النفخ فى الصور للشيخ محمد حسان
بسم اللـه الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللـه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .
واشهد أن لا إله إلاَّ اللـه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللـه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . [ آل عمران - 102 ] .
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللـه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللـه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا . [ النساء -1 ] .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللـه وَقُولُـوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُـمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِــرْ لَكُـمْ ذُنُوبَكُـمْ وَمَـنْ يُطِـعِ اللـه وَرَسُولَـهُ فَقَــدْ فَـازَ فَوْزًا عَظِيمًا . [ الأحزاب -70 ، 71 ] .
أما بعــــد :
فإن أصدق الحديث كتاب اللـه وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار .
أحبتى فى اللـه :
هذا هو لقاءنا الثامن مع السلسة الكريمة فى رحاب الدار الآخرة ونحن الآن على موعد مع حدث هام يحدث حين قيام الساعة ألا وهو النفخ فى الصور وإليك هذه الآيات الكريمة :
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا(102)يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا(103)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا(104)وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ طه : 102 -110 ] .
فبعد أن تكلمنا آنفا عن العلامات التى ستقع بين يدى الساعة بقى لنا أن نتكلم عن قيام الساعة والأحداث التى ستقع حينذاك ، فالساعة على الفور تقوم بعد حدوث هذه العلامات كلها بأمر من اللـه جل وعلا لإسرافيل بالنفخ فى الصور لتبدأ القيامة بأحداثها المزلزلة المروعة .
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذه الموضوع فى العناصر التالية :
أولاً : ما هو الصور ؟ومن هو صاحبه؟!
ثانياً : نفخة الفزع .
ثالثاً : نفخة الصعق .
فأعرنى قلبك وسمعك أيها الحبيب ، وتدبر جيداً ماذا يحدث عند قيام الساعة فى هذا الحدث المفزع المروع ألا وهو النفخ فى الصور .
بادئ ذى بدء أبدأ بسؤال أراه على لسان كل واحد منكم .
أولاً : ما هو الصور ؟! ومن هو صاحبه ؟
ما هو الصور ؟!
اسـمـع الجـواب مـن سـيد الـمـرسـلـيـن فى الـحـديث الصحيح الـذى رواه الإمام أحمد وأبـو داود والترمذى وغيرهم ، من حديث عبد اللـه ابـن عمرو بـن العـاص رضى اللـه عنهمـا قـال : جـاء أعـرابى إلى النبـى فقـال يا رسـول اللـه ما الصـور ؟! فقـال : (( قـرن ( ) ينفخ فيه وصاحب هذا القرن هو إسرافيل( ) )) ( ) .
وفى الحديث الذى رواه الحاكم فى المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبى وهو كما قال ، من حديث أبى هريرة رضى اللـه عنه يقول رسول اللـه : (( ما أطرف صاحب الصور منذ أن خلقه اللـه ووكله بذلك فهو ينتظر بحذاء العرش ( ) ما أطرف ( ) ينتظر متى يأمر كأن عينيه كوكبان دريان )) .
يقول الحبيب المصطفى فى الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذى وصححه الألبانى بشواهده من حديث أبى سعيد الخدرى قال قال رسول اللـه : (( كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن ، وَحَنَا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ ؟ )) فثقل ذلك على أصحـاب النبى وشق عليهم فقالوا : كيف نصنع ؟ فقال : (( قولوا : حسبنا اللـه ونعم الوكيل )) وفى رواية (( قولوا : حسبنا اللـه ونعم الوكيل على اللـه توكلنا )) ( ) .
بل وقد حدد لنا المصطفى اليوم الذى يأمر اللـه فيه إسرافيل بالنفخ فى الصور ، ففى الحديث الذى رواه مسلم من حديث أبى هريرة رضى اللـه عنه أن النبى قال : (( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة )) وفى راوية أخرى (( وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ )) ( ) .
فيأمر اللـه جل وعلا إسرافيل بالنفخ فى يوم جمعة ، متى هو ؟ اللـه أعلم لأننا قبل ذلك أَصَّلنْا أن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق إذ أن رب العالمين قد يرسل ريحاً طيبة باردة لتقبض أرواح المؤمنين علىظهر الأرض حتى لو دخل المؤمن فى كهف أو غار فى جبل تدخل هذه الريح لتقبض روحه ولا يبقى فى الأرض إلا شرار الخلق ، وعليهم تقوم الساعة .
ويأمر اللـه أن ينفخ النفخة الأولى نفخة الفزع وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانياً : نفخة الفزع
قال اللـه تعالى :
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ . [ النمل : 87 ] .
اختلف أهل العلم فى من استثنى اللـه جل جلاله :
قال بعضهم : إنهم الأنبياء ، ومنهم من قال : أنهم الشهداء فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .
ومنهم من قال : هم الملائكة ، ومنهم من قال : بل هم جبريل وإسرافيل ومكائيل وعزرائيل وحملة العرش فقط .
ومنهم من قال : هم حور العين فى جنات رب العالمين .
ومنهم من قال : نبى اللـه موسى عليه السلام هوالمستثنى فى قوله تعالى : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ .
واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخارى أنه قال : (( أنا أول من يفيق بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش فلا أدرى أكان ممن أفاق قبلى أم كان ممن استثناهم اللـه جل جلاله )) .
لذا فأنا أقول بأن الجزم بمن استثنى اللـه فى هذه الآية غير دقيق ، فإذا كان معلم البشرية كلها لم يجزم لنبى اللـه موسى ، إذا كان النبى سكت عن ذلك فلا ينبغى لأهل العلم قاطبة أن يجزموا لمن استثناهم اللـه فى الآية فعلم اللـه لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول اللـه .
ففزع من فى السموات ومن فى الأرض ..!!
أى تنفك كل صلات الكون وروابطه ، تتزلزل الأرض كالقنديل المعلق فى سقف المسجد وترتج بأهلها رجَّات عنيفة مزلزلة ، ما من أحد يسمع هذه الصيحة إلا وقد رفع لينا - أى رفع صفحة عنقه وأما من أخرى يستمع إلى هذه الصيحة التى قد أفزعت كل حى من أهل السماء ومن أهل الأرض
تصور معى هذه المشاهد التى تخلع القلب لتقف علىحجم وكم هذا الفزع الذى لا نسيح له البتة ، فالشمس قد ذهب ضياءها ، والكواكب ما عادت تضئ ، تناثرت هنا وهناك وتمزقت بأمر اللـه .
البحار والأنهار ما عادت تحوى بطونها ماء ، فماءها تحول نار أجاج ، الجبـال من أرسـاها جعلها دكاء ، أصبحت الآن قطع متناثرة كالعهن المنفوش .
ولك أن تعيش هذه الأحداث بقلبك وعقلك وكيانك حتى تقف على الهول الذى سينتاب هذه الأرض التى تراها الآن ، تأمل هاتين الآيتين :
إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا
[ الزلزلة : 1، 2 ].
تصور معى قول النبى : (( من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى العين فليقرأ إذا الشمس كورت وليقرأ إذا السماء انفظرت وليقرأ إذا السماء انشقت )) ( ) .
فلنقرأ معاً قول اللـه تعالى : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10)وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11)وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12)وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [ التكوير : 1،14 ].
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ بعد هذه النفخة يحدث انقلاب هائل فى الكون عامة ، فتكوير الشمس هو أن الشمس التى تمدنا الآن بالضوء والدفء والحرارة كل هذا ينسحب ، وتظلم الشمس التى يضرب بضوءها كل ضياء .
قال ابن عباس : أى جمعت ووضعت تحت العرش .
فى صحيح مسلم من حديث أبى ذر أن النبى نظر يوماً إلى الشمس فقال لأصحابه : (( أتدرون أين تذهب هذه الشمس )) قالوا ، اللـه ورسوله أعلم ، قال : (( إنها تجرى حتى تنتهى إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا )) ( ) .
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أظلمت وتناثرت وذهب ضياءها وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، الجبال العملاقة الراسية فى الأرض حينذاك يدكها الملك جل جلاله فى الأرض وتتحول إلى قطع صغيرة متناثرة كالعهن المنفوش أى كالصوف المنفوش .
سبحان اللـه!! تدبر جيداً قول الملك :
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(108)يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(110)وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا . [ طه : 105،111] .
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ العشار : هى النوق وهى من أغلى ما يمتلكه العربى فى الجزيرة العربية .
إذا سمع الناس وأهل الأرض جميعا نفخة الفزع، فلا ينظر الرجل إلى هذه النوق ، ما عادت تمثل له شئ أنذاك لأنه حدث لهم ما يشغلهم عن زخارف الدنيا .
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ : السباع المفترسة إلى جوار الأليفة ما عاد الوديع يخشى المفترس !!
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ : سبحان اللـه! حتى المياه التى كانت سبباً للحياة يحولها اللـه إلى حمم ،كتل نارية يعود الماء إلىأصله - الأكسجين والنيتروجين - فيتحول الماء إلىنار مشتعلة متأججة .
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ : زوجت أرواح المؤمنين بالحور العين فى جنات رب العالمين ، أو قرنت الأرواح بالأجساد أو قرن الكافرون بالشياطين.
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ : وإذا سئل عن قتل الموءودة أى ذنب اقترفته هذه البريئة لتقتل بهذا الظلم والعدوان .
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ : تنشر الصحف للقراءة
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ : أى طويت كطى السجل للكتب ، يطويها الملك بيمينه ، سبحان اللـه! ولم لا وهو رفعها بلا عمد ..!!
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعرَتْ أى تأججت واشتعلت نيرانها وجاءت تتلمظ وهى تقول هل من مزيد ؟! هل من مزيد ؟!
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ : قربت للموحدين ، قربت للمتقين ، قربت للمؤمنين.
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ : علم كل واحد حقيقة أقواله وحقيقة أعماله ، سترى كل أعمالك .. سترى كل شئ قدمته من قول أو فعل ، قد سطر عليك فِى كِتَابٍ عنْدَ رَبِّى لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى .
وسألحق ذلك بالتفصيل إن قدر لنا اللـه البقاء واللقاء .
تدبر جيداً هذه الآيات ..
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ(1)وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ(2)وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(3)وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(4)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
[ الانفطار : 1، 5 ].
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
[ الانشقاق: 1 -5 ]
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[ الحج : 1 ، 2 ] .
تدبر وتصور جيداً هذه المشاهد لتقف على حجم الهلع العظيم والفزع الذى يحدث يوم زلزال القيامة الكبير الذى لا شبيه له البتة .
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43)وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ(45)وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47)يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48)وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ إبراهيم : 42،50 ].
قف مع قول اللـه جل وعلا : وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أى من فزع وهلع اليوم الموعود ، أفئدتهم خلت من القلوب ، أين القلوب ؟!! خرجت من الصدور ، إلى أين ؟!! إلى الحناجر ... لماذا ؟!! من الفزع !!
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ
اللـه أكبر ... يخرج القلب من مكانه فى الصدر إلى الحنجرة من شدة الهول والهلع والفزع .
أى فزع هذا ؟!! أى هلع هذا ؟!! قمة الهول !! قمة الفزع !! وهذا تصور قاصر ، لكن لو تدبرت المعانى أعطاك اللـه جل جلاله قدر صفاءك وإخلاصك وصدقك لتقف على حجم هذه المشاهد المروعة .
هذه النفخة تمضى فترة من الزمن ... هل تعلمها ؟ .. بالطبع لا
فقد ثبت من حديث أبى هريرة أنه قال : (( بين النفختين أربعون )) قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوماً ، قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهراً ، قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ، قال : أبيت .
ما معنى أبيت ؟ قال أبيت أن أسأل عن ذلك رسول اللـه ( ) .
فَعِلْم هذه الأربعين عند رب العالمين ، وبعد الأربعين يأمر اللـه جل وعلا إسرافيل أن ينفخ فى الصور النفخة الثانية وهذا هو عنصرنا الثالث .
ثالثاً: نفخة الصعق
اختلف أهل العلم فمنهم من قال : ينفخ إسرافيل نفختين اثنتن الأولى نفخة الفزع والثانية الصعق فى آن واحد .
وتبنى هذا الرأى الحافظ ابن حجر والإمام القرطبى فى التذكرة وقال : بأن الصعق ملازم للفزع الأكبر ، أى فزعوا فزعاً ماتوا منه ، ولذا فالحافظ والإمام القرطبى قالا : نفختين اثنتين فى آن واحد .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والإمام ابن العربى إلى أن اللـه يأمر إسرافيل أن ينفخ فى الصور نفخة الفزع الأكبر ونفخة الصعق ونفخة البعث ، وهذا هو الذى أميل إليه لأن صريح القرآن يقول ذلك فلقد فرق اللـه فى صريح القرآن بين نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث ، إذ يقول وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ . [ النمل : 87 ] .
وقال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ . [ الزمر : 68 ] .
ثم قال بعدها عن نفخة البعث ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ . [ الزمر : 68 ] .
ولقد اختلف أهل العلم فيمن استثناهم اللـه ، منهم من قال هم : الملائكة ، ومنهم من قال : هم جبريل وإسرافيل ومكائيل وعزرائيل وحملة العرش فقط ، ومنهم من قال : هم الشهداء ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ومنهم من قال : هم الحور العين ، ومنهم من قال : إن نبى اللـه موسى عليه السلام هو المستثنى فى قوله تعالى : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخارى أنه قال : (( أنا أول من يفيق بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش فلا أدرى أكان ممن أفاق قبلى أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا )) .
ولذا فأنا أقول بأن الجزم بمن استثنى اللـه فى هذه الآية غير دقيق ، إذا كان المصطفى لم يجزم لنبى اللـه موسى يقول فلا أدرى أكان موسى ممن أفاق قبلى أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا .
فإذا كان المصطفى لم يجزم لنبى اللـه موسى فلا ينبغى لأحد بعد المصطفى من أهل العلم قاطبة أن يجزم لمن استثناهم اللـه فى الآية ، فعلم اللـه لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول اللـه .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ صعق أى مات كل حى وبقى الحى الذى لا يموت .
ورد فى حديث الصور الطويل الذى رواه البيهقى والطبرانى والطبرى وابن أبى حاتم وغيرهم ، وللأمانة العلمية التى اتفقنا عليها وأَصَّلناه من قبل فإن الحديث بطوله ضعيف ، ومدار ضعفه على إسماعيل بن رافع ، وهو ضعيف كما قال علماء الجرح والتعديل فى هذا الحديث : (( يأتى ملك الموت للملك فيقول المَلِك لِمَلَك الموت يا ملك الموت من بقى ؟ - وهو أعلم جل جلاله - فيقول : بقى جبريل وإسرافيل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا ، فيقول الملك ليمت جبريل - لام الأمر - ليمت إسرافيل ليمت حملة العرش ، ويبقى ملك الموت فيأتى للملك فيقول له الملك : من بقى يا ملـك المـوت ؟ فيقـول : بقيـت أنا ، فيقـول الملـك : أنـت خلق من خلقى وخلقتـك لما ترى فمت يا ملك الموت فيموت ويبقى الحق الذى لا يمـوت )) .
سبحان ذى الملك والملكوت ، سبحان ذى العزة والجبروت ، سبحان الذى كتب الموت على جميع الخلائق وهو الحى الباقى الذى لا يموت .
ماتت الملائكة ... مات جبريل ... مات إسرافيل ... مات ميكائيل ... مات ملك الموت ... مات حملة العرش
مات الملوك .. مات الزعماء .. مات الرؤساء .. مات الوزراء ... مات الأغنياء .. مات الفقراء .. مات الصالحون .. مات الطالحون ... مات ذوو الهمم والغايات النبيلة .. مات الجبناء الحريصون على الحياة بأى ثمن .. الكل يموت كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [ الرحمن : 26 - 27 ] .
ويبقى الملك فيطوى السموات والأرض بيمينه ويهتف بصوته جل جلاله ويقول أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يقول جل جلاله لمن الملك اليوم ؟! لمن الملك اليوم ؟! لمن الملك اليوم ؟! فلا يجيبه أحد فيجيب علىذاته لله الواحد القهار .
يقول جل جلاله : رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15)يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
[ غافر : 15-16 ].
أين الظالمون ؟! أين الطالحون ؟! أين الصالحون ؟! أين الفراعنة ؟! أين القياصرة ؟! أين الأكاسرة ؟! أين فرعون ؟! أين هامان ؟! أين قارون ؟! .
أين من اغتروا بالكراسى الزائلة ؟! أين من فتنوا بالمناصب الفانية ؟!
أين من اغتروا بالأموال والعمارات ؟! أين من اغتروا بالسيارات والدولارات ؟!
أين الظالمون ؟!! أين التابعون لهم فى الغى ؟
أين من دوخوا الدنيا بسـطوتهم ؟! وذكرهـم فى الورى ظلم وطغيان
هل أبقى الموت ذا عزٍ لعــزته ؟! أو هل نجا منه بالسلطان إنسـان؟
لا والذى خلق الأكوان من عــدم الكل يفنى فلا إنـــس ولا جان
قال جل وعلا : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ، وقال : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ
[ القصص : 88 ] .
مهما عشت فأنت راحل ، مهما أحببت فأنت مفارق ، مهما جمعت فأنت تارك .
فيا أخى الكريم : يا من أجلسك اللـه علىالكرسى ، يا من هيأ اللـه لك المنصب .. ورب الكعبة - أبذلها بكل حب وإخلاص - إن الكرسى زائل وإن المنصب فان ، وإن الحى جل جلاله هو الباقى ، واعلم بأنك راحل .. فإياك أن تغتر بمنصبك ، وإياك أن تفتن بكرسيك فلا تستغل الكرسى إلا فى مرضاة اللـه وطاعته، واعلم بأن الكرسى إما أن يقربك إلى اللـه ثم الجنة بإذن اللـه ، وإما أن يبعدك عن اللـه ويقذفك فى النار والعياذ باللـه ، فاتخذ الكرسى وسيلة إلى جنة العزيز الغفار .
انظر أيها الحبيب نظرة التمحيص إلى من سبقك لو دام الكرسى لغيرك واللـه ما وصل إليك .
أيــا عبــدُ كَمْ يراك الله عاصياً
أنسـيت لقاء الله واللحد والثرى
لو أن المرء لم يلبس ثياب التقى
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها
ولكنها تفنى ويفنى نعيمهـــــا حريصـاً على الدنيا وللموت ناسيا
ويوما عبوساً تشيـب فيه النواصِيَا
تجرد عُرْيانـاً ولـو كان كاسيا
لكان رسـول اللـه حيا وباقيا
وتبقـى الذنـوب كما هــــى
وتدبر قول القائل :
يا نفـس قد أزف الرحيــــل
فتأهبى يـا نـفس لا يلعـب
فلتنزلن بمنزل ينسى
وليركبـن عليـك فيــــه من
قرن الفناء بنا جميعـا فــــــلا وأظلك الخَطْـبُ الجليــل
بك الأمـل الطـويل
الخليـل به الخليل
الثـــــرى حمل ثقيـل
يبقى العـزيــز ولا الذليـــل
إنها الحقيقة الكبرى التى تعلن على مدىالزمان والمكان فى أذن كل سامع ، وعقل كل مفكر وأديب ، أنه لا بقاء إلا للحى الذى لا يموت ، إنها الحقيقة التى تصبغ البشرية كلها بصبغة العبودية ، والذل لقهار السموات والأرض إنها الحقيقة التى تسربل بها طوعا وكرها الصالحون والطالحون ، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون إنها الحقيقة الكبرى فى هذا الوجود بعد كلمة الإخلاص ، كلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا اللـه
فيا أيها الأحبة الكرام :
إن الحياة على ظهر هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل ثم تأتى نهايتها حتما ، فيموت الصالحون والطالحون ، يموت المجاهدون والقاعدون ، يموت ذو الاهتمامات العالية والغايات النبيلة ويموت التافهون الحريصون علىالدنيا بأى ثمن .
قال تعالى : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [ الرحمن : 26،27 ] .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ . [ الزمر : 68 ] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق