفلا تبصرون
هو
سبيل الغائط والبول
وقد قال محمد بن الحسين بن علي ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله
بقدر ما دخل من ذلك أو كثر
وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال الكبر وقال النعمان بن بشير
على المنبر إن للشيطان مصالي وفخوخا وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله
والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله
نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه
بيان ذل الاختيال وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا // حديث
لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم بينما رجل يتبختر في بردته إذ أعجبته نفسه فخسف الله به
الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة // حديث بينما رجل يتبختر في برديه قد
أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة وقال
زيد بن أسلم دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله ابن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته
يقول أي بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا ينظر
الله إلى من جر إزاره خيلاء // حديث ابن عمر لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء
رواه مسلم مقتصرا على المرفوع دون ذكر مرور عبد الله ابن واقد على ابن عمر وهو
رواية لمسلم أن المار رجل من بني ليث غير مسمى
وروي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه عليه وقال
يقول الله تعالى ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت
بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان
الصدقة // حديث إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه
عليها وقال يقول الله ابن آدم أتعجزني وقد خلقت من مثل هذه الحديث أخرجه ابن ماجه
والحاكم وصحح إسناده من حديث بشر بن جحاش
وقال صلى الله عليه و سلم إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله
بعضهم على بعض // حديث إذا مشت أمتي المطيطاء الحديث أخرجه الترمذي وابن حبان في
صحيحه من حديث ابن عمر المطيطاء بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما مثناة من
تحت مصغرا ولم يستعمل مكبرا
قال ابن الأعرابي هي مشية فيها اختيال
وقال صلى الله عليه و سلم من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه
غضبان // حديث من تعظم في نفسه واختال في مشيه لقي الله وهو عليه غضبان أخرجه أحمد
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر
الآثار عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهتم يريد
المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي
يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في
عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر
الله فيها ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون
في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لفتة فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه
فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك
لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال
له ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك
ويحك داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم
وروي أن عمر
ابن
عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه
ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء فقال عمر كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني
على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال أتدري من أنت
أما أمك فأشتريها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله ورأى ابن
عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا كررها مرتين أو ثلاثا ويروى أن مطرف بن
عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبدالله هذه مشية
يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة
وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته تلك
وقال مجاهد في قوله تعالى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر وإذ قد ذكرنا ذم الكبر
والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم
بيان فضيلة التواضع
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما زاد عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله
إلا رفعه الله // حديث ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا الحديث أخرجه مسلم من حديث
أبي هريرة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو
رفع نفسه جبذاها ثم قالا اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا اللهم ارفعه // حديث ما من
أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء
والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة والبيهقي أيضا من حديث ابن عباس وكلاهما ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير
معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة // حديث طوبى لمن تواضع في
غير مسكنة الحديث أخرجه البغوي وابن قانع والطبراني من حديث ركب المصري والبزار من
حديث أنس وقد تقدم بعضه في العلم وبعضه في آفات اللسان
وعن أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عندنا
بقباء وكان صائما فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئا من عسل فلما
رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل فقال ما هذا قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل
فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن
اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله // حديث أبي
سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عندنا بقباء
وكان صائما الحديث وفيه من تواضع رفعه الله الحديث رواه البزار من رواية طلحة بن
طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة فذكر نحوه دون قوله ومن أكثر من ذكر الله
أحبه الله ولم يقل بقباء وقال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر وقد تقدم ورواه
الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدح
فيه لبن وعسل الحديث وفيه أما إني لا أزعم أنه حرام الحديث وفيه من أكثر ذكر الموت
أحبه الله وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد دون قوله ومن بذر
أفقره الله وذكر رفيه قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله وتقدم في ذم الدنيا
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون فقام سائل
على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه و
سلم على فخذه ثم قال له اطعم فكأن رجلا من قريش اشمأز منه وتكره فما مات ذلك الرجل
حتى كانت به زمانة مثلها // حديث السائل الذي كان به زمانة منكرة وأنه صلى الله
عليه و سلم أجلسه على فخذه ثم قال اطعم الحديث لم أجد له أصلا والموجود حديث أكله
مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر وقال الترمذي غريب
وقال صلى الله عليه و سلم خيرني ربي بين أمرين أن أكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا
فلم أدر أيهما أختار وكان صفي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال تواضع لربك
فقلت عبدا رسولا // حديث خيرني ربي بين أمرين عبدا رسولا وملكا نبيا الحديث أخرجه
أبو يعلى من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن عباس وكلا الحديثين ضعيف
وأوحى الله
تعالى
إلى موسى عليه السلام إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي وألزم
قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي وقال صلى الله عليه و سلم
الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى // حديث الكرم التقوى والشرف التواضع
واليقين الغنى أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين مرسلا وأسند الحاكم أوله من
رواية الحسن عن سمرة وقال صحيح الإسناد
وقال المسيح عليه السلام طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة
طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة طوبى
للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة
وقال بعضهم بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا هدى الله عبدا للإسلام
وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعا فذلك من صفوة الله //
حديث إذا هدى الله عبدا للإسلام وحسن صورته الحديث أخرجه الطبراني موقوفا على ابن
مسعود نحوه وفيه المسعودي مختلف فيه
وقال صلى الله عليه و سلم أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت وهو أول العبادة
والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا // حديث أربع لا يعطيهن الله إلا من
يحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا أخرجه
الطبراني والحاكم من حديث أنس أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو أول العبادة
والتواضع وذكر الله وقلة الشيء قال الحاكم صحيح الإسناد قلت فيه العوام بن جويرية
قال ابن حبان يروي الموضوعات ثم روى له هذا الحديث
وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تواضع العبد رفعه الله إلى
السماء السابعة // حديث ابن عباس إذا تواضع العبد رفع الله رأسه إلى السماء
السابعة أخرجه البيهقي في الشعب نحوه وفيه زمعة بن صالح ضعفه الجمهور
وقال صلى الله عليه و سلم التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله //
حديث إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة الحديث أخرجه في الترغيب والترهيب من حديث
أنس وفيه بشر بن الحسين وهو ضعيف جدا ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر وفيه الحسن بن
عبدالرحمن الاحتياصي وخارجة بن مصعب وكلاهما ضعيف
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر
فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه
// حديث كان يطعم فجاءه رجل أسود به جدري فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه
فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه
لم أجده هكذا والمعروف أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وابن ماجه
من حديث جابر كما تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله
يدفع به الكبر عن نفسه // حديث إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده فيكون مهنة
لأهله يدفع به الكبر عن نفسه غريب
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه يوما مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة
قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع // حديث مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة
قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع غريب أيضا
وقال صلى الله عليه و سلم إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم
المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم وصغار // حديث إذا رأيتم المتواضعين من
أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلة وصغار
غريب أيضا
الآثار قال عمر رضي الله عنه إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش
رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله في الأرض وقال اخسأ خسأك الله فهو في
نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير
وقال جرير بن عبد الله انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد
جاوزت الشمس النطع فسويته عليه ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي فذكرت له
ما صنعت فقال لي يا جرير تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه
الله يوم القيامة يا جوير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة قلت لا قال إنه ظلم
الناس بعضهم في الدنيا
وقالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات التواضع
وقال
يوسف بن أسباط يجزي قليل الورع من كثير العمل ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد
وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو فقال أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من
صبي قبلته ولو سمعته من أجهل الناس قبلته
وقال ابن المبارك رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه
أنه ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه
ليس له بدنياه عليك فضل
وقال قتادة من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه
وبالا يوم القيامة
وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها
بالاستكانة أتممها عليك
وقال كعب ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا
أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة وما أنعم الله على عبد من
نعمة في الدنيا فلم يشرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح
له طبقا من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه
وقيل لعبد الملك بن مروان أي الرجال أفضل قال من تواضع عن قدرة وزهد عن رغبة وترك
النصرة عن قوة
ودخل ابن السماك على هارون فقال يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من
شرفك فقال ما أحسن ما قلت فقال يا أمير المؤمنين إن امرأ آتاه الله جمالا في خلقته
وموضعا في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتوضع في حسبه كتب
في ديوان الله من خالص أولياء الله فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده
وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء
إلى المساكين فيقعد معهم ويقول مسكين مع مساكين
وقال بعضهم كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك
الفقراء في الثياب المرتفعة
روي أنه خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون التواضع فقال لهم الحسن أتدرون ما التواضع
التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا
وقال مجاهد
إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام شمخت الجبال وتطاولت وتواضع الجودي
فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه
وقال أبو سليمان إن الله عز و جل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلبا أشد تواضعا
من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام
وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني
أخشى أنهم حرموا بسببي
ويقال أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه وأوضع ما يكون عند الله
أرفع ما يكون عند نفسه
وقال زياد النمري الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر
وقال مالك بن دينار لو أن مناديا ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رحلا والله ما كان
أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلا بفضل قوة أو سعي قال فلما بلغ ابن المبارك قوله قال
بهذا صار مالك مالكا
وقال الفضيل من أحب الرياسة لم يفلح أبدا
وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت يا
أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز و جل لنا فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب
هلاككم قال فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال إن الله عز و جل رفع
عنكم بدعاء محمد ين مقاتل
وجاء رجل إلى الشبلي رحمه الله فقال له ما أنت وكان هذا دأبه وعادته فقال أنا
النقطة التي تحت الباء فقال له الشبلي أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعا
وقال الشبلي في بعض كلامه ذلي عطل ذل اليهود
ويقال من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب
وعن أبي الفتح بن شخرف قال رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام فقلت له
يا أبا الحسن عظني فقال لي ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم
في ثواب الله وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز و جل وقال أبو
سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف
نفسه
وقال أبو يزيد ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر فقيل له فمتى
يكون متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا وتواضع كل إنسان على قدر معرفته
بربه عز و جل ومعرفته بنفسه
وقال أبو سليمان لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه
وقال عروة بن الورد التواضع أحد مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا
التواضع
وقال يحيى بن خالد البرمكي الشريف إذا تنسك تواضع والسفيه إذا تنسك تعاظم
وقال يحيى بن معاذ
التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع ويقال التواضع في الخلق كلهم حسن وفي
الأغنياء أحسن والتكبر في الخلق كلهم قبيح وفي الفقراء أقبح ويقال لا عز إلا لمن
تذلل لله عز و جل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز و جل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز
و جل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز و جل
وقال أبو علي الجوزجاني
النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع
والنصيحة والقناعة وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك فإذا هاجت في نفسه
نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها
النصيحة مع توفيق الله عز و جل وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع
عون الله عز و جل
وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه لولا أنه روي عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم // حديث يكون في
آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة إذا اتخذ الفيء
دولا الحديث وفيه كان زعيم القوم أرذلهم الحديث وقال غريب وله من حديث علي بن أبي
طالب إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فذكر منها وكان زعيم القوم أرذلهم
ولأبي نعيم في الحلية من حديث حذيفة من اقتراب الساعة اثنان وسبعون خصلة فذكرها منها
وفيهما فرج بن فضالة ضعيف
ما تكلمت عليكم وقال الجنيد أيضا التواضع عند أهل التوحيد تكبر ولعل مراده أن
التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئا حتى يضعها أو
يرفعها
وعن عمرو بن شيبة قال كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلا راكبا بغلة وبين يديه
غلمان وإذا هم يعنفون الناس قال ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا
أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي مالك تنظر إلي
فقلت له شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة فقال له أنا ذلك الرجل فقلت ما فعل
الله بك فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس
وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زمانا صرت فيه
فقيه الكوفة لزمان سوء
وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض وقال هذا
من أجلي يصيبكم لو مات عطاء لاستراح الناس
وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم
ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال أعطاك الله ما ترجوه فقال إن الرجاء يكون بعد
المعرفة فأين المعرفة وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوما فقال
سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا
كريم وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى
والغنى في اليقين والشرف في التواضع نسأل الله الكريم حسن التوفيق
بيان حقيقة الكبر وآفته
اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس والظاهر هو أعمال
تصدر عن الجوارح
واسم الكبر بالخلق الباطن أحق وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق
وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا
ظهر
على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر
فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر
عليه فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي
فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون
معجبا ولا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير
في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبرا ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا فإنه
قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ولا يكفي
أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم
يتكبر بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره
فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل
هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما
اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر
ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بك من نفخة الكبرياء // حديث أعوذ بك من
نفخة الكبرياء تقدم فيه
وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح
فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز
فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضا عزة وتعظما
ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه قال عظيمة
لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة
ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبرا فإنه مهما
عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع
عن مجالسته ومؤاكلته ورأى أن حقه أن يقوم ماثلا بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد
من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلا للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته فإن
كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل
وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه وإن حاج أو ناظر
أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول وإن وعظ عنف في النصح وإن رد عليه شيء
من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم
وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا لهم واستحقارا
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها
فإنها مشهورة
فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك
عنه العباد والزهاد والعلماء فضلا عن عوام الخلق وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى
الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر // حديث لا يدخل الجنة
من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم فيه
وإنما صار حجابا دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها وتلك
الأخلاق هي أبواب الجنة والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها لأنه لا يقدر على
أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز ولا يقدر على التواضع وهو رأس
أخلاق المتقين وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر أن يدوم على
الصدق وفيه العز ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه
العز ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز ولا
يقدر على قبول النصح وفيه العز ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه
العز ولا معنى للتطويل فما من خلق
ذميم
إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه
خوفا من أن يفوته عزه فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه
والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة
وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت
الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى والملائكة باسطو أيديهم إلى
قوله وكنتم عن آياته تستكبرون ثم قال ادخلوا أبواب جنهنم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين ثم أخبر أن أشد أهل النار عذابا أشدهم عتيا على الله تعالى فقال ثم
لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا وقال تعالى فالذين لا يؤمنون بالآخرة
قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وقال عز و جل يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا
أنتم لكنا مؤمنين وقال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
وقال تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قيل في التفسير سأرفع
فهم القرآن عن قلوبهم وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت
وقال ابن جريج سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها
ولذلك قال المسيح عليه السلام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا كذلك
الحكمة تعمل في قلب المتواضع ولا تعمل في قلب المتكبر ألا ترون أن من شمخ برأسه
إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه
فهذا مثل ضربه للمتكبرين وأنهم كيف يحرمون الحكمة ولذلك ذكر رسول الله صلى الله
عليه و سلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته وقال من سفه الحق وغمص الناس
// حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس أخرجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث وقال
بطر الحق وغمط الناس ورواه الترمذي فقال من بطر الحق وغمص الناس وقال حسن صحيح
ورواه أحمد من حديث عقبة عامر بلفظ المصنف ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبي
ريحانة هكذا
بيان المتكبر عليه ودرجاته وأقسامه وثمرات الكبر فيه
اعلم أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه وقد خلق الإنسان ظلوما
جهولا فتارة يتكبر على الخلق وتارة يتكبر على الخالق فإذن التكبر باعتبار المتكبر
عليه ثلاثة أقسام
الأول التكبر على الله وذلك هو أفحش أنواع الكبر ولا مثار له إلا الجهل المحض
والطغيان مثل ما كان من نمروذ فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى
عن جماعة من الجهلة
بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره فإنه لتكبره قال أنا ربكم
الأعلى إذ استنكف أن يكون عبدا لله ولذلك قال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي
سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون الآية وقال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما
تأمرنا وزادهم نفورا
القسم الثاني التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل
سائر الناس وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع
عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه
للانقياد للحق والتواضع للرسل كما حكى الله قولهم أنؤمن لبشرين مثلنا وقولهم إن
أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون
لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا
كبيرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك
وقال
فرعون فيما أخبر الله عنه أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال الله تعالى واستكبر هو
وجنوده في الأرض بغير الحق فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعا
قال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك قال حتى أشاور هامان فشاور هامان
فقال هامان بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاسنكف عن عبودية الله وعن اتباع
موسى عليه السلام
وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين
عظيم قال قتادة عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي طلبوا من هو
أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه و سلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا
فقال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك وقال الله تعالى ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من
بيننا أي استحقارا لهم واستبعادا لتقدمهم
وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء وأشاروا إلى
فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى ولا
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله ما عليك من حسابهم وقال تعالى
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم
تريد زينة الحياة الدنيا // حديث قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف
نجلس إليك وعندك هؤلاء الحديث في نزول قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم أخرجه
مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص إلا أنه قال فقال المشركون وقال ابن ماجه قالت قريش
ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذا لم يروا الذين ازدروهم فقالوا ما
لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قيل يعنون عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد
رضي الله عنهم ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله
عليه و سلم محقا ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبرا عنهم
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وهذا
الكبر قريب من التكبر على الله عز و جل وإن كان دونه ولكنه تكبر على قبول أمر الله
والتواضع لرسوله
القسم الثالث التكبر على العباد وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن
الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم وهذا
وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضا عظيم من وجهين أحدهما أن الكبر والعز والعظمة
والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر
على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا
تليق إلا بجلاله ومثاله أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على
سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال وما أشد استجراءه على
مولاه وما أقبح ما تعاطاه وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى العظمة إزاري
والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي والمنازع
فيه منازع في صفة من صفاتي وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على
عباده فقد جنى عليه إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم
ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ
درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه فالخلق كلهم عباد الله وله
العظمة الكبرياء عليهم فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه
نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمروذ وفرعون هو الفرق بين منازعة الملك
في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك
الوجه
الثاني الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن
المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عبادالله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده ولذلك ترى
المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون
تجاحد المتكبرين ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله وتشمر
لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين
إذ وصفهم الله تعالى فقال وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه
لعلكم تغلبون فكل من يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم
في هذا الخلق وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى وإذا قيل له
اتق الله أخذته العزة بالإثم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها فقال إنا لله
وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف فقتل فقام آخر فقال يقتلون الذين يأمرون
بالقسط من الناس فقتل المتكبر الذي خالفه والذي أمره كبرا
وقال ابن مسعود كفى بالرجل إثما إذا قيل له اتق الله قال عليك نفسك وقال صلى الله
عليه و سلم لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع فقال النبي صلى الله عليه و سلم ل استطيع
فقال النبي صلى الله عليه و سلملا فما منعه إلا كبره قال
فما رفعها بعد ذلك // حديث قال لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت الحديث
أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع
أي اعتلت يده
فإذن تكبره على الخلق عظيم لأنه سيدعوه إلى التكبر على أمر الله وإنما ضرب إبليس
مثلا لهذا وما حكاه من أحواله إلا ليعتبر به فإنه قال أنا خير منه وهذا الكبر
بالنسب لأنه قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فحمله ذلك على أن يمتنع
من السجود الذي أمره الله تعالى به وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له فجره ذلك
إلى التكبر على أمر الله تعالى فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد فهذه آفة من آفات
الكبر على العباد عظيمة ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبر بهاتين
الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال يا رسول الله إني امرؤ قد حبب إلي من
الجمال ما ترى أفمن الكبر هو فقال صلى الله عليه و سلم لا ولكن الكبر من بطر الحق
وغمص الناس // حديث قول ثابت بن قيس بن شماس إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى
الحديث وفيه الكبر من بطر الحق وغمص الناس أخرجه مسلم والترمذي وقد تقدم قبله
بحديثين
وفي حديث آخر من سفه الحق // حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس تقدم معه
وقوله وغمص الناس أي ازدراهم واستحقرهم وهم عباد الله أمثاله أو خير منه
وهذه الآفة الأولى وسفه الحق هو رده وهي الآفة الثانية فكل من رأى أنه خير من أخيه
واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما
بينه وبين الخلق ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد
تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله
بيان ما به التكبر
اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من
صفات الكمال
وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب
والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار
فهذه سبعة أسباب
الأول العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال صلى الله عليه و سلم آفة العلم
الخيلاء // حديث آفة العلم الخيلاء قلت هكذا ذكره المصنف والمعروف آفة العلم
النسيان وآفة الجمال الخيلاء هكذا رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي بسند
ضعيف
وروى عنه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس آفة الجمال الخيلاء وفيه الحسن بن
الحميد الكوفي لا يدري من هو حدث عن أبيه بحديث موضوع قاله صاحب الميزان
فلا يلبث
العالم
أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس
وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد
منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويدا
عليه يلزمه شكرها واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ينبغي أن
يرقوا له ويخدموه شكرا له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا
يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه
استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروفلديهم
واستحقاق حق عليهم هذا فيما يتعلق بالدنيا
أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم
فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم وهذا بأن يسمى
جاهلا أولى من أن يسمى عالما بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه
وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه كما سيأتي في طريق معالجة
الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد خوفا وتواضعا وتخشعا ويقتضي أن يرى كل الناس خيرا
منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم
ولهذا قال أبو الدرداء من ازداد علما ازداد وجعا وهو كما قال
فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا
فأعلم أن لذلك سببين
أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما حقيقيا وإنما العلم الحقيقي ما
يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه وهذا يورث الخشية
والتواضع دون الكبر والأمن
قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب
والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الإنسان لها
حتى امتلأ منها امتلأ بها كبرا ونفاقا وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما
بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالبا
السبب الثاني أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيء الأخلاق فإنه
لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة
ربه فبقي خبيث الجوهر فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم من قلبه منزلا
خبيثا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره
وقد ضرب وهب لهذا مثلا فقال العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه
الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك
العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع
تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به
فازداد كبرا وإذا كان الرجل خائفا مع جهله فازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه
فيزداد خوفا وإشفاقا وذلا وتواضعا فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى
لنبيه صلى الله عليه و سلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز و جل ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ووصف أولياءه فقال أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه العباس رضي الله عنه يكون قوم
يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا
ثم التفت إلى أصحابه وقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم
وقود
النار // حديث العباس يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا
القرآن فمن أقرأ منا الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق
ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا تكونوا جبابرة العلماء فلا يفي علمكم بجهلكم
ولذلك أستأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص فأبى أن يأذن له وقال إنه
الذبح واستأذنه رجل كان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم فقال إني أخاف أن
تنتفخ حتى تبلغ الثريا
وصلى حذيفة بقوم فلما سلم من صلاته قال لتلتمسن إماما غيري أو لتصلن وحدانا فإني
رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني
فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة فما أعز على
بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال له عالم ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه فإن وجد
ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر إليه عبادة فضلا عن
الاستفادة من أنفاسه وأحواله لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن
تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته وهيهات فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم فهم
أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم بل يعز في زماننا
عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة فذلك أيضا إما معدوم وإما
عزيز ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله سيأتي على الناس زمان من
تمسك فيه بعشر ما أنتم عليه نجا // حديث سيأتي على الناس زمان من تمسك بعشر ما
أنتم عليه نجا أخرجه أحمد من رواية رجل عن أبي ذر
لكان جديرا بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه
من سوء أعمالنا ومن لنا أيضا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه وليتنا تمسكنا بعشر عشره
فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه
كرمه وفضله
الثاني العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد
والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا
أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام
الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى
وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء وكأنهم يرون
عبادتهم منة على الخلق
وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا مهما
رأى ذلك قال صلى الله عليه و سلم إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم //
حديث إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر بالله آمن من
مكره غير خائف من سطوته وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره
قال صلى الله عليه و سلم كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم // حديث كفى بالمرء
شرا أن يقر أخاه المسلم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ امرؤ من الشر
وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجوه
لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو
منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مترفع عن مجالستهم فما أجدرهم
إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن
ينقله الله إلى حد الإهمال كما روي أن رجلا في بني إسرائيل كان يقال له خليع بني
إسرائيل لكثرة فساده مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل وكان على رأس العابد
غمامة تظله فلما مر الخليع به فقال الخليع في نفسه أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد
بني إسرائيل
فلو
جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه فقال العابد أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع
بني إسرائيل فكيف يجلس إلي فأنف منه وقال له قم عني فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان
مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد
وفي رواية أخرى فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم فالجاهل العاصي إذا تواضع
هيبة لله وذل خوفا منه فقد أطاع الله بقلبه فهو أطوع لله من العالم المتكبر
والعابد المعجب
وكذلك روي أن رجلا في بني إسرائيل أتى عابدا من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو
ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك // حديث الرجل من بني إسرائيل الذي وطئ على
رقبة عابد من بني إسرائيل وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك الحديث أخرجه
أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة في قصة العابد الذي قال للعاصي والله لا يغفر
الله لك أبدا وهو بغير هذا السياق وإسناده حسن
فأوحى الله إليه أيها المتألي بل أنت لا يغفر الله لك وكذلك قال الحسن وحتى أن
صاحب الصوف أشد كبرا من صاحب المطرز الخز أي أن صاحب الخز يذل لصاحب الصوف ويرى
الفضل وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه وهذه الآفة أيضا قلما ينفك عنها كثير من العباد
وهو أنه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له ولا يشك في أنه صار
ممقوتا عند الله ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه
عنده وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب واغترار بالله وقد ينتهي الحمق والغباوة
ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول سترون ما يجري عليه وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من
كراماته وأن الله ما أراد به إلا شفاء غليله والانتقام له منه مع أنه يرى طبقات من
الكفار يسبون الله ورسوله وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من
قتلهم ومنهم من ضربهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم
بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ثم الجاهل المغرور يطن أنه أكرم على
الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به
ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين
وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع
صاعقة ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخلصوا
وما قاله الآخر بعد انصرافه من عرفات كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم
فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا وهو وجل على نفسه مزدر
لعمله وسعيه وذاك ربما يضمر من الرياء والكبر والحسد والغل ما هو ضحكة للشيطان به
ثم إنه يمتن على الله بعمله
ومن اعتقد جزما أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله فإن الجهل أفحش
المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن
من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلا ذكر بخير
للنبي صلى الله عليه و سلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك
فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه و سلم
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل
منك قال اللهم نعم // حديث أن رجلا ذكر بخير للنبي صلى الله عليه و سلم فأقبل ذات
يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان
الحديث أخرجه أحمد والبزار والدارقطني من حديث أنس
فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه
وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات
الدرجة الأولى أن يكون الكبر مستقرا في قلبه يرى نفسه خيرا من غيره إلا أنه يجتهد
ويتواضع ويفعل
فعل
من يرى غيره خيرا من نفسه وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها
بالكلية
الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار
الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم
وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان
عليهم وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس
ولا في الخد حتى يصعر ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم إنما الورع في
القلوب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم التقوى هاهنا وأشار إلى صدره // حديث
التقوى هاهنا وأشار إلى صدره أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقا
وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا // حديث كان أكرم الخلق وأتقاهم الحديث تقدم في كتاب
أخلاق النبوة
ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبني من
القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر
الله في المسلمين مثله
ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم واخفض
جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم
أخف حالا ممن هو في
الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة
والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبه الغير في العلم
والعمل
أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد
من هو وما عمله ومن أين زهده فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول
إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم وفلان ينام سحرا
ولا يكثر القراءة وما يجري مجراه وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول قصدني فلان بسوء فهلك
ولده وأخذ ماله أو مرض أو ما يجره مجراه يدعي الكرامة لنفسه
وأما مباهاته فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن
كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد
في العبادة خوفا من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من
الشيوخ فلانا وفلانا ومن أنت وما فضلك ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث كل ذلك
ليصغره ويعظم نفسه
وأما مباهاته فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار
في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع
الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث
ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ويفرح مهما
أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه
فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل وأين من يخلو عن
جميع ذلك أو عن بعضه فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول
الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر //
حديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تقدم
كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إنه من أهل
النار وإنما العظيم من خلا عن هذا ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر والعالم هو
الذي فهم أن الله تعالى قال له إن لك عندنا قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لها
قدرا فلا قدر لك عندنا
ومن لم يعلم
هذا
من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدرا
فهذا هو التكبر بالعلم والعمل
الثالث التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن
كان أرفع منه عملا وعلما وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من
مخالطتهم ومجالستهم وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره يا نبطي يا هندي ويا
أرمني من أنت ومن أبوك فأنا فلان ابن فلان وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي ومع
مثلي تتكلم وما يجري مجراه
وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحا وعاقلا إلا أنه قد لا
يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما
روي عن أبي ذر أنه قال قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له يا ابن
السوداء فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن
البيضاء على ابن السوداء فضل // حديث أبي ذر قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه و
سلم فقلت له يا ابن السوداء الحديث أخرجه ابن المبارك في البر والصلة مع اختلاف
ولأحمد من حديثه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له انظر فإنك لست بخير من أحمر
ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى
فقال أبو ذر رحمه الله فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي
فانظر كيف نبهه رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى لنفسه فضلا بكونه ابن بيضاء
وأن ذلك خطأ وجهل وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه
إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى
الله عليه و سلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك فقال النبي
صلى الله عليه و سلم افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن
فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة
من أهل النار وأنت عاشرهم // حديث أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه و سلم
فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك الحديث أخرجه عبد الله بن
أحمد في زوائد المسند من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح ورواه أحمد موقوفا على معاذ
بقصة موسى فقط
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في
جهنم أو ليكون أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر // حديث ليدعن
قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان من حديث أبي هريرة
الرابع التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب
والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت دخلت
امرأة على النبي صلى الله عليه و سلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى
الله عليه و سلم قد اغتبتها // حديث عائشة دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه و
سلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة الحديث تقدم في آفات اللسان
وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضا قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت
بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت
الخامس الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين
الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني
الفقير ويتكبر عليه ويقول له أنت مكد ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت
من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك وأنا أنفق في
اليوم ما لا تأكله في سنة وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر وكل ذلك جهل
منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى وإليه الإشارة بقوله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا حتى أجابه فقال إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى
ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو
يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وكان ذلك منه تكبرا بالمال والولد
ثم
بين الله عاقبة أمره بقوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ومن ذلك تكبر قارون إذ قال
تعالى إخبارا عن تكبره فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا
ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم
السادس الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف
السابع التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين
ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين
وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن
يتكبر به حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفتة وقدرته في صنعة المخنثين
لأنه يرى ذلك كمالا فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالا وكذلك الفاسق قد يفتخر
بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالا وإن كان
مخطئا فيه
فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا
يدلي به أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده
وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم
منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه
نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير
بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له
اعلم أن الكبر خلق باطن وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة وينبغي
أن تسمى تكبرا
ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير
وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر كما سيأتي معناه فإنه إذا
أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من أسبابه استعظم وتكبر
وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة سبب في المتكبر وسبب في المتكبر عليه وسبب فيما
يتعلق بغيرهما
أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد
والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة العجب والحقد
والحسد والرياء
أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال
والأقوال والأحوال
وأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو
فوقه ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدا ورسخ في قلبه بغضه فهو لذلك
لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقا للتواضع فكم من رذل لا تطاوعه
نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بغضه له ويحمله ذلك على رد الحق
إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه وإن علم
أنه لا يستحق ذلك وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه ولا
يسأله عما هو جاهل به
وأما الحسد فإنه أيضا يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي
الغضب والحقد ويدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم
فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد
من أهل بلده أو أقاربه حسدا وبغيا عليه فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه
يستحق التواضع بفضل علمه ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين وإن كان
في باطنه ليس يرى نفسه فوقه
وأما الرياء فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه
أفضل منه وليس بينه
وبينه
معرفة ولا محاسدة ولا حقد ولكن يمتنع من قبول الحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة
خيفة من أن يقول الناس إنه أفضل منه فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد
ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه
وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضا عند الخلوة به مهما لم
يكن معهما ثالث وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذبا وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به
على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا
يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطنا بأنه لا يستحق ذلك ولا كبر في
باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين
وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن
صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار وهو إن سمي متكبرا فلأجل التشبه
بأفعال الكبر
نسأل الله حسن التوفيق والله تعالى أعلم
بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر
اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزرا وإطراقه رأسه وجلوسه
متربعا أو متكئا وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد ويظهر في مشيته
وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في
أحواله وأقواله وأعماله
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض
فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه
وقد قال علي كرم الله وجهه من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل
قاعد وبين يديه قوم قيام
وقال أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا رأوه
لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك // حديث أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول
الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له الحديث تقدم في آداب
الصحبة وفي أخلاق النبوة
ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه
قال أبو الدرداء لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه وكان عبدالرحمن بن
عوف لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة
ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال ما يبقى هذا من قلب العبد وكان رسول الله
صلى الله عليه و سلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في
غمارهم // حديث كان في بعض الأوقات يمشي مع أصحاب فيأمرهم بالتقدم أخرجه منصور
الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أنه خرج يمشي إلى البقيع
فتبعه أصحابه فوقف فأمرهم أن يتقدموا ومشى خلفهم فسئل عن ذلك فقال إني سمعت خفق
نعالكم فأشفقت أن يقع في نفسي شيء من الكبر وهو منكر فيه جماعة ضعفاء
إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب
الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين // حديث إخراجه الثوب الجديد
في الصلاة وإبداله بالخليع قلت المعروف نزع الشراك الجديد ورد الشراك الخلق أو نزع
الخميصة وليس الأنبجانية وكلاهما تقدم في الصلاة
ومنها أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع
روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا فجاء
سفيان فقيل له يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه
ومنها أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه
قال ابن وهب جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ
ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي لم تفعلون بي
ما
تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلا منكم شرا مني وقال أنس كانت الوليدة من ولائد
المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به
حيث تشاء // حديث أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله
عليه و سلم الحديث تقدم في آداب المعيشة
ومنها أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو الكبر دخل رجل وعليه
جدري قد تقشر على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما
جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه // حديث
الرجل الذي به جدري وإجلاسه إلى جنبه تقدم قريبا
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوما ولا أبرص ولا مبتلى
إلا أقعدهم على مائدته
ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته والتواضع خلافه روي أن عمر بن عبدالعزيز
أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه
فقال ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال أفأنبه الغلام فقال هي أول نومة نامها
فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتا فقال الضيف قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين
فقال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء وخير الناس من كان عند الله
متواضعا
ومنها أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك // حديث حمله متاعه إلى بيته
أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة في شرائه للسراويل وحمله وتقدم
وقال علي كرم الله وجهه لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله
وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلا له من خشب إلى الحمام
وقال ثابت بن أبي مالك رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ
خليفة لمروان فقال أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك وعن الأصبغ بن نباتة قال
كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة
يدور في الأسواق حتى دخل رحله
وقال بعضهم رأيت عليا رضي الله عنه قد اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفته فقلت له
أحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال لا أبو العيال أحق أن يحمل
ومنها اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم
البذاذة من الإيمان // حديث البذاذة من الإيمان أخرجه أبو داود وابن ماجه حديث أبي
أمامة بن ثعلبة وقد تقدم
فقال هارون سألت معنا عن البذاذة فقال هو الدون من اللباس
وقال زيد بن وهب رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه
إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال
يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب
وقال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين
فأنكر قلبي ما داما نقيين
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف
دينار فيقول ما أجودها لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة
دراهم فيقول ما أجوده لولا لينه فقيل له أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين
فقال إن لي نفسا ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي
فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز و جل
وقال سعيد بن سويد صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع
الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو
لبست فنكس
رأسه
مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال
صلى الله عليه و سلم من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء لمرضاته
كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة // حديث من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة
تواضعا لله الحديث أخرجه أبو سعيد الماليني في مسند الصوفية وأبو نعيم في الحلية
من حديث ابن عباس من ترك زينة لله الحديث وفي إسناده نظر
فإن قلت فقد قال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء القلب
وقد سئل نبينا صلى الله عليه و سلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال لا
ولكن من سفه الحق وغمص الناس // حديث سئل عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال
لا الحديث تقدم غير مرة
فكيف طريق الجمع بينهما فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في
حق كل أحد في كل حال وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الذي
عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلي
من الجمال ما ترى // حديث إن ثابت بن قيس قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني امرؤ
حبب إلي الجمال الحديث هو الذي قبله سمي فيه السائل وقد تقدم
فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره فإنه ليس من ضرورته أن
يكون من الكبر وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من
التواضع
وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان
وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره فذلك
ليس من التكبر
فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال على أن قوله خيلاء
القلب يعني قد تورث خيلاء في القلب وقول نبينا صلى الله عليه و سلم إنه ليس من
الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثا للكبر
وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا المحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة
بالجودة ولا بالرداءة
وقد قال صلى الله عليه و سلم كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة
// حديث كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة أخرجه النسائي وابن
ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده // حديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على
عبده أخرجه الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا وقد جعلهما
المصنف حديثا واحدا
وقال بكر بن عبد الله المزني البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية وإنما
خاطب بهذا قوما يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح
وقد قال عيسى عليه السلام ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب
الضواري البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية
ومنها أن يتواضع بالاحتمال إذا سب وأوذي وأخذ حقه فذلك هو الأصل
وقد أوردنا ما نقل عن السلف من احتمال الأذى في كتاب الغضب والحسد
وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صلى الله عليه و سلم فيه فينبغي
أن يقتدى به ومنه ينبغي أن يتعلم
وقد قال أبو سلمة
قلت لأبي سعيد الخدري ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم
فقال يا ابن أخي كل لله واشرب لله والبس لله وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو
رياء أو سمعة فهو معصية وسرف وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى
الله عليه و سلم في بيته كان يعلف الناضح ويعقل البعير ويقم البيت ويحلب الشاة
ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إذا أعيا ويشتري الشيء من السوق
ولا يمنعه الحياء أن يلعقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه وينقلب إلى أهله يصافح الغني
والفقير والكبير والصغير ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير أسود أو
أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه لا يستحي من أن يجيب
إذا دعي وإن كان أشعث أغبر ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل لا يرفع
غداء لعشاء ولا عشاء لغداء هين المؤنة
لين
الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طليق الوجه بسام من غير ضحك محزون من غير عبوس
شديد في غير عنف متواضع في غير مذلة جواد من غير سرف رحيم لكل ذي قربى ومسلم رقيق
القلب دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع ولا يمد يده من طمع قال أبو سلمة فدخلت على
عائشة رضي الله عنها فحدثتها بما قال أبو سعيد في زهد رسول الله صلى الله عليه و
سلم فقالت ما أخطأ منه حرفا ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم لم يمتلئ قط شبعا ولم يبث إلى أحد شكوى وإن كانت الفاقة لأحب إليه من اليسار
والغنى وإن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو
شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارق الأرض ومغاربها
لفعل وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول نفسي لك الفداء
لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع فيقول يا عائشة إخواني من أولي
العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم
فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم
فأصبر أياما يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة وما من شيء أحب إلي من
اللحوق بإخواني وأخلائي قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة
حتى قبضه الله عز و جل // حديث أبي سعيد الخدري وعائشة قال الخدري لأبي سلمة عالج
في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعالج في بيته كان يعلف
الناضح الحديث وفيه قال أبو سلمة فدخلت على عائشة فحدثتها بذلك عن أبي سعيد فقالت
ما أخطأ ولقد قصر أو ما أخبرك أنه لم يمتلئ قط شبعا الحديث بطوله لم أقف له على
إسناد
فما نقل من أحواله صلى الله عليه و سلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين فمن طلب
التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه و سلم ولم يرض لنفسه بما
رضي هو به فما أشد جهله فلقد كان أعظم خلق الله منصبا في الدنيا والدين فلا عز ولا
رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه إنا قوم أعزنا الله بالإسلام
فلن نطلب العز في غيره لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام
وقال أبو الدرداء اعلم أن لله عبادا يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد
الأرض فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه و سلم
لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية
وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن
وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخلصهم لنفسه وهم أربعون صديقا أو
ثلاثون رجلا قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم
حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئا ولا يؤذونه ولا
يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحدا ولا يحرصون على الدنيا هم أطيب الناس
خيرا وألينهم عريكة وأسخاهم نفسا علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة
ليسوا اليوم في خشية وغدا في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم
وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة قلوبهم تصعد ارتياحا إلى
الله واشتياقا إليه وقدما في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم
المفلحون قال الراوي فقلت يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد علي من تلك الصفة وكيف
لي أن أبلغها فقال ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا فإنك
إذا بغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك
تبصر ما ينفعك وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة
واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل إن الله مع الذين اتقوا والذين
هم محسنون قال يحيى بن كثير فنظرنا
في
ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته
اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته
وA
بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع له
اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وإزالته فرض عين ولا
يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له
وفي معالجته مقامان
أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب
الثاني دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره
المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما
أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر فإنه مهما
عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل وأنه لا يليق به إلا
التواضع والذلة والمهانة وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله
أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة وأما معرفته
نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع والمذلة ويكفيه أن
يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت
بصيرته وقد قال تعالى قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم
السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فقد أشارت الآية إلى أول خلق
الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول
الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا وقد كان في حيز العدم دهورا بل لم يكن لعدمه
أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم وقد كان كذلك في القدم ثم خلقه الله من أرذل
الأشياء ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم
جعله عظما ثم كسا العظم لحما فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئا مذكورا فما صار
شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا بل خلقه
جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا
يعلم فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره
وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل
قدرته
فهذا معنى قوله من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ومعنى قوله هل أتى على الإنسان
حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه كذلك
خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال ثم السبيل يسره وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة
حياته إلى الموت وكذلك قال من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه
السبيل وإما شاكرا أو كفورا ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا
ونطفة ثانيا وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعد ما كان فاقدا للبصر وقواه بعد الضعف
وعلمه بعد الجهل وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه
بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع وكساه بعد العرى وهداه بعد الضلال
فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل
الإنسان كيف أظهره فقال أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون فانظر إلى نعمة الله كيف نقله
من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجودا بعد
العدم وحيا بعد الموت وناطقا بعد البكم وبصيرا بعد العمى وقويا بعد الضعف وعالما
بعد الجهل ومهديا بعد
الضلال
وقادرا بعد العجز وغنيا بعد الفقر فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء وأي
قلة أقل من العدم المحض ثم صار بالله شيئا
وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض
أيضا ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم
بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا
ولذلك امتن عليه فقال ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين وعرف خسته
أولا فقال ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة ثم ذكر منته عليه فقال فخلق فسوى
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولا
بالاختراع
فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على
التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ
بأنفه وتعظم وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله
نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ
والمنتهى ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات
المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يهدم البعض من أجزائه
البعض شاء أم أبى رضي أم سخط فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها لا يملك
لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر
الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى
ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه
نفسه ويشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه يستلذ
الأطعمة وتهلكه وترديه ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ولا يأمن في لحظة من ليله
أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما
يهواه في دنياه فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فنى عبد مملوك لا يقدر على شيء
من نفسه ولا شيء من غيره فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه وأنى يليق الكبر به لولا
جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله
وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء
أنشره ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود
جمادا كما كان أول مرة لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع
في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة ثم تبلى أعضاؤه
وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميما رفاتا ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه
فيقلعهما وبخديه فيقطعهما وبسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة
يهرب منه الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود
إلى ما كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقودا بعد ما
أن موجودا
وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا كما كان في أول أمره أمدا مديدا وليته بقي كذلك فما
أحسنه لو ترك ترابا
لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه
المتفرقة ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض
مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم
تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول
وما هو فيقال كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها وتفتخر
بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك
ما
كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قد نسيت
ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب
فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من
مخازيه فإذا شاهده قال يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
إحصاها فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى ثم إذا شاء أنشره فما لمن هذا حاله
والتكبر والتعظم بل ماله وللفرح في لحظة واحدة فضلا عن البطر والأشر فقد ظهر له
أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلبا أو
خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا وإن كان
عند الله مستحقا للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب
وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو
وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا
لصارت أنتن من الجيفة فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من
العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد له فضلا وأي
عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر
بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله
أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر
أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا
كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا
والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه
ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا
فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق
المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله
عليه و سلم حتى إنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد //
حديث كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد تقدم في آداب
المعيشة
وقيل لسلمان
لم لا تلبس ثوبا جديدا فقال إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما لبست جديدا أشار به إلى
العتق في الآخرة
ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله
ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا وقيل الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها
كانت عمادا ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع والسجود وقد
كانت العرب قديما يأنفون من الإنحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه
وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه حتى قال حكيم بن حزام بايعت النبي صلى
الله عليه و سلم على أن لا أخر إلا قائما فبايعه النبي صلى الله عليه و سلم عليه
ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك // حديث حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه و
سلم على أن لا أخر إلا قائما الحديث رواه أحمد مقتصرا على هذا وفيه إرسال خفي
فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول
كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول
قائما هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر
من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقا فإن القلوب لا تتخلق
بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب
والجوارح وسر
الارتباط
الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت
المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة وقد ذكرنا في كتاب ذم
الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي
فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في
جميع الأسباب السبعة
الأول النسب فيمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين
أحدهما أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ولذلك قيل
لئن فخرت بآباء ذوي شرف ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره بل لو
كان الذي ينسب إليه حيا لكان له أن يقول الفضل لي ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من
بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات
بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة
الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده
البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق
الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي
يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنونا كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه
انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة
فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول افتخر بالقريب دون البعيد
فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة
لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت
الرفعة لولده فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل
وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان
فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه
المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد
أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في
قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له
شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس
وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره
فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب إذ لو كان
أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة
نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم
والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه
السبب الثاني التكبر بالجمال ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى
باطنه نظر البهائم
ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به
الأقذار في جميع أجزائه الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه
والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت
إبطه يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو
مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلا عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك
ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه
وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى
الأقذار
إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى
القذر قال أنس رحمه الله كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا
أنفسنا ويقول خرج أحدكم من مجرى البول
مرتين
وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز
ما هذه مشية من في بطنه خراء إذ رآه يتبختر وكان ذلك قبل خلافته وهذا أوله ووسطه
ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان
والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط
فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار
لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ
صار هشيما تذروه الرياح كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب
أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل
إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري
أو قرحة أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب فمعرفة هذه
الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها
السبب الثالث التكبر بالقوة والأيدي ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل
والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه
لو سلبه الذباب شيئا لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه
لقتلته وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته مالا ينجبر في
مدة
فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن
يفتخر بقوته ثم إن قوى الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي
افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم
السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر
بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان كالجمال
والقوة والعلم
وهذا أقبح أنواع الكبر فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه وانهدمت
داره لعاد ذليلا والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على
قلب هو أشد غليانا من القدر فإن تغير عليه كان أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن
ذاته فهو ظاهر الجهل كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد عليه في
الغنى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة
واحدة فيعود صاحبه ذليلا مفلسا فهذه أسباب ليست في ذاته وما هو في ذاته ليس إليه
دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال فالتفاخر به غاية الجهل وكل ما ليس إليك فليس
لك وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك وما
أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء
ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره
ومثاله أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة
خيوله وغلمانه إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه
كانا مملوكين له فعلم ذلك وحكم به الحاكم فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده
وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف
أن له مالكا ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوسا في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب
والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله
ولا يعرف طريقا في الخلاص ألبتة أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته
وكماله أم يذل نفسه ويخضع وهذا حال كل عاقل بصير فإنه
يرى
نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض
وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك
فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة
فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل
فإنهما كمالان في النفس جديران بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضا نوع من الجهل
خفي كما سنذكره
السبب السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج
إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس وهو
أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم
وعمل
ولذلك قال كعب الأحبار إن للعلم طغيانا كطغيان المال
وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن
لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين
أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل
عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق
نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه و سلم يؤتى بالعالم يوم القيامة
فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل
النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه // حديث
يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه من حديث
أسامة بن زيد بلفظ يؤتى بالرجل وتقدم في العلم
وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز و جل مثل
الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا أراد به علماء اليهود
وقال في بلعم بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال ابن عباس رضي الله عنهما
أوتي بلعم كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل
عليه يلهث أو تتركه يلهث أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي
العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه
فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو
بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك
وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون
قد كان فقيرا فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه
فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر
من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم
وقد كان بعضهم يقول يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول يا
ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر ليتني كنت طيرا أوكل ويقول الآخر ليتني لم أك
شيئا مذكورا كل ذلك خوفا من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير
ومن التراب
ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك
في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه
رسولا يخرجه من كل ما هو فيه عريانا ذليلا ويلقيه على بابه في الحر والشمس زمانا
طويلا حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه
وفتش
عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة
وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي
الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه
ولم يتكبر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب
فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه
من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم
فارقه كبره لا محالة
الأمر الثاني أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز و جل وحده وأنه إذا
تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي
قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لنفسك قدرا فلا قدر لك عندي فلا بد وأن يكلف
نفسه ما يحبه مولاه منه
وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلا أو تصور ذلك
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى في
رداء الكبرياء قصمه وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم
فهذا أيضا مما يبعثه على التواضع لا محالة
فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو
عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله
خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر
في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم
الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند
الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا
يدري ذلك فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره
وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا أبا بكر وحده فالعواقب مطوية عن
العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة
فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد
بل إن نظر إلى جاهل قال هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني
وإن نظر إلى عالم قال هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله وإن نظر إلى كبير هو
أكبر منه سنا قال هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله وإن نظر إلى صغير قال إني
عصيت الله قبله فكيف أكون مثله وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال ما يدريني لعله يختم
له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها
إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال
في سعادة الآخرة والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا
الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة
إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته لا أن يشتغل بخوف غيره فإن الشفيق بسوء الظن
مولع وشفقة كل إنسان على نفسه
فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض
وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره حتى كأن كل واحد هو
وحده في مصيبته وخطره
فإن قلت فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما ثم مع ذلك
أتواضع لهما والجمع بينهما متناقض فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق إذ
يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق
بكبر
النفس والإدلال بالعلم والورع فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقا جلس
بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع
لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شرا والحذر منه
ممكن والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضا يتكبر
على من غضب عليه والمتكبر يغضب وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان لا
يميز بينهما إلا الموفقون
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند
أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور
أحدهما التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك
والثاني أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من
حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك فله المنة فيه لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب
بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر
والثالث ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى
حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه
فإن قلت فكيف أغضب مع هذه الأحوال فأقول تغضب لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له لا
لنفسك وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجيا وصاحبك هالكا بل يكون خوفك على نفسك بما علم
الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة وأعرفك ذلك بمثال لتعلم
انه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول
إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن
يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه
فإن كان الغلام محبا مطيعا لمولاه فلا يجد بدا أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء
الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه
ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو
متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام
فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع
والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى
في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم
الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في
الآخرة
فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع
وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك
غاية الغرور
فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم
الأمر
السبب السابع التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضا فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن
يلزم قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن
يتكبر عليه كيفما كان لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون وقال صلى الله عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلي
على أدنى رجل من أصحابي // حديث فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من
أصحابي أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وتقدم في العلم
إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم
فإن
قال العابد ذلك لعالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له أما عرفت أن الحسنات
يذهبن السيئات وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون
وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا
كان هذا الأمر غائبا عنه لم يجز له أن يحتقر عالما بل يجب عليه التواضع له
فإن قلت فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله صلى الله
عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي فاعلم أن ذلك كان
ممكنا لو علم العالم عاقبة أمره وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون
حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هينا وهو عند الله
عظيم وقد مقته به وإذا كان هذا ممكنا كان على نفسه خائفا فإذا كان كل واحد من
العابد والعالم خائفا على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون
الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال
فهذا العابد مع العالم فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى
مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوبا وأكثر منه عبادة وأشد
منه حبا لله
وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك
فلا ينبغي أن تتكبر عليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنبا لأن عدد ذنوبك في طول
عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم
أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر
عليه إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في
صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في باطنك
من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات
القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه وقد كفر الله بذلك عنه
سيئاته فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات فهذا ممكن والإمكان
البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريبا عندك إن كنت مشفقا على نفسك فلا تتفكر فيما
هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا
يخفف شيئا من عذابك فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن
ترى نفسك فوق غيرك
وقد قال وهب بن منبه ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسعة حتى بلغ العاشر
فقال العاشرة وما العاشرة بها شاد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه
وإنما الناس عنده فرقتان
فرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى
فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به
وإن رأى من هو شر منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفا من العاقبة
ويقوم لعل بر هذا باطن فذلك خير له ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيC ويتوب عليه ويختم
له بأحسن الأعمال ويرى ظاهر فذلك شر لي
فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها ثم قال فحينئذ كمل
عقله وساد أهل زمانه
فهذا كلامه
وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقيا وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فماله
سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال
نعم إذا غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيرا من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روى أن عابدا
آوى إلى جبل فقيل له في النوم ائت فلانا الإسكاف فسله أن يدعو لك
فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب
فيتصدق
ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة
الله فأتى في النوم ثانيا فقيل له ائت فلانا الإسكاف فقل له ما هذا الصفار الذي
بوجهك فأتاه فسأله فقال له ما رأيت أحدا من الناس إلا وقع لي أنه سينجو وأهلك أنا
فقال العابد بهذه
والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى إن
الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقد وصف
الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على
الدءوب بالإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم من خشيته
مشفقون فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل وينكشف عند خاتمة
الأجل غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك
فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك
والتواضع دليل الخوف وهو مسعد فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق
والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال
فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد
تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها
ونسيت وعدها فعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن
تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس
وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانان هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت
الامتحانات كثيرة
الامتحان الأول أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان
صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه
وإخراجه الحق فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه
أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا
بالله تعالى
وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسا6ن بالحمد
والثناء ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول ما أحسن ما فطنت له وقد
كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها
ينبغي أن يشكر من دله عليها
فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له
قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر فإن كان ذلك لا يثقل
عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء فليعالج الرياء
بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند
الله لا عند الخلق إلى غير ذلك من أدوية الرياء
وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعا ففيه الكبر والرياء جميعا ولا ينفعه الخلاص
من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني
فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعا مهلكان
الامتحان الثاني أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي
خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر فليواظب عليه تكلفا حتى
يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال
أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر فإن ذلك
يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد
تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضا بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ولا
ينحط عنهم إلى صف
النعال
فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن
الامتحان الثالث أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإن
ثقل ذلك عليه فهو كبر فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور
النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع
ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر
الامتحان الرابع أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإن أبت
نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر وإن كان لا
يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له
إن لم تتدارك وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب
عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى إلا من
أتى الله بقلب سليم ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا
يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك
فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة
وفي الخبر من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر // حديث من حمل الشيء
والفاكهة فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة وضعفه بلفظ
من حمل بضاعته
الامتحان الخامس أن يلبس ثيابا بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي
الخلوة كبر
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وقد قال صلى الله عليه و
سلم من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر // حديث من اعتقل البعير ولبس
الصوف فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بزيادة فيه وفي
إسناده القاسم اليعمري ضعيف جدا
وقال صلى الله عليه و سلم إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق
أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس مني // حديث إنما أن عبد آكل
بالأرض وألبس الصوف الحديث تقدم بعضه ولم أجد بقيته
وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواما يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس
عباءة فصلى فيها بالناس
وهذه مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في
الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه
بيان غاية الرياضة في خلق التواضع
اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة فطرفه الذي يميل إلى الزيادة
يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا
والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب
الأمور إلى الله تعالى أوساطها
فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي وضع شيئا من قدره
الذي يستحقه
والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله
وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا أيضا غير محمود بل المحمود عند الله
العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من
درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة
دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيرا منه بل يكون على نفسه أخوف
منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة
أمره
فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع
المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق
التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه
الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره
حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن
تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق
وفي سائر الأخلاق
والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة
بالتكبر كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف
البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر
ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر
والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك
بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع
الشطر الثاني من الكتاب في العجب وفيه
بيان ذم العجب وآفاته
وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما وبيان علاج العجب على الجملة وبيان أقسام ما به
العجب وتفصيل علاجه بيان ذم العجب وآفاته
اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم
قال الله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ذكر ذلك في معرض
الإنكار وقال عز و جل وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فاتاهم الله من حيث لم
يحتسبوا فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا وهذا أيضا يرجع إلى العجب بالعمل
وقد يعجب الإنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه
وقال صلى الله عليه و سلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه //
حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وقال لأبي ثعلبة حيث ذكر آخر هذه الأمة فقال إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب
كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك // حديث أبي ثعلبة إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا
وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وقد
تقدم
وقال ابن مسعود الهالك في اثنتين القنوط والعجب
وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر والقانط لا
يسعى ولا يطلب والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى
فالموجود لا يطلب والمحال لا يطلب والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له
ومستحيلة في اعتقاد القانط فمن ههنا جمع بينهما
وقد قال تعالى فلا تزكوا أنفسكم قال ابن جريج معناه إذا عملت خيرا فلا تقل عملت
وقال زيد بن أسلم
لا تبروها أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب
ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيبت كفه
فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح فتفرس ذلك عمر فيه فقال
مازال يعرف في طلحة فأو منذ أصيبت أصبعه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث
وقى طلحة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه وأكب عليه حتى أصيبت كفه أخرجه
البخاري من وراية قيس بن أبي حازم قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله
عليه و سلم
والنأو هو العجب في اللغة إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلما ولما كان
وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة قال ذلك رجل فيه تحوة
فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص من الضعفاء إن
لم
يأخذوا حذرهم وقال مطرف لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أبيت قائما وأصبح
معجبا
وقال صلى الله عليه و سلم لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب
// حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب أخرجه البزار
وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وفيه سلام بن أبي الصهباء قال
البخاري منكر الحديث
وقال أحمد حسن الحديث ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد
بسند ضعيف جدا
فجعل العجب أكبر الذنوب
وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على
العبادة فأطال الصلاة يوما ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر فلما انصرف عن الصلاة قال
له لا يعجبنك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة
طويلة ثم صار إلى ما صار إليه
وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا قالت إذا ظن أنه محسن وقد قال
تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى والمن نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل
هو العجب
فظهر بهذا أن العجب مذموم جدا
بيان آفة العجب
اعلم أن آفات العجب كثيرة فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه كما ذكرناه
فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما
مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا
يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه
فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بل يظن أنه يغفر له
وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة
الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها
ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن
خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون
العجب والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان
وأن له عند الله منة وحقا بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه ويخرجه العجب إلى
أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من
الاستفادة ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم
منه وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر
غيره فيصر عليه ولا يسمع نصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر
على خطئه فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما
يتعلق بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن
واستعان بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك
يوصله إلى الحق
فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يفتر في
السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه
نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته
بيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما
اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل
ومال وغيره حالتان
إحداهما أن يكون خائفا على زواله ومشفقا على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب
والأخرى أن لا يكون خائفا من زواله لكن يكون فرحا به من حيث إنه نعمة من الله
تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه
وهذا
أيضا ليس بمعجب
وله حالة ثالثة هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحا به مطمئنا إليه
ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى
ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب
إلى الله تعالى بأنه منه فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه
زال العجب بذلك عن نفسه
فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم فإن
انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله
كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده ما يجري
على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة وكذلك قد يعطي
غيره شيئا فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجبا فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات
أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه
وقال قتادة في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر أي لا تدل بعملك وفي الخبر إن صلاة
المدل لا ترفع فوق رأسه ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك
// حديث إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه الحديث لم أجد له أصلا
والإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل
بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء
فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلا بعمله لأنه لا يتعجب
من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك
فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه والله تعالى أعلم
بيان علاج العجب على الجملة
اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة
المضادة لذلك الجهل فقط فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة
والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب
وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه
فنقول الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه
فهو محله ومجراه أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته فإن كان يعجب به من حيث
إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل لأن المحل مسخر
ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من
حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته
وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له فإن كان جميع ذلك
نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعحابه
بجود الله وكرمه وفضله إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة
ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة
فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك
وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه ولا ينبغي أن يعجب
بنفسه
نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول الملك حكم عدل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب
فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما
آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضا هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك
من غير وسيلة أو هي عطية غيره فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها
بل كانوا كما لو أعطاك فرسا
فلم
تعجب به
فأعطاك علاما فصرت تعجب به وتقول إنما أعطاني غلاما لأني صاحب فرس فأما غيري فلا
فرس له فيقال وهو الذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا أو
يعطيك أحدهما بعد الآخر فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة وهذا يتصور في حق
الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد
بإيجاد الموصوف والصفة فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت وفقني للعبادة لحبي له فيقال ومن
خلق الحب في قلبك فتقول هو فيقال فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك
بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة فيكون الإعجاب بجوده إذ
أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك فإذا لا معنى لعجب العابد
بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه لأن كل ذلك من فضل
الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضا من فضله وجوده
فإن قلت لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثوابا ولولا
أنها عملي لما انتظرت ثوابا فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن
أين لي الثواب وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من
وجهين
أحدهما هو صريح الحق
والآخر فيه مسامحة
أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه فما
عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا هو الحق الذي
انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها
القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئا
من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير
مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم
يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد ولم
يخلق علما ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو
الذي خيل لك أنك أوجدت عملك وقد غلطت
وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فأنه
أليق به فارجع إليه
ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما وهو أن تحسب أن العمل
حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر
أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه
وهذا المفتاح بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل فالعبادات خزائن بها
يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة
أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على
بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك
المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح
وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو
بما إليك من مد اليد وأخذها فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في
تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح
فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك
الموانع والصوارف حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك
وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك فمن
العجائب أن تعجب بنفسك
ولا
تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من
عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر
عليهم وصرفهم عنك ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث
الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر فعل ذلك كله بك من
غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي بل آثرك وقدمك واصطفاك
بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك فإذن لا
تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلا إلى مخالفتها
فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلا تحقيقا فله الشكر والمنة لا لك وسيأتي في
كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل
إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب إذا رزقه الله عقلا وأفقره فمن أفاض عليه
المال من غير علم فيقول كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم
الدنيا وهو الغافل الجاهل حتى يكاد يرى هذا ظلما ولا يدري المغرور أنه لو جمع له
بين العقل والمال جميعا لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال إذ يقول الجاهل الفقير
يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو لا هلا
رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له ما بال العقلاء فقراء
فقال إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه
والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالا من نفسه ولو قيل له هل
تؤثر جهله وغناه عوضا عن عقلك وفقرك لامتنع عنه فإذن ذلك يدل على أن نعمة الله
عليه أكبر فلم يتعجب من ذلك والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على
الدميمة القبيحة فتعجب وتقول كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك
القبح ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال
وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر
وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من
أعطاه الملك فرسا فيقول أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس فيقول كنت
لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس فهب أني ما أعطيتك فرسا أصارت نعمتي عليك وسيلة
لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل
ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة
ابتدأه به قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من
زوال النعمة
ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعلمه وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال
داود عليه السلام يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم وفي رواية ما تمر
ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي وإما يصوم وإما يذكرك
فأوحى الله تعالى إليه يا داود ومن أين لهم ذلك إن ذلك لم يكن إلا بي ولولا عوني
إياك ما قويت وسأكلك إلى نفسك قال ابن عباس إنما أصاب داود ما أصاب من الذنب بعجبه
بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلا به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنبا أورثه الحزن
والندم
وقال داود يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال إني ابتليتهم
فصبروا فقال يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى
فإني لم أخبرهم بأي شيء أبتليهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم وأنا مخبرك في سنتك
هذه وشهرك هذا أبتليك غدا بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه
وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم
ونسوا
فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة // حديث قولهم يوم حنين لا نغلب
اليوم من قلة أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من رواية الربيع بن أنس مرسلا أن رجلا
قال يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأنزل الله عز و جل ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ولابن مردويه في تفسيره من حديث
أنس لما التقوا يوم حنين أعجبتهم كثرتهم فقالوا اليوم نقاتل ففروا فيه الفرح بن
فضالة ضعفه الجمهور
وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت
عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد على
أمر إلا آثرت هواك على هواي فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت
يا أيوب أنى لك ذلك أي من أين لك ذلك قال فأخذ رمادا ووضعه على رأسه وقال منك يا
رب منك يا رب فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى
ولهذا قال الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال
النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه وهم خير الناس ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا
ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته // حديث ما منكم من
أحد ينجيه عمله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا ترابا وتبنا وطيرا مع صفاء أعمالهم
وقلوبهم فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به ولا يخاف على نفسه فإذن هذا
هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب
ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى
الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من
ذلك فيقول إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن
يعود ويسترجع ما وهب فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء وهذا لا يبقى
معه عجب بحال والله تعالى أعلم
بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه
اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر كما ذكرناه وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه
بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله
فما به العجب ثمانية أقسام
الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن
صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى وهو
بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار
باطنه وفي أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت
في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع
الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم من أشد منا
قوة وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلا ليطبقه على عسكر موسى عليه
السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في
عنقه وقد يتكل المؤمن أيضا على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال لأطوفن
الليلة على مائة امرأة ولم يقل إن شاء الله تعالى فحرم ما أراد من الولد // حديث
قال سليمان لأطوفن الليلة بمائة امرأة الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
وكذلك قول داود عليه السلام إن ابتليتني صبرت وكان إعجابا منه بالقوة فلما ابتلي
بالمرأة لم يصبر
ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب
والقتل لكل من قصده بالسوء وعلاجه ما ذكرناه وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته
وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه
الثالث
العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته
الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة
الإصغاء إلى أهل العلم إعراضا عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقارا لهم وإهانة
وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه
كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه فلا يأمن من أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره
وليستقصر عقله وعلمه وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه وأن ما
جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى وأن
يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون
منهم وهو لا يدري
فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من
نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن
بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد عجبا
الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة
آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد وعلاجه أن يعلم أنه
مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه
فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة
النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب فليتشرف بما شرفوا به
وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند
الله شرا من الكلاب وأخس من الخنازير ولذلك قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب
فقال وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال إن
أكرمكم عند الله أتقاكم ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس من
أكيس الناس لم يقل من ينتمي إلى نسبي ولكن قال أكرمهم أكثرهم للموت ذكرا وأشدهم له
استعدادا // حديث لما قيل له من أكرم الناس من أكيس الناس قال أكثرهم للموت ذكرا
الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر دون قوله وأكرم الناس وهو بهذه الزيادة عند
ابن أبي الدنيا في ذكر الموت آخر الكتاب
وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة فقال الحرث بن هشام وسهيل
بن عمرو وخالد بن أسيد هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة فقال تعالى إن أكرمكم عند
الله أتقاكم وقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية
أي كبيرها كلكم بنو آدم وآدم من تراب // حديث إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي أيضا من
حديث ابن عمر وقال غريب
وقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة
وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا أي أعرض
عنكم // حديث يا معشر قريش لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا
تحملونها على رقابكم الحديث أخرجه الطبراني من حديث عمران بن حصين إلا أنه قال يا
معشر بني هاشم وسنده ضعيف
فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش
ولما نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة
بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم اعملا
لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا // حديث لما نزل قوله تعالى وأنذر
عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد
المطلب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث عائشة
فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى
بهم في التقوى
والتواضع
وإلا كان طاعنا في نسب نفسه بلسان حاله مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع
والتقوى والخوف والإشفاق
فإن قلت فقد قال صلى الله عليه و سلم بعد قوله لفاطمة وصفية إني لا أغني عنكما من
الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها // حديث قوله بعد قوله المتقدم لفاطمة
وصفية ألا إن لكما رحما سأبلها ببلالها أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ غير أن
لكم رحما سأبلها ببلاها
وقد صلى الله عليه و سلم أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب // حديث
أترجو سليم شفاعتي ولا ترجوها بنو عبد المطلب أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث
عبد الله بن جعفر وفيه أصيرم بن حوشب عن إسحاق بن واصل وكلاهما ضعيف جدا
فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول
الله صلى الله عليه و سلم والنسيب أيضا جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن
يغضب عليه فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته لأن الذنوب منقسمة إلى ما
يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة كالذنوب عند
ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب
الملك فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى ولا يشفعون إلا
لمن ارتضى وبقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وبقوله ولا تنفع الشفاعة عنده
إلا لمن أذن له وبقوله فما تنفعهم شفاعة الشافعين وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع
فيه وإلا ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة ولو كان ذنب تقبل فيه
الشفاعة لما أمر قريشا بالطاعة ولما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة رضي
الله عنها عن المعصية ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم
يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة
فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالا على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في
شهواته اعتمادا على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره وذلك جهل لأن سعي
الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها فلا يجوز ترك الحمية
مطلقا اعتمادا على مجرد الطب بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة
وعند غلبة اعتدال المزاج
فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب فإنه
كذلك قطعا وذلك لا يزيل الخوف والحذر وكيف يزيل وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله
عليه و سلم أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم
وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم بالجنة
خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف والخشوع
قلوبهم فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم
الخامس العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم
وهذا غاية الجهل وعلاجه أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله
والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى ولو نظر إلى صورهم في النار
وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم ولأنكر على من نسبه
إليهم استقذارا واستحقار لهم ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم
والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى
الله منهم ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم فحق أولاد
الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعال على سلامة دينهم ويستغفروا
لآبائهم إن كانوا مسلمين فأما العجب فجهل محض
السادس
العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار
والأتباع كما قال الكفار نحن أكثر أموالا وأولادا وكما قال المؤمنون يوم حنين لا
نغلب اليوم من قلة وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن
كلهم عبيد عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا
مات فيدفن في قبره ذليلا مهينا وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا
عشير فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئا وفي أحوج
أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه
وصاحبته وبنيه الآية
فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك وكيف تعجب به ولا ينفعك في القبر
والقيامة وعلى الصراط إلا عملك وفضل الله تعالى فكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى
نعم من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك
السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخبارا عن صاحب الجنتين إذ قال أنا أكثر منك
مالا وأعز نفرا ورأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا غنيا جلس بجنبه فقير
فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال صلى الله عليه و سلم أخشيت أن يعدو إليك فقره // حديث
رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا غنيا جلس لجنبه فقير فانقبض منه الحديث رواه
أحمد في الزهد
وذلك للعجب بالغنى وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله وينظر
إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل
له وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وإلى قوله صلى الله عليه و سلم بينما
رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذا أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها
إلى يوم القيامة // حديث بينما رجل في حلة قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من
حديث أبي هريرة وقد تقدم
وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه
وقال أبو ذر كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر
ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا
رجل عليه ثياب خلقة فقال لي يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا //
حديث أبي ذر كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع
رأسك فرفعت رأسي الحديث وفيه هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا أخرجه ابن
حبان في صحيحه
وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة
الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته بل لا
يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه
ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله
الثامن العجب بالرأي الخطأ
قال الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا وقال تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة //
حديث أنه يغلب على آخر هذه الأمة الإعجاب بالرأي هو حديث أبي ثعلبة المتقدم فإذا
رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وهو عند أبي
داود والترمذي
وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا فكل معجب برأيه وكل حزب بما لديهم فرحون
وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو
استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقا وعلاج هذا العجب أشد من علاج
غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا
يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جدا
لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله
عنه
إلا إذا كان معجبا برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عله
بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في
اعتقاده وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهما لرأيه أبدا لا يغتر به إلا أن يشهد
له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان
أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر
في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم ومع
ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور والصواب لمن لم يتفرع لاستغراق عمره في
العلم أن لا يخوض في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها ولكن يعتقد أن الله تعالى
واحد لا شريك له وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأن رسوله صادق فيما أخبر
به ويتبع سنة السلف ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال
عن تفصيل بل يقول آمنا وصدقنا ويشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات
والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد
هلك من حيث لا يشعر
هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم فأما الذي عزم على التجرد
للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه والوصول إلى
اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور
الله تعالى وهو عزيز الوجود جدا فنسأل الله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من
الاغترار بخيالات الجهال
تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم وA وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب ذم الغرور وهو الكتاب العاشر من ربع المهلكات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور مخرج أوليائه
من الظلمات إلى النور ومورد أعدائه ورطات الغرور والصلاة على محمد مخرج الخلائق من
الديجور وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور
صلاة تتوالى على ممر الدهور ومكر الساعات والشهور
أما بعد فمفتاح السعادة التيقظ والفطنة ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة فلا نعمة لله
على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة
ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة
فالأكياس وأرباب البصائر قلوبهم كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها
كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة يكاد زيتها يضيء ولو لم
تمسسه نار نور على نور والمغترون قلوبهم كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج
من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له
نورا فما له من نور فالأكياس هم الذين أراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام
والهدى والمغترون هم الذين أراد الله أن يضلهم فجعل صدرهم ضيقا حرجا كأنما يصعد في
السماء
والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا وبقي في العمى فاتخذ
الهوى قائدا والشيطان
دليلا
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وإذا عرف أن الغرور 2هو أم
الشقاوات ومنبع المهلكات فلا بد من شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر من وقوع
الغرور فيه ليحذره المريد بعد معرفته فيتقيه فالموفق من العباد من عرف مداخل
الآفات والفساد فأخذ منها حذره وبنى على الحزم والبصيرة أمره
ونحن نشرح أجناس مجاري الغرور وأصناف المغترين من القضاة والعلماء والصالحين الذين
اغتروا بمبادئ الأمور الجميلة ظواهرها القبيحة سرائرها ونشير إلى وجه اغترارهم بها
وغفلتهم عنها فإن ذلك وإن كان أكثر مما يحصى ولكن يمكن التنبيه على أمثلة تغني عن
الاستقصاء وفرق المغترين كثيرة ولكن يجمعهم أربعة أصناف
الصنف الأول من العلماء
الصنف الثاني من العباد
الصنف الثالث من المتصوفة
الصنف الرابع من أرباب الأموال
المغتر من كل صنف فرق كثيرة وجهات غرورهم مختلفة فمنهم من رأى المنكر معروفا كالذي
يتخذ المسجد ويزخرفها من المال الحرام ومنهم من لم يميز بين ما يسعى فيه لنفسه
وبين ما يسعى فيه لله تعالى كالواعظ الذي غرضه القبول والجاه ومنهم من يترك الأهم
ويشتغل بغيره ومنهم من يترك الفرض ويشتغل بالنافلة ومنهم من يترك اللباب ويشتغل
بالقشر كالذي يكون همه في الصلاة مقصورا على تصحيح مخارج الحروف إلى غير ذلك من
مداخل لا تتضح إلا بتفصيل الفرق وضرب الأمثلة
ولنبدأ أولا بذكر غرور العلماء ولكن بعد بيان ذم الغرور وبيان حقيقته وحده
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
اعلم أن قوله تعالى فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى
ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني الآية
كاف في ذم الغرور وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حبذا نوم الأكياس وفطرهم
كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء
الأرض من المغترين // حديث حبذا نوم الأكياس وفطرهم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا
في كتاب اليقين من قول أبي الدرداء بنحوه وفيه انقطاع وفي بعض الروايات أبي الورد
موضع أبي الدرداء ولم أجده مرفوعا
وقال صلى الله عليه و سلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع
نفسه هواها وتمنى على الله // حديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت الحديث
أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس
وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور لأن الغرور عبارة عن
بعض أنواع الجهل إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به والغرور هو
جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور بل يستدعي الغرور مغرورا فيه مخصوصا ومغرورا به وهو
الذي يغره
فمهما كان المجهدل المعتقد شيئا يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة
فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلا سمي الجهل الحاصل به غرورا
فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من
الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور
وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه فأكثر الناس إذا مغرورون وإن
اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض وأظهرها
وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور
المثال
الأول غرور الكفار فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما الذين
غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة
نسيئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين
ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك
وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا
يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وإما
بالبرهان أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله ما عندكم ينفذ
وما عند الله باق وفي قوله عز و جل وما عند الله خير وقوله والآخرة خير وأبقى
وقوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وقوله فلا تغرنكم الحياة الدنيا وقد أخبر
رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم
يطالبوه بالبرهان // حديث تصديق بعض الكفار بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و
سلم وإيمانهم من غير مطالبة بالبرهان هو مشهور في السنن من ذلك قصة إسلام الأنصار
وبيعتهم وهي عند أحمد من حديث جابر وفيه حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه
وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه
الحديث وهي عند أحمد بإسناد جيد
ومنهم من قال نشدتك الله أبعثك الله رسولا فكان يقول نعم فيصدق // حديث قول من قال
له نشدتك الله أبعثك رسولا فيقول نعم فيصدق متفق عليه من حديث أنس في قصة ضمام ابن
ثعلبة وقوله للنبي صلى الله عليه و سلم أرسلك للناس كلهم فقال اللهم نعم وفي آخره
فقال الرجل آمنت بما جئت به وللطبراني من حديث ابن عباس في ضمام قال نشدتك به أهو
أرسلك بما أتتنا كتبك وأتتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات
والعزى قال نعم الحديث
وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده في أن
حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا
وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه
الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع
في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ
العلماء
فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان
أحدهما أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح
والآخر قوله إن النقد خير من النسيئة وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك بل إن كان
النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير فإن
الكافر المغرور يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من
النسيئة فلا أتركه وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفا
من ألم المرض في المستقبل فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة
والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقدا لأجل الراحة والربح نسيئة فإن
كل عشرة في ثاني الحال خيرا من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى
مدة الآخرة فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء
من الآخرة
فكأنه ترك واحدا ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث
النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة
فإذن قد غلط في قوله النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق
وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه
فإن من قال النقد خير من النسيئة أراد به خيرا من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به
وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو أن اليقين خير من الشك إذا الآخرة شك
وهذا القياس أكثر فسادا من الأول لأن كلا أصليه باطل إذ اليقين خير من الشك إذا
كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين
وفي
ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في
تردده في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء
بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول إن لم أتجر بقيت جائعا وعظم
ضرري وإن اتجرت كان تعبي قليلا وربحي كثيرا وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه
وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل
بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم
الحزم أن يقول أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر
الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذبا فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في
العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم
وإن كان ما قيل صدقا فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا
وإن كان ما قلناه حقا فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم
الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقنا فهو مغرور
وأما الأصل الثاني من كلامه وهو أن الآخرة شك فهو أيضا خطأ بل ذلك يقين عند
المؤمنين وليقينه مدركان
أحدهما الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والعلماء وذلك أيضا يزيل الغرور وهو مدرك
يقين العوام وأكثر الخواص ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء
وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى
تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطبية بل يثق بقولهم ويعمل به ولو بقى
سوادى أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه
عددا وأغزر منه فضلا وأعلم منه بالطب بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه بقولهم ولا
يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمهم بسببه ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان
معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن
التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة
في البصيرة والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء واتبعهم
عليه الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم
إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا
الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادى لا يزيل طمأنينة القلب إلى
ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة
أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء
وهذا القدر من الإيمان كاف لجمله الخلق وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة
والغرور يزول به
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن
أن معرفة النبي صلى الله عليه و سلم لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه
السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه و سلم حتى تكون
معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو
اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي
عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون
عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد
وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من
أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد
بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع
المخلوقات
بل
العالم عالمان عالم الأمر وعالم الخلق ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية
والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل
موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ولا رخصة في
ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه
فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وإذا عرف نفسه وربه عرف
أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن
بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم
صلى الله عليه و سلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به
بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى
له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند
ذلك نفسه وربه
ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
أولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم
يقال فسقت الرطبة عن كمامها إذا خرجت عن معدنها الفطري
وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها
القاصرون فإنها تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر
الشمس أبصار الخفافيش
وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه
وليا وعارفا وهي مبادي مقامات الأنبياء
وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن
غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وإما ببصيرة ومشاهدة من جهة
الباطن والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال
الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور لأنهم آثروا
الحياة الدنيا على الآخرة نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد
فيخرجون من النار ولو بعد حين ولكنهم أيضا من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة
خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قال
تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقال تعالى إن رحمت الله قريب
من المحسنين ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه //
حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه متفق عليه من حديث ابن عمر وقد تقدم
وقال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا
بالحق وتواصوا بالصبر فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل
الصالح جميعا لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضا مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا
الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها
الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال
الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعا
ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين
فأما غرور الكفار بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم إنه لو كان لله من
معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظا فيه وأسعد حالا كما أخبر الله تعالى عنه
من قول الرجلين المتحاورين إذ قال وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن
خيرا منها منقلبا وجملة أمرهما كما نقل في التفسير أن الكافر منهما بنى قصرا بألف
دينار واشترى بستانا بألف دينار وخدما بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار وفي
ذلك كله يعظه المؤمن ويقول اشتريت قصرا يفنى ويخرب ألا اشتريت قصرا في الجنة لا
يفنى واشتريت بستانا يخرب ويفنى ألا اشتريت بستانا في الجنة لا يفنى وخدما لا
يفنون ولا يموتون وزوجة من الحور العين لا تموت وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول
ما هناك شيء وما
قيل
من ذلك فهو أكاذيب وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا
وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول لأوتين مالا وولدا فقال الله
تعالى ردا عليه أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا وروى عن خباب بن الأرت أنه
قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت إني آخذه في
الآخرة فقال لي إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالا وولدا أقضيك منه
فأنزل الله تعالى قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا // حديث
خباب بن الأرت قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه الحديث في نزول قوله
تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية أخرجه البخاري ومسلم
وقال الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعض ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن
الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وهذا كله من الغرور بالله
وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله
عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعمة الآخرة وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم
فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما
نقول فقال تعالى جوابا لقولهم حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومرة ينظرون إلى
المؤمنين وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم فيقولون أهؤلاء من الله عليهم
من بيننا ويقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه وترتيب القياس الذي نظمهم في قلوبهم
أنهم يقولون قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا وكل محسن فهو محب وكل محب فإنه يحسن
أيضا في المستقبل كما قال الشاعر
لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقى
وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول لولا أني كريم عند
الله ومحبوب لما أحسن إلي
والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان
فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر
يدل على الهوان
ومثاله أن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر فالذي يحبه يمنعه من
اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة
التي تضره ويسقيه الأدوية التي تنفعه
والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل كل ما يشتهي فيظن
هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على
جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه وذلك محض الغرور وهكذا نعيم الدنيا ولذتها
فإنها مهلكات ومبعدات من الله فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي
أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه // حديث إن الله يحمي عبده من الدنيا وهو
يحبه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه و الحاكم وصححه من حديث قتادة بن النعمان
هكذا ورد في الخبر عن سيد البشر
وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته ورأوا
ذلك علامة المقت والإهمال وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا مرحبا بشعار الصالحين
والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان
كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه
فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فأجاب الله عن
ذلك كلا أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله
التثبيت فبين أن ذلك غرور قال الحسن كذبهما جميعا بقوله كلا يقول ليس هذا بإكرامي
ولا هذا بهواني ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنيا كان أو فقيرا والمهان من أهنته
بمعصيتي غنيا كان أو فقيرا
وهذا
الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد
أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون
التباعد عنها مقربا إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء
وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة
وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد
قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون
وقال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال تعالى فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى
إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وفي تفسير قوله تعالى سنستدرجهم
من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة
رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته فإن
من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون
وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم
تدميرا فقال تعالى هل تحس منهم من أحد الآية وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه
فقال فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقال تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا
وهم لا يشعرون وقال عز و جل ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى إنهم
يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا فكما لا يجوز للعبد المهمل أن
يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون
ذلك مكرا منه وكيدا مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى
مع تحذيره استدراجه أولى فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه
استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان
ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما
يوافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور
المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم إن الله كريم وإنا نرجو عفوه
واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء وظنهم
أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم وأين
معاصي العباد في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان
مستند رجائهم التمسك بصلاح الأباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة
سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم إذا
آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون
وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى
فقياس الشيطان للعلوية
أن من أحب إنسانا أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى
الطاعة وينسى المغرور أن نوحا عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم
يرد فكان من المغرقين فقال رب إن ابني من أهلي فقال تعالى يا نوح إنه ليس من أهلك
إنه عمل غير صالح وأن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه
وأن نبينا صلى الله عليه و سلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه
ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار فجلس يبكي على قبر أمه
لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله // حديث أنه صلى الله عليه و سلم استأذن
أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له الاستغفار الحديث
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فهذا أيضا اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله
تعالى
يحب المطيع ويبغض العاصي فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك
لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك
أن يسري البغض أيضا بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى
ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير
عالما بتعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه
فالتقوى فرض عين فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئا وكذا العكس وعند الله جزاء التقوى
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه
فيأذن في الشفاعة له كما سبق في كتاب الكبر والعجب
فإن قلت فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته
وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في
القلوب فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن
ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النبي صلى الله عليه و سلم كشف عن ذلك
فقال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على
الله // حديث الكيس من دان نفسه تقدم قريبا
وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه رجاء حتى خدع به الجهال
وقد شرح الله الرجاء فقال إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمة الله يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر
وجزاء على الأعمال قال الله تعالى جزاء بما كانوا يعملون وقال تعالى وإنما توفون
أجوركم يوم القيامة أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان
الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير وكسر الأواني
وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم أفيراه العقلاء في
انتظاره متمنيا مغرورا أو راجيا وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة
قيل للحسن قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم
يترجحون فيها من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه
وقال مسلم بن يسار لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي فقال له رجل إنا لنرجو الله
فقال مسلم هيهات هيهات من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه
وكما أن الذي يرجو في الدنيا ولدا وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم
ينزل فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحا أو عمل
ولم يترك المعاصي فهو مغرور
فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي مترددا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق
الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل
الصالحات وترك السيئات وبقي مترددا بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا
يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ويرجو من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ
دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات
بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ولتعلمن نبأه بعد حين وعند ذلك يقولون
كما أخبر الله عنهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون أي علمنا
أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل
في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحا فقد علمنا الآن صدقك في
قولك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى كلما ألقي فيها فوج سألهم
خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده
وأنه
توفى
كل نفس ما كسبت وأن كل نفس بما كسبت رهينة فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم
وعقلتم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا
لأصحاب السعير
فإن قلت فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود فاعلم أنه محمود في موضعين
أحدهما في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان وأنى تقبل توبتك
فيقنطه من رحمة الله تعالى فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر إن الله
يغفر الذنوب جميعا وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر
الذنوب قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أمرهم
بالإنابة وقال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فإذا توقع
المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور كما أن من ضاق
عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان إنك لا
تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو
راج وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو
لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور
الثاني أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله
تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل
ويتذكر قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله أولئك هم
الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من
التوبة والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر فكل توقع حث على توبة
أو على تشمر في العبادة فهو رجاء وكل رجاء أوجب فتورا في العبادة وركونا إلى
البطالة فهو غرة كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان
مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة
فهو غرة وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم
عقابه ويقول إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وإنه مع أنه كريم خلد
الكفار في النار أبد الآباد مع أنه لم يضره كفرهم بل سلط العذاب والمحن والأمراض
والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها فمن هذه
سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل فما لا يبعث على العمل فهو
تمن وغرور
ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله
تعالى وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه و سلم وذكر أن
الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة // حديث إن الغرور يغلب على آخر هذه الأمة
تقدم في آخر ذم الكبر والعجب وهو حديث أبي ثعلبة في إعجاب كل ذي رأي برأيه
وقد كان ما وعد به صلى الله عليه و سلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون
على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم
وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات
ويبكون على أنفسهم في الخلوات
وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي
وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى
وفضله راجون
لعفوه
ومغفرته كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة
والسلف الصالحون
فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم
وحزنهم وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم فيما رواه معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في
قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعا لا خوف معه إن أحسن
أحدهم قال يتقبل مني وإن أساء قال يغفر لي // حديث معقل بن يسار يأتي على الناس
زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند
الفردوس من حديث ابن عباس نحوه بسند فيه جهالة ولم أره من حديث معقل
فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه
وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض
هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ومعناه أنهم ورثوا الكتاب أي هم علماء ويأخذون عرض
هذا الأدنى أي شهواتهم من الدنيا حراما كان أو حلالا
وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد والقرآن من
أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان
مؤمنا بما فيه
وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها
ونصبها وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل
بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق بين
الرجاء والغرور ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم
يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر وهذا
غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من
أموال المسلمين والشبهات أضعافه ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين وهو يتكل عليه
ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال وما هو إلا
كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفا وأراد أن يرفع الكفة
الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله
نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه
وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم
مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من
غير حصر وعدد ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه
طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة وقد كتبه الكرام
الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد فهذا أبدأ يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من
عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه
إلى غير ذلك من آفات اللسان
وذلك محض الغرور
ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي
زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة من مهماته وما نطق به في
فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه فيا عجبا
لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفا
من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها لقد دفعنا إلى
أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين
فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل
الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان
وما
أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر
به اتكالا على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى والله أعلم
بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف
الصنف الأول أهل العلم والمغترون منهم فرق
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد
الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله
بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم
وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون فإنهم لو نظروا
بعين البصيرة علموا أن العلم علمان علم معاملة وعلم مكاشفة وهو العلم بالله
وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة
فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الحلال والحرام ومعرفة أخلاق النفس المذمومة
والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة
إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل
فمثال هذا كمريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا
حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق
فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه
كيفية دق كل واحد منها وكيفية خلطه وعجنه فتعلم ذلك وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن
ورجع إلى بيته وهو يكررها ويعلمها المرضى ولم يشتغل بشر بها واستعمالها أفترى أن
ذلك يغني عنه من مرضه شيئا هيهات هيهات لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى
شفي جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلا أن يزن الذهب
ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ويكون شربه في وقته وبعد
تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم
يشربه أصلا فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره
وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها
وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم
يتصف بها فهو مغرور إذ قال تعالى قد أفلح من زكاها ولم يقل قد أفلح من تعلم كيفية
تزكيتها وكتب علم ذلك وعلمه الناس وعند هذا يقول له الشيطان لا يغرنك هذا المثال
فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه والعلم يجلب
الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم
فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن إليه وأهمل العمل وإن
كان كيسا فيقول للشيطان أتذكرني فضائل العالم وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر
الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى فمثله كمثل الكلب وكقوله تعالى مثل الذين حملوا
التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب
والحمار وقد قال صلى الله عليه و سلم من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله
إلا بعدا // حديث من ازداد علما ولم يزدد هدى الحديث تقدم في العلم
وقال أيضا يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار
في الرحى // حديث يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه الحديث تقدم غير مرة
وكقوله صلى الله عليه و سلم شر الناس العلماء السوء // حديث شر الناس علماء السوء
تقدم في العلم
وقول أبي الدرداء ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للذي يعلم ولا
يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه إذ يقال له ماذا عملت فيما علمت وكيف قضيت شكر
الله
وقال
صلى الله عليه و سلم أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه //
حديث أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله تعالى بعلمه تقدم فيه
فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى
إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه فيميل
الشيطان قلبه إلى ما يهواه وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه
وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء
وأن حالهم عند الله أشد من حال الجهال
فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور
وأما الذي يدعي علوم المكاشفة كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل
ويضيع أمر الله وحدوده فغروره أشد ومثاله مثال من أراد خدمة ملك فعرف الملك وعرف
أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته ومجلسه ولم يتعرف ما يحبه ويكرهه
وما يغضب عليه وما يرضى به أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته وهو ملابس لجميع ما يغضب
به عليه وعاطل عن جميع ما يحبه من زي وهيئة وكلام وحركة وسكون فورد على الملك وهو
يريد التقرب منه والاختصاص به متلطخا بجميع ما يكرهه الملك عاطلا عن جميع ما يحبه
متوسلا إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وصورته وشكله وعادته في سياسة غلمانه
ومعاملة رعيته
فهذا مغرور جدا إذ لو ترك جميع ما عرفه واشتغل بمعرفته فقط ومعرفة ما يكرهه ويحبه
لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربه والاختصاص به بل تقصيره في التقوى واتباعه
للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني إذ لو عرف
الله حق معرفته لخشيه واتقاه
فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ثم لا يتقيه ولا يخافه وقد أوحى الله تعالى إلى داود
عليه السلام خفني كما تخاف السبع الضاري
نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد فمن عرف
الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ويعلم أنه مسخر في قدرة من
لو أهلك مثله آلافا مؤلفة وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا ولم
تأخذه عليه رقة ولا اعتراه عليه جزع
ولذلك قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وفاتحة الزبور رأس الحكمة خشية
الله وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا
واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له إن فقهاءنا لا يقولون ذلك فقال وهل رأيت
فقيها قط الفقيه القائم ليلة الصائم نهاره الزاهد في الدنيا
وقال مرة الفقيه لا يداري ولا يماري ينشر حكمة الله فإن قبلت منه حمد الله وإن ردت
عليه حمد الله
فإذن الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه وهو العالم
ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي إلا
أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء
وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاء
والعباد وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها ولا يلتفت
إلى قوله صلى الله عليه و سلم أدنى الرياء شرك // حديث أدنى الرياء شرك تقدم في ذم
الجاه والرياء
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر // حديث
لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم غير مرة
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب // حديث
الحسد يأكل الحسنات الحديث تقدم في العلم وغيره
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء
البقل // حديث حب الشرف والمال ينبتان النفاق في القلب الحديث تقدم
إلى
غير
ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة
فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم ونسوا قوله صلى الله عليه و سلم إن الله لا
ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم // حديث إن الله
لا ينظر إلى صوركم الحديث تقدم
فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا القلوب والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله
بقلب سليم
ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها
جيفة أو كبيت مظلم باطنه وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره وباطنه مظلم أو كرجل قصد
الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره وترك المزابل في صدر داره ولا يخفى أن ذلك
غرور بل أقرب مثال إليه رجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فآمر بتنقية الزرع
عن الحشيش بقلعه من أصله فأخذ يجز رءوسه وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت لأن
مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له
الطاعات الظاهرة إلا مع الآفات الكثيرة
بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء فالطلاء ليزيل ما على ظاهره
والدواء ليقطع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء وبقي يتناول ما يزيد في
المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطن
وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعجبهم
بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك وإنما
يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم
ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا ما هذا كبر وإنما
هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من
المبتدعين وإني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء
الدين وفرحوا بذلك وكان ذلي ذلا على الإسلام ونسى المغرور أن عدوه الذي حذره منه
مولاه هو الشيطان وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به وينسى أن النبي صلى الله عليه و
سلم بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين ونسى ما روي عن الصحابة من التواضع
والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند
قدومه إلى الشام فقال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره ثم هذا
المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي والإبريسم المحرم
والخيول والمراكب ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين وكذلك مهما أطلق اللسان
بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ولكن قال
إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عدوانه وظلمه ولم يظن بنفسه الحسد حتى يعتقد
أنه لو طعن في غيره من أهل العلم أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه
وعداوته مثل غضبه الآن فيكون غضبه لله أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع بل
ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه وهكذا يرائي بأعماله
وعلومه وإذا خطر له خاطر الرياء قال هيهات إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء
الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى فيتخلصوا من عقاب الله تعالى ولا يتأمل
المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به فلو كان غرضه صلاح
الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم فإنه لا يفرق
بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر وربما يذكر هذا له فلا يخليه
الشيطان أيضا ويقول إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر لي والثواب لي فإنما
فرحي بثواب الله لا بقبول الخلق قولي هذا ما يظنه
بنفسه
والله مطلع من ضميره على أنه لو أخبره نبي بأن ثوابه في الخمول وإخفاء العلم أكثر
من ثوابه في الإظهار وحبس مع ذلك في سجن وقيد بالسلاسل لاحتال في هدم السجن وحل
السلاسل حتى يرجع إلى موضعه الذي به تظهر رياسته من تدريس أو وعظ أو غيره وكذلك
يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثني عليه ويتواضع له وإذا خطر له أن التواضع
للسلاطين الظلمة حرام قال له الشيطان هيهات إنما ذلك عند الطمع في مالهم فأما أنت
فغرضك أن تشفع للمسلمين وتدفع الضرر عنهم وتدفع شر أعدائك عن نفسك والله يعلم من
باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك السلطان فصار يشفعه في كل مسلم حتى دفع
الضرر عن جميع المسلمين ثقل ذلك عليه ولو قدر على أن يقبح حاله عند السلطان بالطعن
فيه والكذب عليه لفعل
وكذلك قد ينتهي غرور بعضهم إلى أن يأخذ من مالهم وإذا خطر له أنه حرام قال له
الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك
قوام الدين أفلا يحل لك أن تأخذ قدر حاجتك
فيغتر بهذا التلبيس في ثلاثة أمور
أحدها في أنه مال لا مالك له فإنه يعرف أنه يأخذ الخراج من المسلمين وأهل السواد
والذين أخذ منهم أحياء وأولادهم وورثتهم أحياء وغاية الأمر وقوع الخلط في أموالهم
ومن غصب مائة دينار من عشرة أنفس وخالطها فلا خلاف في أنه مال حرام ولا يقال هو
مال لا مالك له ويجب أن يقسم بين العشرة ويرد إلى كل واحد عشرة وإن كان مال كل
واحد قد اختلط بالآخر
الثاني والثالث في قوله إنك من مصالح المسلمين وبك قوام الدين ولعل الذين فسد
دينهم واستحلوا أموال السلاطين ورغبوا في طلب الدنيا والإقبال على الرياسة
والإعراض عن الآخرة بسببه أكثر من الذين زهدوا في الدنيا ورفضوها وأقبلوا على الله
فهو على التحقيق دجال الدين وقوام مذهب الشياطين لا إمام الدين
إذ الإمام هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله كالأنبياء
عليهم السلام والصحابة وعلماء السلف
والدجال هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا
فلعل موت هذا أنفع للمسلمين من حياته وهو يزعم أنه قوام الدين
ومثله كما قال المسيح عليه السلام للعالم السوء إنه كصخرة وقعت في فم الوادي فلا
هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع
وأصناف غرور أهل العلم في هذه الأعصار المتأخرة خارجة عن الحصر وفيما ذكرناه تنبيه
بالقليل على الكثير
وفرقة أخرى أحكموا العلم وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا ظواهر المعاصي
وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكبر وطلب العلو
وجاهدوا أنفسهم في التبري منها وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية ولكنهم بعد
مغرورون إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس ما دق
وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش
فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من
تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف فانبسطت
تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت وقويت
وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري
فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ويذهل عن المراقبة للخفايا والتفقد للدفائن فتراه
يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها وهو
يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته
ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف وكثرة الرحلة إليه من
الآفاق وانطلاق الألسنة عليه
بالثناء
والمدح بالزهد والورع والعلم والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض والاجتماع
حوله للاستفادة والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ والإيراد والتمتع بتحريك
الرءوس إلى كلامه والبكاء عليه والتعجب منه والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع
والمستفيدين والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال للجمع بين
العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على
الدنيا لا عن تفجع بمصيبة الدين ولكن عن إدلال بالتمييز واعتداد بالتخصيص
ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة وعز وانقياد
وتوقير وحسن ثناء فلو تغيرت عليه القلوب واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من
أعماله فعساه يتشوس عليه قلبه وتختلط أوراده ووظائفه
وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه
وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع وإن كان قد اعتقد فيه
فوق قدره وينبو قلبه عمن عرف حد فضله وورعه وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر
بعض أصحابه على بعض وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع وإنما ذلك لأنه أطوع
له وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ولعلهم يستفيدون
منه ويرغبون في العلم وهو يظن أن قبوهم له لإخلاصه وصدقه وقيامه بحق علمه فيحمد
الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه ويرى أن ذلك مكفر لذنوبه ولم يتفقد
مع نفسه تصحيح النية فيه
وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزلة وإخفاء العلم لم يرغب فيه
لفقده في العزلة ولاختفاء لذة القبول وعزة الرياسة ولعل مثل هذا هو المراد بقول
الشيطان من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فبجهله وقع في حبائلي
وعساه يصنف ويجتهد فيه ظانا أنه يجمع علم الله لينتفع به وإنما يريد به استطارة
اسمه بحسن التصنيف فلو ادعى مدع تصنيفه ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك
مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف والله يعلم بأنه هو
المصنف لا من ادعاه ولعله في تصنيفه لا يخلو من الثناء على نفسه إما صريحا
بالدعاوي الطويلة العريضة وإما ضمنا بالطعن في غيره ليستبين من طعنه في غيره أنه
أفضل ممن طعن فيه وأعظم منه علما ولقد كان في غنية عن الطعن فيه ولعله يحكي من الكلام
المزيف ما يزيد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فلعله لا يعزيه إليه ليظن أنه
من كلامه فينقله بعينه كالسارق له أو يغيره أدنى تغيير كالذى يسرق قميصا فيتخذه
قباء حتى لا يعرف أنه مسروق ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه وتسجيعه وتحسين نظمه كيلا
ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ليكون أقرب إلى نفع
الناس
وعساه غافلا عما روى أن بعض الحكماء وضع ثلثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى
نبي زمانه قل له قد ملأت الأرض نفاقا وإني لا أقبل من نفاقك شيئا
ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن
عيوب القلب وخفاياه فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه نظر كل واحد
إلى كثرة من يتبعه وأنه أكثر تبعا أو غيره فيفرح إن كان أتباعه أكثر وإن علم أن
غيره أحق بكثرة الأتباع منه ثم إذا تفرقوا واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا
ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ووجد في نفسه
نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه كما كان يتشمر من
قبل ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة ولعل التحيز
منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة
وسلامته عنها في تلك الفئة ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه ولعل واحدا منهم إذا
تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في دينه وفي ورعه ليحمل
غضبه على ذلك ويقول إنما غضبت لدين الله لا لنفسي
ومهما
ذكرت
عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه وربما قطب وجهه إذا
ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ومريد له والله مطلع
عليه في ذلك
فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء
ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه
ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه فإذا أراد الله بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه ومن
سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه
الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه فنعوذ بالله من الغفلة
والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال
هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون
إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه
فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوي في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات
الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم
المذاهب وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح ولم
يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين
وكذا سائر الجوارح ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وسائر المهلكات
فهؤلاء مغرورون من وجهين
أحدهما من حيث العمل
والآخر من حيث العلم
أما العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء
واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف
على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم أدواء الاستحاضة
وبتكرار ذلك ليلا ونهارا مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض ولكن يقول ربما تقع
علة الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور
فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر
والرياء وسائر المهلكات الباطنة وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله
وهو عليه غضبان فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان
والجراحات والديات والدعاوى والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط
في عمره لنفسه وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما
فيه من الجاه والرياسة والمال وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه
مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين
معصية
هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى فإنه وإن قصد
وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث
العمل
وأما غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم الفتاوي وظن أنه علم الدين وترك كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وربما طعن في المحدثين وقال إنهم نقلة
أخبار وحملة أسفار لا يفقهون وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله
تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على
التقوى فتراه آمنا من الله مغترا به متكلا على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه
وأنه لو لم يشتغل بالفتاوي لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو
غافل مغرور وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الفقه هو
الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى
إذ قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم
إذا رجعوا
إليهم
لعلهم يحذرون والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم فإن مقصود هذا العلم حفظ
الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات والمال في
طريق الله آلة والبدن مركب
وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة
فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى وإذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن
الله
فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز
الرواية والخف ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج ولكن المقتصر عليه ليس من الحج
في شيء ولا بسبيله وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم ومن هؤلاء من اقتصر من علم
الفقه على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ودفع
الحق لأجل الغلبة والمباهاة فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب
المذاهب والتفقد لعيوب الأقران والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية وهؤلاء هم سباع
الإنس طبعهم الإيذاء وهمهم السفه ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة
الأقران فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب وعلم سلوك الطريق إلى
الله تعالى بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرونه ويسمونه
التزويق وكلام الوعاظ وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين
المتصارعين في الجدل
وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوي لكن زادوا إذ اشتغلوا بما
ليس من فروض الكفايات أيضا بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف
وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه و سلم وفهم معانيهما
وأما حيل الجدل من الكسر والقلب وفساد الوضع والتركيب والتعدية فإنما أبدعت لإظهار
الغلبة والإفحام وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيرا وأقبح من غرور من
قبلهم
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع
مناقضاتهم واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة
أولئك وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقا كثيرة واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا
بإيمان ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم وما سموه أدلة عقائدهم وظنوا أنه لا أحد
أعرف بالله وبصفاته منهم وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم ودعت
كل فرقة منهم إلى نفسها
ثم هم فرقتان ضالة ومحقة فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة والمحقة هي التي تدعو
إلى السنة والغرور شامل لجميعهم
أما الضالة فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا
وإنما أتيت من حيث إنها لم تتهم رأيها ولم تحكم أولا شروط الأدلة ومنهاجها فرأى
أحدهم الشبهة دليلا والدليل شبهة
وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور وأفضل
القربات في دين الله وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن من صدق الله
ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ولا مقرب عند الله
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة
ومناقضاتهم وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة
والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه لالتذاذه
بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت
بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن النبي صلى الله عليه و سلم شهد لهم بأنهم
خير الخلق وأنهم قد
أدركوا
كثيرا من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضا للخصومات والمجادلات وما
اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا
حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا
مصرا على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول
العمر بل قالوا إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى
السنة
إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما ضل قوم قط بعد
هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل // حديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا
الجدل تقدم في العلم وفي آفات اللسان
وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب
عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان // حديث خرج يوما على أصحابه وهم يجادلون
ويختصمون فغضب حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان الحديث تقدم
حمرة من الغضب فقال ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا
إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق
الله بالحجاج والجدال
ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد
معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام فما جادلهم
إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب
ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن
مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن
الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم
ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على
الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا
نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن
على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده
التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك
الدنيا للآخرة أولى هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه وكيف
أدعو إلى السنة بترك السنة فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله
تعالى وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات
القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق
ونظائره وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها
فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك
عنه عوام المسلمين وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب
ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما قدروا على تحقيق دقائق
الإخلاص إلا وهم مخلصون وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ولولا
أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع
المنازل في طريق الله فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو أمن من الله
تعالى ويرى أنه من الراجين وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء
الله وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز
والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين
بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد
فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه
على الدنيا وقوة رغبته فيها
فهو
يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن
ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ويحث على الإخلاص وهو
غير مخلص ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق
أشد حرصا لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت
ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه
لمات غما وحسدا ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله
إليه
فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في
الأخلاق المحمودة والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها وهذا قد علم ذلك
ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به
فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله
فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل
على طريق الامتحان والتجربة وهو أن يدعي مثلا حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه
لأجله ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة
عليه لوجه الله تعالى ويدعي الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة ومتى استوحش من
مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش
إذا خلا بالله تعالى فهل رأيت محبا يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره
فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها
بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء
عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما
يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن
الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئا ضعيفا
من أصول هذه المعانيوهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف
المنازل العالية في هذه المعانى فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله
علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصفاهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام
والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم
يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف بل ربما
زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى وإنما مثاله
مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا
يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه فهو لا يفارقهم في صفة المرض
والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه
صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير
الاتصاف بحقائقها
ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور
فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن
والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة
إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه فاشتغلوا
بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلبا للإغراب
وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع
والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد
ولو على أغراض فاسدة فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل فإن الأولين
وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد
أصلحوا
غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم
وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء
فيزيدهم كلامهم جراءة على المعاصي ورغبة في الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا
بالثياب والخيل والمراكب فإنه تشهد هيئته من فرقه إلى قدمه بشدة حرصه على الدنيا
فما يفسده هذا المغرور أكثر مما يصلحه بل لا يصلح أصلا ويضل خلقا كثيرا ولا يخفى
وجه كونه مغرورا
وفرقة أخرى منهم قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون
الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر
وبعضهم في المحاريب وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه إذا تميز هذا
القدر عن السوقة والجندية إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم فقد أفلح ونال
الغرض وصار مغفورا له وأمن عقاب الله من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام ولكنه
يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه
وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة
منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ
ليقول أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلانا ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري
وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني
السنة فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم
يفهموا معانيها ولا يعملون بها وقد يفهمون بعضها أيضا ولا يعملون به
ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير
الأسانيد وطلب العالي منها ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه
أهل الزمان أنهم أيضا لا يقيمون بشرط السماع فإن السماع بمجرده وإن لم تكن له
فائدة ولكنه مهم في نفسه للوصول إلا إثبات الحديث إذ التفهم بعد الإثبات والعمل
بعد التفهم فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من
الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيح والحديث
يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع
منه والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو
نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ولم يعرفه وكل ذلك
جهل وغرور
إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيحفظه كما سمعه
ويرويه كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع
فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته من الصحابة أو التابعين
وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أن تصفي
لتسمع فتحفظ وتروي كما حفظت وتحفظ كما سمعت بحيث لا تغير منه حرفا ولو غير غيرك
منه حرفا أو أخطأ علمت خطأه
ولحفظك طريقان
أحدهما أن تحفظ بالقلب وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في
مجاري الأحوال
والثاني أن تكتب كما تسمع وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ويكون
حفظك للكتاب معك وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه
لم تشعر بتغييره فيكون محفوظا بقلبك أو بكتابك فيكون كتابك مذكرا لما سمعته وتأمن
فيه من التغيير والتحريف
فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ثم رأيت
نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيرا أو يفارق حرف منه للنسخة التي سمعتها
لم يجز لك أن تقول سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه بل سمعت شيئا
يخالف ما فيه ولو في كلمة
فإذا لم يكن معك حفظ
بقلبك
ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك وقد قال الله
تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في
هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح
وأقل شروط السماع أن يجري الجميع على السمع مع نوع من الحفظ يشعر معه بالتغيير ولو
جاز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم والذي ينسخ لجاز أن يكتب سماع المجنون
والصبي في المهد ثم إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون يسمع عليه ولا خلاف في عدم جوازه
ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الجنين في البطن فإنكان لا يكتب سماع الصبى في
المهد لأنه لا يفهم ولا يحفظ فالصبى الذى لا يلعب والغافل والمشغول بالنسخ عن
السماع ليس بينهم ولا يحفظ وإن استجرأ جاهل فقال يكتب سماع الصبي في المهد فليكتب سماع
الجنين في البطن فإن فرق بينهما بأن الجنين لا يسمع الصوت وهذا يسمع الصوت فما
ينفع هذا وهو إنما ينقل الحديث دون الصوت فليقتصر إذا صار شيخا على أن يقول سمعت
بعد بلوغي أني في صباي حضرت مجلسا يروى فيه حديث كان يقرع سمعي صوته ولا أدري ما
هو فلا خلاف في أن الرواية كذلك لا تصح وما زاد عليه فهو كذب صريح ولو جاز إثبات
سماع التركي الذي لا يفهم العربية لأنه سمع صوتا غفلا لجاز إثبات سماع صبي في
المهد وذلك غاية الجهل
ومن أين يأخذ هذا وهل للسماع مستند إلا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم نضر
الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها // حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي
فوعاها الحديث أخرجه أصحاب السنن وابن حبان من حديث زيد بن ثابت والترمذي وابن
ماجه من حديث ابن مسعود وقال الترمذي حديث حسن صحيح وابن ماجه فقط من حديث جبير بن
مطعم وأنس
وكيف يؤدي كما سمع من لا يدري ما سمع فهذا أفحش أنواع الغرور
وقد بلي بهذا أهل الزمان ولو اختلط أهل الزمان لم يجدوا شيوخا إلا الذين سمعوه في
الصبا على هذا الوجه مع الغفلة إلا أن للمحدثين في ذلك جاها وقبولا فخاف المساكين
أن يشترطوا ذلك فيقل من يجتمع لذلك في حلقهم فينقص جاههم وتقل أيضا أحاديثهم التي
قد سمعوها بهذا الشرط بل ربما عدموا ذلك وافتضحوا فاصطلحوا على أنه ليس يشترط إلا
أن يقرع سمعه دمدمة وإن كان لا يدري ما يجري وصحة السماع لا تعرف من قول المحدثين
لأنه ليس من علمهم بل من علم علماء الأصول بالفقه وما ذكرناه مقطوع به في قوانين
أصول الفقه فهذا غرور هؤلاء ولو سمعوا على الشرط لكانوا أيضا مغرورين في اقتصارهم
على النقل وإفناء أعمارهم في جمع الروايات والأسانيد وإعراضهم عن مهمات الدين
ومعرفة معاني الأخبار بل الذي يقصد من الحديث سلوك طريق الآخرة وسالك طريقها ربما
يكفيه الحديث الواحد عمره كما روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع فكان أول
حديث روى قوله صلى الله عليه و سلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه // حديث
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث
أبي هريرة وهو عند مالك من رواية علي بن الحسين مرسلا وقد تقدم
فقام وقال يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره
فهكذا يكون سماع الأكياس الذين يحذرون الغرور
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم
قد غفر لهم وأنهم من عماد الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة
بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب
اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن
العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه
يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زيادة على الكفاية
وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في معرفة لغة
العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند وإنما فارقتها لغة
العرب
لأجل ورود الشريعة بها فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ومن النحو
ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى
عنه ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضا مغرور بل
مثاله مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه وهو غرور
إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ومن احتاج إلى أن يشرب
السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه
السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات
والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما
يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو
معرفة العمل وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع
الألفاظ وحفظها بطريق الرواية وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى
ما فوقه وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج
الحروف والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم
يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب
بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها
عن الشوائب والآفات
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه
وقشور له ومنازل بالإضافة إليه وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل
القريب أو في المنزل البعيد
وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها
فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد
أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور
بعلوم الشرع لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في
كونه محمودا ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى
والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصودا وعرج عليه فقد
اغتر به
وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه
في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المبهمة واغتروا
بالظواهر وأخطئوا فيها
وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوي مما يكثر
ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة فمن ذلك فتواهم بأن
المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى وذلك خطأ بل الزوج قد
يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ
الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا وطيبة النفس غير طيبة القلب فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا
تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه وإنما طيبة النفس أن تسمح
نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه
مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن
نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض فينظر إلى الأبراء الظاهر وأنها
لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه ولكن مهما تصدى القاضي
الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوبا ولا مقيدا في تحصيل الإبراء
ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه فلو طلب من الإنسان ما لالا على
ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا
يعطيه ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال وردد نفسه بينهما
فاختار
أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى
المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار
أهون الألمين والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط ولا فرق بين ضرب
الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر وإنما حاكم الدنيا
هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما في القلب وكذلك
من يعطي اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه وكذلك كل مال يؤخذ على هذا
الوجه فهو حرام
ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال بعد أن غفر له يا رب كيف لي بخصمي
فأمر بالاستحلال منه وكان ميتا فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس فنادى يا أوريا
فأجابه لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فماذا تريد فقال إني أسأت إليك في أمر
فهبه لي قال قد فعلت ذلك يا نبي الله فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه
السلام هل ذكرت له ما فعلت قال لا قال فارجع فبين له فرجع فناداه فقال لبيك يا نبي
الله فقال إني أذنبت إليك ذنبا قال ألم أهبه لك قال ألا تسألني ما ذلك الذنب قال
ما هو يا نبي الله قال كذا وكذا وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب فقال يا أوريا ألا
تجيبني قال يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله فاستقبل
داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة
فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد وأن طيبة القلب لا تحصل إلا
بالمعرفة فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان
واختياره حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل
والإلزام
ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة
فالفقيه يقول سقطت الزكاة فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق
فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك
المال أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين
وسر الزكاة فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله
عليه و سلم ثلاث مهلكات شحه مطاع // حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وإنما صار شح مطاعا بما فعله وقبله لم يكن مطاعا
فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه
وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من
البخل بالجهل والغرور ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة
والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات بل كل
مالا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور بل الدنيا خلقت لحاجة العباد
إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين
والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في
أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون
الاستيعاب فإن ذلك يطول
الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في
الصلاة
ومنهم من غروره في تلاوة القرآن
ومنهم في الحج
ومنهم في الغزو
ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خاليا عن غرور إلا
الأكياس وقليل ما هم
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل
حتى خرجوا إلى العدوان
والسرف
كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في
فتوى الشرع ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة وإذا آل الأمر إلى أكل
الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض ولو انقلب هذا
الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة إذ توضأ عمر رضي الله عنه
بماء في جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال
مخافة من الوقوع في الحرام
ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صب الماء وذلك منهي عنه // حديث النهي من
الإسراف في الوضوء أخرجه الترمذي وضعه وابن ماجه من حديث أبي بن كعب إن للوضوء
شيطانا يقال له الولهان الحديث وتقدم في عجائب القلب
وقد يطول الأمر حتى يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها وإن لم يخرجها أيضا عن وقتها فهو
مغرور لما فاته من فضيلة أول الوقت وإن لم يفته فهو مغرور لإسرافه في الماء وإن لم
يسرف فهو مغرور لتضييعه العمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه إلا أن
الشيطان يصد الخلق عن الله بطريق سني ولا يقدر على صد العباد إلا بما يخيل إليهم
أنه عبادة فيبعدهم عن الله بمثل ذلك
وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة
بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة ويخرج الصلاة عن الوقت وإن تم تكبيره فيكون في
قلبه بعد تردد في صحة نيته وقد يوسوسون في التكبير حتى قد يغيرون صيغة التكبير
لشدة الاحتياط فيه يفعلون ذلك في أول الصلاة ثم يغفلون في جميع الصلاة فلا يحضرون
قلوبهم ويغترون بذلك ويظنون أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية في أول الصلاة
وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم
وفرقة أخرى تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها
فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح مخارج الحروف في جميع
صلاته لا يهمه غيره ولا يتفكر فيما سواه ذاهلا عن معنى القرآن والاتعاظ به وصرف
الفهم إلى أسراره
وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج
الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام
ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى مجلس سلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدي
الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو في ذلك غافل عن
مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فما أحراه بأن تقام عليه السياسة ويرد إلى دار
المجانين ويحكم عليه بفقد العقل
وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليل مرة
ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن
لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه
إلى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب تلاوة القرآن من مقاصد التلاوة فهو مغرور يظن أن
المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه
ومثاله مثال عبد كتب إليه مولاه ومالكه كتابا وأشار عليه فيه بالأوامر والنواهي
فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما
أمره به مولاه إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق
للعقوبة ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور
نعم تلاوته إنما تراد لكيلا ينسى بعد لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل
به والانتفاع بمعانيه وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه
ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما هي لذته في صوته
ولو
ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه
فيعرفه أن لذته بكلام الله تعالى من حيث حسن نظمه ومعانيه أو بصوته
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا
يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإفطار
وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل
الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور
وفرقة أخرى اغتروا بالحج فيخرجون إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون
واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجة الإسلام ويضيعون
في الطريق الصلاة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة
حتى يؤخذ منهم ولا يحذرون في الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام
وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرياء فيعصي الله تعالى في كسب
الحرام أولا وفي إنفاقه بالرياء ثانيا فلا هو أخذه من حله ولا هو وضعه في حقه ثم
يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لم يقدم تطهيره على حضوره وهو
مع ذلك يظن أنه على خير من ربه فهو مغرور
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكر على الناس
ويأمرهم بالخير وينسى نفسه وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر
منكرا ورد عليه غضب وقال أنا المحتسب فكيف تنكر علي وقد يجمع الناس إلى مسجده ومن
تأخر عنه أغلظ القول عليه وإنما غرضه الرياء والرياسة ولو قام بتعهد المسجد غيره
لحرد عليه بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت
عليه القيامة وقال لم آخذ حقي وزوحمت على مرتبتي وكذلك قد يتقلد إمامة مسجد ويظن
أنه على خير وإنما غرضه أن يقال إنه إمام مسجد فلو تقدم غيره وإن كان أورع وأعلم
منه ثقل عليه
وفرقة أخرى جاوروا بمكة أو المدينة واغتروا بمكة ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا
ظاهرهم وباطنهم فقلوبهم معلقة ببلادهم ملتفتة إلى قول من يعرفه أن فلانا مجاور
بذلك وتراه يتحدى ويقول قد جاورت بمكة كذا كذا سنة وإذا سمع أن ذلك قبيح ترك صريح
التحدي وأحب أن يعرفه الناس بذلك ثم إنه قد يجاور ويمد عين طمعه إلى أوساخ أموال
الناس وإذا جمع من ذلك شيئا شح به وأمسكه لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير
فيظهر فيه الرياء والبخل والطمع وجملة من المهلكات كان عنها بمعزل لو ترك المجاورة
ولكن حب المحمدة وأن يقال إنه من المجاورين ألزمه المجاورة مع التضمخ بهذه الرذائل
فهو أيضا مغرور وما من عمل من الأعمال وعبادة من العبادات إلا وفيها آفات فمن لم
يعرف مداخل آفاتها واعتمد عليها فهو مغرور ولا يعرف شرح ذلك إلا من جملة كتب إحياء
علوم الدين فيعرف مداخل الغرور في الصلاة من كتاب الصلاة وفي الحج من كتاب الحج
والزكاة والتلاوة وسائر القربات من الكتب التي رتبناها فيها وإنما الغرض الآن
الإشارة إلى مجامع ما سبق في الكتب
وفرقة أخرى زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد
وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو
بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم
من المال ولو ترك الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا
مغرور
إذا الظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا ولم يدر أن منتهى
لذاتها لرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا وحسودا ومتكبرا ومرائيا ومتصفا
بجميع خبائث الأخلاق
نعم وقد يترك الرياسة ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على
الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو
لهم ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا
يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في
الخفية لم تسمح به نفسه خوفا من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب
الدنيا ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو من توقير
الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن
الماثلين إلى غيره من الزهاد وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه
وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة
مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده
وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات فلا يدري أن ذلك مهلك وإن علم ذلك
فلا يظن بنفسه ذلك وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير
مؤاخذ بأحوال القلب وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته وهيهات
وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح
ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه عن الرياء وحب
الثناء فإذا قيل له أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك
وصدق به وزاده ذلك غرورا وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا عند الله ولا
يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه
وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ترى أحدهم يفرح بصلاة
الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على
المبادرة بها في أول الوقت وينسى قوله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه ما
تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم // حديث ما تقرب المتقربون إلي بمثل
أداء ما افترضت عليهم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ ما تقرب إلي عبدي
وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور
بل قد يتعين في الإنسان فرضان أحدهما يفوت والآخر لا يفوت أو فضلان أحدهما يضيق
وقته والآخر يتسع وقته
فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورا
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة وإنما الغامض تقديم
بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائض كلها على النوافل وتقديم فروض الأعيان على
فروض الكفاية وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره وتقديم الأهم من
فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على مالا يفوت وهذا كما يجب تقديم حاجة
الوالدة على حاجة الوالد إذ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل له من أبر يا
رسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أباك قال ثم
من قال أدناك فأدناك // حديث من أبر قال أمك الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه
من حديث زيد بن حكيم عن أبيه عن جده وقد تقدم في آداب الصحة
فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب فإن استويا فبالأحوج فإن استويا فبالأتقى والأورع
وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فربما يحج وهو مغرور بل ينبغي أن يقدم
حقهما على الحج وهذا من تقديم فرض أهم من فرض هو دونه
وكذلك إذا كان على العبد ميعاد ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوت والاشتغال
بالوفاء
بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه
وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة
وإيذاؤهما محذور والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة
وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر
ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور
وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة
معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها
ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات
والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه
معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه
فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة
وقهر الأقران والتقدم عليهم يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم
دينه
الصنف الثالث المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة
ففرقة منهم وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق
فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم
واصطلاحاتهم وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على
السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض
الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا
بهم فيها ظنوا أنهم أيضا صوفية ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة
القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية وكل ذلك من أوائل منازل
التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم
يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات
وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير
ويمزق بضعهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه
وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من
المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت
نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعا ووضعت على رأسها مغفرا وتعلمت من رجز
الأبطال أبياتا وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية
تبخترهم في الميدان وكيف تحريلم بالأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق
والحركات والسكنات ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت
إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته
وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن المغفر
والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل لها أجئت
للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل
لسخفها فألقيت إلى الفيل
فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي
إلا كبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب
والرضا بالدون فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بدا من التزين بزيهم فتركوا
الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة
ولبسوا من الثياب ما هو أرفع من الحرير والإبريسم وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف
بمجرد لون الثوب وكونه مرقعا ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها
كل ساعة
لإزالة
الوسخ وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون
الجديد فأما تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن أي يشبه ما
اعتادوه فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين فإنهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ
الأطعمة ويطلبون رغد العيش ويأكلون أموال السلاطين ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة
فضلا عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق إذ
يهلك من يقتدي بهم ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن
جميعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين
وشرهم
وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في
عين الشهود والوصول إلى القرب ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ لأنه
تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين
فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الإزراء فضلا عن
العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياما معدودة
ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار
ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون ويقول في
العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من
المقربين وهو عند الله من الفجار المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين
لم يحكم قط علما ولم يهذب خلقا ولم يرتب عملا ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى
وتلقف الهذيان وحفظه
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال
والحرام فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي وبعضهم يقول قد كلف
الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال فقد كلفوا ما لا يمكن
وإنما يغتر به من لم يجرب وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال
ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما بل إنما كلفوا
قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع
وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح لا وزن لها وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة
بحب الله وواصلة إلى معرفة الله وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في
حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ويزعمون إنهم قد ترقوا عن رتبة
العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق
الله لقوتهم فيها ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ
كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية
وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على أغاليط
ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء
بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول
وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب وصار
أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه
المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم
أنه واله بالله ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل
معرفته ثم إنه لا يخلوا عن مقارفة ما يكره الله عز و جل وعن إيثار هوى نفسه على
أمر الله وعن ترك بعض الأمور حياءا من الخلق ولو خلا لما تركه حياءا من الله تعالى
وليس يدري أكل ذلك يناقض
الحب
وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل
وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا أعرف بالتوكل منه فما
فهموا أن التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون
على الله تعالى لا على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب
واثق به وما من مقام من المقامات المنجيات إلا وفيه غرور وقد اغتر به قوم وقد
ذكرنا مداخل الآفات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن إعادتها
وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد
القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه
ومسكنه وأخذ يتعمق في غير ذلك وليس يدري المسكين أن الله تعالى لم يرض من عبد بطلب
الحلال فقط ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال بل لا يرضيه إلا تفقد جميع
الطاعات والمعاصي
فمن ظن أن بعض هذه الأمور يكفيه وينجيه فهو مغرور
وفرقة أخرى ادعوا حسن الخلق والتواضع والسماحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوما
وتكلفوا بخدمتهم واتخذوا ذلك للرياسة وجمع المال وإنما غرضهم التكبر وهم يظهرون
الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع وهم يظهرون أن غرضهم الإرفاق وغرضهم الاستتباع
وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات وينفقون
عليهم لتكثر أتباعهم وينشر بالخدمة اسمهم وبعضهم يأخذ أموال السلاطين ينفق عليهم
وبعضهم يأخذها لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والإنفاق وباعث
جميعهم الرياء والسمعة وآية ذلك إهمالهم لجميع أوامر الله تعالى عليهم ظاهرا
وباطنا ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه
ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لإرادة الخير كمن يعمر مساجد الله فيطينها
بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة
وفرقة أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا
يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علما وحرفة فهم في جميع
أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق الكلام في آفاتها فيقولون هذا
في النفس عيب والغفلة عن كونه عيبا عيب والالتفات إلى كونه عيبا عيب ويشغفون فيه
بكلمات مسلسلة تضيع الأوقات في تلفيقها ومن جعل طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس
وتحرير علم علاجها كان كمن اشتغل بالتفتيش عن عوائق الحج وآفاته ولم يسلك طريق
الحج فذلك لا يغنيه
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم أبواب المعرفة
فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرابتها
فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها وفي كيفية انفتاح بابها عليهم
وانسداده على غيرهم وكل ذلك غرور لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية فلو وقف مع كل
أعجوبة وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكا
فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار لم يكن قد رأى قبل ذلك مثلها فوقف
ينظر إليها ويتعجب حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك
وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ولا
إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها
جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى فظنوا أنهم قد
وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا فإن لله تعالى سبعين حجابا من نور لا يصل السالك إلى
حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن أنه قد وصل
وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام إذ قال الله تعالى
إخبارا
عنه فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة
فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحدا والجهال
يعلمون أن الكوكب ليس بإله فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر
السوادية
ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز و جل وهي على طريق
السالكين ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب وهي حجب من
نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس
وبينهما رتبة القمر فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال
تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض يصل إلى نور بعد نور ويتخيل إليه في
أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول قد
وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده فقال هذا
أكبر فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة
الكمال قال لا أحب الآفلين إلى أن قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول
وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه فإنه أيضا أمر رباني وهو نور من أنوار
الله تعالى أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة
العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما إذ يظهر
فيه الوجود كله على ما هو عليه وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا
تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ربما التفت صاحب القلب إلى
القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول أنا
الحق فإنه لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك وكان قد اغتر بكوكب صغير
من أنوار الحضرة الإلهية ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور وهذا محل
الالتباس إذا المتجلى يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة
بالمرآة فيظن أنه لون المرآة وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه
كمن يرى كوكبا في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمد يده
إليه ليأخذه وهو مغرور وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في
مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع علوم المكاشفة وذلك مما لا رخصة في ذكره ولعل
القدر الذي ذكرناه أيضا كان الأولى تركه إذ السالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن
يسمعه من غيره والذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به إذ يورثه ذلك دهشة
من حيث يسمع ما لا يفهم ولكن فيه فائدة وهو إخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما
يصدق بأن الأمر أعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله
المزخرف ويصدق أيضا بما يحكى له من المكاشفات التي أخبر عنها أولياء الله ومن عظم
غروره ربما أصر مكذبا بما يسمعه الآن كما يكذب بما سمعه من قبل
الصنف الرابع أرباب الأموال والمغترون منهم فرق
ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس
كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون
أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك
وقد اغتروا فيه من وجهين
أحدهما
أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة فهم قد
تعرضوا لسخط الله في كسبها وتعرضوا لسخطه في إنفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع
عن كسبها فإذن قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله وردها
إلى ملاكها إما بأعيانها وإما برد بدلها عند العجز فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب
ردها إلى الورثة فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح وربما
يكون الأهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس
فيبنون الأبنية بالآجر وغرضهم من بنائها الرياء وجلب الثناء وحرصهم على بقائها
لبقاء أسمائهم المكتوبة فيها لا لبقاء الخير
والوجه الثاني أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية ولو
كلف واحد منهم أن ينفق دينارا ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه
ذلك ولم تسمح به نفسه والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب ولولا أنه يريد به وجه
الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك
وفرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي أيضا مغرورة من
وجهين
أحدهما
الرياء وطلب الثناء فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم
وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد
ليظهر ذلك بين الناس
والثاني أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب
المصلين ومختطفة أبصارهم // حديث النهي عن زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش أخرجه
البخاري من قول عمر بن الخطاب أكن الناس ولا تحمر ولا تصفر
والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب المصلين ويحبط ثوابهم بذلك
ووبال ذلك كله يرجع إليه وهو مع ذلك يغتر به ويرى أنه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة
إلى الله تعالى وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى وهو يظن أنه مطيع له وممتثل
لأمره وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به إلى زخارف
الدنيا فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته إذ
المسجد للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى
قال مالك بن دينار أتى رجلان مسجدا فوقف أحدهما على الباب وقال مثلي لا يدخل بيت
الله فكتبه الملكان عند الله صديقا
فهكذا ينبغي أن تعظم المساجد وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على
المسجد لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام أو بزخرف الدنيا منة على الله تعالى
وقال الحواريون للمسيح عليه السلام انظر إلى هذا المسجد ما أحسنه فقال أمتي أمتي
بحق أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله
إن الله لا يعبأ بالذهب والفضة ولا بهذه الحجارة التي تعجبكم شيئا وإن أحب الأشياء
إلى الله تعالى القلوب الصالحة بها يعمر الله الأرض وبها يخرب إذا كانت على غير
ذلك وقال أبو الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زخرفتم مساجدكم
وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم // حديث إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار
عليكم أخرجه ابن المبارك في الزهد وأبو بكر ابن أبي داود في كتاب المصاحف موقوفا على
أبي الدرداء
وقال الحسن إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه
جبريل عليه السلام فقال له ابنه سبعة أذرع طولا في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه //
حديث الحسن مرسلا لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال ابنه سبعة أذرع
طولا في السماء ولا تزخرفه ولا تنقشه لم أجده
فغرور هذا من حيث أنه رأى المنكر واتكل عليه
وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل
الجامعة ومن
الفقراء
من عادته الشكر والإفشاء للمعروف ويكرهون التصدق في السر ويرون إخفاء الفقير لما
يأخذ منهم جناية عليهم وكفرانا وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة
بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعا ولذلك قال ابن مسعود في آخر الزمان يكثر الحاج
بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الزرق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم
بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه
وقال أبو نصر التمار إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال قد عزمت على الحج
فتأمرني بشيء فقال له كم أعددت للنفقة فقال ألفي درهم
قال بشر فأي شئ تبتغي بحجك تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله قال
ابتغاء مرضاة الله قال فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم
وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك قال نعم قال اذهب فأعطها عشرة أنفس
مديون يقضي دينه وفقير يرم شعثه ومعيل يغني عياله ومربي يتيم يفرحه وإن قوي قلبك
تعطيها واحدا فافعل فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر
وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل
لنا ما في قلبك فقال يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه
وقال له المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا
فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين
وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم
يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل
وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى
قمعه بإخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها ومثاله مثال من دخل في ثوبه
حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن قتلته
الحية متى يحتاج إلى السكنجبين ولذلك قيل لبشر إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة
فقال المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع
والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه
للدنيا ومنعه للفقراء
وفرقة أخرى غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجون من
المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في
حاجاتهم ومن يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة أو من لهم فيه على الجملة
غرض أو يسلمون ذلك إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمه لينال بذلك عنده
منزلة فيقوم بحاجاته
وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع لله تعالى وهو
فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضا من غيره فهذا وأمثاله من غرور أصحاب الأموال أيضا لا
يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور
وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر
واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع
الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ أجرا وهم مغرورون لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغبا في
الخير فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل فإن
ضعفت عن الحمل على العمل فلا خير فيها وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك
الغير فلا قيمة له وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء
وربما تدخله رقة كرقة
النساء
فيبكي ولا عزم وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول يا سلام
سلم أو نعوذ بالله أو سبحان الله ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور
وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري أو الجائع الذي
يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف وذلك لا يغني عنه من مرضه
وجوعه شيئا
فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئا
فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييرا يغير أفعالك حتى تقبل على الله إقبالا قويا أو
ضعيفا وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا
فإن قلت فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ولا يمكن الاحتراز منه
وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات فأقول
الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا
صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى
الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه
استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج
الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في
البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات
استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الدرياق من
أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن
يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض
وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي
لاقتناص الطيور وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي
كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على دنياه فلو همه أمر آخرته فليس عليه إلا
شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل وقال هذا محال ومن الذي يقدر
عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد بل هو كما يقال لو صح منك الهوى
أرشدت للحيل فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان
فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في
استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها
فإن قلت قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو العبد من
الغرور فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور بالفعل والعلم والمعرفة
فهذه ثلاثة أمور لا بد منها
أما العقل فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق
الأشياء فالفطنة والكيس فطرة والحمق والبلادة فطرة والبليد لا يقدر على التحفظ عن
الغرور فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في أصل الفطرة فهذا إن لم يفطر عليه
الإنسان فاكتسابه غير ممكن
نعم إذا حصل أصله أمكن تقويته بالممارسة فأساس السعادات كلها العقل والكياسة قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم تبارك الله الذي قسم العقل بين عباده أشتاتا //
حديث تبارك الذي قسم العقل بين عباده الحديث أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
من رواية طاوس مرسلا وفي أوله قصة وإسناده ضعيف ورواه بنحوه من حديث أبي حميد وهو
ضعيف أيضا
إن الرجلان ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل
كالذرة في جنب أحد وما قسم الله لخلقه حظا أفضل من العقل واليقين
وعن أبي الدرداء أنه قيل يا رسول الله أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل ويحج
ويعتمر ويتصدق
ويغزو
في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله
يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يجزى على قدر عقله // حديث أبي
الدرداء أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل الحديث وفيه إنما يجزى على قدر عقله
أخرجه الخطيب في التاريخ وفي أسماء من روى عن مالك من حديث ابن عمر وضعفه ولم أره
من حديث أبي الدرداء
وقال أنس أثني على رجل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا خيرا فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم كيف عقله قالوا يا رسول الله نقول من عبادته وفضله وخلقه
فقال كيف عقله فإن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر
وإنما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم // حديث أنس أثني على رجل عند النبي
صلى الله عليه و سلم فقال كيف عقله الحديث أخرجه داود بن المحبر في كتاب العقل وهو
ضعيف وتقدم في العلم
وقال أبو الدرداء كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بلغه عن رجل شدة عبادة
سأل عن عقله فإذا قالوا حسن قال أرجوه وإن قالوا كان غير ذلك قال لن يبلغ // حديث
أبي الدرداء كان إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله الحديث أخرجه الترمذي
الحكيم في النوادر وابن عدي ومن طريقه البيهقي في الشعب وضعفه
وذكر له شدة عبادة رجل فقال كيف عقله قالوا ليس بشيء قال لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون
فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في أصل الفطرة فإن فاتت ببلادة
وحماقة فلا تدارك لها
الثاني المعرفة وأعني بالمعرفة أن يعرف أربعة أمور يعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف
الدنيا ويعرف الآخرة فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريبا في هذا العالم
وأجنبيا من هذه الشهوات البهيمية وإنما الموافق له طبعا هو معرفة الله تعالى
والنظر إلى وجهه فقط فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن
على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب
الشكر إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله ويحصل به التنبه على
الجملة وكمال المعرفة وراءه فإن هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب إلا
في علوم المعاملة
وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر
الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا
والآخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة
الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة
وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها فإن أكل مثلا أو اشتغل
بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة
وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه
والمال فإن ذلك هو المفسد للنية
وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضا الله تعالى فلا
يمكنه الخلاص من الغرور
فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى
المعنى الثالث وهو العلم أعني العلم بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله والعلم بما
يقربه من الله وما يبعده عنه والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله وجميع ذلك قد
أودعناه كتب إحياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها
ومن ربع العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو مستغن
عنه فيعرض عنه ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن
المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه ويعرف من
ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفا عن المذمومة بعد محوها
فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور وأصل ذلك
كله أن يغلب
حب
الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية ولا يحصل
ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها
فإن قلت فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان
ويدعوه إلى نصح الخلق ونشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله فإن المريد
المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات
واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم
يلتفت إليهم ولم يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق
إلى لقائه وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا
يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم
والنصح لهم والدعاء إلى الله فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم
سكارى في دينهم صما عميا قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب
وأشرفوا على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما
يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة
ولزوم غرامة فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه وقد كان لذلك يسهر
ليله ويقلق نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له
دواء عفوا صفوا من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب
نومه بالليل بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر
وأصاب لذة العافية بعد طول السقام ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا بهم تلك
العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم
هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان فأخذته الرحمة
والرأفة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص
بعد أن اهتدى إلى الطريق وشفي من أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل
داؤهم وقرب هلاكهم وإشفاؤهم وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في
الاشتغال بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالا للفتنة فلما اشتغل بذلك
وجد الشيطان مجالا للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفيا أخفى من دبيب النمل لا يشعر
به المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين
الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فأقبل الناس إليه يعظمونه
ويبجلونه ويوقرونه توقيرا يزيد على توقير الملوك إذا رأوه شافيا لأدوائهم بمحض
الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم فآثروه
بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولا كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه
على الملوك والسلاطين فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة
أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها
فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه
تلك اللذة
وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق
غضب فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله
لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما
أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال
المتسع ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق
الخطرات وكذلك إذا سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه
فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء
وربما
زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر
رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس
خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه بل
ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر
كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة
لكان يغتنم ذلك إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى
رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن الرقي من البئر بسببه فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع
الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك
ونحاه بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر فإن كان غرض
الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه
أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه
هدايتهم فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى
جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن
اعوجاج النفس بعد الاستواء
فإن قلت فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله
تعالى وكان يود لو وجد من يعينه أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن
ثنائهم وعن أموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده
ولم يفرح بحمدهم إذ لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات
وإلى البهائم
أما إلى السادات فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيرا منه لجهله بالخاتمة
وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف
تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية
ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه
فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من
الاشتغال بإصلاحهم
نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه
فإن قلت فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ وخربت
القلوب فأقول قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب الدنيا رأس كل خطيئة //
حديث حب الدنيا رأس كل خطيئة أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن مرسلا وقد تقدم
في كتاب ذم الدنيا
ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعا
إلا أنه صلى الله عليه و سلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكا لا ينزع
الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح
وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفا من أن يترك نفسه بالشهوات
المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقا لقوله تعالى ولكن
حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ
مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول إن الوعظ لحب الرياسة حرام كما لا يدع
الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي يقول الله تعالى ورسوله إن
ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس فإن الله تعالى يصلح خلقا
كثيرا بإفساد شخص واحد وأشخاص ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض وإن
الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم
فإنما
يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ فأما أن تخرص ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب
الدنيا فلا يكون ذلك أبدا
فإن قلت فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح
وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخاف عليه وما الذي بقي بين يديه من
الأخطار وحبائل الاغترار فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له قد
أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما
قدرت عليك فما أصبرك وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من
التفطن لجميع مداخل غروري فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه من فراره في الغرور كله
فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك
قال الشيطان يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي
فإن قلت فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى
على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل
فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما
الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فأقول يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه
والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة
والانقلاب فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره ومن
أمن مكر الله فهو خاسر جدا بل سبيله أن يكون مشاهدا جملة ذلك من فضل الله ثم خائفا
على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات
إلى عز وهو غافل عنه ويكون خائفا أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله
ولا غافل عن خطر الخاتمة
وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط
ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال أفلت
مني يا فلان فقال لا بعد
ولذلك قيل الناس كلهم هلكى إلى العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون
والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر
قلوب أولياء الله أبدا
فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فإن الأمور بخواتيمها
تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في أول ربع المنجيات كتاب التوبة
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وهو حسبي ونعم الوكيل
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تم الجزء الثالث من كتاب إحياء علوم الدين ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب التوبة
T
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوبة وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم
الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل
النعيم في دار الثواب وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخى دونهم الحجاب وضرب بينهم
وبين السعداء بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ونتوب إليه توبة
من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم
الغفور التواب ونمزج الخوف برجائنا مزج من لا يرتاب أنه مع كونه غافر الذنب وقابل
التوب شديد العقاب
ونصلى على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول
المطلع يوم العرض والحساب وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب
أما بعد فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق
السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع
الاصطفاء والاجتباء للمقربين ولأبينا آدم عليه الصلاة و السلام وعلى سائر الأنبياء
أجمعين وما أجدر بالأولاد الاقتداء بالآباء والأجداد فلا غرو إن أذنب الآدمى
واجترم فهى شنشنة نعرفها من أخزم ومن أشبه أباه فما ظلم ولكن الأب إذا جبر بعد ما
كسر وعمر بعد أن هدم فليكن النزوع إليه في كلا طرفى النفى والإثبات والوجود والعدم
ولقد قرع آدم سن الندم وتندم على ما سبق منه وتقدم فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة
فقد زلت به القدم بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين والتجرد للشر دون
التلافى سجية الشياطين والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين
فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان والمتجرد للشر شيطان والمتلافى للشر
بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان واصطحب فيه
سجيتان وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك أو إلى آدم أو إلى الشيطان فالتائب قد
أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان والمصر على الطغيان مسجل
على نفسه بنسب الشيطان فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد
لمحض
الخير فخارج عن حيز الإمكان فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنا محكما لا
يخلصه إلا إحدى النارين نار الندم أو نار جهنم فالإحراق بالنار ضرورى في تخليص
جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين والمبادرة إلى أخف
الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار ويساق إلى دار الاضطرار إما إلى الجنة وإما إلى
النار وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها فى صدر ربع
المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها
والأدوية الميسرة لها ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان
الركن الأول في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع
الأشخاص وفي جميع الأحوال وأنها إذا صحت كانت مقبولة
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما
يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على
الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التى بها تعظم الصغائر
الركن الثالث في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية
تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة الركن الرابع في المسبب الباعث
على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز و جل الركن الأول في نفس التوبة
بيان حقيقة التوبة وحدها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل
فالعلم الأول والحال الثانى والفعل الثالث والأول موجب للثانى والثانى موجب للثالث
إيجابا اقتضاه إطراد سنة الله فى الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة عظم ضرر
الذنوب وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب
على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر
بفوات محبوبه تألم فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب
فعله المفوت لمحبوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا
الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضى
وبالاستقبال أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذى كان ملابسا وأما بالاستقبال
فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضى فبتلافى ما فات
بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعنى
بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة
واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر
نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق
نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان فى ظلمة
فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك
فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم
والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافى للماضى ثلاثة معان
مرتبة في الحصول فيطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى
الندم وحده ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا
الاعتبار قال صلى الله عليه و سلم الندم توبة
حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود
ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين // إذ لا يخلو
الندم عن علم
أوجبه
وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعنى ثمرته ومثمره
وبهذا الاعتبار قيل فى حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ فإن هذا يعرض
لمجرد الألم ولذلك قيل هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب وباعتبار
معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء وقال سهل ابن
عبد الله التسترى التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا
بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل في
حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعانى الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن
جميع ما قيل فى حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها وطلب العلم بحقائق الأمور
أهم من طلب الألفاظ المجردة
بيان وجوب التوبة وفضلها
اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار // الأخبار الدالة على وجوب التوبة أخرج مسلم
من حديث الأغر المزنى يا أيها الناس توبوا إلى الله الحديث ولابن ماجه من حديث
جابر يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا الحديث وسنده ضعيف // والآيات
وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى
اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنيا عن قائد يقوده في
كل خطوة فالسالك إما أعمى لا يستغنى عن القائد في خطوه وإما بصير يهدى إلى أول
الطريق ثم يهتدى بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام فمن قاصر
لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب
الله أو سنة رسوله وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر
وخطاه قاصرة ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى
إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان
وهو لشدة نور باطنه يجتزىء بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار فإذا
مسته نار فهو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في
كل واقعة فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى
التوبة ما هى ثم إلى الوجوب ما معناه ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في
ثبوته لها وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد
والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشىء وتركه لم يكن
لوصفه بكونه واجبا معنى وقول القائل صار واجبا بالإيجاب حديث محض فإن مالا غرض لنا
آجلا وعاجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه
فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أن لا سعادة في دار
البقاء إلا في لقاء الله تعالى وأن كل محجوب عنه يشقى لا محاله محول بينه وبين ما
يشتهى محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع
الشهوات والأنس بهذا العالم الفانى والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعا وعلم
أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال
بالكلية على الله طلبا للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على
قدر طاقته وعلم أن الذنوب التى هى إعراض عن الله واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله
المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن
طريق البعد واجب للوصول إلى القرب وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم فإنه
ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في
طريق البعد وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم فلا يشك فى أن
المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول
إلى
المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة وأما من لم يترشح لمثل هذا
المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففى التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل
به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد
قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وهذا أمر على
العموم وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا الآية
ومعنى النصوح الخالص لله تعالى خاليا عن الشوائب مأخوذ من النصح ويدل على فضل
التوبة قوله تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال صلى الله عليه و سلم
التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له // حديث التائب حبيب الله
والتائب من الذنب كمن لا ذنب له أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني
دون الأول وأما الشطر الأول فروى ابن أبي الدنيا في التوبة وأبو الشيخ في كتاب
الثواب من حديث أنس بسند ضعيف إن الله يحب الشاب التائب ولعبد الله بن أحمد في
زوائد المسند وأبى يعلىبسند ضعيف من حديث على أن الله يحب العبد المؤمن المفتن
التواب // وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من
رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومه
فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال
أرجع إلى مكانى الذى كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ
فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من
هذا براحلته // حديث لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية
مهلكة الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود وأنس زاد مسلم في حديث أنس ثم قال من
شدة الفرح اللهم أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ورواه مسلم بهذه الزيادة من
حديث النعمان بن بشير ومن حديث أبى هريرة مختصرا // وفى بعض الألفاظ قال من شدة
فرحه إذ أراد شكر الله أنا ربك وأنت عبدى ويروى عن الحسن قال لما تاب الله عز و جل
على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا
يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام يا جبريل فإن كان بعد هذه
التوبة سؤال فأين مقامى فأوحى الله إليه يا آدم ورثت ذويك التعب والنصب وورثتهم
التوبة فمن دعانى منهم لبيته كما لبيتك ومن سألنى المغفرة لم أبخل عليه لأنى قريب
مجيب يا آدم وأحشر التائبين من القبور مستبشرينضاحكين ودعاؤهم مستجاب والأخبار
والآثار في ذلك لا تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن
الذنوب والمعاصى مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد
تدهش الغفلة عنه فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ولا خلاف في وجوبها ومن معانيها
ترك المعاصى في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في
سابق الاحوال وذلك لا يشك في وجوبه وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب وهو
روح التوبة وبه تمام التلافى فكيف لا يكون واجبا بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب
حقيقة المعرفة بما فات من العمر وضاع في سخط الله
فإن قلت تألم القلب أمر ضرورى لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب فاعلم أن
سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه وبمثل هذا المعنى دخل
العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل
العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم
وما تعملون هذا هو الحق عند ذوى الأبصار وما سوى هذا ضلال
فإن قلت أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك قلنا نعم وذلك لا يناقض قولنا إن الكل
من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضا من خلق الله والعبد مضطر في الاختيار الذي له
فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة
وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الارادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضروريا فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة وانجزام الإرادة وهما أيضا من خلق الله وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضا من خلق الله تعالى ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيبا جرت به سنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة وما لم يخلق فيها حياة وما لم يخلق إرادة مجزومة ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلا في النفس ولا ينبعث هذا الميل انبعاثا تاما ما لم يخلق علما بأنه موافق للنفس إما في الحال أو في المآل ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم فالعلم والميل الطبيعي أبدا يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبدا تستردف الحركة وهكذا الترتيب في كل فعل والكل من اختراع الله تعالى ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون خلق الجسم شرطا لحدوث الحياة لا أن الحياة تتولد من الجسم ويكون خلق الحياة شرطا لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيا ويكون خلق العلم شرطا لجزم الإرادة لا أن العلم يولد الإرادة ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حى عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب والعبد مجرى هذه الحوادث المرتبة وهى مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيبا كليا لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى إنا كل شىء خلقناه بقدر وعن القضاء الكلى الأزلى العبارة بقوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجارى القضاء والقدر ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت ونودى من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل إنه جبر محض ومن قائل إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة
من
لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه
ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علما يقينا أن لا خالق
إلا الله ولا مبدع سواه
فإن قلت قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه
وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك وهل يمكن إيصال ذلك إلى الأفهام
بمثال فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى
الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته
ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان
على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه فقالوا قد عرفنا انصرفوا
سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم فقال الذي لمس الرجل إن الفيل ما هو إلا مثل
أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها وقال الذي لمس الناب ليس كما يقول بل هو
صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلا بل هو مثل عمود
وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين وفيه خشونة فصدق أحدهما فيه ولكن قال ما هو مثل
عمود ولا هو مثل اسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه
إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل
ولكنهم بحملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال واعتبر به
فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاما يناطح علوم المكاشفة ويحرك
أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة
بجميع أجزائها الثلاثة العلم والندم والترك وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعا
في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها وما هذا
وصفه فاسم الوجوب يشمله
بيان أن وجوب التوبة على الفور
أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه إذ معرفة كون المعاصى مهلكات من نفس الإيمان
وهو واجب على الفور المتقصى عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل
المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التى لا تتعلق بعمل بل هى من علوم
المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثا على عمل فلا يقع التقصى عن عهدته ما لم يصر
باعثا عليه فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا لتركها فمن لم يتركها فهو
فاقد لهذا الجزء من الإيمان وهو المراد بقوله صلى الله عليه و سلم لا يزنى الزانى
حين يزنى وهو مؤمن // حديث لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن متفق عليه من حديث
أبي هريرة // وما أراد به نفى الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله
ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصى وإنما أراد به نفى
الإيمان لكون الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم
فلا تتناوله فإذا تناوله يقال تناول وهو غير مؤمن لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود
الطبيب وكونه طبيبا وغير مصدق به بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك فإن
العالم بالسم لا يتناوله أصلا فالعاصى بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان بابا
واحدا بل هو نيف وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق ومثاله قول القائل ليس الإنسان موجودا واحدا بل هو نيف وسبعون موجودا
أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم
الأضافر نقى البشرة عن
الخبث
حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها
وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان
بالكلية كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع
الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح وكما أن
من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التى تخلف عنها
الأعضاء التى تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال
قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة
قدوم ملك الموت ووروده فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر فى الأعمال
فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة
لا ما يسقى بالطاعات على توالى الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصى للمطيع
إنى مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة وأنت شجرة وما أحسن
جواب شجرة الصنوبر إذ قالت ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند
ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة
عن أسباب ثبوت الأشجار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وهذا أمر يظهر عند الخاتمة وإنما انقطع نياط العارفين خوفا من دواعى الموت
ومقدماته الهائلة التى لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصى إذا كان لا يخاف الخلود
في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت
بسبب صحته وأن الموت غالبا لا يقع فجأة فيقال له الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف
الموت وكذلك العاصى يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب
الخلود في النار فالعاصى للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في
الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم
يموت دفعة فكذلك المعاصى فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب
عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور فالخائف من هلاك
الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ
ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافيا لبدنه
المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين وهى
الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة
وهو العمر فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التى فيها النعيم المقيم
والملك العظيم وفى فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذى تتصرم أضعاف أعمار
الدنيا دون عشر عشير مدته إذ ليس لمدته آخر البتة فالبدار البدار إلى التوبة قبل
أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملا يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا
ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه
بأنه من الهالكين ويدخل تحت عموم قوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى
الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا
يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول
المراد بالآية الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون بابا وأن الزانى لا يزنى
حين يزنى وهو مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذى هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن
الإيمان الذى هو أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التى هى حروف وفروع سيساق
إلى الموت المعدم للروح التى هى أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع
ولا
وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع
وبقاءه جميعا يستدعى وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعى وجود الفرع فبقاء
الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم
الفرع والأصل فلا يستغنى أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في
رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثه على العمل فعدمها خير من وجودها فإن
هى لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب
العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم
بيان أن وجوب التوبة عام في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد ألبتة
اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه
المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضا يرشد إليه إذ معنى التوبة
الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل
ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة
التى هى وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة
الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات
جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا
يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور
والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا
والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس
وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم
يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئا فشيئا على
التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال
لأحتنكن ذريته إلا قليلا وإن كمل العقل وقوى كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر
الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة
إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس
في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التى هى عدة الشيطان متقدمة على
غريزته التى هى عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضروريا
في حق كل إنسان نبيا كان أو غبيا فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام
وقد قيل
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانيةهند
بل هو حكم أزلى مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية
التى لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافرا جاهلا فعليه التوبة من جهله وكفره
فإذا بلغ مسلما تبعا لأبويه غافلا عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم
معنى الإسلام فإنه لا يغنى عنه إسلام أبويه شيئا ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك
فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب
حدود الله فى المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه
هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل
شخص يتصور أن يستغنى عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقه الولد لا تتسع لما
لم يتسع له خلقة الوالد أصلا وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو
أن
كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن
والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فإن خلا في بعض الأحوال
عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم
فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله فإن خلا
عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله وكل ذلك نقص وله أسباب
وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده والمراد بالتوبة الرجوع ولا
يتصور الخلو في حق الآدمى عن هذا النقص وإنما يتفاوتون في المقادير فأما الأصل فلا
بد منه ولهذا قال عليه السلام إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم
والليلة سبعين مرة // حديث أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة
سبعين مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر المزنى إلا أنه قال فى اليوم مائة مرة وكذا
عند أبي داود وللبخاري من حديث أبي هريرة إنى لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين
مرة وفي رواية البيهقي في الشعب سبعين لم يقل أكثر وتقدم فى الأذكار والدعوات //
الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وإذا
كان هذا حاله فكيف حال غيره
فإن قلت لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو
عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وأنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال
وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا
فرائض وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة
إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع فما المراد بقولك التوبة واجبة فى كل حال فاعلم
أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدإ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى
التوبة تركها فقط بل تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع
منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمه إلى وجه المرآة الصقيلة فإن
تراكمت ظلمة الشهوات صار رينا كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثا
كما قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا تراكم الرين صار طبعا
فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرأة إذا تراكم وطال زمانه غاص فى جرم الحديد
وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفى في تدارك اتباع
الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التى انطبعت في القلب كما
لا يكفى في ظهور الصور في المرآة قطع الانفاس والبخارت المسودة لوجهها في المستقبل
ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصى
والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحى ظلمة المعصية بنور الطاعة
وإليه الإشارة بقوله عليه السلام أتبع السيئة الحسنة تمحها // حديث اتبع السيئة
الحسنة تمحها أخرجه الترمذي من حديث ابي ذر بزيادة في أوله وآخره وقال حسن صحيح
وقد تقدم في رياضة النفس // فإذن لا يستغنى العبد في حال من أحواله عن محو آثار
السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات هذا في قلب حصل أولا
صفاؤه وجلاؤه ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ ليس شغل
الصقل في إزالة الصدإ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة فهذه أشغال طويلة لا
تنقطع أصلا وكل ذلك يرجع إلى التوبة فأما قولك إن هذا لا يسمى واجبا بل هو فضل
وطلب كمال فاعلم أن الواجب له معنيان أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه
كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو كلف الناس
كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدى ذلك
إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل
الحياكة
والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار والواجب الثاني هو الذي لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبه في الوصول إليه كما يقال الطهارة واجبة في الصلاة للتطوع أى لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها فأما من رضى بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبه عليه لأجلها كما يقال العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان يعنى أنه شرط لمن يريد أن يكون إنسانا كاملا ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا فأما من قنع بأصل الحياة ورضى أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة وأصل النجاة كأصل الحياة وما وراء أصل النجاة من السعادات التى بها تنتهى الحياة يجرى مجرى الاعضاء والآلات التى بها تتهيأ الحياة وفيه سعى الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم وحواليه كان تطوافهم ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجرا في منامه فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة فقال نعم وما الذى حدث فقال توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجبا في فتاوى العامة أفترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم فى صلاته حتى نزعه // حديث نزعه صلى الله عليه و سلم الثوب الذي كان عليه في الصلاة تقدم في الصلاة أيضا // وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق // حديث نزعه الشراك الجديد وإعادة الشراك الخلق تقدم في الصلاة أيضا // لم يعلم أن ذلك ليس واجبا في شرعة الذى شرعه لكافة عباده فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثرا في قلبه أثرا يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن الصديق رضى الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل أصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخليه المعدة عنه وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادىء روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة ولقد صدق أبو سليمان الدارانى حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقى من عمره إلا على تفويت ما مضى منه فى غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد وكل ساعة من العمر بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد وأى جواهر أنفس من هذا فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا وإن صرفتها إلى معصية
فقد
هلكت هلاكا فاحشا فإن كنت لا تبكى على هذه المعصية فذلك لجهلك ومصيبتك بجهلك أعظم
من كل مصيبة لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة فإن نوم الغفلة
يحول بينه وبين معرفته والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فعند ذلك ينكشف لكل مفلس
إفلاسه ولكل مصاب مصيبته وقد رفع الناس عن التدارك
قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقى من عمرك
ساعة وإنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له
الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها
ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلا وهو أول ما يظهر من معانى قوله تعالى وحيل
بينهم وبين ما يشتهون وإليه الإشارة بقوله تعالى من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول
رب لو لا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء
أجلها فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك
الموت أخرنى يوما أعتذر فيه إلى ربى وأتوب وأتزود صالحا لنفسى فيقول فنيت الأيام
فلا يوم فيقول فأخرنى ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فيغلق عليه باب التوبة
فيتغرغر بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة
على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان
سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة وإن سبق له القضاء
بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة ولمثل هذا
يقال وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن
وقوله إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ومعناه
عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم
الرين على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال صلى الله عليه و سلم أتبع السيئة الحسنة
تمحها ولذلك قال لقمان لابنه يا بنى لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتى بغته ومن ترك
المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على
قلبه من المعاصى حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو الثاني أن يعاجله المرض أو
الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ولذلك ورد في الخبر أن أكثر صياح أهل النار من
التسويف // حديث إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لم أجد له أصلا // فما هلك من
هلك إلا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقدا وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه
الموت فيأتى الله بقلب غير سليم ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم فالقلب أمانة
الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة فمن خان في
الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر
قال بعض العارفين إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام أحدهما
إذا خرج من بطن أمه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نظيفا واستودعتك عمرك
وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقانى والثانى عند خروج روحه
يقول عبدى ماذا صنعت في أمانتى عندك هل حفظتها حتى تلقانى على العهد فألقاك على
الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب وإليه الإشارة بقوله تعالى أوفوا بعهدى
أوف بعهدكم وبقوله تعالى والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
بيان
أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهى مقبولة لا محالة
اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في ان كل توبة صحيحة فهى مقبولة فالناظرون
بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله
ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله
تعالى وعلموا أن القلب خلق سليما في الأصل وكل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته
السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك
الغبرة وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة وأنه لا طاقة لظلام المعاصى
مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة
الوسخ مع بياض الصابون وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه فالقلب
المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره وكما أن استعمال الثوب فى الأعمال
الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة فاستعمال القلب في
الشهوات يوسخ القلب وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه وكل قلب
زكى طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول فإنما عليك التزكية والتطهير
وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلى الذي لا مرد له وهو المسمى فلاحا في
قوله قد أفلح من زكاها ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة
بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصى والطاعات تأثرا متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة
كما يستعار للجهل ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم وأن بين النور والظلمة
تضادا ضروريا لا يتصور الجمع بينهما فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ولم يعلق به
إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه ومن
جهل نفسه فهو بغيره أجهل وأعنى به قلبه إذ بقلبه يعرف غير قلبه فكيف يعرف غيره وهو
لا يعرف قلبه فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام
لا يزول والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في
تجاويف الثوب وخلله فلا يقوى الصابون على قلعه فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى
تصير طبعا ورينا على القلب فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب نعم قد يقول باللسان
تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم
يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به فهذا حال امتناع أصل التوبة وهو
غير بعيد بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله
بالكلية فهذا البيان كاف عند ذوى البصائر في قبول التوبة ولكنا نعضد جناحه بنقل
الآيات والأخبار والآثار فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به وقد قال
تعالى وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وقال تعالى غافر الذنب
وقابل التوب إلى غير ذلك من الايات وقال صلى الله عليه و سلملله أفرح بتوبة أحدكم
الحديث والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة وقال صلى الله عليه و سلمإن
الله عز و جل يبسط يده بالتوبة لمسىء الليل إلى النهار ولمسىء النهار إلى الليل
حتى تطلع الشمس من مغربها // حديث إن الله يبسط يده بالتوبة لمسىء الليل إلى
النهار الحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار
الحديث وفي رواية للطبراني لمسىء الليل أن يتوب بالنهار الحديث // وبسط اليد كناية
عن طلب التوبة والطالب وراء القابل فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل وقال
صلى الله عليه و سلملو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم //
حديث لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب عليكم أخرجه ابن ماجه من
حديث أبي هريرة وإسناده حسن بلفظ لو أخطأتم وقال ثم تبتم // وقال أيضا إن العبد
ليذنب
الذنب
فيدخل به الجنة فقيل كيف ذلك يا رسول الله قال يكون نصب عينه تائبا منه فارا حتى
يدخل الجنة // حديث إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة الحديث أخرجه ابن المبارك
في الزهد عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا ولأبى نعيم في الحلية من حديث أبى
هريرة إن العبد ليذنب الذنب فإذا ذكره أحزنه فإذا نظر الله إليه أنه أحزنه غفر له
الحديث وفيه صالح المرى وهو رجل صالح لكنه مضعف في الحديث ولابن أبى الدنيا في
التوبة عن ابن عمر إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه والحديث غير محفوظ قاله
العقيلى // وقال صلى الله عليه و سلمكفارة الذنب الندامة // حديث كفارة الذنب
الندامة أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وفيه يحيى بن
عمرو بن مالك اليشكرى ضعيف // وقال صلى الله عليه و سلمالتائب من الذنب كمن لا ذنب
له
ويروى أن حبشيا قال يا رسول الله إنى كنت أعمل الفواحش فهل لى من توبة قال نعم
فولى ثم رجع فقال يا رسول الله أكان يرانى وأنا أعملها قال نعم فصاح الحبشى صيحة
خرجت فيها روحه // حديث أن حبشيا قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لى من
توبة قال نعم الحديث لم أجد له أصلا //
ويروى أن الله عز و جل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال
وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله تعالى وعزتى وجلالى لا
حجبت عنه التوبة ما دام الروح فيه // حديث إن الله لما لعن ابليس سأله النظرة
فأنظره الى يوم القيامة فقال وعزتك لاخرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح الحديث
أخرجه أحمد وابو يعلى والحاكم وصححه من حديث أبى سعيد ان الشيطان قال وعزتك يا رب
لا أزال أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال وعزتى وجلالى لا أزال أغفر
لهم ما استغفرونى أورده المصنف بصيغة ويروى كذا ولم يعزه الى النبي صلى الله عليه
و سلم فذكرته احتياطا //
وقال صلى الله عليه و سلمإن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ // حديث
ان الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ لم أجده بهذا اللفظ وهو صحيح
المعنى وهو بمعنى أتبع السيئة الحسنة تمحها رواه الترمذي وتقدم قريبا // والأخبار
في هذا لا تحصى
واما الآثار فقد قال سعيد بن المسيب أنزل قوله تعالى إنه كان للأوابين غفورا في
الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب
وقال الفضيل قال الله تعالى بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم وحذر الصديقين
أنى إن وضعت عليهم عدلى عذبتهم
وقال طلق بن حبيب إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبحوا تائبين
وأمسوا تائبين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت
عنه في أم الكتاب
ويروى أن نبينا من أنبياء بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه وعزتى لئن عدت
لأعذبنك فقال يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن فعصمة الله تعالى
وقال بعضهم إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادما حتى يدخل الجنة فيقول إبليس ليتني
لم أوقعه في الذنب
وقال حبيب بن ثابت تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول أما إني قد
كنت مشفقا منه فيغفر له
ويروى أن رجلا سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة فأعرض عنه ابن مسعود ثم
التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا
باب التوبة فإن عليه ملكا موكلا به لا يغلق فاعمل ولا تيأس
وقال عبد الرحمن بن أبي القاسم تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر وقول الله تعالى
إن ينتهوا
يغفر
لهم ما قد سلف فقال إنى لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالا ولقد بلغني أن
توبة المسلم كإسلام بعد إسلام
وقال عبد الله بن سلام لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل إن العبد إذا عمل
ذنبا ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين
قال عمر رضي الله عنه اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة
وقال بعضهم أنا أعلم متى يغفر الله لي قيل ومتى قال إذا تاب على
وقال آخر أنا من أن أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة أي المغفرة من لوازم
التوبة وتوابعها لا محالة
ويروى أنه كان في بنى إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم
نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال إلهى أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك
عشرين سنة فإن رجعت إليك أتقبلنى فسمع قائلا يقول ولا يرى شخصا أحببتنا فأحببناك
وتركتنا فتركناك وعصيتنا فأمهلناك وإن رجعت إلينا قبلناك
وقال ذو النون المصرى رحمه الله تعالى إن لله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق
القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عى
ولا بكم وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ثم شربوا بكأس الصفاء
فورثوا الصبر على طول البلاء ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا
حجب الجبروت واستظلوا تحت رواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع
حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة
المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في
رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا
بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في
بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة فهذا القدر كاف في
بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة
فإن قلت أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله فأقول لا أعنى
بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله إن الثوب إذا
غسل بالصابون وجب زوال الوسخ وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش وأنه إذا
منع الماء مدة وجب العطش وأنه إذا دام العطش وجب الموت وليس في شىء من ذلك ما
يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى بل أقول خلق الله تعالى الطاعة مكفرة
للمعصية والحسنة ماحية للسيئة كما خلق الماء مزيلا للعطش والقدرة متسعة بخلافه لو
سبقت به المشيئة فلا واجب على الله تعالى ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب
كونه لا محالة
فإن قلت فما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه
فلم يشك فيه فأقول شكه فى القبول كشكه فى وجود شرائط الصحة فإن للتوبة أركانا
وشروطا دقيقة كما سيأتى وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه
للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال
والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه وجودة عقاقيره وأدويته فهذا وأمثاله موجب للخوف
بعد التوبة وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتى في شروطها إن شاء الله
تعالى
الركن
الثاني فيما عنه التوبة وهى الذنوب صغائرها وكبائرها
اعلم أن التوبة ترك الذنب ولا يمكن ترك الشىء إلا بعد معرفته وإذا كانت التوبة
واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا فمعرفة الذنوب إذن واجبة والذنب عبارة
عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل وتفصيل ذلك يستدعى شرح التكليفات
من أولها إلى آخرها وليس ذلك من غرضنا ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها
والله الموفق للصواب برحمته
بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد
اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب
وغوائله ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات صفات ربوبية وصفات شيطانية وصفات
بهيمية وصفات سبعية وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من
الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضى السكر والخل والزعفران في
السكنجبين آثارا مختلفة فأما ما يقتضى النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر
والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على
الكافة حتى كأنه يريد أن يقول أنا ربكم الأعلى وهذا يتشعب منه جملة من كبائر
الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوبا وهى المهلكات العظيمة التى هى كالأمهات
لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات الثانية هى الصفة الشيطانية التى
منها يتشعب الحسد والبغى والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وفيه يدخل الغش
والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره
والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ومنه يتشعب الزنا واللوط والسرقة وأكل
مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات الرابعة الصفة السبعية ومنها يتشعب الغضب
والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ويتفرع عنها جمل
من الذنوب وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة فالصفة البهيمية هى التى تغلب أولا ثم
تتلوها الصفة السبعية ثانيا ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة
وهى الصفة الشيطانية ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهى الفخر والعز والعلو وطلب
الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر
الذنوب من هذه المنابع على الجوارح فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق
وإضمار السوء للناس وبعضها على العين والسمع وبعضها على اللسان وبعضها على البطن
والفرج وبعضها على اليدين والرجلين وبعضها على جميع البدن ولا حاجة إلى بيان تفصيل
ذلك فإنه واضح
قسمة ثانية أعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق
بحقوق العباد فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما
يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل
متناول من حق الغير فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه وتناول الدين
بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصى وتهييج أسباب الجراءة على الله
تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف وما يتعلق بالعباد
فالأمر فيه أغلظ وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركا فالعفو فيه أرجى
وأقرب وقد جاء فى الخبر الدواوين ثلاثة ديوان يغفر وديوان لا يغفر وديوان لا يترك
فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر
فالشرك
بالله
تعالى وأما الديوان الذي لا يترك فمظالم العباد // حديث الدواوين ثلاثة ديوان يغفر
الحديث أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقه بن موسى الدقيقىضعفه ابن
معين وغيره وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبراني // أي لا بد وأن يطالب بها حتى
يعفى عنها
قسمة ثالثة أعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر وقد كثر اختلاف الناس فيها فقال
قائلون لا صغيرة ولا كبيرة بل كل مخالفة لله فهى كبيرة وهذا // ضعيف // إذ قال
تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقال
تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وقال صلى الله عليه و سلم
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر // حديث
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن ان اجتنبت الكبائر رواه مسلم من
حديث أبى هريرة // وفى لفظ آخر كفارات لما بينهن إلا الكبائر وقد قال صلى الله
عليه و سلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص الكبائر الإشراك بالله وعقوق
الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس // حديث عبد الله بن عمرو الكبائر الإشراك
بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمن الغموس رواه البخاري // واختلف الصحابة
والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك فقال
ابن مسعود هن أربع وقال ابن عمر هن سبع وقال عبد الله بن عمرو هن تسع وكان ابن
عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع وقال
مرة كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وقال غيره كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من
الكبائر وقال بعض السلف كل ما أوجب عليه الحد فى الدنيا فهو كبيرة وقيل إنها مبهمة
لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة وقال ابن مسعود لما سئل عنها اقرأ من
أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
فكل ما نهى الله عنه فى هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة وقال أبو طالب المكى الكبائر
سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار // الأخبار الواردة في الكبائر حكى المصنف عن أبي
طالب المكى أنه قال الكبائر سبع عشرة جميعها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من
قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم الشرك بالله والإصرار على معصيته والقنوط
من رحمته والأمن من مكره وشهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس والسحر وشرب
الخمر والمسكر وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا والزنا واللواط والقتل والسرقة
والفرار من الزحف وعقوق الوالدين انتهى وسأذكر ما ورد منها مرفوعا وقد تقدم أربعة
منها في حديث عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع
الموبقات قالوا يا رسول الله وما هى قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم
الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات
المؤمنات ولهما من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك بالله وعقوق
الوالدين وشهادة الزور أو قال قول الزور ولهما من حديث أنس سئل عن الكبائر قال
الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول
الزور أو قال شهادة الزور ولهما من حديث ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه و
سلم أى الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة
أن يطعم معك قلت ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك وللطبرانى من حديث سلمة بن قيس
إنما هى أربع لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا
تزنوا ولا تسرقوا وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت بايعونى على أن لا تشركوا
بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس الخمر أم
الفواحش وأكبر الكبائر وفيه موقوفا على عبد الله بن عمرو أعظم الكبائر شرب الخمر
وكلاهما ضعيف وللبزار من حديث ابن عباس بإسناد حسن أن رجلا قال يا رسول الله ما
الكبائر قال الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله وله من حديث
بريدة أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل وفيه
صالح ابن حبان ضعفه ابن معين والنسائى وغيرهما وله من حديث أبى هريرة الكبائر
أولهن الاشراك بالله وفيه والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته وفيه خالد بن يوسف
السمين ضعيف وللطبراني في الكبير من حديث سهل بن أبى حثمة في الكبائر والتعرب بعد
الهجرة وفيه ابن لهيعة وله في الأوسط من حديث أبى سعيد الخدري الكبائر سبع وفيه
والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة وفيه أبو بلال الأشجرى ضعفه الدارقطنى وللحاكم
من حديث عبيد بن عمير عن أبيه الكبائر تسع فذكر منها // وجملة ما اجتمع من قول ابن
عباس وابن مسعود وابن عمر
واستحلال البيت الحرام وللطبرانى من حديث واثلة إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل وله أيضا من حديثه إن من أكبر الكبائر أن ينتفى الرجل من ولده ولمسلم من حديث جابر بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو من الكبائر شتم الرجل والديه ولأبى داود من حديث سعيد بن زيد من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وإنه الكبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بول الحديث ولأحمد في هذه القصة من حديث أبي بكرة أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس الحديث ولأبى داود والترمذي من حديث أنس عرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها سكت عليه أبو داود واستغر به البخاري والترمذي وروى ابن أبى شيبة في التوبة من حديث ابن عباس لا صغيرة مع إصرار وفيه أبو شيبة الخراسانى والحديث منكر يعرف به وأما الموقوفات فروى الطبرانى والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمه الله واليأس من روح الله وروى البيهقي فيه عن ابن عباس قال الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وعقوق الوالدين وقتل النفس التى حرم الله وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا والسحر والزنا واليمين الغموس الفاجرة والغلول ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمان الشهادة وشرب الخمر وترك الصلاة متعمدا وأشياء مما فرضها الله ونقض العهد وقطيعة الرحم وروى ابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عباس كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة وفيه الربيع بن صبيح مختلف فيه وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قوله لا صغيرة مع الإصرار وإسناده جيد فقد اجتمع من المرفوعات والموقوفات ثلاثة وثلاثون أو اثنان وثلاثون إلا أن بعضها لا يصح إسناده كما تقدم وإنما ذكرت الموقوفات حتى يعلم ما ورد في المرفوع وما ورد في الموقوف وللبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هى إلى السبعين أقرب وروى البيهقي أيضا فيه عن ابن عباس قال كل ما نهى الله عنه كبيرة والله اعلم // وغيرهم أربعة في القلب وهى الشرك بالله والإصرار على معصيته والقنوط من رحمته والأمن من مكره وأربع في اللسان وهى شهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس وهى التى يحق بها باطلا أو يبطل بها حقا وقيل هى التى يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلا ولو سواكا من أراك وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة وثلاث في البطن وهى شرب الخمر والسكر من كل شراب وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وهو يعلم واثنتان في الفرج وهما الزنا واللواط واثنتان في اليدين وهما القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهى الفرار من الزحف الواحد من اثنتين والعشرة من العشرين وواحدة في جميع الجسد وهى عقوق الوالدين قال وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما وأن يسباه فيضربهما ويجوعان فلا يطعمهما هذا ما قاله وهو قريب ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر وهى جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله كيف وفي الخبر من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم // حديث من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبى داود من حديث سعيد بن زيد والذي عندهما من حديثه من أربى الربا استطالة الرجل في عرض المسلم بغير حق كما تقدم // وهذا زائد على قذف المحصن وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكبائر // حديث أبى سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم تعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكبائر أخرجه أحمد والبزار بسند صحيح وقال من الموبقات بدل الكبائر ورواه البخاري من حديث أنس وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن قرص وقال صحيح الاسناد // وقالت طائفة كل عمد كبيرة وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة
أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها كقول القائل السرقة حرام أم لا ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ثم البحث عن وجوده في السرقة فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه وصغير بالإضافة إلى ما فوقه فالمضاجعة مع الأجنبية بالاضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربة صغيرة بالاضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ونعنى بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبه واجبة عظيم وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهى عنه فيقول تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة بالاضافة إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها فهذه الإطلاقات لا حرج فيها وما نقل من ألفاظ الصحابه يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شىء من هذه الاحتمالات نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقول رسول اللهA الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر فإن هذا إثبات حكم الكبائر والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر وإلى ما يشك فيه فلا يدرى حكمه فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن يقول إني أردت بالكبائر عشرا أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ ثلاث من الكبائر // حديث ثلاث من الكبائر أخرجه الشيخان من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث الحديث وقد تقدم // وفي بعضها سبع من الكبائر // حديث سبع من الكبائر رواه الطبرانى في الأوسط من حديث أبى سعيد الكبائر سبع وقد تقدم وله في الكبير من حديث عبد الله بن عمر من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر الحديث ثم عدهن سبعا وتقدم عن الصحيحين حديث أبى هريرة اجتنبوا السبع الموبقات // ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع وربما قصد الشرع ابهامه ليكون العباد منه على وجل كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها نعم لنا سبيل كلى يمكننا ان نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ونعرف أيضا أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله وإليه الإشارة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيد لى ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا وهو المعنى بقوله عليه الصلاة و السلام الدنيا مزرعة الآخرة // حديث الدنيا مزرعة الآخرة لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته الحديث وإسناده ضعيف // فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التى بها حياة الناس فهذه ثلاث مراتب فحفظ
المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربة بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضا عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ولا أن يكون آيسا ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهى تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضى إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التى لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغى أن يكون الزنا فى الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضى إلى التقاتل وينبغى أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغى أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهى السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضا من الخفية وأعنى به في حق الولى والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضى مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع
في
مثله وإذا لم يجعل الغضب الذى هو أكل مال الغير بغيره رضاه وبغير رضا الشرع من
الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون رضا الشرع وإن عظم الشرع الزنا
بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق
بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى
انه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغى أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه
ليكون ضروريا في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار
من الزحف وحقوق الوالدين أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر
وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة
بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجرى في قطرة
من الخمر فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو
شرب ماء نجس والقطرة وحدها في محل الشك وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره
فيعد ذلك من الكبائر بالشرع وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع فإن
ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا فللتوقف فيه مجال وأما القذف فليس فيه إلا
تناول الأعراض والأعراض دون الأموال في الريبة ولتناولها مراتب وأعظمها التناول بالقذف
بالإضافة إلى فاحشة الزنا وقد عظم الشرع أمره وأظن ظنا غالبا أن الصحابة كانوا
يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس وهو الذي
نريده بالكبيرة الآن ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا
يدل على كبره وعظمته بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنسانا
يزنى فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته فحده ليس
ضروريا في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة
الحاجات فإذن هذا أيضا يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع فأما من ظن أن له أن
يشهد وحده أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغى أن يجعل في حقه من الكبائر
وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك
نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضا ينبغى أن يكون
من حيث القياس في محل التوقف وإذا قطع بأن سب الناس بكل شىء سوى الزنا وضربهم
والظلم لهم بغصب اموالهم وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم وإجلائهم من أوطانهم ليس من
الكبائر إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه فالتوقف في هذا
أيضا غير بعيد ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر فإذا رجع حاصل
الأمر إلى أنا نعنى بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم إلى
ما علم أنه لا تكفره قطعا وإلى ما ينبغى أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه والمتوقف فيه
بعضه مظنون للنفى والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة
وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال
فإن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة
حده فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام لأن
دار التكليف هى دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها
كبيرة بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما وإنما حكم
الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى
يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس وكذلك
اجتناب الكبائر
يكفر
الصغائر بموجب قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ولكن
اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من
امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه
بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا
معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا
ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل من يشتهى الخمر بطبعه ولو
أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هى مقدماته كسماع الملاهى
والأوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها
في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية
السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات
فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بعد ولا حد جامع بل ورد بألفاظ مختلفات
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول اللهA الصلاة إلى الصلاة
كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة //
حديث الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله
وترك السنة ونكث الصفقة الحديث أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة نحوه وقال صحيح
الإسناد // قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلا ثم
يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على
حد جامع فيبقى لا محالة مبهما
فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطا في
قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا
خلاف في أن من يسمع الملاهى ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أوانى
الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال
الشافعى رضي الله عنه إذا شرب الحنفى النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة
بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على
الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا
بضرورة مجارى العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب فى بعض الأقوال وسماع
الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام
وضربهما بحكم الغضب زائدا على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار
والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا
يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور
الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقى على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا
قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهى واللعب
بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من
هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغى أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى
الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التى لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر
في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم
والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج
والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر
بيان
كيفية نوزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في
الدنيا
اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة والآخرة من عالم الغيب والملكوت
وأعنىبالدنيا حالتك قبل الموت وبالآخرة حالتك بعد الموت في فدنياك وآخرتك صفاتك
وأحوالك يسمى القريب الدانى منها دنيا والمتأخر آخرة ونحن الآن نتكلم من الدنيا فى
الآخرة فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة وهى عالم
الملكوت ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ولذلك قال
تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وهذا لأن عالم الملك نوم
بالإضافة إلى عالم الملكوت ولذلك قال صلى الله عليه و سلم الناس نيام فإذا ماتوا
انتبهوا // حديث الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لم أجده مرفوعا وإنما يعزى إلى على
بن أبى طالب // وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى
التعبير فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة
الأمثال وأعنى بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير ويكفيك منه إن كنت فطنا
ثلاثة أمثلة
فقد جاء رجل إلى ابن سرين فقال رأيتك كأن في يدى خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج
النساء فقال إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر قال صدقت وجاء رجل آخر فقال
رأيت كأنى أصب الزيت في الزيتون فقال إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها
فإن أمك سبيت في صغرك لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد الى الأصل فنظر فإذا جاريته
كانت أمه وقد سبيت في صغره وقال له آخر رأيت كأنى أقلد الدر في أعناق الخنازير
فقال إنك تعلم الحكمة غير أهلها فكان كما قال والتعبير من أوله إلى آخره أمثال
تعرفك طريق ضرب الأمثال وإنما نعنى بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه
وجده صادقا وإن نظر إلى صورته وجده كاذبا فالمؤذن إن نظر إلى صورة الخاتم والختم
به على الفروج رآه كاذبا فإنه لم يختم به قط وإن نظر إلى معناه وحده صادقا إذ صدر
منه روح الختم ومعناه وهو المنع الذي يراد الختم له وليس للأنبياء أن يتكلموا مع
الخلق إلا بضرب الأمثال لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم
أنهم في النوم والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن
المثل صادق ولذلك قال صلى الله عليه و سلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن
// حديث قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن تقدم // وهو من المثال الذي لا
يعقله إلا العالمون فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي
يسمى تأويلا كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيرا فيثبت لله تعالى
يدا واصبعا تعالى الله عن قوله علوا كبيرا وكذلك في قوله صلى الله عليه و سلم إن
الله خلق آدم على صورته // حديث ان الله خلق آدم على صورته تقدم // فإنه لا يفهم
من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك تعالى الله عن قوله
علوا كبيرا من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتا وحرفا إلى
غير ذلك من الصفات والقول فيه يطول وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثله يكذب بها
الملحد بجمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده كقوله صلى الله عليه و سلم يؤتى
بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح // حديث يؤتى بالموت يوم القيامة في
صورة كبش أملح فيذبح الحديث متفق عليه من حديث أبى سعيد // فيثور الملحد الأحمق
ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول يا سبحان الله الموت عرض والكبش جسم فكيف
ينقلب العرض جسما وهل هذا إلا
محال ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال وما يعقلها إلا العالمون ولا يدرى المسكين أن من قال رأيت في منامى أنه جىء بكبش وقيل هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال المعبر صدقت والأمر رأيت وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط لأن المذبوح وقع اليأس منه فإذن المعبر صادق في تصديقه وهو صادق في رؤيته وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما في اللوح المحفوظ بمثال ضربه له لأن النائم إنما يحتمل المثال فكان مثاله صادقا وكان معناه صحيحا فالرسل أيضا إنما يكلمون الناس في الدنيا وهى بالإضافة إلى الآخرة نوم فيوصلون المعانى إلى أفهامهم بالأمثله حكمة من الله ولطفا بعباده وتيسيرا لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل فقوله يؤتى بالموت في صورة كبش أملح مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعانى فيها بواسطتها ولذلك عبر القرآن بقوله كن فيكون عن نهاية القدرة وعبر صلى الله عليه و سلم بقوله قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن عن سرعة التقليب وقد أشرنا إلى حكمه ذلك في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته فنقول الناس في الآخرة ينقسمون أصنافا وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلا ألبته فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها إلا أنا إن عجزنا عن احصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس فنقول الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام هالكين ومعذبين وناجين وفائزين ومثاله في الدنيا أن يستولى ملك من الملوك على اقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون ويخلى بعضهم فهم الناجون ويخلع على بعضهم فهم الفائزون فان كان الملك عادلا لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحدا لاستحقاق الملك معاندا له في أصل الدولة ولا يعذب الا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته ولا يخلى إلا معترفا له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه ولا يخلع الا على من ابلى عمره في الخدمة والنصرة ثم ينبغى أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة واهلاك الهالكين إما تحقيقا بجز الرقبة أو تنكيلا بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد انواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم فتقسم كل رتبة من هذه الرتب الى درجات لا تحصى ولا تنحصر فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون فمن هالك ومن معذب مدة ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز والفائزون ينقسمون الى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلف سنة وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر // حديث ان آخر من يخرج من النار يعذب سبعة آلأف سنة أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبى هريرة في بسند ضعيف في حديث قال فيه وأطولهم مكثا فيه مثل الدنيا من يوم خلقت إلى يوم القيامة وذلك سبعة آلاف سنة // وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصى فلنذكر كيفية توزعها عليها
الرتبة
الأولى وهى رتبة الهالكين ونعنى بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي
قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معانى
المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين
بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا
ينال أصلا إلا بالمعرفة التى يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون
والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب
العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من
محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم
بنار الفراق ولذلك قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاءونا للحور العين
وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيمكأن
يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما
الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا
استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نار الله الموقدة التى
تطلع على الأفئدة ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم
الفؤاد ولذلك قيل
وفي فؤاد المحب نار جوى ... أحر نار الجحيم أبردها
ولا ينبغى أن تنكر هذا في عالم الآخرة إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤى من
غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط
غلبه ما في قلبه وترى الغضبان يستولى عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا
يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
الغضب قطعة من النار // حديث الغضب قطعة من النار أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد
نحوه وقد تقدم // واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد والأشد يبطل الإحساس
بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرق بين جزءين
يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين
محبوبه الذي يرتبط به برابطة تأليف أشد إحكاما من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاما إن
كنت من أرباب البصائر وأرباب القلوب ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا
الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم فالصبى لو خير بين ألم الحرمان على الكرة
والصولجان وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان
أصلا ولم يعد ذلك ألما وقال العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلى من ألف سرير للسلطان
مع الجلوس عليه بل من تغلبة شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل
يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى
الذي بوجوده يصير الجاه محبوبا ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذا وذلك
لمن استرقته صفات البهائم والسباع ولم تظهر فيه صفات الملائكة التى لا يناسبها ولا
يلذها إلا القرب من رب العالمين ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب وكما لا يكون الذوق
إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب
له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور والألوان
وليس لكل إنسان قلب ولو كان لما صح قوله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب
فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلسا من القلب ولست أعنى بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام
الصدر بل أعنى به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه
والصدر كرسيه وسائر الأعضاء
عالمه
ومملكته ولله الخلق والأمر جميعا ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه قل الروح
من أمر ربى هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيبا وعالم الأمر
أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التى إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد
عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادىء روائح المعنى المطوى
تحت قوله صلى الله عليه و سلمإن الله خلق آدم على صورته ونظر بعين الرحمة الى
الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين
على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة
أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه
من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحكمته يختص بها من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى
خيرا كثيرا ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلاى من
علوم المعاملات التى نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال
المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لا تدخل تحت
الحصر فلذلك لم نوردها
الرتبة الثانية رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء
بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد وهو أن لا يعبد إلا الله ومن اتبع هواه فقد
اتخذ إلهه هواه فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى
قوله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهو أن تذر في بالكلية غير الله ومعنى
قوله تعالى الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولما كان الصراط المستقيم الذي لا
يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأخذ من السيف مثل الصراط الموصوف
في الآخرة فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير إذ لا يخلو عن اتباع
الهوى ولو في فعل قليل وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم
فذلك يقتضى لا محالة نقصانا في درجات القرب ومع كل نقصان ناران نار الفراق لذلك
الكمال الفائت بالنقصان ونار جهنم كما وصفها القرآن فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم
معذبا مرتين من وجهين ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون
بسبب أمرين أحدهما قوة الإيمان وضعفه والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته وإذ لا يخلو
بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين قال الله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على
ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ولذلك قال الخائفون
من السلف إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا فى النجاة ولما روى
الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادى يا حنان يا منان //
حديث من يخرج من النار بعد ألف عام أنه ينادى يا حنان يا منان أخرجه أحمد وأبو
يعلي من رواية أبى ظلال القسملى عن أنس وأبو ظلال ضعيف واسمه هلال بن ميمون // قال
الحسن يا ليتنى كنت ذلك الرجل واعلم أن فى الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من
النار بعد سبعة آلاف سنة وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة حتى
قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث وبين اللحظة وبين سبعة
آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والاسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة
لا نهاية لأعلاه وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب كما أن الملك قد يعذب بعض
المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو وقد يضرب بالسياط وقد يعذب بنوع
آخر من العذاب ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف
الأنواع إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذاب بأخذ المال وقتل الولد
واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد
والأنف والأذن وغيره فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع وهى بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها وأما كثرته فبكثرتها وأما اختلاف أنواعه فباختلاف أنواع السيئات وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان وهو المعنى بقوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وبقوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت وبقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وبقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه وجانب العفو والرحمه أرجح إذ قال تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه و سلمسبقت رحمتى غضبى // حديث سبقت رحمتى غضبD أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة // وقال تعالى وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فإذن هذه الأمور الكلية من ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظنا ومستندة ظواهر الأخبار ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار فنقول كل من أحكم أصل الإيمان واجتنب جميع الكبائر وأحسن جميع الفرائض أعنى الأركان الخمسة ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته إذ ورد في الأخبار أن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفرا للصغائر وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدفع الحساب وكل من هذا حالة فقد ثقلت موازينه فينبغى أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية نعم التحاقه بأصحاب اليمين أو بالمقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى فكذلك يتبع أصناف الإيمان لأن الإيمان إيمانان تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه وإيمان كشفى يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى وهم أيضا على أصناف فمنهم السابقون ومنهم من دونهم وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر إذ الإحاطة بكلمة جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازلة فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم وأما المؤمن إيمانا تقليديا فمن أصحاب اليمين ودرجته دون درجة المقربين وهم أيضا على درجات فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين هذا حال من اجتنب كل الكبائر وأدى الفرائض كلها أعنى الأركان الخمسة التى هى النطق بكلمة الشهادة باللسان والصلاة والزكاة والصوم والحج فأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام فإن تاب توبة نصوحا قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلا وإن مات قبل التوبة فهذا أمر مخطر عند الموت إذ ربما يكون موته على الإصرار سببا لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة لا سيما إذا كان إيمانه تقليديا فإن التقليد وإن كان جزما فهو قابل للانحلال=
8. إحياء علوم
الدين محمد بن محمد الغزالي أبو حامد
بأدنى شك وخيال والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذابا يزيد على عذاب المناقشة في الحساب وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر ومن حيث اختلاف النوع بحسب اختلاف أصناف السيئات وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البلة المقلدون في درجات أصحاب اليمين والعارفون المستبصرون في أعلى عليين ففي الخبر آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف // حديث إن آخر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف متفق عليه من حديث ابن مسعود // فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام كأن يقابل فرسخ بفرسخين أو عشرة بعشرين فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال بل هذا كقول القائل أخذ منه جملا وأعطاه عشرة أمثاله وكان الجمل يساوى عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار لو وضعت فى كفه الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشر عشيرة بل هو موازنة معانى الأجسام وأرواحها دون أشخاصها وهياكلها فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته فروحه المالية وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار وقال أعطيته عشرة أمثاله كان صادقا ولكن لا يدرك صدقه إلا الجوهريون فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصر فلذلك يكذب به الصبى بل القروى والبدوى ويقول ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله إنى أعطيته عشرة أمثاله والكاذب بالتحقيق هو الصبى ولكن لا سبيل الى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي يدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف له الصدق والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الموازنة إذ يقول صلى الله عليه و سلم الجنة في السموات // حديث كون الجنة في السموات أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة في أثناء حديث فيه فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن // كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبى تلك الموازنة وكذلك تفهيم البدوى وكما أن الجوهرى مرحوم إذا بلى بالبدوى والقروى في تفهيم تلك الموازنة فالعارف مرحوم إذ يلى بالبليد الأبلة في تفهيم هذه الموازنة ولذلك قال صلى الله عليه و سلم ارحموا ثلاثة عالما بين الجهال وغنى قوم افتقر وعزيز قوم ذل // حديث ارحموا ثلاثة عالما بين الجهال الحديث أخرجه ابن حبان في الضعفاء من رواية عيسى بن طهمان عن أنس وعيسى ضعيف ورواه فيه من حديث ابن عباس إلا أنه قال عالم تلاعب به الصبيان وفيه أبو البحترى واسمه وهب بن وهب أحد الكذابين // والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلى وهو المعنى بقوله صلى الله عليه و سلمالبلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل // حديث البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل أخرجه الترمذي وصححه والنسائى في الكبرى وابن ماجه من حديث سعد بن أبى وقاص وقال قلت يا رسول الله أى الناس أشد بلاء فذكره دون ذكر الأولياء وللطبرانى من حديث فاطمة أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون الحديث // فلا تظنن أن البلاء بلاء أيوب عليه السلام وهو الذى ينزل بالبدن فإن بلاء نوح عليه السلام أيضا من البلاء العظيم إذ بلى بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارا ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكلام بعض الناس قال رحم الله أخى موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر // حديث رحم الله أخى موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود // فإذن لا تخلو الأنبياء
عن الابتلاء بالجاحدين ولا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين ولذلك قلما ينفك الاولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع البلاء بالإخراج من البلاد والسعاية بهم الى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين كما يجب ان يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة و السلام إنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حمارا برجلين لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وإنما أنت مفارق للحمار بسر إلهى عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذى فارقت به الحمار وسائر البهائم فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله وقنع بدرجة البهائم ولم يجاوز المحسوسات فهو الذى أهلك نفسه بتعطيلها ونسيها بالإعراض عنها فلا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسى الله إذ ليس ذات الله مدركا في هذا العالم بالحواس الخمس وكل من نسى الله أنساه الله لا محالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقى إلى الأفق الأعلى وخان في الأمانة التى أودعه الله تعالى وأنعم عليه كافرا لأنعمه ومتعرضا لنقمته إلا انه أسوأ حالا من البهيمة فإن البهيمة تتخلص بالموت وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها فإليه مرجع الأمانة ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفانى وغربت فيه وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها وتعود إلى بارئها وخالقها إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين ولذلك قال تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رءوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال فهذا حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر ولا يخرج من النار إلا موحد ولست أعنى بالتوحيد أن يقول بلسانه لا إله إلا الله فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله ومدة الرقبة والمال مدة الحياة فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان وإنما ينفع الصدق فى التوحيد وكمال التوحيد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجرى عليه إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتى تحقيقه فى التوكل وهذا التوحيد متفاوت فمن الناس من له من التوحيد مثل الجبال ومنهم من له مثقال ومنهم من له مقدار خردلة وذرة فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار وفي الخبر يقال أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان // حديث اخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان الحديث تقدم // وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم يخرجون بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد فديوان العباد هو الديوان الذى لا يترك فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها ففى الأثر إن العبد
ليوقف
بين يدي الله تعالى وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة
فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب عرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته
حتى لا تبقى له حسنة فتقول الملائكة يا ربنا هذا قد فنيت حسناته وبقى طالبون كثير
فيقول الله تعالى ألقوا من سيئاتهم على سيئاته وصكوا له صكا إلى النار وكما يهلك
هو بسيئة غيره بطريق القصاص فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم إذ ينقل إليه عوضا
عما ظلم به وقد حكى عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال
لا أفعل ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها وقال هو وغيره ذنوب إخوانى من
حسناتى أريد أن أزين بها صحيفتي فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد فى
المعاد في درجات السعادة والشقاوة وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهى حكم الطبيب على
مريض بأنه يموت لا محالة ولا يقبل العلاج وعلى مريض آخر بأن عارضة خفيف وعلاجه هين
فإن ذلك ظن يصيب في أكثر الأحوال ولكن قد تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من حيث
لا يشعر الطبيب وقد يساق إلى ذى العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه وذلك من
أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التى رتبها مسبب الأسباب
بقدر معلوم إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها فكذلك النجاة والفوز في الآخرة
لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها يعبر عن ذلك السبب الخفى المفضى
إلى النجاة بالعفو والرضا عما يفضى إلى الهلاك بالغضب والانتقام ووراء ذلك سر
المشيئة الإلهية الأزلية التى لا يطلع الخلق عليها فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو
عن المعاصى وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة
فإن الاعتماد على التقوى والتقوى في القلب وهو اغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف
غيره ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد الا بسبب خفى فيه يقتضى العفو
ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضى البعد عن الله تعالى ولو لا ذلك لم يكن العفو والغضب
جزاء على الأعمال والأوصاف ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلا ولو لم يكن عدلا لم يصح
قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد ولا قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وكل
ذلك صحيح فليس للإنسان إلا ما سعى وسعيه هو الذى يرى وكل نفس بما كسبت رهينة فلما
زاغوا أزاغ الله قلوبهم ولما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم تحقيقا لقوله تعالى
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب
انكشافا أوضح من المشاهدة بالبصر إذ للبصر يمكن الغلط فيه إذ قد يرى البعيد قريبا
والكبير صغيرا ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها وإنما الشأن في انفتاح بصيرة
القلب وإلا فما يرى بها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب وإليه الإشارة بقوله
تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى
الرتبة الثالثة رتبة الناجين وأعنى بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز وهم
قوم لم يخدموا فيخلع عليهم ولم يقصروا فيعذبوا ويشبه أن يكون هذا حال المجانين
والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد وعاشوا
على البله وعدم المعرفة فلم يكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية فلا وسيلة
تقربهم ولا جناية تبعدهم فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار بل ينزلون في منزلة
بين المنزلتين ومقام بين المقامين عبر الشرع عنه بالأعراف وحلول طائفة من الخلق //
حديث حلول طائفة من الخلق الأعراف أخرجه البزار من حديث أبى سعيد الخدري سئل رسول
الله صلى الله عليه و سلم عن أصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم
عصاة لآبائهم فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ومنعتهم المعصيبة أن يدخلوا الجنة
وهم على سور بين الجنة والنار الحديث وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف
ورواه الطبرانى من رواية // فيه معلوم يقينا من الآيات والأخبار ومن
أبى
معشر عن يحيى بن شبل عن عمر بن عبد الرحمن المدنى عن أبيه مختصرا وابو معشر تجيح
السندى ضعيف ويحيى بن شبل لا يعرف وللحاكم عن حذيفة قال أصحاب الأعراف قوم تجاوزت
بهم حسناتهم النار وقصرت سيئاتهم من الجنة الحديث وقال صحيح على شرط الشيخين وروى
الثعلبى عن ابن عباس قال الأعراف موضع عال في الصراط عليه العباس وحمزة وعلى وجعفر
الحديث هذا كذب موضوع وفيه جماعة من الكذابين // أنوار الاعتبار فأما الحكم على
العين كالحكم مثلا بأن الصبيان منهم فهذا مظنون وليس بمستيقن والاطلاع عليه تحقيقا
في عالم النبوة ويبعد أن ترتقي إليه رتبة الأولياء والعلماء والأخبار في حق
الصبيان أيضا متعارضة حتى قالت عائشة رضى الله عنها لما مات بعض الصبيان عصفور من
عصافير الجنة فأنكر ذلك الرسول الله صلى الله عليه و سلم وقال وما يدريك // حديث
عائشة أنها قالت لما مات بعض الصبيان عصفور من عصافير الجنة فانكر ذلك رسول الله
وقال ما يدريك رواه مسلم قال المصنف والأخبار في حق الصبيان متعارضة قلت روى
البخارى من حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم وفيه وأما الرجل
الطويل الذى في الروضة فإبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على
الفطرة فقيل يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وللطبرانى من حديثه
سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين فقال هم خدمة أهل الجنة
وفيه عباد بن منصور الناجى قاضى البصرة وهو ضعيف يروية عن عيسى ابن شعيب وقد ضعفه
ابن حبان وللنسائى من حديث الأسود بن سريع كنا في غزاة لنا الحديث في قتلى الذرية
وفيه ألا إن خياركم أبناء المشركين ثم قال لا تقتلوا ذرية وكل نسمة تولد على
الفطرة الحديث وإسناده صحيح وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة كل مولود يولد على
الفطرة الحديث وفى رواية لأحمد ليس مولود يولد إلا على هذه الملة ولأبي داود في
آخر الحديث يا رسول الله فرأيت من يموت وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين
فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث ثابت بن الحارث الأنصاري كانت
يهودى إذا هلك لهم صبى صغير قالوا هو صديق فقال النبي صلى الله عليه و سلم كذبت
يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقى أو سعيد الحديث وفيه عبد الله
بن لهيعة ولأبى داود من حديث ابن مسعود الوائدة والموءودة في النار وله من حديث
عائشة قلت يا رسول الله ذرارى المؤمنين فقال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم
بما كانوا عاملين قلت فذراري المشركين قال مع آبائهم قلت بلا عمل قال الله أعلم
بما كانوا عاملين وللطبرانى من حديث خديجة قلت يا رسول الله أين أطفالى منك قال في
الجنة قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين قلت أطفالى قبلك قال في النار
قلت بلا عمل قال لقد علم الله ما كانوا عاملين وإسناده منقطع بين عبد الله بن
الحارث وخديجة وفى الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة في أولاد المشركين هم من
آبائهم وفى رواية هم منهم // فإذن الإشكال والاشتباه أغلب فى هذا المقام
الرتبة الرابعة رتبة الفائزين وهم العارفون دون المقلدين وهم المقربون السابقون
فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين وهؤلاء
هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان والقدر الممكن ذكره ما فصله القرآن
فليس بعد بيان الله بيان والذى لا يمكن التعبير عنه فى هذا العالم فهو الذى أجمله قوله
تعالى فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين وقوله عز و جل أعددت لعبادى الصالحين
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عل قلب بشر والعارفون مطلبهم تلك الحالة التى
لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن
والعسل والخمر والحلى والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها
ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهى غاية السعادات ونهاية
اللذات ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها كيف رغبتك في الجنة فقالت الجار
ثم الدار فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها بل عن كل شىء سواه حتى عن
أنفسهم ومثالهم مثال العاشق المستهتر بمعشوقة المستوفى همه بالنظر إلى وجهه والفكر
فيه فإنه فى الحال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه ويعبر على هذه
الحالة بأنه فنى عن نفسه ومعناه أنه صار مستغرقا بغيره وصارت همومه هما واحدا وهو
محبوبه ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لانفسه ولا غير نفسه وهذه
الحالة هى التى توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن
تخطر
في هذا العالم على قلب بشر كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان والألحان على قلب
الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره فعند ذلك يدرك حالة ويعلم قطعا
أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق وبرفعه ينكشف
الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الطيبة وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون
فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه
بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب
أعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب منها الإصرار والمواظبة ولذلك قيل لا صغيرة مع إصرار
ولا كبيرة مع استغفار فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو
عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على الحجر على
توال فتؤثر فيه وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة واحدة لم يؤثر ولذلك قال رسول
الله صلى الله عليه و سلمخير الأعمال أدومها وإن قل // حديث خير الأعمال أدومها
وإن قل متفق عليه من حديث عائشة بلفظ أحب وقد تقدم // والأشياء تستبان بأضداها وإن
كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع فى تنوير القلب
وتطهيره فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في اظلام القلب إلا أن
الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولو احق من جملة الصغائر فقلما
يزنى الزانى بغتة من غير مراودة ومقدمات وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة
ومعاداة فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم
يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واطب الإنسان عليها عمره ومنها
أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلها استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى لأن
استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به
واستصغاره يصدر عن الألف به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب والقلب هو المطلوب
تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات ولذلك لا يؤاخذ بما يجرى عليه في الغفلة
فإن القلب لا يتأثر بما يجرى في الغفلة وقد جاء في الخبر المؤمن يرى ذنبه كالجبل
فوقه يخاف أن يقع عليه والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره // حديث المؤمن
يرى دنبه كالجبل فوقه الحديث أخرجه البخارى من رواية الحارث بن سويد قال حدثنا عبد
الله ابن مسعود حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه و سلم والآخر عن نفسه فذكر
هذا وحديث لله أفرح بتوبة العبد ولم يبين المرفوع من الموقوف وقد رواه البيهقى في
الشعب من هذا // وقال بعضهم الذنب الذى لا يغفر قول العبد ليت كل ذنب عملته مثل
هذا وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله فإذا نظر الى عظم من عصى به
رأى الصغيرة كبيرة وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تنظر إلى قلة الهدية
وانظر إلى عظم مهديها ولا تنظر الى صغر الخطيئة وانظر الى كبرياء من واجهته بها
وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين لا صغيرة بل كل مخالفة فهى كبيرة وكذلك قال بعض
الصحابة رضى الله عنهم للتابعين وإنكم لتعملون أعمالا هى في أعينكم أدق من الشعر
كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الموبقات إذ كانت معرفة
الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بالإضافة الى جلال الله تعالى من
الكبائر وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل ويتجاوز عن العامى في
أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف
ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن
كونه سبب الشقاوة فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة وعظم أثرها في
تسويد قلبه حتى ان من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه
كما يقول أما رأيتنى كيف مزقت عرضه ويقول المناظر في مناظرته أما رأيتنى كيف فضحته وكيف ذكرت مساوية حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه ويقول المعامل في التجارة أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته فهذا وامثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغى ان يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى فالمريض الذى يفرح بأن ينكسر إناؤه الذى فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدرى أنه إنما يمهل مقتا ليزداد بالإمهال إثما فيظن أن تمكنه من المعاصى عناية من الله تعالى به فيكون ذلك لأمنه من مكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومنها أن يأتى الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذى سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه أو أشهده فعله فهما جنايتان انضمتا الى جنايته فغلظت به فإن انضاف الى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابعه وتفاحش الأمر وفى الخبر كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه // حديث كل الناس معافى إلا المجاهرين الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة بلفظ كل أمتى وقد تقدم // وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر فالإظهار كفران لهذه النعمة وقال بعضهم لا تذنب فإن كان ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وقال بعض السلف ما انتهك المرء من أخيه حرمه أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه ومنها أن يكون المذنب عالما يقتدى به فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاق اللسان فى الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصده الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا فى العالم آماد متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه وفى الخبر من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا // حديث من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الحديث اخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله وقد تقدم فى آداب الكسب // قال تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل وقال ابن عباس ويل للعالم من الاتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق وقال بعضهم مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها وفى الإسرائيليات أن عالما كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل فى الإصلاح دهرا فأوحى الله تعالى الى نبيهم قل له إن ذنبك لو كان فيما بينى وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان إحداهما ترك الذنب والأخرى إخفاءه وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا أتبعوا فإذا ترك التجمل والميل الى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام بالقوت ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ويقتدي به العلماء والعوام فيكون له مثل ثوابهم وإن مال الى التجمل مالت طباع من دونه الى التشبه به ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين
وجمع
الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك فحركات العلماء في طورى الزيادة
والنقصان تتضاعف آثارها أما بالربح وإما بالخسران وهذا القدر كاف فى تفاصيل الذنوب
التى التوبة توبة عنها الركن الثالث في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر
قد ذكرنا ان التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا وذلك الندم أورثه العلم بكون
المعاصى حائلا بينه وبين محبوبه ولكل واحد من العلم والندم والعزم دوام وتمام
ولتمامها علامة ولدوامها شرط فلا بد من بيانها أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب
التوبة وسيأتى وأما الندم فهو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب وعلامته طول
الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو
ببعض أعزته طال عليه مصيبته وبكاؤه وأى عزيز أعز عليه من نفسه وأى عقوبة أشد من
النار وأى شيء أدل على نزول العقوبة من المعاصى وأى مخبر أصدق من الله ورسوله ولو
حدثه انسان واحد يسمى طبيبا أن مرض ولده المريض لا يبرأ وأنه سيموت منه لطال في
الحال حزنه فليس ولده بأعز من نفسه ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله ولا
الموت بأشد من النار ولا المرض بأدل على الموت من المعاصى على سخط الله تعالى
والتعرض بها للنار فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى فعلامة صحة
الندم رقة القلب وغزارة الدمع وفى الخبر جالسوا التوابين فانهم أرق أفئدة // حديث
جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة لم أجده مرفوعا وهو من قول عون بن عبد الله رواه
ابن أبى الدنيا في التوبة قال جالسوا التوابين فإن رحمه الله الى النادم أقرب وقال
أيضا فالموعظة إلى قلوبهم أسرع وهم إلى الرقة أقرب وقال أيضا التائب أسرع دمعا
وأرق قلبا // ومن علامته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلا عن حلاوتها
فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة وفي الاسرائيليات إن الله سبحانه وتعالى قال
لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين قي العبادة ولم ير قبول
توبته فقال وعزتى وجلالى لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك
الذنب الذى تاب منه في قلبه
فإن قلت فالذنوب هى أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها فأقول من تناول عسلا كان
فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وألمه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه
فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو فى غاية الجوع والشهوة للحلاوة فهل تنفر
نفسه عن ذلك العسل أم لا فإن قلت لا فهو جحد للمشاهدة والضرورة بل ربما تنفر عن
العسل الذى ليس فيه سم أيضا لشبهه به فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك يكون وذلك
لعلمه بأن كل ذنب فذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا
بمثل هذا الإيمان ولم عز مثل هذا الإيمان عزت التوبة والتائبون فلا ترى إلا معرضا
عن الله تعالى متهاونا بالذنوب مصرا عليها فهذا شرط تمام الندم وينبغى ان يدوم الى
الموت وينبغى أن يجد هذه المرارة فى جميع الذنوب وإن لم يكن قد ارتكبها من قبل كما
يجد متناول السم في العسل النفره من الماء البارد مهما علم أن فيه مثل ذلك السم إذ
لم يكن ضرره من العسل بل مما فيه ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث أنه
سرقة وزنا بل من حيث انه من مخالفة أمر الله تعالى وذلك جار في كل ذنب وأما القصد
الذى ينبعث منه هو أرادة التدارك فله تعلق بالحال وهو يوجب ترك كل محظور هو ملابس
له وأداء كل فرض وهو متوجه عليه في الحال وله تعلق بالماضى وهو تدارك ما فرط
وبالمستقبل وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية الى الموت
وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضى أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن أو الاحتلام
ويفتش عما مضى من
عمره
سنة سنة وشهرا شهرا ويوما يوما ونفسا نفسا وينظر الى الطاعات ما الذى قصر فيه منها
والى المعاصى ما الذى قارفه منها
فان كان قد ترك صلاة أو صلاها فى ثوب نجس أو صلاها في بنية غير صحيحة لجهله بشرط
النية فيقضيها عن آخرها فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر
الذى يستيقن انه أداه ويقضى الباقى وله أن يأخذ فيه بغالب الظن ويصل اليه على سبيل
التحرى والاجتهاد
وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمدا أو نسى النبة بالليل ولم
يقض فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه
وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه لا من زمان البلوغ فإن
الزكاة واجبه في مال الصبى فيؤدي ما علم بغالب الظن انه في ذمته فإن أداه لا على
وجه يوافق مذهبه بأن لم يصرف الى الأصناف الثمانية أو أخرج البدل وهو على مذهب
الشافعى رحمه الله تعالى فيقضى جميع ذلك فإن ذلك لا يجزيه أصلا وحساب الزكاة
ومعرفة ذلك يطول ويحتاج فيه الى تأمل شاف ويلزمه ان يسأل عن كيفية الخروج عنه من
العلماء
وأما الحج فإن كان قد استطاع فى بعض السنين ولم يتفق له الخروج والآن قد افلس
فعليه الخروج فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد فإن لم
يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه الزكاة أو الصدقات ما يحج به
فإن إن مات قبل الحج مات عاصيا قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء
يهوديا وإن شاء نصرانيا // حديث من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا الحديث تقدم
فى الحج // والعجز الطارىء بعد القدرة لا يسقط عنه الحج فهذا طريق تفتيشه عن
الطاعات وتداركها
وأما المعاصى فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله
وفرجه وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه
حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله
تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر الى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة
ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق
بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر
ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتى من الحسنات بمقدار تلك
السيئات أخذا من قوله صلى الله عليه و سلماتق الله حيث كنت وأتبع السيئة تمحها //
حديث اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها أخرجه الترمذى من حديث أبى ذر
وصححه وتقدم أوله في آداب الكسب وبعضه فى أوائل التوبة وتقدم فى رياضة النفس // بل
من قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات فيكفر سماع الملاهى بسماع القرآن وبمجالس
الذكر ويكفر القعود في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ويكفر مس
المصحف محدثا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفا
ويجعله وقفا ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه وعد جميع
المعاصى غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض يعالج بضده فكل
ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها
والمتضادات هى المتناسبات فلذلك ينبغى أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها
فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف فى
طريق المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة
به
أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا فى المحو فهذا
حكم ما بينه وبين الله تعالى ويدل على أن الشىء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل
خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرو بها والحنين إليها فلا جرم كان كل أذى
يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم
والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه و سلممن الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا
الهموم // حديث من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم وفى لفظ آخر إلا الهم فى طلب
المعيشة أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والخطيب في التلخيص من حديث
أبى هريرة بسند ضعيف تقدم فى النكاح // وفى لفظ آخر إلا الهم بطلب المعيشة وفى
حديث عائشة رضى الله عنها إذا كثرت ذنوب العبد ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله
تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه // حديث إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له
أعمال تكفرها أدخل الله عليه الغموم وتقدم أيضا فى النكاح وهو عند أحمد من حديث
عائشة بلفظ ابتلاه الله بالحزن // ويقال إن الهم الذى يدخل على القلب والعبد لا
يعرف هو ظلمه الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفه الحساب وهول المطلع
فإن قلت هم الإنسان غالبا بما له وولده وجاهه وهو خطيئة فكيف يكون كفارة فاعلم أن
الحب له خطيئة والحرمان عنه كفارة ولو تمتع به لتمت الخطيئة فقد روى أن جبريل عليه
السلام دخل على يوسف عليه السلام فى السجن فقال له كيف تركت الشيخ الكئيب فقال قد
حزن عليك حزن مائة ثكلى قال فما له عند الله قال اجر مائة شهيد فإذن الهموم أيضا
مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى
وأما مظالم العباد ففيها أيضا معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى
عن ظلم العباد أيضا فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله
في المستقبل والإتيان بالحسنات التى هى أضدادها فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان
إليهم ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح
فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله ويكفر
قتل النفوس بإعتاق الرقاب لأن تلك إحياء إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده
والإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف
أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع حيث كفر
القتل بإعتاق رقبة ثم إذا فعل ذلك كله لم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ومظالم
العباد إما فى النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب أعنى به الإيذاء المحض
أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فنوبته بتسليم الدية ووصولها الى المستحق إما منه
أو من عاقلته وهو فى عهدة ذلك قبل الوصول وإن كان عمدا موجبا للقصاص فبالقصاص فإن
لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولى الدم ويحكمه فى روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء
قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب أو
سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه فى التوبة
أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالى استيفاء حق الله تعالى بل عليه أن بستر
الله تعالى ويقيم حد الله على نفسه بأنواع المجاهدة والتعذيب فالعفو فى محض حقوق
الله تعالى قريب من التائبين النادمين فإن أمر هذه الى الوالى حتى أقام عليه الحد
وقع موقعه وتكون توبته صحيحة مقبوله عند الله تعالى بدليل ما روى أن ما عز بن مالك
أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنى قد ظلمت نفسى وزنيت وإنى
أريد أن تطهرنى فرده فلما كان من الغد اتاه فقال يا رسول الله إنى قد زنيت فرده
الثانية فلما كان فى الثالثة أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به
فرجم
فكان الناس فيه فريقين فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة
أصدق من توبته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلملقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو
سعتهم // حديث اعتراف ما عز بالزنا ورده صلى الله عليه و سلم حتى اعترف اربعا
وقوله لقد تاب توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة بن الخصيب // وجاءت الغامدية
فقالت يا رسول الله إنى قد زنيت فطهرنى فردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله
لم تردنى لعلك تريد أن ترددنى كما رددت ما عزا فو الله إنى لحبلى فقال صلى الله
عليه و سلمأما الآن فاذهبى حتى تضعى فلما ولدت أتت بالصبى فى خرقة فقالت هذا قد
ولدته قال اذهبى فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت بالصبي وفى يده كسرة خبز فقالت
يانبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها
فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها
فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبه إياها فقال
مهلا يا خالد فو الذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر
بها فصلى عليها ودفت // حديث الغامدية واعترافها بالزنا ورجمها وقوله صلى الله
عليه و سلم لقد تابت توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة وهو بعض الذى قبله //
وأما القصاص وحد القذف فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه وإن كان المتناول مالا
تناوله بغصب أو خيانة أو غبن فى معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من
المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع اجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل
من أول مدة وجوده فإن ما يجب فى مال الصبى يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان
الولى قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالما مطالبا به إذ يستوى فى الحقوق المالية
الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته
قبل أن يحاسب فى القيامة وليناقش قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه فى الدنيا طال فى
الآخرة حسابه فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه
وليكتب أسامى أصحاب المظالم واحدا واحدا وليطف فى نواحى العالم وليطلبهم وليستحلهم
أو ليؤد حقوقهم وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب
المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه
فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ
حسناته وتوضع فى موازين أرباب المظالم ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن
لم تف بها حسناته حمل من سيئاته أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره فهذا طريق كل
تائب فى رد المظالم وهذا يوجب استغراق العمر فى الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة
الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريبا فينبغى أن يكون تشميرة
للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميرة الذى كان فى المعاصى فى متسع الأوقات هذا حكم
المظالم الثابتة فى ذمته
أما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا وما لا يعرف له مالكا
فعليه أن يتصدق به فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد
ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله فى كتاب الحلال والحرام
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يعيهم فى الغيبة فيطلب كل من
تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحدا واحدا منهم ومن مات أو
غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات لتؤخذ منه عوضا فى القيامة وأما
من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته وعليه أن يعرفه قدر جنايته
وتعرضه
له فالاستحلال المبهم لا يكفى وربما لو عرف ذلك وكثرة تعدية عليه لم تطب نفسه
بالإحلال وادخر ذلك فى القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته فإن كان
فى جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله
أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم أذاه مهما شوفة به فقد انسد عليه
طريق الاستحلال فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما
يجبر مظلمة الميت والغائب
وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ومهما ذكر جنايته وعرفه
المجنى عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه فعليه أن
يتلطف به ويسعى فى مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقه عليه ما يستميل به قلبه
فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده
وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من
جملة حسناته التى يمكن أن يجبر بها فى القيامة جنايته وليكن قدر سعيه فى فرحه
وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه فى اذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد
عليه أخذ ذلك منه عوضا فى القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف فى الدنيا ما لا فجاء
بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه
شاء أم أبى فكذلك يحكم فى صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفى المتفق
عليه من الصحيحين عن أبى سعيد الخدرى أن نبى الله صلى الله عليه و سلمكان فيمن كان
قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال
إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة قال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن
أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم
ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عز
و جل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق
أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء
تائبا مقبلا بقلبه الى الله وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك
فى صورة آدمي فجعلوه حكما بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى
فهو له فقاسوا فوجوده أدنى إلى الأرض التى أراد فقبضته ملائكة الرحمة // حديث أبى
سعيد الخدري المتفق عليه كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين فسأل عن أعلم أهل
الأرض الحديث هو متفق عليه كما قال المصنف من حديث أبى سعيد // وفى رواية فكان إلى
القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها وفى رواية فأوحى الله تعالى الى هذه
أن تباعدى وإلى هذه أن تقربى وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر
له فبهذا تعرف أنه لاخلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب
من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضى
وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقدا مؤكدا ويعاهده بعهد وثيق
أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذى يعلم فى مرضه أن الفاكهة تضره
مثلا فيعزم عزما جزما أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد
فى الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة فى ثانى الحال ولكن لا يكون تائبا ما لم
يتأكد عزمه فى الحال ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب فى أول أمره إلا بالعزلة والصمت
وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة
يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه
فإن
رأس المعاصى أكل الحرام فكيف يكون تائبا مع الإصرار عليه ولا يكتفى بالحلال وترك
الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات فى المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم من صدق
فى ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرار لم يبتل بها وقال آخر من تاب من ذنب واستقام
سبع سنين لم يعد إليه أبدا ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب
عليه فى المستقبل وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامه وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له
الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذى يتوب عن الشرب والزنا والغصب
مثلا وليست هذه توبة مطلقة
وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة فى هذا المقام
مجمل بل نقول لمن قال لا تصح إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلا بلا
وجوده كعدمه فما أعظم خطأك فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب
لقلته ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولا يوصل الى
النجاة أو الفوز فهذا أيضا خطأ بل النجاة والفوز بترك الجميع هذا حكم الظاهر ولسنا
نتكلم فى خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إنى أردت به أن
التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة مثلا لكونها معصية لا لكونها سرقة
ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما
إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه
سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى
بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض فالندم حالة يوجبها العلم بكون
المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصى دون
البعض ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من احد الدنين دون الآخر فإن استحال
ذلك من حيث إن المعصية فى الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصى
آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن معنى عدم الصحة أن الله
تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض
المتماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب
والقبول نقول إن العقد لا يصح أى لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك وتحقيق هذا أن
ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق فترك السرقة
لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع
المعاصى وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء
فنقول التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن
الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر
فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته والصغائر
أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذى يجنى
على أهل الملك وحرمه ويجنى على دابته فيكون خائفا من الجناية على الأهل مستحقرا
للجناية على الدابة والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعدا عن الله تعالى
وهذا ممكن وجوده فى الشرع فقد كثر التائبون فى الأعصار الخاليه ولم يكن أحد منهم
معصوما فلا تستدعى التوبة العصمة والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيرا شديدا
ويحذره السكر تحذيرا أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلا
فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعا بحكم
شهوته ندم على أكل العسل دون السكر
الثانى أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضا ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر
أشد وأغلظ عند
الله
كالذى يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك
وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه فهذا أيضا ممكن كما فى تفاوت الكبائر
والصغائر لأن الكبائر أيضا متفاوتة فى أنفسها وفى اعتقاد مرتكبها ولذلك قد يتوب عن
بعض الكبائر التى لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا إذ يتضح
له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصى وهو لا يدرى فبحسب
ترجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركا فى المستقبل وندما على الماضى
الثالث أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة كالذى يتوب
عن الغيبة او عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجرى مجراه وهو مصر على شرب الخمر فهو
أيضا ممكن ووجه إمكانة أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصية ونادم على فعله ندما
إما ضعيفا وإما قويا ولكن تكون لذة نفسه فى تلك المعصية أقوى من ألم قلبه فى الخوف
منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم
موجودا ولكن لا يكون مليا بتحريك العزم ولا قويا عليه فإن سلم عن شهوة أقوى منه
بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية وقد
تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه وتكون له ضراوة ما بالغيبة وثلب
الناس والنظر إلى غير المحرم وخوفة من الله قد بلغ مبلغا يقمع هذه الشهوة الضعيفة
دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك بل يقول هذا الفاسق فى نفسه
إن قهرنى الشيطان بواسطة غلبه الشهوة فى بعض المعاصى فلا ينبغى أن أخلع العذار
وأرخى العنان بالكلية بل أجاهده فى بعض المعاصى فعسانى أغلبه فيكون قهرى له فى
البعض كفارة لبعض ذنوبى ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلى ويصوم ولقيل
له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله
فيه واحد فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب بترك الفسق
وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولى على المخالفة فيهما عقوبتان وأناملى
فى أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه فى الآخر فأنا أقهره فيما أقدر عليه وأرجو
بمجاهدتى فيه أن يكفر عنى بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتى فكيف لا يتصور هذا وهو حال
كل مسلم إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولاسبب له إلا هذا وإذا
فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة فى بعض الذنوب ممكن وجودها والخوف إذا كان من
فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه و سلمالندم
توبة ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال التائب من الذنب كمن لا ذنب له ولم يقل
التائب من الذنوب كلها وبهذه المعانى تبين سقوط قول القائل إن التوبة عن بعض الذنوب
غير ممكنة لأنها متمائلة فى حق الشهوة وفى حق التعرض إلى سخط الله تعالى نعم يجوز
أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما فى اقتضاء السخط ويتوب عن الكثير دون
القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيرا فى كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز
عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى كالمريض الذى حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول
قليلها ولكن لا يستكثر منها فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شىء ولا يتوب
عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفا لما بقى عليه إما فى شدة المعصية
وإما فى غلبة الشهوة وإذا حصل هذا التفاوت فى اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله فى
الخوف والندم فيتصور اختلاف حاله فى الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على
الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله فى جميع الأوامر والنواهى
فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذى قارفه قبل طريان العنة فأقول لا لأن
التوبة عبارة عن ندم
يبعث
العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا
بتركه إياه ولكنى أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذى
قارفة وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة
الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإنى أرجو أن يكون ذلك مكفرا لذنبه وما حيا عنه
سيئته إذ لا خلاف فى أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين
وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة ولكنه تائب
باعتبار أن ندمه بلغ مبلغا أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده فإذن لا يستحيل أن
تبلغ قوة الندم فى حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه فإن كل من لا
يشتهى شيئا يقدر نفسه قادرا على تركه بأدنى خوف والله تعالى مطلع على ضميره وعلى
مقدار ندمه فعساه يقبله منه بل الظاهر أنه يقبله
والحقيقة فى هذا كلة ترجع إلى ظلمة المعصية تنمحى عن القلب بشيئين أحدهما حرقة
الندم والآخر شدة المجاهدة بالترك فى المستقبل وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة
ولكن ليس محالا أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة ولولا هذا لقلنا
إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه فى عين تلك الشهوة
مرات كثيرة وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلا
فإن قلت إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع الى الذنب والآخر بقى في
نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء
فيه فقال أحمد بن أبى الحوارى وأصحاب أبى سليمان الدارانى إن المجاهد أفضل لأن له
مع التوبة فضل الجهاد وقال علماء البصرة ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر فى توبته كان
أقرب إلى السلامة من المجاهد الذى هو فى عرضه الفتور عن المجاهدة وما قاله كل واحد
من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة
والحق فيه أن الذى انقطع نزوع نفسه له حالتان إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها
بفتور فى نفس الشهوة فقط فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة
نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين وأعنى
بقوة الدين قوة الإرادة التى تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة
الشياطين فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعا وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو
فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ وهو كقول القائل
العنين أفضل من الفحل لأنه فى أمن من خطر الشهوة والصبى أفضل من البالغ لأنه أسلم
والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما
يغلب مرة وإن غلب مرات وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم
بأن العز فى الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار بل كقول القائل الصياد الذى
ليس له فرس ولا كلب أفضل فى صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس لأنه
آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب
ويعتدى عليه وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قويا عالما بطريق تأديبهما
أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد
الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ
بلغ مبلغا قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين
وقد سكنت بسبب استيلاء الدين عليها فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسى لهيجان
الشهوة وقمعها وقول القائل ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود
الجهاد
فإن الجهاد كان مقصودا لعينه بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك الى شهواته
وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد
ظفرت وما دمت فى المجاهدة فأنت بعد فى طلب الظفر ومثاله كمثال من قهر العدو
واسترقه بالإضافة الى من هو مشغول بالجهاد فى صف القتال ولا يدرى كيف يسلم ومثاله
أيضا مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة
والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد ولقد زل فى هذا فريق
فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق
وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجز عنه
فقال هذا محال فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل فى اتباع الشهوات وكل ذلك
جهل وضلال وقد قررنا ذلك فى كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات
فإن قلت فما قولك فى تائبين أحدهما نسى الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله
نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندما عليه فأيهما أفضل فاعلم أن هذا أيضا قد
اختلفوا فيه فقال بعضهم حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك وقال آخر حقيقة
التوبة ان تنسى ذنبك وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين
وكلام المتصوفة أبدا يكون قاصرا فإن عادة كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط
ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال وهذا نقصان بالإضافة الى الهمة
والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره إذ
طريقة إلى الله نفسه ومنازله أحواله وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق
إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة فى القرب والعبد والله أعلم بمن هو أهدى
سبيلا مع الاشتراك فى اصل الهداية
فأقول تصور الذنب وذكره والتفجع عليه كمال فى حق المبتدىء لأنه إذا نسيه لم يكثر
احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف
الوازع عن الرجوع إلى مثله فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك
الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق بل سالك الطريق ينبغى أن لا يعرج على
غير السلوك فإن ظهر له مبادى الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولو امع الغيب
استغرقة ذلك ولم يبق متسع للإلتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال بل لو عاق
المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر فى عبوره مدة من
حيث أنه كان قد خرب جسره من قبل ولو جلس على شاطىء البحر بعد عبورة يبكى متأسفا
على تخريبه الجسر كان هذا مانعا آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع نعم إن لم
يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلا فتعذر السلوك أو كان على طريقة أنهار وهو يخاف
على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن
عزمه على أن لا يعود إلى مثله فإن حصل له من التنبيه ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى
مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه وهذا لا
يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك وقد أشرنا إلى تلويحات منه
فى كتاب العلم وفى ربع المهلكات بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر فى
النعيم فى الآخرة لتزيد غبته ولكن إن كان شابا فلا ينبغى أن يطيل فكره فى كل ما له
نظير فى الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا
يرضى بالآجلة بل ينبغى أن يتفكر فى لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير
له فى الدنيا
فكذلك
تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدى أيضا قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له
عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه
السلام فإن قياسك نفسك على الانبياء قياس فى غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون فى
أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم
التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلا عن ذروة مقامهم فلقد كان فى
الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنيا عنها
لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلا للأمر على المريد ولذلك قال صلى الله عليه
و سلمأما إنى لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع // حديث أما إنى لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع
ذكره مالك بلاغا بغير إسناد وقال ابن عبد البر لا يوجد فى الموطأ إلا مرسلا لا
إسناد له وكذا قال حمزة الكتانى إنه لم يرد من غير طريق مالك وقال أبو طاهر
الأنماطى وقد طال بحثى عنه وسؤالى عنه للأئمة والحفاظ فلم أظفر به ولا سمعت عن أحد
أنه ظفر به قال وادعى بعض طلبه الحديث أنه وقع له مسندا // وفى لفظ إنما اسهو لأسن
ولا تعجب من هذا فإن الأمم فى كنف شفقة الأنبياء كالصبيان فى كنف شفقة الآباء
وكالمواشى فى كنف الرعاة
أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبى كيف ينزل إلى درجه نطق الصبى كما قال
صلى الله عليه و سلم للحسن كخ كخ // حديث أنه قال للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من
الصدقة ووضعها فى فيه أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة وتقدم فى كتاب الحلال
والحرام // لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها فى فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن
يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل
إلى لكنته بل الذى يعلم شاة أو طائرا يصوت به رغاء أو صفيرا تشبها بالبهيمة
والطائر تلطفا فى تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام
العارفين فضلا عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان أقسام العباد فى دوام التوبة
اعلم أن التائبين فى التوبة على أربع طبقات الطبقة الاولى أن يتوب العاصى ويستقيم
على التوبة إلى آخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا
الزلات التى لا ينفك البشر عنها فى العادات مهما لم يكن فى رتبه النبوة فهذا هو
الاستقامة على التوبة وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه
التوبة التوبة النصوح واسم هذه النفس الساكنة النفس المطمئنة التى ترجع إلى ربها
راضية مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلمسبق المفردون
المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم اوزارهم فوردوا القيامة خفافا // حديث
سبق المفردون المستهترون بذكر الله الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى هريرة وحسنة
وقد تقدم // فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم وأهل هذه
الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة
ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملى
بمجاهدتها وردها ثم تتفاوت درجات النزاع أيضا بالكثرة والقلة وباختلاف المدة
وباختلاف الأنواع وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريبا من توبته
يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته
وكثرت حسناته وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض
العلماء إنما يكفر الذنب الذى ارتكبه العاصى أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة
ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفا من الله تعالى واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم
أثره لو فرض ولكن لا ينبغى للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر
الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع فى الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن
اختياره
فيقدم على المعصية وينقض توبته بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى
يسد طرقها على نفسه ويسعى مع ذلك فى كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته فى
الابتداء
الطبقة الثانية تائب سلك طريق الاستقامة فى أمهات الطاعات وترك كبائر الفواحش كلها
إلا انه ليس ينفك عن ذنوب تعترية لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلى بها فى مجارى
أحواله من غير أن يقدم عزما على الإقدام عليها ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه
وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التى تعرضه لها وهذه النفس
جديرة بأن تكون هى النفس اللوامة إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال
الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأى وقصد وهذه أيضا رتبة عالية وإن كانت نازلة عن
الطبقة الأولى وهى أغلب أحوال التائبين لأن الشر معجون بطينه الآدمى قلما ينفك عنه
وإنما غاية سعية أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفه الحسنات فأما أن تخلو
بالكلية كفة السيئات فذلك فى غاية البعد وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ
قال تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة فكل
المام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه
قال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم
فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه وإلى مثل هذه الرتبة
الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلم فيما رواه عنه على كرم الله وجهه خياركم كل
مفتن تواب // حديث على خياركم كل مفتن تواب اخرجه البيهقى فى الشعب بسند ضعيف //
وفى خبر آخر المؤمن كالسنبلة يفىء أحيانا ويميل أحيانا // حديث المؤمن كالسنبلة
تفىء أحيانا وتميل أحيانا أخرجه ابو يعلى وابن حبان فى الضعفاء من حديث انس والطبرانى
من حديث عمار بن ياسر والبيهقى فى الشعب من حديث الحسن مرسلا وكلها ضعفية وقالوا
تقوم بدل تفىء وفى الأمثال للرامهرمزى إسناد جيد لحديث انس // وفى الخبر لا بد
للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة // حديث لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة
بعد الفينة أخرجه الطبرانى والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس بأسانيد حسنة // أى
الحين بعد الحين فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينفض التوبة ولا يلحق
صاحبها بدرجة المصرين ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح
عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة
واستمرار وكالفقيه الذى يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتورة عن التكرار
والتعليق فى أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه
بل الفقيه فى الدين هو الذى لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من
الفترات ومقارفة السيئات المختطفات قال النبي صلى الله عليه و سلمكل بنى آدم
خطاءون وخير الخطائين التوابون المستغفرون // حديث كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين
المستغفرون اخرجه الترمذى واستغفر به والحاكم وصحيح إسناده من حديث أنس وقال
التوابون بدل المستغفرون قلت فيه على بن مسعدة ضعفه البخارى // وقال تعالى أولئك
يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة فما وصفهم بعدم السيئة أصلا
الطبقة الثالثة أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ثم تغلبه الشهوات فى بعضالذنوب
فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة إلا أنه مع ذلك مواظب على
الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة
أو الشهوتان وهو يود لو اقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا أمنيته فى حال
قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول ليتنى لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسى
فى
قهرها لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوما بعد يوم فهذه النفس هى التى
تسمى النفس المسولة وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم وآخرون اعترفوا بذنوبهم
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه
مرجو فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره فربما بختطف قبل
التوبة ويقع أمره فى المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة
التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه فى الخاتمة ما
سبق عليه من القول فى الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقة مثلا الاحتراز عن شواغل
التعلم دل تعذره على أنه سبق له فى الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء فى حقه
وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له فى الأزل أن يكون من
جملة العالمين فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير
مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية وارتباط حصول فقه
النفس الذي به تستحق المناصب العلية فى الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه
النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول
التفقيه فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار
طاهرا بطول التزكية والتطهير هكذا سبق فى الأزل بتدبير رب الأرباب ولذلك قال تعالى
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فمهما
وقع العبد فى ذنب فصار الذنب نقدا والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان قال
صلى الله عليه و سلمإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس إنه
من أهلها ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل
النار فيدخلها // حديث إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة الحديث متفق عليه
من حديث سهل بن سعد دون قوله سبعين سنة ولمسلم من حديث أبى هريرة إن الرجل ليعمل
الزمن الطويل بعمل أهل الجنة الحديث ولأحمد من رواية شهر بن حوشب عن أبى هريرة إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة وشهر مختلف فيه // فإذن الخوف من الخاتمة
قبل التوبة وكل نفس فهو خاتمة ما قبله إذ يمكن أن يكون الموت متصلا به فليراقب
الأنفاس وإلا وقع فى المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر
الطبقة الرابعة أن يتوب ويجرى مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو
الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله بل ينهمك انهماك
الغافل فى اتباع شهواته فهذا من جملة المصرين وهذه النفس هى النفس الأمارة بالسوء
الفرارة من الخير ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره فى مشيئة الله فإن ختم له
بالسوء شقى شقاوة لا آخر لها وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له
الخلاص من النار ولو بعد حين ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفى لا تطلع
عليه كما لا يستحل أن يدخل الإنسان خرابا ليجد كنزا فيتفق أن يجده وأن يجلس فى
البيت ليجعله الله عالما بالعلوم من غير تعلم كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم
فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار وطلب المال بالتجارة وركوب
البحار وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنور فى المواضع الخربة وطلب
العلوم من تعليم الملائكة وليت من اجتهد تعلم وليت من اتجر استغنى وليت من صام
وصلى غفر له فالناس كلهم محرومون إلا العالمون والعالمون كلهم محرومون إلا
العاملون والعاملون كلهم محرومون إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم وكما أن من
خرب بيته وضيع ماله وترك نفسه وعياله جياعا يزعم أنه ينتظر فضل الله بأن يرزقه
كنزا يجده تحت الأرض فى بيته الخرب يعد عنه ذوى البصائر من الحمقى والمغرورين وإن
كان ما ينتظره غير مستحيل فى قدرة الله تعالى وفضله فكذلك من ينتظر
المغفرة
من فضل الله تعالى وهو مقصر عن الطاعة مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة يعد
عند أرباب القلوب من المعتوهين والعجب من عقل هذا المعتوه وترويجه حماقته فى صيغة
حسنة إذ يقول إن الله كريم وجنته ليست تضيق على مثلى ومعصيتى ليست تضره ثم تراه
يركب البحار ويقتحم الاوعار فى طلب الدينار وإذا قيل له إن الله كريم ودنانير
خزائنه ليست تقصر على فقرك وكسلك بترك التجارة ليس يضرك فاجلس فى بيتك فعساه يرزقك
من حيث لا تحتسب فيستحمق قائل هذا الكلام ويستهزىء به ويقول ما هذا الهوس السماء
لا تمطر ذهبا ولا فضة وإنما ينال ذلك بالكسب وهكذا قدره مسبب الأسباب وأجرى به
سنته ولا تبديل لسنة الله ولا يعلم المغرور أن رب الآخرة ورب الدنيا واحد وأن سنته
لا تبديل لها فيهما جميعا وأنه قد أخبر إذ قال وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فكيف
يعتقد أنه كريم فى الآخرة وليس بكريم فى الدنيا وكيف يقول ليس مقتضى الكرم الفتور
عن كسب المال ومقتضاه الفتور عن العمل للملك لذلك المقيم والنعيم الدائم وأن ذلك
بحكم الكرم يعطيه من غير جهد فى الآخرة وهذا يمنعه مع شدة الاجتهاد فى غالب الأمر
فى الدنيا وينسى قوله تعالى وفى السماء رزقكم وما توعدون فنعوذ بالله من العمى
والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس فى ظلمات الجهل وصاحب هذا جدير
بأن يكون داخلا تحت قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا
أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا أى أبصرنا أنك صدقت إذ قلت وأن ليس للإنسان إلا
ما سعى فارجعنا نسعى وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب فنعوذ بالله
من دواعى الجهل والشك والارتياب السائق بالضرور إلى سوء المنقلب والمآب
بيان ما ينبغى أن يبادر إليه التائب إن جرى عليه ذنب إما عن قصد وشهوة
غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق
اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضاده كما ذكرنا
طريقة فإن لم تساعده النفس على العزم على الترك لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد
الواجبين فلا ينبغى أن يترك الواجب الثانى وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة ليمحوها
فيكون ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فالحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما
باللسان وإما بالجوارح ولتكن الحسنة فى محل السيئة وفيما يتعلق بأسبابها
فأما بالقلب فليكفره بالتضرع إلى الله تعالى فى سؤال المغفرة والعفو ويتذلل تذلل
العبد الآبق ويكون ذله بحيث يظهر لسائر العباد وذلك بنقصان كبره فيما بينهم فما
للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر العباد وكذلك يضمر بقلبه الخيرات للمسلمين
والعزم على الطاعات
وأما باللسان فبالاعتراف بالظلم والاستغفار فيقول رب ظلمت نفسى وعملت سوءا فاغفر
لى ذنوبى وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار كما أوردناه فى كتاب الدعوات والأذكار
وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وفى الآثار ما يدل على أن الذنب
إذا أتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجوا أربعة من أعمال القلوب وهى التوبة أو
العزم على التوبة وحب الإقلاع عن الذنب وتخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له وأربعة
من أعمال الجوارح وهى أن تصلى عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين
مرة وتقول سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم
يوما
وفى بعض الآثار تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين // أثر إن من مكفرات الذنب
أن تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلى ركعتين اخرجه أصحاب السنن من حديث أبى بكر
الصديق رضى الله عنه ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ثم يستغفر
الله إلا غفر الله له لفظ أبى داود وهو فى الكبرى للنسائى مرفوعا وموقوفا فلعل
المصنف عبر بالأثر لارادة الموقوف فذكرته احتياطا والا فالآثار ليست من شرط كتابى
// وفى بعض الأخبار تصلى أربع ركعات // حديث التكفير بصلاة أربع ركعات أخرجه ابن
مردوية فى التفسير والبيهقى فى الشعب من حديث ابن عباس قال كان رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه و سلم يهوى امرأة الحديث وفيه فلما رآها جلس منها مجلس الرجل من
امرأته وحرك ذكره فإذا هو مثل الهدية فقام نادما فآتى النبي صلى الله عليه و سلم
فذكر له ذلك فقال له النبي صلى الله عليه و سلم صل أربع ركعات فأنزل الله عز و جل
وأقم الصلاة طرفى النهار الآية وإسناده جيد // وفى الخبر إذا عملت سيئة فأتبعها
حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية // حديث إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة
تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية أخرجه البيهقى فى الشعب من حديث معاذ وفيه
رجل لم يسم ورواه الطبرانى من رواية عطاء بن يسار عن معاذ ولم يلقه بلفظ وما عملت
من سوء فأحدث لله فيه توبة السر بالسر الحديث // ولذلك قيل صدقة السر تكفر ذنوب
الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار وفى الخبر الصحيح أن رجلا قال لرسول الله صلى
الله عليه و سلم إنى عالجت امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس فاقض على بحكم الله
تعالى فقال صلى الله عليه و سلمأو ما صليت معنا صلاة الغداة قال بلى فقال صلى الله
عليه و سلمإن الحسنات يذهبن السيئات // حديث أن رجلا قال يا رسول الله إنى عالجت
امرأة فأصبت منها كل شىء إلا المسيس الحديث فى نزول إن الحسنات يذهبن السيئات متفق
عليه من حديث ابن مسعود دون قوله أو ما صليت معنا صلاة الغداة ورواه مسلم من حديث
أنس وفيه هل حضرت معنا الصلاة قال نعم ومن حديث أبى أمامة وفيه ثم شهدت الصلاة
معنا قال نعم الحديث // وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ
جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه و سلمالصلوات الخمس كفارات لما
بينهن إلا الكبائر فعلى الأحوال كلها ينبغى أن يحاسب نفسه كل يوم ويجمع سيئاته
ويجتهد فى دفعها بالحسنات
فإن قلت فكيف يكون الاستغفار نافعا من غير حل عقدة الإصرار وفى الخبر المستغفر من
الذنب وهومصر عليه كالمستهزىء بآيات الله // حديث المستغفر من الذنب وهو مصر عليه
كالمستهزىء بآيات الله أخرجه ابن أبى الدنيا فى التوبة ومن طريقة البيهقي فى الشعب
من حديث ابن عباس بلفظ كالمستهزىء بربه وسنده ضعيف // وكان بعضهم يقول استغفر الله
من قولى استغفر الله وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير فاعلم أنه قد ورد فى فضل الاستغفار أخبار خارجة
عن الحصر ذكرناها فى كتاب الأذكار والدعوات حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول
صلى الله عليه و سلم فقال تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون فكان بعض الصحابة يقول كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول
فينا وبقى الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا // حديث بعض الصحابة فى قوله تعالى وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية كان لنا امانان ذهب أحدهما أخرجه احمد من قول
أبى موسى الأشعرى ورفعه الترمذى من حديثه أنزل الله على أمانين الحديث وضعفه وابن
مردوية فى تفسيره من ولابن عباس // فنقول الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو
الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة كما يقول الإنسان بحكم
العادة وعن رأس الغفلة استغفر الله وكما يقول إذا سمع صفة النار نعوذ بالله منها
من غير أن يتأثر به قلبه وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له فأما إذا
انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله فى سؤال المغفرة عن صدق إرادة
وخلوص نية ورغبة فهذه حسنة فى نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة وعلى هذا تحمل الأخبار
الواردة فى فضل الاستغفار حتى قال صلى الله عليه و سلمما أصر من استغفر ولو عاد فى
اليوم سبعين مرة // حديث ما أصر من استغفر الحديث تقدم فى الدعوات //
وهو
عبارة عن الاستغفار بالقلب وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة
وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل لا بد للعبد فى كل حال من مولاه فأحسن
أحواله أن يرجع إليه فى كل شىء فإن عصى قال يا رب استر على فإذا فرغ من المعصية
قال يا رب تب على فإذا تاب قال يا رب ارزقنى العصمة وإذا عمل قال يا رب تقبل منى
وسئل أيضا عن الاستغفار الذى يكفر الذنوب فقال أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة
ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على
مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذى هو فيه ومن الجهل بالنعمة
وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات
ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة
السر وهو الخلة ولا يستقر هذا فى قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه
والرضا زاده والتوكل صاحبه ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام
حملة العرش وسئل أيضا عن قوله صلى الله عليه و سلمالتائب حبيب الله فقال إنما يكون
حبيبا إذا كان فيه جميع ما ذكر فى قوله تعالى التائبون العابدون الآية وقال الحبيب
هو الذى لا يدخل فيما يكرهه حبيبه
والمقصود أن للتوبة ثمرتين إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له والثانية
نيل الدرجات حتى يصير حبيبا وللتكفير أيضا درجات فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية
وبعضه تخفيف له ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة فالاستغفار بالقلب والتدارك
بالحسنات وإن خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات فليس يخلو عن الفائدة أصلا
فلا ينبغى أن تظن أن وجودها كعدمها بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا
ريب فيها أن قول الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره صدق وأنه لا تخلو ذرة من
الخير عن أثر كما لا تخلو شعيرة تطرح فى الميزان عن أثر ولو خلت الشعيرة الأولى عن
أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال
بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفه السيئات فإياك أن تستصغر
ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصى فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل
تعللا بأنها لا تقدر فى كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول أى غنى يحصل بخيط وما وقع
ذلك فى الثياب ولا تدري المعتوهة ان ثياب الدنيا اجتمعت خيطا خيطا وأن أجسام
العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع
عند الله أصلا بل أقول الاستغفار باللسان أيضا حسنة إذ حركة اللسان بها عن غفلة
خير من حركة اللسان فى تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام بل هو خير من السكوت
عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصانا بالإضافة إلى عمل القلب
ولذلك قال بعضهم لشيخه أبى عثمان المغربى إن لسانى فى بعض الأحوال يجرى بالذكر
والقرآن وقلبى غافل فقال اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك فى الخير وعودة
الذكر ولم يستعمله فى الشر ولم يعوده الفضول وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير
حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصى فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع
من غيره كذبا سبق لسانه إلى ما تعود فقال استغفر الله ومن تعود الفضول سبق لسانه
إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادىء الشر من
شرير قال بحكم سبق اللسان نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال لعنه الله فيعصى فى
إحدى الكلمتين ويسلم فى الأخرى وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معانى
قوله تعالى إن الله لا يضيع أجر المحسنين ومعانى قوله تعالى وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه
أجرا
عظيما فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار فى الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك
العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول هذا تضعيف فى الدنيا لأدنى الطاعات
وتضعيف الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون فإياك وأن تلمح فى الطاعات مجرد الآفات فتفتر
رغبتك عن العبادات فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم
أنهم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر فأى خير فى ذكرنا باللسان مع
غفلة القلب فانقسم الخلق فى هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق
بالخيرات أما السابق فقال صدقت يا ملعون ولكن هى كلمة حق أردت بها باطلا فلا جرم
أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذى
داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه وأما الظالم المغرور فاستشعر فى نفسه خيلاء
الفطنة لهذه الدقيقة ثم عجز عن الإخلاص بالقلب فترك مع ذلك تعويد اللسان بالذكر
فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره فتمت بينهما المشاركة والموافقة كما قيل وافق شن
طبقه وافقه فاعتنقه وأما المقتصد فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب فى العمل وتفطن
لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت
والفضول فاستمر عليه وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان فى اعتياد الخير
فكان السابق كالحائك الذى ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتبا والظالم المتخلف كالذى
ترك الحياكة أصلا وأصبح كناسا والمقتصد كالذى عجز عن الكتابة فقال لا أنكر مقدمة
الحياكة ولكن الحائك مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكناس فإذا عجزت
عن الكتابة فلا أترك الحياكة ولذلك قالت رابعة العدوية استغفارنا يحتاج إلى
استغفار كثير فلا تظن أنها تذم حركة اللسان من حيث إنه ذكر الله بل تذم غفلة القلب
فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه فإن سكت عن الاستغفار
باللسان أيضا احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد فهكذا ينبغى أن تفهم ذم ما
يذم وحمد ما يحمد والا جهلت معنى ما قال القائل الصادق حسنات الأبرار سيئات المقربين
فإن هذه أمور تثبت بالإضافة فلا ينبغى أن تؤخذ من غير إضافة بل ينبغى أن لا تستحقر
ذرات الطاعات والمعاصى ولذلك قال جعفر الصادق إن الله تعالى خبأ ثلاثا فى ثلاث
رضاه فى طاعته فلا تحقروا منها شيئا فلعل رضاه فيه وغضبه فى معاصيه فلا تحقروا
منها شيئا فلعل غضبه فيه وخبأ ولايته فى عبادة فلا تحقروا منهم أحدا فلعله ولى
الله تعالى وزاد وخبأ إجابته فى دعائه فلا تتركوا الدعاء فربما كانت الإجابة فيه
الركن الرابع فى دواء التوبة وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار
اعلم أن الناس قسمان شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر وهو الذى قال فيه
رسول الله صلى الله عليه و سلمتعجب ربك من شاب ليست له صبوة // حديث يعجب ربك من
شاب ليست له صبوة أخرجه احمد والطبرانى من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعه //
وهذا عزيز نادر والقسم الثانى هو الذى لا يخلو عن مقارفة الذنوب ثم هم ينقسمون إلى
مصرين وإلى تائبين وغرضنا أن نبين العلاج فى حل عقدة الإصرار ونذكر الدواة فيه
فاعلم ان شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء
إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء فكل داء حصل من سبب فدواؤه حل ذلك السبب
ورفعه وإبطاله ولا يبطل الشىء لا بضده ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة ولا
يضاد الغفلة إلا العلم ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع
الأسباب
المحركة للشهوة والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى وأولئك هم الغافلون لا جرم
أنهم فى الاخرة هم الخاسرون فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم
ومرارة الصبر وكما يجمع السكنجبين بين حلاوة السكر وحموضة الخل ويقصد بكل منهما
غرض آخر فى العلاج بمجموعهما فيقمع الأسباب المهيجة للصفراء فهكذا ينبغى أن تفهم
علاج القلب مما به من مرض الإصرار فإن لهذا الدواء أصلان أحدهما العلم والآخر
الصبر ولا بد من بيانهما
فإن قلت أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها
أدوية لأمراض القلوب ولكن لكل مرض علم يخصه كما أن علم الطب نافع فى علاج الأمراض
بالجملة ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار فلنذكر خصوص ذلك العلم على
موازنة مرض الأبدان ليكون أقرب إلى الفهم فنقول يحتاج المريض إلى التصديق بأمور
الأول أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسبابا يتوصل إليها بالاختيار على ما
رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج
ويحق عليه الهلاك وهذا وزانة مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع وهو أن للسعادة فى
الآخرة سببا هو الطاعة وللشقاوة سببا هو المعصية وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع
وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد وكلاهما من جملة الإيمان
الثانى أنه لا بد أن يعتقد المريض فى طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما
يعبر عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان
ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم والإيمان بأن كل ما
يقوله حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف
الثالث أنه لا بد أن يصغى إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب
المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف فى ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له
على الاحتماء ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب
فى التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه
من ذلك من غير شك واسترابه حتى ينبعث به الخوف المقوى على الصبر الذى هو الركن
الآخر فى العلاج
الرابع أن يصغى إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه فى نفسه الاحتماء عنه ليعرفه
أولا تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ومأكوله ومشروبه فليس على كل مريض الاحتماء عن
كل شىء ولا ينفعه كل دواء بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص ووزانه من الدين أن
كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة
وإنما حاجته فى الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها
ثم العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها
فهذه علوم يختص بها أطباء الدين وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصى إن
علم عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب وهو العالم وإن كان لا يدرى أن ما يرتكبه
ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو
مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم
ولا ينبغى أن يصبر إلى أن يسئل عنه بل ينبغى أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم
ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم فى مجامعهم
ويدورون على أبواب دورهم فى الابتداء ويطلبون واحدا واحدا فيرشدونهم فإن مرضى
القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذى ظهر على وجهه برص
ولا
مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره وهذا فرض عين على العلماء كافة وعلى
السلاطين كافة أن يرتبوا فى كل قرية وفى كل محلة فقيها متدينا يعلم الناس دينهم
فإن الخلق لا يولدون إلا جهالا فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم فى الأصل والفرع
والدنيا دار المرضى إذ ليس فى بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض
القلوب أكثر من مرض الأبدان والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى فكل مريض لم
يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب المريض
الذى لا يحتمى أو الذى غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف
شره عن نفسه وعن سائر الناس
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل إحداها أن المريض به لا يدرى
أنه مريض
والثانية أن عاقبته غير مشاهدة فى هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت
مشاهد تنفر الطباع منه وما بعد الموت غير مشاهد وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير
مشاهد فى هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على
فضل الله فى مرض القلب ويجتهد فى علاج مرض البدن من غير اتكال
والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا فى هذه
الأعصار مرضا شديدا عجزوا عن علاجه وصارت لهم سلوة فى عموم المرض حتى لا يظهر
نقصانهم فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضا لأن الداء المهلك
هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه
استنكافا من أن يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون انفسكم فبهذا السبب عم
على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل
الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا
وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم فى مواعظهم إلا ما يرغب العوام
ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل
الرحمة لأن ذلك الذ فى الأسماع وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد
استفادوا مزيد جراءة على المعاصى ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلا أو
خائبا أهلك بالدواء حيث يضعه فى غير موضعه فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين
متضادى العلة أما الذى غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا
تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه فى الخوف بذكر أسباب الرجاء
ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهى للتوبة الممتنع عنها بحكم
القنوط واليأس استعظاما لذنوبه التى سبقت يعالج أيضا بأسباب الرجاء حتى يطمع فى
قبول التوبة فيتوب فأما معالجة المغرور المسترسل فى المعاصى بذكر أسباب الرجاء
فيضاهى معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد
الأطباء هى المعضلة الزباء التى لا تقبل الدواء أصلا
فإن قلت فاذكر الطريق الذى ينبغى أن يسلكه الواعظ فى طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن
ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه نعم نشير إلى الأنواع النافعة فى حل عقدة الإصرار وحمل
الناس على ترك الذنوب وهى أربعة أنواع
الأول أن يذكر ما فى القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من
الأخبار والآثار
مثل
قوله صلى الله عليه و سلمما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان
يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ويقول الآخر يا
ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فيقول الآخر يا ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا
عملوا بما علموا // حديث ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان
يتجاوبان بأربعة أصوات فيقول أحدهما ياليت هذا الخلق لم يخلقوا الحديث غريب لم
أجده هكذا وروى أبو منصور الديلمي فى مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف إن
لله ملكا ينادى فى كل ليلة أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده الحديث وفيه ليت
الخلائق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا فتجالسوا بينهم فتذكروا
الحديث // وفى بعض الروايات ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا ويقول الآخر يا ليتهم
إذ لم يعلموا بما يعملوا تابوا مما عملوا وقال بعض السلف إذا اذنب العبد أمر صاحب اليمين
صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها
عليه وإن لم يستغفر كتبها وقال بعض السلف ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من
الأرض أن تخسف له واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفا فيقول الله تعالى
للأرض والسماء كفا عن عبدى وأمهلاه فإنكما لم تخلقاء ولو خلقتماه لرحمتماه ولعله
يتوب إلى فأغفر له ولعله يستبدل صالحا فأبدله له حسنات فذلك معنى قوله تعالى إن
الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن امسكهما من أحد من بعده وفى حديث
عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات
واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فيطبع على القلوب بما فيها // حديث عمر الطابع
معلق بقائمة من قوائم العرش فإذا انتهكت الحرمات الحديث أخرجه ابن عدي وابن حبان
فى الضعفاء من حديث ابن عمر وهو منكر // وفى حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة
كلما أذنب العبد ذنبا انقبضت أصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فيسد على القلب فذلك هو
الطبع // حديث مجاهد القلب مثل الكف المفتوحة قلت هكذا قال المصنف وفى حديث مجاهد
وكأنه أراد به قول مجاهد وكذا ذكره المفسرون من قوله وليس بمرفوع وقد رويناه فى
الشعب الإيمان للبيهقى من قول حذيفة // وقال الحسن إن بين العبد وبين الله حدا من
المعاصى معلوما إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفقه بعدها لخير
والأخبار والآثار فى ذم المعاصى ومدح التائبين لا تحصى فينبغى أن يستكثر الواعظ
منها إن كان وارث رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه ما خلف دينارا ولا درهما
إنما خلف العلم والحكمة وورثه كل عالم بقدر ما أصابه // حديث أنه صلى الله عليه و
سلم ما خلف دينارا ولا درهما إنما خلف العلم والحكمة أخرجه البخارى من حديث عمرو
بن الحارث قال ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم عند موته دينارا ولا درهما
ولا عبدا ولا أمة ولمسلم من حديث عائشة ما ترك دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا
وفى حديث أبى الدرداء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم
الحديث وقد تقدم فى العلم //
النوع الثانى حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب
ذنوبهم فذلك شديد الوقع ظاهر النفع فى قلوب الخلق مثل أحوال آدم صلى الله عليه و
سلم فى عصيانه وما لقيه من الإخراج من الجنة حتى روى أنه لما أكل من الشجرة تطايرت
الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه
جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه ونودى من فوق العرش
اهبطا من جوارى فإنه لا يجاورنى من عصانى قال فالتفت آدم إلى حواء باكيا وقال هذا
أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب وروى أن سليمان بن داود عليهما السلام لما
عوقب على خطيئته لأجل التمثال الذى عبد فى داره أربعين يوما وقيل لأن المرأة سألته
أن بحكم لأبيها فقال نعم ولم يفعل وقيل بل أحب بقلبه أن
يكون
الحكم لأبيها على خصمه لمكانها منه فسلب ملكه أربعين يوما فهرب تائها على وجهه
فكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال أطعموني فإنى سليمان بن داود رشج وطرد وضرب وحكى
أنه استطعم من بيت لامرأته فطردته وبصقت فى وجهه وفى رواية أخرجت عجوز جرة فيها
بول فصبته على رأسه إلى أن أخرج الله الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء
الأربعين أيام العقوبة قال فجاءت الطيور فعكفت على رأسه وجاءت الجن والشياطين
والوحوش فاجتمعت حوله فاعتذر إليه بعض من كان جنى عليه فقال لا ألومكم فيما فعلتم
من قبل ولا أحمدكم فى عذركم الآن إن هذا أمر كان من السماء ولا بد منه وروى فى
الإسرائيليات أن رجلا تزوج أمرأة من بلدة أخرى فأرسل عبده ليحملها إليه فراودته
نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم قال فنبأه الله ببركة تقواه فكان نبيا فى بنى
إسرائيل وفى قصص موسى عليه السلام أنه قال للخضر عليه السلام بم أطلعك الله على
علم الغيب قال بتركى المعاصى لأجل الله تعالى وروى أن الريح كانت تسير بسليمان
عليه السلام فنظر إلى قميصه نظرة وكان جديدا فكأنه أعجبه قال فوضعته الريح فقال لم
فعلت هذا ولم آمرك قالت إنما نطيعك إذا أطعت الله وروى أن الله تعالى أوحى إلى
يعقوب عليه السلام أتدرى لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف قال لا قال لقولك لإخوته
أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت عليه الذئب ولم ترجنى ولم نظرت إلى
غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظى له وتدرى لم رددته عليك قال لا قال لأنك رجوتني وقلت
عسى الله أن يأتيني بهم جميعا وبما قلت اذهبو فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا
وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك اذكرني عند ربك قال الله تعالى فأنساه الشيطان ذكر
ربه فلبث في السجن بضع سنين
وامثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسمار بل الغرض
بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الانبياء عليهم السلام لم يتجاوز عنهم فى الذنوب
الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم فى الذنوب الكبار نعم كانت سعادتهما فى أن عوجلوا
بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثما ولأن عذاب الآخرة
أشد وأكبر فهذا أيضا مما ينبغى أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع فى تحريك
دواعى التوبة
النوع الثالث أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة فى الدنيا متوقع على الذنوب وأن كل
ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته فرب عبد يتساهل فى أمر الآخرة ويخاف من
عقوبة الله فى الدنيا اكثر لفرط جهله فينبغى أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل فى
الدنيا شؤمها فى غالب الأمر كما حكى فى قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد
يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولى عليه أعداؤه
قال صلى الله عليه و سلمإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه // حديث إن العبد ليحرم
الرزق بالذنب يصيبه أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحيح إسناده واللفظ له إلا أنه قال
الرجل بدل العبد من حديث ثوبان // وقال ابن مسعود إنى لأحسب أن العبد ينسى العلم
بالذنب يصيبه وهو معنى قوله عليه السلام من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا
// حديث من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا تقدم // وقال بعض السلف ليست
اللعنة سوادا فى الوجه ونقصا فى المال إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت فى
مثله أو شر منه وهو كما قال لأن اللعنه هى الطرد والإبعاد فإذا لم يوفق للخير ويسر
له الشر فقد أبعد والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب
آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة
العلماء
المنكرين للذنوب ومن مجالسة الصالحين بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وحكى عن
بعض العارفين أنه كان يمشى فى الوحل جامعا ثيابه محترزا عن زلقة رجله حتى زلقت
رجله وسقط فقام وهو يمشى فى وسط الوحل ويبكى ويقول هذا مثل العبد لا يزال يتوقى
الذنوب ويجانبها حتى يقع فى ذنب وذنبين فعندها يخوض فى الذنوب خوضا وهو إشارة إلى
أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار الى ذنب آخر ولذلك قال الفضيل ما أنكرت من تغير
الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك وقال بعضهم إنى لأعرف عقوبة ذنبى فى سوء
خلق حمارى وقال آخر أعرف العقوبة حتى فى فأر بيتى وقال بعض صوفية الشام نظرت إلى
غلام نصرانى حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بى ابن الجلاء الدمشقى فأخذ بيدى
فاستحييت منه فقلت يا ابا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه
الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار فغمز يدي وقال لتجدن عقوبتها بعد حين قال فعوقبت
بها بعد ثلاثين سنة وقال أبو سليمان الدارانى الاحتلام عقوبة وقال لا يفوت أحدا
صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه وفى الخبر ما أنكرتم من زمانكم فبما غيرتم من أعمالكم
// حديث ما أنكرتم من زمانكم فبما أنكرتم من أعمالكم أخرجه البيهقى فى الزهد من
حديث أبى الدرداء وقال غريب تفرد به هكذا العقيلي وهو عبد الله بن هانىء قلت هو
متهم بالكذب قال ابن أبى حاتم روى عن أبيه أحاديث بواطيل // وفى الخبر يقول الله
تعالى إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتى أن أحرمه لذيذ مناجاتى //
حديث يقول الله إنى أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتى أن أحرمه لذة
مناجاتى غريب لم أجده // وحكى عن أبى عمرو بن علوان فى قصة يطول ذكرها قال فيها
كنت قائما ذات يوم أصلى فخار قلبى هوى طاولته بفكرتى حتى تولد منه شهوة الرجال
فوقعت إلى الأرض واسود جسدى كله فاستترت فى البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت أعالج
غسله فى الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سوادا حتى انكشف بعد ثلاث فلقيت الجنيد
وكان قد وجه إلى فأشخصنى من الرقة فلما أتيته قال لى أما استحييت من الله تعالى
كنت قائما بين يديه فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة وأخرجتك من بين يدي
الله تعالى فلولا أنى دعوت الله لك وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون قال فعجبت
كيف علم بذلك وهو ببغداد وأنا بالرقة
واعلم أنه لا يذنب العبد ذنبا إلا ويسود وجه قلبه فإن كان سعيدا أظهر السواد على
ظاهره لينزجر وإن كان شقيا أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار والأخبار كثيرة فى
آفات الذنوب فى الدنيا من الفقر والمرض وغيره بل من شؤم الذنب فى الدنيا على
الجملة أن يكسب ما بعده صفته فإن ابتلى بشىء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى
يتضاعف شقاؤه وإن أصابته نعمة كانت استدراجا له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على
كفرانه وأما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة فى حقه جزاء على طاعته ويوفق
لشكرها وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة فى درجاته
النوع الرابع ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة
والقتل والغيبة والكبر والحسد وكل ذلك مما لا يمكن حصره وذكره مع غير أهله وضع
الدواء فى غير موضعه بل ينبغى أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولا بالنبض
والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها فيستدل بقرائن الأحوال
على خفايا الصفات وليتعرض لما وقف عليه اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم حيث
قال له واحد أوصنى يا رسول الله ولا تكثر على قال لا تغضب // حديث قال رجل أوصنى
ولا تكثر على قال لا تغضب تقدم // وقال له آخر أوصنى يا رسول الله فقال
عليك
السلام عليك باليأس مما فى أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى وإياك والطمع فإنه الفقر
الحاضر وصل صلاة مودع وإياك وما يعتذر منه // حديث قال له آخر أوصنى قال عليك
باليأس الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم وقد تقدم // وقال رجل لمحمد بن واسع أوصنى
فقال أوصيك أن تكون ملكا فى الدنيا والآخرة قال وكيف لى بذلك قال الزم الزهد فى
الدنيا فكأنه صلى الله عليه و سلم توسم فى السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه وفى
السائل الآخر مخايل الطمع فى الناس وطول الأمل وتخيل محمد بن واسع فى السائل مخايل
الحرص على الدنيا وقال رجل لمعاذ أوصنى فقال كن رحيما أكن لك بالجنة زعيما فكأنه
تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة وقال رجل لإبراهيم بن أدهم أوصنى فقال إياك والناس
وعليك بالناس ولا بد من الناس فان الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس
وبقى النسناس وما أراهم بالناس بل غمسوا فى ماء الياس فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة
وأخبر عما كان هو الغالب على حاله فى وقته وكان الغالب أذاه بالناس والكلام على
قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة
رضى الله عنها أن اكتبى لى كتابا توصينى فيه ولا تكثري فكتبت إليه من عائشة إلى
معاوية سلام الله عليك أما بعد فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلميقول من
التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس سخط الله برضا الناس
وكله الله إلى الناس // حديث عائشة من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى
الناس الحديث أخرجه الترمذى والحاكم وفى مسند الترمذى من لم يسم // والسلام عليك
فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التى تكون الولاة بصددها وهى مراعاة الناس وطلب
مرضاتهم وكتبت إليه مرة أخرى أما بعد فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس
وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا والسلام
فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال
اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة
والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان
فإن قلت فإن كان الواعظ يتكلم فى جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله أن يعظه فكيف
يفعل فاعلم أن طريقة فى ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق فى الحاجة إليه إما على
العموم وإلا على الأكثر فإن فى علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة والأدوية
لأرباب العلل
ومثاله ما روى أن رجلا قال لأبى سعيد الخدرى أوصنى قال عليك بتقوى الله عز و جل
فإنها رأس كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بالقرآن فإنه نور لك
فى أهل الأرض وذكر لك فى أهل السماء وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب
الشيطان وقال رجل للحسن أوصنى فقال أعز أمر الله يعزك الله وقال لقمان لابنه يا
بنى زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول
كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا وصم صوما
يكسر شهوتك ولا تصم صوما يضر بصلاتك فإن الصلاة أفضل من الصوم ولا تجالس السفيه
ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضا لابنه يا بنى لا تضحك من غير عجب ولا تمش فى غير
أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال
غيرك ما تركت يا بنى إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ومن يقل
الشر يأثم ومن لا يملك لسانه يندم وقال رجل لأبى حازم أوصنى فقال كل ما لو جاءك
الموت عليه فرأيته غنيمة
فالزمه
وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام
أوصنى فقال كن بساما ولا تكن غضابا وكن نفاعا ولا تكن ضرارا وانزع عن اللجاجة ولا
تمش فى غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك
يا ابن عمران وقال رجل لمحمد بن كرام أوصنى فقال اجتهد فى رضا خالقك بقدر ما تجتهد
فى رضا نفسك وقال رجل لحامد اللفاف أوصنى فقال اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف أن
تدنسه الآفات قال وما غلاف الدين قال ترك طلب الدنيا إلا مالا بد منه وترك كثرة
الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه وكتب الحسن إلى
عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى أما بعد فخف مما خوفك الله وأحذر مما حذرك
الله وخذ مما فى يديك لما بين يديك فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام وكتب
عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه فكتب إليه أما بعد فإن الهول الأعظم
والأمور المفظعات أمامك ولا بد لك من مشاهدة ذلك إما بالنجاة وإما بالعطب واعلم أن
من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر فى العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن
حلم غنم ومن خاف أمن ومن أمن اعتبر ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم فإذا
زللت فارجع وإذا ندمت فاقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك وكتب مطرف بن عبد
الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من
من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوى جرحه
يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء وكتب عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه
إلى عدى بن أرطاة أما بعد فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله فأما أولياؤه
فغمتهم وأما أعداؤه فغرتهم وكتب أيضا إلى بعض عماله أما بعد فقد أمكنتك القدرة من
ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك واعلم أنك لا تأتى إلى الناس
شيئا إلا كان زائلا عنهم باقيا عليك واعلم أن الله عز و جل آخذ للمظلومين من
الظالمين والسلام
فهكذا ينبغى أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدرى خصوص واقعته فهذه المواعظ مثل
الأغذية التى يشترك الكافة فى الانتفاع بها
ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصى واستسرى الفساد وبلى
الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعا وينشدون أبياتا ويتكلفون ذكر ما ليس فى سعة علمهم
ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادرا من القلب
ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف
فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى وطلب العلماء أول علاج العاصين فهذا أحد
أركان العلاج وأصوله
الأصل الثانى الصبر ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره
وإنما يتناول ذلك إما لغفلته عن مضرته وإما لشدة غلبة شهوته فله سببان فما ذكرناه
هو علاج الغفلة فيبقى علاج الشهوة وطريق علاجها قد ذكرناه فى كتاب رياضة النفس
وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقة أن يستشعر عظم ضرره ثم يغيب
ذلك عن عينه فلا يحضره ثم يتسلى عنه بما يقرب منه فى صورته ولا يكثر ضررة ثم يصبر
بقوة الخوف على الألم الذى يناله فى تركه فلا بد على كل حال من مرارة الصبر فكذلك
يعالج الشهوة فى المعاصى كالشاب مثلا إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه
ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه فى السعى وراء شهوته فينبغى أن يستشعر ضرر ذنبه بأن
يستقرى المخلوقات التى جاءت فيه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و
سلم فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته ومهيج الشهوة من خارج هو
حضور
المشتهى والنظر إليه وعلاجه الهرب والعزلة ومن داخل تناول لذائذ الأطعمة وعلاجه
الجوع والصوم الدائم وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن
علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد فأول الأمر حضور مجالس الذكر
ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام
الفهم وينبعث من تمامه لا محالة خوفة وإذا قوى الخوف تيسر بمعونته الصبر وانبعثت
الدواعى لطلب العلاج وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك فمن أعطى من قلبه حسن
الإصغاء واستشعر الخوف فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره والله تعالى
لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى فلا يغنى عنه ما
اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما
لله الآخرة والأولى
فإن قلت فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب لا يمكن إلا بالصبر عنه
والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا
بالتصديق بعظم بعزم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو
الإيمان فكأن من أصر على الذنب لم يصر عليه إلا لأنه غير مؤمن فاعلم أن هذا لا
يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من
الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة
ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور
أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر والنفس جبلت متأثرة بالحاضر فتأثرها
بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر
الثانى أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهى في الحال آخذة بالمخنق وقد
قوى ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف والعادة طبيعة خامسة والنزوع عن
العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون
الآخرة وقال عز و جل بل تؤثرون الحياة الدنيا وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله
صلى الله عليه و سلمحفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات // حديث حفت الجنة
بالمكاره الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة // وقوله صلى الله عليه و سلمإن الله
تعالى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا
يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر اليها فنظر فقال وعزتك لقد
خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام اذهب فانظر
إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال اذهب
فانظر إليها فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد // حديث إن الله خلق
النار فقال لجبريل اذهب فانظر إليها الحديث أخرجه أبو داود والترمذى والحاكم وصححه
من حديث أبى هريرة وقدم فيه ذكر الجنة // فإذا كون الشهوة مرهقة فى الحال وكون
العقاب متأخرا إلى المآل سببان ظاهران فى الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل
من يشرب فى مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذبا بأصل الطب ولا مكذبا بأن ذلك مضر فى
حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر
الثالث أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو فى الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات
بالحسنات وقد وعد بأن ذلك يخبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف
التوبة والتكفير فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان
الرابع أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجابا لا
يمكن العفو عنها
فهو
يذنب وينتظر العفو عنها اتكالا على فضل الله تعالى فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار
على الذنب مع بقاء أصل الإيمان
نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح فى أصل إيمانه وهو كونه شاكا فى صدق الرسل وهذا
هو الكفر كالذى يحذره الطبيب عن تناول ما يضره فى المرض فإن كان المحذر ممن لا
يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالى به فهذا هو الكفر
فإن قلت فما علاج الأسباب الخمسة فأقول هو الفكر وذلك بأن يقرر على نفسه فى السبب
الأول وهو تأخر العقاب أن كل ما هو آت آت وأن غدا للناظرين قريب وأن الموت أقرب
إلى كل أحد من شراك نعله فما يدريه لعل الساعة قريب والمتأخر إذا وقع صار ناجزا
ويذكر نفسه أنه أبدا فى دنياه يتعب فى الحال لخوف أمر فى الاستقبال إذ يركب البحار
ويقاسى الاسفار لأجل الربح الذى يظن أنه قد يحتاج إليه فى ثانى الحال بل لو مرض
فأخبره طبيب نصرانى بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت وكان الماء البارد
ألذ الأشياء عنده تركه مع أن الموت ألمه لحظة إذا لم يخف ما بعده ومفارقته للدنيا
لا بد منها فكم نسبة وجوده فى الدنيا إلى عدمه أزلا وأبدا فلينظر كيف يبادر إلى
ترك ملاذه بقول ذمى لم تقم معجزة على طبه فيقول كيف يليق بعقلى أن يكون قول
الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصرانى يدعى الطب لنفسه بلا معجزة على
طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض وكل
يوم فى الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وبهذا التفكر بعينه يعالج
اللذة الغالبة عليه ويكلف نفسه تركها ويقول إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتى أيام
العمر وهى أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر
فكيف أطيق ألم النار وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها
وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر
فى أن أكثر صياح أهل النار من التسويف لأن المسوف يبنى الأمر على ما ليس إليه وهو
البقاء فلعله لا يبقى وإن بقى فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم فليت
شعرى هل عجز فى الحال إلا لغلبة الشهوة والشهوة ليست تفارقه غدا بل تتضاعف إذ
تتأكد بالاعتياد فليست الشهوة التى أكدها الإنسان بالعادة كالتى لم يؤكدها وعن هذا
هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ولا يظنون أن الأيام متشابهة فى أن
ترك الشهوات فيها أبدا شاق وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها
قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة
كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة فى الدنيا أعظم من
حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو فى نفسه
وقوى الضعيف
وأما المعنى الرابع وهو انتظار عفو الله تعالى فعلاجه ما سبق وهو كمن ينفق جميع
أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظرا من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز
فى أرض خربة فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان وهو مثل من يتوقع النهب من
الظلمة فى بلدة وترك ذخائر أمواله فى صحن داره وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل
وقال أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا
يتفرغ إلى دارى أو إذا انتهى إلى دارى مات على باب الدار فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة
وقد حكى فى الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله فمنتظر هذا منتظر
أمر ممكن ولكنه فى غاية الحماقة والجهل إذ قد لا يمكن ولا يكون
وأما
الخامس وهو شك فهذا كفر وعلاجه الأسباب التى تعرفة صدق الرسل وذلك يطول ولكن يمكن
أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله فيقال له ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات
هل صدقة ممكن أو تقول أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد فى مكانين فى حالة
واحدة فإن قال أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا فى
العقلاء وإن قال أنا شاك فيه فيقال لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامك فى
البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقة فهل تأكله أو تتركه وإن
كان ألذ الأطعمة فيقول أتركه لا محالة لأنى أقول إن كذب فلا يفوتنى إلا هذا الطعام
والصبر عنه وإن كان شديدا فهو قريب وإن صدق فتفوتنى الحياة والموت بالإضافة إلى ألم
الصبر عن الطعام وإضاعته شديد فيقال له يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم
مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف
العقلاء ولست أعنى بهم جهال العوام بل ذوى الألباب عن صدق رجل واحد مجهول لعل له
غرضا فيما يقول فليس فى العقلاء إلا من صدق باليوم الآخروأثبت ثوابا وعقابا وإن
اختلفوا فى كيفيته فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد وإن كذبوا فلا
يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة فلا يبقى له توقف إن كان عاقلا مع
هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة
وقدرنا طائرا يلتقط فى كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد
الآباد شيئا فكيف يفتر رأى العاقل فى الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلا لأجل سعادة
تبقى أبد الآباد ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخى المعرى
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولى فالخسار عليكما
لذلك قال على رضى الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكا إن صح
ما قلت فقد تخلصنا جميعا وإلا فقد تخلصت وهلكت أى العاقل يسلك طريق الأمن فى جميع
الأحوال
فإن قلت هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر
فيها واستثقلته وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع
وتفصيله فاعلم أن المانع من الفكر أمران أحدهما أن الفكر النافع هو الفكر فى عقاب
الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين فى الحرمان عن النعيم المقيم وهذا فكر
لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر فى أمور الدنيا على سبيل التفرج
والاستراحة والثاني أن الفكر شغل فى الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات وما
من إنسان إلا وله فى كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه
واسترقته فصار عقله مسخرا لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته وصارت لذته فى طلب الحيلة
فيه أو فى مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك
أما علاج هذين المانعين فهو أن يقول لقلبه ما أشد غباوتك فى الاحتراز من الفكر فى
الموت وما بعده تألما بذكره مع استحقار ألم مواقعته فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع
وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به وأما الثانى وهو كون الفكر
مفوتا للذات الدنيا فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم فإنها لا آخر لها
ولا كدورة فيها ولذات الدنيا سريعة الدثور وهى مشوبة بالمكدرات فما فيها لذة صافيه
عن كدر وكيف وفى التوبة عن المعاصى والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى
واستراحة بمعرفته وطاعته
وطول
الأنس به ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس
بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافيا فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة نعم هذه
اللذة لا تكون فى ابتداء التوبة ولكنها بعد ما يصير عليها مدة مديدة وقد صار الخير
ديدنا كما كان الشر ديدنا فالنفس قابلة ما عودتها تتعود والخير عادة والشر لجاجة
فإذن هذه الأفكار هى المهيجة للخوف المهيج لقؤة الصبر عن اللذات ومهيج هذه الأفكار
وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل فى الحصر فيصير الفكر موافقا
للطبع فيميل القلب إليه ويعبر عن السبب الذى أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذى
هو سبب الخير بالتوفيق إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة وبين المعنى الذى هو
طاعة نافعة فى الآخرة وقد روى فى حديث طويل أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلى بن ابى
طالب كرم الله وجهه يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بنى فقال على رضى
الله عنه بنى على أربع دعائم على الجفاء والعمى والغفلة والشك فمن جفا احتقر الحق
وجهر بالباطل ومقت العلماء ومن عمى نسى الذكر ومن غفل حاد عن الرشد ومن شك غرته
الأمانى فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب فما ذكرناه بيان
لبعض آفات الغفلة عن التفكر وهذا القدر فى التوبة كاف وإذا كان الصبر ركنا من أركان
دوام التوبة فلا بد من بيان الصبر فنذكره فى كتاب مفرد إن شاء الله تعالى
كتاب الصبر والشكر وهو الكتاب الثانى من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أهل الحمد والثناء المنفرد برداء الكبرياء المتوحد بصفات المجد والعلاء
المؤيد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء
والصلاة على محمد سيد الأنبياء وعلى أصحابه سادة الأصفياء وعلى آله قادة البررة
الأتقياء صلاة محروسة بالدوام عن الفناء ومصونة بالتعاقب عن التصرم والانقضاء
أما بعد فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر // حديث الإيمان نصفان نصف صبر ونصف
شكر أخرجه أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من رواية يزيد الرقاشى عن أنس ويزيد
ضعيف // كما وردت به الآثار وشهدت له الأخبار وهما أيضا وصفان من أوصاف الله تعالى
واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبورا وشكورا فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل
بكلا شطرى الإيمان ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل إلى الوصول إلى
القرب من الله تعالى إلا بالإيمان وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به
الايمان ومن به الإيمان والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به
الإيمان وعن إدراك ما به الإيمان فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان ونحن
نوضح كلا الشطرين فى كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى الشطر
الأول فى الصبر وفيه بيان فضيلة الصبر وبيان حدة وحقيقته وبيان كونه نصف الإيمان
وبيان اختلاف
أساميه
باختلاف متعلقاته وبيان أقسامه بحسب اختلاف القوة والضعف وبيان مظان الحاجة إلى
الصبر وبيان دواء الصبر وما يستعان به عليه فهي سبعة فصول تشتمل على جميع مقاصده
إن شاء الله تعالى
بيان فضيلة الصبر وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر
في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة
له فقال عز من قائل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وقال تعالى وتمت كلمة
ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا وقال تعالى ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون وقال تعالى أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا وقال تعالى إنما
يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر
ولأجل كون الصوم من الصبر وأنه نصف الصبر قال الله تعالى الصوم لي وأنا أجزى به
فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات ووعد الصابرين بأنه معهم فقال تعالى واصبروا
إن الله مع الصابرين وعلق النصرة على الصبر فقال تعالى بلى إن تصبروا وتتقوا
ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وجمع للصابرين
بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم
المهتدون فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين واستقصاء جميع الآيات في مقام
الصبر يطول
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه و سلمالصبر نصف الإيمان // حديث الصبر نصف
الإيمان أخرجه أبو نعيم والخطيب من حديث ابن مسعود وتقدم في الصوم // على ما سيأتي
وجه كونه نصفا وقال صلى الله عليه و سلم من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن
أعطى حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على ما
أنتم عليه أحب إلى من أن يوافيني كل امرىء منكم بمثل عمل جميعكم ولكني أخاف أن
تفتح عليكم الدنيا بعدى فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء عند ذلك فمن صبر
واحتسب ظفر بكمال ثوابه ثم قرأ قوله تعالى ما عندكم ينفد وما عنده الله باق
ولنجزين الذين صبروا أجرهم الآية // حديث من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر
الحديث بطوله تقدم في العلم مختصرا ولم أجده هكذا بطول // الآية وروى جابر أنه سئل
صلى الله عليه و سلم عن الايمان فقال الصبر والسماحة // حديث جابر سئل عن الايمان
فقال الصبر والسماحة أخرجه الطبراني في مكارم الآخلاق وابن حبان في الضعفاء وفيه
يوسف بن محمد بن المنكدر ضعيف ورواه الطبراني في الكبير من رواية عبد الله بن عبيد
بن عمير عن أبيه عن جده وقال أيضا الصبر كنز من كنوز الجنة // حديث الصبر كنز من
كنوز الجنة غريب لم أجده وسئل مرة ما الإيمان فقال الصبر // حديث سئل مرة عن
الايمان فقال الصبر أخرجه أبو منصور الديملى في مسند الفردوس من رواية يزيد
الرقاشي عن أنس مرفوعا الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ويزيد ضعيف وهذا
يشبه قوله صلى الله عليه و سلمالحج عرفه // حديث الحج عرفه تقدم في الحج معناه
معظم الحج عرفة وقال أيضا صلى صلى الله عليه و سلمأفضل الاعمال ما أكرهت عليه
النفوس // حديث أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس لا أصل له مرفوعا وإنما هو من
قول عمر بن عبد العزيز هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفس وقيل أوحى
الله تعالى إلى داود عليه السلام تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أني أنا الصبور وفي
حديث عطاء عن ابن عباس لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأنصار فقال
أمؤمنون أنتم فسكتوا فقال عمر نعم يا رسول الله قال وما علامة إيمانكم قالوا نشكر
على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء فقال صلى الله عليه و سلم
مؤمنون
ورب الكعبة // حديث عطاء عن ابن عباس دخل على الأنصار فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا
فقال عمر نعم يا رسول الله الحديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط من رواية يوسف بن
ميمون وهو منكر الحديث عن عطاء // وقال صلى الله عليه و سلم في الصبر على ما تكره
خير كثير // حديث في الصبر على ما تكره خير كثير أخرجه الترمذى من حديث ابن عباس
وقد تقدم // وقال المسيح عليه السلام إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما
تكرهون وقال رسول الله صلى الله عليه و سلملو كان الصبر رجلا لكان كريما والله يحب
الصابرين // حديث لو كان الصبر رجلا لكان كريما أخرجه الطبراني من حديث عائشة وفيه
صبيح بن دينار ضعفه العقيلى // والاخبار في هذا لا تحصى
وأما الآثار فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري
عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران أحدهما أفضل من الآخر الصبر في المصيبات حسن
وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى
أفضل البر والتقوى بالصبر وقال على كرم الله وجهه بني الإيمان على أربع دعائم
اليقين والصبر والجهاد والعدل وقال أيضا الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له وكان عمر رضي الله عنه يقول نعم
العدلان ونعمت العلاوة للصابرين يعني بالعدلين الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى
والعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به إلى قوله تعالى أولئك عليهم
صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية
إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب بكى وقال واعجباه اعطى واثنى أي هو المعطي
للصبر وهو المثنى وقال أبو الدرداء ذروة الايمان الصبر للحكم والرضا بالقدر هذا
بيان فضيلة الصبر من حيث النقل وأما من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه الا بعد
فهم حقيقة الصبر ومعناه اذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة
الموصوف فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق
بيان حقيقة الصبر ومعناه
اعلم أن الصبر مقام من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين وجميع مقامات الدين
إنما تنتظم من ثلاثة أمور معارف وأحوال وأعمال فالمعارف هي الأصول وهي تورث
الأحوال والأحوال تثمر الأعمال فالمعارف كالأشجار والأحوال كالأغصان والأعمال كالثمار
وهذا مطرد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى واسم الإيمان تارة يختص بالمعارف
وتارة يطلق على الكل كما ذكرناه في اختلاف اسم الإيمان والإسلام في كتاب قواعد
العقائد وكذلك الصبر لا يتم الا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة فالصبر على التحقيق
عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب
بين الملائكة والإنس والبهائم فان الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم
والملائكة اما في البهائم فلنقصانها وأما في الملائكة فلكمالها
وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة
والسكون الا الشهوة وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات
تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا
واما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة
القرب منها ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادةعنها حتى يحتاج الى مصادمة ما يصرفها عن
حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف
واما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة لم يخلق فيه الا شهوة
الغذاء الذي هو محتاج اليه ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على
الترتيب وليس له قوة الصبر ألبته اذ الصبر عبارة عن
ثبات
جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما وليس في
الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم
ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما
يهديه والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم واختص بصفتين إحداهما معرفة
الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب وكل ذلك حاصل من الملك
الذي إليه الهداية والتعريف فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب بل
إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ وأما الدواء النافع مع
كونه مضرا في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع
الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبه ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له
قدرة على ترك ما هو مضر فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا ولكن لا
قدرة له على دفعه فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك
القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه فوكل الله تعالى به ملكا آخر يسدده ويؤيده ويقويه
بجنود لم تروها وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوى
ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد كما أن نور الهداية ايضا يختلف في الخلق
اختلافا لا ينحصر
فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الانسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها باعثا دينيا
ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها باعث الهوى وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين
وباعث الهوى والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد ومدد باعث الدين من
الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء
الله تعالى فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة فإن ثبت حتى قهره
واستمر على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله والتحق بالصابرين وإن تخاذل وضعف حتى
غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها التحق بأتباع الشياطين
فإن ترك الأفعال المشتهاه عمل يثمره حال يسمى الصبر وهو ثبات باعث الدين الذي هو
في مقابلة باعث الشهوة وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات
ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخره فإذا قوى يقينه أعنى المعرفة التي
تسمى إيمانا وهو اليقين بكون الشهوة عدوا قاطعا لطريق الله تعالى قوى ثبات باعث
الدين واذا قوى ثباته تمت الافعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة فلا يتم ترك الشهوة
الا بقوة باعث الدين المضاد لباعث الشهوة وقوة المعرفة والايمان تقبح مغبة الشهوات
وسوء عاقبتها وهذان الملكان هما المتكفلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره
إياهما وهما من الكرام الكاتبين وهما الملكان الموكلان بكل شخص من الآدميين وإذا
عرفت أن رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوى لم يخف عليك أن جانب اليمين
هو أشرف الجانبين من جنبتي الدست الذي ينبغي أن يكون مسلما له فهو إذن صاحب اليمين
والآخر صاحب الشمال
وللعبد طوران في الغفلة والفكر وفي الاسترسال والمجاهدة فهو بالغفلة معرض عن صاحب
اليمين ومسيء إليه فيكتب أعراضه سيئة وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية فهو
به محسن فيكتب إقباله له حسنة وكذا بالاسترسال هو معرض عن صاحب اليسار تارك
للإستمداد منه فهو به مسىء إليه فيثبت عليه سيئة وبالمجاهدة مستمد من جنوده فيثبت
له به حسنة وإنما ثبتت هذه الحسنات والسيئات بإثباتهما فلذلك سميا كراما كاتبين
أما الكرام فلإنتفاع العبد بكرمهما ولأن الملائكة كلهم كرام بررة وأما الكاتبون فلإثباتهما الحسنات والسيئات وإنما يكتبان في صحائف مطوية في سر القلب ومطوية عن سر القلب حتى لا يطلع عليه في هذا العالم فإنهما وكتبتهما وخطهما وصائفهما وجملة ما تعلق بهما من جملة عالم الغيب والملكوت لا من عالم الشهادة وكل شيء من عالم الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم ثم تنشر هذه الصحائف المطوية عنه مرتين مرة في القيامة الصغرى ومرة في القيامة الكبرى وأعني بالقيامة الصغرى حالة الموت إذ قال صلى الله صلى الله عليه و سلممن مات فقد قامت قيامته // حديث من مات فقد قامت قيامته أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت من حديث أنس بسند ضعيف // وفي هذه القيامة يكون العبد وحده وعندها يقال ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وفيها يقال كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا أما في القيامة الكبرى الجامعة لكافة الخلائق فلا يكون وحده بل ربما يحاسب على ملأ من الخلق وفيها يساق المتقون إلى الجنة والمجرمون إلى النار زمرا لا آحادا والهول الأول هو هول القيامة الصغرى ولجميع أهوال القيامة الكبرى نظير في القيامة الصغرى مثل زلزلة الأرض مثلا فإن أرضك الخاصة بك تزلزل في الموت فإنك تعلم أن الزلزلة إذا نزلت ببلدة صدق أن يقال قد زلزلت أرضهم وإن لم تزلزل البلاد المحيطة بها بل لو زلزل مسكن الإنسان وحده فقد حصلت الزلزلة في حقه لأنه إنما يتضرر عند زلزلة جميع الارض بزلزلة مسكنه لا بزلزلة مسكن غيره فحصته من الزلزلة قد توفرت من غير نقصان واعلم أنك أرضى مخلوق من التراب وحظك الخاص من التراب بدنك فقط فأما بدن غيرك فليس بحظك والأرض التي أنت جالس عليها بالإضافة الى بذلك ظرف ومكان وانما تخاف من تزلزله ان يتزلزل بدنك بسببه والا فالهواء أبدا متزلزل وأنت لا تخشاه اذ ليس يتزلزل به بدنك فحظك من زلزلة الأرض كلها زلزلة بدنك فقط فهي أرضك وترابك الخاص بك وعظامك جبال أرضك ورأسك سماء أرضك وقلبك شمس أرضك وسمعك وبصرك وسائر خواصك نجوم سمائك ومفيض العرق من بدنك بحر أرضك وشعورك نبات أرضك وشعورك نبات ارضك وأطرافك أشجار أرضك وهكذا إلى جميع أجزائك فاذا انهدم بالموت أركان بدنك فقد زلزلت الأرض زلزالها فاذا انفصلت العظام من اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكتادكة واحدة فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفا فإذا اظلم قلبك عند الموت فقد كورت الشمس تكويرا فإذا بطل سمعك وبصرك وسائر حواسك فقد انكدرت النجوم انكدارا فإذا انشق دماغك فقد انشقت السماء انشقاقا فإذا انفجرت من هول الموت عرق جبينك فقد فجرت البحار تفجيرا فإذا التفت إحدى ساقيك بالأخرى وهما مطيتاك فقد عطلت العشار تعطيلا فإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدت حتى ألقت ما فيها وتخلت ولست أطول بجميع موازنة الأحوال والأهوال ولكني أقول بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة الصغرى ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصك بل ما يخص غيرك فان بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتثرت حواسك التي بها تنتفع بالنظر الى الكواكب والأعمى يستوى عنده الليل والنهار وكسوف الشمس وانجلاؤها لأنها قد كسفت في حقه دفعه واحدة وهو حصته منها فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره ومن انشق رأسه فقد انشقت سماؤه إذ السماء عبارة عما يلي جهة الرأس فمن لا رأس له لا سماء له فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره فهذه هي القيامة الصغرى والخوف بعد أسفل والهول بعد مؤخر وذلك اذا جاءت الطامة الكبرى وارتفع الخصوص وبطلت السموات والارض ونسفت الجبال ونمت الأهوال
واعلم
أن هذه الصغرى وإن طولنا في وصفها فإنا لم نذكر عشير أوصافها وهي بالنسبة إلى
القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى فإن للإنسان ولادتين
إحداهما الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين
إلى قدر معلوم وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها
إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص
القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم الى سعة فضاء الرحم ونسبة سعة العالم الذي
يقدم عليه العبد بالموت إلى سعة فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا أيضا إلى الرحم بل
أوسع وأعظم فقس الآخره بالأولى فما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة وما النشأة
الثانية إلا على قياس النشأة الأولى بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنتين وإليه
الإشارة بقوله تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فالمقر بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب
والشهادة وموقن بالملك والملكوت والمقر بالقيامة الصغرى دون الكبرى ناظر بالعين
العوراء الى أحد العالمين وذلك هو الجهل والضلال والأقتداء بالأعور الدجال
فما اعظم غفلتك يا مسكين وكلنا ذلك المسكين وبين يديك هذه الأهوال فإن كنت لا تؤمن
بالقيامة الكبرى بالجهل والضلال أفلا تكفيك دلالة القيامة الصغرى أو ما سمعت قول
سيد الأنبياء كفى بالموت واعظا // حديث كفى بالموت واعظا أخرجه البيهقى فى الشعب
من حديث عائشة وفيه الربيع بن بدر ضعيف ورواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر وهو
معروف من قول الفضيل بن عياض رواه البيهى فى الزهد // او ما سمعت بكر به عليه
السلام عند الموت حتى قال صلى الله عليه و سلماللهم هون على محمد سكرات الموت //
حديث اللهم هون على محمد سكرات الموت أخرجه الترمذى وقال غريب والنسائى فى اليوم
والليلة وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ اللهم أعنى على سكرات الموت // او ما تستحي
من استبطائك هجوم الموت اقتداء برعاع الغافلين الذين لا ينظرون الا صيحة واحدة
تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون فيأتيهم المرض نذيرا
من الموت فلا ينزجرون ويأتيهم الشيب رسولا منه فما يعتبرون فيا حسرة على العباد ما
يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزئون أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون أو لم يروا
كم اهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أم يحسبون أن الموتى سافروا من
عندهم فهم معدمون كلا وإن كل لما جميع لدينا محضرون ولكن ما تأتيهم من آية من آيات
ربهم إلا كانوا عنها معرضين وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
ولنرجع إلى الغرض فان هذه تلويحات تشير إلى أمور هي أعلى من علوم المعاملة فنقول
ظهر أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى وهذه المقاومة من
خاصة الآدميين لما وكل بهم من الكرام الكاتبين ولا يكتبان شيئا عن الصبيان
والمجانين إذ قد ذكرنا أن الحسنة في الاقبال على الاستفادة منهما والسيئة في
الإعراض عنهما وما للصبيان والمجانين سبيل إلى الاستفادة فلا يتصور منهما إقبال
وإعراض وهما لا يكتبان الا الإقبال و الإعراض من القادرين على الإقبال والإعراض
ولعمري انه قد تظهر مباديء إشراق نور الهداية عند سن التمييز وتنمو على التدريج
الى سن البلوغ كما يبدو نور الصبح الى ان يطلع قرص الشمس ولكنها هداية قاصرة لا
ترشد الى مضار الآخرة بل إلى مضار الدنيا فلذلك يضرب على ترك الصلوات ناجزا ولا
يعاقب على تركها في الآخرة ولا يكتب عليه من الصحائف ما ينشر في الآخرة بل على
القيم العدل والولى البر الشفيق
إن
كان من الأبرار وكان على سمت الكرام الكاتبين البررة الأخيار أن يكتب على الصبي
سيئته وحسنته على صحيفة قلبه فيكتبه عليه بالحفظ ثم ينشره عليه بالتعريف ثم يعذبه
عليه بالضرب فكل ولي هذا سمته في حق الصبي فقد ورث أخلاق الملائكة واستعملها في حق
الصبي فينال بها درجة القرب من رب العالمين كما نالته الملائكة فيكون مع النبيين
والمقربين والصديقين واليه الاشارة بقوله صلى الله عليه و سلمأنا وكافل اليتيم
كهاتين في الجنة // حديث أنا وكافل اليتيم كهاتين أخرجه البخارى من حديث سهل بن
سعد وتقدم // واشار الى أصبعيه الكريمتين صلى الله عليه و سلم
بيان كون الصبر نصف الايمان
اعلم أن الإيمان تارة يختص في إطلاقه بالتصديقات بأصول الدين وتارة يختص بالأعمال
الصالحة الصادرة منها وتارة يطلق عليهما جميعا وللمعارف أبواب وللأعمال أبواب
ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيفا وسبعين بابا واختلاف هذه
الإطلاقات ذكرناه في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات ولكن الصبر نصف الإيمان
باعتبارين وعلى مقتضى إطلاقين
أحدهما أن يطلق على التصديقات والأعمال جميعا فيكون للإيمان ركنان أحدهما اليقين
والآخر الصبر والمراد باليقين المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى
أصول الدين والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضاره
والطاعة نافعة ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال
باعث الدين فى قهر باعث الهوى والكسل فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار ولهذا
جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما فقال من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة
الصبر الحديث إلى آخره
الاعتبار الثاني أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف وعند ذلك
ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة او يضره فيهما وله
بالإضافة الى ما يضره حال الصبر وبالإضافة الى ما ينفعه حال الشكر فيكون الشكر أحد
شطري الإيمان بهذا الاعتبار كما أن اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأول وبهذا
النظر قال ابن مسعود رضي الله عنه الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر وقد يرفع أيضا الى
رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولما كان الصبر صبرا عن باعث الهوى بثبات باعث الدين وكان باعث الهوى قسمين باعث
من جهة الشهوة وباعث من جهة الغضب فالشهوة لطلب اللذيذ والغضب للهرب من المؤلم
وكان الصوم صبرا عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب قال
بهذا الاعتبار الصوم نصف الصبر لأن كمال الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة ودواعي
الغضب جميعا فيكون الصوم بهذا الاعتبار ربع الإيمان فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات
الشرع بحدود الأعمال والأحوال ونسبتها إلى الإيمان والأصل فيه أن تعرف كثرة أبواب
الإيمان فإن اسم الإيمان يطلق على وجوه مختلفة
بيان الأسامي التي تتجدد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر
أعلم أن الصبر ضربان أحدهما ضرب بدني كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها وهو إما
بالفعل كتعاطي
الأعمال
الشاقة إما من العبادات أو من غيرها واما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد
والمرض العظيم والجراحات الهائلة وذلك قد يكون محمودا إذا وافق الشرع
ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات
الهوى ثم هذا الضرب إن كان صبرا على شهوة البطن والفرج سمى عفة وإن كان على احتمال
مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر فإن كان في
مصيبة اقتصر على اسم الصبر وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى
ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشق الجيوب وغيرهما وإن كان في احتمال الغنى سمى
ضبط النفس وتضاده حالة تسمى البطر وإن كان في حرب ومقاتلة سمى شجاعة ويضاده الجبن
وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمى حلما ويضاده التذمر وإن كان في نائبة من نوائب
الزمان مضجرة سمى سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء
كلام سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوما وإن كان عن فضول العيش سمى زهدا ويضاده
الحرص وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره فأكثر أخلاق
الإيمان داخل في الصبر ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال هو الصبر
لأنه أكثر أعماله وأعزها كما قال الحج عرفة وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى
الكل صبرا فقال تعالى والصابرين في البأساء أي المصيبة والضراء أي الفقر وحين
البأس أي المحاربة اولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون فإذن هذه أقسام الصبر
باختلاف متعلقاتها ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في
ذواتها وحقائقها من حيث رأي الأسامي مختلفة والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور
الله تعالى يلحظ المعاني أولا فيطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة
على المعاني فالمعاني هي الأصول والالفاظ هي التوابع ومن يطلب الأصول من التوابع
لا بد وأن يزل وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى
أمن يمشي سويا على صراط مستقيم فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه
الانعكاسات نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه
بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف
أعلم أن باعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال أحدها أن يقهر داعي
الهوى فلا تبقى له قوة المنازعة ويتوصل إليه بدوام الصبر وعند هذا يقال من صبر ظفر
والواصلون الى هذه الرتبة هم الأقلون فلا جرم هم الصديقون المقربون الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا فهؤلاء لازموا الطريق المستقيم واستووا على الصراط القويم
واطمأنت نفوسهم على مقتضى باعث الدين وإياهم ينادي المنادي يا أيتها النفس
المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية
الحالة الثانية أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين فيسلم نفسه
إلى جند الشياطين ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون
وهم الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي
هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله وإليهم الإشارة بقوله تعالى ولو شئنا
لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وهؤلاء
هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم وقيل لمن قصد إرشادهم فأعرض
عمن تولى عن ذكرنا
ولم
يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط
والغرور بالأماني وهو غاية الحمق كما قال صلى الله عليه و سلمالكيس من دان نفسه
وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله // حديث الكيس من
دان نفسه الحديث تقدم فى ذم الغرور // وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال أنا مشتاق إلى
التوبة ولكنها قد تعذرت على فلست أطمع فيها أو لم يكن مشتاقا إلى التوبة ولكن قال
إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي وهذا المسكين قد صار عقله رقيقا
لشهوته فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته
فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه في رعاية
الخنازير وحفظ الخمور وحملها ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلما ويسلمه إلى
الكفار ويجعله أسيرا عندهم لأنه بفاحش جنايته يشبه أنه سخر ما كان حقه أن لا
يستسخر وسلط ما حقه أن لا يتسلط عليه وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطا لما فيه
من معرفة الله وباعث الدين وإنما استحق الكافر أن يكون مسلطا عليه لما فيه من
الجهل بالدين وباعث الشياطين وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه فمهما سخر
المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب
الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلما لكافر بل هو كمن قصد الملك
المنعم عليه فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى أبغض أعدائه فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته
واستيجابه لنقمته لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى والعقل أعز
موجود خلق على وجه الأرض
الحالة الثالثة أن يكون الحرب سجالا بين الجندين فتارة له اليد عليها وتارة لها
عليه وهذا من المجاهدين يعد مثله لا من الظافرين وأهل هذه الحالة هم الذين خلطوا
عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم هذا باعتبار القوة والضعف ويتطرق
إليه أيضا ثلاثة أحوال باعتبار عدد ما يصبر عنه فإنه إما أن يغلب جميع الشهوات أو
لا يغلب شيئا منها أو يغلب بعضها دون بعض وتنزيل قوله تعالى خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا على من عجز عن بعض الشهوات دون بعض أولى والتاركون للمجاهدة مع الشهوات مطلقا
يشبهون بالأنعام بل هم أضل سبيلا إذ البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها
تجاهد مقتضى الشهوات وهذا قد خلق ذلك له وعطلة فهو الناقص حقا المدبر يقينا ولذلك
قيل
ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام
وينقسم الصبر أيضا باعتبار اليسر والعسر إلى ما يشق على النفس فلا يمكن الدوام
عليه إلا بجهد جهيد وتعب شديد ويسمى ذلك تصبرا وإلى ما يكون من غير شدة تعب بل
يحصل بأدنى تحامل على النفس ويخص ذلك باسم الصبر وإذا دامت التقوى وقوى التصديق
بما في العاقبة من الحسنى تيسر الصبر ولذلك قال تعالى فأما من أعطى واتقى وصدق
بالحسنى فسنيسره لليسرى ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره فإن الرجل القوي
يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوة بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا
لغوب ولا تضطرب فيه نفسه ولا ينبهر ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلا بتعب ومزيد
جهد وعرق جبين فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى فإنه على التحقيق
صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت وتسلط باعث
الدين واستولى وتيسر الصبر بطول المواظبة اورث ذلك مقام الرضا كما سياتي في كتاب
الرضا فالرضا
أعلى
من الصبر ولذلك قال صلى الله عليه و سلماعبد الله على الرضا فان لم تستطع ففي
الصبر على ما تكره خير كثير وقال بعض العارفين اهل الصبر على ثلاثة مقامات أولها
ترك الشهوة وهذه درجة التائبين وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين وثالثها
المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصديقين
وسنبين في كتاب المحبة ان مقام المحبة أعلى من الرضا كما ان مقام الرضا اعلى من
مقام الصبر وكان هذا الانقسام يجري في صبر خاص وهو الصبر على المصائب والبلايا
واعلم ان الصبر ايضا ينقسم باعتبار حكمه الى فرض ونفل ومكروه ومحرم فالصبر عن
المحظورات فرض وعلى المكاره نفل والصبر على الاذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو
يد ولده وهو يصبر عليه ساكتا وكمن يقصد حريمة بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن
اظهاره الغيرة ويسكت على ما يجري على اهله فهذا الصبر محرم والصبر المكروه هو
الصبر على اذى يناله بجهة مكروهه في الشرع فليكن الشرع محك الصبر فكون الصبر نصف
الايمان لا ينبغي ان يخيل اليك ان جميعه محمود بل المراد به انواع من الصبر مخصوصة
بيان مظان الحاجة الى الصبر وان العبد لا يستغني عنه في حال من
الاحوال
أعلم ان جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين احدهما هو الذي يوافق
هواه والاخر هو الذي لا يوافقه بل يكرهه وهو محتاج الى الصبر في كل واحد منهما وهو
في جميع الاحوال لا يخلو عن احد هذين النوعين او عن كليهما فهو إذن لا يستغنى قط
عن الصبر
النوع الأول ما يوافق الهوى وهو الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة
واتساع الاسباب وكثرة الأتباع والأنصار وجميع ملاذ الدنيا وما احوج العبد الى
الصبر على هذه الأمور فإنه ان لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون اليها والانهماك
في ملاذها المباحة منها أخرجه ذلك الى البطر والطغيان فإن الإنسان ليطغى ان رآه
استغنى حتى قال بعض العارفين البلاء يصبر عليه المؤمن والعوافي لا يصبر عليها الا
صديق وقال سهل الصبر على العافية اشد من الصبر على البلاء ولما فتحت ابواب الدنيا
على الصحابة رضي الله عنهم قالوا ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا وابتلينا بفتنة
السراء فلم نصبر ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والزوج والولد فقال تعالى يا
أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله وقال عز و جل ان من
ازواجكم واولادكم عدوا لكم فاحذروهم وقال صلى الله عليه و سلمالولد مبخلة مجبنة
محزنة ولما نظر عليه السلام الى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن
المنبر واحتضنه ثم قال صدق الله إنما اموالكم واولادكم فتنة اني لما رأيت ابني
يتعثر لم املك نفسي ان اخذته ففي ذلك عبرة لأولى الأبصار
فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية ومعنى الصبر عليها ان لا يركن اليها ويعلم ان
كل ذلك مستودع عنده وعسى ان يسترجع على القرب وان لا يرسل نفسه في الفرح بها ولا
ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب وان يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق وفي
بدنه ببذل المعونة للخلق وفي لسانه ببذل الصدق وكذلك في سائر ما انعم الله به عليه
وهذا
الصبر متصل بالشكر فلا يتم الا بالقيام بحق الشكر كما سيأتي وانما كان الصبر على
السراء اشد لأنه مقرون بالقدرة ومن العصمة ان لا تقدر والصبر على الحجامة والقصد
اذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك والجائع عند غيبة الطعام
اقدر على الصبر منه اذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذه وقدر عليها فلهذا عظمت فتنة
السراء
النوع الثاني ما لا يوافق الهوى والطبع وذلك لا يخلو اما ان يرتبط باختيار العبد
كالطاعات والمعاصي او لا يرتبط باختيار كالمصائب والنوائب أولا يرتبط باختياره
ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه فهذه ثلاثة اقسام
القسم الاول ما يرتبط باختياره وهو سائر افعاله التي توصف بكونها طاعة او معصية
وهما ضربان
الضرب الاول الطاعة والعبد يحتاج الى الصبر عليها فالصبر على الطاعة شديد لان
النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية ولذلك قال بعض العارفين ما من نفس
الا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله أنا ربكم الاعلى ولكن فرعون وجد له مجالا
وقبولا فأظهره اذ استخف قومه فأطاعوه وما من احد الا وهو يدعى ذلك مع عبده وخادمه
وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وان كان ممتنعا من اظهاره فان استشاطته وغيظه
عند تقصيرهم في خدمته واستعباده ذلك ليس يصدر الا عن اضمار الكبر ومنازعة الربوية
في رداء الكبرياء
فإذن العبودية شاقة على النفس مطلقا ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة
ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ومنها ما يكره بسببهما جميعا كالحج والجهاد
فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد
ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته فى ثلاث أحوال الأولى قبل الطاعة وذلك في تصحيح
النية والاخلاص والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات وعقد العزم على الاخلاص
والوفاء وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والاخلاص وآفات الرياء
ومكايد النفس وقد نبه صلى الله عليه و سلم اذ قال صلى الله عليه و سلمإنما الاعمال
بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى // وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
له الدين ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال تعالى الا الذين صبروا وعملوا
الصالحات
الحالة الثانية حالة العمل كي لا يغفل عن الله في اثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق
آدابه وسننه ويدوم على شرط الأدب الى آخر العمل الاخير فيلازم الصبر عن دواعي
الفتور الى الفراغ وهذا ايضا من شدائد الصبر ولعله المراد بقوله تعالى نعم اجر
العاملين الذين صبروا أي صبروا الى تمام العمل
الحالة الثالثة بعد الفراغ من العمل اذ يحتاج الى الصبر عن إفشائه والتظاهر به
للسمعة والرياء والصبر عن النظر اليه بعين العجب وعن كل ما يبطل عمله ويحبط اثره
كما قال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وكما قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى
فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والاذى فقد ابطل عمله
والطاعات تنقسم الى فرض ونفل وهو محتاج الى الصبر عليهما جميعا وقد جمعهما الله
تعالى في قوله أن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى فالعدل هو الفرض
والإحسان هو النفل وايتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم وكل ذلك يحتاج الى صبر
الضرب الثاني المعاصي فما أحوج العبد الى الصبر عنها وقد جمع الله تعالى انواع
المعاصي في قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقال صلى الله عليه و
سلمالمهاجر من هجر السوء والمجاهد من جاهد هواه
والمعاصي
مقتضى باعث الهوى
واشد انواع الصبر الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة فإن العاده طبيعة
خامسة فاذا انضافت العادة الى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله
تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها ثم ان كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر
عنه اثقل على النفس كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على
النفس تعريضا وتصريحا وأنواع المزح المؤذي للقلوب وضروب الكلمات التي يقصد بها
الإزراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم فان ذلك
في ظاهرة غيبة وفي باطنه ثناء على النفس فللنفس فيه شهوتان احداهما نفي الغير
والأخرى اثبات نفسه وبها تتم له الربوبية التي هي في طبعه وهي ضد ما أمر به من
العبودية ولاجتماع الشهوتين وتيسر تحريك اللسان ومصير ذلك معتادا في المحاورات
يعسر الصبر عنها وهي أكبر الموبقات حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب لكثرة
تكريرها وعموم الانس بها فترى الانسان يلبس حريرا مثلا فيستبعد غاية الاستبعاد
ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك مع ما ورد في الخبر من ان
الغيبة أشد من الزنا // ومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر عن ذلك
فيجب عليه العزلة والانفراد فلا ينجيه غيره فالصبر على الانفراد اهون من الصبر على
السكوت مع المخالطة
وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها
وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس فلا جرم يبقى حديث النفس في
العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلا إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه
كمن أصبح وهمومه هم واحد والا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور
الوسواس عنه
القسم الثاني مالا يرتبط هجومه باختياره وله اختيار في دفعه كما لو أوذي بفعل أو
قول وجنى عليه في نفسه أو ماله فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا
وتارة يكون فضيلة قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما كنا نعد إيمان الرجل ايمانا
إذا لم يصبر على الأذى وقال تعالى ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل
المتوكلون وقسم رسول الله صلى الله عليه و سلممرة مالا فقال بعض الأعراب من
المسلمين هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فأخبر رسول الله فاحمرت وجنتاه ثم قال
يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر // وقال تعالى ودع آذاهم وتوكل على
الله وقال تعالى واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وقال تعالى ولقد نعلم أنك
يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك الآية وقال تعالى ولتسمعن من الذين أوتوا
الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم
الأمور أي تصبروا عن المكأفاة ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص
وغيره فقال تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير
الصابرين وقال صلى الله عليه و سلمصل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك // ورأيت
في الإنجيل قال عيسى بن مريم عليه السلام لقد قيل لكم من قبل إن السن بالسن والأنف
بالأنف وأنا أقول لكم لا تقاوموا بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه
الخد
الأيسر ومن اخذ رداءك فاعطه ازارك ومن سخرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين وكل ذلك
أمر بالصبر على الاذى فالصبر على اذى الناس من أعلى مراتب الصبر لانه يتعاون فيه
باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعا
القسم الثالث ما لا يدخل تحت حصر الاختيار اوله وآخره كالمصائب مثل موت الاعزة
وهلاك الاموال وزوال الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الاعضاء وبالجملة سائر انواع
البلاء فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر قال ابن عباس رضي الله عنهما الصبر في
القران على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلثمائة درجة وصبر عن
محارم الله تعالى فله ستمائة درجة وصبر على المصيبة عند الصدمة الاولى فله تسعمائة
درجة وإنما فضلت هذه الرتبة مع انها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض لأن
كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم
فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه الا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين
فان ذلك شديد على النفس ولذلك قال صلى الله عليه و سلمأسألك من اليقين ما تهون على
به مصائب الدنيا // فهذا صبر مستنده حسن اليقين
وقال ابو سليمان والله ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره وقال النبي صلى
الله عليه و سلمقال الله عز و جل اذا وجهت الى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه او ماله
وولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة ان انصب له ميزانا او انشر
له ديوانا // وقال صلى الله عليه و سلمانتظار الفرج بالصبر عبادة // وقال صلى الله
عليه و سلمما من عبد مؤمن اصيب بمصيبة فقال كما امر الله تعالى انا لله وانا اليه
راجعون اللهم اؤجرني بمصيبتي واعقبني خيرا منها الا فعل الله به ذلك // وقال انس
حدثني رسول الله صلى الله عليه و سلمإن الله عز و جل قال يا جبريل ما جزاء من سلبت
كريمتيه قال سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا قال الله تعالى جزاؤه الخلود في داري
والنظر الى وجهي // وقال صلى الله عليه و سلميقول الله عز و جل إذا ابتليت عبدي
ببلاء فصبر ولم يشكني الى عواده ابدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فاذا
أبرأته ابرأته ولا ذنب له وإن توفيته فإلى رحمتي وقال داود عليه السلام يا رب ما
جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك قال جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان
فلا أنزعه عنه ابدا وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته ما أنعم الله على
عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه منها الصبر الا كان ما عوضه منها أفضل مما انتزع منه
وقرا خانما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وسئل فضيل عن الصبر فقال هو
الرضا
بقضاء الله قيل وكيف ذلك قال الراضي لا يتمنى فوق منزلته وقيل حبس الشبلى رحمة
الله في المارستان فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا أحباؤك جاءوك زائرين فأخذ
يرميهم بالحجاره فأخذوا يهربون فقال لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي وكان بعض
العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها وكان فيها واصبر لحكم ربك فانك
بأعيننا ويقال ان امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت فقيل لها أما تجدين
الوجع فقالت إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه وقال داود لسليمان عليهما
السلام يستدل على تقوى المؤمن بثلاث حسن التوكل فيما لم ينل وحسن الرضا فيما قد
نال وحسن الصبر فيما قد فات وقال نبينا صلى الله عليه و سلممن اجلال الله ومعرفة
حقه ان لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك // ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوما وفي
كمه صرة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه فقال بارك الله له فيها لعله أحوج اليها
مني وروى عن بعضهم أنه قال مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق فقلت
له أسقيك ماء فقال جرني قليلا إلى العدو واجعل الماء في الترس فاني صائم فان عشت
الى الليل شربته فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى
فان قلت فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الامر الى اختياره فهو مضطر شاء
أم أبى فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في
اختيار فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشق الجيوب وضرب الخدود
والمبالغة في الشكوى واظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم وهذه
الامور داخلة تحت اختياره فينبغي ان يجتنب جميعها ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى
ويبقى مستمرا على عادته ويعتقد ان ذلك كان وديعة فاسترجعت كما روى عن الرميصاء ام
سليم رحمها الله أنها قالت توفى ابن لى وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية
البيت فقدم ابو طلحة فقمت فهيأت له إفطاره فجعل يأكل فقال كيف الصبي قلت بأحسن حال
بحمد الله ومنه فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ثم تصنعت له أحسن ما كنت
أتصنع له قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته ثم قلت الا تعجب من جيراننا قال ما لهم قلت
أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا فقال بئس ما صنعوا فقلت هذا ابنك كان
عارية من الله تعالى وإن الله قد قبضه اليه فحمد الله واسترجع ثم غدا على رسول
الله صلى الله عليه و سلمفأخبره فقال اللهم بارك لهما في ليلتهما // قال الراوي
فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرءوا القرآن وروى جابر أنه عليه
السلام قال رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة ابي طلحة وقد قيل
الصبرالجميل هو ان لا يعرف صاحب المصيبة من غيره ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع
القلب ولا فيضان العين بالدمع اذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ولأن
البكاء توجع القلب على الميت فان ذلك مقتضى البشرية ولا يفارق الانسان الى الموت
ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه و سلمفاضت عيناه فقيل له أما
نهيتنا عن هذا فقال ان هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحما بل ذلك ايضا لا
يخرج عن مقام الرضا فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة
وقد تفيض عيناه اذا عظم ألمه وسيأتي
ذلك
في كتاب الرضا ان شاء الله تعالى وكتب ابن ابي نجيح يعزي بعض الخلفاء ان أحق من
عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له واعلم ان
الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك واعلم ان اجر الصابرين به
فيما يصابون به اعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه
فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين
نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب وقد قيل من كنوز البر كتمان
المصائب والاوجاع والصدقة فقد ظهر لك بهذه التقسيمات ان وجوب الصبر عام في جميع
الاحوال والافعال فان الذي كفى الشهوات كلها واعتزل وحده لا يستغنى عن الصبر على
العزلة والانفراد ظاهرا وعن الصبر عن وساوس الشيطان باطنا فان اختلاج الخواطر لا
يسكن واكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له او في مستقبل لا بد وان
يحصل منه ما هو مقدر فهو كيفما كان تضييع زمان وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره فاذا
غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى او عن فكر يستفيد به
معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون هذا ان كان فكره
ووسواسه في المباحات مقصورا عليه ولا يكون ذلك غالبا بل يتفكر في وجوء الحيل لقضاء
الشهوات اذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره او من يتوهم انه
ينازعه ويخالف امره او غرضه بظهور امارة له منه بل يقدر المخالفة من اخلص الناس في
حبه حتى في اهله وولده ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم
وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته ولا يزال في شغل دائم فللشيطان جندان جند يطير
وجند يسير والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار
وهذا لان الشيطان خلق من النار وخلق الانسان من صلصال كالفخار والفخار قد اجتمع
فيه مع النار الطين والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة فلا يتصور نار
مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها وقد كلف الملعون المخلوق من النار ان
يطمئن عن حركته ساجدا لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى وعبر عن سبب
استعصائه بأن قال خلقتني من نار وخلقته من طين
فاذن حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي ان يطمع في
سجوده لأولاده ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد اظهر انقياده
وإذعانه وانقياده بالإذعان سجود منه فهو روح السجود وانما وضع الجبهة على الارض
قالبه وعلامته الدالة عليه بالإصطلاح ولو جعل وضع الجبهة على الارض علامة استخفاف
بالاصطلاح لتصور ذلك كما ان الانبطاح بين يد المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة
فلا ينبغي ان يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللب عن اللب
فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق ان الشيطان من المنظرين
فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس الى يوم الدين الا ان تصبح وهمومك هم واحد فتشغل
قلبك بالله وحده فلا يجد الملعون مجالا فيك فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين
الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين
ولا تظنن انه يخلو عنه قلب فارغ بل هو سيال يجرى من ابن آدم مجرى الدم وسيلانه مثل
الهواء فى القدح فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير ان تشغله بالماء او
بغيره فقد طمعت في غير مطمع بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة
فكذلك القلب المشغول بفكر مهم في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان والا فمن غفل عن
الله تعالى ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين الا الشيطان ولذلك قال تعالى
ومن
يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وقال صلى الله عليه و سلمان الله
تعالى يبغض الشاب الفارغ // وهذا لان الشاب اذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح
يستعين به على دينه كان ظاهرة فارغا ولم يبق قلبه فارغا بل يعشش فيه الشيطان ويبيض
ويفرخ ثم تزدوج افراخه ايضا وتبيض مرة اخرى وتفرخ وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا
أسرع من توالد سائر الحيوانات لان طبعه من النار واذا وجد الحلفاء اليابسةكثر
توالده فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع ألبته بل تسرى شيئا فشيئا على
الاتصال فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار وكما لا تبقى النار
اذا لم يبق لها قوت وهو الحطب فلا يبقى للشيطان مجال اذا لم تكن شهوة فاذن اذا
تأملت علمت ان أعدى عدوك شهوتك وهي صفة نفسك ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج حين
كان يصلب وقد سئل عن التصوف ما هو فقال هي نفسك ان لم تشغلها شغلتك
فاذن حقيقة الصبر وكماله الصبر عن كل حركة مذمومة وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك
وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه
بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه
أعلم ان الذي انزل الداء انزل الدواء ووعد الشفاء فالصبر وان كان شاقا او ممتنعا
فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل فالعلم والعمل هما الاخلاط التي منها تركب
الادوية لامراض القلوب كلها ولكن يحتاج كل مرض الى علم آخر وعمل آخر وكما ان اقسام
الصبر مختلفة فأقسام العلل المانعة منه مختلفة واذا اختلفت العلل اختلف العلاج اذ
معنى العلاج مضادة العلة وقمعها واستيفاء ذلك مما يطول ولكنا نعرف الطريق في بعض
الامثلة
فنقول اذا افتقر الى الصبر عن شهوة الوقاع مثلا وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس
يملك معها فرجه او يملك فرجه ولكن ليس يملك عينه او يملك عينه ولكن ليس يملك قلبه
ونفسه اذ تزال تحدثه بمقتضيات الشهوات ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر
والاعمال الصالحة فنقول قد قدمنا ان الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث
الهوى وكل متصارعين أردنا ان يغلب أحدهما الآخر فلا طريق لنا فيه الا تقوية من
اردنا ان تكون له اليد العليا وتضعيف الآخر فلزمنا ههنا تقوية باعث الدين وتضعيف
باعث الشهوة
فأما باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور
أحدها ان تنظر الى مادة قوتها وهي الاغذية الطيبة المحركة للشهوة من حيث نوعها ومن
حيث كثرتها فلا بد من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الأفطار على طعام قليل
في نفسه ضعيف في جنسه فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيجة للشهوة
الثاني قطع اسبابه المهيجة في الحال فإنه إنما يهيج بالنظر الى مظان الشهوة اذ
النظر يحرك القلب والقلب يحرك الشهوة وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز عن مظان وقوع
البصر على الصور المشتهاة والفرار منها بالكلية قال رسول الله صلى الله عليه و
سلمالنظرة سهم من سهام ابليس وهو سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه الا تغميض
الاجفان او الهرب من صوب رميه فإنه إنما يرمى هذا السهم عن قوس الصور فاذا انقلبت
عن صوب الصور لم يصبك سهمه
الثالث تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه وذلك بالنكاح فان كل ما يشتهيه
الطبع ففي المباحات
من
جنسه ما يغني عن المحظورات منه وهذا هو العلاج الأنفع في حق الأكثر فان قطع الغذاء
يضعف عن سائر الأعمال ثم قد لا يقمع الشهوة في حق اكثر الرجال ولذلك قال صلى الله
عليه و سلمعليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء //
فهذه ثلاثة اسباب فالعلاج الأول وهو قطع الطعام يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح
وعن الكلب الضاري ليضعف فتسقط قوته الثاني يضاهي تغيب اللحم عن الكلب وتغييب
الشعير عن البهيمة حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها والثالث يضاهي تسليتها بشيء
قليل مما يميل اليه طبعها حتى يبقى معها من القوة ما تصبر به على التأديب
وأما تقوية باعث الدين فإنما تكون بطريقين احدهما اطماعه في فوائد المجاهدة
وثمراتها في الدين والدنيا وذلك بأن يكثر فكرة في الاخبار التي اوردناها في فضل
الصبر وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة وفي الأثر ان ثواب الصبر على المصيبة اكثر
مما فات وانه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة اذ فاته ما لا يبقى معه الا مدة الحياة وحصل
له ما يبقى بعد موته ابد الدهر ومن اسلم خسيسا في نفيس فلا ينبغي ان يحزن لفوات
الخسيس في الحال وهذا من باب المعارف وهو من الايمان فتارة يضعف وتارة يقوى فان
قوى قوى باعث الدين وهيجه تهييجا شديدا وان ضعف ضعفه وانما قوة الايمان يعبر عنها
باليقين وهو المحرك لعزيمة الصبر واقل ما اوتي الناس اليقين وعزيمة الصبر
والثاني ان يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجا قليلا قليلا حتى يدرك لذة
الظفر بها فيستجريء عليها وتقوى منته في مصارعتها فان الاعتياد والممارسة للاعمال
الشاقة تؤكد القوى التي تصدر منها تلك الاعمال ولذلك تزيد قوة الحمالين والفلاحين
والمقاتلين وبالجملة فقوة الممارسين للأعمال الشاقة تزيد على قوة الخياطين
والعطارين والفقهاء والصالحين وذلك لأن قواهم لم تتأكد بالممارسة
فالعلاج الاول يضاهي اطماع المصارع بالخلعة عند الغلبة ووعده بأنواع الكرامة كما
وعد فرعون سحرته عند إغرائه اياهم بموسى حيث قال صلى الله عليه و سلموانكم اذا لمن
المقربين
والثاني يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة اسباب ذلك
منذ الصبا حتى يأنس به ويستجرىء عليه وتقوى فيه منته فمن ترك بالكلية المجاهدة
بالصبر ضعف فيه باعث الدين ولا يقوى على الشهوة وان ضعفت ومن عود نفسه مخالفة
الهوى غلبها مهما اراد
فهذا منهاج العلاج في جميع انواع الصبر ولا يمكن استيفاؤه وانما اشدها كف الباطن
عن حديث النفس وانما يشتد ذلك على من تفرغ له بأن قمع الشهوات الظاهرة وآثر العزلة
وجلس للمراقبة والذكر والفكر فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب الى جانب وهذا لا
علاج له البته الا قطع العلائق كلها ظاهرا وباطنا بالفرار عن الأهل والولد والمال
والجاه والرفقاء والأصدقاء ثم الاعتزال الى زاوية بعد احراز قدر يسير من القوت
وبعد القناعة به ثم كل ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم هما واحدا وهو الله تعالى ثم
اذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك مالم لم يكن له مجال في الفكر وسير بالباطن في
ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى وسائر أبواب معرفة الله تعالى حتى اذا
استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه وإن
لم
يكن له سير بالباطن فلا ينجيه الا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من
القراءة والاذكار والصلوات ويحتاج مع ذلك الى تكليف القلب الحضور فان الفكر
بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الاوراد الظاهرة ثم اذا فعل ذلك كله لم يسلم له
من الأوقات الا بعضها اذ لا يخلو في جميع اوقاته عن حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر
والذكر من مرض و خوف وايذاء من إنسان وطغيان من مخالط اذ لا يستغنى عن مخالطة من
يعينه في بعض اسباب المعيشة فهذا احد الانواع الشاغلة
واما النوع الثاني فهو ضروري اشد ضرورة اشد من الأول وهو اشتغاله بالمطعم والملبس
واسباب المعاش فإن تهيئة ذلك ايضا تحوج الى شغل ان تولاه بنفسه وان تولاه غيره فلا
يخلو عن شغل قلب بمن يتولاه ولكن بعد قطع العلائق كلها يسلم له اكثر الاوقات ان لم
تهجم به ملمة او واقعة وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسر له الفكر وينكشف فيه من
اسرار الله تعالى في ملكوت السموات والأرض مالا يقدر على عشر عشيرة في زمان طويل
لو كان مشغول القلب بالعلائق والانتهاء الى هذا هو اقصى المقامات التي يمكن ان
تنال بالاكتساب والجهد فأما مقادير ما ينكشف مبالغ ما يرد من لطف الله تعالى في
الاحوال و الاعمال فذلك يجري مجرى الصيد وهو بحسب الرزق فقد يقل الجهد ويجل الصيد
وقد يطول الجهد ويقل الحظ والمعول وراء هذا الاجتهاد على جذبه من جذبات الرحمن
فانها توازي اعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد نعم اختيار العبد في ان يتعرض
لتلك الجذبة بان يقطع عن قلبه جواذب الدنيا فإن المجذوب الى اسفل سافلين لا ينجذب
الى اعلى عليين وكل مهموم بالدنيا فهو منجذب اليها فقطع العلائق الجاذبة هو المراد
بقوله صلى الله عليه و سلم ان لربكم في ايام دهركم نفحات الا فتعرضوا لها وذلك لان
تلك النفحات والجذبات لها اسباب سماوية اذ قال الله تعالى وفي السماء رزقكم وما
توعدون وهذا من أعلى أنواع الرزق والامور السماوية غائبة عنا فلا ندري متى ييسر
الله تعالى اسباب الرزق فما علينا الا تفريغ المحل والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ
الكتاب اجله كالذي يصلح الارض وينقيها من الحشيش ويبث البذر فيها وكل ذلك لا ينفعه
الا بمطر ولا يدري متى يقدر الله اسباب المطر الا انه يثق بفضل الله تعالى ورحمته
انه لا يخلي سنة عن مطر فكذلك فلما تجلو سنة وشهر ويوم عن جذبه من الجذبات ونفحة
من النفحات فينبغي ان يكون العبد قد طهر القلب عن حشيش الشهوات وبذر فيه بذر
الارادة والاخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وكما يقوى انتظار الأمطار في اوقات
الربيع وعند ظهور الغيم فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة وعند اجتماع
الهمم وتساعد القلوب كما في يوم عرفة ويوم الجمعة وأيام رمضان فان الهمم والأنفاس
اسباب بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتى تستدر بها الامطار في اوقات
الاستسقاء وهي لا ستدراك امطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت اشد
مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من اقطار الجبال والبحار بل
الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك وانما انت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك فصار
ذلك حجابا بينك وبينها فلا تحتاج الا الى ان تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق
انوار المعارف من باطن القلب واظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل واقرب من الاسترسال
اليها من مكان بعيد منخفض عنها ولكونه حاضرا في القلب ومنسيا بالشغل عنه سمي الله
تعالى جميع معارف الإيمان تذكرا فقال تعالى انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون
وقال تعالى وليتذكر اولو الالباب وقال تعالى ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر
فهذا
هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر وإنما الصبر عن العلائق
كلها مقدم على الصبر عن الخواطر
قال الجنيد رحمة الله السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن وهجران الخلق في
حب الحق شديد والسير من النفس الى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله اشد فذكر
شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق
وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء
والاستتباع اغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء وكيف لا تكون اغلب اللذات
ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية والربوبية محبوبة ومطلوبه بالطبع
للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية وعنه العبارة بقوله تعالى قل الروح من
امر ربي وليس القلب مذموما على حبه ذلك وانما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير
الشيطان اللعين المبعد عن عالم الامر اذ حسده على كونه من عالم الامر فأضله واغواه
وكيف يكون مذموما عليه وهو يطلب سعادة الاخرة فليس يطلب الا بقاء لا فناء فيه وعزا
لا ذل فيه وأمنا لا خوف فيه وغنى لا فقر فيه وكمالا لا نقصان فيه وهذه كلها من
اوصاف الربوبية وليس مذموما على طلب ذلك بل حق كل عبد ان يطلب ملكا عظيما لا آخر
له وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة ولكن الملك ملكان ملك مشوب
بأنواع آلالام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا وملك مخلد دائم لا
يشوبه كدر ولا آلم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الانسان عجولا راغبا في
العاجلة فجاء الشيطان وتوسل اليه بواسطة العجلة التي في طبعه فاستغواه بالعاجلة
وزين له الحاضرة وتوسل اليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الاخرة ومناه مع ملك
الدنيا ملك الآخرة كما قال صلى الله عليه و سلموالاحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى
على الله الأماني فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر
امكانه ولم يتدل الموفق بحبل غروره اذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة فعبر عن
المخذولين بقوله تعالى كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقال تعالى ان هؤلاء
يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا وقال تعالى فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم
يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم
ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق ارسل الله الملائكة الى الرسل وأوحوا إليهم
ما تم على الخلق من اهلاك العدو واغوائه فاشتغلوا بدعوة الخلق الى الملك الحقيقي
عن الملك المجازي الذي لا اصل له ان سلم ولا دوام له اصلا فنادوا فيهم يا ايها
الذين امنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الارض أرضيتم
بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل
فالتوراة والانجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وابراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل
إلالدعوة الخلق الى الملك الدائم المخلد والمراد منهم ان يكونوا ملوكا في الدنيا
ملوكا في الآخرة اما ملك الدنيا فالزهد فيها والقناعة باليسير منها واما ملك
الآخرة فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزا لا ذل فيه وقرة عين
اخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس
والشيطان يدعوهم الى ملك الدنيا لعلمه بان ملك الاخرة يفوت به اذ الدنيا والاخرة
ضرتان ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له ايضا ولو كانت تسلم له لكان يحسده ايضا ولكن
ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول
الهموم
في التدبيرات وكذا سائر اسباب الجاه ثم مهما تسلم وتتم الاسباب ينقضي العمر حتى
اذا اخذت الارض زخرفها وازينت وظن اهلها انهم قادرون عليها اتاها امرنا ليلا او
نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس فضرب الله تعالى لها مثلا فقال تعالى
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح
هشيما تذروه الرياح والزهد في الدنيا لما ان كان ملكا حاضرا حسده الشيطان عليه
فصده عنه
ومعنى الزهد ان يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين واشارة الايمان وهذا
ملك بالاستحقاق اذ به يصير صاحبه حرا وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبدا لفرجه وبطنه
وسائر اغراضه فيكون مسخرا مثل البهيمة مملوكا يستجره زمام الشهوة آخذا بمختنقه الى
حيث يريد ويهوى فما اعظم اغترار الانسان اذ ظن انه ينال الملك بأنه يصير مملوكا
وينال الربوبية بان يصير عبدا ومثل هذا هل يكون الا معكوسا في الدنيا منكوسا في
الآخره ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهاد هل من حاجة قال كيف اطلب منك حاجة وملكي
اعظم من ملكك فقال كيف قال من انت عبده فهو عبد لي فقال كيف ذلك قال انت عبد شهوتك
وغضبك وفرجك وبطنك وقد ملكت هؤلاء كلهم فهم عبيد لي فهذا اذن هو الملك في الدنيا
وهو الذي يسوق الى الملك في الاخرة فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخره
جميعا والذين وفقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والاخرة جميعا
فإذا عرفت الان معنى الملك والربوبية ومعنى التسخير والعبودية ومدخل الغلط في ذلك
وكيفية تعمية الشيطان وتلبيسة يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه والإعراض عنه
والصبر عند فواته اذ تصير بتركه ملكا في الحال وترجو به ملكا في الآخرة
ومن كوشف بهذه الامور بعد ان ألف الجاه وانس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة اسبابه
فلا يكفيه في العلاج مجرد العلم والكشف بل لا بد وان يضيف اليه العمل وعمله في ثلاثة
امور أحدها ان يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد اسبابه فيعسر عليه الصبر مع الاسباب
كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحركة ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة
الله في سعة الارض اذ قال تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها الثاني ان
يكلف نفسه في أعماله أفعالا تخالف ما اعتاده فيبدل التكلف بالتبذل وزي الحشمة بزي
التواضع وكذلك كل هيئة وحال وفعل في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء
بمقتضى جاهه فينبغي ان يبدلها بنقائضها حتى يرسخ باعتياد ذلك ضد ما رسخ فيه من قبل
باعتياد ضده فلا معنى للمعالجة الا المضادة الثالث ان يراعي في ذلك التلطف
والتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة الى الطرف الأقصى من التبذل فإن الطبع نفور ولا
يمكن نقله عن اخلاقه الا بالتدريج فيترك البعض ويسلى نفسه بالبعض ثم اذا قنعت نفسه
بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض الى ان يقنع بالبقية وهكذا يفعل شيئا
فشيئا الى ان يقمع تلك الصفات التي رسخت فيه والى هذا التدريج الاشارة بقوله صلى
الله عليه و سلمإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض الى نفسك عبادة الله
فان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وإليه الإشارة بقوله عليه السلام لا تشادوا
هذا الدين فإن من يشاده يغلبه //
فإذن
ما ذكرناه من علاج الصبر عن الوسواس وعن الشهوة وعن الجاه اضفه الى ما ذكرناه من
قوانين طرق المجاهدة في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات فاتخذه دستورك لتعرف به
علاج الصبر في جميع الاقسام التي فصلناها من قبل فان تفصيل الآحاد يطول ومن راعي
التدريج ترقى به الصبر الى حال يشق عليه الصبر دون كما كان يشق عليه معه فتنعكس
اموره فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا يصبر
عنه وهذا لا يعرف الا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات فان الصبي يحمل على
التعلم في الابتداء قهرا فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى اذا انفتحت
بصيرته وأنس بالعلم انقلب الامر فصار يشق عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب
والى هذا يشير ما حكى عن بعض العارفين انه سأل الشبلى عن الصبر أية اشد فقال الصبر
في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله فقال لا فقال الصبر مع الله فقال لا فقال
فأيش قال الصبر عن الله فصرخ الشبلى صرخة كادت روحه تتلف وقد قيل في معنى قوله
تعالى اصبروا وصابروا ورابطوا اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل
الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد
قيل في معناه
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الاشياء محمود
وقيل ايضا الصبر يحمل في المواطن كلها ... الا عليك فانه لا يجمل
هذا آخر ما اردنا شرحه عن علوم الصبر واسراره الشطر الثاني من الكتاب في الشكر
وله ثلاثة اركان الاول في فضيلة الشكر وحقيقته واقسامه واحكامه الثاني في حقيقة
النعمة واقسامها الخاصة والعامة الثالث في بيان الافضل من الشكر والصبر الركن
الأول في نفس الشكر بيان فضيلة الشكر
اعلم ان الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع انه قال ولذكر الله اكبر فقال
تعالى فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون وقال تعالى ما يفعل الله بعذابكم ان
شكرتم وآمنتم وقال تعالى وسنجزي الشاكرين وقال عز و جل اخبارا عن ابليس اللعين
لاقعدن لهم صراطك المستقيم قيل هو طريق الشكر ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في
الخلق فقال ولا تجد اكثرم شاكرين وقال تعالى وقليل من عبادي الشكور وقد قطع الله
تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم واستثنى في خمسة
اشياء في الاغناء والاجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى فسوف يغنيكم الله
من فضله ان شاء وقال فيكشف ما تدعون اليه ان شاء وقال يرزق من يشاء بغير حساب وقال
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال ويتوب الله على من يشاء وهو خلق من اخلاق الربوبية
اذ قال تعالى والله شكور حليم وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام اهل الجنة فقال تعالى
وقالوا الحمد لله الذي صدقناه وعده وقال وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين
وأما
الأخبار فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلمالطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر
// حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر علقه البخاري واسنده الترمذي وحسنه
وابن ماجه وابن حيان من حديث ابي هريرة ورواه ابن ماجه من حديث سنان بن سنة وفي
اسناده اختلاف وروى عن عطاء انه قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت اخبرينا
بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكت وقالت وأي شأنه لم يكن عجبا
أتاني ليلة فدخل معي في فراشي او قالت في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال يا ابنه
ابي بكر ذريني اتعبد لربي فقالت قلت اني احب قربك لكني أوثر هواك فأذنت له فقام
الى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره
ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه
بالصلاة فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال
افلا اكون عبدا شكورا ولم لا افعل ذلك وقد أنزل الله تعالى على إن في خلق السموات
والارض الآية // حديث عطاء دخلت على عائشة فقلت لها اخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقالت واي امره لم يكن عجبا الحديث في بكائه في صلاة الليل
اخرجه ابو الشيخ ابن حبان في كتاب اخلاق رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن طريقة
ابن الجوزي في الوفا وفيه ابو جناب واسمه يحيى بن ابي حبة ضعفه الجمهور ورواه ابن
حبان في صحيحه من رواية عبد الملك ابن ابي سليمان عن عطاء دون قولها واي امره لم
يكن عجبا وهو عند مسلم من رواية عروة عن عائشة مقتصرا على آخر الحديث وهذا يدل على
ان البكاء ينبغي ان لا ينقطع ابدا والى هذا السر يشير ما روى أنه مر بعض الانبياء
بحجر صغير يخرج منه ماء كثير فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال منذ سمعت قوله
تعالى وقودها الناس والحجارة فأنا ابكي من خوفه فسأله ان يجيره من النار فأجاره ثم
رآه بعد مدة على مثل ذلك فقال لم تبكي الآن فقال ذاك بكاء الخوف وهذا بكاء الشكر
والسرور وقلب العبد كالحجارة او اشد قسوة ولا تزول قسوته الا بالبكاء في حال الخوف
والشكر جميعا وروى عنهA انه قال ينادي يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم
لواء فيدخلون الجنة قيل ومن الحمادون قال الذين يشكرون الله تعالى على كل حال //
حديث ينادي يوم القيامة ليقم الحمادون الحديث اخرجه الطبراني وابو نعيم في الحلية
والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بلفظ اول من يدعى الى الجنة الحمادون الحديث
وفيه قيس بن الربيع ضعفه الجمهور وفي لفظ آخر الذين يشكرون الله على السراء
والضراء وقال صلى الله عليه و سلمالحمد رداء الرحمن // حديث الحمد رداء الرحمن لم
اجد له اصلا وفي الصحيح من حديث ابي هريرة الكبر رداؤه الحديث وتقدم في العلم
وأوحى الله تعالى الى ايوب عليه السلام اني رضيت بالشكر مكأفاة من اوليائي في كلام
طويل واوحى الله تعالى اليه ايضا في صفة الصابرين ان دارهم دار السلام اذا دخلوها
ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام وعند الشكر استزيدهم وبالنظر الى أزيدهم ولما نزل في
الكنوز ما نزل قال عمر رضي الله عنه أي المال نتخذ فقال عليه السلام ليتخذ احدكم
لسانا ذاكرا او قلبا شاكرا // حديث عمر ليتخذ احدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا
الحديث تقدم في النكاح فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلا عن المال وقال ابن مسعود
الشكر نصف الايمان
بيان حد الشكر وحقيقته
اعلم ان الشكر من جملة مقامات السالكين وهو ايضا ينتظم من علم وحال وعمل فالعلم هو
الاصل فيورث الحال والحال يورث العمل فأما العلم فهو معرفة النعمة من المنعم
والحال هو الفرح الحاصل بانعامه والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه
ويتعلق ذلك العمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل
بمجموعة الاحاطة بحقيقة الشكر فان كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الاحاطة بكمال
معانيه
فالأصل
الاول العلم وهو علم بثلاثة امور بعين النعمة ووجه كونها نعمة في حقه وبذات المنعم
ووجود صفاته التي بها يتم الانعام ويصدر الانعام منه عليه فانه لا بد من نعمة
ومنعم ومنعم عليه تصل اليه النعمة من المنعم بقصد وارادة فهذه الامور لا بد من
معرفتها هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم الا بان يعرف ان
النعم كلها من الله وهو المنعم والوسائط مسخرون من جهته
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس اذ دخل التقديس والتوحيد فيها بل الرتبة
الاولى في معارف الايمان التقديس ثم اذا عرف ذاتا مقدسة فيعرف انه لا مقدس الا
واحد وما عداه غير مقدس وهو التوحيد ثم يعلم ان كل ما في العالم فهو موجود من ذلك
الواحد فقط فالكل نعمة منه فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة اذ ينطوي فيها مع
التقديس والتوحيد كمال القدرة والانفراد بالفعل وعن هذا عبر رسول الله صلى الله
عليه و سلمحيث قال من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا اله الا الله فله
عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة // حديث من قال سبحان الله فله عشر
حسنات الحديث تقدم في الدعوات // وقال صلى الله عليه و سلمافضل الذكر لا اله الا
الله وافضل الدعاء الحمد لله // حديث افضل الذكر لا اله الا الله وافضل الوعاء
الحمد لله احرجه الترمذي وحسنه والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه وابن حبان من
حديث جابر // وقال ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله // حديث ليس شيء
من الاذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله لم اجده مرفوعا وانما رواه ابن ابي الدنيا في
كتاب الشكر عن ابراهيم النخعي يقال إن الحمد اكثر الكلام تضعيفا // ولاتظنن ان هذه
الحسنات بازاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب فسبحان
الله كلمة تدل على التقديس ولا اله الا الله كلمة تدل على التوحيد والحمد لله كلمة
تدل على النعمة من الواحد الحق فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من ابواب
الايمان واليقين
واعلم ان تمام هذه المعرفة بنفي الشرك في الأفعال فمن أنعم عليه ملك من الملوك
بشيء فإن رأي لوزيره أو وكيله دخلا في تيسير ذلك وايصاله اليه فهو اشراك به في
النعمة فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه بل منه بوجه ومن غيره بوجه فيتوزع فرحة
عليهما فلا يكون موحدا في حق الملك نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره ان
يرى النعمة الواصلة اليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه فانه لا
يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما لانه لا يثبت لهما دخلا من حيث هما موجودان
بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك وقد يعلم ان الوكيل الموصل والخازن
ايضا مضطران من جهة الملك في الايصال وانه لو رد الأمر اليه ولم يكن من جهة الملك
ارهاق وامر جزم يخاف عاقبته لما سلم اليه شيئا فاذا عرف ذلك كان نظره الى الخازن
الموصل كنظرة الى القلم والكاغد فلا يورث ذلك شركا في توحيده من اضافة النعمة اليه
إلى الملك
وكذلك من الكاتب وان الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها فان الله
تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل شاءت ام ابت كالخازن المضطر الذي لا يجد
سبيلا الى مخالفة الملك ولو خلى ونفسه لما اعطاك ذروة مما في يده فكل من وصل اليك
نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر اذ سلط الله عليه الارادة وهيج عليه الدواعي
والقى في نفسه ان خيره في الدنيا والآخرة ان يعطيك ما اعطاك وان غرضه المقصود عنده
في الحال والمال لا يحصل الا به وبعد ان خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيل الى
تركه فهو اذن إنما يعطيك
لغرض
نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما اعطاك ولو لم يعلم ان منفعته في
منفعتك لما نفعك فهو اذن انما يطلب نفع نفسه بنفعك فليس منعما عليك بل اتخذك
وسبيله الى نعمة اخرى وهو يرجوها وانما الذي انعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في
قلبه من الاعتقادات والارادات ما صار به مضطرا الى الايصال اليك فان عرفت الأمور
كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله وكنت موحدا وقدرت على شكره بل كنت بهذه
المعرفة بمجردها شاكرا
ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك
فقال الله عز و جل علم ان كل ذلك مني فكانت معرفته شكرا
فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف ان الكل منه فان خالجك ريب في هذا لم تكن عارفا لا
بالنعمة ولا بالمنعم فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره فبنقصان معرفتك ينقص حالك في
الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك فهذا بيان هذا الأصل
الاصل الثاني الحال المستمدة من اصل المعرفة وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع
والتواضعوهو ايضا في نفسه شكر على تجرده كما ان المعرفة شكر ولكن انما يكون شكرا
اذا كان حاويا شرطه وشرطه ان يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالانعام ولعل هذا
يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلا فنقول الملك الذي يريد الخروج الى سفره فأنعم بفرس
على انسانيتصور ان يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه احدها ان يفرح بالفرس من
حيث انه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس وهذ فرح من لاحظ
له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح
الوجه الثاني ان يفرح به لا من حيث انه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به
وشفقته عليه واهتمامه بجانبه لو وجد هذا الفرس في صحراء او اعطاه غير الملك لكان
لا يفرح به أصلا لاستغنائه عن الفرس اصلا او استحقاره له بالاضافة الى مطلوبه من
نيل المحل في قلب الملك الوجه الثالث ان يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك
ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه وربما يرتقي الى درجة الوزارة من حيث
انه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك ان يعطيه فرسا ويعتني به هذا القدر من
العناية بل هو طالب لان لا ينعم الملك بشيء من ماله على احد الا بواسطته ثم انه ليس
يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه حتى لو خير بين القرب
منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب فهذه ثلاث درجات فالأولى لا
يدخل فيها معنى الشكر أصلا لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا
بالمعطي وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن
معنى الشكر والثانية داخله في معنى الشكر من حيث انه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث
ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الانعام في المستقبل وهذا حال
الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفا من عقابه ورجاء لثوابه وإنما الشكر
التام في الفرح الثالث وهو ان يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث انه يقدر
بها على التوصل الى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر الى وجهه على الدوام
فهذا هو الرتبة العليا وأمارته ان لايفرح من الدنيا الا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه
عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله لانه ليس يريد
النعمة لأنها لذيذه كما يريد صاحب الفرس لانه جواد ومهملج بل من حيث انه يحمله في
صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه ولذلك قال الشبلى رحمة الله الشكر رؤية
المنعم
لا
رؤية النعمة وقال الخواص رحمه الله شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب وشكر
الخاصة على واردات القلوب وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن
والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب فان القلب لا يلتذ
في حال الصحة الا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه وانما يلتذ بغيره اذا مرض بسوء
العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الاشياء الحلوة
ويستحلي الأشياء المرة كما قيل
ومن يك ذا فم مر مريض ... جد مرا به الماء الزلالا
فاذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى فان لم تكن ابل فمعزى فان لم يكن هذا فالدرجة
الثانية اما الأولى فخارجة عن كل حساب فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن
يريد الفرس للملك وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله
ليصل بها إليه
الاصل الثالث العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم وهذا العمل يتعلق بالقلب
وباللسان وبالجوارح اما بالقلب فقصد الخير واضماره لكافة الخلق واما باللسان
فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه واما بالجوارح فاستعمال نعم الله
تعالى في طاعته والتوقى من الاستعانة بها على معصيته حتى إن شكر العينين ان تستر
كل عيب تراه لمسلم وشكر الاذنين ان تستر كل عيب تسمعه فيه فيدخل هذا في جملة شكر
نعم الله تعالى بهذه الاعضاء والشكر باللسان لاظهار الرضا عن الله تعالى وهو مامور
به فقد قال صلى الله عليه و سلم لرجل كيف أصبحت قال بخير فأعاد صلى الله عليه و
سلم وسلم السؤال حتى قال في الثالثة بخير احمد الله واشكره فقال صلى الله عليه و
سلم وسلم هذا الذي أردت منك // حديث قال صلى الله عليه و سلم لرجل كيف اصبحت فقال
بخير فأعاد السؤال حتى قال في الثالثة بخير احمد الله واشكره فقال هذا الذي اردت
منك اخرجه الطبراني في الدعاء من رواية الفضيل بن عمرو مرفوعا نحوه قال في الثالثة
احمد الله وهذا معضل ورواه في المعجم الكبير من حديث عبدالله بن عمرو ليس فيه
تكرار السؤال وقال احمد الله اليك وفيه راشد بن سعد ضعفه الجمهور لسوء حفظه ورواه
مالك في الموطأ موقوفا على عمر بإسناد صحيح وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج
الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعا والمستنطق له به مطيعا وما كان قصدهم الرياء
بإظهار الشوق وكل عبد سئل عن حال فهو بين ان يشكر او يشكو يسكت فالشكر طاعة
والشكوى معصية قبيحة من اهل الدين وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء
الى عبد مملوك لا يقدر على شيء فالأحرى بالعبد ان لم يحسن الصبر على البلاء
والقضاء وأفضي به الضعف الى الشكوى ان تكون شكواه الى الله تعالى فهو المبلى
والقادر على ازالة البلاء وذل العبد لمولاه عز والشكوى الى غيره ذل وإظهار الذل
للعبد مع كونه عبدا مثله ذل قبيح قال الله تعالى ان الذين تعبدون من دون الله لا
يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له وقال تعالى ان الذين
تدعون من دون الله عباد امثالكم فالشكر باللسان من جملة الشكر وقد روي ان وفدا
قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقام شاب ليتكلم فقال عمر الكبر الكبر فقال
يا امير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسكن منك فقال تكلم
فقال لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما
الرهبة فقد آمننا منها عدلك وإنما نحن وقد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف فهذه
هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته
فأما قول من قال إن الشكر هو الإعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع فهو نظر إلى
فعل اللسان مع بعض أحوال القلب وقول من قال إن الشكر هو الثناء على المحسن بذكر
إحسانه نظر إلى مجرد عمل اللسان وقول القائل
ان
الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة جامع لأكثر معاني الشكر لا
يشذ منه إلا عمل اللسان وقول حمدون القصار شكر النعمة أن ترى نفسك في الشكر طفيليا
إشارة الى ان معنى المعرفة من معاني الشكر فقط وقول الجنيد الشكر ان لا ترى نفسك
أهلا للنعمة اشارة الى حال من احوال القلب على الخصوص وهؤلاء اقوالهم تعرب على
أحواهم فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين لأنهم لا
يتكلمون الا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم اشتغالا بما يهمهم عما لا يهمهم او
يتكلمون بما يرونه لائقا بحالة السائل اقتصارا على ذكر القدر الذي يحتاج اليه وإعراضا
عما لا يحتاج اليه فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم وانه لو عرض عليهم
جميع المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها بل لا يظن ذلك بعاقل اصلا الا ان تعرض
منازعة من حيث اللفظ في ان اسم الشكر في وضع اللسان هل يشمل جميع المعاني ام
يتناول بعضها مقصودا وبقية المعاني تكون من توابعه ولوازمه ولسنا نقصد في هذا
الكتاب شرح موضوعات اللغات فليس ذلك من علم طريق الاخرة في شيء والله الموفق
برحمته
بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر في حق الله تعالى
لعل يخطر ببالك ان الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر فإنا نشكر الملوك
إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم
أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين ايديهم في صورة
الخدم وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم فلا يكونون شاكرين لهم الا بشيء من
ذلك وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين أحدهما ان الله تعالى منزه عن الحظوظ
والاغراض مقدس عن الحاجة الى الخدمة والاعانة وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء
والاطراء وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعا سجدا فشكرنا إياه بما لا حظ
فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا او نسجد او نركع اذ لا حظ
للملك فيه وهو غائب لا علم له ولا حظ لله تعالى في افعالنا كلها الوجه الثاني ان
كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة اخرى من نعم الله علينا اذ جوارحنا وقدرتنا
وارادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي اسباب حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله
تعالى ونعمته فكيف نشكر نعمة بنعمة ولو اعطانا الملك مركوبا فاخذنا مركوبا اخر له
وركبناه او اعطانا الملك مركوبا اخر لم يكن الثاني شكر للاول منا بل كان الثاني
يحتاج الى شكر كما يحتاج الاول ثم لا يمكن شكر الشكر الا بنعة اخرى فيؤدي الى ان
يكون الشكر محالا في حق الله تعالى من هذين الوجهين ولسنا نشك في الامرين جميعا
والشرع قد ورد به فكيف السبيل الى الجمع فاعلم ان هذا الخاطر قد خطر لداود عليه
السلام وكذلك لموسى عليه السلام فقال يا رب كيف اشكرك وانا لا استطيع ان اشكرك الا
بنعمة ثانية من نعمك وفي لفظ اخر وشكرى لك نعمة اخرى منك توجب على الشكر لك فأوحى
الله تعالى اليه اذا عرفت هذا فقد شكرتني وفي خبر آخر اذا عرفت ان النعمة مني رضيت
منك بذلك شكرا
فان قلت فقد فهمت السؤال وفهمي قاصر عن ادراك معنى ما اوحى اليهم فاني اعلم
استحالة الشكر لله تعالى فأما كون العلم باستحالة الشكر شكرا فلا أفهمه فان هذا
العلم ايضا نعمة منه فكيف صار شكرا وكأن الحاصل يرجع الى ان من لم يشكر فقد شكر
وان قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الاولى والفهم قاصر عن درك السر فيه
فان امكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه فاعلم ان هذا قرع باب من المعارف وهي
اعلى
من علوم المعاملة ولكنا نشير منها الى ملامح ونقول ههنا نظران نظر بعين التوحيد المحض وهذا النظر يعرفك قطعا انه الشاكر وانه المشكور وانه المحب وانه المحبوب وهذا نظر من عرف انه ليس في الوجود غيره وان كل شيء هالك إلا وجهه وان ذلك صدق في كل حال أزلا وابدا لأن الغير هو الذي يتصور ان يكون له بنفسه قوام ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد اذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره فان اعتبر ذاته ولم يلتفت الى غيره لم يكن له وجود ألبته وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقى موجودا فان كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم ولا قيوم الا واحد ولا يتصور ان يكون غير ذلك فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد فاذا نظرت من هذا المقام عرفت ان الكل منه مصدره واليه مرجعه فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب ومن ههنا نظر حبيب بن ابي حبيب حيث قرأ انا وجدناه صابرا نعم العبد إنه اواب فقال واعجباه اعطى واثنى اشارة الى انه اذا اثنى على اعطائه فعلى نفسه اثنى فهو المثنى وهو المثنى عليه ومن ههنا نظر الشيخ ابو سعيد المهينى حيث قرىء بين يديه يحبهم ويحبونه فقال لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق يحبهم لأنه إنما يحب نفسه اشار به الى أنه المحب وأنه المحبوب وهذه رتبة عالية لا تفهمها الا بمثال على حد عقلك فلا يخفي عليك ان المصنف اذا أحب تصنيفه لقد احب نفسه والصانع اذا احب صنعته فقد احب نفسه والوالد اذا احب ولده من حيث إنه ولده فقد احب نفسه وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته فإن أحبه فما أحب إلا نفسه واذا لم يحب الانفسه فبحق احب ما احب وهذا ما احب وهذا كله نظر بعين التوحيد وتعبر الصوفيه عن هذه الحالة بفناء النفس أي فنى عن نفسه وعن غير الله فلم ير الا الله تعالى فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ويقول كيف فنى وطول ظله أربعة اذرع ولعله يأكل في كل يوم أرطالا من الخبز فيضحك عليهم الجهال لجهلهم بمعاني كلامهم وضرورة قول العارفين ان يكونوا ضحكة للجاهلين واليه الاشارة بقوله تعالى ان الذين اجرموا كانوا من الذين امنوا يضحكون واذا مروا بهم يتغامزون واذا انقلبوا الى اهلهم انقلبوا فكهين وإذ رأوهم قالوا ان هؤلاء لضالون وما ارسلوا عليهم حافظين ثم بين أن ضحك العارفين عليهم غدا اعظم اذ قال تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون وكذلك امة نوح عليه السلام كانوا يضحكون عليه عند اشتغاله بعمل السفينة قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فهذا احد النظرين النظر الثاني نظر من لم يبلغ الى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان قسم لم يثبتوا الا وجود انفسهم وانكروا ان يكون لهم رب يعبد وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقا وهو القيوم الذي هو قائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فقائم به ولم يقتصروا على هذا حتى اثبتوا انفسهم ولو عرفوا لعلموا انهم من حيث هم هم لا ثبات لهم ولا وجود لهم وانما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا وفرق بين الموجود وبين الموجد وليس في الوجود الا موجود واحد وموجد فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو والموجود قائم وقيوم والموجد هالك وفإن واذا كان كل من عليها فان فلا يبقى الا وجه ربك ذو الجلال والاكرام الفريق الثاني ليس بهم عمى ولكن بهم عور لانهم يبصرون باحدى العينين وجود الموجود الحق فلا ينكرونه والعين الأخرى ان تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق فاثبت موجودا اخر مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقا كما
ان
الذى قبله جاحد تحقيقا فان جاوز حد العمى الى العمش ادرك تفاوتا بين الموجودين
فأثبت عبدا وربا فبهذا القدر من إثبات التفاوت والنقص من الموجود الاخر دخل في حد
التوحيد ثم إن كحل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه وبقدر ما يزيد في بصره يظهر
له نقصان ما أثبته سوى الله تعالى فان بقى في سلوكه كذلك فلا يزال يفضى به النقصان
الى المحو فينمحى عن رؤية ما سوى الله فلا يرى إلا الله ليكون قد بلغ كمال التوحيد
وحيث أدرك نقصا في وجود ما سوى الله تعالى دخل في أوائل التوحيد وبينهما درجات لا
تحصى فبهذا تتفاوت درجات الموحدين وكتب الله المنزلة على ألسنة رسله هي الكحل الذي
به يحصل انوار الابصار والانبياء هم الكحالون وقد جاءوا داعين الى التوحيد المحض
وترجمته قول لا اله الا الله ومعناه ان لا يرى الا الواحد الحق والواصلون الى كمال
التوحيد هم الاقلون والجاحدون والمشركون ايضا قليلون وهم على الطرف الاقصى المقابل
لطرف التوحيد اذ عبدة الأوثان قالوا ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى فكانوا
داخلين في اوائل ابواب التوحيد دخولا ضعيفا والمتوسطون هم الاكثرون وفيهم من تنفتح
بصيرته في بعض الاحوال فتلوح له حقائق التوحيد ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت وفيهم
من يلوح له ذلك ويثبت زمانا ولكن لا يدوم والدوام فيه عزيز
لكل الى شأو العلا حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ولما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بطلب القرب فقيل له واسجد واقترب
قال في سجوده أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا احصى ثناء
عليك انت كما اثنيت على نفسك // حديث قال في سجوده اعوذ بعفوك من عقابك واعوذ
برضاك من سخطك الحديث اخرجه مسلم من حديث عائشة اعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من
عقوبتك الحديث فقوله صلى الله عليه و سلم أعوذ بعفوك من عقابك كلام عن مشاهدة فعل
الله فقط فكأنه لم ير الا الله وأفعاله فاستعاذ بفعله من فعله ثم اقترب ففنى عن
مشاهدة الافعال وترقى الى مصادر الافعال وهي الصفات فقال أعوذ برضاك من سخطك وهما
صفتان ثم رأي ذلك نقصانا في التوحيد فاقترب ورقى من مقام مشاهدة الصفات الى مشاهدة
الذات فقال واعوذ بك منك وهذا فرار منه اليه من غير رؤية فعل وصفة ولكنه راي نفسه
فارا منه اليه ومستعيذا ومثنيا ففنى عن مشاهدة نفسه اذ راى ذلك نقصانا واقترب فقال
لا احصي ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك فقوله صلى الله عليه و سلم لا أحصى خبر
عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدتها وقوله أنت كما أثنيت على نفسك بيان انه المثنى
والمثنى عليه وان الكل منه بدا واليه يعود وان كل شيء هالك إلا وجهه فكان اول
مقاماته نهاية مقامات الموحدين وهو ان لا يرى الا الله تعالى وافعاله فيستعيذ بفعل
من فعل فانظر الى ماذا انتهت نهايته اذ انتهى الى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره
ومشاهدته سوى الذات الحق ولقد كان صلى الله عليه و سلم لا يرقى من رتبة الى اخرى
الا ويرى الاولى بعدا بالإضافة الى الثانية فكان يستغفر الله من الاولى ويرى ذلك
نقصا في سلوكه وتقصيرا في مقامه واليه الاشارة بقوله صلى الله عليه و سلم انه
ليغان على قلبي حتى استغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة // حديث انه ليغان على
قلبي الحديث تقدم في التوبة وقبله في الدعوات فكان ذلك لترقية الى سبعين مقاما
بعضها فوق البعض اولها وان كان مجاوزا اقصى غايات الخلق ولكن كان نقصانا بالاضافة
الى آخرها فكان استغفاره لذلك ولما قالت عائشة رضي الله عنها اليس قد غفر الله لك
ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد
قال
أفلا أكون عبدا شكورا // حديث عائشة لما قالت له غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر فما هذا البكاء الحديث رواه ابو الشيخ وهو بقية حديث عطاء عنها المتقدم قبل
هذا بتسعة أحاديث وهو عند مسلم من رواية عروة عنها مختصرا وكذلك هو في الصحيحين
مختصرا من حديث المغيرة بن شعبة معناه أفلا أكون طالبا للمزيد في المقامات فان
الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى لئن شكرتم لازيدنكم
واذا تغلغنا في بحار المكاشفة فلنقبض العنان ولنرجع الى ما يليق بعلوم المعاملة
فنقول الانبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق الى كمال التوحيد الذي وصفناه ولكن
بينهم وبين الوصول اليه مسافة بعيدة وعقبات شديدة وانما الشرع كله تعريف طريق سلوك
تلك المسافة وقطع تلك العقبات وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة اخرى ومقام آخر فيظهر
في ذلك المقام باضافة الى تلك المشاهدة الشكر والشاكر والمشكور ولا يعرف ذلك الا
بمثال فاقول يمكنك ان تفهم ان ملكا من الملوك ارسل الى عبد قد بعد منه مركوبا
وملبوسا ونقد الاجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ويقرب من حضرة الملك
ثم يكون له حالتان احداهما ان يكون قصده من وصول العبد الى حضرته ان يقوم ببعض
مهماته ويكون له عناية في خدمته والثانية أن لا يكون للملك حظ في العبد ولا حاجة
به اليه بل حضوره لا يزيد في ملكه لانه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء
وغيبته لا تنقص من ملكه فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد
بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه
فمنزل العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الاولى فان الاولى
محال على الله تعالى والثانية غير محال ثم اعلم ان العبد لا يكون شاكرا في الحالة
الأولى بمجرد الركوب والوصول الى حضرته ما لم يقم بخدمته التي ارادها الملك منه
واما في الحالة الثانية فلا يحتاج الى الخدمة اصلا ومع ذلك يتصور ان يكون شاكرا
وكافرا ويكون شكره بان يستعمل ما انفذه اليه مولاه فيما احبه لاجله لا لاجل نفسه
وكفره ان لا يستعمل ذلك فيه بان يعطله او يستعمله فيما يزيد في بعده منه فمهما لبس
العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد الا في الطريق فقد شكره مولاه اذ استعمل
نعمته في محبته أي فيما احبه لعبده لا لنفسه وان ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه
فقد كفر نعمته أي استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه وان جلس ولم يركب لا في
طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر ايضا نعمته اذا اهملها وعطلها وان كان هذا دون
ما لو بعد منه فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون الى
استعمال الشهوات لتكمل بها ابدانهم فيبعدون بها عن حضرته وانما سعادتهم في القرب
منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب وعن بعدهم وقربهم
عبر الله تعالى اذ قال لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه اسفل سافلين الا
الذين امنوا آلاية فإذن نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن اسفل السافلين
خلقها الله تعالى لاجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب والله تعالى غني عنه قرب ام
بعد والعبد فيها بين ان يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه وبين
ان يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له فإن الله لا
يرضى لعباده الكفر والمعصية وان عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو ايضا
كفر كفران إن للنعمة بالتضييع وكل ما خلق في الدنيا انما خلق آلة للعبد ليتوصل به
الى سعادة الاخرة ونيل القرب من الله تعالى فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة
الله في الاسباب التي استعملها في الطاعة وكل كسلان ترك الاستعمال او عاص استعملها
في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى فالمعصية والطاعة تشملهما
المشيئة ولكن لا تشملهما المحبة والكراهة بل رب مراد
محبوب
ورب مراد مكروه ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من افشائه وقد انحل بهذا
الاشكال الاول وهو انه اذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر وبهذا ايضا ينحل
الثاني فانا لم نعن بالشكر الا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فاذا انصرفت
النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد وفعلك عطاء من الله تعالى ومن حيث
انت محله فقد اثنى عليك وثناؤه نعمة اخرى منه اليك فهو الذي اعطى وهو الذي اثنى
وصار احد فعليه سببا لانصراف فعله الثاني الى جهة محبته فله الشكر على كل حال وانت
موصوف بأنك شاكر بمعنى انك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى انك موجب له
كما انك موصوف بانك عارف وعالم لا بمعنى انك خالق للعلم وموجده ولكن بمعنى انك محل
له وقد وجد بالقدرة الازلية فيك فوصفك بانك شاكر اثبات شيئية لك وانت شيء اذ جعلك
خالق الاشياء شيئا وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظانا لنفسك شيئا من ذاتك فأما
باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئا فأنت شيء إذ جعلك شيئا فإن قطع النظر عن
جعله كنت لا شيء تحقيقيا والى هذا أشار صلى الله الله عليه وسلم حيث قال اعملوا
فكل ميسر لما خلق له // حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له من حديث على وعمران بن
حصين لما قيل له يا رسول الله ففيم العمل اذا كانت الاشياء قد فرغ منها من قبل
فتبين ان الخلق مجاري قدرة الله تعالى ومحل افعاله وان كانوا هم ايضا من افعاله
ولكن بعض افعاله محل للبعض وقوله اعملوا وان كان جاريا على لسان الرسول صلى الله
تعالى عليه واله وسلم فهو فعل من افعاله وهو سبب لعلم الخلق ان العمل نافع وعلمهم
فعل من افعال الله تعالى والعلم سبب لانبعاث داعية جازمة الى الحركة والطاعة
وانبعاث الداعية ايضا من افعال الله تعالى وهو سبب لحركة الاعضاء وهي ايضا من
افعال الله تعالى ولكن بعض افعاله سبب للبعض أي الاول شرط للثاني كما كان خلق
الجسم سببا لخلق العرض اذ لا يخلق العرض قبله وخلق الحياة شرط لخلق العلم وخلق
العلم شرط لخلق الارادة والكل من افعال الله تعالى وبعضها سبب للبعض أي هو شرط
ومعنى كونه شرطا انه لا يستعد لقبول فعل الحياة الا جوهر ولا يستعد لقبول العلم
الا ذو حياة ولا لقبول الارادة الاذو علم فيكون بعض افعاله سببا للبعض بهذا المعنى
لا بمعنى ان بعض افعاله موجد لغيره بل ممهد شرط الحصول لغيره وهذا اذا حقق ارتقى
الى درجة التوحيد الذي ذكرناه
فإن قلت فلم قال الله تعالى اعملوا والا فأنتم معاقبون مذمومون على العصيان وما
الينا شيء فكيف نذم وانما الكل الى الله تعالى فاعلم ان هذا القول من الله تعالى سبب
لحصول اعتقاد فينا والاعتقاد سبب لهيجان الخوف وهيجان الخوف سبب لترك الشهوات
والتجافي عن دار الغرور وذلك سبب للوصول الى جوار الله والله تعالى مسبب الاسباب
ومرتبها فمن سبق له في الازل السعادة يسر له هذه الاسباب حتى يقوده بسلسلتها الى
الجنة ويعبر عن مثله بان كلا ميسر لما خلق له ومن لم يسبق له من الله الحسنى بعد
عن سماع كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم وكلام العلماء فاذا
لم يسمع لم يعلم واذا لم يعلم لم يخف واذا لم يخف لم يترك الركون الى الدنيا واذا
لم يترك الركون الى الدنيا بقى في حزب الشيطان وان جهنم لموعدهم اجمعين فإذا عرفت
هذا تعجبت من قوم يقادون الى الجنة بالسلاسل فما من احد الا وهو مقود الى الجنة
بسلاسل الاسباب وهو تسليط العلم والخوف عليه وما من مخذول الا وهو مقود الى النار
بالسلاسل وهو تسليط الغفلة والأمن والغرور عليه فالمتقون يساقون الى الجنة قهرا
والمجرمون يقادون الى النار قهرا ولا قاهر الا الله الواحد القهار
ولا
قادر الا الملك الجبار واذا انكشفت الغطاء عن اعين الغافلين فشاهدوا الامر كذلك
سمعوا عند ذلك نداء المنادي لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ولقد كان الملك لله
الواحد القهار كل يوم لا ذلك على الخصوص ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء الا
ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الاحوال حيث لا ينفعهم الكشف فنعوذ
بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فانه اصل اسباب الهلاك
بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه
اعلم أن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى عما يكرهه اذ
معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابة ومعنى الكفر نقيض ذلك اما بترك الاستعمال
او باستعمالها في مكارهه ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان احدهما
السمع ومستنده الآيات والاخبار والثاني بصيرة القلب وهو النظر بعين الاعتبار وهذا
الاخير عسير وهو لاجل ذلك عزيز فلذلك ارسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على
الخلق ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع احكام الشرع في افعال العباد فمن لا يطلع
على احكام الشرع في جميع افعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر اصلا واما الثاني وهو
النظر بعين الاعتبار فهو ادراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه اذ ما خلق شيئا
في العالم الا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود وذلك المقصود هو المحبوب وتلك الحكمة
منقسمة الى جلية وخفية اما الجلية فكالعلم بان الحكمة في خلق الشمس ان يحصل بها
الفرق بين الليل والنهار فيكون النهار معاشا والليل لباسا فتتيسر الحركة عند
الابصار والسكون عند الاستتار فهذا من جملة حكم الشمس لا كل الحكم فيها بل فيها
حكم اخرى كثيرة دقيقة وكذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار وذلك لانشقاق
الارض بأنواع النبات مطعما للخلق ومرعي للأنعام وقد انطوى القرآن على جملة من
الحكم الجليلة التي تحتملها افهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه اذ قال
تعالى أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الارض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا الآية وأما
الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فخفية لا يطلع عليها كافة الخلق
والقدر الذي يحتمله فهم الخلق انها زينة للسماء لتستلذ العين بالنظر اليها وأشار
اليه قوله تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب فجميع اجزاء العالم سماؤه
وكواكبه ورياحه وبحاره وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعظاء حيواناته لا تخلو
ذرة من ذراته عن حكم كثيرة من حكمة واحدة الى عشرة الى الف الى عشرة آلاف وكذا
اعضاء الحيوان تنقسم الا ما يعرف حكمتها كالعلم بان العين للإبصار لا للبطش واليد
للبطش لا للمشي والرجل للمشي لا للشم فاما الاعضاء الباطنة من الامعاء والمرارة
والكبد والكلية وآحاد العروق والاعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف
والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس
والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدرا يسيرا بالاضافة الى ما في علم الله تعالى
وما أوتيتم من العلم الا قليلا فإذن كل من استعمل شيئا في جهة غير الجهة التي خلق
لها ولا على الوجه الذي اريد به فقد كفر فيه نعمة الله تعالى فمن ضرب غيره بيده
فقد كفر نعمة اليد اذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يهلكه ويأخذ ما ينفعه لا
ليهلك بها غيره ومن نظر الى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين ونعمة الشمس اذ
الابصار يتم بهما وانما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما
يضره فيهما فقد استعملها في غير ما اريد به وهذا لان المراد من خلق الخلق وخلق
الدنيا وأسبابها ان يستعين الخلق بهما على الوصول الى الله تعالى ولا وصول اليه
الا بمحبته والانس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا ولا انس
إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن ولا يبقى البدن إلا بالغذاء ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهرا وباطنا فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس والراجح إلى الله تعالى هى النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة فلذلك قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق الآية فكل من استعمل شيئا فى غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله فى جميع الأسباب التى لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية ولتذكر مثالا واحدا للحكم الخفية التى ليست فى غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة فى أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة فى مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغنى عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد فى مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله فى الوزن أو الصورة وكذا من يشترى دارا ثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تتناسب فيها فلا يدرى أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوى من غير المساوى فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال هذا الجمل يسوى مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة فهما من حيث إنهما مساويان بشىء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض فى أعيانهما ولو كان فى أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض فى حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك فى حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدى ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهى التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان فى أنفسهما ولا غرض فى أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شىء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام فى الثوب لأن غرضه فى دابة مثلا فاحتيج إلى شىء وهو فى صورته كأنه ليس بشىء وهو فى معناه كأنه كل الأشياء والشىء إنما تستوى نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكى كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعانى فى غيره فهذه هى الحكمة الثانية وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين فى سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد فى أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولها الأيدى فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للراتب فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة فى صفحات الموجودات بخط إلهى لا حرف فيه ولا صوت الذى لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة أخبر هؤلاء العاجزين
بكلام
سمعوه من رسوله صلى الله عليه و سلم حتى وصل اليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى
الذى عجزوا عن إدراكه فقال تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل
الله فبشرهم بعذاب أليم وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد
كفر النعمة وكان أسوأ حالا ممن كنز لان مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد فى
الحياكة والمكس والأعمال التى يقوم بها أخساء الناس والحبس أهوك منه وذلك أن الخزف
والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة فى حفظ المائعات عن أن تتبدد
وإنما الأوانى لحفظ المائعات ولا يكفى الخزف والحديد فى المقصود الذى أريد به
النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له من شرب فى آنية من
ذهب أو فضة فكأنما يجرجر فى بطنه نار جهنم وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم
والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض فى
عينهما فإذا اتجر فى عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد
لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشترى به طعاما
ودابة إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور فى بيعه بنقد آخر ليحصل
النقد فيتوصل به إلى مقصوده فانهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما وموقهما
فى الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذى جاء لمعنى فى
غيره وكموقع المرآة من الألوان فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ
التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلا المكنوز وتقييد
الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم كما أن حبسه ظلم فلا معنى لبيع النقد بالنقد
إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم
فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما جاز بيع الدرهم بمثله فاعلم أن أحد
النقدين يخالف الآخر فى مقصود التوصل إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته
كالدراهم تتفرق فى الحاجات قليلا قليلا ففى المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به
وهو تيسر التوصل به إلى غيره وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا
يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجرى مجرى وضع الدرهم على
الأرض وأخذه بعينه ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على
الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من
الآخر وذلك أيضا لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الردىء فلا ينتظم
العقد وإن طلب زيادة فى الردىء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن
جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغى أن ينظر إليهما فيما يقصد فى عينه
وما لا غرض فى عينه فلا ينبغى أن ينظر إلا مضافات دقيقة فى صفاته وإنما الذى ظلم
هو الذى ضرب النقود مختلفة فى الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة فى أعيانها وحقها
أن لا تقصد وأما إذا باع درهما بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم
على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان فى القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة
المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لاحمد فيها ولا أجر فهو أيضا ظلم لأنه إضاعة
خصوص المسامحة وإخراجها فى معرض المعارضة وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى
بها فلا ينبغى أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها فى
الأيدى ويؤخر عنها الأكل الذى أريدت له فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى
الأطعمة شديدة فينبغى أن تخرج عن يد المستغنى عنها إلى المحتاج ولا يعامل على
الأطعمة إلا مستغن عنها إذ من معه طعام فلم
لا يأكله إن كان محتاجا ولم يجعله بضاعة تجارة وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجا إليه فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضا مستغن عنه ولهذا ورد فى الشرع لعن المحتكر وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه فى كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر فى الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت فى الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الردىء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوى الردىء فى أصل الفائدة ويخالفه فى وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام فهذه حكمه الشرع فى تحريم الربا وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوى من جميع ما أوردناه فى الخلافيات وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعى رحمه الله فى التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكنا بالقوت وكان ممكنا بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق فى أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضروريا فلذلك قال الله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ولأن أصول هذه المعانى لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف فى وجوه التحديد كما يحد شرع عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير والداخل فى الحدود داخل فى التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمه خفية من حكم النقدين فينبغى أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغى أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ولكن لا تصادف جواهر الحكم فى قلوب هى مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه و سلم لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا إلى ملكوت السماء // حديث لولا أن الشياطين يحومون على بنى آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم فى الصوم // وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما وبعض ذلك نصفه فى لسان الفقه الذى تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر فأقول مثلا لو أستنجيت باليمنى فقد كفرت نعمه اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه فى الغالب التشريف والتفضيل وتفضيل الناقص عدول عن العدل والله لا يأمر بالعدل ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال بعضها شريف كأخذ المصحف وبعضها خسيس كإزالة النجاسة فإذا اخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل وكذلك إذا بصقت مثلا فى جهة القبلة أو استقبلتها فى قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله تعالى فى خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك فى حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتا أضافة إلى نفسه استمالة
لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه بدنك فى تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هى شريفة كالطاعات وإلى ما هى خسيسة كقضاء الحاجة ورمى البصاق فإذا رميت بصاقك إلى الجهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التى بوضعها كمال عبادتك وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لأن الخف وقاية للرجل فللرجل فيه حظ والبداءة فى الحظوظ ينبغى أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروها حتى إن بعضهم كان قد جمع إكرارا من الحنطة وكان يتصدق بها فسئل عن سببه فقال لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهوا فأريد أن أكفره بالصدقة نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر فى هذه الأمور لأنه مسكين بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون فى ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها فقبيح أن يقال الذى شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين أحدهما الشرب والآخر الآخذ باليسار ومن باع خمرا فى وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين أحدهما بيع الخمر والآخر البيع فى وقت النداء ومن قضى حاجته فى محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب فى قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه فالمعاصى كلها ظلمات بعضها فوق بعض فيمنحق بعضها فى جنب البعض فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير إذنه حكم ونكاية فى نفسه فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه فى الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب بعضها يؤثر فى العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذى هو مستقر الشياطين وكذلك من كسر غصنا من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى فى خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل للطاعة والأعمال المعينة على الطاعة وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده فكسره قبل منتهى نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل فإن كان له غرض صحيح فله ذلك إذ الشجر والحيوان جعلا فداء لأغراض الإنسان فإنهما جميعا فانيان هالكان فإفناء الأخس فى بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعا وإليه الإشارة بقوله تعالى وسخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض جميعا منه نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضا وإن كان محتاجا لأن كل شجرة بعينها لاتفى بحاجات عباد الله كلهم بل تفى بحاجة واحدة ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلما فصاحب الاختصاص هو الذى حصل البذر ووضعه فى الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به من غيره فيرجع جانبه بذلك فإن نبت ذلك فى موات الأرض لا بسعى آدمى اختص بمغرسة أو بغرسه فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى أخذه فللسابقخاصية السبق فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقراء عن هذا الترجيح بالملك وهو مجاز محض إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذى له ما فى السموات والأرض وكيف يكون العبد مالكا وهو فى نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم فى الأكل من مائدته بقدر حاجتهم كالملك ينصب مائدة لعبيده فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها
من
يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكا له بالأخذ باليد فإن اليد وصاحب اليد
أيضا مملوك ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفى بحاجة كل العبيد فالعدل فى
التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من
لا يدلى بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغى أن تفهم أمر الله فى فى عباده ولذلك
نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفى عباد الله من يحتاج
إليه فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله وإنما
سبيل الله طاعته وزاد الخلق فى طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع
حاجاتهم نعم لا يدخل هذا فى حد فتاوى الفقة لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس فى
استشعار الفقر فى الاستقبال مختلفة وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف العوام ذلك
يجرى مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو بحكم نقصانهم
لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم فى اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على
أن اللهو واللعب حق فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار فى الإنفاق على
قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار
القرآن إليه إذ قال تعالى إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا بل الحق الذى لا كدورة فيه
والعدل الذى لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد
الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة
عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة
وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التى بها عرف ان
ما سوى زاد الراكب وبال عليه فى الدنيا والآخرة فمن فهم حكمة الله تعالى فى جميع
أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا
تفى إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق فى قوله تعالى وقليل من
عبادى الشكور وفرح إبليس لعنه الله بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين فلا يعرف معنى هذه
الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأمورا أخر وراء ذلك تنقضى الأعمار دون استقصاء
مباديها فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك
الفرق بين المعنى والتفسير
فإن قلت فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى حكمه فى كل شىء وأنه جعل بعض
أفعال العباد سببا لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعا
من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر
وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران وهذا كله
مفهوم ولكن الإشكال باق وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما
يرفعها هو أيضا من فعل الله تعالى فاين العبد فى البين حتى يكون شاكرا مرة وكافرا
أخرى فاعلم أن تمام التحقيق فى هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات وقد
رمزنا فيما سبق إلى تلويحات بمباديها ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها
وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع فى السير فضلا عن أن
يجول فى جو الملكوت جولان الطير فنقول أن الله عز و جل فى جلاله وكبريائه صفة عنها
يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر
عنها بعبارة تدل على كنة جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها فى العالم عبارة لعلو
شأنها وانحطاط رتبة واضعى اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادى إشراقها فانخفضت
عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض
فى نور الشمس ولكن لضعف فى أبصار الخفافيش فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادى حقائقها شيئا ضعيفا جدا فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله تعالى صفة هى القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع ثم الخلق ينقسم فى الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة اخرى استعير لها بمثل الضرورة التى سبقت عبارة المشيئة فهى توهم منها أمرا محملا عند المتناطقين باللغات التى هى حروف وأصوات المتفاهمين بها وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كفصور لفظ القدر ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذى هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التى بها تتم القسمة والاختلافات فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة وقيل إنهما جميعا داخلان فى وصف المشيئة ولكن لكل واحد خاصية أخرى فى النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طالبى الفهم من الألفاظ واللغات ثم انقسم عباده الذين هم أيضا من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها ويكون ذلك قهرا فى حقهم بتسليط الدواعى والبواعث عليهم وإلى من سبقت لهم فى الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها فى بعض الأمور فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة فاستعير لنسبة المستعملين فى إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب فظهر على من غضب عليه فى الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها فاستعير له الكفران وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة فى النكال وظهر على من ارتضاه فى الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة فى الرضا والقبول والإقبال فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى وأعطى النكال ثم قبح وأردى وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك وأجمل ثيابك وأنظف وجهك فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثنى على الجمال فهو المثنى عليه بكل حال وكأنه لم يثنى من حيث المعنى إلا على نفسه وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة فهكذا كانت الأمور فى الأزال وهكذا تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء وقيل إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما سبق به التقدير فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الآمر الواحد الكلى ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادى إلى غير نهاية وقيل إن شيئا من ذلك ليس خارجا عن القضاء والقدر فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل وكان بعضهم لقصوره لا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء على مجامعه فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وامتلأت مشكاة بعضهم نورا مقتبسا من نور الله تعالى فى السموات والأرض وكان زيتهم أولا صافيا يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار فمسته نار فاشتعل نورا على نور فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هى عليه فقيل لهم تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا وإذا
ذكر
القدر فأمسكوا // حديث إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود وقد
تقدم فى العلم ولم يصرح المصنف بكونه حديثا // فإن للحيطان آذانا وحواليكم ضعفاء
الإبصار فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك سبب
هلاكهم فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس
بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش
من بقايا نور الشمس والكواكب فى جنح الليل فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن
كان لا يحيا به حياة المترددين فى كمال نور الشمس وكونوا كمن قيل فيهم
شربنا شرابا طيبا عند طيب ... كذلك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضله ... وللأرض من كاس الكرام نصيب
فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلا له وإذا كنت أهلا له
فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك والأعمى يمكن أن يقاد ولكن حد ما فإذا
ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر
على أن يستجر وراءه أعمى وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلا ولم يكن العبور إلا
بالسباحة فقد يقدر الماهر بصنعه السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر
وراءه آخر فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو بحال جماهير الخلق
كنسبة المشى على الماء إلى المشى على الأرض والسباحة يمكن أن تتعلم فأما المشى على
الماء فلا يكتسب بالتعليم بل ينال بقوة اليقين ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه و
سلم إن عيسى عليه السلام يقال إنه مشى على الماء فقال صلى الله عليه و سلم لو
ازداد يقينا لمشى على الهواء // حديث قيل له يقال إن عيسى مشى على الماء قال لو
ازداد يقينا لمشى على الهواء هذا حديث منكر لا يعرف هكذا والمعروف رواه ابن أبى
الدنيا فى كتاب اليقين من قول بكر بن عبد الله المزنى قال فقد الحواريون نبيهم
فقيل لهم توجه نحو البحر فانطلقوا يطلبونه فلما انتهو إلى البحر إذا هو قد أقبل
يمشى على الماء فذكر حديثا فيه أن عيسى قال لو أن لابن آدم من اليقين شعره مشى على
الماء وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف من حديث معاذ بن جبل لو
عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال فهذه رموز وإشارات
إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران لا يليق بعلم المعاملة
أكثر منها وقد ضرب الله تعالى مثلا لذلك تقريبا إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق
الجن والإنس إلا ليعبدوه فكانت عبادتهم غاية الحكمة فى حقهم ثم أخبر أن له عبدين
يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين ويبغض
الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين ثم أحال الإرشاد إلى جبريل
فقال تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق وقال تعالى يلقى الروح من أمره على من
يشاء من عباده وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى ليضل عن سبيله والإغواء هو
استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة فانظر كيف نسبه إلى العبد الذى غضب عليه
والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذى أحبه وعندك فى
العادة له مثال فالملك إذا كان محتاجا إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف
فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما
وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا
ينبغى أن تقول هذا فعلى ولم يكون فعله دون فعلى فإنك أخطأت إذ أضفت ذلك إلى نفسك
بل هو الذى صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص
المحبوب إتماما للعدل فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها وتارة يتم فيك فإنك
أيضا من أفعاله فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب
حركاتك
فى التعبير هو فعله الذى رتبه بالعدل ترتيبا تصدر منه الأفعال المعتدلة إلا أنك لا
ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك فى عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب
والملكوت فلذلك تضيفه إلى نفسك وإنما أنت مثل الصبى الذى ينظر ليلا إلى لعب
المشعبذ الذى يخرج صورا من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهى مؤلفة من خرق لا
تتحرك بأنفسها وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر فى ظلام الليل ورءوسها فى يد
المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص
وتلعب وتقوم وتقعد وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحريك ولكنهم
ربما لا يعلمون كيف تفصيله والذى يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذى
الأمر إليه والجاذبة بيده فكذلك صبيان أهل الدنيا والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى
العلماء ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها المتحركة فيحيلون عليها والعلماء
يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون إلا العارفون
والعلماء والراسخون فإنهم أدركوا بحده أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها
بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض لا تدرك تلك الخيوط لدقتها
بهذه الأبصار الظاهرة ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط فى مناطات لها هى معلقة بها
وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هى فى أيدي الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضا
ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من
حضرة الربوبية كى لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعبر عن هذه المشاهدات
فى القرآن وقيل وفى السماء رزقكم وما توعدون وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما
ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما وهذه أمور لا يعلم
تأويلها إلا الله والراسخون فى العلم وعبر ابن عباس رضى الله عنهما عن اختصاص
الراسخين فى العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى يتنزل الأمر
بينهن فقال لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتمونى وفى لفظ آخر لقلتم إنه
كافر
ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار وامتزج بعلم المعاملة
ما ليس منه فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول إذا رجع حقيقة الشكر الى كون العبد
مستعملا في اتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد احبهم الى الله وأقربهم اليه
واقربهم الى الله الملائكه ولهم ايضا ترتيب وما منهم الا وله مقام معلوم واعلاهم
في رتبة القرب ملك اسمه اسرافيل عليه السلام وانما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم
كرام برره وقد اصلح الله تعالى بهم الانبياء عليهم السلام وهم اشرف مخلوق على وجه
الارض ويلي درجتهم درجة الأنبياء فانهم في انفسهم اخيار وقد هدى الله بهم سائر
الخلق وتمم بهم حكمته وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه و سلم وعليهم إذا أكمل
الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم فى
أنفسهم صالحون وقد أصلح الله بهم سائر الخلق ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من
نفسه ومن غيره ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء
دينهم ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم كان
أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك
لغيره من الأنبياء ثم يلى العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم
فقط فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع
واعلم
أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغى أن يستحقر وإن كان ظالما فاسقا قال عمرو بن
العاص رحمه الله إمام غشوم خير من فتنة تدوم وقال النبي صلى الله عليه و سلم سيكون
عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ويفسدون وما يصلح الله بهم اكثر فإن أحسنوا فلهم
الأجر وعليكم الشكر وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر // حديث سيكون عليكم
أمراء يفسدون وما يصلح الله بهم أكثر الحديث أخرجه مسلم من حديث أم سلمة يستعمل
عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ورواه الترمذى بلفظ سيكون عليكم أئمة وقال حسن صحيح
وللبزار بسند ضعيف من حديث ابن عمر السلطان ظل الله فى الأرض يأوى اليه كل مظلوم
من عبادة فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان
عليه الوزر وعلى الرعية الصبر وأما قوله وما يصلح الله بهم أكثر فلم أجده بهذا
اللفظ إلا أنه يؤخذ من حديث ابن مسعود حين فزع إليه الناس لما أنكروا سيرة الوليد
بن عقبة فقال عبد الله اصبروا فإن جور إمامكم خمسين سنة خير من هرج شهر فإنى سمعت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فذكر حديثا فيه والإمارة الفاجرة خير من الهرج
رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد لا بأس به وقال سهل من أنكر إمامه السلطان فهو
زنديق ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل وسئل أى
الناس خير فقال السلطان فقيل كنا نرى أن شر الناس السلطان فقال مهلا إن لله تعالى
له كل يوم نظرتين نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ونظرة إلى سلامة أبدانهم فيطلع فى
صحيفته فيغفر له جميع ذنبه وكان يقول الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من
سبعين قاصا يقصون الركن الثانى من أركان الشكر ما عليه الشكر
وهو النعمة فلنذكر فيه حقيقة النعمة وأقسامها ودرجاتها وأصنافها ومجامعها فيما يخص
ويعم فإن إحصاء نعم الله على عباده خارج عن مقدور البشر كما قال تعالى وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها فنقدم أمورا كلية تجرى مجرى القوانين فى معرفة النعم ثم نشتغل
بذكر الآحاد والله الموفق للصواب
بيان حقيقة النعمة وأقسامها
اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يسمى نعمة ولكن النعمة
بالحقيقة هى السعادة الآخروية وتسميه ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وأما مجاز
كتسمية السعادة الدنيوية التى لا تعين على الآخرة نعمة فإن ذلك غلط محض وقد يكون
اسم النعمة للشى صدقا ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق فكل سبب يوصل
إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بوسطة واحدة أو بوسائط فإن تسمية نعمة صحيحة وصدق
لأجل أنه يفضى إلى النعمة الحقيقية
والأسباب المعينة واللذات المسماه نعمة نشرحها بتقسيمات القسمة الأولى أن الأمور
كلها بالإضافة إلينا تنقسم إلى ما هو نافع فى الدنيا والآخرة جميعا كالعلم وحسن
الخلق وإلى ما هو ضار فيهما جميعا كالجهل وسوء الخلق وإلى ما ينفع فى الحال المضر
فى المآل كالتلذذ باتباع الشهوة وإلى ما يضر فى الحال ويؤلم ولكن ينفع فى المآل
كقمع الشهوات ومخالفة النفس فالنافع فى الحال والمآل هو النعمة تحقيقا كالعلم وحسن
الخلق والضار فيهما هو البلاء تحقيقا وهو ضدهما والنافع فى الحال فى المآل بلاء
محض عند ذوى البصائر وتظنه الجهال نعمة ومثاله الجائع إذا وجد عسلا فيه سم فإنه
يعده نعمة إن كان جاهلا وإذا علمه علم أن ذلك بلاء سيق إليه والضار فى الحال
النافع فى المآل نعمة عند ذوى الألباب بلاء عند الجهال ومثاله الدواء البشع فى
الحال مذاقه إلا أنه شاف من الأمراض والأسقام وجالب للصحة والسلامة فالصبى الجاهل
إذا كلف شربه ظنه بلاء والعاقل يعده نعمة ويتقلد المنة ممن يهديه إليه ويقربه منه
ويهيىء له أسبابه فلذلك تمنع الأم ولدها من الحجامة والأب يدعوه إليها فإن الأب
لكمال عقله يلمح العاقبة والأم لفرط حبها وقصورها تلحظ الحال والصبى لجهله يتقلد
منة من أمه دون أبيه
ويأنس
إليها وإلى شفقتها ويقدر الآب عدو له ولو عقل لعلم أن الأم عدوا باطنا فى سورة
صديق لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة ولكن الصديق
الجاهل شر من العدو العاقل وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل فلذلك تعمل
به مالا يعمل به العدو
قسمة ثانية اعلم أن كل الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو
خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب ولكن تنقسم إلى ما نفعه
أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب وإلى ما ضره أكثر من نفعه
فى حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع وإلى ما يكافىء ضرور نفعه وهذه
أمور تختلف بالأشخاص فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه فى سبيل
الله ويصرفه إلى الخيرات فهو مع هذه التوفيق نعمه فى حقه ورب إنسان يستضر بالقليل
أيضا إذ لا يزال مستصغرا له شاكيا من ربه طالبا للزيادة عليه فيكون ذلك مع هذا
الخذلان بلاء فى حقه
قسمة ثالثة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم الى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره وإلى
مؤثر لغيره وإلى مؤثر لذاته ولغيره فالاول ما يؤثر لذاته لا لغيره كلذة النظر إلى
وجه الله تعالى وسعادة لقائه وبالجملة سعادة الأخرى التى لا انقضاء لها فإنها لا
تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها بل تطلب لذاتها الثانى ما يقصد لغيره
ولا غرض أصلا فى ذاته كالدراهم والدنانير فان الحاجة لو كانت لا تنقضى بها فكانت
هى والحصباء بمثابة واحدة ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال اليها
صارت عند الجهال محبوبة فى نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا
ويظنون انها مقصودة ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصا فيحب بسببه رسوله الذى يجمع بينه
وبينه ثم ينسى فى محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولا
بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده وهو غاية الجهل والضلال الثالث ما يقصد لذاته ولغيره
كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله
تعالى أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا وتقصد أيضا لذاتها فإن الإنسان وإن
استغنى عن الشىء الذى تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضا سلامة الرجل من حيث إنها
سلامة فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقا وما يؤثر لذاته ولغيره أيضا
فهو نعمة ولكن دون الأول فأما مالا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من
حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة فى حق من يقصد
أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية
التى هى ضرورة حياته استوى عند الذهب والمدر فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة
واحدة بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء فى حقه ولا يكونان
نعمة
قسمة رابعة اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل فاللذيذ هو
الذى تدرك راحته فى الحال والنافع هو الذى يفيد فى المآل والجميل هو الذى يستحسن
فى سائر الأحوال والشرور أيضا تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم وكل واحد من القسمين
ضربان مطلق ومقيد فالمطلق هو الذى اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة اما فى الخير فكالعلم
والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة وأما فى الشر فكالجهل
فإنه ضار وقبيح ومؤلم وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل وذلك بأن يرى
غيره عالما ويرى نفسه جاهلا فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة ثم قد
يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه فإنه
إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو
بترك
الكبر
وذل التعلم ومثل هذا الشخص لا يزال فى عذاب دائم لا محالة الضرب الثانى المقيد وهو
الذى جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض فرب نافع مؤلم كقطع الأصبع المتأكلة والسلعة
الخارجة من البدن ورب نافع قبيح كالحمق فإنه بالإضافة إلى بعض الأحوال نافع فقد
قيل استراح من لا عقل له فإنه لا يتهم بالعاقبة فيستريح فى الحال إلى أن يحين وقت
هلاكه ورب نافع من وجه ضار من وجه كإلقاء المال فى البحر عند خوف الغرق فإنه ضار
للمال نافع للنفس فى نجاتها
والنافع قسمان ضرورى كالإيمان وحسن الخلق فى الإيصال إلى سعادة الآخرة وأعنى بهما
العلم والعمل إذ لا يقوم مقامهما ألبتة غيرهما وإلى ما لا يكون ضروريا كالسكنجبين
مثلا فى تسكين الصفراء فإنه قد يمكن تسكينها أيضا بما يقوم مقامه
قسمة خامسة اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ واللذات بالإضافة إلى الإنسان من
حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع عقلية وبدنية مشتركة مع بعض
الحيوانات وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات أما العقلية فكلذة العلم والحكمة إذ
ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج وإنما يستلذها القلب
لاختصاصة بصفة يعبر عنها بالعقل وهذه أقل اللذات وجودا وهى أشرفها أما قلتها فلأن
العلم لا يستلذه إلا عالم والحكمة لا يستلذها إلا حكيم وما أقل أهل العلم والحكمة
وما أكثر المتسمين باسمهم والمترسمين برسومهم واما شرفها فلأنها لازمة لا تزول
أبدا لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ودائمة لا تمل فالطعام يشبع منه فيمل وشهوة
الوقاع يفرغ منها فتستثقل والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل ومن قدر على
الشريف الباقى أبد الآباد إذا رضى بالخسيس الفانى فى أقرب الآماد فهو مصاب فى عقله
محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة
بخلاف المال إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص
بالإنفاق والمال يسرق والولاية يعزل عنها والعلم لا تمتد إليه أيدى السراق بالأخذ
ولا أيدى السلاطين بالعزل فيكون صاحبه فى روح الأمن أبدا وصاحب المال والجاه فى
كرب الخوف أبدا ثم العلم نافع ولذيذ وجميل فى كل حال أبدا والمال تارة يجذب إلى
الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة ولذلك ذم الله تعالى المال فى القرآن فى مواضع وإن
سماه خيرا فى مواضع وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم فإما لعدم الذوق فمن
لم يذق لم يعرف ولم يشتق إذ الشوق تبع الذوق وإما لفساد أمزجتهم ومرض قلوبهم بسبب
اتباع الشهوات كالمريض الذى لا يدرك حلاوة العسل ويراه مرا وإما لقصور فطنتهم إذ
لم تخلق لهم بعد الصفة التى بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذى لا يدرك لذة العسل
والطيور السمان ولا يستلذ إلا اللبن وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة ولا استطابته
اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء فالقاصرون عزدرك لذة العلم والحكمة ثلاثة إما من لم
يحى باطنه كالطفل وإما من مات بعد الحياة باتباع الشهوات وإما من مرض بسبب اتباع
الشهوات وقوله تعالى فى قلوبهم مرض إشارة إلى مرض العقول وقوله عز و جل لينذر من
كان حيا إشارة إلى من لم يحى حياة باطنة وكل حى بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من
الموتى وإن كان عند الجهال من الأحياء ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان الثانية لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة
الرياسة والغلبة والاستيلاء وذلك موجود فى الأسد والنمر وبعض الحيوانات الثالثة ما
يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج وهذه أكثرها وجودا وهى أخسها ولذلك
اشترك فيها كل ودرج حتى الديدان والحشرات ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة
وهو
أشدها
التصاقا بالمتغافلين فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة
العلم والحكمة لا سيما لذة معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وهذه رتبة
الصديقين ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب وآخر ما يخرج من
رءوس الصديقين حب الرياسة وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون
وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها
الإحساس على الدوام وفى اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجا عن مقدور البشر نعم
تغلب لذة معرفة الله تعالى فى أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة
ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون
موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل وعند هذا
تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام قلب لا يحب إلا الله تعالى ولا يستريح إلا بزيادة
المعرفة به والفكر فيه وقلب لا يدرى ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله وإنما لذته
بالجاه والرياسة والمال وسائر الشهوات البدنية وقلب أغلب أحواله الأنس بالله
سبحانه والتلذذ بمعرفته والفكر فيه ولكن قد يعتريه فى بعض الأحوال الرجوع إلى
أوصاف البشرية وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ويعتريه فى بعض الأحوال
تلذذ بالعلم والمعرفة أما الأول فإن كان ممكنا فى الوجود فهو فى غاية البعد وأما
الثانى فالدنيا طافحة به وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور ولا
يتصور أن يكون ذلك نادرا شاذا وهو مع الندور يتفاوت فى القلة والكثرة وإنما تكون
كثرته فى الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام فلا يزال يزداد العهد
طولا وتزداد مثل هذه القلوب قلة إلى أن تقرب الساعة ويقضى الله أمرا كان مفعولا
وإنما وجب أن يكون هذا نادرا لأنه مبادى ملك الآخرة والملك عزيز والملوك لا يكثرون
فكما لا يكون الفائق فى الملك والجمال إلا نادرا وأكثر الناس من دونهم فكذا فى ملك
الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة فإنها عبارة عن عالم الشهادة والآخرة عبارة عن عالم
الغيب وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب كما أن الصورة فى المرآة تابعة لصورة الناظر
فى المرآة والصورة فى المرآة وإن كانت هى الثانية فى رتبة الوجود فإنها أولى فى حق
رؤيتك فإنك لا ترى نفسك وترى صورتك فى المرآة أولا فتعرف بها صورتك التى هى قائمة
بك ثانيا على سبيل المحاكاة فالقلب التابع فى الوجود متبوعا فى حق المعرفة والقلب
المتأخر متقدما وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم
فكذلك عالم الملك والشهادة محاك لعالم الغيب والملكوت فمن الناس من يسر له نظر
الاعتبار فلا ينظر فى شىء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى
عبوره عبرة وقد أمر الحق به فقال فاعتبروا يا أولى الأبصار ومنهم من عميت بصيرته
فلم يعتبر فاحتبس فى عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم وهذا الحبس
مملوء نارا من شأنها أن تطلع على الأفئدة إلا أن بينه وبين إدراك ألمها حجابا فإذا
رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم
بالحق فقالوا الجنة والنار مخلوقتان ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين
ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين وعين اليقين لا يكون إلا فى الآخرة وعلم اليقين
قد يكون فى الدنيا ولكن للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين فلذلك قال الله تعالى
كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم أى فى الدنيا ثم لترونها عين اليقين أى فى
الآخرة فإذن قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزا كالشخص الصالح
لملك الدنيا
قسمة سادسة حاوية لمجامع النعم اعلم ان النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها
وإلى ما هي مطلوبة لأجل
الغاية
أم الغاية فإنها سعادة الآخرة ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور بقاء لا فناء له وسرور
لا غم فيه وعلم لا جهل معه وغني لا فقر بعده وهي النعمة الحقيقية ولذلك قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم لا عيش إلا عيش الآخرة // حديث قوله عند حفر الخندق لا
عيش إلا عيشة الآخرة متفق عليه من حديث أنس // وقال ذلك في الشدة تسلية النفس وذلك
في وقت حفر الخندق في شدة الضر وقال ذلك مرة في السرور منعا للنفس من الركون إلى
سرور الدنيا وذلك عند إحداق الناس به في حجة الوداع حديث قوله في حجة الوداع لا
عيش إلا عيشة الآخرة رواه الشافعي مرسلا والحاكم متصلا وصححه وتقدم في الحج وقال
رجل اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال النبي صلى الله عليه و سلم وهل تعلم ما تمام
النعمة قال لا قال تمام النعمة دخول الجنة حديث قال رجل اللهم إني أسألك تمام
النعمة الحديث // أخرجه الترمذي من حديث معاذ بسند حسن // أما الوسائل فتنقسم إلى
الأقرب الأخص كفضائل النفس وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني وإلى ما
يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل
والعشيرة وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة للنفس
كالتوفيق والهداية فهي إذن أربعة أنواع النوع الأول وهو الأخص الفضائل النفسية
ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان وحسن الخلق وينقسم الإيمان إلى علم
المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله وإلى علوم المعاملة وحسن
الخلق ينقسم إلى قسمين ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في
الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلا ولا يقدم كيف شاء بل يكون
إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله
عليه و سلم إذ قال الله تعالى أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا
تخسروا الميزان فمن خصى نفسه ليزيل شهوة النكاح أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من
الآفات أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان ومن انهمك
في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن
الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان فإذن الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى
الله تعالى أربعة علم مكاشفة وعلم معاملة وعفة وعدالة ولا يتم هذا في غالب الأمر
إلا بالنوع الثاني وهو الفضائل البدنية وهي أربعة الصحة والقوة والجمال وطول العمر
ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن
وهي أربعة المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب
الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب
الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة هداية الله ورشده وتسديده وتأييده فمجموع هذه
النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة وهذه
الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة أم الحاجة الضرورية
فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة
الآخرة ألبته إلا بهما فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود
من الدنيا فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذب الأخلاق إلى صحة
البدن ضروري وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية
إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل إلى بعض
النعم الداخلة
فإن قلت فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه
والعشيرة فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود
أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال وليس
له
كفاية كساع إلى الهيجا بغير سلاح وكبازي يروم الصيد بلا جناح ولذلك قال صلى الله
عليه و سلم نعم المال الصالح للرجل الصالح وقال صلى الله عليه و سلم نعم العون على
تقوى الله المال 2 وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات وفي
تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر
والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال ثم ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات
وإفاضة الخيرات
وقال بعض الحكماء وقد قيل له ما النعيم فقال الغنى فإني رأيت الفقير لا عيش له قيل
زدنا قال الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له قيل زدنا قال العافية فإني رأيت المريض
لا عيش له قيل زدنا قال الشباب فإني رأيت الهرم لا عيش له وكأن ما ذكره إشارة إلى
نعيم الدنيا ولكن من حيث أنه معين على الآخرة فهو نعمة ولذلك قال صلى الله عليه و
سلم من أصبح معافي بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا
بحذافيرها // حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني
من حديث عمرو بن العاص بسند جيد
حديث نعم العون على تقوى الله المال رواه ابو منصور الديلمي في مسند الفردوس من
رواية محمد بن المنكدر عن جابر ورواه أبو القاسم البغوي من رواية المنكدر مرسلا
ومن طريقة رواه القضاعي في مسند الشهاب هكذا مرسلا
حديث من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من
حديث عبيد الله ابن محصن الأنصاري وقد تقدم
وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما إذ قال صلى الله عليه و سلم
نعم العون على الدين المرأة الصالحة
حديث نعم العون على الدين المرأة الصالحة لم أجد له اسنادا ولمسلم من حديث عبد
الله بن عمرو الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة // وقال صلى الله عليه
و سلم في الولد إذا مات العبد انقطع عمله إلا في ثلاث ولد صالح يدعو له الحديث
حديث إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
وتقدم في النكاح وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كناب النكاح وأما الأقارب
فهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من
الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لمو انفرد به لطال شغله وكل ما يفرغ قلبك من
ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين فهو إذن نعمة وأما العز والجاه فبه يدفع
الإنسان عن نفسه الذل والضيم ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم
يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه وقلبه رأس ماله وإنما تندفع هذه الشواغل
بالعز والجاه ولذلك قيل الدين والسلطان توأمان قال تعالى ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولا معنى للجاه إلا ملك القلوب كما لا معنى للغنى إلا ملك
الدراهم ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه فكما يحتاج إلى سقف
يدفع عنه المطر وجبة تدفع عنه البرد و كلب يدفع الذئب عن ماشيته فيحتاج أيضا إلى
من يدفع الشر به عن نفسه وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة
يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه وكذلك علماء الدين لا على القصد التناول من
خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم ولا تظن أن نعمة الله تعالى
على صلى الله عليه و سلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في
القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذى ويضرب حتى
افتقر إلى الهرب والهجرة // حديث ما ناله صلى الله عليه و سلم من الأذى ونحوه حتى
افتقر إلى الهرب والهجرة رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى
الله عليه و سلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما
لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل الحديث وللترمذي وصححه وابن ماجة
من حديث أنس لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله ولقد أذيت في الله
وما يؤذى أحد ولقد إتى علي ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو
كبد إلا شئ إبط بلال قال الترمذي معنى هذا حين خرج النبي صلى الله عليه و سلم
هاربا من مكة ومعه بلال وللبخاري عن عروة قال سألت عبدالله بن عمرو عن أشد ما صنع
المشركون برسول الله صلى الله عليه و سلم قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي
صلى الله عليه و سلم وهو يصلى فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر
فدفعه عنه الحديث وللبزار وأبي يعلى من حديث أنس قال لقد ضربوا رسول الله صلى الله
عليه و سلم حتى غشي عليه فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي
الله وإسناده صحيح على شرط مسلم
فإن
قلت كرم العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا فأقول نعم ولذلك قال صلى الله عليه
و سلم الأئمة من قريش // حديث الأئمة من قريش رواهالنسائي والحاكم من حديث أنس
بإسناد صحيح // ولذلك كان صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم
عليه السلام حديث كان صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس أرومة الأرومة الأصل هذا
معلوم فروى مسلم من حديث واثلة بن الأسقى مرفوع إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم وفي
رواية الترمذي إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وله من حديث العباس وحسنه
وابن عباس والمطلب ابن ربيعة وصححه والمطلب بن أبي وداعة وحسنه إن الله خلق الخلق
فجعلني من خير وفي حديث ابن عباس ما بالوا أقوام يبتذلون أصل فوالله لأنا أفضلهم
أصلا وخيرهم موضعا وقال صلى الله عليه و سلم تخيروا لنطفكم الأكفاء // حديث تخيروا
ليطفكم أرجه ابن ماجة من حديث عائشة وتقدم في النكاح وقال صلى الله عليه و سلم
إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في المنبت السوء
إياكم وخضراء الدمن تقدم فيه أيضا فهذا أيضا من النعم ولست أعني به الانتساب إلى
الظلمة وأرباب الدنيا بل الانتساب إلى شجرة صلى الله عليه و سلم وإلى أئمة العلماء
وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين في العلم والعمل
فأن قلت فما معنى الفضائل البدنية فأقول لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة
وإلى طول العمر إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما ولذلك قال صلى الله عليه و سلم أفضل
السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى حديث أفضل السعادة طول العمر في عبادة الله
غريب بهذا اللفظ وللترمذي من حديث أبي بكرة أن رجل قال يا رسول الله أي الناس خير
قال من طال عمره وحسن عمله وقال حسن صحيح وإنما يستحقر من جملته أمر الجمال فيقال
يكفي أن يكون البدن سليما من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات ولعمري الجمال قليل
الغناء ولكنه من الخيرات أيضا أما في الدنيا فلا يخفي نفعه فيها وأما في الآخرة
فمن وجهين أحدهما أن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة
أقرب وجاهه في الصدور أوسع فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه إذ هو نوع
قدرة إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح وكل معين على
قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها والثاني أن الجمال في الأكثر يدل على
فضيلة النفس لأن نور النفس إذ أتم إشراقه تأدى إلى البدن فالمنظر والمخبر كثيرا ما
يتلازمان ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيآت البدن فقالوا
الوجه والعين مرآة الباطن ولذلك يظهر فيه أثر الغضب والسرور والغم ولذلك قيل طلاقة
الوجه عنوان ما في النفس وقيل ما في الأرض قبيح إلا ووجهه الأحسن ما فيه واستعرض
المأمون جيشا فعرض عليه رجل قبيح فاستنطقه فإذا هو ألكن فأسقط اسمه من الديوان
وقال الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة أو على الباطن ففصاحة وهذا ليس له ظاهر
ولا باطن وقد قال صلى الله عليه و سلم اطلبوا الخير عند صباح الوجوه // حديث
اطلبوا الخير عند حسان الوجوه أخرجه أبو يعلي من رواية اسماعيل بن عياش عن خيرة
بنت محمد بن ثابت بن سباع عن أمها عائشة وخيرة وأمها لا أعرف حالهما ورواه ابن
حبان من وجه آخر في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر وله طرق كلها ضعيفة
// وقال عمر
رضي
الله تعالى عنه إذا بعثتم رسولا فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم وقال الفقهاء إذا
تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجها أولاهم بالإمامة وقال تعالى ممتنا بذلك وزاده
بسطة في العلم والجسم ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة وإنما نعني
به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الاعضاء وتناصف خلقة
الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه
فإن قلت فقد أدخلت المال والجاه والنسب والأهل والولد في حيز النعم وقد ذم الله
تعالى المال والجاه وكذا رسول صلى الله عليه و سلم حديث ذم المال والجاه أخرجه
الترمذي من حديث كعب بن مالك ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال
والشرف لدينه وقد تقدم في ذم المال والبخل // وكذا العلماء قال تعالى إن من
أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وقال عز و جل إنما أموالكم وأولادكم فتنة وقال
علي كرم الله وجهه في ذم النسب الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرىء ما يحسنه
وقيل المرء بنفسه لا بأبيه فما معنى كونها نعمة مع كونها مذمومة شرعا فاعلم أن من
يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المؤولة والعمومات المخصصة كان الضلال عليه اغلب
ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى ادراك العلوم على ما هي عليه ثم ينزل النقل على
وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة وبالتخصيص أخرى فهذه نعم معينة على أمر الآخرة لا
سبيل إلى جحدها إلا أن فيها فتنا ومخاوف فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق
نافع وسم نافع فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها وطريق استخراج
ترياقها النافع كانت نعمة وإن أصابها السوادى الغر فهي عليه بلاء وهلاك وهو مثل
البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلئ فمن ظفر بالبحر فإن كان عالما بالسباحة
وطريق الغوص وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمه وإن خاضه جاهلا بذلك
فقد هلك فلذلك مدح الله تعالى المال وسماه خيرا ومدحه رسول صلى الله عليه و سلم
وقال نعم العون على تقوى الله تعالى المال وكذلك مدح الجاه والعز إذ من الله تعالى
على رسوله صلى الله عليه و سلم بأن أظهره على الدين كله وحببه في قلوب الخلق وهو
المعنى بالجاه ولكن المنقول في مدحهما قليل والمنقول في ذم المال والجاه كثير وحيث
ذم الرياء فهو ذم الجاه إذ الرياء مقصوده اجتلاب القلوب ومعنى الجاه ملك القلوب
وإنما كثر هذا وقل ذاك لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال وطريق الغوص
في بحر الجاه فوجب تحذيرهم فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه ويهلكهم
تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره ولو كانا في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى
كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك كما كان لرسولنا صلى الله عليه و سلم
ولا أن ينضاف إليها الغنى كما كان لسليمان عليه السلام فالناس كلهم صبيان والأموال
حيات والأنبياء والعارفون معزمون فقد يضر الصبي مالا يضر المعزم نعم المعزم لو كان
له ولد يريد بقاءه وصلاحه وقد وجد حية وعلم أنه لو أخذها لأجل ترياقها لاقتدى به
ولده وأخذ الحية إذا رآها ليلعب بها فيهلك فله غرض في الترياق وله غرض في حفظ
الولد فواجب عليه أن يزن غرضه في الترياق بغرضه في حفظ الولد فإذا كان يقدر على
الصبر عن الترياق ولا يستضر به ضررا كثيرا ولو أخذها لأخذها الصبي ويعظم ضرره بهلاكهم
فواجب عليه أن يهرب عن الحية إذا رآها ويشير على الصبي بالهرب ويقبح صورتها في
عينه ويعرفه أن فيها سما قاتلا لا ينجو منه أحد ولا يحدثه أصلا بما فيها من نفع
الترياق فإن ذلك ربما يغره فيقدم عليه من غير تمام المعرفة وكذلك الغواص إذا علم
أنه لو غاص في البحر بمرأى من ولده لاتبعه وهلك
فواجب
عليه أن يحذر الصبى ساحل البحر والنهر فإن كان لا ينزجر الصبى بمجرد الزجر مهما
رأى والده يحوم حول الساحل فواجب عليه أن يبعد من الساحل مع الصبى ولا يقرب منه
بين يدية فكذلك الأمة فى حجر الأنبياء عليهم السلام كالصبيان الأغبياء ولذلك قال
صلى الله عليه و سلم إنما أنا لكم مثل الوالد لولده وقال صلى الله عليه و سلم إنما
تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم وحظهم الأوفر فى حفظ أولادهم عن
المهالك فإنهم لم يبعثوا إلا لذلك وليس لهم فى المال حظ إلا بقدر القوت فلا جرم
اقتصروا على قدر القوت وما فضل فلم يمسكون بل أنفقوه فإن الإنفاق فيه الترياق وفى
الإمساك السم ولو فتح للناس باب كسب المال ورغبوا فيه لمالوا إلى سم الإمساك
ورغبوا عن ترياق الإنفاق فلذلك قبحت الأموال والمعنى به تقبيح إمساكها والحرص
عليها للاستكثار منها والتوسع فى نعيمها بما يوجب الركون إلى الدنيا ولذتها فأما
أخذها بقدر الكفاية وصرف الفاضل إلى الخيرات فليس بمذموم وحق كل مسافر أن لا يحمل
إلا بقدر زاده فى السفر إذا صمم العزم على أن يختص بما يحمله فأما إذا سمحت نفسه
بإطعام الطعام وتوسيع الزاد على الرفقاء فلا بأس بالاستكثار وقوله عليه الصلاة و
السلام ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب معناه لأنفسكم خاصة ولا فقد كان
فيمن يروى هذا الحديث ويعمل به من يأخذ مائة ألف درهم فى موضع واحد ويفرقها فى
موضعه وإلا يمسك منها حبة ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الأغنياء
يدخلون الجنة بشدة إستأذنه عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى أن يخرج عن جميع ما
يملكه فأذن له فنزل جبريل عليه السلام وقال مره بأن يطعم المسكين ويكسو العارى
ويقرى الضيف الحديث فإذن النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ومرجوها
بمخوفها ونفعها بضرها فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقيا داءها
ومستخرجا دواءها ومن لا يثق بها فالبعد البعد والفرار الفرار عن مظان الأخطار فلا
تعدل بالسلامة شيئا فى حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه
لطريقة
فإن قلت فما معنى النعم التوفيقية الراجحة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد
فاعلم أن التوفيق لا يستغنى عنه أحد وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة
العبد وبين قضاء الله وقدره وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة وما هو شقاوة ولكن
جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره
كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق وكذا الارتداد ولا
خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها لأن داعية الإنسان قد تكون
مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته
ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحا فمن أين ينفعه مجرد الإرادة فلا فائدة فى الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية ولذلك قال تعالى ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى وقال تعالى ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء وقال صلى الله عليه و سلم ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى أى بهدايته فقيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا // حديث ما من أحد يدخل الجنة الا برحمة الله متفق عليه من حديث أبى هريرة لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا ولا انت يا رسول الله قال ولا أنا الا أن يتغمدنى الله بفضل منه ورحمة وفى رواية لمسلم ما من أحد يدخله عمله الجنة الحديث واتفقا عليه من حديث عائشة وانفرد به مسلم من حديث جابر وقد تقدم // وللهداية ثلاث منازل الأولى معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى وهديناه النجدين وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل ولذلك قال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأسباب الهدى هى الكتاب والرسل وبصائر العقول وهى مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا والأسباب التى تعمى القلوب وإن كانت لا تعمى الأبصار قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور ومن جملة المعميات الإلف والعادة وحب استصحابهما وعنه العبارة بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وقوله تعالى أبشرا منا واحدا نتبعه فهذه المعميات هى التى منعت الاهتداء والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهى التى يمد الله تعالى بها العبد حالا بعد حال وهى ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وهو المراد بقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى والهداية الثالثة وراء الثانية وهو النور الذى يشرق فى عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدى بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذى يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات وهو الذى شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى فقال تعالى قل إن هدى الله هو الهدى وهو المسمى حياة فى قوله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس والمعنى بقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وأما الرشد فنعنى به العناية الإلهية التى تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقوبه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها فالصبى إذا بلغ خبيرا بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيدا لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطى الهداية وميز بها عن الجاهل الذى لا يدرى أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهى نعمة عظيمة وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد فى صوب الصواب فى أسرع وقت فإن الهداية بمجردها لا تكفى بل لا بد من هداية محركة للداعية وهى الرشد والرشد لا يكفى بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه فالهداية محض التعريف والرشد هو تنبيه الداعية لتستقيظ وتتحرك والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء فى صوب السداد وأما التأييد فكأنه جامع للكل وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج وهو المراد بقوله عز و جل إذ ايدتك بروح القدس وتقرب منه العصمة وهى
عبارة
عن وجود إلهى يسبح فى الباطن يقوى به الإنسان على تحرى الخير وتجنب الشر يصير
كمانع من باطنه غير محسوس وإياه عنى بقوله تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى
برهان ربه فهذه هى مجامع النعم ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافى
الثاقب والسمع الواعى والقلب البصير المراعى المتواضع والمعلم الناصح والمال
الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذى
يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء ويستدعى كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر
أسبابا وتستدعى تلك الأسباب أسبابا إلى أن تنتهى بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ
المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل
هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجا ليعلم به معنى قوله تعالى وإن تعدوا
نعمة الله لا تحصوها وبالله التوفيق
بيان وجه الأنموذج فى كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر
والإحصاء
اعلم أنا جمعنا النعم فى ستة عشر ضربا وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة فى
الرتبة المتأخرة فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصى الأسباب التى بها تمت هذه
النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب
التى بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل وكل فعل من هذا النوع فهو حركة وكل
حركة لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها ولا بد لها من قدرة على الحركة ولا بد من
إرادة للحركة ولا بد من علم بالمراد وإدراك له ولا بد للأكل من مأكول ولا بد
للمأكول من أصل منه يحصل ولا بد له من صانع يصلحه فلنذكر أسباب الإدراك ثم اسباب
الإرادات ثم أسباب القدرة ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل
الاستقصاء الطرف الأول فى نعم الله تعالى فى خلق أسباب الإدراك
اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجودا من الحجر والمدر والحديد والنحاس
وسائر الجواهر التى لا تنمى ولا تغذى فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى
نفسه من جهة أصله وعروقه التى فى الأرض وهى له آلات فبها يجتذب الغذاء وهى العروق
الدقيقة التى تراها فى كل ورقة ثم تغلظ أصولها ثم تتشعب ولا تزال تستدق وتتشعب إلى
عروق شعرية تنبسط فى أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا ان النبات مع هذا الكال
ناقص فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس اصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من
وضع آخر فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك
فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس وآلة الحركة فى طلب الغذاء فانظر
إلى ترتيب حكمة الله تعالى فى خلق الحواس الخمس التى هى آلة الإدراك فأولها حاسة
اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه وهذا
أول حس يخلق للحيوان ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إذا لم يحس أصلا
فليس بحيوان وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه فإن الإحساس مما يبعد
منه إحساس أتم لا محالة وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التى فى الطين فإنها
إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس
بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت
ناقصا كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك بل ما يمس فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ولا تدرى أنها جاءت من أى ناحية فتحتاج إلى أن تطوف كثيرا من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذى شممت ريحه وربما لم تعثر فتكون فى غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب وتبصر عدوا لا حجاب بينك وبينه وأما ما بينك وبينه حجاب فلا تبصره وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئا حاضرا وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجرة يصب فى أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذب وربما يكون ذلك سبب جفافها ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق فى مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حسا مشتركا تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك فإنك إذا أكلت شيئا أصفر مثلا فوجدته مرا مخالفا لك فتركته فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانيا لو لا الحس المشترك إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة فكيف تمتنع والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعا حتى إذا اردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانيا وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات إذ للشاة هذه الحواس كلها فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصا فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدرى كيف تدفع الحيلة عن نفسها وكيف تتخلص إذا قيدت وقد تلقى نفسها فى بئر ولا تدرى أن ذلك يهلكها ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه فى الحال ويضرها فى ثانى الحال فتمرض وتموت إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر فأما إدراك العواقب فلا فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهى أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها فى الحال والمآل وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع بعقلك فى الأكل الذى هو سبب صحتك وهو احسن فوائد العقل وأقل الحكم فيه بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ومعرفة الحكمة فى عالمه وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس فى حقك فتكون الحواس الخمس كالجواسيس واصحاب الأخبار الموكلين بنواحى المملكة وقد وكلت كل واحدة منها بأمر تختص به فواحدة منها بأخبار الألوان والأخرى بأخبار الأصوات والأخرى بأخبار الروائح والأخرى بأخبار الطعوم والأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة وغيرها وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك والحس المشترك قاعد فى مقدمة الدماغ مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحى العالم فيأخذها وهى مختومة ويسلمها إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها فأما معرفة حقائق ما فيها فلا ولكن إذا صادف القلب العاقل الذى هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها فى هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود وهى الأعضاء مرة فى الطلب ومرة فى الهرب ومرة فى إتمام التدبيرات التى تعن له
فهذه
سياقة نعمة الله عليك فى الإدراكات ولا تظنن أنا استوفيناها فإن الحواس الظاهرة هى
بعض الإدراكات والبصر واحد من جملة الحواس والعين آلة واحدة له وقد ركبت العين من
عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية وبعض الأغشية كأنها نسج العنكوب
وبعضها كالمشيمة وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض وبعضها كأنه الجمد ولكل واحدة
من هذه الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وعرض وتدوير وتركيب ولو اختلت طبقة
واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر وعجز عنه الأطباء
والكحالون كلهم فهذا فى حس واحد فقس به حاسة السمع وسائر الحواس بل لا يمكن أن
تستوفى حكم الله تعالى وأنواع نعمة فى جسم البصر وطبقاته فى مجلدات كثيرة مع أن
جملته لا تزيد على جوزة صغيرة فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه فهذه
مرامز إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات الطرف الثانى فى أصناف النعم فى خلق
الإرادات
اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ولم يخلق لك ميل فى الطبع
وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البشر معطلا فكم من مريض يرى الطعام
وهو أنفع الأشياء له وقد سقطت شهوته فلا يتناوله فيبقى البصر والإدراك معطلا فى
حقه فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى
كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك
ووكلها بك كالمتقاصى الذى يضطرك إلى التناول حتى تتناول وتغتذى فتبقى بالغذاء وهذا
مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار
الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا
كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب فى أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمى يقدر
غذاءه بقدر الحاجة فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى
تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك ولو قصصنا عليك
عجائب صنع الله تعالى فى خلق الرحم وخلق دم الحيض وتأليف الجنين من المنى ودم
الحيض وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذى هو مستقر النطفة
وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى
قوالب تقع النطفة فى بعضها فتتشكل بشكل الذكور وتقع فى بعضها فتتشكل بشكل الإناث
وكيفية إدارتها فى أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظما ولحما ودما وكيفية قسمة أجزائها
إلى رأس ويد ورجل وبطن وظهر وسائر الأعضاء لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك فى
مبدأ خلقك كل العجب فضلا عما تراه الآن ولكنا لسنا نريد أن نتعرض الا لنعم الله
تعالى فى الأكل وحده كى لا يطول الكلام فإذن شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات وذلك
لا يكفيك فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب فلو لم يخلق فيك الغضب الذى به تدفع كل
ما يضادك ولا يوافقك لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء فإن كل
واحد يشتهى ما فى يديك فتحتاج إلى داعية فى دفعه ومقاتلته وهى داعية الغضب الذى به
تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا
ما يضر وينفع فى الحال وأما فى المآل فلا تكفى فيه هذه الإرادة فخلق الله تعالى لك
إرادة أخرى مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت
إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل إذ كان مجرد المعرفة بأن
هذه الشهوة مثلا تضرك لا يغنيك فى الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب
المعرفة وهذه
الإرادة
أفردت بها عن البهائم إكراما لبنى آدم كما افردت بمعرفة العواقب وقد سمينا هذه
الإرادة باعثا دينيا وفصلناه فى كتاب الصبر تفصيلا أوفى من هذا الطرف الثالث فى
نعم الله تعالى فى خلق القدرة وآلات الحركة
اعلم أن الحس لا يفيد إلا الإدراك والإرادة لا معنى لها إلا الميل إلى الطلب
والهرب وهذا لا كفاية فيه ما لم تكن فيك آلة الطلب والهرب فكم من مريض مشتاق إلى
شىء بعيد عنه مدرك له ولكنه لا يمكنه أن يمشى إليه لفقد رجله أو لا يمكنه أن
يتناوله لفقد يده أو لفلج وخدر فيهما فلا بد من آلات للحركة وقدرة فى تلك الآلات
على الحركة لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلبا وبمقتضى الكراهية هربا فلذلك خلق الله
تعالى لك الأعضاء التى تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها فمنها ما هو للطلب والهرب
كالرجل للإنسان والجناح للطير والقوائم للدواب ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان
والقرون للحيوان وفى هذا تختلف الحيوانات اختلافا كثيرا فمنها ما يكثر أعداؤه
ويبعد غذاؤه فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة ومنها ما خلق له
أربع قوائم ومنها ما له رجلان ومنها ما يدب وذكر ذلك يطول فلنذكر الأعضاء التى بها
يتم الأكل فقط ليقاس عليها غيرها فنقول رؤيتك الطعام من بعد وحركتك إليه لا تكفى
ما لم تتمكن من أن تأخذه فافتقرت إلى آله باطشة فأنعم الله تعالى عليك بخلق اليدين
وهم طويلتان ممتدتان إلى الأشياء ومشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات
فتمتد وتنثنى إليك فلا تكون كخشبة منصوبة ثم جعل رأس اليد عريضا بخلق الكف ثم قسم
رأس الكف بخمسة أقسام هي الأصابع وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور
على الأربعة الباقية ولو كانت مجتمعة أو متراكمة لم يحصل به تمام غرضك فوضعها وضعا
إن بسطتها كانت لك مجرفة وإن ضمتها كانت لك مغرفة وإن جمعتها كانت لك آلة للضرب
وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة في القبض ثم خلق لها أظفارا وأسند إليها رءؤس
الأصابع حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع
فتأخذها برءوس أظفارك ثم هب أنك أخذت الطعام باليدين فمن أين يكفيك هذا ما لم يصل
إلى المعدة وهي في الباطن فلا بد وأن يكون من الظاهر دهليز إليها حتى يدخل الطعام
منه فجعل الفم منفذا إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة سوى كونه منفذا للطعام
إلى المعدة ثم إن وضعت الطعام في الفم وهو قطعة واحدة فلا يتيسر ابتلاعه فتحتاج
إلى طاحونة تطحن بها الطعام فخلق لك اللحيين من عظمتين وركب فيهما الأسنان وطبق
الأضراس العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحنا ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر
وتارة إلى القطع ثم يحتاج إلى طحن بعد ذلك فقسم الأسنان إلى عريضة طواحين كالأضراس
وإلى حادة قواطع كالرباعيات وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب ثم جعل مفصل اللحيين
متخلخلا بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الأعلى دوران الرخى
ولولا ذلك لما تيسر إلا ضرب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين مثلا وبذلك لا يتم
الطحن فجعل اللحى الأسفل متحركا حركة دورية واللحى الأعلى ثابتا لا يتحرك فانظر
إلى عجيب صنع الله تعالى فإن كل رحى صنعه الخلق فيثبت منه الحجر الأسفل ويدور
الأعلى إلا هذا الرحى الذي صنعه الله تعالى إذ يدور منه الأسفل على الأعلى فسبحانه
ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأتم برهانه وأوسع امتنانه ثم هب أنك وضعت الطعام في
فضاء الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان أو كيف تستجره الأسنان إلى نفسها
وكيف يتصرف باليد في داخل الفم فانظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في
جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد
الطعام إلى الرحى
هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق والحكم التى لسنا نطنب بذكرها ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينا يفيض اللعاب منها وينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة وينصب اللعاب حتى تتحلب أشداقك والطعام بعد بعيد عنك ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو فى الفم ولا تقدر على أن تدفعه باليد ولا يد فى المعدة حتى تمتد فتجذب الطعام فانظر كيف هيأ الله تعالى المرىء والحنجرة وجعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثم تنضغط حتى يتقلب الطعام بضغطه فيهوى إلى المعدة فى دهلين المرىء فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحما وعظما ودما على هذه الهيئة بل لا بد وأن يطبخ طبخا تاما حتى تتشابه أجزاؤه فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوى عليه وتغلق عليه الأبواب فلا يزال لابثا فيها حتى يتم الهضم والنضج بالحرارة التى تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة إذ من جانبها الأيمن الكبد ومن الأيسر الطحال ومن قدام الترائب ومن خلف لحم الصلب فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير مائعا متشابها يصلح للنفوذ فى تجاويف العروق وعند ذلك يشبه ماء الشعير فى تشابه أجزائه ووقته وهو بعد لا يصلح للتغذية فخلق الله تعالى بينها وبين الكبد مجارى من العروق وجعل لها فوهات كثيرة حتى يصب الطعام فيها فينتهى إلى الكبد والكبد معجون من طينة الدم حتى كأنه دم وفيه عروق كثيرة شعرية منتشرة فى أجزاء الكبد فينصب الطعام الرقيق النافذ فيها وينتشر فى أجزائها حتى تستولى عليه قوة الكبد فتصبغه بلون الدم فيستقر فيها ريثما يحصل له نضج آخر ويحصل له هيئة الدم الصافى الصالح لغذاء الأعضاء إلا أن حرارة الكبد هى التى تنضج هذا الدم فيتولد من هذا الدم فضلتان كما يتولد فى جميع ما يطبخ إحداهما شبيهة بالدردى والعكر وهو الخلط السوداوى والأخرى شبيهة بالرغوة وهى الصفراء ولو لم تفصل عنها الفضلتان فسد مزاج الأعضاء فخلق الله تعالى المرارة والطحال وجعل لكل واحد منهما عنقا ممدودا إلى الكبد داخلا فى تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصفراوية ويجذب الطحال العكر السوداوى فيبقى الدم صافيا ليس فيه إلا زيادة رقة ورطوبة لما فيه من المائية ولولاها لما انتشر فى تلك العروق الشعرية ولا خرج منها متصاعدا إلا الأعضاء فخلق الله سبحانه الكليتين وأخرج من كل واحدة منهما عنقا طويلا إلى الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلا فى تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلا فى تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدقيقة التى فى الكبد إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ ولم يخرج من العروق فإذا انفصلت منه المائية فقد صار الدم صافيا من الفضلات الثلاث نقيا من كل ما يفسد الغذاء ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقا ثم قسمها بعد الطلوع أقساما وشعب كل قسم بشعب وانتشر ذلك فى البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهرا وباطنا فيجرى الدم الصافى فيها ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية كعروق الاوراق والاشجار بحيث لا تدرك بالابصار فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الاعضاء ولو حلت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصفراوية فسد الدم وحصل منه الامراض الصفراوية كاليرقان والبثور والحمرة وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوى حدثت الامراض السوداوية كالبهق والجذام والماليخوليا وغيرها وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم كيف رتب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة أما المرارة فإنها تجذب بأحد عنقيها وتقذف
بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له فى ثفل الطعام رطوبة مزلقة ويحدث فى الأمعاء لذع يحركها للدفع فتنضغط حتى يندفع الثفل وينزلق وتكون صفرته لذلك وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض ثم يرسل منها كل يوم شيئا إلى فم المعدة فيحرك الشهوة بحموضته وينبهها ويثيرها ويخرج الباقى مع الثفل وأما الكلية فإنها تغتذى بما فى تلك المائية من دم وترسل الباقى إلى المثانة ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى فى الأسباب التى أعدت للأكل ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب والدماغ واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الغذاء ثم كيفية تركب الأعضاء وعدد عظامها وعضلاتها وعروقها وأوتارها ورباطاتها وغضاريفها ورطوباتها لطال الكلام وكل ذلك محتاج إليه للأكل ولأمور أخر سواه بل فى الآدمى آلاف من العضلات والعروق والأعصاب مختلفة بالصغر والكبر والدقة والغلظ وكثرة الأنقسام وقلته ولا شيء منها إلا وفيه حكمه أو اثنتان أو ثلاث أو اربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أو لا لتقوى بعدها على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل والحمار ايضا يعلم أنه يجوع فيأكل ويتعب فينام ويشتهى فيجامع ويستنهض فينهض ويرمح فإذا لم تعرف انت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك وهذا الذى رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه من جملة ما عرفناه حذرا من التطويل وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى أقل من قطرة من بحر إلا أن من علم شيئا من هذا أدرك شمة من معانى قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء وقوام منافعها وإدراكاتها وقواها ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ومستقرة القلب ويسرى فى جميع البدن بواسطة العروق الضوارب فلا ينتهى إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله فى تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها كالسراج الذى يدار فى أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه ولكنه جعل السراج سببا له بحكمته وهذا البخار اللطيف هو الذى تسميه الأطباء الروح ومحله القلب ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذى فى باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة فى سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج فى جملة البيت وكما ان السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضا ينطفىء مهما انقطع غذاؤه وكما ان الفتيلة قد تحترق فتصير رمادا بحيث لا تقبل الزيت فينطفىء السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذى تشبث به هذا البخار فى القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفىء مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذى يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به وكما أن السراج تارة ينطفىء بسبب من داخل كما ذكرناه وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفىء بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج وهو القتل وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء انسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة فى علم الله مرتبة ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذى أجل له فى أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم
البدن
كله وفارقته أنواره التى كان يستفيدها من الروح وهى أنوار الإحساسات والقدر
والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضا رمز وجيز إلى عالم آخر من
عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ليعلم أنه لو كان البحر مدادا لكلمات ربى
لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى عز و جل فتعسا لمن كفر بالله تعسا وسحقا لمن كفر
نعمته سحقا
فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الروح فلم
يزد عن أن قال قل الروح من أمر ربى فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة
عن الاشتراك الواقع فى لفظ الروح فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن
إنما وصفنا من جملتها جسما لطيفا تسميه الأطباء روحا وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية
سريانه فى الأعضاء وكيفية حصول الإحساس والقوى فى الأعضاء به حتى إذا خدر بعض
الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة فى مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل
منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه
ينفذ فى شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقى إليه
معرفة الأطباء فأمره سهل نازل وأما الروح التى هى الأصل وهى التى إذا فسدت فسد لها
سائر البدن فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة فى وصفه إلا بأن يقال هو
أمر ربانى كما قال تعالى قل الروح من أمر ربى والأمور الربانية لا تحتمل العقول
وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق وأما الأوهام والخبالات فقاصرة عنها بالضرورة
قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل فى ذكر مبادىء وصفها معاقد العقول المقيدة
بالجوهر والعرض المحبوسة فى مضيقها فلا يدرك بالعقل شىء من وصفه بل بنور آخر أعلى
وأشرف من العقل يشرق ذلك النور فى عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة
العقل إلى الوهم والخيال وقد خلق الله تعالى الخلق أطوارا فكما يدرك الصبى
المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه بعد فكذلك يدرك البالغ
المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد وإنه لمقام شريف ومشرب عذب
ورتبة عالية فيها يلحظ جنات الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون
شريعة لكل وارد بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر وفى مقدمة
الصدر مجال وميدان رحب وعلى أول الميدان عتبة هى مستقر ذلك الأمر الربانى فمن لم
يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف
بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ولذلك قيل من لم يعرف نفسه لم يعرف
ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحا
عند الطبيب بالإضافة إلى هذا الأمر الربانى كالكرة التى يحركها صولجان الملك
بالإضافة إلى الملك فمن عرف الروح الطبى فظن أنه أدرك الأمر الربانى كان كمن رأى
الكرة التى يحركها صولجان الملك فظن أنه رأى الملك ولا يشك فى أن خطأه فاحش وهذا
الخطأ أفحش منه جدا ولما كانت العقول التى بها يحصل التكليف وبها تدرك مصالح
الدنيا عقولا قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسول صلى الله
عليه و سلم أن يتحدث عنه بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم ولم يذكر الله
تعالى فى كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئا ولكن ذكر نسبته وفعله ولم يذكر ذاته أما
نسبته ففى قوله تعالى من أمر ربى وأما فعله فقد ذكر فى قوله تعالى ياأيها النفس
المطمئنة
ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى ولنرجع الآن إلى الغرض فإن
المقصود ذكر نعم الله تعالى فى الأكل فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى فى آلات الأكل
الطرف الرابع فى نعم الله تعالى فى الأصول التى يحصل منها الأطعمة وتصير صالحة لأن
يصلحها الآدمى بعد ذلك بصنعته
اعلم أن الأطعمة كثيرة ولله تعالى فى خلقها عجائب كثيرة لا تحصى وأسباب متوالية لا
تتناهى وذكر ذلك فى كل طعام مما يطول فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية
فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية
فنقول إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعا فما أحوجك إلى أن تنمو
الحبة فى نفسها وتزيد وتتضاعف حتى تفى بتمام حاجتك فخلق الله تعالى فى حبة الحنطة
من القوى ما يغتذى به كما خلق فيك فإن النبات إنما يفارقك فى الحس والحركة ولا
يخالفك فى الاغتذاء لأنه يغتذى بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذى
أنت وتجتذب ولسنا نطنب فى ذكر الات النبات فى اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير
إلى غذائه فنقول كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص فكذلك
الحبة لا تغتذى بكل شىء بل تحتاج إلى شىء مخصوص بدليل أنك لو تركتها فى البيت لم
تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها ولو تركنها فى الماء
لم تزد ولو تركنها فى أرض لا ماء فيها لم تزد بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج
ماؤها بالأرض فيصير طينا وإليه الإشارة بقوله تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا
صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا
الآية ثم لا يكفى الماء والتراب إذ لو تركت فى أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد
الهواء فيحتاج إلى تركها فى أرض رجوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها ثم الهواء لا
يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى
ينفذ فيها وإليه الإشارة بقولة تعالى وأرسلنا الرياح لواقح وإنما إلقاحها فى إيقاع
الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان فى برد مفرط وشتاء
شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة فانظر
إلى ماذا يحتاج كل واحد إذ يحتاج الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون
والأنهار والسواقى فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم
الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم
وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض وهى سحب ثقال حوامل بالماء
ثم انظر كيف يرسله مدرارا على الأراضى فى وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة وانظر
كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجا فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد
وهلك الزرع والمواشى ونعم الله فى الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن
إحصاؤها وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان فانظر كيف
سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض فى وقت دون وقت ليحصل البرد
عند الحاجة إلى البرد والحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها
أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان فى الفواكه انعقاد وصلابة
فتفتقر إلى رطوبة تنضجها فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما جعل من
خاصية الشمس التسخين فهو ينضج الفواكه ويصبغها بتقدير الفاطر الحكيم ولذلك لو كانت
الأشجار فى ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر
الكواكب
عليها لكانت فاسدة ناقصة حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة وتعرف
ترطيب القمر بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التى يعبر عنها
بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضا ولا نطول فيما لا مطمع فى استقصائه بل
نقول كل كوكب فى السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين والقمر للترطيب
فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفى قوة البشر بإحصائها ولو لم يكن كذلك لكان
خلقها عبثا وباطلا ولم يصح قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلا وقوله عز و جل وما
خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وكما أنه ليس فى أعضاء بدنك عضو إلا
لفائدة فليس فى أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة والعالم كله كشخص واحد وآحاد
أجسامه كالأعضاء له وهى متعاونة تعاون أعضاء بدنك فى جملة بدنك وشرح ذلك يطول ولا
ينبغى أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه فى
أمور جعلت أسبابا لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ورد فيه من النهى عن تصديق
المنجمين وعن علم النجوم // حديث النهى عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم أخرجه
أبو داود وابن ماجه بسند صحيح من حديث ابن عباس من اقتبس علما من النجوم اقتبس
شعبة من السحر زاد ما زاد وللطبرانى من حديث ابن مسعود وثوبان إذا ذكرت النجوم
فأمسكوا وإسنادهما ضعيف وقد تقدم فى العلم ولمسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى
قال قلت يا رسول لله أمورا كنا نصنعها فى الجاهلية كنا نأتى الكهان قال فلا تأتوا
الكهان الحديث
بل المنهى عنه فى النجوم أمران أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها
وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها وهذا كفر والثانى تصديق المنجمين فى
تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التى لا يشترك كافة الخلق فى دركها لأنهم يقولون
ذلك عن جهل فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ثم اندرس
ذلك العلم فلم يبق إلا ما هو مختلط لا يتميز فيه الصواب عن الخطإ فاعتقاد كون
الكواكب أسبابا لآثار تحصل بخلق الله تعالى فى الأرض وفى النبات وفى الحيوان ليس
قادحا فى الدين بل هو حق ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح
فى الدين ولذلك إذا كان معك ثوب غسلته وتريد تجفيفه فقال لك غيرك أخرج الثوب
وابسطه فإن الشمس قد طلعت وحمى النهار والهواء لا يلزمك تكذيبه ولا يلزمك الإنكار
عليه بحوالته حمى الهواء على طلوع الشمس وإذا سألت عن تغيير وجه الإنسان فقال
قرعتنى الشمس فى الطريق فاسود وجهى لم يلزمك تكذيبه بذلك وقس بهذا سائر الآثار إلا
أن الآثار بعضها معلوم وبعضها مجهول فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه والمعلوم
بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس وبعضه لبعض الناس كحصول
الزكام بشروق القمر فإذن الكواكب ما خلقت عبثا بل فيها حكم كثيرة لا تحصى ولهذا
نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السماء وقرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا
باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال صلى الله عليه و سلم ويل لمن قرأ هذه الآية
ثم مسح بها سبلته
حديث قرأ قوله تعالى ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال ويل
لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أى ترك تأملها أخرجه الثعلبى من حديث ابن عباس
بلفظ ولم يتفكر فيها وفيه أبو جناب يحيى بن أبى حبة ضعيف
ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء
وضوء الكواكب وذلك مما تعرفه البهائم أيضا فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذى مسح
بها سبلته فلله تعالى فى ملكوت السموات والآفاق والأنفس والحيوانات عجائب يطلب
معرفتها المحبون لله تعالى فإن من أحب عالما فلا يزال مشغولا بطلب تصانيفه ليزداد
بمزيد الوقوف على عجائب علمه حبا له فكذلك الأمر فى عجائب صنع الله تعالى فإن
العالم
كله
من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذى صنفه بواسطة قلوب عباده فإن تعجبت من
تصنيف فلا تتعجب من المصنف بل من الذى سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته
وتسديده وتعريفه كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة فلا
تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها
بروابط دقيقة خفية عن الأبصار فإذن المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء
والهواء والشمس والقمر والكواكب ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التى هى مركوزة فيها ولا
تتم الأفلاك إلا بحركانها ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها وكذلك
يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيها بما ذكرناه على ما أهملناه ولنقتصر
على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات الطرف الخامس فى نعم الله تعالى فى الأسباب
الموصلة للأطعمة إليك
اعلم أن هذه الأطعمة كلها لا توجد فى كل مكان بل لها شروط مخصوصة لأجلها توجد فى
بعض الأماكن دون بعض والناس منتشرون على وجه الأرض وقد تبعد عنهم الأطعمة ويحول بينهم
وبينها البحار والبرارى فانظر كيف سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم حرص حب المال
وشهوة الربح مع أنهم لا يغنيهم فى غالب الأمر شىء بل يجمعون فإما أن تغرق بها
السفن أو تنهبها قطاع الطريق أو يموتوا فى بعض البلاد فيأخذها السلاطين وأحسن
أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا فانظر كيف سلط الله الجهل
والغفلة عليهم حتى يقاسوا الشدائد فى طلب الربح ويركبوا الأخطار ويغرروا بالأرواح
فى ركوب البحر فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك وانظر
كيف علمهم الله تعالى صناعة السفن وكيفية الركوب فيها وانظر كيف خلق الحيوانات
وسخرها للركوب والحمل فى البرارى وانظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى الفرس كيف أمدت
بسرعة الحركة وإلى الحمار كيف جعل صبورا على التعب وإلى الجمال كيف تقطع البرارى
وتطوى المراحل تحت الأعباء الثقيلة على الجوع والعطش وانظر كيف سيرهم الله تعالى
بواسطة السفن والحيوانات فى البر والبحر ليحملوا إليك الأطعمة وسائر الحوائج وتأمل
ما يحتاج إليه الحيوانات من أسبابها وأدواتها وعلفها وما تحتاج إليه السفن فقد خلق
الله تعالى جميع ذلك إلى حد الحاجة وفوق الحاجة وإحصاء ذلك غير ممكن ويتمادى ذلك
إلى أمور خارجة عن الحصر نرى تركها طلبا للإيجاز الطرف السادس فى إصلاح الأطعمة
اعلم أن الذى ينبت فى الأرض من النبات وما يخلق من الحيوانات لا يمكن أن يقضم
ويؤكل وهو كذلك بل لا بد فى كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء البعض
وإبقاء البعض إلى أمور أخر لا تحصى واستقصاء ذلك فى كل طعام يطول فلنعين رغيفا
واحدا ولننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد
إلقاء البذر فى الأرض فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض ثم الثور الذى
يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه ثم بعد ذلك التعهد بسقى الماء مدة ثم تنقية الأرض
من الحشيش ثم الحصاد ثم الفرك والتنقية ثم الطحن ثم العجين ثم الخير فتأمل عدد هذه
الافعال التى ذكرناها وما لم نذكره وعدد الاشخاص القائمين بها وعدد الآلات التى
يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره وانظر إلى أعمال الصناع فى إصلاح آلات
الحراثة والطحن والخبز من نجار وحداد وغيرهما وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد
والرصاص والنحاس وانظر كيف خلق الله تعالى
الجبال
والأحجار والمعادن وكيف جعل الأرض قطعا متجاورات مختلفة فإن فتشت علمت أن رغيفا
واحدا لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين مالم يعمل عليه أكثر من ألف صانع
فابتدىء من الملك الذى يزجى السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة
حتى تنتهى النوبة إلى عمل الإنسان فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع كل
صانع أصل من أصول الصنائع التى بها تتم مصلحة الخلق ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان فى
تلك الآلات حتى إن الإبرة التى هى آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذى يمنع البرد
عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على يد الإبرى خمسا
وعشرين مرة ويتعاطى فى كل مرة منها عملا فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر
العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذى تحصد به البر مثلا بعد نباته لنفذ عمرك وعجزت
عنه أفلا ترى كيف هدى الله عبده الذى خلقه من نطفة قذرة لأن يعمل هذه الأعمال
العجيبة والصنائع الغريبة فانظر إلى المقراض مثلا وهما جلمان متطابقان ينطبق
أحدهما على الآخر فيتناولان الشىء معا ويقطعانه بسرعة ولو لم يكشف الله تعالى طريق
اتخاذه بفضله وكرمه لمن قبلنا وافتقرنا إلى استنباط الطريق فيه بفكرنا ثم إلى
استخراج الحديد من الحجر وإلى تحصيل الآلات التى بها يعمل المقراض وعمر الواحد منا
عمر نوح وأوتى أكمل العقول لقصر عمره عن استنباط الطريق فى إصلاح هذه الآلة وحدها
فضلا عن غيرها فسبحان من ألحق ذوى الأبصار بالعميان وسبحان من منع النبيين مع هذا
البيان فانظر الآن لو خلا بلدك عن الطحان مثلا أو عن الحداد أو عن الحجام الذى هو
أخس العمال أو عن الحائك أو عن واحد من جملة الصناع ماذا يصيبك من الأذى وكيف
تضطرب عليك أمورك كلها فسبحان من سخر بعض العباد لبعض حتى نفذت به مشيئته وتمت به
حكمته ولنوجز القول فى هذه الطبقة أيضا فإن الغرض التنبيه على النعم دون الاستقصاء
الطرف السابع فى إصلاح المصلحين
إعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم
تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا
يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط
الأنس والمحبة عليهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف
بينهم فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا
المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما
يطول إحصاؤه ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها ففى جبلة
الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة وذلك مما يؤدى إلى التقاتل والتنافر فانظر كيف سلط
الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم فى قلوب الرعايا
حتى أذعنوا لهم طوعا وكرها وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا
أجزاء البلد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض
فرتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق واضطروا الخلق إلى قانون العدل
وألزموهم التساعد والتعاون حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد
وكلهم ينتفعون بالحداد وصار الحجام ينتفع بالحراث والحراث بالحجام وينتفع كل واحد
بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه كما يتعاون
جميع أعضاء البدن وينتفع بعضها ببعض وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى
أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا وعرفوهم قوانين الشرع فى حفظ العدل بين الخلق
وقوانين السياسة فى ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة وأحكام الفقه
ما
اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا فضلا عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين وانظر كيف أصلح
الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهى إلى
الملك المقرب الذى لاواسطه بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين والطحان يصلح
الحب بالطحن والحراث يصلحه بالحصاد والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات
الحداد وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة والسلطان يصلح الصناع
والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم والعلماء يصلحون السلاطين والملائكة
يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهى إلى حضرة الربوبية التى هى ينبوع كل نظام ومطلع كل
حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف وكل ذلك نعم من رب الأرباب ومسبب الأسباب ولولا
فضله وكرمه إذ قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا لما اهتدينا إلى هذه
النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى
الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء ولكنه تعالى عزلنا بحكم
القهر والقدرة فقال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فإن تكلمنا فبإذنه
انبسطنا وإن سكنا فبقهره انقبضنا إذ لا معطى لما منع ولا مانع لما أعطى لأنا فى كل
لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار لمن الملك
اليوم لله الواحد القهار فالحمد لله الذى ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل
انقضاء الأعمار الطرف الثامن فى بيان نعمة الله تعالى فى خلق الملائكة عليهم
السلام
ليس يخفى عليك ما سبق من نعمة الله فى خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام
وهدايتهم وتبليغ الوحى إليهم ولا تظنن أنهم مقتصرون فى أفعالهم على ذلك القدر بل
طبقات الملائكة مع كثرتها وترتيب مراتبها تنحصر بالجملة فى ثلاث طبقات الملائكة
الأرضية والسماوية وحملة العرش فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل
والغذاء الذى ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما واعلم أن كل
جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذى إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة
هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من
الغذاء مقام جزء وقد تلف وذلك الغذاء يصير دما فى آخر الأمر ثم يصير لحما وعظما
وإذا صار لحما وعظما تم اغتذاؤك والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار
فهى لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها ومجرد الطبع لا يكفى فى ترددها فى أطوارها
كما أن البر بنفسه لا يصير طحينا ثم عجينا ثم خبزا مستديرا مخبوزا إلا بصناع فكذلك
الدم بنفسه لا يصير لحما وعظما وعروقا وعصبا إلا بصناع والصناع فى الباطن هم
الملائكة كما أن الصناع فى الظاهر هم أهل البلد وقد أسبغ الله تعالى عليك نعمه
ظاهرة وباطنة فلا ينبغى أن تغفل عن نعمه الباطنة فأقول لا بد من ملك يجذب الغذاء
إلى جوار اللحم والعظم فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء
فى جواره ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم ولا بد من رابع يكسوه صورة اللحم
والعروق أو العظم ولا بد من خامس يدفع الفضل الفاضل عن حاجة الغذاء ولا بد من سادس
يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم وما اكتسب صفة اللحم باللحم حتى لا يكون منفصلا
ولا بد من سابع يرعى المقادير فى الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته
وبالعريض ما لا يزيل عرضه وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه ويحفظ على كل واحد قدر حاجته
فإنه لو جمع مثلا من الغذاء على أنف الصبى ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه
وتشوهت صورته وخلقته بل ينبغى أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها وإلى الحدقة مع صفائها
وإلى الأفخاذ مع غلظها وإلى العظم مع صلابته ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر
والشكل وإلا بطلت الصورة
وربا
بعض المواضع وضعف بعض المواضع بل لو لم يراع هذا الملك العادل فى القسمة والتقسيط
فساق إلى رأس الصبى وسائر بدنه من الغذاء ما ينمو به إلا إحدى الرجلين مثلا لبقيت
تلك الرجل كما كانت فى حد الصغر وكبر جميع البدن فكنت ترى شخصا فى ضخامة رجل وله
رجل واحدة كأنها رجل صبى فلا ينتفع بنفسه ألبتة فمراعاة هذه الهندسة فى هذه القسمة
مفوضة إلى ملك من الملائكة ولا تظنن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه
الأمور على الطبع جاهل لا يدرى ما يقول فهذه هى الملائكة الأرضية وقد شغلوا بك
وأنت فى النوم تستريح وفى الغفلة تتردد وهم يصلحون الغذاء فى باطنك ولا خبر لك
منهم وذلك فى كل جزء من أجزائك الذى لا يتجزأ حتى يفتقر بعض الأجزاء كالعين والقلب
إلى أكثر من مائة ملك تركنا تفصيل ذلك للإيجاز والملائكة الأرضية مددهم من
الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لا يحيط بكنهه إلا الله تعالى ومدد الملائكة
السماوية من حملة العرش والمنعم على جملتهم بالتأييد والهداية والتسديد المهيمن
القدوس المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت جبار السموات والأرض مالك الملك
ذو الجلال والإكرام والأخبار الواردة فى الملائكة الموكلين بالسموات والأرض وأجزاء
النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب // حديث
الأخبار الواردة فى الملائكة الموكلين بالسموات والأرضين وأجزاء النبات والحيوانات
حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب ففى الصحيحين من حديث أبى ذر
فى قصة الإسراء قال جبريل لخازن السماء الدنيا افتح وفيه أتى السماء الثانية فقال
لخازنها افتح الحديث ولهما من حديث أبى هريرة إن لله ملائكة سياحين يبدونى عن أمتى
السلام وفى الصحيحين من حديث عائشة فى قصة عرضه نفسه على عبد ياليل فنادانى ملك
الجبال إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين الحديث ولهما من حديث أنس إن الله وكل
بالرحم ملكا الحديث وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث بريدة الأسلمى
ما من نبت ينبت إلا وتحته ملك موكل حتى يحصد الحديث وفيه محمد بن صالح الطبرى وأبو
بحر البكراوى واسمه عثمان بن عبد الرحمن وكلاهما ضعيف وللطبراني من حديث أبي
الدرداء بسند ضعيف إن لله ملائكة ينزلون فى كل ليلة يحسون الكلال عن دواب الغزاة
إلا دابة فى عنقها جرس وللترمذى وحسنه من حديث ابن عباس قالت اليهود يا أبا القاسم
أخبرنا عن الرعد قال ملك من الملائكة موكل بالسحاب ولمسلم من حديث أبى هريرة بينما
رجل بفلاة من الأرض سمع صوتا من سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماء
فى حرة الحديث // أكثر من أن تحصى فلذلك تركنا الاستشهاد به
فإن قلت فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ولم أفتقر إلى سبعة أملاك والحنطة
أيضا تحتاج إلى من يطحن أولا ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانيا ثم
إلى من يصب الماء عليه ثالثا ثم إلى من يعجن رابعا ثم إلى من يقطعه كرات مدورة
خامسا ثم إلى من يرقها رغفانا عريضة سادسا ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعا ولكن قد
يتولى جميع ذلك رجل واحد يستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطنا كأعمال الإنس
ظاهرا فاعلم أن خلقه الملائكة تخالف خلقة الإنس وما من واحد منهم إلا وهو وحدانى
الصفة ليس فيه خلط وتركيب ألبتة فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد وإليه
الإشارة بقوله تعالى وما منا إلا وله مقام معلوم فلذلك ليس بينهم تنافس وتقاتل بل
مثالهم فى تعين مرتبة كل واحد منهم وفعله مثال الحواس الخمس فإن البصر لا يزاحم
السمع فى إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمها ولا هما يتنازعان الشم وليس كاليد والرجل
فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشا ضعيفا فتزاحم به اليد وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم
اليد التى هى آلة الضرب ولا كالإنسان الواحد الذى يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز
فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف
دواعيه فإنه ليس وحدانى الصفة فلم يكن وحدانى الفعل ولذلك نرى الإنسان يطيع الله
مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته وذلك غير ممكن فى طباع الملائكة بل هم
مجبولون على الطاعة
ضي الله عنه ضي الله عنه عليه السلام ضي الله عنه ضي الله عنه ضي الله عنه لا مجال للمعصية فى حقهم فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون والراكع منهم راكع أبدا والساجد منهم ساجد أبدا والقائم قائم أبدا لا اختلاف فى أفعالهم ولا فتور ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف فى طاعتك مرة ومعصيتك أخرى بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلا بإشارتك فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحا وإطباقا والملائكة أحياء عالمون بما يعملون فإذن هذه نعمة الله عليك فى الملائكة الأرضية والسماوية وحاجتك إليها فى غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها فإنا لم نطول بذكرها فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات فإذن قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة ثم قال وذروا ظاهر الإثم وباطنه فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الحسد وسوء الظن والبدعة وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب هو الشكر للنعم الباطنة وترك الإثم الظاهر بالجوارح شكر للنعمة الظاهرة بل أقول كل من عصى الله تعالى ولو فى طريفة واحدة بأن فتح جفنه مثلا حيث يجب غض البصر فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه فى السموات والأرض وما بينهما فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد نم به انتفاعه وإن انتفع غيره أيضا به فإن لله تعالى فى كل تطريفةبالجفن نعمتين فى نفس الجفن إذ خلق تحت كل جفن عضلات ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل وعلى كل جفن شعور سود ونعمة الله تعالى فى سوادها أنها تجمع ضوء العين إذ البياض يفرق الضوء والسواد يجمعه ونعمة الله تعالى فى ترتيبها صفا واحدا أن يكون مانعا للهوام من الدبيب إلى باطن العين ومتشبثا للأفذاء التى تتناثر فى الهواء وله فى كل شعرة منها نعمتان من حيث لين أصلها ومع اللين قوام نصبها وله فى اشتباك الأهداب نعمة أعظم من الكل وهو أن غبار الهواء قد يمنع من فتح العين ولو طبق لم يبصر فيجمع الأجفان مقدار ما تتشابك الأهداب فينظر من وراء شباك الشعر فيكون شباك الشعر مانعا من وصول القذى من خارج وغير مانع من امتداد البصر من داخل ثم إن أصاب الحدقة غبار فقد خلق أطراف الأجفان خادمة منطبقة على الحدقة كالمصقلة للمرآة فيطبقها مرة أو مرتين وقد انصقلت الحدقة من الغبار وخرجت الأقذاء إلى زوايا العين والأجفان والذباب لما لم يكن لحدقته جفن خلق له يدين فتراه على الدوام يمسح بهما حدقتيه ليصقلهما من الغبار وإذ تركنا الاستقصاء لتفاصيل النعم لافتقاره إلى تطويل يزيد على أصل هذا الكتاب ولعلنا نستأنف له كتابا مقصودا فيه إن أمهل الزمان وساعد التوفيق نسميه عجائب صنعالله تعالى فلنرجع إلى غرضنا فنقول من نظر إلى غير محرم فقد كفر بفتح العين نعمة الله تعالى فى الأجفان ولا تقوم الأجفان إلا بعين ولا العين إلا برأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ولا يقوم شىء من ذلك إلا بالسموات ولا السموات إلا بالملائكة فإن الكل كالشىء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض فإذن قد كفر كل نعمة فى الوجود من منتهى الثريا إلى منتهى الثرى فلم يبق فلك ولا ملك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد إلا ويلعنه ولذا ورد فى الأخبار أن البقعة التى يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهم // حديث أن البقعة التى اجتمع فيها الناس تلعنهم أو تستغفر لهم لم أجد له أصلا // وكذلك ورد أن العالم يستغفر
عليه
السلام عليه السلام عليه السلام ضي الله عنه له كل شىء حتى الحوت فى البحر // حديث
إن العالم ليستغفر له كل شىء حتى الحوت فى البحر تقدم فى العلم // وأن الملائكة
يلعنون العصاة // حديث إن الملائكة يلعنون العصاة أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة
الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة وإن كان أخاه لأبيه وأمه // فى
ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصاؤها وكل ذلك إشارة إلى أن العاصيبتطريفة واحدة جنى على
جميع ما فى الملك والملكوت وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها فيتبدل
اللعن بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه وأوحى الله تعالى إلى أيوب
عليه السلام يا أيوب ما من عبد لى من الآدميين إلا ومعه ملكان فإذا شكرنى على
نعمائى قال الملكان اللهم زده نعما على نعم فإنك أهل الحمد والشكر فكن من الشاكرين
قريبا فكفى بالشاكرين علو رتبة وعندى أنى أشكر شكرهم وملائكتى يدعون لهم والبقاع
تحبهم والآثار تبكى عليهم
وكما عرفت أن فى كل طرفة عين نعما كثيرة فاعلم أن فى كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين
إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب ولو لم يخرج لهلك وبانقباضه يجمع روح
الهواء إلى القلب ولو سد متنفسه لاحترق قلبه بانقطاع روح الهواء وبرودته عنه وهلك
بل اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وفى كل ساعة قريب من ألف نفس وكل نفس قريب من
عشر لحظات فعليك فى كل لحظة آلاف آلاف نعمة فى كل جزء من أجزاء بدنك بل فى كل جزء
من أجزاء العالم فانظر هل يتصور إحصاء ذلك أم لا ولما انكشف لموسى عليه السلام
حقيقة قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها قال إلهى كيف أشكرك ولك في كل
شعرة من جسدى نعمتان أن لينت أصلها وأن طمست رأسها وكذا ورد فى الأثر أن من لم
يعرف نعم الله فى مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه
وجميع ما ذكرناه يرجع إلى المطعم والمشرب فاعتبر ما سواه من النعم به فإن البصير
لا تقع عينه فى العالم على شىء ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن لله فيه نعمة
عليه فلنترك الاستقصاء والتفصيل فإنه طمع فى غير مطمع
بيان السبب الصارف للخلق عن الشكر
اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة فإنهم منعوا بالجهل
والغفلة عن معرفة النعم ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها ثم إنهم إن عرفوا
نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله الشكر لله ولم يعرفوا أن معنى
الشكر أن يستعمل النعمة فى إتمام الحكمة التى أريدت بها وهى طاعة الله عز و جل فلا
يمنع من الشكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلا غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب وأحد أسبابها أن الناس يجهلهم لا يعدون ما يعم
الخلق ويسلم لهم فى جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه من
النعم لأنها عامة للخلق مبذولة لهم فى جميع أحوالهم فلا يرى كل واحد لنفسه منهم
اختصاصا به فلا يعده نعمة ولا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ولو أخذ بمختنقهم
لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا فى بيت حمام فيه هواء حار أو فى بئر
فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غما فإن ابتلى واحد منهم بشىء من ذلك ثم نجا ربما
قدر ذلك نعمة وشكر الله عليها وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب
عنهم النعمة ثم ترد عليهم فى بعض الأحوال والنعمة فى جميع الأحوال أولى بأن تشكر
فى بعضها فلا ترى البصير يشكر صحة بصره إلا أن تعمى عينيه فعند ذلك لو أعيد عليه
بصره
أحس
به وشكره وعده نعمة ولما كانت رحمة الله واسعة عمم الخلق وبذل لهم فى جميع الأحوال
فلم يعده الجاهل نعمة وهذا الجاهل مثل العبد السوء حقه أن يضرب دائما حتى إذا ترك
ضربه ساعة تقلد به منة فإن ترك ضربه على الدوام غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس
لا يشكرون إلا المال الذى يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع
نعم الله تعالى عليهم كما شكا بعضهم فقره إلى بعض أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه
به فقال له أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أنك أخرس ولك
عشرة آلاف درهم فقال لا فقال أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا فقال
لا فقال أيسرك أنك مجنون ولك عشر آلاف درهم فقال لا فقال أما تستحى أن تشكو مولاك
وله عندك عروض بخمسين ألفا
وحكى أن بعض القراء اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعا فرأى فى المنام كأن قائلا يقول
له تود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار قال لا قال فسورة هود
قال لا قال فسورة يوسف قال لا فعدد عليه سورا ثم قال فمعك قيمة مائة ألف دينار
وأنت تشكو فأصبح وقد سرى عنه
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه فقال له عظنى فقال لو لم تعط
هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان فهل كنت تعطيه قال نعم فقال لو
لم تعط إلا بملكك كله فهل كنت تتركه قال نعم قال فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء
فهذا تبين أن نعمة الله تعالى على العبد فى شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض
كلها وإذا كانت الطباع مائلة إلى اعتداد النعمة الخاصة دون العامة وقد ذكرنا النعم
العامة فلنذكر إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة فنقول ما من عبد إلا ولو أمعن النظر
فى أحواله رأى من الله نعمة أو نعما كثيرة تخصه لا يشاركه فيها الناس كافة بل
يشاركه عدد يسير من الناس وربما لا يشاركه فيها أحد وذلك يعترف به كل عبد فى ثلاثة
أمور فى العقل والخلق والعلم
أما العقل فما من عبد لله تعالى إلا وهو راض عن الله فى عقله يعتقد أنه أعقل الناس
وقل من يسأل الله العقل وإن من شرف العقل أن يفرح به الخالى عنه كما يفرح به
المتصف به فإذا كان اعتقاده أنه أعقل الناس فواجب عليه أن يشكره لأنه إن كان كذلك
فالشكر واجب عليه وإن لم يكن ولكنه يعتقد أنه كذلك فهو نعمة فى حقه فمن وضع كنزا
تحت الأرض فهو يفرح به ويشكره عليه فإن أخذ الكنز من حيث لا يدرى فيبقى فرحه بحسب
اعتقاده ويبقى شكره لأنه فى حقه كالباقى
وأما الخلق فما من عبد إلا ويرى من غيره عيوبا يكرهها وأخلاقا يذمها وإنما يذمها
من حيث يرى نفسه بريئا عنها فإذا لم يشتغل بذم الغير فينبغى أن يشتغل بشكر الله
تعالى إذ حسن خلقه وابتلى غيره بالخلق السىء
وأما العلم فما من أحد إلا ويعرف بواطن أمور نفسه وخفايا أفكاره وما هو منفرد به
ولو كشف الغطاء حتى اطلع عليه أحد من الخلق لافتضح فكيف لو اطلع الناس كافة فإذن
لكل عبد علم بأمر خاص لا يشاركه فيه أحد من عباد الله فلم لا يشكر ستر الله الجميل
الذي أرسله على وجه مساويه فأظهر الجميل وستر القبيح وأخفى ذلك عن أعين الناس وخصص
علمه به حتى لا يطلع عليه أحد فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما
مطلقا وأما فى بعض الأمور فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلا
فنقول ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى فى صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو
أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو فى سائر
محابه أمورا
لو
سلب ذلك منه وأعطى ما خصص به غيره لكان لا يرضى به وذلك مثل أن جعله مؤمنا لا
كافرا وحيا لا جمادا وإنسانا لا بهيمة وذكرا لا أنثى وصحيحا لا مريضا وسليما لا
معيبا فإن كل هذه خصائص وإن كان فيها عموم أيضا فإن هذا الأحوال لو بدلت بأضدادها
لم يرض بها بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضا وذلك إما أن يكون بحيث لا
يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر فإذا كان لا يبدل حال
نفسه بحال غيره فإذن حاله أحسن من حال غيره وإذا كان لا يعرف شخص يرتضى لنفسه حالة
بدلا عن حال نفسه إما على الجملة وإما فى أمر خاص فإذن لله عليه نعم ليست له على
أحد من عباده سواه وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد
المغبوطين عنده فإنه لا محالة يراهم أقل بالإضافة إلى غيرهم فيكون من دونه فى
الحال أكثر بكثير مما هو فوقه فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدرى نعم الله تعالى على
نفسه ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه وما باله لا يسوى دنياه بدينه
أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن فى الفساق كثرة فينظر أبدا
فى الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه فلم لا يكون نظره فى الدنيا كذلك فإذا كان
حال أكثر الخلق فى الدين خيرا منه وحاله فى الدنيا خير من حال أكثر الخلق فكيف لا
يلزمه الشكر وإذا قال صلى الله عليه و سلم من نظر فى الدنيا إلى من هو دونه ونظر
فى الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابرا وشاكرا ومن نظر فى الدنيا إلى من هو فوقه
وفى الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا // حديث من نظر فى الدنيا
إلى من هو دونه ونظر فى الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابرا وشاكرا الحديث أخرجه
الترمذى من حديث عبد الله بن عمرو وقال غريب وفيه المثنى بن الصباح ضعيف لا غناء
بعده ولا فقر معه أخرجه أبو يمنى والطبرانى من حديث أنس بسند ضعيف بلفظ أن القرآن
غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه قال الدارقطنى رواه أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد
الرقاشى عن الحسن مرسلا وهو أشبه بالصوابفإذن كل من اعتبر حال نفسه وفتش عما خص به
وحد الله تعالى على نفسه نعما كثيرة لا سيما من خص بالسنة والإيمان والعلم والقرآن
ثم الفراغ والصحة والأمن وغير ذلك وقيل
من شاء عيشا رحيل يستطيل به ... في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظر إلى من فوقه ورعا ... ولينظرن إلى من دونه مالا
وقال صلى الله عليه و سلم من يستغن بآيات الله فلا أغناه الله وهذا إشارة إلى نعمة
العلم وقال عليه السلام إن القرآن هو الغنى الذي لا غنى بعده ولا فقر معه وقال
عليه السلام من أتاه الله القرآن فظن أن أحدا أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله //
حديث من أتاه الله القرآن فظن أن أحدا أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله أخرجه
البخارى فى التاريخ من حديث رجاء الفنوي بلفظ من آتاه الله حفظ كتابه وظن أن أحدا
أوتي أفضل مما أوتى فقد صغر أعظم النعم وقد تقدم فى فضل القرآن ورجاء مختلف فى
صحبته وورد من حديث عبد الله بن عمرو وجابر والبراء نحوه وكلها ضعيفة // وقال صلى
الله عليه سلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن // حديث ليس منا من لم يتغنى بالقرآن
تقدم فى أداب التلاوة // وقال عليه السلام كفى باليقين غنى // حديث كفى باليقين
غنى رواه الطبرانى من حديث عقبة بن عامر ورواه ابن أبى الدنيا فى القناعة موقوفا
عليه وقد تقدم // وقال بعض السلف يقول الله تعالى فى بعض الكتب المنزلة أن عبدا
أغنيته عن ثلاثة لقد أتممت عليه نعمتي عن سلطان يأتيه وطبيب يداويه وعما فى يد
أخيه وعبر الشاعر عن هذا فقال
إذا ما القوت يأتيك ... كذا الصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن
بل
أرشق العبارات وأفصح الكلمات كلام أفصح من نطق بالضاد حيث عبر صلى الله عليه و سلم
عن هذا المعنى فقال من أصبح آمنا فى سربه معافى فى بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت
له الدنيا بحذافيرها // حديث من أصبح آمنا فى سربه الحديث تقدم غير مرة // ومهما
تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنها وبال
عليهم ولا يشكرون نعمة الله فى هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم فى الإيمان
الذى به وصولهم إلى النعيم المقيم والملك العظيم بل البصير بنبغى أن لا يفرح إلا
بالمعرفة واليقين والإيمان بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت
قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له خذها عوضا
عن علمك بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضى به إلى قرب
الله تعالى فى الآخرة بل لو قيل له لك فى الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات
فى الدنيا بدلا عن التذاذك بالعلم فى الدنيا وفرحك به لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة
العلم دائمة لا تنقطع وباقية لا تسرق ولا تعصب ولا ينافس فيها وأنها صافيه لا
كدورة فيها ولذات الدنيا كلها ناقصة مكدرة مشوشة لا يفى مرجوها بمخوفها ولا لذتها
بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن وهكذا تكون ما بقى من الزمان إذ ما
خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع حتى إذا انخدعت وتقيدت بها
أبت عليها واستعصت كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغنى حتى إذا تقيد
بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها فى تعب قائم وعناء دائم وكل ذلك
باغتراره بلذة النظر إليها فى لحظة ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع
عمره فهكذا وقعت أرباب الدنيا فى شباك الدنيا وحبائلها ولا ينبغى أن نقول إن
المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها فإن المقبل عليها أيضا متألم بالصبر عليها
وحفظها وتحصيلها ودفع اللصوص عنها وتألم المعرض يفضى إلى لذة فى الآخرة وتألم
المقبل يفضى إلى الألم فى الآخرة فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى ولا
تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله
ما لا يرجون فإذن إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة
والباطنة والخاصة والعامة
فإن قلت فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر فأقول
أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى
العامة وأما القلوب البليدة التى لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت
بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبدا إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفيه إذ
كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التى تقام فيها الحدود فكان يحضر
دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل فى صحته وسلامته فيشعر
قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى ويشاهد الجناة الذين
يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من
الجنايات ومن تلك العقوبات ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن ويحضر المقابر فيعلم
أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوما واحدا أما من عصى الله
تعالى فليتدارك وأما من أطاع فليزد فى طاعته فإن يوم القيامة يوم التغابن فالمطيع
مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبنى إذ
ضيعت بعض الأوقات فى المباحات وأما العاصى فغبنه ظاهر فإذا شاهد المقابر وعلم أن
أحب الأشياء إليهم أن يكون قد بقى لهم من العمر ما بقى له فيصرف بقية العمر إلى ما
يشتهى أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى فى بقية العمر بل
فى الإمهال فى كل نفس من الأنفاس وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما
خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر
بنعم الله تعالى
فعساها
تشكر وقد كان الربيع بن خيثم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيداللمعرفة
فكان قد حفر فى داره قبرا فكان يضع غلا فى عنقه وينام فى لحده ثم يقول رب ارجعون
لعلى أعمل صالحا ثم يقوم ويقول يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع
فلا ترد
ومما ينبغى أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر
زالت ولم تعد ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول عليكم بملازمة الشكر على
النعم فقل نعمة زالت عن القوم فعاذت إليهم وقال بعض السلف النعم وحشية فقيدوها
بالشكر وفى الخبر ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه فمن
تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال // حديث ما عظمت نعمة الله على عبد إلا كثرت
حوائج الناس إليه الحديث أخرجه ابن عدى وابن حبان فى الضعفاء من حديث معاذ بن جبل
بلفظ إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المونة الحديث ورواه ابن حبان فى
الضعفاء من حديث ابن عباس وقال أنه موضوع على حجاج الأعور // وقال الله سبحانه
وتعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا تمام هذا الركن الركن
الثالث من كتاب الصبر والشكر
فيما يشترك فيه الصبر والشكر ويرتبط أحدهما بالآخر
بيان وجه اجتماع الصبر والشكر على شىء واحد
لعلك تقول ما ذكرته في النعم إشارة إلى أن لله تعالى فى كل موجود نعمة وهذا يشير
إلى أن البلاء لا وجود له أصلا فما معنى الصبر إذن وإن كان البلاء موجودا فما معنى
الشكر على البلاء وقد ادعى مدعون أنا نشكر على البلاء فضلا عن الشكر على النعمة
فكيف يتصور الشكر على البلاء وكيف يشكر على ما يصبر عليه والصبر على البلاء يستدعى
ألما والشكر يستدعى فرحا وهما يتضادان وما معنى ما ذكرتموه من أن لله تعالى فى كل
ما أوجده نعمة على عباده فاعلم أن البلاء موجود كما أن النعمة موجودة والقول
بإثبات النعمة يوجب القول بإثبات البلاء لأنهما متضادان ففقد البلاء نعمة وفقد
النعمة بلاء ولكن قد سبق أن النعمة تنقسم إلى نعمة مطلقة من كل وجه أما فى الآخرة
فكسعادة العبد بالنزول فى جوار الله تعالى وأما فى الدنيا فكالإيمان وحسن الخلق
وما يعين عليهما وإلى نعمة مقيدة من وجه دون وجه كالمال الذى يصلح الدين من وجه
ويفسده من وجه فكذلك البلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد أما المطلق فى الآخرة فالبعد من
الله تعالى إما مدة وأما أبدا
وأما فى الدنيا فالكفر والمعصية وسوء الخلق وهى التى تفضى إلى البلاء المطلق
وأما المقيد فكالفقر والمرض والخوف وسائر أنواع البلاء التى لا تكون بلاء فى الدين
بل فى الدنيا فالشكر المطلق للنعمة المطلقة وأما البلاء المطلق فى الدنيا فقد لا
يؤمر بالصبر عليه لأن الكفر بلاء ولا معنى للصبر عليه وكذا المعصية بل حق الكافر
أن يترك كفره وكذا حق العاصي نعم الكافر قد لا يعرف أنه كافر فيكون كمن به علة وهو
لا يتألم بسبب غشية أو غيرها فلا صبر عليها والعاصي يعرف أنه عاص فعليه ترك
المعصية بل كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه فلو ترك الإنسان
الماء مع طول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه بل يؤمر بإزالة الألم
وإنما الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته فإذن يرجع الصبر فى الدنيا إلى ما ليس
ببلاء مطلق بل يجوز أن يكون نعمة من وجه فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر
والشكر فإن الغنى مثلا يجوز أن يكون
سببا
لهلاك الإنسان حتى يقصد بسبب ما له فيقتل وتقتل أولاده والصحة أيضا كذلك فما من
نعمة من هذه النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تصير بلاء ولكن بالإضافة إليه فكذلك ما
من بلاء إلا ويجوز أن يصير نعمة ولكن بالإضافة إلى حالة فرب عبد تكون الخيرة له فى
الفقر والمرض ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى قال الله تعالى ولو بسط الله الرزق
لعباده لبغوا فى الأرض وقال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وقال صلى
الله عليه و سلم إن الله ليحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما يحمى أحدكم
مريضه // حديث إن الله ليحمى عبده من الدنيا الحديث أخرجه الترمذى وحسنه والحاكم
وصححه وقد تقدم // وكذلك الزوجة والولد والقريب وكل ما ذكرناه فى الأقسام الستة
عشر من النعم سوى الإيمان وحسن الخلق فإنها يتصور أن تكون بلاء فى حق بعض الناس
فتكون أضدادها إذن نعما فى حقهم إذ سبق أن المعرفة كمال ونعمة فإنها صفة من صفات
الله تعالى ولكن قد تكون على العبد فى بعض الأمور بلاء ويكون فقدها نعمة مثاله جهل
الإنسان بأجله فإنه نعمة عليه إذ لو عرفه ربما تنغص عليه العيش وطال بذلك غمه
وكذلك جهله بما يضمره الناس عليه من معارفه وأقاربه نعمة عليه إذ لو رفع الستر
واطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام وكذلك جهله بالصفات المذمومة
من غيره نعمة عليه إذ لو عرفها أبغضه وآذاه وكان ذلك وبالا عليه فى الدنيا والآخرة
بل جهله بالصفات المحمودة فى غيره قد يكون نعمة عليه فإنه ربما يكون وليا لله
تعالى وهو يضطر إلى إيذائه وإهانته ولو عرف ذلك وآذى كان إثمه لا محالة أعظم فليس
من آذى نبيا أو وليا وهو يعرف كمن آذى وهو لا يعرف ومنها إبهام الله تعالى أمر
القيامة وإبهامه ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وإبهامه بعض الكبائر فكل ذلك نعمة
لأن هذا الجهل يوفر دواعيك على الطلب والاجتهاد فهذه وجوه نعم الله تعالى فى الجهل
فكيف فى العلم وحيث قلنا إن لله تعالى فى كل موجود نعمة فهو حق وذلك مطرد فى حق كل
أحد ولا يستثنى عنه بالظن إلا الآلام التى يخلقها فى بعض الناس وهى أيضا قد تكون
نعمة فى حق المتألم بها فإن لم تكن نعمة فى حقه كالألم الحاصل من المعصية كقطعه يد
نفسه ووشمه بشرته فإنه يتألم به وهو عاص به وألم الكفار فى النار فهو أيضا نعمة
ولكن فى حق غيرهم من العباد لا فى حقهم لأن مصائب قوم عند قوم فوائد ولولا أن الله
تعالى خلق العذاب وعذب به طائفة لما عرف المتنعمون قدر نعمه ولو كثر فرحهم بها ففرح
أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا فى آلام أهل النار أما ترى أهل الدنيا ليس يشتد
فرحهم بنور الشمس مع شدة حاجتهم إليه من حيث إنها عامة مبذولة ولا يشتد فرحهم
بالنظر إلى زينة السماء وهى أحسن من كل بستان لهم فى الأرض يجتهدون فى عمارته ولكن
زينة السماء لما عمت لم يشعروا بها ولم يفرحوا بسببها فإذن قد صح ما ذكرناه من أن
الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وفيه حكمة ولا خلق شيئا إلا وفيه نعمة إما على جميع
عباده أو على بعضهم فإذن فى خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضا إما على المبتلى أو
على غير المبتلى فإذن كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق ولا نعمة مطلقة فيجتمع فيها
على العبد وظيفتان الصبر والشكر جميعا
فإن قلت فهما متضادان فكيف يجتمعان إذ لا صبر إلا على غم ولا شكر إلا على فرح
فاعلم أن الشىء الوحيد قد يغتم به من وجه ويفرح به من وجه آخر فيكون الصبر من حيث
الاغتمام والشكر من حيث الفرح وفى كل فقر ومرض وخوف وبلاء فى الدنيا خمسة أمور
ينبغى أن يفرح الغافل بها ويشكر عليها أحدها أن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكبر
منها إذ مقدورات الله تعالى لا تتناهى فلو ضعفها الله
تعالى
وزادها ماذا كان يرده ويحجزه فليشكر إذ لم تكن أعظم منها فى الدنيا الثاني أنه كان
يمكن أن تكون مصيبته فى دينه قال رجل لسهل رضى الله تعالى عنه دخل اللص بيتى وأخذ
متاعى فقال اشكر الله تعالى لو دخل الشيطان قلبك فأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع
ولذلك استعاذ عيسى عليه الصلاة و السلام فى دعائه إذ قال اللهم لا تجعل مصيبتى فى
دينى وقال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى
على فيه أربع نعم إذ لم يكن فى دينى وإذ لم يكن أعظم منه وإذ لم أحرم الرضا به وإذ
أرجو الثواب عليه وكان لبعض أرباب القلوب صديق فحبسه السلطان فأرسل إليه يعلمه
ويشكو إليه فقال له اشكر الله فضربه فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال اشكر الله
فجىء بمجوسى فحبس عنده وكان مبطونا فقيد وجعل حلقة من قيده فى رجله وحلقة فى رجل
المجوسى فأرسل إليه فقال اشكر الله فكان المجوسى يحتاج إلى أن يقوم مرات وهو يحتاج
إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يقضى حاجته فكتب إليه بذلك فقال اشكر الله فقال
إلى متى هذا وأى بلاء أعظم من هذا فقال لو جعل الزنار الذى فى وسطه على وسطك ماذا
كنت تصنع فإذن ما من إنسان أصيب ببلاء إلا ولو تأمل حق التأمل فى سوء أدبه ظاهرا
وباطنا فى حق مولاه لكان يرى أنه يستحق أكثر مما أصيب به عاجلا وآجلا ومن استحق
عليك أن يضربك مائة سوط فاقتصر على عشرة فهو مستحق للشكر ومن استحق عليك أن يقطع
يديك فترك إحداهما فهو مستحق للشكر ولذلك مر بعض الشيوخ فى شارع فصب على رأسه طشت
من رماد فسجد لله تعالى سجدة الشكر فقيل له ما هذه السجدة فقال كنت أنتظر أن تصب
على النار فالاقتصار على الرماد نعمة وقيل لبعضهم لا تخرج إلى الاستسقاء فقد
احتبست الأمطار فقال أنتم تستبطئون المطر وأنا استبطىء الحجر
فإن قلت كيف أفرح وأرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتى ولم يصابوا بما اصبت به
حتى الكفار فاعلم أن الكافر قد خبىء له ما هو أكثر وإنما أمهل حتى يستكثر من الإثم
ويطول عليه العقاب كما قال تعالى إنما نملى لهم ليزدادوا إثما وأما المعاصى فمن
أين تعلم أن فى العالم من هو أعصى منه ورب خاطر بسوء أدب فى حق الله تعالى وفى
صفاته أعظم وأطم من شرب الخمر والزنا وسائر المعاصى بالجوارح ولذلك قال تعالى فى
مثله وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم فمن أين تعلم أن غيرك أعصى منك ثم لعله قد
أخرت عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبتك فى الدنيا فلم لا تشكر الله تعالى على ذلك
وهذا هو الوجه الثالث فى الشكر وهو أنه ما من عقوبة إلا وكان يتصور أن تؤخر إلى
ألاخرة ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخر تهون المصيبة فيخف وقعها ومصيبة
الآخرة تدوم وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلى إذ أسباب التسلى مقطوعة
بالكلية فى الآخرة عن المعذبين ومن عجلت عقوبته فى الدنيا فلا يعاقب ثانيا إذ قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابته شدة أو بلاء فى
الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانيا // حديث إن العبد إذا أذنب ذنبا فأصابه شدة
وبلاء فى الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانيا أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث
على من أصاب فى الدنيا ذنبا عوقب به فالله أعدل من أن يلي عقوبته على عبده الحديث
لفظ ابن ماجه وقال الترمذي من أصاب حدا فعجل عقوبته فى الدنيا وقال حسن وللشيخين
من حديث عبادة بن الصامت ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له الحديث //
الرابع أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه فى أم الكتاب وكان لا بد من
وصولها إليه وقد وصلت ووقع الفراغ واستراح من بعضها أو من جميعها فهذه نعمة الخامس
أن ثوابها
أكثر منها فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة من وجهين أحدهما الوجه الذى يكون به الدواء الكريه نعمة فى حق المريض ويكون المنع من أسباب اللعب نعمة حق الصبى فإنه لو خلى واللعب كان يمنعه ذلك عن العلم والأدب فكان يخسر جميع عمره فكذلك المالى والأهل والأقارب والأعضاء حتى العين التى هى أعز الأشياء قد تكون سببا لهلاك الإنسان فى بعض الأحوال بل العقل الذى هو أعز الأمور قد يكون سببا لهلاكه فالملحدة غدا يتمنون لو كانوا مجانين أو صبيانا ولم يتصرفوا بعقولهم فى دين الله تعالى فما من شىء من هذه الأسباب يوجد من العبد إلا ويتصور أن يكون له فيه خيرة دينية فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويقدر فيه الخيرة ويشكره عليه فإن حكمة الله واسعة وهو بمصالح العباد أعلم من العباد وغدا يشكره العباد على البلايا إذا رأوا ثواب الله على البلايا كما يشكر الصبى بعد العقل والبلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه إذيدرك ثمرة ما استفاده من التأديب والبلاء من الله تعالى تأديب وعنايته بعباده أتم وأوفر من عناية الآباء بالأولاد فقد روى أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم أوصنى قال لا تتهم الله فى شىء قضاه عليك // حديث قال له رجل أوصنى قال لا تتهم الله فى شىء قضاه عليك رواه أحمد والطبرانى من حديث عبادة بزيادة فى أوله وفى إسناده ابن لهيعة // ونظر صلى الله عليه و سلم إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن إن قضى له بالسراء رضى وكان خيرا له وإن قضى له بالضراء رضى وكان خيرا له // حديث نظر إلى السماء فضحك فسئل فقال عجبت لقضاء الله للمؤمن الحديث أخرجه مسلم من حديث صهيب دون نظره إلى السماء وضحكه عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وللنسائى فى اليوم والليلة من حديث سعد بن أبى وقاص عجبت من رضا الله للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر الحديث // الوجه الثانى أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا ورأس أسباب النجاة التجافى بالقلب عن دار الغرور ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها وأنسه بها حتى تصير كالجنة فى حقه فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يسكن إليها ولم يأنس بها وصارت سجنا عليه وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن ولذلك قال صلى الله عليه و سلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر // حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة وقد تقدم // والكافر كل من أعرض عن الله تعالى ولم يرد إلا الحياة الدنيا ورضى بها واطمأن إليها والمؤمن كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها والكفر بعضه ظاهر وبعضه خفى وبقدر حب الدنيا فى القلب يسرى فيه الشرك الخفى بل الموحد المطلق هو الذى لا يحب إلا الواحد الحق فإذن فى البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به وأما التألم فهو ضرورى وذلك يضاهى فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا فإنك تتألم وتفرح فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح فكل بلاء فى الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذى يؤلم فى الحال وينفع فى المآل بل من دخل دار ملك للنضارة وعلم أنه يخرج منها لا محالة فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالا وبلاء عليه لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه ولو كان عليه فى المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون عنها من باب اللحد فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم فى البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة
ومن
لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة وحكى أن
أعرابيا عزى ابن عباس على أبيه فقال
اصبر نكن بك صابرين فإنما ... صبر الرعية بعد صبر الرأس
خير من العباس أجرك بعده ... والله خير منك للعباس
فقال ابن عباس ما عزانى أحد أحسن من تعزيته
والأخبار الواردة فى الصبر على المصائب كثيرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
من يرد الله به خيرا يصب منه // حديث من يرد الله به خير يصب منه رواه البخارى من
حديث أبى هريرة // وقال صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى إذا وجهت إلى عبد من
عبيدى مصيبة فى بدنه أو ماله أو لده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم
القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا وقال عليه السلام ما من عبد أصيب
بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى إنا لله وإنه إليه راجعون اللهم أجرنى فى مصيبتى
وأعقبنى خيرا منها إلا فعل الله ذلك به وقال صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى
من سلبته كريمتيه فجزاؤه الخلود فى دارى والنظر إلى وجهى وروى أن رجلا قال يا رسول
الله ذهب مالى وسقم جسمى فقال صلى الله عليه و سلم لا خير فى عبد لا يذهب ماله ولا
يسقم جسمه إن الله إذا أحب عبدا ابتلاه وإذا ابتلاه صبره // حديث أن رجلا قال يا رسول
الله ذهب مالى وسقم جسدى فقال لا خير فى عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسده إن الله
إذا أحب عبدا ابتلاه وإذا ابتلاه صبره أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض
والكفارات من حديث أبى سعيد الخدرى بإسناد فيه لين // وقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمل حتى يبتلى
ببلاء فى جسمه فيبلغها بذلك // حديث إن الرجل ليكون له الدرجه عند الله لا يبلغها
بعمل حتى يبتلى ببلاء فى جسمه فيبلغها بذلك رواه أبو داود فى رواية ابن داسه وابن
العبد من حديث محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده وليس فى رواية اللؤلؤى ورواه
أحمد وأبو يعلى والطبرانى من هذا الوجه ومحمد بن خالد لم يرو عنه إلا أبو المليح
الحسن بن عمر الرقى وكذلك لم يرو عن خالد إلا ابنه محمد وذكر أبو نعيم أن ابن منده
سمى جده اللجلاج بن سليم فالله أعلم وعلى هذا فابنه خالد بن اللجلاج العامرى ذاك
مشهور روى عنه جماعة ورواه ابن منده وأبو نعيم وابن عبد البر فى الصحابة من رواية
عبد الله بن أبى إياس بن أبى فاطمة عن أبيه عن جده ورواه البيهقى من رواية إبراهيم
السلمى عن أبيه عن جده فالله أعلم // وعن خباب بن الأرت قال أتيت رسول الله صلى
الله عليه و سلم وهو متوسد بردائه فى ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا يا رسول الله
ألا تدعو الله تستنصره لنا فجلس محمرا لونه ثم قال إن من كان قبلكم ليؤتى بالرجل
فيحفر له فى الأرض حفيرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك
عن دينه // حديث خباب بن الأرت أتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو متوسد
برداء فى ظل الكعبة فشكونا إليه الحديث تقدم // وعن على كرم الله وجهه قال أيما
رجل حبسه السلطان ظلما فمات فهو شهيد وإن ضربه فمات فهو شهيد وقال عليه السلام من
إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك وقال أبو الدرداء رضى الله
تعالى عنه تولدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى وتذرون ما يبقى ألا
حبذا المكروهات الثلاث الفقر والمرض والموت وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صبا وثجه
عليه ثجا فإذا دعاه قالت الملائكة صوت معروف وإن دعاه ثانيا فقال يا رب قال الله
تعالى لبيك عبدى وسعديك لا تسألنى شيئا إلا أعطيتك أو دفعت عنك ما هو خير وادخرت
لك عندى ما هو أفضل منه فإذا كان يوم القيامة جىء بأهل الأعمال فوفوا أعمالهم
بالميزان أهل
الصلاة
والصيام والصدقة والحج ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان
يصب عليهم الأجر صبا كما كان يصب عليهم البلاء صبا فيود أهل العافية فى الدنيا لو
أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لما يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب //
حديث أنس إذا أراد الله بعبد خيرا وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صبا الحديث
أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب المرض من رواية بكر بن خنيس عن يزيد الرقاشيعن أنس
أخصر منه دون قوله فإذا كان يوم القيامة إلى آخره وبكر بن خنيس والرقاشى ضعيفان
ورواه الأصفهانى فى الترغيب والترهيب بتمامه وأدخل بين بكر وبين الرقاشى ضرار بن
عمرو وهو أيضا ضعيف // فذلك قوله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وعن
ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال شكا نبى من الأنبياء عليهم السلام إلى ربه فقال
يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوى عنه الدنيا وتعرض له البلاء ويكون
الكافر لا يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك تزوى عنه البلاء وتبسط له الدنيا فأوحى
الله تعالى إليه إن العباد والبلاء لي وكل يسبح بحمدى فيكون المؤمن عليه من الذنوب
فأزوى عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقانى فأجز به بحسناته
ويكون الكافر له الحسنات فأبسط له فى الرزق وأزوى عنه البلاء فأجزيه بحسناته فى
الدنيا حتى يلقانى فأجزيه بسيئاته
وروى أنه لما نزل قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به قال أبو بكر الصديق رضى الله
تعالى عنه كيف الفرح بعد هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم غفر الله لك
يا أبا بكر ألست تمرض ألست يصيبك الأذى ألست تحزن فهذا مما تجزون به // حديث لما
نزل قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به قال أبو بكر الصديق كيف الفرح بعد هذه الآية
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض الحديث من
رواية من لم يسم عن أبى بكر ورواه الترمذى من وجه آخر بلفظ آخر وضعفه قال وليس له
إسناد صحيح وقال الدارقطنى وروى أيضا من حديث عمر ومن حديث الزبير قال وليس فيها
شىء يثبت // يعنى أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك وعن عقبة بن عامر عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على
معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج ثم قرأ قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا
عليهم أبواب كل شىء // حديث عقبة بن عامر إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو
مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج الحديث رواه أحمد والطبرانى والبيهقى فى
الشعب بسند حسن // يعنى لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخير حتى إذا
فرحوا بما أوتوا أى بما أعطوا من الخير أخذناهم بغتة
وعن الحسن البصري رحمه الله أن رجلا من الصحابة رضى الله عنهم رأى امرأة كان
يعرفها فى الجاهلية فكلمها ثم تركها فجعل الرجل يلتفت إليها وهو يمشى فصدمه حائط
فأثر فى وجهه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال صلى الله عليه و سلم إذا
أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه فى الدنيا // حديث الحسن البصرى فى الرجل
الذى رأى امرأة فجعل يلتفت إليها وهو يمشى فصدمه حائط الحديث وفيه إذا أراد الله
بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه فى الدنيا أخرجه أحمد والطبرانى بإسناد صحيح من رواية
الحسن عن عبد الله بن معقل مرفوعا ومتصلا ووصله الطبرانى أيضا من رواية الحسن عن
عمار بن ياسر ورواه أيضا من حديث ابن عباس وقد روى الترمذى وابن ماجه المرفوع منه
من حديث أنس وحسنه الترمذى // وقال على كرم الله وجهه ألا أخبركم بأرجى آية فى
القرآن قالوا بلى فقرأ عليهم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
فالمصائب فى الدنيا بكسب الأوزار فإذا عاقبه الله فى الدنيا فالله أكرم من أن
يعذبه ثانيا وإن عفا عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه يوم القيامة وعن أنس
رضى الله تعالى منه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما تجرع عبد قط جرعتين أحب
إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها ولا قطرت قطرة أحب إلى
الله من قطرة دم أهريقت فى سبيل الله أو قطرة دمع فى سواد الليل وهو ساجد ولا يراه
إلا الله وما خطا عبد
خطوتين
أحب إلى الله تعالى من خطوة إلى صلاة الفريضة وخطوة إلى صلة الرحم // حديث أنس ما
تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل
لها الحديث أخرجه أبو بكر بن لال فى مكارم الأخلاق من حديث على بن أبى طالب دون
ذكر الجرعتين وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى منكر الحديث وروى ابن ماجه من حديث ابن
عمر بإسناد جيد ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله
وروى أبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث أبى أمامة ما قطر فى الأرض قطرة
أحب إلى الله عز و جل من دم رجل مسلم فى سبيل الله أو قطرة دمع فى سواد الليل
الحديث وفيه محمد بن صدقة وهو الفلكى المنكر الحديث //
وعن أبى الدرداء قال توفى ابن لسليمان بن داود عليهما السلام فوجد عليه وجدا شديدا
فأتاه ملكان فجثيا بين يديه فى زى الخصوم فقال أحدهما بذرت بذرا فلما استحصد مر به
هذا فأفسده فقال للآخر ما تقول فقال أخذت الجادة فأتيت على زرع فنظرت يمينا وشمالا
فإذا الطريق عليه فقال سليمان عليه السلام ولم بذرت على الطريق أما علمت أن لا بد
للناس من الطريق قال فلم تحزن على ولدك أما علمت أن الموت سبيل الآخرة فتاب سليمان
إلى ربه ولم يجزع على ولد بعد ذلك
ودخل عمر بن عبد العزيز على ابن له مريض فقال يا بنى لأن تكون فى ميزانى أحب إلى
من أن أكون فى ميزانك فقال يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلى من أن يكون ما أحب
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه نعى إليه ابنه له فاسترجع وقال عورة سترها الله
تعالى ومؤنة كفاها الله وأجر قد ساقة الله تعالى ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال قد
صنعنا ما أمر الله تعالى قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة
وعن ابن المبارك أنه مات له ابن فعزاه مجوسى يعرفه فقال له ينبغى للعاقل أن يفعل
اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال ابن المبارك اكتبوا عنه هذه
وقال بعض العلماء إن الله ليبتلى العبد بالبلاء بعد البلاء حتى يمشى على الأرض
وماله ذنب
وقال الفضيل إن الله عز و جل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله
بالخير
وقال حاتم الأصم إن الله عز و جل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على
أربعة أجناس على الأغنياء بسليمان وعلى الفقراء بالمسيح وعلى العبيد بيوسف وعلى
المرضى بأيوب صلوات الله عليهم
وروى أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بنى إسرائيل واختفى فى الشجرة
فعرفوا ذلك فجىء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا فأن منه
أنةفأوحى الله تعالى إليه يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان
النبوة فعض زكريا عليه السلام على أصبعه حتى قطع شطرين
وقال أبو مسعود البلخى من أصيب بمصيبة فمزق ثوبا أو ضرب صدرا فكأنما أخذ رمحا يريد
أن يقاتل به ربه عز و جل
وقال لقمان رحمه الله لابنه يا بنى إن الذهب يجرب بالنار والعبد الصالح يجرب
بالبلاء فإذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط
وقال الأحنف بن قيس أصبحت يوما أشتكي ضرسى فقلت لعمى ما نمت البارحة من وجع الضرس
حتى قلعتها ثلاثا فقال لقد أكثرت من ضرسك فى ليلة واحدة وقد ذهبت عينى هذه منذ
ثلاثين سنة ما علم بها أحد وأوحى الله تعالى إلى عزيز عليه السلام إذا نزلت بك
بلية فلا تشكنى إلى خلقى واشك إلى
كما
لا أشكوك إلى ملائكتى إذا صعدت مساويك وفضائحك نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه ستره
الجميل فى الدنيا والآخرة
بيان فضل النعمة على البلاء
لعلك تقول هذه الأخبار تدل على أن البلاء خير فى الدنيا من النعم فهل لنا أن نسأل
الله البلاء فأقول لا وجه لذلك لما روى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان
يستعيذ فى دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة // حديث أنه صلى الله عليه و سلم كان
يستعيذ فى دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة رواه أحمد من حديث بشر بن أبى أرطاة
بلفظ أجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة وإسناده جيد ولأبى داود من حديث عائشة
اللهم إنى أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة وفيه بقية وهو مدلس ورواه
بالعنعنة // وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى
الآخرة حسنة // حديث كان يقول هو والأنبياء عليهم السلام ربنا آتنا فى الدنيا حسنة
وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أخرجه البخارى ومسلم من حديث أنس كان أكثر دعوة
يدعو بها النبي صلى الله عليه و سلم يقول اللهم آتنا فى الدنيا الحديث ولأبى داود
والنسائى من حديث عبد الله بن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول
ما بين الركنين ربنا آتنا الحديث // وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها //
حديث كان يستعيذ من شماتة الأعداء تقدم فى الدعوات //
وقال على كرم الله وجهه اللهم إنى أسألك الصبر فقال صلى الله عليه و سلم لقد سألت
البلاء فاسأله العافية // حديث قال على رضى الله عنه اللهم إنى أسألك الصبر فقال
صلى الله عليه و سلم لقد سألت الله البلاء فسله العافية رواه الترمذى من حديث معاذ
فى أثناء حديث وحسنه ولم يسم عليا وإنما قال سمع رجلا وله وللنسائى فى اليوم
والليلة من حديث على كنت ساكنا فمر بى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أقول
الحديث وفيه فإن كان بلاء فصبرنى فضربه برجله وقال اللهم عافه واشفه وقال حسن صحيح
//
وروى الصديق رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال سلوا
الله العافية فما أعطى أحد أفضل من العافية إلا اليقين // حديث أبي بكر الصديق
سلوا الله العافية الحديث أخرجه ابن ماجه والنسائى فى اليوم والليلة بإسناد جيد
وقد تقدم // وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك فعافية القلب أعلى
من عافية البدن
وقال الحسن رحمه الله الخير الذى لا شر فيه العافية مع الشكر فكم من منعم عليه غير
شاكر
وقال مطرف بن عبد الله لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر
وقال صلى الله عليه و سلم فى دعائه وعافيتك أحب إلى // حديث وعافيتك أحب إلى ذكره
ابن اسحق فى السيرة فى دعائه يوم خرج إلى الطائف بلفظ وعافيتك أوسع لى وكذا رواه
ابن أبى الدنيا فى الدعاء من رواية حسان بن عطية مرسلا ورواه أبو عبد الله بن منده
من حديث عبد اللهبن جعفر مسندا وفيه من يجهل // وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى
دليل واستشهاد وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين أحدهما بالإضافة إلى ما هو أكثر
منه إما فى الدنيا أو فى الدين والآخر بالإضافة إلى ما يرجى من الثواب فينبغى أن
نسأل الله تمام النعمة فى الدنيا ودفع ما فوقه من البلاء ونسأله الثواب فى الآخرة
على الشكر على نعمته فإنه قادر على أن يعطى على الشكر ما لا يعطيه على الصبر
فإن قلت فقد قال لعضهم أود أن أكون جسرا على النار يعبر على الخلق كلهم فينجون
وأكون أنا فى النار وقال سمنون رحمه الله تعالى
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرنى
فهذا
من هؤلاء سؤال للبلاء فاعلم أنه حكى عن سمنون المحب رحمه الله أنه بلى بعد هذا
البيت بعلة الحصر فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان ادعوا لعمكم
الكذاب وأما محبة الإنسان ليكون هو فى النار دون سائر الخلق فغير ممكنة ولكن قد
تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب بنفسه حبا لمثل ذلك فمن شرب كأس المحبة سكر
ومن سكر توسع فى الكلام ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها
فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم وكلام العشاق يستلذ
سماعه ولا يعول عليه كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه فقال ما الذى
يمنعك عنى ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهرا لبطن لفعلته لأجلك
فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال يا نبى الله كلام العشاق لا يحكى
وهو كما قال وقال الشاعر
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد
وهو أيضا محال ومعناه أنى أريد ما لا يريد لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر فكيف
أراد الهجر الذى لم يرده بل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين أحدهما أن يكون ذلك
فى بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذى يتوصل به إلى الوصال فى الاستقبال فيكون
الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب والوسيلة إلى المحبوب
محبوبة فيكون مثاله مثال محب المال إذا أسلم درهما فى درهمين فهو بحب الدرهمين
يترك الدرهم فى الحال الثانى أن يصير رضاه عنده مطلوبا من حيث إنه رضاه فقط ويكون
له لذة فى استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته فى مشاهدته مع كراهته
فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت
لذتهم فى البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم فى العافية من غير شعور
الرضا فهؤلاء إذا قدروا رضاه فى البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية وهذه حالة
لا يبعد وقوعها فى غلبات الحب ولكنها لا تثبت وإن ثبتت مثلا فهل هى حالة صحيحة أم
حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال هذا فيه نظر وذكر
تحقيقه لا يليق بما نحن فيه وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فنسأل الله
تعالى المان بفضله على جميع خلقه العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة لنا
ولجميع المسلمين
بيان الأفضل من الصبر والشكر
اعلم أن الناس اختلفوا فى ذلك فقال قائلون الصبر أفضل من الشكر وقال آخرون الشكر
أفضل وقال آخرون هما سيان وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال واستدل كل فريق
بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل فلا معنى للتطويل بالنقل بل المبادرة إلى
إظهار الحق أولى فنقول فى بيان ذلك مقامان
المقام الأول البيان على سبيل التساهل وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب
التفتيش بحقيقته وهو البيان الذى ينبغى أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن
درك الحقائق الغامضة وهذا الفن من الكلام هو الذى ينبغى أن يعتمده الوعاظ إذ مقصود
كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم والظئر المشفقة لا ينبغى أن تصلح الصبى الطفل
بالطيور السمان وضروب الحلاوات بل باللبن اللطيف وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة
إلى أن يصير محتملا لها بقوته ويفارق الضعف الذى هو عليه فى بنيته فنقول هذا
المقام فى البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد
الشرع وذلك يقتضى تفضيل الصبر فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة فى فضله فإذا أضيف
إليه ما ورد فى فضيلة الصبر كانت فضائل الصبر أكثر بل فيه ألفاظ
صريحة
في التفضيل كقوله صلى الله عليه و سلم من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر //
حديث من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر تقدم // وفي الخبر يؤتى بأشكر أهل
الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أما ترضى أن
يجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى كلا أنعمت عليه فشكر
وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين // حديث يؤتى
بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض الحديث لم أجد
له أصلا // وقد قال الله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وأما قوله
الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر // حديث الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر
أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقد تقدم فهو دليل على أن
الفضيلة في الصبر إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشكر فألحقه بالصبر فكان
هذا منتهى درجته ولولا أنه فهم من الشرع علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به
مبالغة في الشكر وهو كقوله صلى الله عليه و سلم الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة
حسن التبعل // حديث الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل أخرجه الحارث بن
أبي أسامة في مسنده بالشطر الأول من حديث ابن عباس بسند ضعيف أو الطبراني بالشطر
الثاني من حديثه بسند ضعيف أيضا أن امرأة قالت كتب الله الجهاد على الرجال فما
يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة قال طاعة أزواجهن وفي رواية ما جزاء غزوة المرأة
قال طاعة الزوج الحديث وفيه القاسم بن فياض وثقه أبو داود وضعفه ابن معين وباقي
رجاله ثقات // وكقوله صلى الله عليه و سلم شارب الخمر كعابد الوثن // حديث شارب
الخمر كعابد الوثن أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ مدمن الخمر ورواه بلفظ
شارب الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن عمر وكلاهما ضعيف وقال ابن عدي إن
حديث أبي هريرة أخطأ فيه محمد بن سليمان بن الأصبهاني // وأبدا المشبه به ينبغي أن
يكون أعلى رتبة فكذلك قوله صلى الله عليه و سلم الصبر نصف الإيمان لا يدل على أن
الشكر مثله وهو كقوله صلى الله عليه و سلم الصوم نصف الصبر فإن كل ما ينقسم قسمين
يسمى أحدهما نصفا وإن كان بينهما تفاوت كما يقال الإيمان هو العلم والعمل فالعمل
هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود
عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه
// حديث آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولا
الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث معاذ بن جبل
يدخل الأنبياء كلهم قبل داود وسليمان الجنة بأربعين عاما وقال لم يروه إلا شعيب بن
خالد وهو كوفي ثقة وروى البزار من حديث أنس أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد
الرحمن بن عوف وفيه أغلب بن تميم ضعيف // وفي خبر آخر يدخل سليمان بعد الأنبياء
بأربعين خريفا // حديث يدخل سليمان عبد الأنبياء بأربعين خريفا تقدم حديث معاذ
قبله ورواه أبو منصوزر الديلمى في مسند الفردوس من رواية دينار عن أنس بن مالك
ودينار الحبشي أحد الكذاببين على أنس والحديث منكر // وفي الخبر أبواب الجنة كلها
مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء أمامهم أيوب عليه
السلام // حديث أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه باب واحد الحديث لم
أجد له أصلا ولا في الأحاديث الواردة في مصاريع أبواب الجنة تفرقة فروى مسلم من
حديث أنس في الشفاعة والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة
لكما بين مكة وبصرى وفي الصحيحين في خطبة عتبة بن غزوان ولقد ذكرنا أن ما بين
المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام
وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال الفقير والشكر حال
الغنى فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه
صلاح دينهم
المقام الثاني هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والإستبصار بحقائق الأمور
بطريق الكشف
والإيضاح
فنقول فيه كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن
حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة
والجملة بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان
والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين لحكمهما في الرجحان والنقصان مع
الإجمال فنقول قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة علوم وأحوال وأعمال
والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهى الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح
للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال والأحوال تراد للأعمال والأعمال هي
الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال
والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره
فذلك الغير لا محالة أفضل منه وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد
تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا
آحاد المعارف وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة بل علوم
المعاملة دون المعاملة لأنها تراد المعاملة ففائدتها إصلاح العمل وإنما فضل العالم
بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص أفضل
وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول فائدة إصلاح العمل
إصلاح حال القلب وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته
وصفاته وأفعاله فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهى الغاية التي تطلب
لذاتها فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا
بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها
فلا تتقيد بغيرها
وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها
ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى
فإن بعض المعارف يفضى إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة فكما كانت الوسائط بينه
وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعنى بها أحوال القلب في تصفيته
وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذن
فضائل الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم
المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها
أقرب إلى الصقالة من بعض فكذلك أحوال القلب فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء
القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن
تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة
مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه
حالة مهيئة المكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه
واسم الأول المعصية واسم الثاني الطاعة والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب
وقساوته متفاوتة وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها
وذلك يختلف بإختلاف الأحوال وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل
من كل عبادة نافلة وأن الحج أفضل من الصدقة وأن قيام الليل أفضل من غيره ولكن
التحقيق فيه أن الغنى الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج
الدراهم له أفضل من قيام ليال وصيام أيام لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن
فأراد كسرها أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب
بالجوع فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو
مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه فأشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره
وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به بل حقه أن
ينظر في المهلك الذي استولى عليه والشح المطاع من جملة
المهلكات
ولا يزيل صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة منه ذرة بل لا يزيله إلا إخراج المال فعليه
أن يتصدق بما معه وتفصيل هذه مما ذكرناه في ربع المهلكات فليرجع إليه فإذن باعتبار
هذه الأحوال يختلف وعند ذلك يعرف البصير أن الجواب المطلق فيه خطأ إذ لو قال لنا
قائل الخبز أفضل أم الماء لم يكن فيه جواب حق إلا أن الخبز للجائع أفضل والماء
للعطشان أفضل فإن اجتمعا فلينظر إلى الأغلب فإن كان العطش هو الأغلب فالماء أفضل
وإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل فإن تساويا فهما متساويان وكذا إذا قيل السكنجبين
أفضل أم شراب اللينوفر لم يصح الجواب عنه مطلقا أصلا نعم لو قيل لنا السكنجبين
أفضل أم عدم الصفراء فنقول عدم الصفراء لأن السكنجبين مراد له وما يراد لغيره
فلذلك أفضل منه لا محالة فإذن في بذل المال عمل وهو الإنفاق ويحصل به حال وهو زوال
البخل وخروج حب الدنيا من القلب ويتهيأ القلب بسبب خروج حب الدنيا منه لمعرفة الله
تعالى وحبه فالأفضل المعرفة ودونها الحال ودونها العمل
فإن قلت فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها حتى طلب الصدقات بقوله من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا وقال تعالى ويأخذ الصدقات فكيف لا يكون الفعل والإنفاق
هو الأفضل فاعلم أن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء مراد لعينه
أو على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصل به ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ومرض
القلوب مما لا يشعر به غالبا فهو كبرص على وجه من لا مرآة معه فإنه لا يشعر به ولو
ذكر له لا يصدق به
والسبيل معه المبالغة في الثناء على غسل الوجه بماء الورد مثلا إن كان ماء الورد
يزيل البرص حتى يستحثه فرط الثناء على المواظبة عليه فيزول مرضه فإنه لو ذكر له أن
المقصود زوال البرص عن وجهك ربما ترك العلاج وزعم أن وجهه لا عيب فيه
ولنضرب مثلا أقرب من هذا من له ولد علمه العلم والقرآن وأراد أن يثبت ذلك في حفظه
بحيث لا يزول عنه وعلم أنه لو أمره بالتكرار والدراسة ليبقى له محفوظا لقال إنه
محفوظ ولا حاجة بي إلى تكرار ودراسة لأنه يظن أن ما يحفظه في الحال يبقى كذلك أبدا
وكان له عبيد فأمر الولد بتعليم العبيد ووعده على ذلك بالجميل لتتوفر داعيته على
كثرة التكرار بالتعليم فربما يظن الصبي المسكين أن المقصود تعليم العبيد القرآن
وأنه قد استخدم لتعليمهم فيشكل عليه الأمر فيقول ما بالي قد استخدمت لأجل العبيد
وأنا أجل منهم وأعز عند الوالد وأعلم أن أبي لو أراد تعليم العبيد لقدر عليه دون
تكليفي به وأعلم أن لا نقصان لأبي بفقد هؤلاء العبيد فضلا عن عدم علمهم بالقرآن
فربما يتكاسل هذا المسكين فيترك تعليمهم اعتمادا على استغناء أبيه وعلى كرمه في
العفو عنه فينسى العلم والقرآن ويبقى مدبرا محروما من حيث لا يدري وقد انخدع بمثل
هذا الخيال طائفة وسلكوا طريق الإباحة وقالوأ إن الله تعالى غنى عن عبادتنا وعن أن
يستقرض منا فأي معنى لقوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ولو شاء الله إطعام
المساكين لأطعمهم فلا حاجة بنا إلى صرف أموالنا إليهم كما قال تعالى حكاية عن
الكفار وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من
لو يشاء الله أطعمه وقالوا أيضا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا فانظر كيف كانوا
صادقين في كلامهم وكيف هلكوا بصدقهم فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق وإذا شاء أسعد
بالجهل يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين
والفقراء أو جل الله تعالى ثم قالوا لا حظ لنا في المساكين ولا حظ لله فينا وفي
أموالنا سواء أنفقنا أو أمسكنا هلكوا كما هلك الصبي لما ظن أن مقصود الوالد
استخدامه لأجل
العبيد
ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك
سبب سعادته في الدنيا وإنما كان ذلك من الوالد تلطفا به في استجراره إلى ما فيه
سعادته فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل من هذا الطريق فإذن هذا المسكين الآخذ
لمالك يستوفى بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك فإنه مهلك لك فهو
كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك فالحجام خادم لك
لا أنت خادم للحجام
ولا يخرج الحجام عن كونه خادما بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئا بالدم ولما كانت
الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه
و سلم من أخذها وانتهى عنها // حديث النهى عن كسب الحجام تقدم // كما نهى عن كسب
الحجام وسماها أوساخ أموال الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها // حديث امتنع من
الصدقة وسماها أوساخ الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها أخرجه مسلم من حديث عبد
المطلب بن ربيعة أن هذه الصدقة لا تحل لنا إنما هي أوساخ القوم وإنها لا تحل لمحمد
ولا لآل محمد وفي رواية له أوساخ الناس // والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب
كما سبق في ربع المهلكات والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة
فهذا هو القول الكلى والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل
الأعمال والأحوال والمعارف ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول
في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال أو
العمل في الآخر بل يقابل كل واحد منهما بنظيره حتى يظهر التناسب وبعد التناسب يظهر
الفضل ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة إذ معرفة
الشاكر أن يرى نعمة العينين مثلا من الله تعالى
ومعرفة الصابر أن يرى العمى من الله وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن
اعتبرنا في البلاء والمصائب
وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن
الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى
ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى
فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة
باعث الهوى يسمى صبرا بالإضافة إلى باعث الهوى ويسمى شكرا بالإضافة إلى باعث الدين
إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة وهو أن يصرع به باعث الشهوة وقد صرفه إلى
مقصود الحكمة فهما عبارتان عن معنى واحد فكيف يفضل الشىء على نفسه فإذن مجارى
الصبر ثلاثة الطاعة والمعصية والبلاء وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية وأما
البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلا وإما أن
تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال أما العينان فصبر الأعمى
عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في
بعض المعاصي وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين أحدهما أن لا يستعين بهما على
معصية والآخر أن يستعملهما في الطاعة وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر فإن
الأعمى كفى الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها والبصير إذا وقع بصره على جميل
فصبر كان شاكرا لنعمة العينين وإن اتبع النظر كفر نعمة العينين فقد دخل الصبر في
شكره وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضا فيه من صبر على الطاعة ثم
قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه
وتعالى فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلا
وقد كان ضريرا من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء لأنه صبر
على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلا ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان
الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جدا
لأن
كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين وشكرها
بإستعمالها فما هي آلة فيه من الدين وذلك لا يكون إلا بصبر وأما ما يقع في محل
الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج
إلى ما وراءه ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر ووجود الزيادة نعمة وشكرها أن
تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو
صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل لأنه تضمن الصبر أيضا وفيه فرح بنعمة الله تعالى وفيه
احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح وكان الحاصل يرجع إلى
أن شيئين أفضل من شيء واحد وأن الجملة أعلى رتبة من البعض وهذا فيه خلل إذ لاتصح
الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها وأما إذا كان شكره بأن لا يستعيين به على معصية
بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر والفقير الصابر أفضل من
الغنى الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغنى الصارف ماله إلى الخيرات
لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى وهذه الحالة
تستدعي لا محالة قوة والغنى أتبع نهمته وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح والمباح
فيه مندوحة عن الحرام ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضا إلا أن القوة
التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الإقتصار في
التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها فإن الأعمال لا تراد
إلا الأحوال القلوب وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان فما دل
على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على
أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى
أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول
الإنسان الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية لا أن يصرفها إلى الطاعة فإذن
الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة
وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما
أفضل فقال ليس مدح الغنى بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الإثنين
قيامهما بشروط ما عليهما فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها
وتلذذها والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها فإذا كان
الإثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالا ممن
متع صفته ونعمها
والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي
ذكرناه وهو لم يرد سواه
ويقال كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال الغنى الشاكر أفضل من الفقير
الصابر فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله
وزوال عقله أربع عشرة سنة فكان يقول دعوة الجنيد أصابتني ورجع إلى تفضيل الفقير
الصابر على الغنى الشاكر
ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجها في بعض
الأحوال فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر
وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر
الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين
والمساكين وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه
وصيت ولا لتقليد منه بل أداء الحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير
الصابر
فإن
قلت فهذا لا يثقل على النفس والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة
وذاك يستشعر ألم الصبر فإن كان متألما بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على
الإنفاق فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالا ممن ينفقه
وهو بخيل به وإنما يقتطعه عن نفسه قهرا
وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة فإيلام النفس ليس مطلوبا لعينه بل
لتأديبها وذلك يضاهى ضرب كلب الصيد والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى
الضرب وإن كان صابرا على الضرب ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية ولا
يحتاج إليهما في النهاية بل النهاية أن يصير ما كان مؤلما في حقه لذيذا عنده كما
يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذا وقد كان مؤلما له أولا ولكن لما كان الناس
كلهم إلا الأقلين في البداية بل قبل البداية بكثير كالصبيان أطلق الجنيد القول بأن
الذي يؤلم صفته أفضل وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق فإذن إذا كنت لا
تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح
بالمعنى السابق إلى الأفهام فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك
الشكوى مع الكراهية ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر ووراءه الشكر على
البلاء وهو وراء الرضا إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح
والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها
ويدخل في جملتها أمور دونها فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ومعرفته
بتقصيره عن الشكر شكر والإعتذار من قلة الشكر شكر والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف
ستره شكر والإعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر والعلم بأن
الشكر أيضا نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر
وشكر الوسائط شكر إذ قال عليه السلام من لم يشكر الناس لم يشكر الله // حديث من لم
يشكر الناس لم يشكر الله تقدم في الزكاة // وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار
الزكاة وقلة الإعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر وتلقى النعم بحسن القبول
واستعظام صغيرها شكر
وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها وهي درجات
مختلفة فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص
باللفظ العام كما ورد في الأخبار والآثار
وقد روى عن بعضهم أنه قال رأيت في بعض الأسفار شيخا كبيرا قد طعن في السن فسألته
عن حاله فقال إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي كذلك كانت تهواني فاتفق
أنها زوجت مني فليلة زفافها قلت تعالى حتى نحيى هذه الليلة شكرا لله تعالى على ما
جمعنا فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا
مثل ذلك فصلينا طول الليل فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة
أليس كذلك يا فلانة قالت العجوز هو كما يقول الشيخ فانظر إليهما لو صبرا على بلاء
الفرقة أو لو لم يجمع الله بينهما وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه
فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل فإذن لا وقوف على حقائق المفضلات إلا بتفضيل كما
سبق والله أعلم
كتاب
الخوف والرجاء وهو كتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحمن
الحمد لله المرجو لطفه وثوابه المخوف مكره وعقابه الذى عمر قلوب أوليائه بروح
رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول بفنائه والعدول عن دار بلائه التى هي
مستقر أعدائه وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار
ثوابه وكرامته وصدهم عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته قودا لأصناف الخلق
بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته والصلاة والسلام على محمد سيد
أنبيائه وخير خليقته وعلى آله وأصحابه وعترته
أما بعد فإن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ومطيتان
بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كسود فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع
كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء مجفوفا بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إلا
أزمة الرجاء ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفا بلطائف الشهوات
وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذن من بيان حقيقتهما
وفضيلتهما وسبيل التوصيل إلى الجمع بينها مع تضادهما وتعاندهما ونحن نجمع ذكرهما
في كتاب واحد يشمل على شطرين الشطر الأول في الرجاء والشطر الثانى في الخوف
أما الشطر الأول فيشتمل على
بيان حقيقة الرجاء
وبيان فضيلة الرجاء وبيان دواء الرجاء والطرق الذى يجتلب به الرجاء بيان حقيقة
الرجاء
أعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين وإنما يسمى الوصف مقاما
إذا ثبت وأقام وإنما يسمى حالا إذا كان عارضا سريع الزوال وكما أن الصفرة تنقسم
إلى ثابتة كصفرة الذهب وإلى سريعةالزوال كصفرة الوجل وإلى ما هو بينهما كصفرة
المريض فكذلك صفات القلب تنقسم هذه الأقسام فالذى هو غير ثابت يسمى حالا لأنه يحول
على القرب وهذا جار في كل وصف من أوصاف القلب وغرضنا الآن حقيقة الرجاء فالرجاء
أيضا يتم من حال وعلم وعمل فالعلم سبب يثمر الحال والحال يقتضى العمل وكان الرجاء
اسما من جملة الثلاثة وبيانه أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في
الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى
سمى ذكرا وتذكرا وإن كان من خطر بقلبك موجودا في الحال سمى وجدا وذوقا وإدراكا
وإنما سمى وجدا لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شىء في
الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمى انتظار وتوقعا فإن كان المنظر مكروها حصل منه ألم
في القلب سمى خوفا وإشفاقا وإن كان محبوبا حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار
وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح سمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب
لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك
المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انظارا مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتقاء فاسم التمنى أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذا لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبدر فيه والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقه الماء إليها والقلب المستهتر في الدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التى لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر السبخة التى لا ينمو إيمان مع خبث القلب وسوء أخلافه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر او يفسده ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمى انتظاره رجاء وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر اصلا ثم انتظر الحصاد منه سمى انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا سمى انتظاره تمنيا لا رجاء فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظاره محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الردئية وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة وكان انتظاره رجاء حقيقا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة القيام بمقتضى أسباب الإيمان في إنمام أسباب المغفرة إلى الموت وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور قال صلى الله عليه وآله وسلم الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة وقال تعالى فخلف من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وذم الله تعالى صاحب البستان إذا دخل جنته وقال ما أظن تبيده هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربدى لأجدن خيرا منها منقلبا فإذا العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصى حقيق بإن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة وأما العاصى فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة وأما قبل التوبة إذا كان كارها للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهى التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو منا لله التوفيق للتوبة لأن كراهيتة للمعصية وحؤصه على التوبة يجرى مجرى السبب الذى قد يفضى إلى التوبة وإما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله معناه أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود
الرجاء
لأن غيرهم أيضا قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فأما من ينهمك فيما يكرهه
الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق
كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقى ولا تنقية
قال يحيى بن معاذ من أعظم الإغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير
ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة وانتظار زرع الجنة ببذر النار وطلب دار
المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز و جل مع الإفراط
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر
الأسباب وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان فإن من حسن
بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض
وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد وهذا
لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء
معوز وأن البذر لا ينبت فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها والرجاء محمود
لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو
رفيق له كما سيأتي بيانه بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق
الرغبة فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما
تقلبت الأحوال ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته
والتلطف في التملق له فإن هذه الأحوال لابد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من
الملوك أو شخصا من الأشخاص فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى فإن كان لا يظهر
فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمنى فهذا هو
البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل ويدل على إثماره
لهذه الأعمال حديث زيد الخيل إذ قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم جئت لأسألك عن
علامة الله فيمن لا يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال كيف أصبحت قال أصحبت أحب الخير
وأهله وإذا قدرت على شىء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني منه شيىء حزنت
عليه وحننت إليه
فقال هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالى في أي
أوديتها هلكت فقد ذكر صلى الله عليه و سلم علامة من أريد به الخير فمن ارتجى أن
يكون مرادا بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور // حديث قال زيد الخيل جئت
لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد الحديث أخرجه الطبراني في
الكبير من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وفيه أنه قال أنت زيد الخير وكذا قال ابن أبي
حاتم سماه النبي صلى الله عليه و سلم زيد الخير يروى عنه حديث وذكره في حديث يروى
فقال زيد الخير فقال يا رسول الله الحديث سمعت أبي يقول ذلك
بيان فضيلة الرجاء والترغيب فيه
اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف لأن أقرب العباد إلى الله تعالى
أحبهم له والحب يغلب الرجاء واعتبر ذلك بملكين يخدم أحداهما خوفا من عقابه والآخر
رجاء لثوابه ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما في وقت الموت قال تعالى
لا تقنطوا من رحمة الله فحرم أصل اليأس وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى
أوحى إليه
أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف لأنك قلت أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم
خفت الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظى له
وقال صلى الله عليه و سلم
لا
يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله تعالى // حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن
بالله أخرجه مسلم من حديث جابر // وقال صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل أنا
عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء // حديث أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء أخرجه
ابن حيان من حديث وائلة بن الأسقع وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة دون قوله
فليظن بي ما شاء //
ودخل صلى الله عليه و سلم على رجل وهو في النزع فقال كيف تجدك فقال أجدني أخاف
ذنوبي وأرجو رحمة ربي
فقال صلى الله عليه و سلم ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما
رجا وأمنه مما يخاف // حديث دخل صلى الله عليه و سلم على رجل وهو في النزع فقال
كيف تجدك الحديث رواه الترمذي وقال غريب والنسائي في الكبرى وابن ماجه من حديث أنس
وقال النووي إسناده جيد // وقال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط
لكثرة ذنوبه يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك
وقال سفيان من أذنب ذنبا فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجاء غفرانه غفر الله له
ذنبه قال لأن الله عز و جل عير قوما فقال وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وقال
تعالى وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وقال صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى
يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإن لقنه الله حجته قال
يا رب رجوتك وخفت الناس قال فيقول الله تعالى قد غفرته لك // حديث إن الله يقول
للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث
أبي سعيد الخدري بإسناد جيد وقد تقدم في الأمر بالمعروف // وفي الخبر الصحيح أن
رجلا كان يداين الناس فيسامح الغنى ويتجاوز عن المعسر فلقي الله ولم يعمل خيرا قط
فقال الله عز و جل من أحق بذلك منا // حديث إن رجلا كان يداين الناس فيسامح الغني
ويتجاوز عن المعسر الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود حوسب رجل ممن كان قبلكم
فلو يوجد له من الخير شيى إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن
يتجاوزوا عن المعسر قال الله عز و جل نحن أحق بذلك تجاوزوا عنه واتفقا عليه من
حديث حذيفة وأبي هريرة بنحوه // فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه
عن الطاعات وقال تعالى إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم
سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ولما قال صلى الله عليه و سلم لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدروكم وتجارون إلى ربكم
فهبط جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول لك لم تقنط عبادي فخرج عليهم ورجاهم
وشوقهم // حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا الحديث وفيه فهبط
جبريل الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة فأوله متفق عليه من حديث
أنس ورواه بزيادة ولخرجتم إلى الصعدات أخرجه أحمد والحاكم وقد تقدم //
وفي الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني وحببني
إلى خلقي فقال يا رب كيف أحببك إلى خلقك اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني
وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل // حديث إن الله تعالى أوحى إلى عبده
داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني الحديث لم أجد له أصلا وكأنه من الإسرائيليات
كالذي قبله // ورئى أبان بن أبي عياش في النوم وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال
أوقفني الله تعالى بين يديه فقال ما الذي حملك على ذلك فقلت أردت أن أحببك إلى
خلقك فقال قد غفرت لك
ورئى يحيى بن أكثم بعد موته في النوم فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني الله بين
يديه وقال يا شيخ السوء فعلت وفعلت وقال فأخذني من الرعب ما يعلم الله ثم قلت يا
رب ما هكذا حدثت عنك فقال وما حدثت عني فقلت حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
عن أنس عن نبيك صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام أنك قلت أنا عند ظن عبدي
بي فليظن بي ما شاء وكنت أظن بك أن لا تعذبني فقال الله عز و جل صدق جبريل وصدق
نبيى وصدق أنس وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت قال فألبست ومشى بين
يدى
الولدان إلى الجنة فقلت يا لها من فرحة
وفي الخبر أن رجلا من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم قال فيقل له الله
تعالى يوم القيامة اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها // حديث إن رجلا
من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم الحديث رواه البيهقي في الشعب عن زيد
بن أسلم فذكره مقطوعا // وقال صلى الله عليه و سلم إن رجلا يدخل النار فيمكث فيها
ألف سنة ينادي يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل اذهب فائتني بعبدي قال
فيجىء به فيوقفه على ربه فيقول الله تعالى كيف وجدت مكانك فيقول شر مكان قال فيقول
رذوه إلى مكانه قال فيمشى ويلتفت إلى ورائه فيقول الله عز و جل إلى أي شىء تلتفت
فيقول لقد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها فيقول الله تعالى اذهبوا
به إلى الجنة // حديث إن رجلا يدخل النار فينكث فيها ألف سنة ينادى يا حنان يا
منان الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله والبيهقي في الشعب وضعفه
من حديث أنس // فدل هذا على أن رجاءه كان سبب نجاته نسأل الله حسن التوفيق بلطفه
وكرمه
بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب
اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة
وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذان
رجلان مائلان عن الإعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى
الإعتدال فأما العاصي المغرور المتمنى على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام
المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء
لمن غلب عليه البرد وهم سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه
إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفا ناظرا
إلى مواقع العلل معالجا لكل علة بما يضادها لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل
والقصد في الصفات والأخلاق كلها وخير الأمور أوساطها فإذا جاوز الوسط إلى أحد
الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط وهذا الزمان زمان
لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضا تكاد
أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب فأما ذكر أسباب الرجاء فيهلكهم ويرديهم بالكلية
ولكنها لما كانت أخف على القلوب وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة
القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد
فسادا وازداد المنهمكون في طغيانهم تماديا
قال علي كرم الله وجهه إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا
يؤمنهم من مكر الله
ونحن نذكر اساب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداء بكتاب
الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء
جميعا لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ليستعمله العلماء الذين هم
ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن
كل شيى من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان
وحال الرجاء يغلب بشيئين أحدهما الإعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار
أما الإعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا
علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة
الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام
الوجود
كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظفار وما هو زينة له كاستقواس
الحاجبين وإختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده
غرض مقصود وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في
أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة
والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد بل إذا نظر الإنسان نظرا شافيا علم أن
أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا حتى إنه يكره الإنتقال من الدنيا
بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبدا مثلا أولا يحشر أصلا فليست كراهتهم
للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا
يتمناه إلا في حال نادرة وواقعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا
الغالب عليه الخير والسلامة فسنة الله لا تجد لها تبديلا فالغالب أن أمر الآخرة
هكذا يكون لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم
فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوى به أسباب الرجاء ومن الإعتبار أيضا النظر في حكمة
الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها حتى كان بعض العارفين يرى
آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء
فقيل له وما فيها من الرجاء فقال الدنيا كلها قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين
قليل عن رزقه فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدى عبده إلى طريق
الإحتياط في حفظ دينه فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه
الفن الثاني استقراء الآيات والأخبار فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر أما الآيات
فقد قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن
الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه و
سلم ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم // حديث قرأ قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي أخرجه الترمذي
من حديث أسماء بنت يزيد وقال حسن غريب // وقال تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم
ويستغفرون لمن في الأرض وأخبر تعالى أن النار أعدها لإعدائه وإنما خوف بها أولياءه
فقال لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده وقال تعالى
واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا
الأشقى الذي كذب وتولى وقال عز و جل وإن ربك لذوا مغفرة للناس على ظلمهم ويقال إن
النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزلت
عليك هذه الآية وإن ربك لذو مغفرة للناس ظلمهم // حديث إن النبي صلى الله عليه و
سلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزل عليك وإن ربك لذو مغفرة
للناس على ظلمهم لم أجده بهذا اللفظ وروى ابن أبي حاتم والثعلبي في تفسيرهما من
رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش الحديث //
وفي تفسير قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال لا يرضى محمد وواحد من أمته في
النار وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب
الله عز و جل قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
الآية ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى ولسوف يعطيك
ربك فترضى وأما الأخبار فقد روى أبو موسى عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال أمتي
أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة عجل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن
فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب فقيل هذا فداؤك من
النار // حديث أبي موسى أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها عجل الله عقابها في الدنيا
الزلازل والفتن الحديث أخرجه أبو داود دون قوله فإذا كان يوم القيامة الخ فرواها
ابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف وفي صحيحه من حديث أبي موسى كما سيأتي ذكره في
الحديث الذي يليه //
وفي
لفظ آخر يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول هذا فدائي من
النار فيلقى فيها // حديث يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم
الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي موسى إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم
يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار وفي رواية له لا يموت رجل مسلم إلا
أدخل الله مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا // وقال صلى الله عليه و سلم الحمى من
فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار // حديث الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من
النار أخرجه أحمد من رواية أبي صالح الأشعري عن أبي أمامة وأبو صالح لا يعرف ولا
يعرف اسمه // وروى في تفسير قوله تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه
أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم إني أجعل حساب أمتك إليك
قال لا يارب أنت أرحم بهم مني فقال إذن لا نخزيك فيهم // حديث إن الله أوحى إلى
نبيه صلى الله عليه و سلم إني أجعل حساب أمتك إليك فقال لا يارب أنت خير لهم مني
الحديث في تفسير قوله تعالى يوم لا يخزى الله النبي أخرجه ابن ابي الدنيا في كتاب
حسن الظن بالله //
وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل ربه في ذنوب أمته فقال يا رب
اجعل حسابهم إلى لئلا يطلع على مساويهم غيري فأوحى الله تعالى إليه هم أمتك وهم
عبادي وأنا أرحم بهم منك ولا أجعل حسابهم إلى غيري لئلا تنظر إلى مساويهم أنت ولا
غيرك // حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم سأل ربه في ذبوب أمته فقال يا رب اجعل
حسابهم إلى الحديث لم أقف له على أصل //
وقال صلى الله عليه و سلم حياتي خير لكم وموتي خيرك لكم أما حياتي فأسن لكم السنن
وأشرع لكم الشرائع وأما موتي فإن أعمالكم تعرض على فما رأيت منها حسنا حمدت الله
عليه وما رأيت منها سيئا استغفرت الله تعالى لكم // حديث حياتي خير لكم وموتي خير
لكم الحديث أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد
المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد
ضعفه كثيرون ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف //
وقال صلى الله عليه و سلم يوما يا كريم العفو فقال جبريل عليه السلام أتدري ما
تفسير يا كريم العفو هو إن عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه // حديث قال
صلى الله عليه و سلم يوما يا كريم العفو فقال جبريل أتدري ما تفسير يا كريم العفو
الحديث لم أجده عن النبي صلى الله عليه و سلم والموجود أن هذا كان بين إبراهيم
الخليل وبين جبريل هكذا رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة من قول عتبة بن الوليد
ورواه البيهقي في الشعب من رواية عتبة بن الوليد قال حدثني بعض الزهاد فذكره //
وسمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال هل
تدري ما تمام النعمة قال لا قال دخول الجنة // حديث سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك
تمام النعمة الحديث تقدم //
قال العلماء قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وفي الخبر إذا أذنب العبد ذنبا فاستغفر الله يقول
الله عز و جل لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنوب
ويأخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له // حديث إذا أذنب العبد فاستغفر يقول الله
تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب الحديث متفق
عليه من حديث أبي هريرة بلفظ إن عبدا أصاب ذنبا فقال أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي
الحديث وفي رواية أذنب عبد ذنبا فقال الحديث // وفي الخبر لو أذنب العبد حتى تبلغ
ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني // حديث لو أذنب العبد حتى تبلغ
ذنوبه عنان السماء الحديث أخرجه الترمذي من حديث أنس يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك
عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وقال حسن // وفي الخبر لو لقيني عبد بقراب الأرض
ذنوبا لقيته بقراب الأرض مغفرة // حديث لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوبا لقيته
بقرابها مغفرة أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي
شيئا لقيته بمثلها مغفرة وللترمذي من حديث أنس الذي قبله يا ابن آدم لو لقيتني
الحديث // وفي الحديث إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب
واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة // حديث إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا
أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه الحديث قال وفي لفظ آخر فإذا كتبها
عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى
ألقى من حسناته واحدة من تضيف العشر الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي
أمامة بسند فيه لين باللفظ الأول ورواه أيضا أطول منه وفيه إن صاحب اليمين أمير
على صاحب الشمال وليس فيه أنه يأمر صاحب الشمال بإلقاء السيئة حتى يلقي من حسناته
واحدة لم أجد لذلك أصلا // وفي لفظ آخر فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين
لصاحب
الشمال
وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى ألقي من حسناته واحدة تضعيف العشر وأرفع له تسع
حسنات فتلقى عنه السيئة وروى أنس في حديث أنه صلى الله عليه و سلم قال إذا أذنب
العبد ذنبا كتب عليه فقال أعرابي وإن تاب عنه قال محى عنه قال فإن عاد قال النبي
صلى الله عليه و سلم يكتب عليه قال الأعرابي فإن تاب قال محى من صحيفته قال إلى
متى قال إلى أن يستغفر ويتوب إلى الله عز و جل إن الله لا يمل من المغفرة حتى يمل
العبد من الإستغفار فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين قبل أن يعملها فإن
عملها كتبت عشر حسنات ثم يضاعفها الله سبحانه وتعالى إلى سبعمائة ضعف وإذا هم
بخطيئة لم تكتب عليه فإذا عملها كتبت خطيئة واحدة ووراءها حسن عفو الله عز و جل //
حديث أنس إذا أذنب العبد ذنبا كتب عليه فقال أعرابي فإن تاب عنه قال محى عنه قال
فإن عاد الحديث وفيه إن الله لا يمل من التوبة حتى يمل العبد من الإستغفار الحديث
أخرجه البيهقي في الشعب بلفظ فقال يا رسول الله إني أذنبت ذنبا قال استغفر ربك قال
فاستغفر ثم أعود قال فإذا عدت فاستغفر ربك ثلاث مرات أو أربعا قال فاستغفر ربك حتى
يكون الشيطان هو المسجور المحسور وفيه أبو بدر يسار بن الحكم المصري منكر الحديث
وروى أيضا من حديث عقبة بن عامر أحدنا يذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر ويتوب قال
يغفر له ويتاب عليه قال فيعود الحديث وفيه لا يمل الله حتى تملوا وليس في الحديثين
قوله في آخره فإذا هم العبد بحسنة الخ وهو في الصحيحين بنحوه من حديث ابن عباس عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها
الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة
ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم
بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد مسلم في رواية أو محاها الله ولا يهلك على
الله إلا هالك ولهما نحوه من حديث أبي هريرة //
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر
لا أزيد عليه ولا أصلى إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا
تطوع أين أنا إذا مت فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال نعم معي إذا حفظت
قلبك من اثنتين الغل والحسد ولسانك من اثنتين الغيبة والكذب وعينيك من اثنتين
النظر إلى ما حرم الله وأن تزدري بهما مسلما دخلت معي الجنة على راحتي هاتين //
حديث جاء رجل فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا
الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع الحديث تقدم // وفي
الحديث الطويل لأنس أن الأعرابي قال يا رسول الله من يلي حساب الخلق فقال الله
تبارك وتعالى قال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي فقال صلى الله عليه و سلم مم
ضحكت يا أعرابي فقال إن الكريم إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح فقال النبي صلى الله
عليه و سلم صدق الأعربي ألا لا كريم أكرم من الله تعالى هو أكرم الأكرمين ثم قال
فقه الأعرابي // حديث أنس الطويل قال أعرابي يا رسول الله من يلي حساب الخلق قال
الله تبارك وتعالى فقال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي الحديث لم أجد له أصلا //
وفيه أيضا إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبدا هدمها حجرا حجرا ثم أحرقها
ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله تعالى قال الأعرابي ومن أولياء الله
تعالى قال المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى أما سمعت قول الله عز و جل الله ولي
الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي بعض الاخبار المؤمن أفضل من الكعبة
// حديث المؤمن أفضل من الكعبة أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ ما أعظمك
وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم حرمة منك ماله ودمه وأن يظن به إلا
خيرا وشيخه نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان وقد تقدم
//
و
المؤمن طيب طاهر // حديث المؤمن طيب طاهر لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين من حديث
حذيفة المؤمن لا ينجس // و المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة // حديث المؤمن
أكرم على الله من الملائكة أخرجه ابن ماجه من رواية أبي المهزم يزيد بن سفيان عن
أبي هريرة بلفظ المؤمن أكرم على الله من بعض الملائكة وأبو المهزم تركه شعبة وضعفه
ابن معين ورواه ابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ المصنف
// وفي الخبر خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطا يسوق به عباده إلى الجنة //
حديث خلق الله من فضل رحمته سوطا يسوق به عباده إلى الجنة لم أجده هكذا ويغنى عنه
ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عجب ربنا من قوم يجاء بهم إلى الجنة في السلاسل
//
وفي خبر آخر يقول الله عز و جل إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح
عليهم // حديث قال الله إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم لم
أقف له على أصل // وفي حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما
خلق الله تعالى شيئا إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه // حديث أبي سعيد
ما خلق الله شيئا إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه أخرجه أبو الشيخ ابن
حبان في الثواب وفيه عبد الرحمن بن كردم جهله أبو حاتم وقال صاحب الميزان ليس بواه
ولا بمجهول // وفي الخبر المشهور إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة قبل أن يخلق
الخلق إن رحمتي تغلب غضبي // حديث إن الله كتب على نفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق
إن رحمتي تغلب غضبي متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم // وعن معاذ بن جبل وأنس
بن مالك أنه صلى الله عليه و سلم قال من قال لا إله إلا الله دخل الجنة // حديث
معاذ وأنس من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أخرجه الطبراني في الدعاء بلفظ من مات
يشهد وتقدم من حديث معاذ وهو في اليوم والليلة للنسائي بلفظ من مات يشهد وقد تقدم
من حديث معاذ ومن حديث أنس أيضا وتقدم في الأذكار //
و من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تسمه النار // حديث من كان آخر كلامه لا
إله إلا الله لم تمسه النار أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث معاذ بلفظ دخل
الجنة // و من لقي الله لا يشرك به شيئا حرمت عليه النار // حديث من لقي الله لا
يشرك به شيئا حرمت عليه النار أخرجه الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم
قال لمعاذ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله
على النار وزاد البخاري صادقا من قلبه وفي رواية له من لقي الله لا يشرك به شيئا
دخل الجنة ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ جعله الله في الجنة وللنسائي من حديث أبي
عمرة الأنصاري في أثناء حديث فقال أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أني رسول الله لا
يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجب عن النار يوم القيامة //
و لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان // حديث لا يدخلها من في قلبه وزن ذرة
من إيمان أخرجه أحمد من حديث سهل بن بيضاء من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله
على النار وفيه انقطاع وله من حديث عثمان بن عفان إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد
حقا من قلبه إلا حرم على النار قال عمر بن الخطاب هي كلمة الإخلاص وإسناده صحيح
ولكن هذا ونحوه شاذ مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من دخول جماعة من الموحدين
النار وإخراجهم بالشفاعة نعم لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان كما هو
متفق عليه من حديث أبي سعيد وفيه فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه
وقال مسلم من خير بدل من إيمان // وفي خبر آخر لو علم الكافر سعة رحمة الله ما آيس
من جنته أحد // حديث لو علم الكافر سعة رحمة الله ما أيس من جنته أحد متفق عليه من
حديث أبي هريرة // ولما تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله تعالى إن زلزلة
الساعة شيء عظيم قال أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقال لآدم عليه الصلاة و السلام قم
فابعث بعث النار من ذريتك فيقول كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى
النار وواحد إلى الجنة قال فأبلس القوم وجعلوا يبكون وتعطلوا يومهم عن الإشتغال
والعمل فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ما لكم لا تعملون فقالوا
ومن يشتغل بعمل بعد ما حدثتنا بهذا فقال كم أنتم في الأمم أين تأويل وثاريث ومنسك
ويأجوج ومأجوج أمم لا يحصيها إلا الله تعالى إنما أنتم في سائر الأمم كالشعرة
البيضاء في جلد الثور الأسود وكالرقمة في ذراع الدابة // حديث لما تلا إن زلزلة
الساعة شيء عظيم قال أتدرون أي يوم هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث عمران بن
حصين وقال حسن صحيح قلت هو من رواية الحسن البصري عن عمران ولم يسمع منه وفي
الصحيحين نحوه من حديث أبي سعيد // فانظر كيف كان الخوف يسوق الخلق بسياط الخوف
ويقودهم بأزمة
الرجاء
إلى الله تعالى إذ ساقهم بسياط الخوف أولا فلما خرج ذلك بهم عن حد الإعتدال إلى
إفراط اليأس داواهم بدواء الرجاء وردهم إلى الإعتدال والقصد والآخر لم يكن مناقضا
للأول ولكن ذكر في الأول ما رآه سببا للشفاء واقتصر عليه فلما احتاجوا إلى
المعالجة بالرجاء
ذكر تمام الأمر فعلى الواعظ أن يقتدي بسيد الوعاظ فيتلطف في استعمال أخبار الخوف
والرجاء بحسب الحاجة بعد ملاحظة العلل الباطنة وإن لم يراع ذلك كان ما يفسد بوعظه
أكثر مما يصلح وفي الخبر لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم // حديث لو
لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم وفي لفظ لذهب بكم الحديث أخرجه مسلم من
حديث أبي أيوب واللفظ الثاني من حديث أبي هريرة قريبا منه // وفي لفظ آخر لذهب بكم
وجاء بخلق يذنبون فيغفر لهم إنه هو الغفور الرحيم وفي الخبر لو لم تذنبوا لخشيت
عليكم ما هو شر من الذنوب قيل وما هو قال العجب // حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم
ما هو شر من الذنوب قيل ما هو قال العجب أخرجه البزار وابن حبان في الضعفاء
والبيهقي في الشعب من حديث أنس وتقدم في ذم الكبر والعجب // وقال صلى الله عليه و
سلم والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها // حديث
والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها متفق عليه من
حديث عمر بنحوه // وفي الخبر ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب
أحد حتى إن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه // حديث ليغفرن الله تعالى يوم
القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب أحد الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن
الظن بالله من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف // وفي الخبر إن لله تعالى مائة رحمة
ادخر منها عنده تسعا وتسعين رحمة وأظهر منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم
الخلق فتحن الوالدة على ولدها وتعطف البهيمة على ولدها فإذا كان يوم القيامة ضم
هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات
والأرض قال فلا يهلك على الله يومئذ إلا هالك // حديث إن الله تعالى مائة رحمة
الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة // وفي الخبر ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة
ولا ينجيه من النار قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا ان يتغمدني الله
برحمته // حديث ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة الحديث متفق عليه من حديث أبي
هريرة وقد تقدم // وقال عليه افضل الصلاة والسلام اعملوا وابشروا واعلموا أن أحدا
لن ينجيه عمله // حديث اعملوا وأبشروا واعلموا أن أحدا لن ينجيه عمله تقدم أيضا //
وقال صلى الله عليه و سلم إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها
للمطيعين المتقين بل هي للمتلوثين المخلطين // حديث إني اختبأت شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة لكل نبي دعوة وإني خبأت
دعوتي شفاعة لأمتي ورواه مسلم من حديث أنس وللترمذي من حديثه وصححه وابن ماجه من
حديث جابر شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ولإبن ماجه من حديث أبي موسى ولأحمد من
حديث ابن عمر خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها
أعم وأكفى أترونها للمتقين الحديث وفيه من لم يسم // وقال صلى الله عليه و سلم
بعثت بالحنيفية السمحة السهلة // حديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة أخرجه أحمد من
حديث أبي أمامة بسند ضعيف دون قوله السهلة وله وللطبراني من حديث ابن عباس أحب
الدين إلى الله الحنيفية السمحة وفيه محمد بن إسحاق رواه بالعنعنة // وقال صلى
الله عليه و سلم وعلى كل عبد مصطفى أحب أن يعلم أهل الكتابين أن في ديننا سماحة //
حديث أحب أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة رواه أبو عبيد في غريب الحديث
وأحمد // ويدل على معناه استجابة الله تعالى للمؤمنين في قولهم ولا تحمل علينا
إصرا وقال تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وروى محمد بن الحنفية
عن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لما نزل قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل قال
يا جبريل وما الصفح الجميل قال عليه السلام إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه فقال يا
جبريل فالله تعالى أكرم من أن يعاتب من عفا عنه فبكى جبريل وبكى النبي صلى الله
عليه و سلم فبعث الله تعالى
إليهما
ميكائيل عليه السلام وقال إن ربكما يقرئكما السلام ويقول كيف أعاتب من عفوت عنه
هذا ما لا يشبه كرمى // حديث محمد بن الحنفية عن علي لما نزل قوله تعالى فاصفح
الصفح الجميل قال يا جبريل ما الصفح الجميل قال إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه
الحديث أخرجه ابن مردويه في تفسيره موقوفا على على مختصرا قال الرضا بغير عتاب ولم
يذكر بقية الحديث وفي إسناده نظر // والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن
تحصى
وأما الآثار فقد قال علي كرم الله وجهه من أذنب ذنبا فستره الله عليه في الدنيا
فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة ومن أذنب ذنبا فعوقب عليه في الدنيا فالله
تعالى أعدل من أن يثنى عقوبته على عبده في الآخرة وقال الثوري ما أحب أن يجعل
حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما
وقال بعض السلف المؤمن إذا عصى الله تعالى ستره عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد
عليه
وكتب محمد بن صعب إلى أسود بن سالم بخطه إن العبد إذا كان مسرفا فاعلى نفسه فرفع
يديه يدعو ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته وكذا الثانية والثالثة حتى إذا قال
الرابعة يا ربي قاله الله تعالى حتى متى تحجبون عني صوت عبدي قد علم عبدي أنه ليس
له رب يغفر له الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله
عليه خلا لي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت
يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبدا فهتف بي هاتف من البيت يا إبراهيم أنت تسألني
العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر
وكان الحسن يقول لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السماوات ولكن الله تعالى
قمعه بالذنوب وقال الجنيد رحمه الله تعالى إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين
بالمحسنين
ولقي مالك بن دينار أبانا فقال له إلى كم تحدث الناس بالرخص فقال يا أبا يحيى إني
لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح
وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه وكان من خيار التابعين وهو ممن تكلم بعد الموت قال
لما مات أخي سجى بثوبه والقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعدا وقال
إني لقيت ربي عز و جل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان وإني رأيت الأمر أيسر مما
تظنون فلا تفتروا وأن محمدا صلى الله عليه و سلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم
قال ثم طرح نفسه فكأنها كانت حصاة وقعت في طشت فحملناه ودفناه
وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى فكان أحدهما يسرف على
نفسه وكان الآخر عابدا وكان يعظه ويزجره فكان يقول دعني وربي أبعثت على رقيبا حتى
رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال لا يغفر الله لك
قال فيقول الله تعالى يوم القيامة أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي اذهب أنت
فقد غفرت لك ثم يقول للعابد وأنت فقد أوجبت لك النار
قال فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته // حديث إن رجلين من بني
إسرائيل تواخيا في الله عز و جل فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابدا
الحديث رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد جيد //
وروى أيضا أن لصا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة فمر عليه عيسى عليه
السلام وخلفه عابد من عباد بني إسرائيل من الحواريين فقال اللص في نفسه هذا نبي
الله يمر وإلى جنبه جواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثا قال فنزل فجعل يريد أن يدنو
من الحواري ويزدري نفسه تعظيما للحواري ويقول في نفسه مثلى لا يمشى إلى جنب هذا
العابد
قال وأحس الحواري به فقال في نفسه هذا يمشى إلى جانبي فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه
الصلاة و السلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة
و السلام
قل
لهما ليستأنفا العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما أما الحوارى فقد أحبطت حسناته
لعجبه بنفسه وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه فأخبرهما بذلك وضم
اللص إليه في سياحته وجعله من حواريه
وروى عن مسروق أن نبيا من الأنبياء كان ساجدا فوطىء عنقه بعض العصاة حتى ألزق
الحصى بجبهته قال فرفع النبى عليه الصلاة و السلام رأسه مغضبا فقال اذهب فلن يغفر
الله لك فأوحى الله تعالى إليه تتألى على في عبادي إني قد غفرت له
ويقرب من هذا ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
و سلم كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل عليه قوله تعالى ليس لك من
الأمر شىء الآية فترك الدعاء عليهم وهدى الله تعالى عامة أولئك للإسلام // حديث
ابن عباس كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل قوله تعالى ليس لك من الأمر
شىء فترك الدعاء عليهم الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عمر أنه كان إذا رفع راسه
من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما
يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله عز و جل ليس لك من الأمر شيء
إلى قوله فإنهم ظالمون ورواه الترمذي وسماهم أبا سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن
أمية وزاد فتاب عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم وقال حسن غريب وفي رواية له أربعة نفر
لم يسمهم وقال فهداهم الله للإسلام وقال حسن غريب صحيح //
وروى في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة قال فإذا أدخلا
الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه فيقول يا رب ما كان هذا في الدنيا
بأكثر مني عبادة فرفعته علي في عليين فيقول الله سبحانه إنه كان يسألني في الدنيا
الدرجات العلى وأنت كنت تسألني النجاة من النار فأعطيت كل عبد سؤله وهذا يدل على
أن العبادة على الرجاء أفضل لأن المحبة أغلب على الراجي منها على الخائف فكم من
فرقف في الملوك بين من يخدم اتقاء لعقابه وبين من يخدم إرتجاه لإنعامه وإكرامه
ولذلك أمر الله تعالى بحسن الظن ولذلك قال صلى الله عليه و سلم سلوا الله الدرجات
العلى فإنما تسألون كريما // حديث سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما لم
أجده بهذا اللفظ وللترمذي من حديث ابن مسعود سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن
يسئل وقال هكذا روى حماد بن واقد وليس بالحافظ // وقال إذا سألتم الله فأعظموا
الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء // حديث إذا سألتم
الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شيء أخرجه مسلم
من حديث أبي هريرة إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم
الرغبة فإن الله عز و جل لا يتعاظمه شيء أعطاه والبخاري من حديث أبي هريرة في
أثناء حديث فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ورواه
الترمذي من حديث معاذ وعبادة بن الصامت //
وقال بكر بن سليم الصواف دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا يا
أبا عبد الله كيف تجدك قال لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما
لم يكن لكم في حساب ثم ما برحنا حتى أغمضناه
وقال يحيى بن معاذ في مناجاته يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إليك مع الأعمال
لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف وأجدني في
الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف
وقيل إن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام فقال إن أسلمت أضفتك
فمر المجوسي
فأوحى
الله تعالى إليه يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على
كفره فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه فقال
له المجوسي ما السبب فيما بدا لك فذكر له فقال له المجوسي أهكذا يعاملني ثم قال
أعرض على الإسلام فأسلم
ورأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام وكان يقول بوعيد الأبد
فقال له كيف حالك فقال وجدنا الأمر أهون مما توهمنا
ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف فقال له يا أستاذ
بما نلت هذا فقال بحسن ظني بربي
وحكى أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة
قد قامت وإذا الجبار سبحانه يقول أين العلماء قال فجاءوا ثم قال ماذا عملتم فيما
علمتم قال فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا قال فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد
جوابا غيره فقلت أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه فقال
اذهبوا به فقد غفرت لكم ومات بعد ذلك بثلاث ليال
وقيل كان رجل شريب جمع قوما من ندمائه ودفع إلى غلامه أربعة دراهم وأمره أن يشتري
شيئا من الفواكه للمجلس فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير شيئا
ويقول من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات قال فدفع الغلام إليه الدراهم
فقال منصور ما الذي تريد أن أدعو لك فقال لي سيد أريد أن أتخلص منه فدعا منصور
وقال الأخرى
قال أن يخلف الله على دراهمي فدعا ثم قال الآخرى قال أن يتوب الله على سيدي فدعا
ثم قال الأخرى فقال أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم فدعا منصور فرجع الغلام
فقال له سيده لم أبطأت فقص عليه القصة قال وبما دعا فقال سألت لنفسي العتق فقال له
اذهب فانت حر قال وأيش الثاني قال أن يخلف الله على الدراهم قال لك أربعة آلاف
درهم وايش الثالث قال أن يتوب الله عليك قال تبت إلى الله تعالى قال وأيش الرابع
قال أن يغفر الله لي ولك وللقوم قال هذا الواحد ليس إلى فلما بات تلك الليلة رأى
في المنام كأن قائلا يقول له أنت فعلت ما كان إليك أفترى أني لا أفعل ما إلى قد
غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين
وروى عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي قال رأيت ثلاثة من الرجال وإمرأة يحملون
جنازة قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة وصلينا عليها ودفنا الميت فقلت
للمرأة من كان هذا الميت منك قالت ابني قلت ولم يكن لكم جيران قالت بلى ولكن صغروا
أمره قلت وأيش كان هذا قالت مخنثا قال فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي وأعطيتها دراهم
وحنطة وثيابا قال فرأيت تلك الليلة كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه
ثياب بيض فجعل يتشكرني فقلت من أنت فقال المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي
بإحتقار الناس إياي
وقال إبراهيم الأطروش كنا قعودا ببغداد مع معروف الكرخي على دجلة إذ مر أحداث في
زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون فقالوا لمعروف أما تراهم يعصون الله مجاهرين ادع
الله عليهم فرفع يديه وقال إلهى كما فرحتم في الدنيا ففرحهم في الآخرة فقال القوم
إنما سألناك أن تدعو عليهم فقال إذا
فرحهم
في الآخرة تاب عليهم وكان بعض السلف يقول في دعائه يا رب وأي أهل دهر لم يعصوك ثم
كانت نعمتك عليهم سابغة ورزقك عليهم دارا سبحانك ما أحلمك وعزتك إنك لتعصى ثم تسبغ
النعمة وتدر الرزق حتى كأنك يا ربنا لا تغضب
فهذه هي الأسباب التي بها يجلب روح الرجاء إلى قلوب الخائفين والآيسين فأما الحمقى
المغرورون فلا ينبغي أن يسمعوا شيئا من ذلك بل يسمعون ما سنورده في أسباب الخوف
فإن أكثر الناس لا يصلح إلى على الخوف كالعبد السوء والصبى العرم لا يستقيم إلا
بالسوط والعصا وإظهار الخشونة في الكلام
وأما ضد ذلك فيسد عليهم باب الصلاح في الدين والدنيا الشطر الثاني من الكتاب في
الخوف
وفيه
بيان حقيقة الخوف
وبيان درجاته وبيان أقسام المخاوف وبيان فضيلة الخوف وبيان الأفضل من الخرف
والرجاء وبيان دواء الخوف وبيان معنى سوء الخاتمة وبيان أحوال الخائفين من
الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين رحمة الله عليهم ونسأل الله حسن التوفيق بيان
حقيقة الخوف
اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحتراقه بسبب توقع مكروه في الإستقبال وقد ظهر
هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا
لجمال الحق على الدوام لم يبق له التفات إلى المستقبل فلم يكن له خوف ولا رجاء بل
صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى
رعوناتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد
وقال أيضا إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف وبالجملة
فالمحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما
دوام الشهود غاية المقامات ولكنا الآن إنما نتكلم في أوائل المقامات فنقول حال
الخوف ينتظم أيضا من علم وحال وعمل
أما العلم فهو العلم بالسبب المفضى إلى المكروه وذلك كمن جنى على ملك ثم وقع في
يده فيخاف القتل مثلا ويجوز العفو والإفلات ولكن يكون تألم قلبه بالخوف بحسب قوة
عليه بالأسباب المفضية إلى قتله وهو تفاحش جنايته وكون الملك في نفسه حقودا غضوبا
منتقما وكونه محفوفا بمن يحثه على الإنتقام خاليا عمن يتشفع إليهم في حقه وكان هذا
الخائف عاطلا عن كل وسيلة وحسنة تمحو أثر جنايته عند الملك فالعلم بتظاهر هذه
الأسباب سبب لقوة الخوف وشدة تألم القلب وبحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف وقد
يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف بل عن صفة المخوف كالذي وقع في مخالب
سبع فإنه يخاف السبع لصفة ذات السبع وهي حرصه وسطوته على الإفتراس غالبا وإن كان
إفتراسه بالإختيار وقد يكون من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو
جوار حريق فإن الماء يخاف لأنه بطبعه مجبول علىالسيلان والإعراق وكذا النار على
الإحراق فالعلم بأسباب المكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه وذلك
الإحراق هو الخوف فكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة
صفاته وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع وتارة يكون لكثرة الجناية من
العبد بمقارفة المعاصي وتارة يكون بهما جميعا وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته
بجلال الله تعالى واستغنائه وأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون
فتكون
قوة خوفه فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه ولذلك قال صلى الله عليه و سلم أنا
أخوفكم لله // حديث أنا أخوفكم لله أخرجه البخاري من حديث أنس والله إني لأخشاكم
لله وأتقاكم له وللشيخين من حديث عائشة والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية //
وكذلك قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ثم إذا كملت المعرفة أورثت
جلال الخوف وإحتراق القلب ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن وعلى الجوارج
وعلى الصفات
أما في البدن فبالنحول والصفار والغشية والزعقة والبكاء وقد تنشق به المرارة فيفضى
إلى الموت أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل أو يقوى فيورث القنوط واليأس
وأما في الجوارح فبكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافيا لما فرط وإستعدادا
للمستقبل ولذلك قيل ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب
عليه وقال أبو القاسم الحكيم من خاف شيئا هرب منه ومن خاف الله هرب إليه
وقيل لذي النون متى يكون العبد خائفا قال إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمى
مخافة طول السقام
وأما في الصفات فبأن يقمع الشهوات ويكدر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده
مكروهة كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سما فتحترق الشهوات
بالخوف وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والإستكانة ويفارقه
الكبر والحقد والحسد بل يصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ
لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات
مؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار
لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو
خائف منه لا متسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال
جماعة من الصحابة والتابعين وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف
الذي هو تألم القلب وإحتراقه وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته
وأفعاله وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال وأقل درجات الخوف مما
يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعا
فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم فيكف أيضا عما لا يتيقن تحريمه
ويسمى ذلك تقوى إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقد يحمله على أن يترك
ما لا بأس به مخافة ما به باس وهو الصدق في التقوى فإذا انضم إليه التجرد للخدمة
فصار لا يبنى مالا يسكنه ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه
ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسا من أنفاسه فهو الصدق وصاحبه جدير بأن يسمى صديقا
ويدخل في الصدق التقوى ويدخل في التقوى الورع ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن
الإمتناع عن مقتضى الشهوات خاصة فإذن الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ويتجدد
له بسبب الكف اسم العفة وهو كف عن مقتضى الشهوة وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف
عن كل محظور وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعا ووراءه اسم
الصديق والمقرب وتجرى الرتبة الآخرة مما قبلها مجرى الأخص من الأعم فإذا ذكرت
الأخص فقد ذكرت الكل كما أنك تقول الإنسان إما عربي وإما عجمي والعربي إما قرشي أو
غيره والقرشي إما هاشمي أو غيره والهاشمي إما علوي أو غيره والعلوي إما حسنى أو
حسيني فإذا ذكرت أنه حسنى مثلا فقد وصفته بالجميع وإن وصفته بأنه علوي وصفته بما
هو فوقه مما هو أعم منه فكذلك إذا قلت صديق فقد قلت إنه تقي وورع وعفيف فلا ينبغي
أن تظن أن كثرة هذه الأسامي تدل على معان كثيرة متباينة فيختلط عليك كما اختلط
على
من طلب المعاني من الألفاظ ولم يتبع الألفاظ المعاني فهذه إشارة إلى مجامع معاني
الخوف وما يكتنفه من جانب العلو كالمعرفة الموجبة له ومن جانب السفل كالأعمال الصادرة
منه كفا وإقداما
بيان درجات الخوف وإختلافه في القوة والضعف
اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان
أحمد وهو غلط بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل
لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا
الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله
إفراط وله إعتدال
والمحمود هو الإعتدال والوسط فأما القاصر منه فهو الذي يجرى مجرى رقة النساء يخطر
بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء وتفيض الدموع وكذلك عند مشاهدة سبب
هائل فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر قليل الجدوى
ضعيف النفع وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا فلا
يسوقها إلى المقصد ولا يصلح لرياضتها وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفين والعلماء
ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء والمتسمين بأسمائهم فإنهم أبعد الناس
عن الخوف بل أعني العلماء بالله وبأيامه وأفعاله وذلك مما قد عز وجوده الآن ولذلك
قال الفضيل بن عياض إذا قيل لك هل تخاف الله فاسكت فإنك إن قلت لا كفرت وإن قلت
نعم كذبت وأشار به إلى أن الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات
وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا
وأما المفرط فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الإعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط وهو
مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله
والدهشة وزوال العقل فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل
ولولاه لما كان الخوف كما لا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز
أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره ولو عرف لم يكن خائفا لأن المخوف هو الذي
يتردد فيه
وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور لا يقدر على دفعه فإذن هو محمود بالإضافة إلى نقص
الآدمي وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله
تعالى به وما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس بكمال في ذاته وإنما يصير محمودا بالإضافة
إلى نقص هو أعظم منه كما يكون إحتمال ألم الدواء محمودا لأنه أهون من ألم المرض
والموت فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى
الوله والدهشة وزوال العقل وقد يخرج إلى الموت وكل ذلك مذموم وهو كالضرب الذي يقتل
الصبي والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها وإنما ذكر رسول
الله صلى الله عليه و سلم أسباب الرجاء وأكثر منها ليعالج به صدمة الخوف المفرط
المفضى إلى القنوط أو أحد هذه الأمور فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضى إلى
المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع
والتقوى والمجاهدة والعبادة والفكر والذكر وسائر الأسباب الموصلة إلى الله تعالى
وكل ذلك يستدعى الحياة مع صحة البدن وسلامة العقل فكل ما يقدح في هذه الأسباب فهو
مذموم
فإن قلت من خاف فمات من خوفه فهو شهيد فكيف يكون حاله مذموما فاعلم أن معنى كونه
شهيدا أن له رتبة بسبب موته من الخوف كان لا ينالها لو مات في ذلك الوقت لا بسبب
الخوف فهو بالإضافة إليه فضيلة فأما بالإضافة إلى تقدير بقائه وطول عمره في طاعة
الله وسلوك سبله فليس بفضيلة بل للسالك إلى الله تعالى بطريق
الفكر
والمجاهدة والترقي في درجات المعارف في كل لحظة رتبة شهيد وشهداء ولولا هذا لكانت
رتبة صبي يقتل أو مجنون يفترسه سبع أعلى من رتبة نبي أو ولي يموت حتف أنفه وهو
محال فلا ينبغي أن يظن هذا بل أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى فكل ما
أبطل العمر أو العقل أو الصحة التي يتعطل العمر بتعطيلها فهو خسران ونقصان
بالإضافة إلى أمور وإن كان بعض أقسامها فضيلة بالإضافة إلى أمور أخر كما كانت
الشهادة فضيلة بالإضافة إلى ما دونها لا بالإضافة إلى درجة المتقين والصديقين فإذن
الخوف إن لم يؤثر في العمل فوجوده كعدمه مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابة
وإن أثر فله درجات بحسب ظهور أثره فإن لم يحمل إلا على العفة وهي الكف عن مقتضى
الشهوات فله درجة فإذا أثمر الورع فهو أعلى وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصديقين
وهو أن يسلب الظاهر والباطن عما سوى الله تعالى حتى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متسع
فهذا أقصى ما يحمد منه وذلك مع بقاء الصحة والعقل فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل
والصحة فهو مرض يجب علاجه إن قدر عليه ولو كان محمودا لما وجب علاجه بأسباب الرجاء
وبغيره حتى يزول ولذلك كان سهل رحمه الله يقول للمريدين الملازمين للجوع أياما
كثيرة احفظوا عقولكم فإنه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل
بيان أقسام الخوف بالإضافة إلى ما يخاف منه
اعلم أن الخوف لا يتحقق إلا بإنتظار مكروه والمكروه أما أن يكون مكروها في ذاته
كالنار وإما أن يكون مكروها لأنه يفضى إلى المكروه كما تكره المعاصي لأدائها إلى
مكروه في الآخرة وكما يكره المريض الفواكه المضرة لأدائها إلى الموت فلا بد لكل
خائف من أن يتمثل في نفسه مكروها من أحد القسمين ويقوى إنتظاره في قلبه حتى يحرق
قلبه بسبب استشعاره ذلك المكروه ومقام الخائفين يختلف فيما يغلب على قلوبهم من
المكروهات المحذورة فالذين يغلب على قلوبهم ما ليس مكروها لذاته بل لغيره كالذين
يغلب عليهم خوف الموت قبل التوبة أو خوف نقض التوبة ونكث العهد أو خوف ضعف القوة
عن الوفاء بتمام حقوق الله تعالى أو خوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة
أو خوف الميل عن الإستقامة أو خوف إستيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة أو
خوف أن يكله الله تعالى إلى حسناته التي أتكل عليها وتعزز بها في عباد الله أو خوف
البطر بكثرة نعم الله عليه أو خوف الإشتغال عن الله بغير الله أو خوف الإستدراج
بتواتبر النعم أو خوف إنكشاف غوائل طاعاته حيث يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب أو
خوف تبعات الناس عنده في الغيبة والخيانة والغش وإضمار السوء أو خوف ما لا يدرى
أنه يحدث في بقية عمره أو خوف تعجيل العقوبة في الدنيا والإفتضاح قبل الموت أو خوف
الإغترار بزخارف الدنيا أو خوف إطلاع الله على سريرته في حال غفلته عنه
أو خوف الختم له عند الموت بخاتمة السوء أو خوف السابقة التي سبقت له في الأزل
فهذه كلها مخاوف ولكل واحد خصوص فائدة وهو سلوك سبيل الحذر عما يفضى إلى المخوف
فمن يخاف استيلاء العادة عليه فيواظب على الفطام عن العادة والذي يخاف من إطلاع
الله تعالى على سريرته يشتغل بتطهير قلبه عن الوساوس وهكذا إلى بقية الأقسام
وأغلب هذه المخاوف على اليقين خوف الخاتمة فإن الأمر فيه مخطر وأعلى الأقسام
وأدلها على كمال المعرفة خوف السابقة لأن الخاتمة تتبع السابقة وفرع يتفرع عنها
بعد تخلل أسباب كثيرة فالخاتمة تظهر ما سبق به القضاء في أم الكتاب والخائف من
الخاتمة بالإضافة إلى الخائف من السابقة كرجلين وقع الملك في حقهما بتوقيع يحتمل
أن يكون فيه حز الرقبة ويحتمل أن يكون في تسليم الوزارة إليه ولم يصل التوقيع
إليهما بعد فيرتبط قلب أحدهما بحالة وصول التوقيع ونشره وأنه
عماذا
يظهر ويرتبط قلب الآخر بحالة توقيع الملك وكيفيته وأنه ما الذي خطر له في حال
التوقيع من رحمة أوغضب وهذا التفات إلى السبب فهو أعلى من الإلتفات إلى ما هو فرع
فكذلك الإلتفات إلى القضاء الأزلي الذي جرى بتوقيعه القلم أعلى من الإلتفات إلى ما
يظهر في الأبد وإليه أشار النبي صلى الله عليه و سلم حيث كان على المنبر فقبض كفيه
اليمنى ثم قال هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد
فيهم ولا ينقص ثم قبض كفه اليسرى وقال هذا كتاب الله كتب فيه أهل النار بأسمائهم
وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتى
يقال كأنهم مونهم بل هم هم ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة وليعملن أهل
الشقاوة بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستخرجهم الله قبل
الموت ولو بفواق ناقة السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقى بقضاء الله والأعمال
بالخواتيم // حديث هذا كتاب من الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم
الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر بن العاص وقال حسن صحيح غريب //
وهذا كإنقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته وإلى من يخاف الله تعالى نفسه
لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضى الهيبة لا محالة فهذا أعلى رتبة ولذلك يبقى خوفه
وإن كان في طاعة الصديقين وأما الآخر فهو في عرضة الغرور والأمن
إن واظب على الطاعات فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين
والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما
هو جدير بأن يخاف من غير جناية بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ولم
يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ويسر له سبيلها ومهد له
أسبابها فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها
أن يسخر للمعصية وتجرى عليه أسبابها ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له
الطاعات ومهد له سبيل القربات فالعاصي قد قضى عليه بالمعصية شاء أم أبى وكذا
المطيع فالذي يرفع محمد صلى الله عليه و سلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه
قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده جدير بأن
يخاف منه لصفة جلاله فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدر
وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريا والذي عصى عصى لأنه
سلط عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة
ضروريا فليت شعرى ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه وما
الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه وكيف يحال ذلك على العبد
وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضى
بما يشاء ويحكم بما يريد حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز
إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم
يستجرىء على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه
السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري // حديث إن الله تعالى أوحى إلى داود
يا داود خفني كما يخاف السبع الضاري لم أجد له أصلا ولعل المصنف قصد بإيراده أنه
من الإسرائيليات فإنه عبر عنه بقول جاء في الخبر وكثيرا ما يعبر بذلك عن
الإسرائيليات التي هي غير مرفوعة // فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى وإن كان لا يقف
بك على سببه فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ولا يكشف ذلك إلا لأهله
والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته وكبره
وهيبته ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن
خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت
أو ميتا بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة إذ لا يقدح
ذلك
في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه
عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في
قوله هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ويكفيك من موجبات
الهيبة والخوف المعرفة بالإستغناء وعدم المبالاة الطبقة الثانية من الخائفين أن
يتمثل في أنفسهم ما هو المكروه وذلك مثل سكرات الموت وشدته أو سؤال منكر ونكير أو
عذاب القبر أو هول المطلع أو هيبة الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من كشف الستر
والسؤال عن النقير والقطمير أو الخوف من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه أو الخوف
من النار وأغلالها وأهوالها أو الخوف من الحرمان عن الجنة دار النعيم والملك
المقيم وعن نقصان الدرجات أو الخوف من الحجاب عن الله تعالى وكل هذه الأسباب
مكروهة في نفسها فهي لا محالة مخوفة تختلف أحوال الخائفين فيها
وأعلاها رتبة هو خوف الفراق والحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين وما قبل ذلك
هو خوف العاملين والصالحين والزاهدين وكافة العالمين ومن لم تكمل معرفته ولم تنفتح
بصيرته لم يشعر بلذة الوصال ولا بألم البعد والفراق وإذا ذكر له أن العارف لا يخاف
النار وإنما يخاف الحجاب وجد ذلك في باطنه منكرا وتعجب منه في نفسه وربما أنكر لذة
النظر إلى وجه الله الكريم لولا منع الشرع إياه من إنكاره فيكون إعترافه به
باللسان عن ضرورة التقليد وإلا فباطنه لا يصدق به لأنه لا يعرف إلا لذة البطن
والفرج والعين بالنظر إلى الألوان والوجوه الحسان وبالجملة كل لذة تشاركه فيها
البهائم فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلا
له ومن كان أهلا له استبصر بنفسه واستغنى عن أن يشرحه له غيره فإلى هذه الأقسام
يرجع خوف الخائفين نسأل الله تعالى حسن التوفيق بكرمه
بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه
أعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والإعتبار وتارة بالآيات والأخبار
أما الإعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله
تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه
والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته وقد ظهر أنه لا وصول
إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل
المحبة إلا بالمعرفة ولاتحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة
ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بإنقطاع حب الدنيا من القلب
ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع
الشهوات ولا تنقعمع الشهوة بشىء كما تقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة
للشهوات فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على
الطاعات ويختلف ذلك بإختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه
تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى
الله زلفى
وأما بطريق الإقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر
وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان
وهي مجامع مقامات أهل الجنان وقال الله تعالى وهدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون
وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وصفهم بالعلم لخشيتهم
وقال عز و جل رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه وكل ما دل على فضيلة العلم
دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم ولذلك جاء في خبر موسى عليه أفضل الصلاة
والسلام وأما الخائفون
فإن
لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك
لأنهم العلماء والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة
الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم
في مرض موته بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى كان يقول أسألك
الرفيق الأعلى // حديث لما خير في مرض موته كان يقول أسألك الرفيق الأعلى متفق
عليه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول وهو صحيح إنه لم يقبض
نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير فلما نزل به ورأسه في حجري غشى عليه ثم أفاق
فأشخص ببصره إلى سقف البيت ثم قال اللهم الرفيق الأعلى فعلمت أنه لا يختارنا وعرفت
أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح الحديث //
فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما
ورد في فضائلهما حتى إن العاقب صارت موسومة بالتقوى مخصوصة بها كما صار الحمد
مخصوصا بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يقال الحمد لله رب
العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وآله
أجمعين
وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف كما سبق
ولذلك قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولذلك أوصى الله تعالى الأولين
والآخرين بالتقوى فقال تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن
اتقوا الله وقال عز و جل وخافون إن كنتم مؤمنين فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في
الإيمان
فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته
وإيمانه وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم في فضيلة التقوى وإذا جمع الله
الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم
فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم مند خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم
إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني قد جعلت نسبا وجعلتم نسبا فوضعتم نسبي
ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان
وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون فيرفع للقوم لواء
فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب // حديث إذا جمع الله
الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمعه أقصاهم كما يسمعه أدناهم
فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت إليكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي
اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسبا الحديث أخرجه الطبراني
في الأوسط والحاكم في المستدرك بسند ضعيف والثعلبي في التفسير مقتصرا على آخره إني
جعلت نسبا الحديث من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم رأس الحكمة مخافة الله // حديث رأس الحكمة مخافة الله
رواه أبو بكر بن لال الفقيه في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب وضعفه من حديث ابن
مسعود ورواه في دلائل النبوة من حديث عقبة بن عامر ولا يصح أيضا
وقال صلى الله عليه و سلم لابن مسعود إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي //
حديث إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي قاله لابن مسعود لم أقف له على أصل
وقال الفضيل من خاف الله دله الخوف على كل خير
وقال الشبلي رحمه الله ما خفت الله يوما إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما
رأيته قط
وقال يحيى بن معاذ ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان خوف العقاب ورجاء
العفو كثعلب بين أسدين
وفي خبر موسى عليه الصلاة و السلام وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته
الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعين فإني أستحي منهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب
والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه
الأسامي وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصا
بالخائفين فقال سيذكر من يخشى
وقال
تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال صلى الله عليه و سلم قال الله عز و جل وعزتي
لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة
وإن خافتي في الدنيا أمنته يوم القيامة // حديث لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع
له أمنين أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة ورواه ابن
المبارك في الزهد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية الحسن مرسلا
وقال صلى الله عليه و سلم من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه
الله من كل شيء // حديث من خاف الله خافه كل شيء الحديث رواه أبو الشيخ ابن حبان
في كتاب الثواب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب
الخائفين بإسناد ضعيف معضل وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله تعالى وأحسنكم فيما أمر الله
تعالى به ونهى عنه نظرا // حديث أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا الحديث لم أقف له على
أصل ولم يصح في فضل العقل شيء //
وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل
الجنة
وقال ذو النون رحمه الله تعالى من خاف الله تعالى ذاب قلبه واشتد حبه وصح له لبه
وقال ذو النون أيضا ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء فإذا غلب الرجاء تشوش
القلب وكان أبو الحسين الضرير يقول علامة السعادة خوف الشقاوة لأن الخوف زمام بين
الله تعالى وبين عبده فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين
وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غدا فقال أشدهم خوفا اليوم
وقال سهل رحمه الله لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال
وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع نجالس أقواما يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير فقال
والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواما
يؤمنونك حتى يدركك الخوف
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما فارق الخوف قلبا إلا خرب
وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو
الرجل يسرق ويزني قال لا بل الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه // حديث
عائشة قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال
لا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت بل منقطع بين
عائشة وبين عبد الرحمن بن سعد بن وهب قال الترمذي وروي عن الرحمن بن حازم عن أبي
هريرة
والتشديدات الواردة في الأمن من مكر الله وعذابه لا تنحصر وكل ذلك ثناء على الخوف
لأن مذمة الشيء ثناء على ضده الذي ينفيه وضد الخوف الأمن كما أن ضد الرجاء اليأس وكما
دلت مذمة القنوط على فضيلة الرجاء فكذلك تدل مذمة الأمن على فضيلة الخوف المضاد له
بل نقول كل ما ورد في فضل الرجاء فهو دليل على فضل الخوف لأنهما متلازمان فإن كل
من رجا محبوبا فلابد وأن يخاف فوته فإن كان لا يخاف فوته فهو إذا لا يحبه فلا يكون
بانتظاره راجيا فالخوف والرجاء متلازمان يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر نعم يجوز
أن يغلب أحدهما على الآخر وهما مجتمعان ويجوز أن يشتغل القلب بأحدهما ولا يلتفت
إلى الآخر في الحال لغفلته عنه وهذا لأن من شرط الرجاء الخوف تعلقهما بما هو مشكوك
فيه إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف فإذن المحبوب الذي يجوز وجوده يجوز عدمه لا محالة
فتقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء وتقدير عدمه يوجع القلب وهو الخوف والتقدير أن
يتقابلان لا محالة إذا كان ذلك الأمر المنتظر مشكوكا فيه نعم أحد طرفي الشك قد
يترجح على الآخر بحضور بعض الأسباب ويسمى ذلك ظنا فيكون ذلك سبب غلبة أحدهما على
الآخر فإذا غلب على الظن وجود المحبوب قوى الرجاء وخفي الخوف بالإضافة إليه وكذا
بالعكس وعلى كل حال فهما متلازمان ولذلك قال تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وقال عز و
جل يدعون ربهم خوفا وطمعا ولذلك عبر العرب عن الخوف
بالرجاء
فقال تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تخافون وكثيرا ما ورد في القرآن
الرجاء بمعنى الخوف وذلك لتلازمهما إذ عادة العرب التعبير عن الشيء بما يلازمه بل
أقول كل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله فهو إظهار لفضيلة الخشية فإن البكاء
ثمرة الخشية فقد قال تعالى فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا وقال تعالى يبكون ويزيدهم
خشوعا وقال عز و جل أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون وقال
صلى الله عليه و سلم ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب
من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار // حديث ما
من مؤمن يخرج من عينه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب الحديث أخرجه الطبراني
والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما
يتحات من الشجرة ورقها // حديث إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تعالى تحاتت عنه
ذنوبه الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي فيه من حديث العباس بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن
في الضرع // حديث لا يلج النار عبد بكى من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي وقال
حسن صحيح والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة
وقال عقبة بن عامر من النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك
على خطيئتك // حديث قال عقبة بن عامر ما النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك
الحديث تقدم
وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله أيدخل أحد من أمتك الجنة بغير حساب
قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى // حديث عائشة قلت أيدخل الجنة أحد من أمتك بغير حساب
قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى لم أقف له على أصل
وقال صلى الله عليه و سلم ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله
تعالى أو قطرة دم أهريقت في سبيل الله سبحانه وتعالى // حديث ما من قطرة أحب إلى
الله من قطرة دمعة من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال حسن
غريب وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذروف الدمع مع
خشيتك قبل أن تصير الدموع دما والأضراس جمرا // حديث اللهم ارزقني عينين هطالتين
يشفيان القلب بذروف الدمع الحديث أخرجه الطبراني في الكبير في الدعاء وأبو نعيم في
الحلية من حديث ابن عمر بإسناد حسن ورواه الحسين المروزي في زياداته على الزهد
والرقائق لابن المبارك من رواية سالم بن عبد الله مرسلا دون ذكر الله وذكر
الدارقطني في العلل أن من قال فيه عن أبيه وهم وإنما هو عن سالم بن عبد الله مرسلا
قال وسالم هذا يشبه أن يكون سالم بن عبد الله المحاربي وليس بابن عمر انتهى وما
ذكره من أنه سالم المحاربي هو الذي يدل عليه كلام البخاري في التاريخ ومسلم في
الكنى وابن أبي حاتم عن أبيه وأبي أحمد الحاكم فإن الراوي له عن سالم عبد الله أبو
سلمة وإنما ذكروا له رواية عن سالم المحاربي والله أعلم نعم حكى ابن عساكر في
تاريخه الخلاف في أن الذي يروي عن سالم المحاربي أو سالم بن عبد الله بن عمر
وقال صلى الله عليه و سلم سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلا ذكر
الله خاليا ففاضت عيناه // حديث سبعة يظلهم الله في ظله الحديث متفق عليه من حديث
أبي هريرة وقد تقدم
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك
وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول
بلغني أن النار لا تأكل موضعا مسته الدموع
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي
نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها
قتر ولا ذلة يوم القيامة
فإن
سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحارا من النيران ولو أن رجلا بكى في أمة ما
عذبت تلك الأمة
وقال أبو سليمان البكاء من الخوف والرجاء والطرب من الشوق
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه
والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن
أتصدق بجبل من ذهب
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار
وروي عن حنظلة قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فوعظنا موعظة رقت لها
القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة وجرى
بيننا من حديث الدنيا فنسيت ما كنا عليه عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذنا
في الدنيا ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي
قد نافقت حيث تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة فخرجت وجعلت أنادي
نافق حنظلة فاستقبلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال
كلا لم ينافق حنظلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أقول
نافق حنظلة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كلا لم ينافق حنظلة فقلت يا رسول
الله كنا عندك فوعظتنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا
فرجعت إلى أهلي فأخذنا في حديث الدنيا ونسيت ما كنا عندك عليه
فقال صلى الله عليه و سلم يا حنظلة لو أنكم كنتم أبدا على تلك الحالة لصافحتكم
الملائكة في الطريق وعلى فراشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة // حديث حنظلة كنا عند
رسول الله صلى الله عليه و سلم فوعظنا الحديث وفيه نافق حنظلة الحديث وفيه ولكن يا
حنظلة ساعة وساعة أخرجه مسلم مختصرا
فإذن كل ما ورد في فضل الرجاء والبكاء وفضل التقوى والورع وفضل العلم ومذمة الأمن
فهو دلالة على فضل الخوف لأن جملة ذلك متعلقة به إما تعلق السبب أو تعلق المسبب
بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما
اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك
في أن الأفضل أيهما وقول القائل
الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل الخبز أفضل أم الماء وجوابه أن
يقال الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب فإن كان
الجوع أغلب فالخبز أفضل وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل وإن استويا فهما متساويان
وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه والخوف
والرجاء دواءان يداوي بهما القلوب ففضلهما بحسب الداء الموجود فإن كان الغالب على
القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل وإن كان الأغلب هو
اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف
أفضل ويجوز أن يقال مطلقا الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من
السكنجبين إذ يعالج بالخبز مرض الجوع و بالسكنجبين مرض الصفراء ومرض الجوع أغلب
وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل لأن
المعاصي والاغترار على الخلق أغلب وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل
لأنه مستقى من بحر الرحمة ومستقى الخوف من بحر الغضب ومن لاحظ من صفات الله تعالى
ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب وليس وراء المحبة مقام
وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة
ممازجتها للرجاء
وعلى
الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول أكثر
الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء وذلك لأجل غلبة المعاصي
فأما التقى الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه
ولذلك قيل لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا
وروى أن عليا كرم الله وجهه قال لبعض ولده يا بني خف الله خوفا ترى أنك لو أتيته
بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل
الأرض غفرها لك ولذلك قال عمر رضي الله عنه لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلا
واحدا لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا
لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع
الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن
يستوي خوفه ورجاؤه فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثنى من الذين أمروا بدخول
النار كان ذلك دليلا على اغتراره
فإن قلت مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب
رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل
بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء
بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساويا لرجائه فهكذا
ينبغي أن تكون أحوال المتقين فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر
زلله وذلك وإن أوردناه مثالا فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه لأن سبب غلبة الرجاء
العلم الحاصل بالتجربة إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر وصحة الهواء
وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه
وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها وهي في بلاد ليس يدري أتكثر
الصواعق فيها أم لا فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده وجاء بكل مقدوره فلا يغلب
رجاؤه على خوفه والبذر في مسألتنا هو الإيمان وشروطه صحته دقيقة والأرض القلب
وخفايا خبثة وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة
والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم
في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة إذ قد تعرض من الأسباب ما لا يطاق
مخالفته ولم يجرب مثله والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده وذلك
مما لم يجرب مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم
يجرب فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جبانا في نفسه غلب خوفه على
رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين وإن كان قوي
القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا ولقد كان
عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل
يعرف به من آثار النفاق شيئا إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعلم
المنافقين // حديث أن حذيفة كان خصه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعلم المنافقين
أخرجه مسلم من حديث حذيفة في أصحابي اثنا عشر منافقا تمامه لا يدخلون الجنة حتى
يلج الجمل في سم الخياط الحديث //
فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي وإن اعتقد نقاء
قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه وإن
وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة وقد قال صلى الله عليه و
سلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر
// حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا
شبرا وفي رواية الأقدر فواق ناقة الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إن الرجل
ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وللبزار وللطبراني
في الأوسط سبعين سنة وإسناده حسن وللشيخين في أثناء حديث لابن مسعود أن أحدكم
ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع الحديث ليس فيه تقدير زمن
للعمل بخمسين سنة ولا ذكر شبر ولا فواق ناقة
وفي رواية إلا قدر فواق
ناقة
فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملا
بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء فكيف
يؤمن ذلك فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاءه وغلبة الرجاء في غالب الناس
تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى
عليهم فقال تعالى يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال عز و جل ويدعوننا رغبا ورهبا وأين
مثل عمر رضي الله عنه فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف
بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سببا
للتكاسل عن العمل وداعيا إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف إنما
الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا
ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر
في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط
وقد قال يحيى بن معاذ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده
بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة
الادكار
وقال مكحول الدمشقي من عبد الله بالخوف فهو حروري ومن عبده بالرجاء فهو مرجىء ومن
عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد
فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على
الموت أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط
الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا
يطيق أسباب الخوف فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء
فإنه يقوى قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا
محبا لله تعالى ليكون محبا للقاء الله تعالى فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله
لقاءه والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب والمقصود من العلوم
والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه والقدوم
بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته
وعذابه فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن
والعقار والرفقاء والأصحاب فهذا رجل محابه كلها في الدنيا فالدنيا جنته إذ الجنة
عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما
يشتهيه ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله
تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا
إذن سجنه لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه فموته
قوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلى بينه وبين
محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من
الثواب والعقاب فضلا عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن
ولا خطر على قلب بشر وفضلا عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على
الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من
الأنكال
والسلاسل والأغلال وضروب الخزى والنكال فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين
ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ولا
سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من
جاه ومال ووطن فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه و سلم إذ قال اللهم
ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد
// حديث اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك الحديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ وتقدم في
الأذكار والدعوات //
والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت
أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ولذلك قال صلى الله عليه
و سلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه // حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن
الظن بربه أخرجه مسلم من حديث جابر وقد تقدم
وقال تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة
قال لابنه يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به
وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه
وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت اذكر لي الأخبار التي فيها
الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ولذلك أوحى
الله تعالى إلى داود عليه الصلاة و السلام أن حببني إلى عبادي فقال بماذا قال بأن
تذكر لهم آلائي ونعمائي فإذن غاية السعادة أن يموت محبا لله تعالى وإنما تحصل
المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من
المحبوب ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله
فقال الآن أفلت فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له إنه مات البارحة
بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف
اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض
لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء لأن أول مقامات الدين اليقين الذي
هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى باليوم والآخر والجنة والنار وهذا اليقين
بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر فإن
الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء والنار قد حفت
بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف ولذلك قال علي كرم الله وجهه
من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ثم يؤدي
مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى
والفكر فيه على الدوام ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة
ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات
فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء
ولا بعدهما مقام سوى الصبر وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا ولا مقام بعد
المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة
والأنس ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل فإذن فيما
ذكرناه في علاج الصبر كفاية ولكنا نفرد الخوف بكلام جملى فنقول الخوف يحصل
بطريقتين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه
سبع أو حية ربما كان لا يخاف وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ولكن إذا
كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها فإذا نظر الصبي إلى أبيه
وهو
ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب فخوف
الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته
وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا
من سبب مخوف في نفسه فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال
فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين أحدهما الخوف من عذابه والثاني الخوف منه
فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة
والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وقوله عز و جل اتقوا
الله حق تقاته وأما الأول فهو خوف عموم الخلق وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار
وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان وإنما
تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في
الآخرة وتزول أيضا بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت
المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو
المخوف أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه
قال ذو النون رحمه الله تعالى خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي
وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ولعموم المؤمنين
أيضا حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضا هي خوف الصبي من الحية تقليدا
لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب حتى إن الصبي ربما يرى
المعزم يقدم على أخذ الحية فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليدا له كما
احترز من أخذها تقليدا لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة
أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات واجتناب
المعاصي مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى
خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعا
في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى
ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة و السلام خفني كما تخاف السبع الضاري
ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبة
فلا يحتاج إلى حيلة سواء فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم
ما يريد ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة
بل صفته ما ترجمه قوله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد
المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصي
شاء أم أبى فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعا
بها بالضرورة فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة
حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضى
عليه في الأزل وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه و سلم إذ قال احتج آدم موسى
عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى أنت آدم الذي
خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس
بخطيئتك إلى الأرض
فقال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل
شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما
قال آدم فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم
قال أفتلومني على
أن
عملت عملا كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة قال صلى الله
عليه و سلم فحج آدم موسى // حديث احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى الحديث
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو متفق عليه بألفاظ أخر //
فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين
المطلعين على سر القدر ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم
المؤمنين ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كان عبد فهو واقع في قبضة القدرة
وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه
فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف
إلى من لا يعرفه سمي اتفاقا وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقا والواقع
في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع لأن السبع مسخر إن سلط عليه
الجوع افترس وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست
أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من
السبع هو عين الخوف من الله تعالى لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع
الآخرة مثل سباع الدنيا وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل
واحد أهلا يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له فخلق الجنة
وخلق لها أهلا سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا وخلق النار وخلق لها أهلا سخروا
لأسبابها شاءوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف
بالضرورة فهذه مخاوف العارفين بسر القدر فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام
الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار فيطالع أحوال الخائفين
العارفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى
في أن الاقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء
وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغنياء
أما رسولنا صلى الله عليه و سلم فهو سيد الأولين والآخرين // حديث كان سيد الأولين
والآخرين أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أنا سيد ولد آدم ولا فخر الحديث //
وكان أشد الناس خوفا // حديث كان أشد الناس خوفا تقدم قبل هذا بخمسة وعشرين حديثا
قوله والله إني لأخشاكم لله وقوله والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية
حتى روى أنه كان يصلي على طفل ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول اللهم قه عذاب
القبر وعذاب النار // حديث أنه كان يصلي على طفل سمع في دعائه يقول اللهم قه عذاب
القبر وعذاب النار أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و
سلم صلى على صبي أو صبية وقال لو كان أحد نجا من ضمة القبر لنجا هذا الصبي واختلف
في إسناده فرواه في الكبير من حديث أبي أيوب أن صبيا دفن فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي
وفي رواية ثانية أنه سمع قائلا يقول هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال ما
يدريك أنه كذلك والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي إن الله خلق الجنة وخلق
لها أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم // حديث أنه سمع قائلة تقول لطفل مات هنيئا
لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال ما يدريك الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة
قالت توفى صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة الحديث وليس فيه فغضب وقد تقدم
وروي أنه صلى الله عليه و سلم قال ذلك أيضا على جنازة عثمان بن مظعون وكان من
المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة هنيئا لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك
والله لا أزكى أحدا بعد عثمان // حديث لما توفي عثمان بن مظعون قالت أم سلمة هنيئا
لك الجنة الحديث أخرجه البخاري من حديث أم العلاء الأنصارية وهي القائلة رحمة الله
عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله قال وما يدريك الحديث وورد أن التي
قالت ذلك أم خارجة بن زيد ولم أجد فيه ذكر أم سلمة
وقال محمد بن خولة الحنفية والله لا أزكى أحدا غير رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولا
أبي الذي ولدني قال فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه وروي في
حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة
هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه و
سلم وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره // حديث إن رجلا من
أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئا لك يا بني الجنة رواه البيهقي في الشعب إلا أنه
قال فقالت أمه هنيئا لك الشهادة وهو عند الترمذي إلا أنه قال إن رجلا قال له أبشر
بالجنة وقد تقدم في ذم المال والبخل مع اختلاف
وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه و سلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة
تقول هنيئا لك الجنة فقال صلى الله عليه و سلم من هذه المتألية على الله تعالى
فقال المريض هي أمي يا رسول الله فقال وما يدريك لعل فلانا كان يتكلم بما لا يعنيه
ويبخل بما لا يغنيه // حديث دخل على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول هنيئا له
الجنة الحديث تقدم أيضا
وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه و سلم يقول شيبتني هود وأخواتها //
حديث شيبتني هود وأخواتها الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث ابن
عباس وهو في الشمائل من حديث أبي جحيفة وقد تقدم في كتاب السماع
سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء لعل ذلك لما في سورة هود
من الإبعاد كقوله تعالى ألا بعد لعاد قوم هود ألا بعدا لثمود ألا بعدا لمدين كما
بعدت ثمود مع علمه صلى الله عليه و سلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذا لو شاء
لآتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة أي جف القلم
بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في
الدنيا وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا
وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى وإذا الجحيم
سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت وفي عم يتساءلون يوم ينظر المرء ما قدمت
يداه الآية وقوله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا والقرآن من
أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى وإني لغفار لمن
تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز
العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من
المفلحين وقوله تعالى ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى سنفرغ لكم أيه الثقلان
وقوله عز و جل أفأمنوا مكر الله الآية
وقوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد وقوله تعالى يوم
نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا الآيتين
وقوله تعالى وإن منكم إلا واردها الآية وقوله اعملوا ما شئتم الآية وقوله من كان
يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية
قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين
وقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية
وكذلك قوله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة فهذه أربعة شروط
للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم
يأمنوا مكر الله تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون حتى روى أن النبي
وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفا من الله تعالى فأوحى الله إليهما لم
تبكيان وقد أمنتكما فقالا ومن يأمن مكرك // حديث أنه وجبريل صلى الله عليهما وسلم
بكيا خوفا من الله عز و جل فأوحى الله إليهما لم تبكيان الحديث أخرجه ابن شاهين في
شرح السنة من حديث عمر ورويناه في مجلس عن أماني أبي سعيد النقاش بسند ضعيف
وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم
يأمنا أن يكون قوله قد أمنتكما ابتلاء وامتحانا لهما ومكرا بهما حتى إن سكن خوفهما
ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما
كما
أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم لما وضع في المنجنيق قال حسبي الله وكانت هذه من
الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء حتى قال ألك حاجة فقال أما إليك فلا
فكان ذلك وفاء بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال وإبراهيم الذي وفى
أي بموجب قوله حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه و سلم حيث قال إننا
نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ومع هذا لما
ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة إذا لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه
حتى جدد عليه الأمن وقيل له لا تخف إنك أنت الأعلى ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم
بدر قال صلى الله عليه و سلم اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد
يعبدك // حديث قال يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد
يعبدك أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم الحديث
فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه دع عنك مناشدتك ربك فإنه واف لك بما وعدك فكان
مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله وكان مقام رسول الله صلى الله عليه
و سلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار
الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر وما
لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته
عن الإحاطة بكنة الأمور عظم خوفه لا محالة ولذلك قال المسيح صلى الله عليه و سلم
لما قيل له أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي
أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك
وقال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم الآية فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه
بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة
ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا
حسبان فضلا عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة
الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا
يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ويمرض من ذلك قلوبهم بالكفر
والنفاق ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ثم يخبر عنه ويقول ولو شئنا لآتينا كل نفس
هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى وتمت كلمة
ربك لأملأن جهنم الآية فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه
ولو كان الأمر أنفا لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه
واستقراء خفى السابقة من جلى الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح فمن يسرت له
أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على
التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات
كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعا وبظاهره وباطنه على الله مقبلا كان
هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقا به ولكن خطر الخاتمة وعسر
الثبات يزيد نيران الخوف إشعالا ولا يمكنها من الانطفاء وكيف يؤمن تغير الحال وقلب
المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلبا من القدر في غليانها وقد
قال مقلب القلوب عز و جل إن عذاب ربهم غير مأمون فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي
بالتحذير من الأمن ولو أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء
لاحترقت قلوبهم من نار الخوف
فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو
انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب
قال بعض العارفين لو حالت بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين
سنة
أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب
وقال بعضهم لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة
لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار
وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عن الموت إلا سلبه
وكان سهل يقول خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين
وصفهم الله تعالى إذ قال وقلوبهم وجلة
ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو
الله أعظم من ذنوبك فقال أو على ذنوبي أبكي لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال
بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا
وحكى عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي
فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزا وسكرا وانثره على
صبيان أهل البلد وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى
لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد
الوفاة
فقال وبم أعلم ذلك فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز
وفرقه
وكان سهل يقول المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر
وكان أبو زيد يقول إذا توجهت إلى المسجد فكأن في وسطي زنارا أخاف أن يذهب بي إلى
البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فينقطع عني الزنار فهذا لي في كل يوم خمس مرات
وروي عن المسيح عليه الصلاة و السلام أنه قال يا معشر الحواريين أنتم تخافون
المعاصي ونحن معاشر الأنبياء نخاف الكفر
وروي في أخبار الأنبياء أن نبيا شكى إلى الله تعالى الجوع والقمل والعرى سنين وكان
لباسه الصوف
فأوحى الله تعالى إليه عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا
فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر
فإن كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه
الضعفاء
ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات
المذمومة ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن لو أعلم أني برئ من
النفاق كان أحب إلى مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل
الإيمان بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلما منافقا وله علامات
كثيرة قال صلى الله عليه و سلم أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم
أنه مسلم وإن كانت فيه خصلة منهم ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها من إذا حدث كذب
وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر // حديث أربع من كن فيه فهو منافق
الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم في قواعد العقائد //
وفي لفظ آخر وإذا عاهد غدر
وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق إذ قال
الحسن إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل
والمخرج ومن الذي يخلو عن هذا المعاني
بل
صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسى كونها منكر الكلية بل جرى ذلك على
قرب عهد بزمان النبوة فكيف الظن بزماننا حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه إن كان
الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيصير بها منافقا إني
لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات // حديث حذيفة إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة
على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيصير بها منافقا الحديث أخرجه أحمد من
حديث حذيفة وقد تقدم في قواعد العقائد وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقولون إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول
الله صلى الله عليه و سلم من الكبائر // حديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر الحديث أخرجه البخاري من حديث أنس
وأحمد والبزار من حديث أبي سعيد وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن فرص وصحح إسناده
وتقدم في التوبة
وقال بعضهم علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله وأن تحب على شيء من الجور
وأن تبغض على شيء من الحق
وقيل من النفاق أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه ذلك
وقال رجل لابن عمر رحمه الله إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون فإذا
خرجنا تكلمنا فيهم فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسو الله صلى الله عليه و سلم
// حديث قال رجل لابن عمر إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم بما يقولون الحديث
رواه أحمد والطبراني وقد تقدم في قواعد العقائد //
وروي أنه سمع رجلا يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا أكنت تتكلم
بما تكلمت به قال لا
قال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث سمع ابن عمر
رجلا يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا الحديث تقدم هناك ولم
أجد فيه ذكر الحجاج
وأشد من ذلك ما روي أن نفرا قعدوا على باب حذيفة بنتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء
من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه فقال تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا فقال
كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث إن نفرا قعدوا
عند باب حذيفة ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج سكتوا الحديث لم
أجد له أصلا
وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول إنه يأتي على القلب
ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة ويأتي عليه ساعة يمتلئ
بالنفاق حتى لا يكون للأيمان فيه مغرز إبرة فقد عرفت بهذا أن خوف العارفين من سوء
الخاتمة وأن سببه أمور تتقدمه منها البدع
ومنها المعاصي ومنها النفاق ومتى يخلو العبد عن شيء من جملة ذلك وإن ظن أنه خلا
عنه فهو النفاق إذ قيل من أمن النفاق فهو منافق
وقال بعضهم لبعض العارفين إني أخاف على نفسي النفاق فقال لو كنت منافقا لما خفت
النفاق فلا يزال العارف بين الالتفات إلى السابقة والخاتمة خائفا منهما ولذلك قال
صلى الله عليه و سلم العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله
صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت
من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار // حديث العبد المؤمن بين
مخافتين بين أجل قد مضى الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من رواية الحسن عن رجل من
أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وقد تقدم في ذم الدنيا ذكره ابن المبارك في كتاب
الزهد بلاغا وذكره صاحب الفردوس من حديث جابر ولم يخرجه ولده في مسند الفردوس //
والله المستعان
بيان معنى الخاتمة
فإن قلت إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى الخاتمة فاعلم أن سوء
الخاتمة على رتبتين
إحداهما أعظم من الأخرى فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات
الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك
فيكون ما غلب على
القلب
من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب
المخلد والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا
وشهوة من شهواتها فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع
لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا
وجهه إليها
ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب
ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه فأما
المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار جز يا
مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر
لأن المرء يموت على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد
الصفة الغالبة عليه إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح وقد بطلت الجوارح
بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك وعند
ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة
طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند
الموت فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب وإن كان أقل
من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو
بعد آلاف سنين
فإن قلت فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم
القيامة ويمهل طول هذه المدة فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن
نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به
الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة // حديث القبر
إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال
غريب وتقدم في الأذكار //
وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم // حديث إنه يفتح إلى قبر
المعذب سبعون بابا من الجحيم لم أجد له أصلا //
كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء
الخاتمة
وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في
القبر // حديث سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر تقدم في قواعد العقائد //
والتعذيب بعده // حديث عذاب القبر تقدم فيه //
ثم المناقشة في الحساب // حديث المناقشة في الحساب تقدم فيه //
والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة // حديث الافتضاح على ملأ الأشهاد في
القيامة رواه أحمد والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد جيد من انتقى من ولده ليفضحه
في الدنيا فضحه الله على رءوس الأشهاد وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وأما الكافر
والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم والطبراني
والعقيلي في الضعفاء من حديث الفضيل بن عياض فضوح الدنيا أهون من فوضح الآخرة وهو
حديث طويل منكر //
ثم بعد ذلك خطر الصراط // حديث خطر الصراط تقدم في قواعد العقائد
وهول الزبانية // حديث هو الزبانية أخرجه الطبراني من حديث أنس الزبانية يوم
القيامة أسرع إلى فسقة حملة القرآن منها الى عبدة الأوثان والنيران قال صاحب
الميزان حديث منكر وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم معضلا في خزنة جهنم
ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب //
إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي مترددا في جميع أحواله بين أصناف
العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته ولا تظنن أن محل
الإيمان لا يأكله التراب بل التراب يأكل جميع الجوارح ويبددها إلى أن يبلغ الكتاب
أجله فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتعاد إليها الروح التي هي محل الإيمان وقد كانت من
وقت الموت إلى الإعاذة إما في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش إن كانت سعيدة وإما
على حالة تضاد هذه الحال إن كانت والعياذ بالله شقية
فإن
قلت فما السبب الذي يفضي إلى سوء الخاتمة فاعلم أن أسباب هذه الأمور لا يمكن
إحصاؤها على التفصيل ولكن يمكن الإشارة إلى مجامعها أما الختم على الشك والجحود
فينحصر سببه في شيئين
أحدهما يتصور مع تمام الورع والزهد وتمام الصلاح في الأعمال كالمبتدع الزاهد فإن
عاقبته مخطرة جدا وإن كانت أعماله صالحة ولست أعني مذهبا فأقول إنه بدعة فإن بيان
ذلك يطول القول فيه بل أعني بالبدعة أن يعتقد الرجل في ذات الله وصفاته وأفعاله
خلاف الحق فيعتقده على خلاف ما هو عليه إما برأيه ومعقوله ونظره الذي به يجادل
الخصم وعليه يعول وبه يغتر وإما أخذا بالتقليد ممن هذا حاله فإذا قرب الموت وظهرت
له ناصية ملك الموت واضطرب القلب بما فيه ربما ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان
ما اعتقده جهلا إذ حال الموت حال كشف الغطاء ومبادىء سكراته منه فقد ينكشف به بعض
الأمور فمهما بطل عنده ما كان اعتقده وقد كان قاطعا به متيقنا له عند نفسه لم يظن
بنفسه أنه أخطأ في هذا الاعتقاد خاصة لالتجائه فيه إلى رأيه الفاسد وعقله الناقص
بل ظن أن كل ما اعتقده لا أصل له إذ لم يكن عنده فرق في إيمانه بالله ورسوله وسائر
اعتقاداته الصحيحة وبين اعتقاده الفاسد فيكون انكشاف بعض اعتقاداته عن الجهل سببا
لبطلان بقية اعتقاداته أو لشكه فيها فإن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن يثبت
ويعود إلى أصل الإيمان فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك والعياذ بالله منه
فهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبقوله عز
و جل قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون
أنهم يحسنون صنعا وكما أنه ينكشف في النوم ما سيكون في المستقبل وذلك بسبب خفة
أشغال الدنيا عن القلب فكذلك ينكشف في سكرات الموت بعض الأمور إذ شواغل الدنيا
وشهوات البدن هي المانعة للقلب من أن ينظر إلى الملكوت فيطالع ما في اللوح المحفوظ
لتنكشف له الأمور على ما هي عليه فيكون مثل هذه الحال سببا للكشف ويكون الكشف سبب
الشك في بقية الاعتقادات وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئا على
خلاف ما هو به إما تقليدا وإما نظرا بالرأي والمعقون فهو في هذا الخطر والزهد
والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق والبله بمعزل عن
هذا الخطر أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيمانا مجملا راسخا
كالأعراب والسوادية وسائر العوام الذين لم يخوضوا في البحث والنظر ولم يشرعوا في
الكلام استقلالا ولا صغوا إلى أصناف المتكلمين في تقليد أقاويلهم المختلفة ولذلك
قال صلى الله عليه و سلم أكثر أهل الجنة البله // حديث أكثر أهل الجنة البلة أخرجه
البزار من حديث أنس وقد تقدم //
ولذلك منع السلف من البحث والنظر والخوض في الكلام والتفتيش عن هذه الأمور وأمروا
الخلق أن يقتصروا على أن يؤمنوا بما أنزل الله عز و جل جميعا وبكل ما جاء من
الظواهر مع اعتقاد نفي التشبيه ومنعوهم عن الخوض في التأويل لأن الخطر في البحث عن
الصفات عظيم وعقباته كئودة ومسالكه وعرة والعقول عن درك جلال الله تعالى قاصرة
وهداية الله تعالى بنور اليقين عن القلوب بما جبلت عليه من حب الدنيا محجوبة وما
ذكره الباحثون ببضاعة عقولهم مضطرب ومتعارض والقلوب لما ألقى إليها في مبدأ النشأة
آلفة وبه متعلقة والتعصبات الثائرة بين الخلق مسامير مؤكدة للعقائد الموروثة أو
المأخوذة بحسن الظن من المعلمين في أول الأمر ثم الطباع بحب الدنيا مشغوفة وعليها
مقبلة وشهوات الدنيا بمخنقها آخذة وعن تمام الفكر صارفة فإذا فتح باب الكلام في
الله وفي صفاته بالرأي والمعقول مع تفاوت الناس في قرائحهم واختلافهم في طبائعهم
وحرص كل جاهل منهم على
أن
يدعي الكمال أو الإحاطة بكنة الحق انطلقت ألسنتهم بما يقع لكل واحد منهم وتعلق ذلك
بقلوب المصغين إليهم وتأكد ذلك بطول الألف فيهم فانسد بالكلية طريق الخلاص عليهم
فكانت سلامة الخلق في أن يشتغلوا بالأعمال الصالحة ولا يتعرضوا لما هو خارج عن حد
طاقتهم ولكن الآن قد استرخى العنان وفشا الهذيان ونزل كل جاهل على ما وافق طبعه
بظن وحسبان وهو يعتقد أن ذلك علم واستيقان وأنه صفو الإيمان ويظن أن ما وقع به من
حدس وتخمين علم اليقين وعين اليقين ولتعلمن نبأه بعد حين وينبغي أن ينشد في هؤلاء
عند كشف الغطاء
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
واعلم يقينا أن كل من فارق الإيمان الساذج بالله ورسوله وكتبه وخاض في البحث فقد
تعرض لهذا الخطر ومثاله مثال من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج يرميه موج إلى
موج فربما يتفق أن يلقيه إلى الساحل وذلك بعيد والهلاك عليه أغلب
وكل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إما مع الأدلة التي حرروها
في تعصباتهم أو دون الأدلة فإن كان شاكا فيه فهو فاسد الدين وإن كان واثقا فهو آمن
من مكر الله مغتر بعقله الناقص وكل خائض في البحث فلا ينفك عن هاتين الحالتين إلا
إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة الذي هو مشرق في عالم الولاية والنبوة
وذلك هو الكبريت الأحمر وإني يتيسر وإنما يسلم عن هذا الخطر البله من العوام أو
الذين شغلهم خوف النار بطاعة الله فلم يخوضوا في هذا الفضول فهذا أحد الأسباب
المخطرة في سوء الخاتمة
وأما السبب الثاني فهو ضعف الإيمان في الأصل ثم استيلاء حب الدنيا على القلب
ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوى حب الدنيا فيصير بحيث لا يبقى في القلب
موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس
والعدول عن طريق الشيطان فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات حتى يظلم القلب
ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان
على ضعفه حتى يصير طبعا ورينا فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله
ضعفا لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب فيتألم القلب
باستشعار فراق الدنيا ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت
وكراهة ذلك
من حيث إنه من الله فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب كما أن الذي
يحب ولده حبا ضعيفا إذا اخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب
ذلك الحب الضعيف بغضا فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة
فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكا مؤبدا والسبب الذين يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو
غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله
تعالى فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضا فهو
أبعد عن هذا الخطر وحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال وقد عم أصناف الخلق
وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى إذ لا يحبه إلا من عرفه ولهذا قال تعالى قل إن
كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال أقترفتموها وتجارة تخشون
كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي
الله بأمره فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله
وظهر بغض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه فيكون موته
قدوما على ما أبغضه وفراقا
لما
أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهرا فلا يخفى
ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى
قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعا
في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلا عما يستحقه من
لطائف الإكرام وبدائع الإنعام
وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضا
سببان
أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك لأن
مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة
وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته فإن كان ميله الأكثر
إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب
ذكرها على قلبه عند الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية
من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا
الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا
عن هذا الخطر والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه
بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جدا ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن
الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما
يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم
يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا
يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما
يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة
وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له
مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه
ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقضي ذلك تذكر المألوف
وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف
بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح وكذلك تخالف أيضا منامات الصالحين منامات الفساق
فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض
عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له
الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك
آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم
أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما
بالمقارنة بأن يكون قد ورد على الحس منه
أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى
جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس
قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا
يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه
إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه
وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في
المنامات أسباب من هذا الجنس وكذلك عند سكرات الموت فعلى هذا والعلم عند الله من
كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل
أصبعه التي لها عادة الكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى
تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض
ومن
أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول
العمر في فطامة نفسه عنها وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت
الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة
سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن
بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغول النفس
بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت
وقال بعض العارفين من السلف العرش جوهرة تتلألأ نورا فلا يكون العبد على حال إلا
انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له
صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى
أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا
الصادقة قريب من ذلك فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ
وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر
ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار
دخولا كليا وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة
لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات
والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والموظبة عليه مما يؤثر فيه ويكن
اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في
النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي
وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه
مجادلة عليه قال حكيت لشيخي أبي القاسم السكرماني مناما لي وقلت رأيت قلت لي كذا
فقلت لم ذاك قال فهجرني شهرا ولم يكلمني وقال لولا أنه كان في باطنك تجويز
المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم وهو كما قال إذ قلما
يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه فهذا هو القدر الذي نسمح
بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة وما وراء ذلك فهو داخل في علم
المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من
غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو
عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك
ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون
ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها
ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح وإن سلامته مع اضطراب
أمواج الخواطر مشكلة جدا ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف
هلك ولكني أعجب مما نجا كيف نجا ولذلك قال حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح
العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا كيف نجا هذا
من دنيا فسد فيها خيارنا
وكان الثوري يوما يبكي فقيل له علام تبكي فقال بكينا على الذنوب زمانا
فالآن نبكي على الإسلام
وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج
كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة وأمواج
الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط
وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة
خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب
// حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة الحديث تقدم //
ولا يتسع
فواق
الناقة لأعمال توجب الشقاوة بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف
وقال سهل رأيت كأني أدخلت الجنة فرأيت ثلثمائة نبي فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون
في الدنيا قالوا سوء الخاتمة ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مغبوطا عليها
وكان موت الفجأة مكروها أما الموت فجأة فلأنه ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء
واستيلائه على القلب لا يخلو عن أمثاله إلا أن يدفع بالكراهة أو بنور المعرفة
وأما الشهادة فلأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله
تعالى وخرج حب الدنيا والأهل والمال والولد وجميع الشهوات عن القلب إذ لا يهجم على
صف القتال موطنا نفسه على الموت إلا حبا لله وطلبا لمرضاته وبائعا دنياه بآخرته
وراضيا بالبيع الذي بايعه الله به إذ قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة والبائع راغب عن المبيع لا محالة ومخرج حبه عن القلب ومجرد
حب العوض المطلوب في قلبه ومثل هذه الحالة قد يغلب على القلب في بعض الأحوال ولكن
لا يتفق زهوق الروح فيها فصف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحالة هذا فيمن
ليس يقصد الغلبة والغنيمة وحسن الصيت بالشجاعة فإن من هذا حاله وإن قتل في المعركة
فهو بعيد عن مثل هذه الرتبة كما دلت عليه الأخبار // حديث المقتول في الحرب إذا كان
قصده الغلبة والغنيمة وحسن الصيت فهو بعيد عن رتبة الشهادة متفق عليه من حديث أبي
موسى الأشعري إن رجلا قال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر
والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا
فهو في سبيل الله وفي رواية الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء وفي رواية
غضبا
وإذ بان لك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على
ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر
فيها قلبك واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك فإن ذلك أيضا يؤثر في قلبك
ويصرف إليه فكرك وخواطرك وإياك أن تسوف وتقول سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة فإن كان
نفس من أنفاسك خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة وإياك أن
تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيها روحك هذا ما دمت في
يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر الباطن وأن يغلبك النوم
إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة
الأثر
واعلم قطعا أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان قبل النوم غالبا عليه وأنه
لا يغلب في النوم إلا ما كان غالبا قبل النوم ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على
قلبك في نومك والموت والبعث شبيه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب
عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا
على ما عاش عليه ولا يحشر إلا على ما مات عليه وتحقق قطعا ويقينا أن الموت والبعث
حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقا باعتقاد
القلب إن لم تكن أهلا لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك
وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم
فكيف إذا لم تفعل
والناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم
هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما لم تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك وضرورتك مطعم وملبس
ومسكن والباقي كله فضول والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك فينبغي أن يكون
تناولك تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك
إذ
لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة وكما لا يكون
قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك
واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذ لم يكن قصدك من
الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في
ثلاثة أمور
من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة
واحد فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا
يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاثة وسقطت عنك مئونة
الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن
الحلال يعز ولا يفى بجميع الشهوات وأما ملبسك فيكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر
العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه
زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من
الحرام والشبهة وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس
إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده
بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء
سقفا والأرض مستقرا فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكنا خاصا طال
عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى
كونه حائلا بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعا للأمطار فأخذت ترفع
الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك
إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت
حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل
هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك
واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوما بيوم
في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن
كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر
الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض
القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم
عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك
في أحوالهم لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم
يدهش وبعضهم يسقط مغشيا عليه وبعضهم يخر ميتا إلى الأرض ولا غرو وإن كان ذلك لا
يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر
منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله
وما الله بغافل عما تعملون
بيان أحوال الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام في الخوف
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا تغير الهواء
وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقول ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفا من
عذاب الله // حديث عائشة كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة تغير وجهه الحديث
متفق عليه من حديث عائشة //
وقرأ صلى الله عليه و سلم آية في سورة الواقعة فصعق // حديث قرأ في سورة الحاقة
فصعق المعروف فيما يروى من هذه القصة أنه قرئ عنده إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما
ذا غصة وعذابا أليما فصعق كما رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب مرسلا وهكذا ذكره
المصنف على الصواب في تاب السماع كما تقدم //
وقال تعالى وخر موسى صعقا ورأى رسول الله صلى الله عليه و سلم صورة جبريل
عليه
السلام بالأبطح فصعق // حديث إنه رأى صورة جبريل بالأبطح فصعق أخرجه البزار من
حديث ابن عباس بسند جيد سأل النبي صلى الله عليه و سلم جبريل أن يراه في صورته
فقال ادع ربك فدعا ربه فطلع عليه من قبل المشرق فجعل يرتفع ويسير فلما رآه صعق
ورواه ابن المبارك من رواية لحسن مرسلا بلفظ فغشي عليه وفي الصحيحين عن عائشة رأى
جبريل في صورته مرتين ولهما عن ابن مسعود رأى جبريل له ستمائة جناح //
وروي أنه عليه السلام كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل // حديث
كان إذا دخل في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل رواه أبو داود والترمذي في
الشمائل والنسائي من حديث عبد الله بن الشخير وتقدم في كتاب السماع //
وقال صلى الله عليه و سلم ما جاءني جبريل قط إلا وهو يرعد فرقا من الجبار // حديث
ما جاءني جبريل قط إلا وهو ترتعد فرائصه من الجبار لم أجد هذا اللفظ وروى أبو
الشيخ في كتاب العظمة من ابن عباس قال أتى جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم
بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترتعد فرائصه فرقا من عذاب الله الحديث وفيه زميل بن
سماك الحنفي يحتاج إلى معرفته
وقيل لما ظهر على إبليس ما ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى
الله إليهما ما لكما تبكيان كل هذا البكاء فقالا يا رب ما نأمن مكرك فقال الله
تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري
وعن محمد بن المنكدر قال لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلما خلق
بنو آدم عادت
وعن أنس أنه عليه السلام سأل جبريل مالي لا أرى ميكائيل يضحك فقال جبريل ما ضحك
ميكائيل منذ خلقت النار // حديث أنس أنه صلى الله عليه و سلم قال لجبريل مالي لا
أرى ميكائيل يضحك فقال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار رواه أحمد وابن أبي الدنيا
في كتاب الخائفين من رواية ثابت عن أنس بإسناد جيد ورواه ابن شاهين في السنة من
حديث ثابت مرسلا وورد ذلك أيضا في حق إسرافيل رواه البيهقي في الشعب وفي حق جبريل
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين
ويقال إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحد منهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله
عليهم فيعذبهم بها
وقال ابن عمر رضي الله عنهما خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل بعض
حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال يا ابن عمر مالك لا تأكل فقلت يا رسول
الله لا أشتهيه فقال لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاما ولم أجده ولو سألت
ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم
ويضعف اليقين في قلوبهم قال فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت وكأين من دابة لا
تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم قال فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا باتباع الشهوات من كنز دنانير يريد
بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبأ
رزقا لغد // حديث ابن عمر خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخل على
حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل الحديث أخرجه ابن مردويه في التفسير
والبيهقي في الزهد من رواية رجل لم يسم عن ابن عمر قال البيهقي هذا إسناد مجهول
والجراح بن منهال ضعيف
وقال أبو الدرداء كان يسمع أزير قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه و سلم إذا
قام في الصلاة في مسيره ميل خوفا من ربه
وقال مجاهد بكى داود عليه السلام أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعي
من دموعه وحتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أم ظمآن فتسقى أم عار فتكسى
فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى عليه التوبة والمغفرة
فقال يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في كفه مكتوبة فكان لا يبسط كفه لطعام
ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته قال وكان يؤتى بالقدح ثلثاه فإذا
تناولته
أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه
ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز و جل
وكان يقول في مناجاته إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك
ارتدت إلى روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني
فبؤسا للقانطين من رحمتك
وقال الفضيل بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخا واضعا يده على
رأسه حتى لحق بالجبال فاجتمعت إليه السباع فقال ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل
بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا البكاء ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود
الخطاء
وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام
واشتغال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون
وقال عبد العزيز بن عمر لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال إلهي بح صوتي في صفاء
أصوات الصديقين
وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه فقال يا رب
أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك فال إلهي
وسيدي كيف أنسي ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه وسكن هبوب
الريح وأظلني الطير على رأسي وأنست الوحوش إلى محرابي إلهي وسيدي فما هذه الوحشة
التي بيني وبينك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية
يا داود آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته
ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي عصاني
فطردته عن جواري عريانا ذليلا يا داود اسمع مني والحق أقول أطعتنا فأطعناك وسألتنا
فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك
وقال يحيى بن أبي كثير بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل
ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم
أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقرى البلاد وما حولها من
الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها ألا من أراد أن يسمع
نوح داود على نفسه فليأت قال فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من
الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذاري من خدورهن
وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف
على حدته محيطون به وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه
فيضجون بالبكاء والصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من
الوحوش والسباع الناس ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل
نوع طائفة فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق
وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ
ناداه بعض عباد بني إسرائيل يا داود عجلت بطلب الجزاء على ربك قال فيخر داود مغشيا
عليه فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ثم أمر مناديا ينادي ألا
من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم
ذكر الجنة والنار فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقول يا من قتله ذكر
النار يا من قتله خوف الله ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت
عبادته وأغلق بابه ويقول يا إله داود أغضبان أنت على داود ولا يزال يناجي ربه
فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول يا أبتاه
تقو بهذا على ما تريد فيأكل من
ذلك
القرص ما شاء الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم
وقال يزيد الرقاشي خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفا
فمات منهم ثلاثون ألفا وما رجع إلا في عشرة آلاف قال وكان له جاريتان اتخذهما حتى
إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه
ومفاصله فيموت
وقال ابن عمر رضي الله عنهما دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن
ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا
التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع
إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا له يا يحيى هلم بنا لنعلب فقال إني لم أخلق للعب
قال فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه
نهارا ويصبح فيه ليلا حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغير ان
الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقع رجليه في الماء حتى
كاد العطش يذبحه وهو يقول عزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك
فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن
يمينه فمدح بالبر فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه
الشجر والمدر ويبكي زكريا عليه السلام لبكائه حتى يغمى عليه فلم يزل يبكي حتى خرقت
دموعه لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه يا بني لو أذنت لي أن أتخذ لك
شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتها على
خدية فكان إذا قام يصلي بكى فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما
فإذا رأى دموع تسبل على ذراعي أمه قال اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت
أرحم الراحمين قال له زكريا يوما
يا بني إنما سالت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك فقال يحيى يا أبت إن جبريل عليه
السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء
فقال زكريا عليه السلام يا بني فابك
وقال المسيح عليه السلام معاشر الحواريين خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على
المشقة ويباعدان من الدنيا
بحق أقول لكم إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل
وقيل كان الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا ذكر خطيئته يغشى عليه ويسمع اضطراب
قلبه ميلا في ميل فيأتيه جبريل فيقول له ربك يقرئك السلام ويقول هل رأيت خليلا
يخاف خليله فيقول يا جبريل إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي فهذه أحوال الأنبياء
عليه السلام فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته صلوات الله
عليهم أجمعين وعلى كل عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل
بيان أحوال الصحابة والتابعين والسلف والصالحين في شدة الخوف
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لطائر ليتني مثلك يا طائر ولم أخلق بشرا
وقال أبو ذر رضي الله عنه وددت لو أني شجرة تعضد وكذلك قال طلحة
وقال عثمان رضي الله عنه وددت إني إذا مت لم أبعث
وقالت عائشة رضي الله عنها وددت أني كنت نسيا منسيا
وروي أن عمر رضي الله عنه كان يسقط من الخوف إذا سمع آية من القرآن مغشيا عليه
فكان يعاد أياما
وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال يا ليتني كنت هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئا مذكورا
يا ليتني كنت نسيا منسيا
يا
ليتني لم تلدني أمي
وكان في وجه عمر رضي الله عنه خطان أسودان من الدموع وقال رضي الله عنه من خاف
الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما
ترون
ولما قرأ عمر رضي الله عنه إذا الشمس كورت وانتهى إلى قوله تعالى وإذا الصحف نشرت
خر مغشيا عليه
ومر يوما بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة والطور فوقف يستمع فلما بلغ قوله تعالى
إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع نزل عن حماره واستند إلى حائط ومكث زمانا ورجع إلى
منزله فمرض شهرا يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه
وقال علي كرم الله وجهه وقد سلم من صلاة الفجر وقد علاه كآبة وهو يقلب يده لقد
رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فلم أر اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون
شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب
الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر
في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم والله فكأن بالقوم باتوا غافلين
ثم قام فما رؤي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم
وقال عمران بن حصين وددت أن أكون رمادا تنسفني الرياح في يوم عاصف
وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي
وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ أصفر لونه فيقولون له أهله ما هذا الذي
يعتادك عند الوضوء فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم
قال موسى بن مسعود كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من
خوفه وجزعه
وقرأ مضر القارئ يوما هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقالآية فبكى عبد الواحد بن زيد
حتى غشي عليه فلما أفاق قال وعزتك لأعصيتك جهدي أبدا فأعني بتوفيقك على طاعتك
وكان المسور بن مخرمة لا يقوى أن يسمع شيئا من القرآن لشدة خوفه ولقد كان يقرأ
عنده الحرف والآية فيصيح الصحية فما يعقل أياما حتى أتى عليه رجل من خثعم فقرأ
عليه يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا فقال أنا من
المجرمين ولست من المتقين أعد على القول أيها القارئ فأعادها عليه فشهق شهقة فلحق
بالآخرة
وقرئ عند يحيى البكاء ولو ترى إذ وقفوا على ربهم فصاح صيحة مكث منها مريضا أربعة
أشهر يعاد من أطراف البصرة
وقال مالك بن دينار بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرة متعبدة متعلقة بأستار
الكعبة وهي تقول يا رب كم شهوة ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها يا رب أما كان لك أدب
وعقوبة إلا النار وتبكى فما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر قال مالك فلما رأيت ذلك
وضعت يدي على رأسي صارخا أقول ثكلت مالكا أمه
وروي أن الفضيل رؤي يوم عرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلي المحترقة حتى إذا
كادت الشمس تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال واسوأتاه منك وإن غفرت
ثم انقلب مع الناس
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين فقال قلوبهم بالخوف فرحة وأعينهم باكية
يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا
وبين يدي الله ربنا موقفنا
ومر
الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس فقال له الحسن يا فتى هل
مررت بالصراط قال لا
قال فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار قال لا
قال فما هذا الضحك قال فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكا
وكان حماد بن عبد ربه إذا جلس جلس مستوفرا على قدميه فيقال له اطمأننت فيقول تلك
جلسة الآمن وأنا غير آمن إذ عصيت الله تعالى
وقال عمر بن عبد العزيز إنما جعل الله هذه الغفلة في قلوب العباد رحمة كيلا يموتوا
من خشية الله تعالى
وقال مالك بن دينار قد هممت إذا أنا مت آمرهم أن يقيدوني ويغلوني ثم ينطلقوا بي
إلى ربي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده
وقال حاتم الأصم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة وقد لقي آدم عليه
السلام فيهما ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي
ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي ولا تغتر
برؤية الصالحين فلا شخص أكبر منزلة عند الله من المصطفى صلى الله عليه و سلم ولم
ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه
وقال السري إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرات مخافة أن يكون قد أسود وجهي
وقال أبو حفص منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إلى نظر السخط وأعمالي
تدل على ذلك
وخرج ابن المبارك يوما على أصحابه فقال إني اجترأت البارحة على الله سألته الجنة
وقالت أم محمد بن كعب القرظي لابنها يا بني إني أعرفك صغيرا طيبا وكبيرا طيبا
وكأنك أحدثت حدثا موبقا لما أراك تصنع في ليلك ونهارك فقال يا أماه ما يؤمنني أن
يكون الله تعالى قد اطلع علي وأنا على بعض ذنوبي فمقتني وقال وعزتي وجلالي لا غفرت
لك
وقال الفضيل إني لا أغبط نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا ولا عبدا صالحا أليس هؤلاء
يعاينون يوم القيامة إنما أغبط من لم يخلق
وروي أن فتى من الأنصار دخلته خشية النار فكان يبكي حتى حبسه ذلك في البيت فجاء
النبي صلى الله عليه و سلم فدخل عليه واعتنقه فخر ميتا فقال صلى الله عليه و سلم
جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فتت كبده // حديث أن فتى من الأنصار دخلته خشية
من النار حتى حبسه خوفه في البيت الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الخائفين من حديث
حذيفة والبيهقي في الشعب من حديث سهل بن سعد بإسنادين فيهما نظر //
وروي عن ابن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه يقول يا ليت أمي لم تلدني فقالت
له أمه يا ميسرة إن الله تعالى قد أحسن إليك هداك إلى الإسلام قال أجل ولكن الله
قد بين لنا أنا واردو النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها
وقيل لفرقد السبخي أخبرنا بأعجب شيء بلغك عن إسرائيل فقال بلغني أنه دخل بيت
المقدس خمسمائة عذارء لباسهن الصوف والمسوح فتذاكرن ثواب الله وعقابه فمتن جميعا
في يوم واحد
وكان عطاء السلمي من الخائفين ولم يكن يسأل الله الجنة أبدا إنما كان يسأل الله
العفو وقيل له في مرضه ألا تشتهي شيئا فقال إن خوف جهنم لم يدع في قلبي موضعا
للشهوة إنه ما رفع رأسه إلى السماء ولا ضحك
أربعين
سنة
وأنه رفع رأسه يوما ففزع فسقط فانفتق في بطنه فتق وكان يمس جسده في بعض الليلة
مخافة أن يكون قد مسخ
وكان إذا أصابتهم ريح أو برق أو غلاء طعام قال هذا من أجلي يصيبهم لو مات عطاء
لاستراح الناس
وقال عطاء خرجنا مع عتبة الغلام وفينا كهول وشبان يصلون صلاة الفجر بطهور العشاء
قد تورمت أقدامهم من طول القيام وغارت أعينهم في رءوسهم ولصقت جلودهم على عظامهم
وبقيت العروق كأنها الأوتار يصبحون كأن جلودهم قشور البطيخ وكأنهم قد خرجوا من
القبور يخبرون كيف أكرم الله المطيعين وكيف أهان العاصين فبينما هم يمشون إذ مر
أحد بمكان فخر مغشيا عليه فجلس أصحابه حوله يبكون في يوم شديد البرد وجبينه يرشح
عرقا فجاءوا بماء فمسحوا وجهه فأفاق وسألوه عن أمره فقال إني ذكرت أني كنت عصيت
الله في ذلك المكان
وقال صالح المري قرأت على رجل من المتعبدين يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا
ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا فصعق ثم أفاق فقال زدني يا صالح فإني أجد غما
فقرأت كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فخر ميتا
وروي أن زرارة بن أبي أوفى صلى بالناس الغداة فلما قرأ فإذا نقر في الناقور خر
مغشيا عليه فحمل ميتا
ودخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال عظني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين
اعلم أنك لست أول خليفة يموت فبكى ثم قال زدني قال يا أمير المومنين ليس بينك وبين
آدم أب إلا ميت فبكى ثم قال زدني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين
الجنة والنار منزل فخر مغشيا عليه
وقال ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين صاح سلمان
الفارسي ووضع يده على رأسه وخرج هاربا ثلاثة أيام لا يقدرون عليه // حديث ميمون بن
مهران لما نزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين صاح سلمان الفارسي لم أقف له
على أصل //
ورأى داود الطائي امرأة تبكي على رأس قبر ولدها وهي تقول يا ابناه ليت شعري أي
خديك بدأ به الدود أولا فصعق داود وسقط مكانه
وقيل مرض سفيان الثوري فعرض دليله على طبيب ذمي فقال هذا رجل قطع الخوف كبده ثم
جاء وجس عروقه ثم قال ما علمت أن في الملة الحنيفية مثله
وقال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه سألت الله عز و جل أن يفتح علي بابا من الخوف
ففتح فخفت على عقلي فقلت يا رب على قدر ما أطيق فسكن قلبي
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو
يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه وكأنه أشار إلى معنى
قوله صلى الله عليه و سلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا // حديث
لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا تقدم في قواعد العقائد //
وقال العنبري اجتمع أصحاب الحديث على باب الفضيل بن عياض فاطلع عليهم من كوة وهو
يبكي ولحيته ترجف فقال عليكم بالقرآن عليكم بالصلاة ويحكم ليس هذا زمان حديث إنما
هذا زمان بكاء وتضرع واستكانة ودعاء كدعاء الغريق إنما هذا زمان احفظ لسانك وأخف
مكانك وعالج قلبك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر
ورؤي
الفضيل يوما وهو يمشي فقيل له إلى أين قال لا أدري وكان يمشي والها من الخوف
وقال ذر بن عمر لأبيه عمر بن ذر ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت
أنت سمعت البكاء من كل جانب فقال يا بني ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة
وحكى أن قوما وقفوا بعابد وهو يبكي فقالوا ما الذي يبكيك يرحمك الله قال فرحة
يجدها الخائفون في قلوبهم قالوا وما هي قال روعة النداء بالعرض على الله عز و جل
وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني
وقال صالح المري قدم علينا ابن السماك مرة فقال أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم
فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فإذا رجل يعمل خوصا فقرأت
عليه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق
الرجل شهقة وخر مغشيا عليه فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فدخلنا
عليه فقرأت هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشيا عليه فذهبنا واستأذنا على ثالث فقال
ادخلوا إن لم تشغلونا عن ربنا فقرأت ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فشهق شهقة فبدا
الدم من منخريه وجعل يتشحط في دمه حتى يبس فتركناه على حاله وخرجنا فأدرته على ستة
أنفس كل نخرج من عنده ونتركه مغشيا عليه ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا
امرأة من داخل الخص تقول ادخلوا فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه
فلم يشعر بسلامنا فقلت بصوت عال ألا إن للخلق غدا مقاما فقال الشيخ بين يدي من
ويحك ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك
الصوت فقالت امرأته اخرجوا فإنكم لا تنتفعون به الساعة فلما كان بعد ذلك سالت عن
القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله تعالى
وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي فرضنا فلم كان
بعد ثلاث عقل
وكان يزيد بن الأسود يرى أنه من الأبدال وكان قد حلف أن لا يضحك أبدا ولا ينام
مضطجعا ولا يأكل سمنا أبدا فما رؤي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمنا حتى مات رحمه
الله
وقال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط فقال
كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت
وقال رجل يا أبا سعيد كيف أصبحت قال بخير قال كيف حالك فتبسم الحسن وقال تسألني عن
حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان
منهم بخشبة على أي حال يكون قال الرجل على حال شديدة
قال الحسن حالي أشد من حالهم
ودخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز عليه فسلمت عليه ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت
فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها ثم انتبهت فقالت يا أمير
المؤمنين إني والله رأيت عجبا قال وما ذلك قالت رأيت النار وهي تزفر على أهلها ثم
جئ بالصراط ووضع على متنها فقال هيه قالت فجئ بعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما
مضى عليه إلا يسير حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ
بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى
إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا
حتى انكفأ به الصراط فهوى كذلك فقال عمر هيه قالت ثم جئ بك والله يا أمير المؤمنين
فصاح عمر رحمه الله عليه صيحة خر مغشيا عليه
فقامت
إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين إني رأيتك والله قد نجوت إني رأيتك
والله قد نجوت قال وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه
ويحكى أن أويسا القرني رحمه الله كان يحضر عند القاص فيبكي من كلامه فإذا ذكر
النار صرخ أويس ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون مجنون مجنون
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه
وكان طاوس يفرش له الفرش فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه
ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين
وقال الحسن البصري رحمه الله يخرج من النار رجل بعد ألف عام يا ليتني كنت ذلك
الرجل وإنما قال ذلك لخوفه من الخلود وسوء الخاتمة
وروي أنه ما ضحك أربعين سنة قال وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم لتضرب عنقه
وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه
وعوتب في شدة حزنه وخوفه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع في على بعض ما
يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معتمل
وعن ابن السماك قال وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس لقد
وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها
قلت وما هي رحمك الله قال قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة
أو في النار
ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته
أعوده فقلت يا أخي ما الذي أرى بك فقال يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب
الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة أو في النار
قال ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت يا أخي ما فعل الله بك قال غفر لي
ورحمني وأدخلني الجنة
قلت بماذا قال بالكلمة
فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس
الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا
وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا
غفلتنا وقسوتنا فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا مشاهدة أحوال
الخائفين تخوفنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده
أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا
ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار
والبراري وخاطرنا
وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وشهرنا ونجتهد في طلب
أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول اللهم ارزقنا ثم إذا
طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا
وارحمنا والذي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول وإن ليس للإنسان إلا ما سعى
ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما عزك بربك الكريم ثم كل ذلك لا ينبهنا
ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله
علينا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا بل نسأله
أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا
فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل
بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا فنسأل الله تعالى أن يمن علينا
بالتوفيق والرشد بمنه وفضله
ولنقتصر
من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل
فيكفي والكثير منه وإن أفيض على القلب الغافل فلا يغني
ولقد صدق الراهب الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني وكان من خيار العباد أنه رآه
على باب بيت المقدس واقفا كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة
البكاء فقال عيسى لما رأيته هالني منظره فقلت أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك
فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام
فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع أو يسهو فتنهشه الهوام فهو مذعور القلب
وجل فهو في المخالفة ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن نهاره وإن فرح الباطلون ثم
ولى وتركني فقلت لو زدتني شيئا عسى أن ينفعني فقال الظمآن يجزيه من الماء أيسره
وقد صدق فإن القلب الصافي يحركه أدنى مخافة والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ وما
ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو
تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحونا بأصناف السباع وأنواع
الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها وهي التي لا
تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف
الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها
فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد
انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا
فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك والسلام
كتاب الفقر والزهد وهو الكتاب رابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تسبح له الرمال وتسجد له الظلال وتتدكدك من هيبته الجبال خلق
الإنسان من الطين اللازب والصلصال وزين صورته بأحسن تقويم وأتم اعتدال وعصم قلبه
بنور الهداية عن ورطات الضلال وأذن له في قرع باب الخدمة بالغدو والآصال ثم كحل
بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضيائه حضرة الجلال فلاح له من
بالبهجة والبهاء والكمال ما استقبح دون مبادئ إشراقه كل حسن وجمال واستثقل كل ما
صرفه عن مشاهدته وملازمته غاية الاستثقال وتمثل له ظاهر الدنيا في صورة امرأة
جملية تميس وتحتال وانكشف له باطنها عن جور شوهاء عجنت من طينة الخزي وضربت في
قالب النكال وهي متلفلفة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر والاحتيال وقد
نصبت حبائلها في مدارج الرجال فهي تقتنصهم بضروب المكر والاغتيال ثم لا تجتزئ معهم
بالخلف في مواعيد الوصال بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل والأغلال وتبليهم
بأنواع البلايا والأنكال فلما انكشف للعارفين منا قبائح الأسرار والأفعال زهدوا
فيها زهد المبغض لها فتركوها وتركوا التفاخر والتكاثر بالأموال وأقبلوا بكنه همهم
على حضرة الجلال واثقين منها بوصال ليس دونه انفصال ومشاهدة أبدية لا يعتريها فناء
ولا زوال والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله خير آل
أما
بعد فإن الدنيا عدوة لله عز و جل بغرورها ضل من ضل وبمكرها زل من زل فحبها رأس
الخطايا والسيئات وبغضها أم الطاعات رأس القربات
وقد استقصينا ما يتعلق بوصفها وذم الحب لها في كتاب ذم الدنيا من ربع المهلكات
ونحن الآن نذكر فضل البغض لها والزهد فيها فإنه رأس المنجيات فلا مطمع في النجاة
إلا بالانقطاع عن الدنيا والبعد منها لكن مقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد
ويسمى ذلك فقرا وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهدا ولكل واحد منهما درجة في
نيل السعادات وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة ونحن الآن نذكر حقيقة الفقر والزهد
ودرجاتهما وأقسامهما وشروطهما وأحكامهما ونذكر الفقر في شطر من الكتاب والزهد في
شطر آخر منه ونبدأ بذكر الفقر فنقول الشطر الأول من الكتاب في الفقر
وفيه بيان حقيقة الفقر وبين فضيلة الفقر مطلقا وبيان خصوص فضيلة الفقراء وبيان
فضيلة الفقير على الغني وبيان أدب الفقير في فقره وبيان أدبه في قبوله العطاء
وبيان تحريم السؤال بغير ضرورة وبيان مقدار الغني المحرم للسؤال وبيان أحوال
السائلين والله الموفق بلطفه وكرمه
بيان حقيقة الفقر واختلاف أحوال الفقير وأساميه
اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى
فقرا
وإن كان المحتاج إليه موجودا مقدورا عليه لم يكن المحتاج فقيرا وإذا فهمت هذا لم
تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني
الحال ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده فإن كان في الوجود موجود ليس
وجوده مستفاد له من غير فهو الغني المطلق ولا يتصور أن يكون مثل هذا الموجود إلا
واحدا فليس في الوجود إلا غني واحد وكل من عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم
بالدوام وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى والله الغني وأنتم الفقراء هذا معنى
الفقر مطلقا ولكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص وإلا
ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها
ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط فنقول كل فاقد
للمال فإنا نسميه فقيرا بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجا
إليه في حقه ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عن الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال
باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها
الحالة الأولى وهي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه
مبغضا له ومحترزا من شره وشغله وهو الزهد واسم صاحبه الزاهد
الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها
ويزهد فيه لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضيا
الثالثة أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ولكن لم يبلغ من رغبته
أن ينهض لطلبه بل إن أتاه صفوا عفوا أخذه وفرح به وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم
يشتغل به وصاحب هذه الحالة نسميه قانعا إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما
فيه من الرغبة الضعيفة
الرابعة أن يكون تركه الطلب لعجزه وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلا إلى طلبه
ولو بالتعب لطلبه أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص
الخامسة
أن يكون ما فقده من المال مضطرا إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب
ويسمى صاحب هذه الحالة مضطرا كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة وإما قوية وقلما
تنفك هذه الحالة عن الرغبة فهذه خمسة أحوال أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه
الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه ووراء هذه الأحوال الخمسة
حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده فإن وجده لم يفرح به
ولم يتأذ وإن فقده فكذلك بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذا أتاها
مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها فقالت خادمتها ما استطعت فيما
فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه فقالت لو ذكرتيني لفعلت فمن هذا
حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره إذ هو يرى الأموال في خزانة
الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يده غيره وينبغي أن
يسمى صاحب هذه الحالة المستغنى لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعا وليفهم من هذا
الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد
فإن من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو
هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه فهو إذن فقير من وجه وأما هذا الشخص فهو
غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضا فإنه ليس يتأذن
به ليحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه
وليس فاقد له ليحتاج إلى الدخول في يديه فغناه إلى العموم أميل فهو إلى الغني الذي
هو وصف الله تعالى أقرب وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان
ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنيا بل مستغنيا ليبقى الغنى اسما لمن له الغنى
المطلق عن كل شيء
وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجودا أو عدما فلم يستغن عن أشياء أخر سواء
ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه والذي زين الله به قلبه فإن القلب
المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر والله تعالى هو الذي من هذا الرق فهو
محتاج إلى داوم هذا العتق والقلوب متعلقة بين الرق والحربة في أوقات متقاربة لأنها
بين أصبعين من أصابع الرحمن فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقا عليه مع هذا الكمال إلا
مجازا
واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار
الزهد في حقه نقصانا إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا
مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن
الله تعالى إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجابا فإنه أقرب إليك
من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجابا بينك وبينه فلا
حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك نفسك وشهواتك شغل بغيره وأنت لا تزال مشغولا
بنفسك وبشهوات نفسك فكذلك لا تزال محجوبا عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله
تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضا مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال
الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى
بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ
بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن
النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه فكذا النظر
إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا
يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضا وحبا فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان
IR في حالة واحدة فلا
يجتمع أيضا بغض وحب في حالة واحدة فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول
بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببغضها
غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه
الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب
والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة علفها وتسييرها ولكن أحدهما
مستقبل الكعبة والآخر مستدبر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد
منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر
إذ يرجى له الوصول إليها وليس محمودا بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها
الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن
تظن أن بغض الدنيا مقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى ولا وصول إليه إلا
بدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من زهد في الدنيا واقتصر
عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء
الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد
في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال وإن أريد به
الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان
بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء
وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر
الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولا
بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول أشرب منه بقدر الحاجة
وأسقى منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد فهكذا ينبغي أن يكون المال
لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر
وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من
الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حيا كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه
في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى
قال أحمد بن أبي الحواري قلت لأبي سليمان الداراني قال مالك بن دينار للمغيرة اذهب
إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال
أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية قد زاده في الدنيا ما غلبه من أخذها فبين أن
كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان
فإن قلت فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول
كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجتهم ففروا عما وراءه ولم
يجمعوه في القرب والروايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري
للمحتاجين إليه لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أبو بغضه وقد حملت خزائن الأرض
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها
ووضعوها في مواضعا وما هربوا منها // حديث إن خزائن الأرض حملت إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم وإلى أبي بكر وعمر فأخذوها ووضعوها في مواضعها هذا معروف وقد تقدم
في أداب المعيشة من عند البخاري تعليقا مجزوما به من حديث أنس أتى النبي صلى الله
عليه و سلم بمال من البحرين وكان أكثر مال أتى به فخرج رسول الله صلى الله عليه و
سلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إله فقلما كان يرى أحد
إلا أعطاه ووصله عمر بن محمد البحيري في صحيحه من هذا الوجه وفي الصحيحين من حديث
عمرو ابن عوف قدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدومه الحديث ولهما من
حديث جابر لو جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا فلم يقدم حتى توفي رسول الله
صلى الله عليه و سلم فأمر أبو بكر مناديا فنادى من كان له على رسول الله صلى الله
عليه و سلم عدة أو دين فليأتنا فقلت إن النبي صلى الله عليه و سلم وعدني فحثا لي
ثلاثا //
إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن
ينقل عمن خاف
أن
لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات وهذا حال الضعفاء فلا جرم
البغض للمال والهرب منه فى حقهم كمال وهذا حكم جميع الخلق لأن كلهم ضعفاء إلا
الأنبياء والأولياء وإما أن ينقل عن قوى بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفارنزولا
إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به فى الترك إذ لو اقتدوا به فى الأخذ لهلكوا كما يفر
الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها
أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء
والعلماء فقد عرفت إذن أن المراتب ست وأعلاها رتبة المستغنى ثم الزاهد ثم الراضى
ثم القانع ثم الحريص وأما المضطر فيتصور فى حقة أيضا الزهد والرضا والقناعة ودرجه
تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال واسم الفقير يطلق على هذه الخمسة أما تسمية
المستغنى فقيرا فلا وجه لها بهذا المعنى بل إن سمى فقيرا فبمعنى آخر وهو معرفته
بكونه محتاجا إلى الله تعالى فى جميع أموره عامة وفى بقاء استغنائه عن المال خاصة
فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باسم
العبد من الغافلين وإن كان اسم العبد عاما للخلق فكذلك اسم الفقير عام ومن عرف
نفسه بالفقر إلى الله تعالى فهو أحق باسم الفقير فاسم الفقير مشترك بين هذين
المعنيين وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول اللهA أعوذ بك من الفقر
// حديث أعوذ بك من الفقر تقدم فى الأذكار والدعوات // وقوله عليه السلام كاد
الفقر أن يكون كفرا // حديث كاد الفقر أن يكون كفرا تقدم فى ذم الحسد // لا يناقض
قوله أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا // حديث اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا رواه
الترمذى من حديث أنس وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد وقد تقدم //
إذ فقر المضطر هو الذى استعاذ منه والفقر الذى هو الاعتراف بالمسكنة والذلة
والافتقار إلى الله تعالى هو الذى سأله فى دعائه صلى الله عليه و سلم وعلى كل عبد
مصطفى من أهل الأرض والسماء
بيان فضيلة الفقر مطلقا
أما من الآيات فيدل عليه قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم الآية وقال تعالى للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى
الأرض ساق الكلام فى معرض المدح ثم قدم وصفهم بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار
وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقر
وأما الأخبار فى مدح الفقر فأكثر من أن تحصى روى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما
قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه أى الناس خير فقالوا موسر من المال
يعطى حق الله من نفسه وماله فقال نعم الرجل هذا وليس به قالوا فمن خير الناس يا
رسول الله قال فقير يعطى جهده // حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه و سلم قال
لأصحابه أى الناس خير فقالوا موسر من المال يعطى حق الله من نفسه وماله فقال نعم
الرجل هذا وليس به قالوا فمن خير الناس قال فقير يعطى جهده أخرجه أبو منصور
الديلمى فى مسند الفردوس بسند ضعيف مقتصرا على المرفوع منه دون سؤاله لأصحابه
وسؤالهم له // وقال صلى الله عليه و سلم لبلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا //
حديث قال لبلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا أخرجه الحاكم فى كتاب علامات أهل
التحقيق من حديث بلال ورواه الطبرانى من حديث أبي سعيد بلفظ مت فقيرا ولا تمت غنيا
وكلاهما ضعيف // وقال صلى الله عليه و سلم إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال
// حديث إن يحب الفقير المتعفف أبا العيال أخرجه ابن ماجه من حديث عمران بن حصين
وقد تقدم // وفى الخبر المشهور يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام
// حديث يدخل فقراء أمتى الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام أخرجه الترمذى من حديث
أبي هريرة وقال حسن صحيح وقد تقدم // وفى حديث آخر
بأربعين
خريفا // حديث دخولهم قبلهم بأربعين خريفا أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو
إلا أنه قال فقراء المهاجرين والترمذى من حديث جابر وأنس // أى أربعين سنة فيكون
المراد به تقدير تقدم الفقير الحريص على الغنى الحريص والتقدير بخمسمائة عام تقدير
تقدم الفقير الزاهد على الغنى الراغب وما ذكرناه من اختلاف درجات الفقر يعرفك
بالضرورة تفاوتا بين الفقراء فى درجاتهم وكأن الفقير الحريص على درجة من خمسوعشرين
درجة من الفقير الزاهد إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة ولا تظنن أن تقدير رسول
الله صلى الله عليه و سلم يجرى على لسانه جزافا وبالاتفاق بل لا يستنطق صلى الله
عليه و سلم إلا بحقيقة الحق فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى وهذا كقوله
صلى الله عليه و سلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءامن النبوة // حديث
الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة أخرجه البخارى من حديث أبى سعيد
ورواه هو ومسلم من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وأنس بلفظ رؤيا المؤمن جزء
الحديث وقد تقدم // فإنه تقدير تحقيق لا محالة لكن ليس فى قوة غيره أن يعرف علة
تلك النسبة إلا بتخمين فأما بالتحقيق فلا إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به
النبى ويفارق به غيره وهو يختص بأنواع من الخواص أحدها أن يعرف حقائق الأمور
المتعلقة بالله وصفاته والملائكة والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل مخالفا له
بكثرة المعلومات وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف
والثانى أن له فى نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها
تتم الحركات المقرونة بإرادتنا وباختيارنا وهى القدرة وإن كانت القدرة والمقدور
جميعا من فعل الله تعالى
والثالث أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم كما أن للبصر صفة بها يفارق الأعمى
حتى يدرك بها المبصرات
والرابع أن له صفة بها يدرك ما سيكون فى الغيب إما فى اليقظة أو فى المنام إذ بها
يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها للأنبياء
وبعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى
خمسين وإلى ستين ويمكننا أيضا أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا
الصحيحة جزءا واحدا من جملتها ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا
يمكن إلا بظن وتخمين فلا ندرى تحقيقا أنه الذى أراده رسول الله صلى الله عليه و
سلم أم لا وإنما المعلوم مجامع الصفات التى بها تتم النبوة وأصل انقسامها وذلك لا
يرشدنا إلى معرفة علة التقدير فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق فأما لم
كان هذا الفقير الحريص مثلا على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يبق له التقدم
بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس فى قوة البشر
غير الأنبياء الوقوف على ذلك إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به والغرض التنبيه على
منهاج التقدير فى أمثال هذه الأمور فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجرى من رسول
الله صلى الله عليه و سلم على سبيل الاتفاق وحاشا منصب النبوة عن ذلك ولنرجع إلى
نقل الأخبار فقد قال صلى الله عليه و سلم أيضا خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها
تضجعا فى الجنة ضعفاؤها // حديث خير الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعا فى الجنة ضعفاؤها
لم أجد له أصلا // وقال صلى الله عليه و سلم إن لى حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد
أحبنى ومن أبغضهما فقد ابغضنى الفقر والجهاد // حديث إن لى حرفتين اثنتين الحديث
وفيه الفقر والجهاد لم أجد له أصلا // وروى أن جبريل عليه السلام نزل على رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد إن الله عز و جل يقرأ عليك السلام ويقول
أنحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا // حديث أن جبريل نزل فقال إن الله يقرأ عليك السلام
ويقول أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهبا الحديث وفيه إن الدنيا دار من لا دار له
الحديث هذا ملفق من حديثين فروى الترمذى من حديث أبى أمامة عرض على ربى ليجعل لى
بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما الحديث وقال حسن
ولأحمد من حديث عائشة الدنيا دار من لا دار له الحديث وقد تقدم فى ذم الدنيا //
وتكون
معك أينما كنت فأطرق رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال يا جبريل إن الدنيا دار
من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له فقال له جبريل يا محمد
ثبتك الله بالقول الثابت
وروى أن المسيح صلى الله عليه و سلم مر فى سياحته برجل نائم ملتف فى عباءة فأيقظه
وقال يا نائم قم فاذكر الله تعالى فقال ما تريد منى إني قد تركت الدنيا لأهلها
فقال له قم إذن يا حبيبى
ومر موسى صلى الله عليه و سلم برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته
فى التراب وهو متزر بعباءة فقال يا رب عبدك هذا فى الدنيا ضائع فأوحى الله تعالى
إليه يا موسى أما علمت أنى إذا نظرت إلى عبد بوجهى كله زويت عنه الدنيا كلها
وعن أبي رافع أنه قال ورد على رسول الله صلى الله عليه و سلم ضيف فلم يجد عنده ما
يصلحه فأرسلى إلى رجل من يهود خيبر وقال قل له يقول لك محمدا سلفنى أو بعنى دقيقا
إلى هلال رجب قال فأتيته فقال لا والله إلا برهن فأخبرت رسول الله صلى الله عليه و
سلم بذلك فقال أما والله إنى لأمين في أهل السماء أمين فى أهل الأرض ولو باعنى أو
أسلفنى لأديت إليه اذهب بدرعى هذا إليه فارهنه فلما خرجت نزلت هذه الآية ولا تمدن
عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا // حديث أبي رافع ورد على
رسول الله صلى الله عليه و سلم ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه فأرسلنى إلى رجل من يهود
خيبر الحديث فى نزول قوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أخرجه
الطبرانى بسند ضعيف // الآية وهذه الآية تعزية لرسول الله صلى الله عليه و سلم عن
الدنيا وقال صلى الله عليه و سلم الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس
// حديث الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس رواه الطبرانى من حديث
شداد بن أوس بسند ضعيف والمعروف أنه من كلام عبد الرحمن بن زياد بن أنعم رواه ابن
عدى فى الكامل هكذا // وقال صلى الله عليه و سلم من أصبح منكم معافى فى جسمه آمنا
فى سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها // حديث من أصبح منكم
معافى فى جسمه الحديث أخرجه الترمذى وقد تقدم //
وقال كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى عليه السلام يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا
فقل مرحبا بشعار الصالحين
وقال عطاء الخراسانى مر نبى من الأنبياء بساحل فإذا هو برجل يصطاد حيتانا فقال بسم
الله وألقى الشبكة فلم يخرج فيها شيء ثم مر بآخر فقال باسم الشيطان وألقى شبكته
فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها
فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا رب ما هذا وقد علمت أن كل ذلك بيدك فقال الله
تعالى للملائكة اكشفوا لعبدى عن منزلتيهما فلما رأى ما أعد الله تعالى لهذا من
الكرامة ولذاك من الهوان قال رضيت يا رب
وقال نبينا صلى الله عليه و سلم اطلعت فى الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت
فى النار فرأيت اكثر أهلها الأغنياء والنساء وفى لفظ آخر فقلت اين الأغنياء حبسهم
الجد وفى حديث آخر فرأيت أكثر أهل النار النساء فقلت ما شأنهن فقيل شغلهن الأحمران
الذهب والزعفران // حديث اطلعت فى النار فرأيت أكثر أهلها النساء الحديث تقدم فى
آداب النكاح مع الزيادة التى فى آخره // وقال صلى الله عليه و سلم تحفة المؤمن فى
الدنيا الفقر // حديث تحفة المؤمن فى الدنيا الفقر رواه محمد بن خفيف الشيرازى فى
شرف الفقر وأبو منصور الديلمى فى مسند الفردوس من حديث معاذ بن جبل بسند لا بأس به
ورواه أبو منصور أيضا فيه من حديث ابن عمر بسند ضعيف جدا // وفى الخبر آخر
الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابى دخولا
الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه // حديث آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان
الحديث تقدم وهو فى الأوسط للطبرانى بإسناد فرد وفيه نكارة // وفى حديث آخر رأيته
يدخل الجنة زحفا // حديث رأيته يعنى عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة زحفا تقدم وهو
ضعيف //
وقال
المسيح صلى الله عليه و سلم بشدة يدخل الغنى الجنة
وفى خبر آخر عن أهل البيت رضى الله عنهم أنه صلى الله عليه و سلم قال إذا أحب الله
عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قيل وما اقتناه قال لم يترك له أهلا ولا
مالا // حديث إذا أحب الله عبدا ابتلاه الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي عتبة
الخولاني //
وفى الخبر إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا
فقل ذنب عجلت عقوبته // حديث إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا
رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من
رواية مكحول عن أبي الدرداء ولم يسمع منه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام فذكره بزيادة في أوله ورواه أبو نعيم في
الحلية من قول كعب الأحبار غير مرفوع بإسناد ضعيف //
وقال موسى عليه السلام يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك فقال كل فقير فقير
فيمكن أن يكون الثانى للتوكيد ويمكن أن يراد به الشديد الضر
وقال المسيح صلوات الله عليه وسلامه إنى لأحب المسكنة وأبغض النعماء وكان أحب
الأسامى إليه صلوات الله عليه أن يقال له يا مسكين ولما قالت سادات العرب
واغنياؤهم للنبي صلى الله عليه و سلم اجعل لنا يوما ولهم يوما يجيئون إليك ولا
نجىء ونجىء إليك ولا يجيئون بعنون بذلك الفقراء مثل بلال وسلمان وصهيب وأبي ذر
وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأبى هريرة وأصحاب الصفة من الفقراء رضى الله عنهم
أجمعين أجابهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى ذلك وذلك لأنهم شكوا إليه التأذى
برائحتهم وكان لباس القوم الصوف فى شدة الحر فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم
فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزاري وعباس
بن مرداس السلمى وغيرهم فأجابهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يجمعهم
وإياهم مجلس واحد فنزل عليه قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم يعنى الفقراء تريد زينة الحياة الدنيا يعنى
الأغنياء ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعنى الأغنياء إلى قوله تعالى وقل الحق
من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر // حديث قال سادات العرب وأغنياؤهم للنبي
صلى الله عليه و سلم اجعل لنا يوما ولهم يوما الحديث في نزول قوله تعالى واصبر
نفسك مع الذين يدعون ربهم الآية تقدم من حديث خباب وليس فيه أنه كان لباسهم الصوف
ويفوح ريحهم إذا عرفوا وهذه الزيادة من حديث سلمان // الآية
واستأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه و سلم وعنده رجل من أشراف قريش فشق
ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما
يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى يعنى ابن مكتوم أما من استغنى فأنت له تصدى
// حديث استئذان ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه و سلم وعنده رجل من أشراف
قريش ونزول قوله تعالى عبس وتولى أخرجه الترمذي من حديث عائشة وقال غريب قلت
ورجاله رجال الصحيح // يعنى هذا الشريف
وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى
إليه كما يعتذر الرجل للرجل فى الدنيا فيقول وعزتى وجلالى ما زويت الدنيا عنك
لهوانك على ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدى إلى هذه الصفوف
فمن أطعمك فى أو كساك فى يريد بذلك وجهى فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد ألجمهم
العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة // حديث يؤتى
بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا فيقول
وعزتي وجلالي ما زويت عنك الدنيا لهرناك على الحديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب
الثواب من حديث أنس بإسناد ضعيف يقول الله عز و جل يوم القيامة أدنوا منى أحبائي
فتقول الملائكة ومن أحباؤك فيقول فقراء المسلمين فيدنون منه فيقول أما إني لم أزو
الدنيا عنكم لهوان كان بكم علي ولاكن أردت بذلك أن أضعف لكم كرامتي اليوم فتمنوا
على ماشئتم اليوم الحديث دون آخر الحديث وأما أول الحديث فرواه أبو نعيم في الحلية
وسيأتي في الحديث الذي بعده
وقال
عليه السلام أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادى فإن لهم دولة قالوا يا
رسول الله وما دولتهم قال إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا من أطعمكم كسرة أو
سقاكم شربة أو كساكم ثوبا فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة // حديث أكثروا معرفة
الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية من
حديث الحسين بن علي بسند ضعيف اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة يوم القيامة
فإذا كان يوم القيامة نادى مناد سيروا إلى الفقراء فيعتذر إليهم كما يعتذر أحدكم
إلى أخيه في الدنيا // وقال صلى الله عليه و سلم دخلت الجنة فسمعت حركة أمامى
فنظرت فإذا بلال ونظرت فى أعلاها فإذا فقراء أمتى وأولادهم ونظرت فى أسفلها فإذا
فيه من الأغنياء والنساء قليل فقلت يا رب ما شأنهم قال أما النساء فأضربهن
الأحمران الذهب والحرير وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب وتفقدت أصحابى فلم أر
عبد الرحمن بن عوف ثم جاءنى بعد ذلك وهو يبكى فقلت ما خلفك عنى قال يا رسول الله
والله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أنى لا أراك فقلت ولم قال كنت أحاسب
بمالى // حديث دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت إلى أعلاها فإذا
فقراء أمتى وأولادهم الحديث أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف نحوه وقصه
بلال في الصحيح من طريق آخر // فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع
رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة //
حديث إن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة رواه أصحاب
السنن الأربعة من حديث سعيد بن زيد قال الترمذي حسن صحيح // وهو من الأغنياء الذين
قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا من قال بالمال هكذا وهكذا // حديث إلا
من قال بالمال هكذا وهكذا متفق عليه من حديث أبي ذر في أثناء حديث تقدم // ومع هذا
فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد
ودخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على رجل فقير فلم ير له شيئا فقال لو قسم نور
هذا على أهل الأرض لوسعهم // حديث دخل على رجل فقير ولم ير له شيئا فقال لو قسم
نور هذا على أهل الأرض لوسعهم لم أجده //
وقال صلى الله عليه و سلم ألا أخبركم بملوك أهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله قال
كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره // حديث ألا
أخبركم عن ملوك الجنة الحديث متفق عليه من حديث حارثة بن وهب مختصرا ولم يقل ملوك
وقد تقدم ولابن ماجه بسند جيد من حديث معاذ ألا أخبركم عن ملوك الجنة الحديث دون
قوله أغبر أشعث //
وقال عمران بن حصين كانت لى من رسول الله صلى الله عليه و سلم منزلة وجاه فقال يا
عمران إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك فى عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
و سلم قلت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع
الباب وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معى قالت ومن
معك يا رسول الله قال عمران فقالت فاطمة والذى بعثك بالحق نبيا ما على إلا عباءة
قال اصنعى بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدى قد واريته فكيف برأسى فألقى
إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدى على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال
السلام
عليكم يا ابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بى أنى لست
أقدر على طعام آكله فقد أضر بى الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لا
تجزعى يا ابنتاه فو الله ما ذقت طعاما منذ ثلاث وإنى لأكرم على الله منك ولو سألت
ربى لأطعمنى ولكنى آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري
فو الله إنك لسيدة نساء أهل الجنة قالت فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قال
آسيه سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت
من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فو الله لقد زوجتك
سيدا في الدنيا سيدا في الآخرة // حديث عمران ابن حصين كانت لي من رسول اللهA منزلة وجاه فقال يا
عمران إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة الحديث تقدم //
وروى عن على كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا أبغض الناس
فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال
بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء
// حديث إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا الحديث أخرجه أبو منصور
الديلمي بإسناد فيه جهالة وهو منكر //
وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضى الله عنه ذو الدرهمين أشد حبسا أو قال أشد
حسابا من ذى الدرهم
وأرسل عمر رضى الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزينا كئيبا فقالت امرأته
أحدث أمر قال أشد من ذلك ثم قال أرينى درعك الخلق فشقه وجعله صررا وفرقه ثم قام
يصلى ويبكى إلى الغداة ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يدخل فقراء
أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم
فيؤخذ بيده فيستخرج // حديث سعيد بن عامر يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء
بخمسمائة عام الحديث وفي أوله قصة أن عمر بعث إلى سعيد بألف دينار فجاء كئيبا
حزينا وفرقها وقد روى أحمد في الزهد القصة إلا أنه قال تسعين عاما وفي إسناده يزيد
بن أبي زياد تكلم فيه وفي رواية له بأربعين سنة وأما دخولهم قبلهم بخمسمائة عام
فهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه وقد تقدم //
وقال أبو هريرة ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له
خلق يلبسه ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد
وقيل جاء فقير إلى مجلس الثورى رحمه الله فقال له تخط لو كنت غنيا لما قربتك وكان
الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء
وقال المؤمل ما رأيت الغنى أذل منه فى مجلس الثورى ولا رأيت الفقير أعز منه فى
مجلس الثورى رحمه الله
وقال بعض الحكماء مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما
جميعا ولو رغب فى الجنة كما يرغب فى الغنى لفاز بهما جميعا ولو خاف الله فى الباطن
كما يخاف خلقه فى الظاهر لسعد فى الدارين جميعا
وقال ابن عباس ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر
وقال يحيى بن معاذ حبك الفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة
الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين
وفى الأخبار عن الكتب السالفة أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام
احذر أن أمقتك فتسقط
من
عينى فأصب الدنيا عليك صبا
ولقد كانت عائشة رضى الله عنها تفرق مائة ألف درهم فى يوم واحد يوجهها إليها
معاوية وابن عامر وغيرهما وإن درعها لمرقوع وتقول لها الجارية لو اشتريت لك بدرهم
لحما تفطرين عليه وكانت صائمة فقالت لو ذكرتينى لفعلت وكان قد أوصاها رسول الله
صلى الله عليه و سلم وقال إن أردت اللحوق بى فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة
الأغنياء ولا تنزعى درعك حتى ترقعيه // حديث قال لعائشة إن أردت اللحوق بي فعليك
بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء الحديث أخرجه الترمذي وقال غريب والحاكم
وصححه نحوا من حديثها وقد تقدم //
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها فألح عليه
الرجل فقال له إبراهيم أتريد أن أمحو اسمى من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا
أفعل ذلك أبدا رضى الله عنه
بيان فضيلة خصوص الفقراء من الراضين والقانعين والصادقين
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم طوبى لمن هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع
به // حديث طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به رواه مسلم وقد تقدم //
وقال صلى الله عليه و سلم يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا
بثواب فقركم وإلا فلا // حديث يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم الحديث
رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة وهو ضعيف جدا فيه أحمد
بن الحسن بن أبان المصري متهم بالكذب ووضع الحديث // فالأول القانع وهذا الراضى
ويكاد يشعر هذا بمفهومه أن الحريض لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة فى
فضل الفقر تدل على أن له ثوابا كما سيأتى تحقيقه فلعل المراد بعدم الرضا هو
الكراهة لفعل الله فى حبس الدنيا عنه ورب راغب فى المال لا يخطر بقلبه إنكار على
الله تعالى ولا كراهة فى فعله فتلك الكراهة هى التى تحبط ثواب الفقر
وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن النبىA أنه قال إن لكل شىء
مفتاحا ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم هم جلساء الله تعالى يوم القيامة
// حديث إن لكل شيء مفتاحا ومفتاح الجنة حب المساكين الحديث رواه الدارقطني في
غرائب مالك وأبو بكر ابن بلال في مكارم الأخلاق وابن عدي في الكامل وابن حبان في
الضعفاء من حديث ابن عمر //
وروى عن على كرم الله وجهه عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال أحب العباد إلى
الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضى عن الله تعالى // حديث أحب العباد إلى الله
الفقير القانع برزقه الراضي عن الله لم أجده بهذا اللفظ وتقدم عند ابن ماجة حديث
إن الله يحب الفقير المتعفف // وقال صلى الله عليه و سلم اللهم اجعل قوت آل محمد
كفافا // حديث اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو
متفق عليه بلفظ قوتا وقد تقدم // وقال ما من أحد غنى ولا فقير إلا ود يوم القيامة
أنه كان أوتى قوتا فى الدنيا // حديث ما من أحد غنى ولا فقير إلا ود يوم القيامة
أنه كان أوتي قوتا في الدنيا أخرجه ابن ماجة من حديث أنس وقد تقدم // وأوحى الله
تعالى إلى إسماعيل عليه السلام اطلبنى عند المنكسرة قلوبهم قال ومن هم قال الفقراء
الصادقون وقال صلى الله عليه و سلم لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضيا // حديث
لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضيا لم أجده بهذا اللفظ // وقال صلى الله عليه و
سلم يقول الله تعالى يوم القيامة أين صفوتى من خلقى فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا
فيقول فقراء المسلمين القانعون بعطائى الراضوان بقدرى
أدخلوهم
الجنة فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس فى الحساب يترددون // حديث يقول الله يوم
القيامة أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا فيقول فقراء المسلمين
الحديث رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس // فهذا فى القانع والراضى
وأما الزاهد فسنذكر فضله فى الشطر الثانى من الكتاب إن شاء الله تعالى
وأما الآثار فى الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع وقد قال
عمر رضى الله تعالى عنه إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما فى أيدى الناس
وقنع استغنى عنهم
وقال أبو مسعود رضى الله تعالى عنه ما من يوم إلا وملك ينادى من تحت العرش يا ابن
آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك
وقال أبو الدرداء رضى الله تعالى عنه ما من أحد إلا وفى عقله نقص وذلك أنه إذا
أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحا مسرورا والليل والنهار دائبان فى هدم عمره ثم لا
يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص
وقيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك
وقيل كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم
إذ نظر إلى رجل فى فناء القصر وفى يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه
إذا قام فجئنى به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت
جائع قال نعم قال فشبعت قال نعم قال ثم نمت طيبا قال نعم فقال إبراهيم فى نفسه فما
أصنع أنا بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر
ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحا وبقلا فقال له يا عبد الله أرضيت من
الدنيا بهذا فقال ألا أدلك على من رضى بشر من هذا قال بلى قال من رضى بالدنيا عوضا
عن الآخرة
وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزا يابسا فيبله بالماء وياكله بالملح
ويقول من رضى من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد
وقال الحسن رحمه الله لعن الله أقواما أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ
وفى السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
وكان أبو ذر رضى الله عنه يوما جالسا فى الناس فأتته امرأته فقالت له أتجلس بين
هؤلاء والله ما فى البيت هفة ولا سفة فقال يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئودا لا
ينجو منها إلا كل مخف فرجعت وهى راضية
وقال ذو النون رحمه الله أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له
وقيل لبعض الحكماء ما مالك فقال التجمل فى الظاهر والقصد فى الباطن واليأس مما فى
أيدى الناس
وروى أن الله عز و جل قال فى بعض الكتب السالفة المنزلة يا ابن آدم لو كانت الدنيا
كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على
غيرك فأنا محسن إليك وقد قيل فى القناعة
إضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإن العز فى الياس
واستغن عن كل ذى قربى وذى رحم ... إن الغنى من استغنى عن الناس
وقد
قيل فى هذا المعنى أيضا
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه ... مقدرا أى باب منه يغلقه
مفكرا كيف تأتيه منيته ... أغاديا أم بها يسرى فتطرقه
جمعت مالا فقل لى هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا يوم تنفقه
أرفه ببال فتى يغدو على ثقة ... أن الذى قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون مايدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يبق فى ظلها هم يؤرقه
بيان فضيلة الفقر على الغنى
اعلم أن الناس قد اختلفوا فى هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر
وقال ابن عطاء الغنى الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر ويقال إن الجنيد
دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه فى هذا فأصابته محنة وقد ذكرنا ذلك فى كتاب الصبر
وبينا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر ومهدنا سبيل طلب الفضيلة فى الأعمال والأحوال
وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل
فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقا لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار فى تفضيل الفقر
ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك فى مقامين أحدهما فقير صابر ليس بحريص
على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غنى منفق ماله فى الخيرات ليس حريصا على
إمساك المال والثانى فقير حريص مع غنى حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من
الغنى الحريص الممسك وأن الغنى المنفق ماله فى الخيرات أفضل من الفقير الحريص أما
الأول فربما يظن أن الغنى أفضل من الفقير لأنهما تساويا فى ضعف الحرص على المال
والغنى متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذى ظنه ابن عطاء فيما
نحسبه فأما الغنى المتمتع بالمال وإن كان فى مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير
القانع وقد يشهد له ما روى فى الخبر أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه
و سلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات فى التسبيح وذكر
لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد
الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبروه فقالAذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء // حديث شكى الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات الحديث وفي آخر فقال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
متفق عليه من حديث أبي هريرة نحوه //
وقد استشهد ابن عطاء أيضا لما سئل عن ذلك فقال الغنى أفضل لأنه وصف الحق أما دليله
الأول ففيه نظر لأن الخبر قد ورد مفصلا تفصيلا يدل على خلاف ذلك وهو أن ثواب
الفقير فى التسبيح يزيد على ثواب الغنى وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من
يشاء فقد روى زيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال بعث الفقراء رسولا إلا
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إنى رسول الفقراء إليك فقال مرحبا بك وبمن جئت
من عندهم قوم أحبهم قال قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا
نقدر عليه ويعتمرون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال
النبي صلى الله عليه و سلم بلغ عنى
الفقراء
أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء أما خصلة واحدة فإن فى الجنة غرفا
ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبى فقير
أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو
خمسمائة عام والثالثة إذا قال الغنى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغنى بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم
وكذلك أعمال البر كلها فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقالوا رضينا رضينا // حديث زيد بن أسلم عن أنس بعث الفقراء إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم رسولا إن الأغنياء ذهبوا بالجنة يحجون ولا نقدر عليه الحديث وفيه
بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء الحديث لم أجده
هكذا بهذا السياق والمعروف في هذا المعنى ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر اشتكى
فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فضل الله به عليهم أغنياءهم
فقال يا معشر الفقراء ألا أبشركم إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم
بنصف يوم خمسمائة عام وإسناده ضعيف // فهذا يدل على أن قوله ذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء أى مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم وأما قوله إن الغنى وصف الحق فقد أجابه بعض
الشيوخ فقال أترى أن الله تعالى غنى بالأسباب والأعراض فانقطع ولم ينطق وأجاب
آخرون فقالوا إن التكبر من صفات الحق فينبغى أن يكون أفضل من التواضع ثم قالوا بل
هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء وصفات
الربوبية لا ينبغى أن ينازع فيها ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله
عليه و سلم الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قصمته // حديث
قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري تقدم في العلم وغيره //
وقال سهل حب العز والبقاء شرك فى الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى
فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغنى والفقر وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل
التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها إذ كما يناقض قول من فضل الغنى بأنه صفة
الحق بالتكبر فكذلك يناقض قول من ذم الغنى لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه
وصف الرب تعالى والجهل والغفلة وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم فكشف
الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه فى كتاب الصبر وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره
فينبغى أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضله والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن
لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ولا الفقر مطلوبا لعينه لكن لأن فيه فقد
العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه وكم من غنى لم يشغله الغنى عن الله عز و جل
مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهما وكم من
فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد وغاية المقصد فى الدنيا هو حب الله تعالى والأنس
به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن والفقر قد
يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا
إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى فى القلب والمحب للشىء مشغول به سواء كان فى فراقه
أو فى وصاله وربما يكون شغله فى الفراق أكثر وربما يكون شغله فى الوصال أكثر
والدنيا معشوقة الغافلين المحروم منها مشغول بطلبها والقادر عليها مشغول بحفظها
والتمتع بها فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال فى حقهما كالماء
استوى الفاقد والواجد إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة ووجود قدر الحاجة أفضل
من فقده إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر
فالفقير عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر
ولذلك قال الصحابة رضى الله تعالى عنهم بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة
السراء فلم نصبر وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذى لا يوجد فى الأعصار
الكثيرة إلا نادرا
ولما
كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر زجر
الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام لا تنظروا إلى
أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم
وقال بعض العلماء تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان
وفى الخبر إن لكل أمة عجلا وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم // حديث لكل أمة عجل
وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم رواه أبو منصور الديلمي من طريق أبي عبد الرحمن
السلمي من حديث حذيفة بإسناد في جهالة // وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب
والفضة أيضا واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام
والأولياء ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة إن كان النبى صلى الله
عليه و سلم يقول للدنيا إليك عنى // حديث كان يقول للدنيا إليك عني الحديث رواه
الحاكم مع اختلاف وقد تقدم // إذ كانت تتمثل له بزينتها
وكان على كرم الله وجهه يقول يا صفراء غرى غيرى ويا بيضاء غرى غيرى وذلك لاستشعاره
فى نفسه ظهور مبادىء الاغترار بها لو لا أن رأى برهان ربه وذلك هو الغنى المطلق إذ
قال صلى الله عليه و سلم ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس // حديث
ليس الغني عن كثرة العرض الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم // وإذا كان
ذلك بعيدا فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات
لأنهم لا ينفكون فى القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار
راحة فى بذلها وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش
من الآخرة وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن
حبه ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافى القلب عن الدنيا وزهرتها والقلب إذا
تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمنا بالله انصرف لا محالة إلى الله إذ لا يتصور
قلب فارغ وليس فى الوجود إلا الله تعالى وغيره فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه
ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه
من أحدهما بقدر بعده من الآخر ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان فالمتردد
بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد
من الآخر فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى فينبغى أن يكون مطمح نظر العارف
قلبه فى عزوبه عن الدنيا وأنسه بها فإذن فضل الفقير والغنى بحسب تعلق قلبيهما
بالمال فقط فإن تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور فإن
الغنى ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون حبه دفينا فى باطنه وهو لا يشعر به
وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه فإن وجد لقلبه إليه
التفاتا فليعلم أنه كان مغرورا فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها
فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التى كنت مستكنه فيه فتحقق
إذن أنه كان مغرورا وأن العشق كان مستكنا فى الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا
حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالا أو بعيدا فلنطلق القول
بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف
علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل
ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها فى إثارة الأنس فى قلب فارغ من غير
المذكور كتأثيرها فى قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف مثل من تعبد وهو فى طلب الدنيا
مثل من يطفىء النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق